الأحد, أيار 4, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 4, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان
 
السيرة الذاتية والجهادية

نقول «الذاتية والجهادية» معاً، لأن شكيباً ومنذ بواكير العمر كان قد نذر نفسه لقضايا استقلال أمته، ووحدتها، وتقدمها، فغدت سيرته الجهادية سيرته الذاتية بكل ما للكلمة من معنى.

هو شكيب، ووفق النسب الذي يقدّمه الأمير في «روض الشقيق»، «إبن الأمير حمود… إبن الأمير حسن… إبن الأمير يونس…». وتعود جذور النسب ليبلغ أيام الإسلام الأولى «إبن الأمير بركات المتوفي سنة 106 هجرية، إبن الأمير المنذر الملقب بالتنوخي المتوفي سنة 78 هجرية، إبن الأمير مسعود المتوفي سنة 45 هجرية، إبن الأمير عون، شهيد معركة إجنادين التي جرت يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأول سنة 13 هجرية». (روض الشقيق، ص 145-146 و 244). ولِد الأمير شكيب، وهو الإبن الثاني للأمير حمود بن حسن، وكما يؤكد في كتابه «سيرة ذاتية» في الخامس والعشرين من شهر كانون أول، (الموافق لأول ليلة من شهر رمضان، لسنة 1286 هجرية)، في بلدة الشويفات، وهي على مبعدة عشرة كيلومترات جنوب العاصمة اللبنانية، بيروت.

تتلمذ شكيب وأخوه نسيب في فترة مبكرة، في منزل العائلة أولاً، في الشويفات على يد الشيخ مرعي شاهين سلمان، وصيفاً في المنزل العائلي في عين عنوب على يد المربي أسعد فيصل، حيث تعلم عليهما القراءة والكتابة، ومبادئ اللغة العربية، وحفظ جانباً من القرآن الكريم. لكن الوالد سرعان ما ألحقه بعد ذلك في مدارس نظامية عدة. في المدرسة الأمريكية في حي العمروسية في الشويفات، حيث تلقن الحساب والجغرافية ومبادئ اللغة الإنجليزية. وفي سنة 1879، وكان شكيب قد بلغ العاشرة من عمره، أدخِل شكيب مدرسة الحكمة في بيروت، وكانت الحكمة يومذاك بإدارة المؤرخ والعالم واللاهوتي يوسف الدبس، وقد ضمت في فترات مختلفة أشهر معلمي العصر، من مثل الشيخ عبد الله البستاني، ثم مارون عبود، وكان للمدرسة تلك ومعلميها الأثر الكبير في تربية شكيب النحوية والأدبية والنهضوية عموماً.

صرف شكيب في «الحكمة» سبع سنوات (1879-1886) كان فيها شكيب مبرزاً، وطليعة أقرانه، ومن المصادفات أن يزور الشيخ محمد عبده، المنفي إلى بيروت بعد ثورة عرابي في مصر سنة 1882، مدرسة الحكمة، فقدّم شكيب الفتى في حضور الشيخ، الذي سيصبح بعد عودته من المنفى مفتي الديار المصرية، بوصفه مفخرة إخوانه، وكانت بداية معرفته بالشيخ عبده وانتقلت الصداقة إلى والده الذي استضافه في المنزل العائلي غير مرة وكلن شكيب يلقي أمامه بواكير قصائده، وكانت كلمة الشيخ المعروفة: «ستكون من أحسن الشعراء»، ولم يُخب الأمير توقع الشيخ عبده بالتأكيد، بدليل قول الأديب الكبير مارون عبود فيه بعد صدور ديوانه سنة 1935: «لو لم تشغله السياسة، لكان هو أمير الشعراء لا شوقي!».

في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة 1890، وكان قد توفي والده قبل ذلك بزمن قصير، استقال شكيب من منصب مدير ناحية الشويفات التي كلفه بها متصرف جبل لبنان واصا باشا، يمّم شكيب شطر مصر، صرف فيها نحواً من عام كامل، فالتقي الشيخ عبده العائد من المنفي، وشخصيات سياسية وأدبية مصرية عدة، من أبرزهم الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة «المؤيد» وأحمد زكي باشا، صاحب «الشورى» وآخرين، وحيث تأسست الخطوط الكبرى لحياته الفكرية والجهادية اللاحقة.

أواخر سنة 1890، سافر شكيب إلى فرنسا. ثم توجّه من فرنسا مطلع سنة 1892 إلى الأستانة، حيث التقى الداعية والمصلح العظيم جمال الدين الأفغاني، ولزمه فترة طويلة من الزمن وذلك قبل خمس سنوات من موت الأفغاني سنة 1897. عاد شكيب إلى بيروت أواخر سنة 1892، بعد سنتين من الترحال والاستشفاء والتعرّف إلى أحوال الشرق ومقارنتها بأحوال أوروبا. عيّن سنة 1908 قائمقاماً للشوف، فسلك المسلك الذي يرضي قناعاته لا العثمانيين، ما أدى إلى مواجهة المتصرفين العثمانيين الغارقين في فسادهم، وليستقيل من المنصب بعد أقل من سنتين. أختير في مجلس «المبعوثان» في الاستانة بعد إصلاحات سنة 1908 نائباً عن «حوران»، فكان مدافعاً نشطاً عن مطالب بلاده، آخذاً عليهم موجة التتريك المتصاعدة وتخليهم عن اللغة العربية لغة رسمية، ولكن من دون أن ينجر إلى الحملة الغربية المعادية للعثمانيين.

في سنة 1911، وفي إثر الغزو الإيطالي لليبيا، يقول الأمير في سيرته الشخصية: «لما شنّت إيطاليا غارتها على طرابلس الغرب، كنت في عين صوفر، وأخذت أكاتب أصحابي بمصر ومنهم الشيخ علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، في إعانة السنوسية بالأموال من أجل المقاومة». لكن شكيب لم يكتف بالإدانة اللفظية، بل سعى إلى جمع عشرات المتطوعين من جبل لبنان، إن لم يكن أكثر، وسار بهم قاصداً الأراضي الليبية ليشارك في رد الغزوة الإيطالية، فبلغ ليبيا بعد صعوبات تسبب بها الإنجليز، وقضى فترة هناك مع قادة عثمانيين كبار من مثل مصطفى كمال وأنور باشا ونوري باشا، وقادة مصريين من مثل عزيز المصري الذائع الصيت. وحين سألته جريدة بمصر عن السبب الذي جاء به إلى ليبيا، كان جوابه الذي غدا مثلاً: «إن لم نقدر أن نحفظ صحارى طرابلس الغرب، لم نقدر أن نحفظ جنان الشام.»

“لقد مات الذي ليس فوقه فوق من رجالات العرب……” (الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، من حفل تأبين شكيب في يافا سنة 1947)

استغل الأمير شكيب حظوته لدى القادة العسكريين العثمانيين الذين دخلوا لبنان مطلع الحرب العالمية الأولى في طريقهم للدفاع عن قناة السويس في وجه الإنجليز، لإنقاذ الكثير من القادة اللبنانيين من بطش جمال باشاً، وبينها نجاحه في منع جمال باشا من دخول البطريركية المارونية في بكركي. لم يسلم الأمير نفسه من كيد جمال باشا، لكن الأخير كان عاجزاً عن النيل منه نظراً لموقعه في الاستانة، فقال (جمال): «حاولت أن أطوّق رقبة شكيب بحبال المشنقة، فم أجد منها ما يحيط بعنقه.» وحين اتهمه «جوفنيل»، المفوض السامي الفرنسي بعد ذلك، أنه قاد متطوعة لبنانيين للقتال تحت أمرة جمال باشا، جاء رد شكيب في «اللومانيتيه» الفرنسية حاداً ومفحماً، قال: « … أما قوله أنني كنت على رأس المتطوعين اللبنانيين لمقاومة الدول التي اقتسمت بلادنا سراً فيما بينها، فهذا ما افتخر به ولست بنادم عليه، ولكن وجودي تحت أمرة جمال باشا، وهو قائد الفيلق الرابع، فلا يوجب أن أكون من أخصائه.»

أحمد جمال باشا (1873 – 1922)

بعدما استتب الأمر لفرنسا في لبنان وسوريا سنتي 1918-1919، اختار شكيب النفي الطوعي، فغادر إلى أضنة سنة 1919، ومنها إلى برلين، التي كانت قد خرجت مهزومة ومنهكة من الحرب العالمية الثانية، فأقام فيها حتى سنة 1925. في سنة 1922، اجتمع في القاهرة عدد من قادة العمل الوطني في سوريا وفلسطين، واختار المؤتمر بوضوح مطلب الاستقلال الوطني الكامل. ومن جملة قراراتهم تشكيل وفد يعرض مطلب الاستقلال أمام عصبة الأمم. لم يشترك شكيب في المؤتمر، إذ كان في منفاه وكان ممنوعاً عليه دخول مصر (وسائر البلدان المحتلة من إنجلترا وفرنسا) لكن المؤتمرين كلفوه وآخرين بتولي المهمة تلك، وأرسلوا إليه في برلين قرار تكليفه سكرتيراً أول للوفد، بل طلبوا إليه تأليف الوفد.

وفي أعقاب انتفاضة جبل العرب سنة 1925 ضد الاستعمار الفرنسي، ترك شكيب برلين إلى جنيف ليكون أقرب إلى مقر عصبة الأمم وأعمالها وليتمكن من الدفاع عن الحركات الاستقلالية العربية، في المشرق والمغرب، أمام عصبة الأمم (وكان يحمل تواقيع أربعين جمعية استقلالية عربية ليمثلها أمام عصبة الأمم).

في 14 شباط سنة 1926، سافر شكيب إلى روما مترئساً الوفد السوري أمام «لجنة الانتداب» التي نجح شكيب في جعلها تجتمع في روما التي لم تكن على وفاق مع فرنسا وإنجلترا، وقد نشر بياناً صحافياً مؤثراً حول همجية الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي لاقى صدى واسعاً. وبسبب من خبرته السياسية الواسعة، وصفاء غاياته، نبّه الشريف حسين وأولاده من بعده أن لا يأخذوا الوعود البريطانية التي أغدقت له على محمل الجد، بل اعتبرها مجرد إسفين تدقه بريطانيا لشق العالم الإسلامي، وستتخلى عنه لاحقاً وهذا ما حدث فعلاً. ويقول الدكتور سامي الدهّان المحاضر في معهد جامعة الدول العربية للدراسات: «وقد عرف الملك فيصل إخلاص شكيب للقضية العربية وآمن بخدمته لها وسعيه في سبيلها…لذلك كان فيصل يعرف منه ما كان الناس يجهلون، ويقدره حق قدره، ويبادله الود والتحية.» وبعدما أزيح فيصل عن عرش العراق أرسل لشكيب رسالة تظهر تقدير فيصل وثقته العالية بشكيب وتحليله للأمور، ويختمها بالقول: «أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية.»

ومن باب تقدير شكيب لأهمية الرأي العام الأوروبي، وضرورته إعلامه بالحقائق التي لا يعرفها، أسس سنة 1930 من منفاه في جنيف مجلة La Nation Arabe «الأمة العربية»، كان يدفع تكاليفها من جيبه ومن خلال بيعه أراض له في لبنان، وغدت منبراً لكل الاستقلاليين العرب في المشرق والمغرب وكتب فيها أهم الاستقلاليين الذين سيصبحون لاحقاً قادة البلدان العربية المستقلة.بعد اندلاع النزاع الحدودي السعودي – اليمني، تشكل وفد عربي إسلامي ذهب إلى البلدين، وكان شكيب في طليعة الوفد، وقد تكللت مساعيه بوقف الحرب تلك والتحول إلى المباحثات المباشرة السلمية والأخوية. بنتيجة جهوده، ولسمعته التي كانت طبقت الآفاق، عرض عليه الملك عبد العزيز أي منصب وزاري أو سفارة يختارها، يقول رشيد رضا مؤسس المنار: «وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغب إاليه أن يبقى لديه في الحجاز دائماً أو ما شاء وطابت له الإقامة ليقوم ما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء الإصلاح في حكومته فاعتذر… على أن يخدم القضية العربية بما شاء جلالته… إلا في الوظائف الرسمية.» كما يقول د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء أن شكيباً كان أول من حدّث إمام اليمن بضرورة التحديث وخروج اليمن من ظروف القرون الوسطى، بل جاء صنعاء ببضعة شبان لبنانيين (منهم نجيب أبو عزالدين) ليكونوا طليعة مشروع التحديث ذاك.

“أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية”. (الملك فيصل الأول)

بعد توقيع معاهدة 1936 بين الكتلة الوطنية السورية والانتداب الفرنسي، سمح له الفرنسيون بعودة قصيرة إلى سوريا، ليلقى والدته أولاً، وليتسلم رئاسة المجمع العربي العلمي بدمشق ثانياً، وليلقي محاضرات عدة في غير مدينة سورية حول مستلزمات النهضة واللحاق بالعالم المتقدم. لكن المقام لم يطل بشكيب في وطنه، إذا سرعان ما غدرت فرنسا بالوطنيين السوريين وألغت المعاهدة، فعاد شكيب إلى مناصبة الاحتلال الفرنسي كما الإنجليزي العداء الشديد. كان شكيب، ولموقفه المتصلبة ضد الاستعمارين الفرنسي والانجليزي، مطارداً من السلطات المحتلة، وكانت زياراته النادرة لدمشق والإسكندرية وطنجة، التي أخرجه الفرنسيون منها بالقوة، موضوع ملاحقة لصيقة من شرطة المحتل، وصودرت كتبه، بل كان في غير مرة موضع مؤامرات تدبّر في ليل لتنال من سمعته وسمعة مريديه وأصدقائه.

ولم يفت الصهاينة أن يلتحقوا بالفرنسيين والإنجليز في محاولة النيل من سمعة شكيب، إذ كانت صداقته ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وغيره من رجالات المقاومة الفلسطينية للمشاريع الصهيونية في فلسطين مصدر إزعاج دائم للسلطات البريطانية كمل للدوائر الصهيونية، ويشهد وايزمن في نص له بأن شكيباً كان أكثر العرب تصلباً في رفضه للمخططات الصهيونية في فلسطين.

تحققت أمنية شكيب بالعودة إلى أرض الأباء والأجداد وقد غدت مستقلة من كل احتلال أجنبي، فكانت عودته إلى مرفأ بيروت في الثلاثين من نوفمبر سنة 1946. كان شكيب قد بلغ السابعة والسبعين، وقد نال المرض منه كل منال، بفعل سنوات المنفى الطويل وأيام وليالي عمله الذي لم ينقطع في كل مجال، فلم يطل به المقام في بيروت حتى اشتد مرضه. وينقل عبد الله المشنوق عنه قوله وقبل أيام من رحيله: «إني مرض وأشعر بدنو الأجل، وأنا أحمد الله عز وجل الذي سهل لي أن أفارق الحياة على أرض هذا الوطن بعد أن أتم الله نعمته عليه فشهدته سيداً عزيزاً مستقلاً…».

أسلم شكيب الروح ولفظ أنفاسه الأخيرة في منزل عبد الله المشنوق ليلة الإثنين في التاسع من كانون الأول 1946، أي بعد أقل من أربعين يوماً من عودته من منفاه الطوعي. وكان آخر ما كتب قبيل وفاته، قصاصة ورق سلمها لعبد الله المشنوق والحاضرين وفيها: «أوصيكم بفلسطين». انطفأت بموت شكيب شموع سنواته السبع والسبعين، لكنها كانت قد حفرت عميقاً في الوجدان اللبناني، والعربي، والإسلامي. كان الأمير شكيب أرسلان شخصية طبّقت شهرتها الآفاق، وقويت بالتالي على صنوف النسيان عبر الزمن، ويستحق تراثه الذي نحتفي به أن يكون نبراساً لنا في هذا الزمن أيضاً.


السيرة العلمية والأدبية

 بدأ الأمير حياته شاعراً مجيداً وكان لم يبلغ السابعة عشرة من عمره، وبواكير شعره التي نشرت كاملة في مرحلة لاحقة تشير كما قال دارسو شعره أنها كانت عفو الخاطر، عن طبع ويسر لا عن اصطناع وتكلف. وهو ما جعل الناقد والأديب الكبير مارون عبود يقول فيه، «لو لم تشغله السياسة لكان هو أمير الشعراء لا شوقي».

استمر شكيب يقرض الشعر، ولكن على انقطاع، إذ أخذته مشاغل المهام العلمية والجهادية التي تصدى لها بعيداً عن الشعر. فقيل وبحق، بدأ شاعراً وانتهى ناثراً مترسلاً. تحول شكيب من الشعرإلى النثر لأنه لم يكن بوسع الشعر أن يقوم بالمهام الدقيقة الجسام التي كتب على شكيب أن يقوم بها، من إدارة إلى سفارة إلى وساطة إلى صحافة إلى تمثيل الجمعيات العربية الاستقلالية في جنيف وأوروبا إلى المحاضرات والخطب الدقيقة التي كان عليه أن يملأ بها فراغاً في الحركة العربية الوطنية مطلع القرن العشرين وصولاً إلى مرحلة مجلته «الأمة العربية» التي أصدرها في جنيف ثم نقلها لسنة واحدة إلى فيينا، بعدما ضاق الحلفاء ذرعاً بهجوم المجلة على سياساتهم في البلدان العربية المشرقية والمغربية، فضغطوا على حكومة سويسرا المحايدة آنذاك التي طلبت بدورها من شكيب إما توقف المجلة أو مغادرتها سويسرا وهكذا كان.

كذلك ابتعد شكيب أكثر عن الشعر نحو أنواع أدبية أخرى، من مثل المقالة، والخطابة، والرواية، والترجمة، وكانت كلها موقوفة للأغراض الوطنية أو السياسية أو الأخلاقية التي التزم شكيب بها طوال عمره. لكن الأنواع الأدبية تلك كانت مرآة أظهرت باعه الطويل في الفنون البيانية والبلاغية والتعبيرية بعامة، والتي ندر أن جاراه فيها معاصر، وكان أثر تتلمذه في «الحكمة» لكبار معلمي العربية في عصره بادياً بوضوح، إضافة إل تنقيبه في كنوز العربية، إلى ما حباه الله من مهارات وملكات جعلت اللغة والبيان طوع مشيئته، يجبل منهما خطابه فتأتي أفكاره على أعمق نحو وأدقه، وفي أعلى الصور البليغة المؤثرة. والباب الثالث والأخير، هو الجانب العلمي الدقيق في شخصيته والذي بدا جلياً في أعماله.

مارون عبود (1886-1962): كاتب وأديب لبناني كبير

رغم الجانب الأدبي المجلّي الذي لحظه كل متتبع لسيرة الأمير شكيب منذ بواكيرها (كما فعل الشيخ محمد عبده حين استمع إلى قصائده)، والذي عاد فلحظه كل قارئ لأعمال شكيب الفنية النثرية اللاحقة، لكن الأمير أظهر في السنوات اللاحقة روحاً علمية لها خصائص الروح العلمية الموضوعية والعقل العلمي البارد اللذين يتمتع بها العلماء المتخصصون في العادة. وتمثلت علمية الأمير شكيب في الأبواب التي طرقها:

1- التحديد الدقيق لموضوع البحث أو التحليل أو المراجعة،

2- منهجية المقاربة وموضوعيتها،

3- سعة الاسناد والمصادر والمراجع،

4- استعراض ما قيل في المسألة سابقاً،

5- الركون إلى الحجة والدليل القويين لا غير،

6- القدرة على المناقشة والجدل وتبادل الأراء والأفكار واحترام الرأي الآخر،

7- قبول النقد واحتمال الخطأ،

8- وبعد ذلك الدقة في العبارة العلمية التي يصوغ بها خلاصاته ونتائجه.

تلك هي متطلبات أي بحث علمي دقيق موثوق بنتائجه، كائناً ما كان موضوعه أو مادته، وقد أبدع شكيب في بحوثه العلمية أيما إبداع، فغدت أعماله مراجع لبحاثة آخرين في البلاد العربية كافة؛ وهو ما أهّله ليرشحه البعض لرئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق وليفوز بالرئاسة، وهو مجمع علمي ضم خيرة بحّاثة العربية الموجودين في بلاد الشام يومذاك.

أما المجالات العلمية الدقيقة التي ترك الأمير شكيب آثاراً فيها مكتوبة وعالية المستوى وباتت مرجعاً للبحاثة كما للقراء، فهي مجالات متعددة، وأهمها: علوم اللغة العربية على أنواعها المختلفة من نحو وبيان وبلاغة وما إلى ذلك، علوم الفقه، علم التاريخ، تحقيق المخطوطات القديمة، الترجمة، علم الأصول والأنساب القبلية، الزوايا والتكايا في البلاد المغربية؛ ناهيك بمهنة الكتابة الصحافية التي مارسها حتى التخمة وفي أهم المجلات والجرائد من مثل «المؤيد»، «الشورى»، «الأهرام»، «الفتح»، «المنار»، وسواها في مشرق الوطن العربي ومغربه، إضافة إلى تحرير مجلته التي واضبت على الصدور منذ سنة 1930 وحتى سنة 1944، أي حين أخرج من جنيف وبدأت صحته بالتهور، عدا المشاكل المالية المتفاقمة. وسيظهر ثبت مؤلفات الأمير شكيب مقدار ما كتب وأنجز ونشر في المجالات تلك كافة. وفي وسع المرء أن يتخيّل الجهد الشخصي، العقلي واليدوي، الذي كان يبذله شكيب في تأليف وتحرير وكتابة مئات المقالات والمحاضرات، مع كاتب مساعد حيناً ومن دون كاتب يساعده أحياناً أخرى. ويروي الذين رافقوا شكيب في حله وترحاله أنهم كانوا لا يفارقونه مساء إلا وهو يكتب، ولا يأتونه صباحاً إلا وقلمه وأوراقه أمامه على طاولته يدبج مقالة أو نصاً.

أضف إلى الفنون تلك، إصرار الأمير على الرد الشخصي على كل كتاب أو مراسلة تأتيه، من علية القوم أم من عموم الناس. وهو ما جعل رسائله، وبخط يده في الغالب، تزيّن كل بيت في لبنان تقريباً كما في الكثير من بقاع العالم العربي. وبحسب الناقد الكبير جبور عبد النور، فلو جمعت رسائل شكيب لبلغ وزنها طنّاً من الورق! هي ذي بعض ملامح شخصية الأمير شكيب أرسلان الأدبية والعلمية المنقطعة النظير.

“كان والدي من أشد محبّي المِير شأن أبناء جيلِه ممّن فتحوا أعينهم وعقولهم على كتاباته، بوصفه واحداً من الروّاد العظام.” (د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء في اليمن)


خاتمة

لو أردنا سرد كلّ ما قيل في الأمير شكيب أرسلان، لاحتاج الأمر إلى مجلّد كبير مستقل، لذلك نكتفي بعينات من مشرق العرب ومغربهم:

هذا الـــــــذي رفـــــــــع اليـــــــراع منــــــــارة غمــــــــرت سمــــــــــاء الشـــــمــــــس بالأنـــــــوار
لــــــــــــو دان أحــــــــــرار البــــــــلاد لــــــسيّد نــــــــــاديتــــــــــه يـــــــــــا ســــــــيّد الأحـــــــــرار

بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير)

 

«بوركت أرض الإسلام التي أنجبتك يا شكيب» المصلح السيد جمال الدين الأفغاني

 

«أمير العروبة الكبير، وطنه الصغير بلاد الشام، ووطنه الأكبر بلاد العرب قاطبة» السيد عبدالله بن علوي الجعفري

 

هذا نزر يسير من الكثير الكثير الذي قيل في ما صنعه وأنجزه وتركه من آثار باهرة وأعمال جسام، أمير البيان، شيخ العروبة والإسلام، المفكر والمجاهد: الأمير شكيب أرسلان.


المؤلفات المنشورة وغير المنشورة [su_list icon_color=”#c5143f”]

 

  • بواكير شعر الأمير شكيب أرسلان
  • المختار من رسائل أبي إسحق الصابي
  • الدرر اليتيمة لإبن المقفع، تحقيق الأمير شكيب
  • آخر بني سراج، رواية شاتوبريان، ترجمة الأمير شكيب
  • روض الشقيق، ديوان أخيه نسيب، تحقيق الأمير شكيب
  • حاضر العالم الإسلامي، جزءان، تعليقات وحواشي من الأمير بلغت ضعفي الأصل
  • أناتول فرانس في مباذله، لبروسون، ترجمة الأمير شكيب
  • مقدمة الأمير شكيب لكتاب «النقد التحليلي» لمحمد أحمد الغمراوي وقد بلغت 56 صفحة
  • الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف،
  • محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي، تحقيق الأمير شكيب
  • ديوان الأمير شكيب أرسلان، حققه السيد محمد رشيد رضا
  • الحلل السندسية في الأخبار والأثار الأندلسية، في ثلاثة أجزاء
  • شوقي أو صداقة أربعين عاماً
  • السيّد رشيد رضا، أو إخاء أربعين عاماً
  • تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
  • تعليقات على إبن خلدون
  • النهضة العربية في العصر الحديث
  • لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم
  • مجلة الأمة العربية
  • عروة الاتحاد بين اهل الجهاد
  • رسالة البلاشفة او رحلة روسيا
  • رسالة رحلة المانيا
  • رسالة عن ضرب الفرنسيين لدمشق
  • المسألة السورية
  • مقالات أخرى منشورة في كثير من صحافة زمنه الأدبية والسياسية
مخطوطات لم تنشر حتى الآن [su_list icon_color=”#c5143f”]
  • بيوتات العرب في لبنان
  • البيان عما شهدت بالعيان
  • تاريخ بلاد الجزائر
  • ما لم يرد في متون اللغة
  • حياة شكيب (بقلمه)
  • حث في طرابلس وبرقة
  • الحلة السنية في الرحلة البوسنية
  • اختلاف العلم والدين (ترجمة)
  • مدنية العرب
  • الجيش المعبا من تاريخ أوروبا
  • قضيتنا مع سمو الخديوي
  • تاريخ لبنان
  • إصلاح العامية
  • التعريف بمناقب سيدي أحمد الشريف السنوسي
  • رسائل الأمير التي لم ينشر كثير منها حتى الآن

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي