السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 3, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التراث والحداثة

يتنازع قرّاء الكُثُر – والحمدلله – اتّجاهان حيال المواد التي تنشرها المجلّة، وهم لا يترددون في التعبير عنهما بغير طريقة وشكل، ونحن لا نتردد أيضاً في أخذ الملاحظات تلك بكل الجدّية والاهتمام المطلوبَيْن، وكما يفترض أن تفعل كل مطبوعة ثقافية تعنى باتجاهات قرائها.

الاتجاه الأول يطلب المزيد من المواد التراثية، وبخاصة في المجال التاريخي – تاريخ أبرز الرجال المعروفيين الذين رفدوا التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث على نحو ساطع. فمن دخول الأمراء التنوخيين القدس لتحريرها من الاحتلال الصليبي برفقة صلاح الدين الأيوبي، إلى إسهامات الشخصيات المعروفية الحاسمة في التصدي للغزو الغربي للشرق، وتبرز هنا حملة الأمير شكيب أرسلان في التصدي للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 جنباً إلى جنب مجاهدين آخرين. كذلك الإسهام المباشر في الثورة العربية الكبرى لاستعادة حق العرب التاريخي في إقامة كيان عربي مستقل، ثورة الشريف حسين، شريف مكة والحجاز، وأن يكون أحد أبرز قادتهم التاريخيين، سلطان باشا الأطرش، أول من دخل على صهوة جواده دمشق لإجلاء بقايا جمال باشا السفّاح وتركته عنها سنة 1918. وكذا إسهامهم المباشر في المحاولات اليائسة التي بذلها رجال العرب التاريخيين لمنع سقوط دولتهم الوليدة على يدي الفرنسيين سنة 1920، فكانت مشاركتهم المباشرة في معركة ميسلون، فأصيب منهم من أصيب – ولا أدري إذا كان من ضحايا أيضاً. ولم يطل الأمر حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش واستمرت نحو ثلاث سنوات كبّد فيها مجاهدو بني معروف على قلّة عددهم الفرنسيين الهزيمة تلو الهزيمة، ولم تنته الثورة سنة 1927 إلا باتفاق، بل بمؤامرة فرنسية إنجليزية أطبقت على مناطق الدروز. وليس أدلّ على الموقف المعروفي الواحد، في سوريا ولبنان، من ملاحظة العدد الكبير من دروز لبنان الذين شاركوا في العمليات الحربية وعدد الضحايا الكبير الذي قدموه في رفد الثورة – إذ تكاد لا تخلو بلدة في وادي التيم وجبل لبنان الجنوبي من شهيد أو أكثر سقطوا في العمليات العسكرية بين سنتي 1925-1927، وبخاصة من منطقة حاصبيا – راشيا، حيث أعداد الشهداء العالية (وفي العدد ثبت دقيق بشهداء وادي التيم في مواجهات الثورة مباشرة أو عمليات ضد الفرنسيين متصلة بالثورة). ومن تاريخهم الحديث، أيضاً، تصديهم للاحتلال الصهيوني عبر المشاركة المباشرة في الانتفاضات الفلسطينة المتعاقبة (وخصوصاً ثورة 1936) إلى الانخراط أخيراً في حملة “جيش الانقاذ” البائسة التي قادها المجاهد فوزي القاوقجي، والتي حاصرتها الخيانات من كل اتجاه. وفي التاريخ الحديث أيضاً تصديهم للانحراف الذي حدث في الخمسينيات في لبنان وانخراطه في محور إقليمي اعتبر معادياً لعبد الناصر ولحركة القومية العربية ما أوصل إلى ثورة 1958 التصحيحية. ثم تصديهم طوال سنوات 1973 و1975-76 وصولاً إلى سنة 1982 للمحاولات الإسرائيلية والأمريكية /الأطلسية التي هدفت إلى محو القضية الفلسطينية بالقوة من معادلات الشرق الأوسط.

وقاد التصدي البطولي ذاك وبكل شجاعة واقتدار المغفور له كمال جنبلاط، ثم القيادة الدرزية الموحّدة التي تشكلت غداة الغزو الإسرائيلي والتي تكونت من المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا ووليد جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان. قدّم دروز لبنان في المعارك الأخيرة وحدها مئات الشهداء بالإضافة الى عشرات الجرحى والمعوقين، لا يزال معظمهم بيننا اليوم مكرّمين معززين وشهوداً أيضاً على حجم التضحيات التي بذلت في سبيل القضية الوطنية والعربية. هذا في الجانب الجهادي والنضالي فقط، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إسهامات المفكرين والأدباء والفنانين والتراجمة المعروفيين في النهضة العربية الحديثة، وفي نهضة أقطار المشرق العربي قاطبة، من اليمن إلى العربية السعودية، فلبنان وسوريا، وهم بالعشرات، ومن واجب البديهي التعريف المستمر بهم وبعظيم إنجازاتهم.
هذا اتجاه أول، يمكن تسميته بالاتجاه التراثي، يُسعَد لكل فقرة تتضمنها تتصل بالتراث أو بتضحيات المعروفيين في كل اتجاه.

في مقابل هذا الاتجاه، يقوم اتجاه ثان بين قرّاء ، ما انفكوا يعبّرون عنه بأكثر من طريقة، ويمكن تسميته بالاتجاه الحداثي، أو الحداثوي.
أصحاب هذا الاتجاه الحداثي – ولنوضح موقفهم بدقة – هم مع استمرار في إبراز الجوانب التراثية في تاريخ بين معروف، وهم يقولون أنها ستبقى مفخرة بني معروف الفذّة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، إلا أن هؤلاء – وهم من طبقات وشرائح اجتماعية وثقافية عدة –يرون أن لا تولي الشباب المعروفي الطالع المقدار الضروري من الأهمية – إلا نادراً. هي لا تخاطبهم مباشرة، لا تفسح في المجال ليعبروا بأنفسهم عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، من تقدم المعارف والعلوم والتقنيات التي تلقى هوى عند الشباب ويعنيهم أن يتابعوا تطوراتها، إلى مشكلاتهم الكثيرة: من البطالة وفقدان فرص العمل، والكلفة العالية للتعليم، وغياب معظم مؤسسات التعليم العالي الرسمية عن مناطقهم، والطبابة الرسمية الغائبة عن مناطق الجبل، وكذلك ندرة المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية عن مناطقهم، إلى الحصار الإعلامي الذي تتعرض له مناطقهم وفقدانهم أمكنة التعبير عن أرائهم أو نتاجهم الثقافي، إلى أزمة الشباب المغترب وانشطار الوعي لديه، وعجزه عن التعبير عن أزمته، ومشكلات كثيرة أخرى. بعض أصحاب هذا الاتجاه، وبينهم رجال دين أجلاّء، عبّروا بشكل صريح عن هذا الرأي بالقول: كيف لي أن أجعل أولادي يقرأون وهي في عالم بينما أولادنا في عالم آخر مختلف؟

تلك بعض “ألطف” الانتقادات التي وردتنا، إذ عبّر آخرون في هذا الاتجاه عن منحى حداثي أكثر جذرية ونقدانية.
لا تستطيع إلاّ أن تصغي بانتباه شديد للرأيين أعلاه. ومن باب احترامها لقرائها، تُوسِع في مضمونها مكاناً للاتجاهين معاً. ومن غير الضروري افتعال التناقض بين الاتجاه التراثي والاتجاه الحداثي بين قرّاء وعلى صفحاتها. فالمساحة المخصصة للتراث في يجب أن تبقى، لما فيه من تذكير بالتقليد المعروفي العريق، ومن حضّ على التمسك بالقيم الموروثة الأصيلة. وكذلك، يجب أن تتسع المساحة التي تتيحها للمشكلات التي باتت تواجه مجتمعاتنا لأسباب عدة، كما للهواجس التي تشغل بال شبابنا وأجيالنا الناشئة، وهي كثيرة أيضاً. وثالث التجديدات الحداثية فتحُ آفاقٍ ثقافية جديدة لتطلّ منها إبداعات مبدعينا، فنانين وكتّاباً، رجالاً ونساء، من باب التعريف والتكريم من جهة، وتشجيع الميل للإبداع لدى شبابنا وشاباتنا من جهة ثانية. وفي كل الحالات، هي ، كما أرادها المؤسسون العظام في طائفة الموحدين الدروز، قبل خمسين سنة ونيّف؛ ومستمرة كذلك مع سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، وصحبه في مجلس أمناء المجلة وفي المجلس المذهبي.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

نحو أنوار الأمل والثّقة والمصداقيّة

يجابهُ مجتمعُنا العديد من التحدّيات الكبرى في المستويات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والبنيويَّة والثقافيَّة وما يتفرَّع عنها، أو ما يُعزى إلى مردِّها في كلِّ حقل.
والتحديات تلك، ما هو منظور مشخَّص منها، وما هو مغفول عنه أو مُهمَل، باتت تتنامى في وتيرةٍ متصاعدة من “تسارُع” ما يحدثُ في الزمن؛ تسارُع تُسهم فيه اندفاعة التطوّرات التقنية ومؤثّراتها الشموليَّة، وشبه “انهيار” العالَم السياسيّ القديم تحت وطأة جموح الدول العظمى في صراعٍ محموم ما فتئ يشحن العالَم برمَّته بكافَّة أشكال التوتُّر في شتَّى الميادين.
ما يهمّنا بشكل خاص هو موقع عالَمنا العربي والإسلاميّ في هذه الصُّورة، وهو موقع يغلبُ على أحوالِه مع الأسف تلقّي الفِعل، والترنُّح الفاجع تحت وطأة الحروب التي تتداخلُ فيها العواملُ المحليَّة والاقليميَّة والدوليَّة بأشكال فائقة الشبهة. وما يهمّنا، بالتالي، موقع لبنان الدقيق وسط العواصف والمؤثرات المختلفة، منها ما هو قائم فعلا، ومنها ما يهدِّده بأخطار داهمة من دون أن تتوقَّف المحاولات الدؤوبة من رجال الحُكم فيه لتجنُّب ما هو أسوأ، في ظلّ جيشٍ يؤدي واجبه الوطني، وشعبٍ يتمسك بما تميَّز به نظامه منذ الاستقلال.
هذا الإطار المضطرب يُملي عليْنا، قيادات ومؤسَّسات قائمة وفعاليات اجتماعيَّة ونُخَباً من مختلف الحقول ونُشطاء في كافَّة المجالات، أن نضفي على حركة النُّهوض في مجتمعنا طابَع الفعالية والابتكار والمبادرة السديدة والمشاركة بالحيويَّة الإيجابيَّة، وبالرّوح الوثّابة نحو الأحْسن، وذلك عبر التحرُّك باتّجاه آفاق جديدة لرؤية أحوال مجتمعنا بواقعيّة علميّة ورؤيويّة. لكن ذلك لا يمكن أن يكون ذا جدوى إلا بتطوير آليّات المقاربات الهادفة إلى إحداث الفعاليّات المثمرة، والنتائج المرجوَّة، والإنجازات المفيدة.
في هذا الإطار العام، يتضمَّن العدد الراهن من “الضحى” ملفّاً عن آفة خطيرة ذات مستويات متعدّدة من وقوع الأذى على الأفراد وعلى بُنية المجتمع في الآن عينه، هي آفة الإدمان بشكل عام، وتعاطي المخدّرات بشكل خاص. وعلينا أن نذهب بعيداً في طرح الأسئلة الجدّية بشكل واسع، بموضوعيَّةٍ وبشعور عميق بالمسؤوليّة، وهي أسئلة تتعلّق بالدوافع والمسبّبات وارتباط ذلك بالعديد من مستويات الاشكاليّات والأزمات الاجتماعيّة مثل البطالة، والمؤثّرات السلبيَّة في سوء استخدام شبكات التواصُل، والتفكُّك العائلي كما يُستدلّ من صعود مؤشّرات حالات الطّلاق في المحاكم، وبالتالي، انحلال روابط النظام التربويّ وما يُنتج عنه من الأخذ بنسبيَّة المفاهيم الأخلاقيَّة، ناهيك عن النزوع إلى مدارك سطحيّة للشؤون الثقافيّة الفكرية في كثير من أوساط الشباب، وما تعلّق منها على وجه الخصوص بمسائل مرتبطة بكيفيّات التعاطي مع “أجندة العالم المعاصر”، في الوقت الذي ترزحُ فيه معظم “الدول المتلقية” تحت وطأة تصاعد الأرقام المخيفة للدَّيْن العام، وما يعكسه ذلك من تأزم في الأوضاع الاقتصادية.
في هذا الزمن الذي تنحط فيه على نحو متسارع إنسانية الانسان، نستنهض المخلصين للمُثُل النبيلة، الغيارى على بقاء القيم الأخلاقية واستمرارها، الى عمل ينقذ هذه الُمثُل من الاضمحلال المتزايد يوماً بعد يوم. إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.
إعادة تفعيل ” التعليم بالقدوة” هي القاعدة الصحيحة لكل توجّه سليم، في البيت كما في المدرسة او المجتمع. انها مسؤولية الجميع، الدولة والمجتمع المدني (جمعيات وأندية) ووسائل الاعلام والأسرة وكل فرد آخر.
لا نستطيع ان نربّي أولادنا على خُلُقٍ قويم، الّا إذا كنا نمارس عزّة النفس وإبائها. فالطفل الذي يرى اباه يدخّن ويشرب الكحول، ويسمع الكلام البذيء في كل يوم، ويرى الخلاعة على شاشات التلفزة، لن يؤثر فيه بعد ذلك ان تشرح له أضرار ذلك كلّه. لا نستطيع ان نعلّم الناس الصدق ونحن نكذب عليهم، ولا الوفاء ونحن نخونهم، ولا الحشمة والحياء ونساؤنا يتزيّنّ بما اتصل، دونما احتراز، بمفاتن الجسد، ولا شيء غير ذلك.
كذلك، علينا الخروج من “الطابع الاستعراضي” لكثير من النشاطات العامّة نحو التوقّف مليّا أمام الأسئلة الصعبة التي تواجهنا بشكل تحديات يومية. يتطلّب هذا الأمر، وعلى سبيل المثال، عقد مؤتمرات عدّة يتناول كلّ منها جانباً من جوانب أحوالنا، أوّلها في “الأزمات الاجتماعيَّة” الآنفة الذكر، شرط أن تكون الموضوعات مدار بحث ودرس وتحضير وتشخيص عملي واقتراح حلول لها من قبَل أهل الفِكر والاختصاص والخبرة. فالأهميَّة لا تكمن في مجرَّد تنظيم المناسبة وانعقاد جمْعها وحسب، بل في ثمارها وما تحمله من توصيات عملية قابلة للتنفيذ والمتابعة والتحقّق. َ
بهذا وحده تُقدَّم بعضُ الإضاءات للجيل الشاب وأهمّها أنوار الأمل والثقة والمصداقيَّة.

المُخَدِّرات آفة العصر!

المُخَدِّرات
آفة العصر!

[su_accordion]

 

[su_spoiler title=” تقديم:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نبدأ الملف بتوصيف سماحة شيخ العقل لظاهرة انتشار المخدرات باعتبارها “آفة العصر”. وهي حقاً كذلك. لا نظن أن مرضاً (حتى السرطان) فتك بناس عصرنا كما فعلت المخدرات، بأنواعها المختلفة. لم تفعل الحروب، بمآسيها وضحاياها، ما فعلته آفة المخدرات.
كيف لا، والمخدرات تستهدف الأجيال الشابة على وجه الخصوص. وهي بذلك لا تقتل حاضر الجماعة والمجتمع فقط، بل تقتل مستقبلهما قبل ذلك وفوقه. هل رأيت آفة أخرى تحيل الحي ميتاً فيما هو على قيد الحياة؟ وتحيل الشاب كهلاً، فيما هو في ريعان صباه؟
هل رأيت آفة أخرى إذا أقفلت الباب في وجهها دخلت من النافذة؟ وإذا أحكمت إقفال النافذة تسللت عبر مسام الجدران؟
هل رأيت آفة أخرى تتمكن من مريضها، إلى الحد الذي يفقد معه كل إرادة للمقاومة، فيستسلم لها استسلام العبد الخانع الذليل؟
هل رأيت آفة أخرى تنسي مريضها أهله، أمه وأباه، وأخوته، بخيالات وصور وهمية مرضية من عالم اللاوعي؟
هل رأيت آفة أخرى تفقد مريضها اتزان العقل، والوعي السليم، والإحساس بالعيب وسائر قيم مجتمعه، وتحيله مريضاً مرمياً على الهامش يتحرك ب 10 بالمئة لا أكثر من طاقته وقدرته ووعيه وإمكاناته، وهو القادر على أن يكون منتجاً فاعلاً وعضواً نشطاً في أسرته ومجتمعه؟
هذا بعض ما دفع، ويدفع، كل المجتمعات لفعل ما تستطيع لدرء هذه الآفة الفتّاكة عن مجتمعها وشبابها وناشئتها؛ وعن مدارسها على وجه الخصوص.
وهو أيضاً بعض ما دفعنا في لإعادة فتح الملف المؤلم، بل الخطير، وبخاصة على شبابنا وناشئتنا، عدة المستقبل وعتاده.
يصح في المخدرات القول، إذا أردت أن تقتل شعباً على نحو ناعم، ومن دون دماء، فوزّع فيه المخدرات على أنواعها، من الحشيشة إلى حبوب ’ الكبتاغون’ إلى سواهما مما تجود به العقلية الشيطانية لشبكات المنتفعين بتجارة المخدرات، دولاً (ربما)، وشركات، ورؤوس أموال، وشبكات اتجار وموزعين. ألم تحاول دول استعمارية أن تفرض المخدرات بالقوة على مستعمرات لها كي تضمن “موت” شعوب المستعمرات تلك، وتأبيد استعمارها بالتالي؟
يبدأ الملف يتقديم تعريف علمي للمخدرات وما تحتويه من عناصر مكوّنة، وما تنطوي عليه من أضرار قاتلة.
ولأن الملف يتزامن مع “شهر الحرب على المخدرات”، شهر آذار، من كل عام. لذلك جعلنا أولى فقرات الملف ثبتاً سريعاً بأهم الندوات التي دعت إليها لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، واللجنة الدينية واللجنة الإجتماعية تخصيصاً، لإظهار مخاطر آفة المخدرات، إلى أنشطة أخرى. ونختم الملف بمقالتين/محاضرتين لكل من:
– العميد أنور يحي، الرئيس السابق للشرطة القضائية، في قوى الأمن الداخلي، في لبنان،
– والشيخ سلمان عودة، عضو اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.
وغايتنا من ذلك كله التحذير ثم التحذير من هذه الآفة الفتّاكة، والحضّ على التعاون في درء مخاطرها، وبخاصة عن شبابنا.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”تعريف المخدرات” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تعريف المخدرات
تعريف المخدرات

المخدِّرات هي كلّ ما يمنع الجهاز العصبي عن القيام بعمله وهي مادّة تسبّب تسكين الألم والنّعاس أو غياب الوعي. ويعرّفها القانون على أنّها مواد تُسمّم الجهاز العصبي وتسبّب الإدمان وتُمْنَعُ زراعتُها أو صناعتها أو تداولها إلّا لأغراض يُحدّدها القانون وتكون فقط بواسطة من يُرَخَّص له.
أنواع المخدّرات

تُصَنّف المخدِّرات تبْعًا لمصدرها إلى:
مخدِّرات طبيعيّة:
وهي من أصل نباتي فهي تُسْتَخرَج من أوراق النّبات أو أزهاره أو ثماره.
أ- الخشخاش: تتركّز في الثّمار غيرِ الناضجة.
ب- القنّب: تتركّز في الأورق والقمم الزهرية
ج- القات: تتركز في الأوراق
د- الكوكا: تتركز في الأوراق – جوزة الطيب: تتركز في البذور
ويمكن أن تُسْتخلَص المواد المخدّرة باستعمال المُذيبات العضويّة: الحشيش والأفيون والمورفين والكوكايين.
مُخدِّرات نصف صناعيّة:
وهي مواد مُخدِّرة مستخلَصة من النباتات المخدرة متفاعلة مع موادّ أخرى فتتكوّن موادّ أكثر فعالية من المواد الأولية، على سبيل المثال: الهيرويين ينتج من تفاعل مادة المورفين مع مادة أستيل آلورايد.
مُخدِّرات صناعية:
تنتج من تفاعلات كيميائية معقدة بين المركبات الكيميائية المختلفة في معامل شركات الأدوية أو معامل مراكز البحوث. ويمكن أن تُصنَّف تبعًا لتأثيرها على النشاط العقلي للمتعاطي وحالته النفسية إلى مُهبّطات ومُنشّطات ومُهلوسات. الحشيش باعتباره مُهبّطًا بالجرعة الصغيرة ومهلوسًا بالجرعة الكبيرة.
وإذا ما أخذنا الأساسين السابقين سويّة فيمكن أن نصنفها إلى مُهبّطات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، ومنشّطات طبيعية أو صناعية، مهلوسات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، والحشيش.
تاريخ:

إنّ استخدام المواد المخدّرة يعود إلى عصور قديمة ولكن البدايات المعاصرة لاستخدام المخدرات خاصّة في الغرب بدأت بالاستخدام الطبّي للمخدرات وكان الأطبّاء يصفون مركّبات الأفيون كعلاج. وكتب أحد الأطباء كتابًا يبيّن للأمهات كيفية استخدام المخدّرات لعلاج أطفالهنّ وكان جهل الأطباء حينئذ بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن إدمان هذه المواد قد جعلهم يستخدمونها على نطاق واسع لعلاج العديد من الأمراض والآلام وقد اتّسع نطاق استخدامها إلى أن دخلت في كلّ مهدّئات الأطفال. وقد استخدم في الحرب الأهلية الأمريكية لعلاج حالات الإصابة حتّى سُمِّيَ الإدمان على المورفين آنذاك بـ “مرض الجُندي” وفي سنة 1898 أنتجت شركة باير في ألمانيا مادة مخدرة جديدة على اعتبار أنها أقل خطورة وكانت هذه هي مادّة الهيرويين التي تبيّن أنها أكثر خطورة في الإدمان من المورفين. وعندما أدرك الأطبّاء وعموم النّاس مخاطر الإدمان كانت المخدّرات قد انتشرت بشكل واسع جدًّا.

انتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي وغيرها من الأمراض
انتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي
وغيرها من الأمراض

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” الإدمان:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

وهو التعوّد على الشّيء مع صعوبة في التخلّص منه. لكنّ هذا التعريف لا ينطبق على كافّة المخدرات وعقاقير الهلوسة، لذلك رأت هيئة الصحّة العالمية في عام 1964 استبدال كلمة إدمان واستخدام الاعتماد الفسيولوجي (أو الصحّي) والاعتماد السيكولوجي (أو النّفسي).
الاعتماد الفسيولوجي يُستخدَم للدلالة على أنّ كيمياء الجسم حدث بها تغيّرات معيّنة بسبب استمرارية تعاطي المواد المخدِّرة، فيتطلّب الأمر زيادة كميّة المخدِّر دومًا للحصول على نفس التأثير، والانقطاع عن تعاطي المخدّر دفعةً واحدة ينجم عنه حدوث نكسة صحية وآلام شديدة قد تؤدي إلى الموت في النهاية.
أمّا الاعتماد السيكولوجي فيدلّ على شعور الإنسان بالحاجة إلى العقاقير المخدّرة لأسباب نفسية فقط والتوقّف عنها لا يسبب عادة نكسات صحيّة أو عضويّة.
يعود سبب الاعتماد الفسيولوجي إلى دخول هذه السموم في كيمياء الجسم فتُحدث تغيّرات بها. ثمّ لا تلبث بالتدرّج أن تتجاوب مع أنسجة الجسم وخلاياه. وبعدها يقلّ التجاوب لأنّ أنسجة الجسم تَعْتَبرُ المادة المخدّرة كأحد مكونات الدّم الطبيعيّة، وبذلك تقلّ الاستجابة إلى مفعولها ممّا يضطر المُدمن إلى الإكثار من كميّتها للحصول على التأثيرات المطلوبة. فإنْ لم يستطع المدمن لسبب ما الاستمرار بتعاطيه، تظهر بعض الأمراض التي تُسمّى بالأعراض الانسحابية. وتبدأ هذه على شكل قلق عنيف وتدميع العيون، ويظهر المريض وكأنّه أصيب برشح حادّ، ثم يتغيّر بؤبؤ العين، ويصاحب كلّ ذلك ألم في الظهر وتقلّص شديد في العضلات مع ارتفاع في ضغط الدم وحرارة الجسم.
أضرار المخدرات:
الأضرار الجسمية:
1- فقدان الشهيّة للطعام ممّا يؤدي إلى النحافة والهزال والضعف
العام المصحوب باصفرار الوجه أو اسوداده لدى المُتعاطي، كما تتسبّب في قلّة النشاط والحيوية وضعف المقاومة للمرض الذي يؤدّي إلى دُوار وصداع مزمن يصحبه احمرار العينين، ويحدث اختلال في التوازن والتآزر العصبي في الأذنين.
2- يُحدِث تعاطي المخدّرات تهيّجًا موضعيًّا للأغشية المخاطية
والشُّعَب الهوائية وذلك نتيجة تكون مواد كربونية وترسبها في الشُّعَب الهوائية حيث ينتج عنها التهابات رئويّة مزمنة قد تصل إلى الاصابة بالتدرّن الرئوي.
3- يحدث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الجهاز الهضمي والذي
ينتج عنه سوء الهضم وكَثرة الغازات والشّعور بالانتفاخ والامتلاء والتُّخمة التي عادة ما تنتهي إلى حالات الاسهال الخاصّة عند تناول مخدِّر الأفيون والامساك. كذلك تُسبب التهاب المعدة المزمن فتعجز المعدة عن القيام بوظيفتها وهضم الطعام، كما تسبب التهابًا في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها في هضم الطعام، وتزويد الجسم بهرمون الأنسولين الذي يقوم بتنظيم مستوى السكر بالدم.
4- كما تُتلف الكبد وتُليِّفه حيث يُحلِّل المخدّر؛ الأفيون مثلًا خلايا
الكبد، ويُحدث بها تليُّفًا وزيادة في نسبة السكر، ممّا يسبّب التهاباً وتضخماً في الكبد وتوقّف عمله بسبب السموم التي تُعْجِز الكبد عن تخليص الجسم منها.
5- تسبب التهابًا في المخ وتحطيم وتآكل ملايين الخلايا العصبية
التي تكوّن المخ ممّا يؤدي إلى فقدان الذاكرة والهلوسات السمعية والبصرية والفكرية.
6- بالإضافة إلى اضطراب في القلب، ومرض القلب الحولي
والذّبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، وانفجار الشرايين، وتسبب فقر الدم الشديد وتكسُّر كريات الدم الحمراء وقلة التغذية، وتسمّم نخاع العظام الذي يصنع كُريات الدم الحمراء.
7- التأثير على النشاط الجنسي، حيث تُقلّل من القدرة الجنسية
وتُنقص من إفرازات الغُدد الجنسية.
8- التورّم المنتشر، واليرقان وسيلان الدم وارتفاع الضغط الدموي
في الشريان الكبدي.
9- الاصابة بنوبات الصّرَع بسبب الاستبعاد للعقار، وذلك بعد
ثمانية أيام من الاستبعاد.
10-إحداث عيوبٍ خَلْقيّة في الأطفال حديثي الولادة.
11-مشاكل صحيّة لدى المدمنات الحوامل مثل فقر الدم ومرض
القلب، والسكري والتهاب الرئتين والكبد والاجهاض العفوي، ووضع مقلوب للجنين الذي يولد ناقص النّمو، هذا إذا لم يمت في رحم الأم.
12-تعاطي المخدّرات قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان
13- تعاطي جرعة زائدة ومُفرطة هي انتحار.

الأضرار النّفسيّة:
1- يُحدِث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الإدراك الحسّي العام
وخاصة إذا ما تعلق الأمر بحواس السمع والبصر، بالإضافة إلى الخلل في إدراك الزّمن فيصبح بطيئًا، واختلال في إدراك المسافات فتصبح طويلة، واختلال إدراك الحجم فتتضخم الأشياء..
2- يؤدي تعاطي المخدرات إلى اختلال في التفكير العام وصعوبة
وبطء به، وبالتالي يؤدي إلى فساد الحكم على الأمور والأشياء والهلوسة والهذيان.
3- يؤدي تعاطي المخدرات إلى آثار نفسية مثل القلق والتوتّر
المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والشعور بالانقباض والهبوط مع عصبيّة وحِدّة في المزاج وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
4- تُسبّب المخدرات اختلالًا في الاتزان والذي يُحدِث بدوره بعض
التشنّجات والصعوبات في النطق والتعبير عما يدور في ذهن المتعاطي بالإضافة إلى صعوبة المشي.
5- يؤدي تعاطي المخدّرات إلى اضطراب في الوجدان، حيث ينقلب
المتعاطي بين حالة المرح والنشوة والشعور بالرضا والراحة بعد تعاطي المخدر وحالة ضعف في المستوى الذهني وذلك لتضارب الأفكار لديه فهو بعد التعاطي يشعر بالسعادة والنشوة والعيش في جو خيالي وزيادة النشاط والحيوية ولكن سرعان ما يتحوّل ذلك إلى ندم وواقع مؤلم وفتور وإرهاق مصحوب بخمول واكتئاب.
6- تُسبب المخدرات حدوث العصبية الزائدة والحساسيّة الشديدة
والتوتّر الانفعالي الدائم والذي ينتج عنه بالضرورة ضعف القدرة على التّواؤم الاجتماعي.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الحشيش” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحشيش هو مخدِّر يُصنع من القِنّب الهندي (Cannabis Sativa) وتتمّ زراعته في المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة، والماريجوانا هي أوراق وأزهار القنّب الجافة. والسائل المُجَفّف من المادّة الصمغية هو الحشيش.
وهو أكثر المخدّرات انتشارًا في العالم لرخص ثمنه وسهوله تعاطيه فلا تلزمه أدوات معقّده مثل “سرنجات” الإبر أو غيرها. وأوراق نبات القنّب تحتوي موادَّ كيميائيةً tetrahydrocannabinol THC وكميّات صغيرة من مادة تشبه الأتروبين تسبّب جفاف الحلق. ومادة تشبه الأستيل كولين تسبب تأثير دخان الحشيش المهيّج. والحشيش من المواد المهلوسة بجرعات كبيرة ويُعتبر تدخينه من أكثر الطّرق انتشارًا، وأسرعها تأثيرًا على الجهاز العصبي المركزي نظرًا لسرعة وصول المادة الفعالة من الرئة إلى الدم ومنه إلى أنحاء المخ.

تأثيره على الرّئتين
من الأمراض الأولى التي يُحدِثها تعاطي الحشيش هي التهاب القصبات الهوائية وأمراض الرّئة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحشيش يسبّب سرطان الرّئة. كما قد ثبت أنّ له تأثيرًا على الأجِنّة والأجيال المستقبليّة وذلك لأنّه يؤثّر على صحّة أجهزة الجنس لدى الجنسين ويمكن أن يوقف الدّورة لدى النساء المتعاطيات. بالإضافة إلى أنّه يُجرّد المتعاطي من قوّة جهازه المناعي ويجعله عرضةً لخطر الجراثيم والفيروسات.
والاستهلاك الكثيف منه يؤدّي الى أمراض الجهاز التنفسي مثل السّعال المُزمن والرّبو والالتهاب الرئوي وقرحة الحلق المزمنة والتهاب البلعوم والسِّلّ.

تأثيره على الدّماغ
يؤثّر الحشيش على الجهاز العصبي، وله تأثير منعكس فهو يبدأ بتنبيه المتعاطي ثم تخديره وتعقبه هلوسة، ثم خمول فنوم مع زيادة الجرعة فيفقد الاحساس بالنشوة ويستبدله بإحساس يتدرّج من الحزن إلى الغضب حتى جنون العظمة ونوبات الغضب الشديدة.

الاستعمال الطبّي:
تُعَدّ الماريجوانا أفضل مُسكّنات الآلام حيث تختلف عن أغلب البدائل بأنّها لا تسبّب أيَّ إدمان نظرًا لخفّة أعراضها الجانبيّة. كما يمكن أن تُستعمَل كمضادّ للقيء ومنشّط للشهيّة وتبيّن الدراسات أنَّ الماريجوانا يمكن أن تساعد في علاج الكثير من الأمراض المختلفة مثل الأمراض التي تتسبب بآلام كبيرة ولا تنفع معها المهدّئات المتوافرة في المستشفيات المتخصِّصة أو قد يؤدي كثرة استخدام المهدئات الطبيّة إلى مضاعفات أخرى أو تفاقم المرض.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”تأثير المخدرات على جسد المدمن:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

[su_spoiler title=”الاثار الجسدية و العصبية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الآثار الجسديّة:
يُسبّب تعاطي الحشيش على المدى القصير تزايدًا في سرعة القلب وجفاف الفم واحمرار العينين (احتقان في الأوعية الدمويّة المُلتحمة) وانخفاضًا في الضغط داخل العين والاسترخاء العضلي والإحساس باليدين والقدمين الباردتين أو الساخنتين. تُظهر الـ EEG أو موجات ألفا الكهربائية ثباتًا إلى حدٍّ ما وتردّدات أدنى قليلًا عن المعتاد، وتسبّب المواد المخدِّرة “الاكتئاب الواضح في النشاط الحركي” عن طريق تنشيط مستقبلات الحشيش العصبية وتحدث مستويات الذروة المرتبطة بتسمُّم الحشيش تقريبًا 30 دقيقة بعد تدخينه وتستمرّ لساعات عديدة.

الآثار العصبيّة:
تَتَّسِق المناطق الدّماغية حيث تتواجد مستقبلات الحشيش بكثرة سائدة مع الآثار السلوكية الناتجة عن المواد المخدّرة، حيث مستقبلات الحشيش كثيرة جدًّا؛ هي العقد العصبية القاعدية المرتبطة بالمراقبة الحركية.
المُخَيخ: ويرتبط مع تنسيق حركة الجسد الحصين، ويرتبط مع التعليم والذاكرة والسيطرة والإجهاد.
القشرة الدماغية: ترتبط بالوظائف المعرفية العليا.
النواة المتكئة: التي تُعْتَبَر مركز المكافأة في المخّ ومناطق أخرى حيث تتركّز مستقبلات الحشيش باعتدال وهي منطقة ما تحت المهاد، التي تنظّمُ وظائف التماثل الساكن.
اللّوزة الدّماغية: وترتبط مع الاستجابات العاطفية والخوف.
النخاع الشوكي: ويرتبط مع الأحاسيس الطّرفية مثل الآلام.
جذع الدّماغ: ويرتبط مع النّوم والإثارة والتحكّم الحركي.
نواة الجهاز الانفرادي: ويرتبط مع الأحاسيس الباطنيّة مثل الغثيان والتقيُّؤ.

لقد أظهرت التّجارب على الحيوانات والأنسجة البشريّة تعطيل تشكيل الذاكرة على المدى القصير، الذي يتَّسِق بغزارة مستقبلات CB1 على الحصين ومنطقة الدّماغ المرتبطة بشكل وثيق مع الذاكرة. تمنع المواد المخدِّرة إطلاق العديد من الناقلات العصبية في الحصين مثل أستيل وبإفراز الغلوتامات، ممّا أدى إلى انخفاض كبير في نشاطات الخلايا العصبية في تلك المنطقة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”لبنان و الحشيشة :” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحشيشة
الحشيشة

لبنان والحشيشة:

تُقسم حشيشة لبنان إلى قِنّب هندي أو قنب عادي، وهي نبتة يراوح طولها 1 إلى 2.5 م، أوراقها طويلة على شكل مروحة بأزهار صغيرة الحجم خضراء اللون بغلاف زهري احتلّ لبنان المركز الأوّل في الشّرق الأوسط للمخدّرات إبّان الحرب الأهلية،
وكان ينتج ما بين 30 و50 طنًّا من الأفيون المكوِّن الأساسي للهيرويين، أطلقت الحكومة مع بداية التسعينيّات وبعد انتهاء الحرب الأهلية، برنامجًا لدعم الزّراعات البديلة برعاية الأمم المتحدة بهدف استئصال زراعة المخدّرات، إلى أن أعلنت الأمم المتحدة سهل البقاع خاليًا من المخدرات عام 1994 بفضل تعاون المزارعين، راصدًا كلفة 300 مليون دولار ككلفة عدم العودة لزراعتها. لكنّ الدّولة سلّمت حتّى الـ 2001 مبلغ 17 مليون دولار فقط، ممّا أدّى إلى فشل البرنامج وازدهار زراعة الحشيشة بشكلٍ أكبر، فالمزارع عاد ليزرع، والدّولة عادت لتتلف ما يقارب 1000 و6500 هكتار سنويًّا في بعلبك الهرمل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الكبتاجون :” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الكبتاجون

الكبتاجون أو فينيثايلين هو أحد مشتقات مادة الأمفيتامين. صنعت في البداية سنة 1919 في اليابان بواسطة الكيميائي أوقاتا. واستخدم لحوالي 25 عاما، باعتباره بديلًا أكثر اعتدالًا للأمفيتامين كان يُستخدم في تطبيقات كعلاج للأطفال “قصور الانتباه وفرط الحركة”، وكما شاع استعماله لمرض ناركوليبسي أو كمضاد للاكتئاب.
تاريخ الأمفيتامينات ومثيلاتها:

في البداية صنع الأمفيتامين في ألمانيا سنة 1887 وأطلق عليها عندما اكتشفت باسم المقوِّيات، وقد صُنعت لمكافحة الجوع.
الميثامفيتامين صُنعت أوّلًا في اليابان سنة 1919، وفي العشرينيّات استُخدمت الأمفيتامينات كعلاج للعديد من الأمراض مثل الصّرع وانفصام الشخصية, وإدمان المُسكرات والصّداع النّصفي (الشقيقة), وغيرها، في سنة 1930 لاحظ الطبيب بنيس أنها ترفع ضغط الدم، في سنة 1932 استخدمت لعلاج احتقان الأنف، وفي سنة 1933 لاحظ أليس تأثيرها كمنشّط للجهاز العصبي المركزي وموسّع لقنوات الجهاز التنفسي، وفي سنة 1935 استُخدمت لعلاج نوبات النّعاس الغالبة (Narcolepsy) (مرض يحدث فيه نوبات قصيرة من النّوم العميق والتي من الممكن أن تَحْدث في أي وقت خلال اليوم)، وفي سنة 1937م استخدمت لعلاج فرط النّشاط لدى الأطفال ADHD (تأثير الأمفيتامين على الأطفال يكون كمهدّئ بدلًا من تنبيههم بعكس البالغين).

الكبتاجون (captagon) هو الاسم التّجاري للفينثيلين (Fenethylline) الاسم العلمي وهو مركب مثيل للأمفيتامين التي تُعَدُّ من المنشطات، والمنشطات هي العقاقير التي تسبّب النشاط الزائد وكثرة الحركة وعدم الشعور بالتّعب والجوع وتسبّب الأرق وتُعتبَرُ من المخدِّرات التصنيعيّة وهي موادّ محظورة، ومن أشهر أنواع الأمفيتامينات ذلك الذي يُعْرَف تجاريًّا باسم “بنزدرين” وميثامفتيامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديسوكسين” وديكسترو أمفيتامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديكسيدرين”. كما توجد مركبات أخرى مثيلة للأمفيتاميات وهي فينثيلين والمعروف بالكبتاجون والفينمترازين المعروف تجاريًّا باسم “بريلودين” وفينديميترازين المعروف باسم “بليجين” وفينترمين
أشكال الأمفيتامينات: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

الصراع الداخلي الذي يُعاني منه المُدمن من أصعب أنواع العذاب النفسي
الصراع الداخلي الذي يُعاني منه المُدمن
من أصعب أنواع العذاب النفسي

قد يعاني المُدمن من الهلوسات السمعيّة والبصريّة وتضطرب حواسُّه فيتخيّل أشياء لا وجود لها، كما يؤدي الاستعمال إلى حدوث حالة من التوهُّم حيث يشعر المُدمن أنَّ حشراتٍ تتحرّك على جلده. وهناك مَنْ تظهر عليه أعراض تشبه حالات مرض الفصام أو جنون العظمة. كذلك الشعور بالاضطهاد والبكاء بدون سبب و الشكّ في الآخرين فمثلًا بعض المتعاطين يشكُّ في أصدقائه بأنّهم مخبرون متعاونون مع مكافحة المخدِّرات وهناك من يشكّ في زوجته بأنّ لها علاقات مع غيره ممّا يسبّب مشاكل عائليّة واجتماعية للمتعاطي ومع الإفراط في الاستخدام يحدث نقص في كُريات الدم البيضاء ممّا يضعف المقاومة للأمراض, كذلك تحدث أنيميا، كما يؤدّي إدمان الأمفيتامينات إلى حدوث أمراض سوء التغذية، كما يسبب حقنها في الوريد بجرعات كبيرة حدوث إصابات في الشرايين مثل الالتهاب والنّخر وفشل كلوي وتدمير الأوعية الدموية بالكليَة وانسداد الأوعية الدموية للمخ ونزيف في المخ قد يؤدي إلى الوفاة، ويؤدي استنشاق الأمفيتامين إلى إثارة الأغشية المخاطية للأنف، ويؤدّي استخدام الحقن الملوثة إلى نقل عدّة أمراض خطيرة مثل الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي من نوع B ومن أضرارها كذلك أنها تؤدي إلى الوقوع في التّدخين (أو الإكثار من التدخين إذا كان يدخّن قبل الوقوع في تعاطي الكبتاجون) لأنّها تزيد من مفعول الكبتاجون. كذلك تؤدي إلى الوقوع في الحشيش لأنّ الحشيش يضادّ مفعول الكبتاجون فيستخدمها بعض المتعاطين إذا أراد النوم، كما تؤدي إلى الوقوع في المُسكرات (لأنّه يُشاع بين المتعاطين أنّ الكحول تُزيل أثر الكبتاجون من الجسم فلا يتمّ التعرّف على المتعاطي من خلال التّحليل).
اشكال الكبتاجون: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

تُسبب المخدرات حدوث الحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم
تُسبب المخدرات حدوث الحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الهيرويين” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يُصَنَّف من المخدّرات في الغرب، ويُحصل عليه عبر أستلة (إضافة جُزَيء أستيل) المورفين، وهو أهمّ شبه قلوي مُستخرَج من الخشخاش المنوِّم، وهو مُخدِّر قويّ للجهاز العصبي المركزي ويسبب إدمان جسمي ونفسي قوي، والهيرويين (باسمه العلمي “دايمورفين” أو “دايستلمورفين”) يوصف كعلاج للأغراض الطبيّة كمخدِّر للآلام الحادّة.
يُسْتَخدم الهرويين في المملكة المتحدة كمُسكِّن قوي للألم تحت اسمه العلمي دايمورفين أو دايستلمورفين. استخدامه يشمل علاج الآلام الحادّة، مثل الإصابات الجسدية الحادّه، واحتشاء عضلة القلب، وآلام ما بعد الجراحة، والآلام المزمنة وأمراض أخرى، ويُصَنّف من ضمن الأدوية فئة A الخاضعة للرقابة.

أعراض إدمان الهيرويين:
الأعراض الجسديّة: ضيق التنفسّس والجفاف وضيق حَدَقة العين وتغيّرات سلوكية واضحة وضعف الاتزان واضطراب ضربات القلب وعدم القدرة على التركيز وكَثرة النّسيان وزيادة في النشاط يليها الخمول والكسل وانخفاض ضغط الدم وفقدان الوزن والرشح المستمرّ والتهابات في أماكن الإبر والحقن والضّعف الجنسيّ والإصابة بالإيدز، اضطرابات الدّورة الشّهرية لدى السيّدات.
الأعراض السلوكية والنفسية:
التّلعثم في الكلام وعدم القدرة على التحدّث بشكل لائق، والعزلة والابتعاد عن الأصدقاء والعائلة وتدمير العلاقات الأسريّة.
أمّا الأمراض التي يُصاب بها المُدمن على المدى الطّويل فكثيرة مثل: أمراض القلب وانتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي والالتهاب الرّئوي وتجلّط الدم وأمراض الكبد والتّشنّجات وأعراض الانسحاب من إدمان الهيرويين وتظهر من خلال الرّعشة الشديدة ولإسهال والحُمَّى.
الكوكايين

هو مسحوق أبيض يُستَخلص من أوراق نبات الكوكا الذي ينمو بشكل رئيسي في أمريكا الجنوبية. وعادة ما يتم تعاطيه باستنشاق المسحوق عن طريق الأنف و”الكراك” ليس مخدِّرًا مُختلفًا، وإنّما هو شكل من أشكال الكوكايين يسبّب درجة أكبر من الإدمان، وعادةً ما يتم تدخين الكراك، الذي يسمّى أيضاً بالصّخر أو الحجر أو الكوكايين المُنَقَّى ويتمّ أحيانًا حقن الكوكايين أو أكلّه.
الآثار الجانبية: نظرًا لتأثيراته القوية، كثيرًا ما تكون لدى متعاطي الكوكايين رغبة مُلحّة في تعاطي المزيد، وقد تؤدّي الجرعات الكبيرة من المخدِّر إلى إصابتك بالإجهاد، والقلق، والاكتئاب، وأحيانًا العُدوانيّة.

يؤدي تعاطي المخدرات إلى التوتّر والقلق المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والانقباض وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
يؤدي تعاطي المخدرات إلى التوتّر والقلق المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والانقباض وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من الناحية
القضائية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشباب بين
التخدير والتحذير

العميد أنور يحيى
قائد سابق للشرطة القضائية ومُحلّل جنائي استراتيجي

منذُ مطلع العِقد الثامن من القرن الماضي، انخرط بعض شبابنا في ميليشيات مسلّحة بعد أن دخلوها تحت ذرائع مختلفة، ومتباينة. خاضت هذه الميليشيات الحروب بأحدث الأسلحة، لأسباب متعدّدة، وشكل ذلك بيئة ملائمة لتفشي المخدّرات بين الشباب بحجّة إزالة جدار الخوف لديهم، وإعطاء الصّورة بأنّ قضيتهم حق وغيرهم على باطل. ولم تعد حتى المجتمعات الجبليّة التي مرّ على تعايشها عصور عديدة متجانسة مترابطة بمنأى عن تداعيات ذلك، حيث نزح البعض سعياً وراء الأمن، أو للالتحاق ببقيّة الأسرة حيث وسيلة الارتزاق، أو الجامعة.. وهكذا أصبحت مجتمعات الجبل كسواها في صيرورة واحدة، شرقا وغرباً.
تراجع الانتماء الوطني في أثناء فترة الحرب لصالح الانتماء الطائفي والسياسي، وضعفت هيبة الدولة لصالح الميليشيات، وتحت ضغط التهديد بالسلاح وبسواه… فانعكس ذلك على تفكّك الأسرة، ومعها انشغال الزوج والزوجة بالعمل لكسب القوت وسدّ المصاريف المتزايدة يوماً بعد يوم لا سيّما مع شِحّ المداخيل الخارجيّة.
كما هيمنت سلطة الوصاية بين عامي1990 و2005 على الجزء الأكبر من مرافق الدولة اللبنانية، فجرى استنساب واضح في تطبيق القانون، وفي ’ انتقاء’ من ينفذ به القانون، فزُجَّ حتى بالنّواب في السّجون لأسباب ظاهرها شيء وحقيقتها شيء آخر، وتمّت مُلاحقة أفراد حاولوا التّريث بتنفيذ قرارات صادرة عن أصحاب النفوذ… وكثرت شبكات الاتجار بالمخدرات الممنوعة بحماية ثابتة مقابل الحصول على المال الوافر!!
ومؤخّراً دخلت تكنولوجيا المعلومات بسرعة وكان عصر العولمة globalization الذي جعل سكان العالم كلّه يتكلّمون لغة واحدة: الأنترنت، فبات سكّان الأرض كلّهم كأنهم يعيشون في قرية صغيرة ..وزُوِّد الفتيان القاصرون بالخليوي المتّصل بالأنترنت بأقل التكاليف بهدف تأمين السّلامة والحماية وبات هذا المراهق يطَّلع على تسجيلات وصفحات التّواصل الاجتماعي المفيدة منها والمضرّة دون تمكّن الأهل من فرض مراقبة عليهم وانهارت مداميك القيم والتمسك بالفضائل التي نشأت عليها الأجيال السابقة، ودخلنا بوسيلة التّخاطب الخليوي والأنترنت حيث كلّ المعلومات مُباحة وسهلة.
وطالت التداعيات تلك كل المجتمعات، فلم يعد المجتمع التوحيدي المُرتكز إلى مبادئ مراقبة الإنسان لذاته والخوف من الله وتجنّب ارتكاب المعاصي قائماً، ما جعل شباناً أو فتياناً يستشعرون الجرأة لمواجهة الأهل والأستاذ والمجتمع، تحت دعوى التمسك الصارخ بحقوق الإنسان ولو على حساب القيم الفضائل الخلقيّة التي عُرِف بها المجتمع التوحيدي دائما.
ألحقت الحرب اللبنانية 1975-1990 وما تلاها الأضرار الجمّة بالبشر قبل الحجر، وقبل الاقتصاد والبيئة والمجتمع المدني، كما انتشرت المخدّرات على أنواعها ولم تعد مقتصرة على الحشيشة من الإنتاج المحلّي، بل تعرّف شبابنا إلى أصناف الكوكايين والهيرويين والحبوب المهلوسة، وحبوب الكبتاغون الأشدّ خطورة والتي شكلت القوت الأهم لعناصر داعش والنصرة الإرهابيتين، وها هي المخدرات الرّقمية Digital Narcotics تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة ويصعب مراقبة الأبناء وهم يضعون السماعات الموصولة بالهاتف الخليوي أو الحاسوب على آذانهم بحجّة إنصاتهم لشرح دروس وقضايا أكاديمية، ويُسبّب هذا إدماناً رهيباً ولا يظهر أثره عبر تحليل الدم أو البول، كما هي الحال في بقيّة المخدّرات المهلوسة Tangible فيصيب الدماغ وأعصاب مستخدميه وقد تبين أنّ سفّاح مجزرة شاطئ سوسة على ساحل تونس الذي قتل 39 سائحاً أوروبيّاً وجرح العشرات صيف العام 2015، والذي صَوّرته كاميرات المراقبة كان يضحك فرحاً أثناء إطلاق النار على ضحاياه، وتبيّن بتشريح الجثّة امتزاج دمه بكميّات وافرة من الكبتاغون المخدّر.
نعم، هبطت العائلات من الجبل إلى الساحل والمدن للعمل وفقاً لشهادات الاختصاص، وقرباً من الجامعات والمعاهد التقنية، فازدادت المصاريف وانهمكت الأمّ كما الأب بالعمل المضني، وكان المنزل مكاناً لمتابعة التحضير والعمل دون التنبُّه لحاجات الفتيان والفتيات ومشاكلهم. هؤلاء الشباب بحاجة إلى محاورة الأم والأب لمناقشة صعوبات الدراسة وإزعاجات الرفاق ومشاكلهم Bullying، وغالباً ما يلجأ هذا الطالب إلى رفاق السوء أو الأنترنت هرباً من واقع أليم أو بحثاً عن حلول شخصيّة لم يتدخّل الأهل لمعالجتها.
غزا الهاتف الخليوي حياة الكبار كما الصّغار وها هي الأم كما الأب يتواصل كلٌّ منهما مع عائلته وأصحابه ورفاق العمل عبر الخليوي حتى ضمن المنزل أحياناً، فالأمّ مُجازة ولديها كفاءات كما الرجل، وبات الأولاد برفقة الخادمة لتأمين طلباتهم المنزلية وقد انحرف بعض الفتيان نحو المخدّرات الخطرة التي بات الحصول عليها بمنتهى السهولة رخيصة الثمن، وقد يقتنع الفتى بأنها الدّواء الشافي للصداع والمشاكل مع الرفاق أو الأهل، وغالباً ما يعلم الأهل متأخّرين بوصول أبنائهم إلى مرحلة الإدمان الصعب الذي يستوجب علاجاً أطول وميزانية أوفر ويؤثّر على شخصية الفتى ومستقبله الوظيفي وسمعة العائلة.
من هنا فعلى ألأهل أن يكونوا على مَقْرُبة من أولادهم ويفتشون عن الوقت المناسب للحوار معهم والوقوف على مشاكهم وإعطاء الحلول المناسبة لإنقاذ الفتى من الضّياع ومساعدته بكافّة الوسائل.
شاب مُدْمن للمخدرات أثناء نوبة صرَع قاسية: يصرُخ أعطوني المخدِّر!
إنّ أخطر الحلقات في عمليّة إنقاذ المُنحرف نحو المخدرات، هو استقالة الأهل من دورهم بمراقبة ثابتة لأولادهم وقولهم: فالج ما تعالج.
أمّا المدرسة والجامعة والمعهد حيث يمضي الفتى الوقت الطويل في مرحلة اكتساب المعارف العلميّة، فغالباً ما يهمّها الشقّ الأكاديمي فقط دون التطرّق إلى شخصيّة الفتى وإنّ نجاح الطالب في الشهادة وسمعة المدرسة أكاديميّاً تأتي بأولويّة قبل الشقّ التربوي، فقد تُنسى محاضرات التوعية والإرشاد للوقاية من المخدرات الخطرة والعنف والإقبال نحو الجريمة والابتعاد عن الانتحار الذي شهدنا منه الصيف الماضي حالات عديدة في الجبل لشبان في مقتبل العمر، بحيث اعتقدوا بأن الانتحار هو الحلّ الوحيد والأخير للتخلّص من مشكلة يعتبرُها المدمن تستهدف سمعة أهله وشخصيته.
لقد ألزمت الحكومة البريطانية في العام 2002 كافة المدارس ما قبل الجامعة إدخال برامج الوقاية من المخدِّرات وعدم اللجوء إلى العنف، وترِك ذلك للشرطة التوافقية بين المواطن والبوليس Policing by consent والمطبقة في بريطانيا منذ عقود كثيرة لمعالجة هكذا مواضيع. كما أنّ التنوع السياسي بين الطلّاب، وتعدّد الانتماءات يجعل الولاء للحزب والطائفة في مرحلة متقدّمة عن الولاء للوطن فيقوى الشّعور بالطائفيّة على حساب الشعور بالمواطنة Citizenship Feeling ويتسبّب بفجوات فكريّة بين الطلاب الذين هم في مقتبل العمر، وقد أحسنت وزارة التربية بإدخال مادة التربية المدنية بمناهج التعليم الثانوي، لكن مع ظهور جرائم الأنترنت والعنف لدى الناشئة، نقترح إدخال التّعديلات المناسبة مواكبة لتطور الجريمة، والأهمّ الوقاية من المخدّرات التي تتفشّى في لبنان عموما والجبل بالتحديد ونشهد انخفاضاً بمعدّل عمر المتعاطين وظاهرة إقبال الفتيات نحو المخدّرات بما لم نعهده من قبل.
أمّا دور الإعلام الذي انتقل من التلفزيون التقليدي والإذاعات الرّسميّة والخاصة إلى الهاتف الخليوي الذي يستخدم بأوجه متعددة: هاتف متحرّك، كاميرا، آلة تسجيل، فاكس يرسل التّسجيلات والفيديوهات والصور في وقت قصير، ويسمح للمشغّل بالدّخول إلى صفحات التواصل الاجتماعي بسهولة وفتح أقنية: YouTube التي لا رقابة عليها البتة سوى مشغّلها وحصانته الخلقية وإدراكه لحسن استخدام هذه الوسيلة. نعم لقد خرج المارد من القمقم ولا يمكن إعادته إليه. الحل هو بالتّوعية والإرشاد عبر برامج تنتهجها وزارة الإعلام وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي لنشر برامج التوعية وشرح مخاطر اللجوء إلى المخدّر الذي ينقل المستهلك في وقت قصير من حالة تزعجه وتجعله قلقاً إلى حالة بعيدة عن الواقع وغير محسوسة لفترة قصيرة لا يلبث أن يطلبها مجدّداً وبكميّات أكبر لتقودَه نحو الإدمان والجريمة.
إذا كانت رقابة الدولة محدودة مع فلتان الأنترنت الذي لا يحدّه حاجز، وانغماس الشباب باستخدامه للتّسلية وتبادل التسجيلات المضرّة أحياناً، وبعيداً عن رقابة الأهل والمدرسة، فإن التحذير والإرشاد والتوعية للشباب هو الطريق الأسلم للحدّ من انخراط بعض شبابنا بالمخدّرات القاتلة أحياناً.
هل تتمكّن سلطات الدولة من إقفال بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وإلزام مستخدم الخليوي بصفحات محددة؟ إنّ تعاون الدولة والأهل والمدرسة والمجتمع المدني قد يساهم في انقاذ من ينحرف نحو الممنوعات.
لدينا قانونٌ صدر العام 1998 برقم 673: قانون المخدرات والمؤثرات العقلية وهو قانون حضاري ينظر إلى مدمن المخدرات كمريض بحاجة للعناية والتركيز على ملاحقة شبكات التهريب وترويج المخدرات، وقد استحدثت لجنة الإدمان المشكّلة من:
قاض من الدرجة 11 على الأقل، رئيساً – ممثّل عن وزارة الصحّة، عضواً – ممثّل عن مديرية المخدرات، عضواً – ممثّل عن المجتمع الأهلي المدني، عضواً، من أجل معالجة حالات الإدمان دون توقيف المُدمن إذا وافق على متابعة مراحل التأهيل النفسي والخضوع لعملية الفطام عن المخدّر وحفاظاً على سجلِّه العدلي ليبقى نظيفاً يؤهّله تولّي الوظائف العامة. لكنّ هذه اللجنة لم تبصر النور لمعوقات عديدة علماً أنّ القانون الجديد لم يطبّق لحينه لعدم صدور المراسيم التطبيقية لجعلة قابلاً للعمل به، ونصَّ على إنشاء المجلس الأعلى لمكافحة المخدّرات برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضويّة وزراء العدل والداخلية والصحة والزراعة والمالية والتربية والخارجية والشؤون الاجتماعية لوضع استراتيجية وطنيّة لمكافحة المخدرات ومنع زراعتها واللجوء إلى الزراعات البديلة على أن تتولّى الدولة تسويقها لمنع المزارعين من العودة إلى زراعة المخدرات الخطرة والممنوعة، لكن هذا المجلس لم يبصر النور لحينه، حيث أولويات الحكومة مكافحة الإرهاب وترك الدفاع الاجتماعي عن الانسان وصحّته إلى وقت لاحق!!.
إنَّ الضرورة تقضي بسرعة تطبيق هذا القانون الجديد الحضاري مع إدخال بعض التعديلات إلى أحكامه لا سيّما بمواد تنظيمية.
تقوم الشّرطة القضائية بمكافحة الاتجار بالمخدّرات والتصدّي لشبكات التّهريب الدوليّة بالتنسيق مع الشرطة الدوليّة: الإنتربول Interpol ومجلس وزراء الداخلية العرب وجهاز الشرطة الأوربية Euro police، بإشراف النّيابة العامة المختصة، لكن غالباً ما يخضع القاضي لنداءات الأهل بتخلية سبيل أولادهم الذين يعدون بالإقلاع عن المخدّر، لكنهم يعاودونه وفقاً لطلب جسم المُدمن والذي لم يخضع للعلاج والشفاء التام ربما لعدم وجود مراكز تأهيلية مجّانية للدولة، ولا قدرة للأهل على دفع التكاليف العالية.. من هنا نرفع الصوت عالياً بضرورة تجهيز قسم في مستشفى الحريري الحكومي لمعالجة مدمني المخدّرات قبل الانتحار أو الوفاة نتيجة المخدرات القاتلة.

إنّ التحذير والتوجيه للشباب هو حفاظ على ثروة المستقبل، وتعاون المجتمع الأهلي الذي غالباً ما يسدّ الفجوات الناتجة عن قصور الدولة بتأمين متطلّبات الطبابة والتأهيل النفسي والفكري للمدمن والمتعاطي، مع الأهل المسؤولين الأُوَل عن صحّة ونتائج أولادهم وهم المرتبطون بهؤلاء الفتيان مدى الحياة، والمدرسة التي يجب أن تعير موضوع التوجيه والتحذير للطلاب للوقاية من شَرَك المخدرات، إذ قد يتمكن شاب واحد من دفع العديد من الفتيان نحو الرذيلة والانحراف الخلقي والانغماس بالمخدّرات التي تستهوي المراهقين للتعرّف إلى مفاعيلها. من هنا تأتي أهمية رقابة الناظر والمدرّس وإدارة المدرسة لتطوّر برامج الوقاية لحماية الشباب بالتنسيق مع الأهل.
وإذا كنّا لا نستطيع مراقبة أبنائنا أثناء استخدامهم للحاسوب والهاتف الخليوي الذي يمكّنهم التعرف إلى المعارف المفيدة والضارّة التي تؤثر في مستقبلهم، فإنّنا بالطبع قادرون على إخضاعهم للتوعية والتّحذير من هذه المخاطر ضماناً لمستقبل واعد، ومجتمع متماسك خلقيّاً واجتماعيّاً.
إنّنا على ثقة بأنّ أهلنا سيتابعون أوضاع أولادهم في المنزل والمدرسة والجامعة والمجتمع ولن يستقيلوا من دورهم رغم انشغالاتهم بالعمل والمجتمع ولن يتردّدوا بإعلام الشّرطة القضائية المكلّفة بالتّصدي لجرائم المخدرات زراعةً وتصنيعاً وترويجاً وتهريباً ثم تعاطياً.. كلّ ذلك من أجل سرعة التدخّل وتوقيف المروّجين الذين يستهدفون مستقبل أولادهم.
يبقى التحذير والإرشاد الطريق الأقصر للوقاية من شَرَك المخدّرات وقديماً قيل: درهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطارِ عِلاج..

المخدرات الرّقمية Digital Narcotics تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة.
المخدرات الرّقمية
Digital Narcotics
تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من الناحية الدينية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشباب بين
التخدير والتحذير

ش. سلمان عودة

ألْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينْ والصَّلَاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينْ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ الطَّاهِرينَ الطَّيّبِينَ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحسان اِلى يَوْمِ الدِّينِ.
قال تعالى في كتابه العزيز ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التّين، 4). فقد أعطت هذه الآيةُ الكريمة للإنسان وصفاً وقيمةً لم ينلها أحدٌ من المخلوقات، وهو ما يدلّ على رِفْعةِ منزلة الانسان عند الله تعالى حيث فضّله على سائر المخلوقات، وجعله في أحسن صورةٍ،
وأعطاه العقل والمعرفة، وجعل فيه من الإنعام ما لا يُحَدّ ولا يُحصى، وسخّرَ العالَمَين لخدمة هذا الإنسان: العالم العلويُّ الذي هو الأفلاك والمدبّرات، والعالم السُّفليُّ الذي هو الحيوان والجماد والنبات، وجعل غايةَ ذلك كلِّه عبادةَ الله سبحانه وتعالى وتوحيدَهُ، قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذّاريات 56). فمَنْ عرف نفسه حقَّ المعرفة لماذا خُلِقَتْ ووقف بها عند قَدْرِها لم يجعل لنفسه خياراً يُخْرجُه عن طاعة الله إلى معصيته، بل يسلك سبيل السّلامة، سبيل الفضائل والقيم الأخلاقيّة، ليصل بنفسه في الحياة الدُّنيا إلى برِّ الأمان، ويحصل في الآخرة على رضى الله الرّحيم الرّحمن.
قَدَرُنا أن نُولدَ في هذا الشّرق مَهْدِ الحضارة ومركز انطلاق الرسالات السماوية، وهذا يحمّلنا مسؤولية المحافظة على هذا التراث القيّم. فالحضارة هي بناء الإنسان، والحضارة حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية، (وإن بَدَت مُتَعدِّدة الأشكال) والمتحضّر ليس من ينحرفُ عن قِيمَه وثقافته ليقلّدَ ثقافة غيره، (ربمّا تكون ثقافة سيِّئة)، بل المتحضّر من يرتقي بنفسه إلى درجة الإنسانية. لكنّنا بتعدُّد انتماءاتنا ودياناتنا ومذاهبنا وأفكارنا وإنجازاتنا وعاداتنا وتقاليدنا إنَّما نملك ثقافات متعدّدة ضمن الحضارة الواحدة؛ حضارة الإنسانية والإنسان كي يرتقي إلى إنسانيته لا بدّ له من تحكيم عقله في أيِّ عملٍ يريد القيام به، (لأنّ الله تعالى اختصّه بالعقل دون سائر المخلوقات) ويجعل ميزان عمله الفضائل والأخلاق الجميلة، ويترفّع عن الغرائز التي غالباً ما تقوده إلى الهلاك. ونحن أبناء هذا الجبل الذي ترعرعنا في كنفه وورثنا ثقافته وأصالته عن أسلافنا الذين كانوا مدرسة (وأكثرهم) من لم يتعلّم في الجامعات ولم يعرف دراسة التخصّصات، فَهُم لم يدرسوا الأدب، لكنّهم علمّونا الأدب وفنّ الحياة والغَوْص في أدبيّاتها، فلم يقرأوا كتاباً في علم الاجتماع والعلاقات الاجتماعيّة لكنّهم علّمونا الصّدق وحسن المعاملة والاحترام وطيب المواساة والمؤآثرة، لم يدرسوا الدّين دراسة جامعية؛ لكنّهم علّمونا معنى الإيمان والتّقوى، لم يدرسوا التّخطيط لكنّهم علّمونا التبصّر في مُجريات الأمور وبُعْد النظر والتفكّر بحكمة، لم يدرسوا الحقوق كي يصبحوا كُتّاباً بالعدل؛ لكنّ كلمَتَهم كانت العهد والعقد الذي لا ينفكّ قبل تطبيقه. لكنّنا اليوم رغم اتّساع دائرة التعلّم في مجتمعنا، نرى كثيرين يحملون الشهادات (الليسانس والماجِستير والدكتوراه) لكنّهم يقفون بشهاداتهم عند حدود المادّة، ولم يتَعَدَّوْا في علومهم إلى الثّقافة والمعرفة والأصالة والقيم الأخلاقيّة التي سار عليها أسلافنا. وهناك أيضاً من لا يحمل شهادة ولا يملك ثقافة، وهذا ما يخلق عند البعض حالة من الفراغ قد تؤدّي بهم إلى الانحراف عن المسلك القويم، فيتركون ما تَربَّوْا عليه من الفضائل، ويتبعون ثقافاتٍ دخيلةً يعتقدون أنّها طريق الخلاص لِسَدّ فراغهم تحت شعار ما يسمى الحرية الشخصيّة، وتلعب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسّياسيّة في بلادنا دوراً سلبيّاً في حياتنا اليومية، وتساهم وسائل التواصل الاجتماعيّ في مُضيّ البعض في القفز نحو المجهول. فالتقاء تلك العناصر السلبيّة قد يؤدّي إلى الانحراف الأخلاقيّ، أو شرب الكحول، أو تعاطي المخدِّرات، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في حياته من الناحيتين الدينية والاجتماعيّة، حيث إن الدين يحرِّم ارتكاب الفواحش وكلَّ ما هو مُسْكر ومخدّر ومُذْهِبٌ للعقل والوعي سواء كان جزئيّاً أو كلّيّاً، ومرتكبها يذهب بملء إرادته نحو غضب الله تعالى وعقابِهِ في اليوم الآخر، إنْ لم يَتُبْ ويتغمّدْه الله برحمته. وممّا لا شكّ فيه أنّه يكون منبوذاً في المجتمعات المتمسّكة بقِيمها الأخلاقيّة، (وهنا يجب أن تكون المعالجة بالصّبر والرّضى والسّعي الدائم للإصلاح).
أيُّها الإخوة والأخوات، أيُّها الشّباب والشابّات، ثقافتُنا هي أصالتنا وهي هُوِّيَّتُنا، فلا يجوز أن نستبدلها بأبخس الأثمان، وحرّيتنا هي التزامٌ وليست انعتاقاً، فالحريَّة الحقيقيّة ليست في الخروج عن المألوف وعن الضّوابط، وهي ليست في قلّة الحياء وترك الاحتشام، وهي ليست في الذهاب نحو المُحَرّم شرعاً وقانوناً. بل هي أن يتحرّر الإنسان من عبوديّة نفسه، (ليست هناك في العالم دولةٌ أو مجتمعٌ أو قانونٌ يُجيز الحريّة المُطلقة، بل الجميعُ محكومٌ بمراعاة القوانين المرعيّة الإجراء. فلماذا نرتضي لأنفسنا تطبيق القوانين التي وضعها الإنسان، ونجاهر بمخالفة القوانين الإلهية الكونيّة التي وضعها لنا خالق الإنسان؟) فَلْنَتَّقِ اللهَ في كُلِّ ما نفعله، ونعلم يقيناً أنّنا لو تعلَّمنا وحملنا الشهادات، أو تبوّأنا المراكز، تبقى لا قيمة حقيقيّة لها إنْ لم تقترن بالقيم الأخلاقيّة والصّفات الحميدة، وهذا يبدأ بالتَّربية الصالحة لأولادنا في المنزل، وتوجيههم نحو طُرق الخير والفضائل منذ نعومة أظفارهم حتى شبابهم، وزجرهم ومحاسبتهم عندما تبدو عليهم إشارات الانحراف، ومتابعة مسيرتهم الحياتيّة اليوميّة حتى لو أصبحوا كباراً ودخلوا الجامعات حتى نصل بهم إلى برّ الأمان. فهم أولادنا وفلذات أكبادنا وأملنا في المستقبل ورعايتهم شرف لنا ولهم، عملاً بوصية لقمان الحكيم لولده (يا بنيّ: ادّب ولدك وهو صغير تفرح به وهو كبير).
أيُّها الإخوة والأخوات، إنّ النّفسَ الإنسانيّة لا يمكن أن تركن إلى فراغ، إلى لا شيء. فهي حيّة متحرّكة، فإمّا أن نشغلها بالعمل الصّالح ونوجّهها بعقولنا نحو الخيرات، وإمّا تشغلنا بأهوائها وشهواتها وترمي بنا في عالم المعصية والظُّلُمات. فإذا أردنا بناء مجتمع صالح فليكن همُّنا بناء العقول قبل بناء الأجسام، فبناء العقول يبني مجتمعاً صالحاً، والمجتمعات الصالحة هي التي تبني الأوطان. فبسلامة عقولنا يسلم معنا كلُّ شيء. وليكن حياؤنا من الله وخشيتنا منه، (مَن يستحيي من الله ويخشاه لا ينحرف إلى فعل المُحرّم) فخَشية الله هي رأس العلم، لأنّ من عرفَ الله عرف كلّ شيء، ومن خشي من الله خشي منه كلُّ شيء، (فَلْنَسْعَ لتحويل علمنا إلى معرفة، ونُتَرْجِم معرفتنا بصالح العمل، لأنّ قيمةَ العلم العمل به).
كان الإمام الصّوفيّ معروف الكَرْخيّ معروفاً بالخَشية، وكان الإمام أحمد بن حنبل (صاحب المذهب الحنبلي عند أهل السُّنَّة والجماعة) يعظّمُه ويُجِلُّه إذا حضر إلى مجلسه، وكان يذهب إليه ويسأله في بعض المسائل، ولم يكن معروفٌ الكرخيُّ مشهوراً بالعلم في طبقة أحمد وأمثاله، فأنكر عليه أحد أولاده وسأله قائلاً: يا أبتِ إنّي أراك تُعظِّم معروفاً ولم يكن علمه كعلم غيره، فهل مع معروفٍ شيءٌ من العلم؟ فأجابه أحمد: إنَّ مع معروف رأس العلم وهو خَشيةُ الله، وهل يُرادُ بالعلم إلّا ما وصل إليه معروف؟
ختاماً إذا أردنا المحافظة على كياننا ووجودنا فلنُحافظ على أخلاقنا كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي:
وإنَّما الأُمَمُ الأخْلاقُ ما بَقِيَتْ فَإنْ هُمُ ذَهبتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبوا

  [/su_spoiler]

[su_spoiler title=”بعض أنشطة لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في التصدي لظاهرة انتشار آفة المخدرات وتداعياتها” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مع التحذير الاجتماعي والديني والوطني المتزايد من الخطر الذي باتت تمثله آفة المخدرات على الشباب والناشئة عموماً، وبتوجيه من سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن، أقامت اللجنتان الدينية والاجتماعية في المجلس المذهبي عدداً من الندوات واللقاءات والأنشطة في مناطق مختلفة، حاضر فيه اختصاصيون في الموضوع، فشرحوا التداعيات المدمرة للإدمان على المخدرات، على أنواعها، والطرق النفسية والاجتماعية والتربوية والأهلية التي يجب أن تستخدم في الحد من تلك الظاهرة، وصولاً إلى التخلص النهائي منها، كما أقاموا علاقات شراكة مع مؤسسات ذات اختصاص.
بعض الندوات والأنشطة تلك كانت كما يلي:

ندوة عامة في قاعة الرسالة الاجتماعية في عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”
في 29/5/2017، أقامت اللجنة الدينية في المجلس ندوة عامة في قاعة الرسالة الاجتماعية في عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”، بحضور الشيخ هادي العريضي رئيس اللجنة وممثل سماحة شيخ العقل، وعدد من المسؤولين السياسيين والنقابيين والتربويين ومخاتير ورؤساء بلديات وأعضاء في مجالس بلدية، وجمع من المعنيين. تحدث في الندوة كل من:
الشيخ فاضل سليم، الدكتور وجدي الريس، الأستاذ أمين العريضي، وأخيراً العميد أنور يحيى، الرئيس السابق للشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي في لبنان. وبعد تناول شامل للموضوع من جوانبه كافة، انتهى المحاضرون إلى ضرورة تنسيق الجهود في محاصرة آفة المخدرات وصولاً إلى التخلص منها، وبخاصة على مستوى الشباب والناشئة.

ندوة عامة في بلدة ينطا/قضاء راشيا، بعنوان «القيم الأخلاقية وتحديات العصر»
أقامت اللجنة الدينية في المجلس ندوة عامة في بلدة ينطا/قضاء راشيا، بعنوان “القيم الأخلاقية وتحديات العصر”، بحضور رئيس اللجنة الدينة في المجلس، وأعضاء المجلس: الشيخ أسعد سرحال، الشيخ يوسف أبو ابراهيم، الأستاذ ابراهيم نصر، والأستاذ محمود خضر، وعدد من المسؤولين السياسيين وأعضاء المجالس البلدية والاختيارية ومديري المدارس ومدرسين وهيئات أخرى. تحدث في الندوة:
الدكتور جهاد الحكيم رئيس بلدية ينطا، الشيخ فاضل سليم، الشيخ د. سلطان القنطار وأجمع المحاضرون على ضرورة تنسيق العمل التربوي والاجتماعي والديني والثقافي بكل الوسائل للتذكير بالقيم المعروفية العربية الأصيلة، وإعادة ترسيخها في مجتمعنا.

ندوة في بلدة شارون/قضاء عاليه، تحت عنوان «الانتحار قدر أم قرار»
أقامت اللجنة الدينية في المجلس، بالتعاون مع جمعية “بلدتنا تستحق الوفاء”، ندوة في بلدة شارون/قضاء عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”. حضر الندوة جمع من رؤساء البلديات والمسؤولين السياسيين والتربويين، وتحدث في الندوة:
الأستاذ نبيه الأحمدية، ممثلاً جمعية “بلدتنا” الأستاذ ملحم البنّا، رئيس بلدية شارون، الأستاذ أمين العريضي،الشيخ سلطان القنطار، والعميد أنور يحيى، عضو المجلس المذهبي، وأدار الندوة الشيخ فاضل سليم

ندوة حول آفة المخدرات
في بلدة عرمون
شارك في الندوة، العميد المتقاعد أنور يحي، الشيخ سلمان عودة، وقدمها المحامي د. بسام المهتار، وكانت كلمة افتتاحية من الشيخ زياد بو غنام. تحدث المنتدون على خطورة آفة المخدرات، على كل المستويات، وخصوصاً على الشباب، وما يجلبه من آثار مدمّرة على حياتهم، والأسرة، والمجتمع.
تحدث المحامي د. بسام المهتار باسم بلدية عرمون، فأشار إلى دور البلديات في “معالجة الأسباب التي قد تؤدي بالشباب إلى الانحراف عبر تحسين شروط الحياة وتوفير سُبل العيش الكريم”. ولخص المحامي المهتار دور البلديات من خلال ثلاثة بنود: “صلاحيات البلدية القانونية في هذا المجال… ودور بلدية عرمون على أرض الواقع…وأخيراً خطة بلدية عرمون لتطوير دورها ذاتياً على هذا الصعيد”، ودعا إلى “تطبيق مبدأ اللامركزية الادارية لأن البلدية هي الأدرى بمشاكل المواطنين… والأقرب إلى معرفة تطلعات الناس.

بروتوكول تعاون
مع جمعية «سكون»
وقّعت اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بروتوكول تعاون مع جمعية “سكون”، بهدف تنفيد البرنامج الوقائي من خطر استخدام المخدرات تحت عنوان “معرفة أكثر، خطر أقل”. وقع البروتوكول عن المجلس رئيسة اللجنة الاجتماعية المحامية غادة جنبلاط، وعن جمعية “سكون” الآنسة سهى الحلبي، بحضور مقر اللجنة الاجتماعية الأستاذ أكرم العربي، ورئيس قسم التخطيط في المصلحة الإدارية والاجتماعية الدكتور رامي عطالله. ويتضمن البروتوكول أنشطة مشتركة عدة منها: إقامة دورات تدريبية لحفز وإتقان مهارات التعرف والتواصل التي يحتاجها العاملون على مكافحة آفة المخدرات، وذلك من خلال إقامة حلقات توعية وتدريب، تستهدف فئات عمرية ثلاث: فئة 18-22 سنة، وفئة الأمهات والسيدات الناشطات ولديهن أولاد في سن المراهقة، وفئة 12-15 سنة.

ندوة الجمعية الخيرية لإنماء التعليم الجامعي في قضاء عاليه، في قصر اليونسكو بيروت، برعاية وزير التربية الوطنية والتعليم العالي الأستاذ مروان حمادة.
نظّمت “الجمعية الخيرية لإنماء التعليم الجامعي في قضاء عاليه”، بتاريخ 7 آذار 2018، وفي إطار شهر محاربة المخدرات، ندوة بعنوان “مخاطر المخدّرات” في قصر الأونيسكو، برعاية وحضور وزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة، وحضور ممثل شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز نعيم حسن، الدكتور الشيخ سامي أبي المنى، ممثل وزير المهجرين طلال ارسلان الدكتور ياسر القنطار، ممثل تيمور بيك جنبلاط، محمد بصبوص، قائد الشرطة القضائية العميد أسامة عبد الملك والعقيد عادل مشموشي، ومؤسسي الجمعية د. محمد شيّا، السيد عبد المجيد غريزي، د. ناهدة السوقي، الآنسة سامية الريّس، والهيئة الإدارية الحالية برئاسة عصمت غريزي والأعضاء د. سليم حداد، د. ناهدة السوقي، ناجي شاذبك، شادي السوقي، نزار حيدر، سامية الريس، سميح شميط، وربيع شيّا. كما حضر حشد كبير من المعنيين وطلاب ثانويات ومدارس الجبل.

بعد النشيد الوطني، تحدث الدكتور سليم حداد، عصمت غريزي، والوزير الأستاذ مروان حمادة، حاضر بعد ذلك كل من:
الشيخ الدكتور سامي أبي المنى – الأب مروان ضو – الدكتور جوزف خوري – وأخيراً العقيد هنري منصور، رئيس مكتب مكافحة المخدرات المركزي في قوى الأمن الداخلي.
أجمع المحاضرون على خطورة ظاهرة المخدرات، وتوسع انتشارها، وكيفية التصدي لها، ومنع توسعها، وضرورة تكثيف الأنشطة تلك وتكاملها. وفي ختام الندوة وزعت دروع تكريمية للوزير مروان حماده والمحاضرين.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

هذا العدد

هذا العدد

لكلّ عددٍ من نكهته الخاصة المميِّزة. تسري القاعدة هذه على أعداد كافة، غير أنها تتحقق بالتمام والكمال في هذا العدد بالذات (العدد 23 من ). فغنى الموضوعات فيه تجعله بحق عدداً غير مسبوق من نواح عدّة. في وسع نصف مواد العدد هذا تشكيل مادة مكتملة لأية مطبوعة ثقافية دورية. لكننا رغبنا، ومن باب معرفتنا أن فصلية، أن يعيش القارئ مع مجلّته أطول زمن ممكن. وعليه، احتوى هذا العدد من المقالات ما يمكن تصنيفها في الطبقة الأولى: الأخلاق التوحيدية في تراث الأمير السيّد عبد الله التنوخي (قدس)، إلى التراثي المعروفي الأصيل، من رشيد طليع الذي كتب “سجّل…أنا رشيد طليع”، إلى سيرَتي مجاهدين نادرين ترفع لهما القبعات احتراماً (سعيد أبو الحسن وعبّاس نصر الله). وإلى ذلك، مقالتان أخريان: الأولى في النفس عند أفلاطون، والثانية حول موضوع بالغ الأهمية وتفسحُ المجال للإسهام فيه (ومن باب أخلاقي وإنساني صرف) وهو “الاستخدام الجاري للأطفال في الأعمال القتالية”، والتداعيات الاجتماعية المدمّرة لذلك، ناهيك بالانتهاك الصارخ للقوانين الدولية، إلى مقالة أخيرة حول “متعة القراءة” التي تكاد تختفي.
هذا في المقالات، أمّا “ملف العدد”، في العدد 23، فهو تحت عنوان “المخدرات …. آفة العصر: كيف نحصّن شبابنا حيالها؟” سيضع الملفُ القارئ بصراحة، وقسوة، أمام حقائق صادمة لا ينفع في شيء التعامي عنها، وموجزها: الانتشار النسبي لظاهرة الإقبال على المخدرات، بدرجاتها وأنواعها المختلفة. يبدأ الملف بتعريف علمي وتقني من أرفع مرجعية علمية ممكنة، إلى إسهام من تولَّوْا، ويَتَوَلَّوْن الآن، مواجهة الظاهرة ذاك، من أرفع المسؤولين في الأجهزة الرسمية، إلى الجهود الكبرى التي تبذلها اللجان المعنية في المجلس المذهبي لطائفية الموحدين الدروز، وجهات شبيهة أخرى.
وفي جانب التحقيقات المصوّرة، يقدّم العدد ثلاثة تحقيقات تستحق المتابعة في أعداد لاحقة لأهميتها: عن المكتبة الوطنية في بلدة بعقلين التي باتت صرحاً ثقافياً رفيعاً يغني الطالب أو الباحث في منطقة الجبل عن ارتياد أي مكان مشابه آخر، وثان عن بلدة “عَنز” في محافظة السويداء، سوريا، حيث يقدّم العمران الديني والحضري المتبقي منها شهادة على ماض غني جداً، والثالث، من بلدة “صوفر” على مفترق طرق مواصلات جبل لبنان ما جعلها مكاناً التقت فيه الجغرافيا الصعبة مع صفحات نابضة من التاريخ.
في وسعنا التنويه، أخيراً، بباب “مدارات الإبداع” الذي يميط اللثام هذه المرّة عن عبقرية معروفية “بيروتية”، هي الفنّانة التشكيلية الذائعة الصيت سلوى روضة شقير، التي نالت الكثير من الجوائز في النصف الثاني من القرن الماضي. وكلّ التقدير، باستمرار، لقارئ .

والله، دائماً، وليّ التوفيق.

الصفحة الاخيرة

الضحى

قبل خمسين عاماً

النَّحَّاتَةُ والرَّسَّامَةُ سلوى روضة شقير

النَّحَّاتَةُ والرَّسَّامَةُ
سلوى روضة شقير

فنّانَة ونحّاتَة كبيرة ورسامة بارعة شقت طريقها بيديها بواقعية جميلة، واستطاعت أن تستكشف عوالم تحولات كثيرة ومعاني كونية وذاتية ومجتمعية كنتيجة لرؤيتها الشمولية الجامعة لإنجازات ومخططات معمارية ومنحوتات تفوق الوصف، نوافير وبرك مياه، وأدوات منزلية، وحلى وشغفاً فكرياً.
قَرأتْ الشعر العربي وعلم الأحياء والبصريات وربط بعض الفنانين العرب والأجانب أعمالها بمدارس فنية حديثة انطلقت من باريس وبيروت وبغداد والقاهرة، في الخمسينيات إلى الثمانينيات من هذا القرن مثل “التجريبية” و”الحداثية” و”الهندسية” و”التشكيلية الجديدة” و”العربية – الإسلامية”. واستطاعت أن تبلغ الذروة والشهرة الواسعة بأسلوبها وطريقتها وتعاطيها مع الفن والنحت الأصيلين، وفي عرضها واتساع تجربتها ومعرفتها إلى نضوج فكري وتحولات عالية أثَّرت فينا وحفزتنا نحو رؤية جديدة ذاتية متطورة يعرب عن هدفها الأكبر في أعمال عامة اعتيادية في لبنان والعالم العربي والمدارس الفنية المختلفة في أمريكا وفرنسا وإنكلترا وغيرها من الدول الراقية والمتحضرة.

هذه الفنانة والنحاتة الشفافة اسمها سلوى روضة شقير من بلدة أرصون في أعالي المتن.

ففي مقال طويل كتبته في سنة 1952، وموضوعه الجمال، شرحت فيه أن المعنى الفني ملازم لإطاره الاجتماعي والبيئوي والسياسي والاقتصادي. في مسيرتها الفنية، درست سلوى روضة شقير النحت في الجامعة اللبنانية من سنة (1977 إلى سنة 1984)، وفي الجامعة الأمريكية وفي كلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية الأميركية) وفي غيرها من المدارس الفنية.

وفي صورة أكثر جرأة (صرحت الفنانة شقير قبل وفاتها بعدة سنوات)، بأنَّ الحضارة العربية – الإسلامية تتفق بشكلٍ أفضل مع احتياجات عالمية معاصرة. وفي ردٍّ هجومي على موسى سليمان في سنة 1951 قالت: “إنَّ التقاليد المعروفة لعلماء الصوفية، والتقليد السردي للأدب العربي ما قبل الإسلامي، أثبت أن العرب طوّروا فهماً فريداً للوجود، يتجاوز الخضوع، المقبول عموماً، للقيود الزمانية والمكانية، وهو فهم شهدت به فيزياء الكم والابتكارات العالمية الحديثة، مثل الطائرات الأسرع من الصوت، والعلاج الجيني، وزرع الأعضاء،

من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها

والأسفار الفضائية، كما تؤكد على هذا في كتاباتها في دمج القومية العربية مع النزعة التنموية الحداثية وأفكار النسبية الثقافية من “الترف” الفني السائد في أوساط نساء الطبقة المقاولة في لبنان المستقل، نحو ذروة الفن المحترف والكوني.

وفي جلسة ممتعة مع ابنتها “هلا” الرسامة في باريس ونيويورك في منزل الفنانة والنحاتة المرحومة سلوى روضة شقير، الكائن في محلة كليمنصو، كان لنا جلسة معها، سألناها ماذا تعرف عن الفنانة الراحلة والدتها من أمور لم تذكرها الجرائد والمجلات اللبنانية، إذ قالت لنا، أولاً:
– من الصعب أن أذكر شيئاً الآن عن والدتي. ثمَّ عادت فقالت بعد تردُّد:
– بإمكاني أن أذكر لك ما يلي عنها، قالت:
“… أكثر ما أذكره في طفولتي الساعات الطويلة، التي كانت أمي تمضيها في محترفها في الطبقة العلوية من منزلنا. كانت يداها مغطاتين دائماً بالطين – العنصر الأساسي للكثير من أعمالها الفنية، أتذكرها وهي تطوف بسيارتها الصغيرة القديمة في جميع أنحاء المدينة، باحثةً عن أفضل القطع الخشبية أو الحجرية أو تحقيق فكرة تلو الأخرى. والواقع أني لا أتذكرها كرسامة، إذ كانت منصرفة إلى الرسم خلال فترة سبقت ولادتي. لذلك كثيراً ما كانت ملفات رسومها تخبئ لي مفاجآت وأنا أخرج منها اللوحة تلو الأخرى.
فَقَدتْ أمي والدها قبل أن تكمل السنة الأولى من العمر، وعملت جدتي بكل عزم على توفير أفضل ثقافة ممكنة لأولادها الثلاثة. وكانت العائلة تَتَنَذَّرُ بالادّعاء أن جدَّتي كانت تفضّل ابنتها البكر لأنوثتها على تلك الصغرى، أي والدتي، التي كانت كثيرة الشيطنة.
تبيَّن لاحقاً، أنَّ والدتي كانت قوية العزيمة مليئة بالإيمان الراسخ والنشاط اللامتناهي. كانت في الأربعينات من العمر لدى ولادتي، الأمر النادر بالنسبة إلى نساء جيلها. رغم ذلك كانت تشعُّ حيويّةً ونشاطاً. لقد صنعت بيديها الكثير من أمتعتي الخاصة، مثل الألعاب والمجوهرات والأحزمة وحقائب اليد، حتى فرش غرفة نومي. وقمنا معاً باستكشاف تراث مختلف المناطق اللبنانية، حيث كانت تقرع على أبواب الغرباء للتمعُّن في هندسة الدُّور القديمة. وكنّا نلقى الترحيب دائماً، سواء في خيام البدو أم في قصور الأغنياء. وأحياناً كانت تأخذني مع ثلة من أقراني إلى مزرعة شقيقتها في سهل البقاع لقضاء أيامٍ صيفية رائعة. السنوات التي أمضيتها في عالم والدتي كانت مفعمة بالمتعة والمغامرات المتواصلة.
والدتي، بَنَتْ نفسها بنفسها، على أسس نظرية التي بنت عليها فنَّها.

من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها
من لوحاتها

الحافز الأساسي لفنها كان إيمانها المطلق بالميزات الحديثة التي تمتَّع بها الفن العربي. ورغم رسوخها الأصلي في ثقافتها وتاريخها وعلمها ومعرفتها كانت معجبة بخصائص القرن العشرين.
تحسّست تحسّساً كاملاً بانسجام كامل بين التراث وعصرنا الحديث، وحينما كانت تنتقد لكونها مفرطة في الحداثة كانت تقول:
– أنا مثل الإسفنجة. أتقبَّل كل الأفكار الجديدة.
كانت العلوم والفنون مجالها المفضَّل، إذ كانت تقرأ بشغف جميع كتب الفيزياء التي تقع في متناول يدها، وتستمد الإلهام الفني من التطورات العلمية ومن الأمور التي تلمسها باليد.
شكَّل تنظيم أعمال والدتي بتسلسل تاريخي دقيق فيه الكثير من التحدي. إذ نادراً ما كانت تؤرخ أو توقِّع تلك الأعمال. ومن أسباب ذلك أنّها لم تُردْ لرسومها أن تعلق على حائط، بل أن تكون جزءاً أساسياً من ذلك الحائط أو من قعر بركة أو مدخل قاعة. كذلك أرادت لمنحوتاتها أن تكون جزءاً من مبنىً أو أن يجري تكبيرها في وقتٍ لاحقٍ كي تحتلَّ الساحات العامة.
أنا أدرك أنّ والدتي لم تحقق جميع أحلامها. لكن لا شك أنها أنتجت تراثاً فنياً كاملاً وغنياً. كانت بارعة بل مذهلة في أعمالها الفنية. والآن، في مستهل القرن الحادي والعشرين، بعد أن رحلت والدتي وفُجعت بها. أقف وألتفت ورائي إلى أعمالها ورسومها ومنحوتاتها. وقد ربطتني بأمي علاقة الأخوة.
أنا معجبة بأعمالها وقدرتها على المحافظة التامة بتراثها الغني هذا رحمها الله”.
هذه هي الرسامة والنحاتة السيدة المرحومة سلوى روضة شقير في فنها، وقد طبَّقت شهرتها الآفاق، واتسعت دائرة خبراتها ومعارفها وعلومها. هي من روّاد الفن التجريدي في العالم العربي. عُرفت بمواقفها المشرفة المبنية على قناعة مطلقة بالأسس الحسابية للفن الإسلامي رافضةَ في بداياتها نقل الواقع والمحسوس كما هو مستغنية عن كل مرجعية أيقونية أو رمزية.

اشْتُهرت بمنحوتاتها المركبة من قطع عدة تتفكك أو تتركب حتى اللانهاية. مثلما تتفكك أو تتركب أبيات القصيدة العربية، كما دافعت طول حياتها عن خصوصية فنية في عماد الشكل، كما الشعر عماده الكلمة.

الطريق بالنسبة إليها هي التجربة الصوفية والشكل النهائي، كما فهمته الفنانة ذات الوقع العلمي. هو شكل تجريدي لا يوصف بالخطوط والمساحات والألوان، بل إنَّه مجموعة المعادلات القائمة بين عناصر العمل وبين العمل ومحيطه.
بقيت أفكارها وإلى فترة طويلة من الزمن غير مفهومة سوى لحلقات صغيرة من متذوقيها، ابتدأت بمحترف الفن التجريدي في باريس، ثم أخذت تتسع لتشمل محبي الفن من جميع الأجيال والجنسيات.

في كتابها الذي أصدرته في سنة 2002 بحلَّة قشيبة وإخراج ممتاز، نحو مائتين وخمسين صورة ملونة من أعمالها، بالإضافة إلى نصوص تحليلية من شأنها أن تلقي الضوء على فلسفتها وتجربتها وأعمالها الفنية.

وأخيراً: ولدت الفنانة الظاهرة سلوى روضة شقير في بيروت في سنة 1916. وتعلمت الفن الأصيل على يديّ الدويهي ومصطفى فروخ وعمر أنسي ورشيد وهبي وغيرهم…
ورحلت عن هذه الدنيا تاركةً وراءها فنها ورسومها ولوحاتها وأغراضها في رحلةٍ أبدية، أقعدتها الشيخوخة في فراشها وأسلمت الروح نهار السبت 27 كانون الثاني سنة 2017.

نَجْوى الغُروب

نَجْوى الغُروب

طفلك أنا يا ربّي.
وهذه الأرضُ البديعة، الكريمة، الحنون
التي وضعتني في حضنها
ليست سوى المهد
أدرجُ منه إليك.
إلاّ أنه ليس مهدي وحدي
بل تشاركني فيه
ربوات وربوات من مخلوقاتك.
بعضُها على صورتي ومثالي،
وهو القليل القليل،
وبعضها يختلف عني صورةً ومثالاً،
وهو الكثير الكثير.
وهذا القليل القليل،
وهذا الكثير الكثير، كلّهم دون استثناءٍ
يمتصّ رحيق الوجود
من ثديٍ واحد
هو ثديُ الحياة – حياتك.
فكأنهم العنقودُ في الكرمة
مهما تكاثرت حبّاتُه
وتفاوتت لوناً وحجماً وطعماً،
تبقى لكل حبّة عنقٌ تصلها بالعنقود
وبها تمتصّ عصير البقاء.
وتبقى للعنقود عنقُه التي تصلهُ بالكرمة،
والتي بها يمتصُّ الحياة
ويوزّعها على حبّاته وحُبيباته.
وتبقى للكرمة جذورُها
التي بها تنهلُ إكسير الحياة
من التراب والبحر والشمس والهواء
وكلّ منظورٍ وغير منظور في الفضاء.
وهذه الشراكة في الرضاعة
كانت وحدها قمينة
بأن تجعلَ من مخلوقاتك جميعها
أسرةً تسدُّها بعضها إلى بعض،
وتشدُّها إليك،
أواصرُ محبة لا يقوى الزمان،
ولا الموت،
على فصمها.
ولكن….
على من أعتب من مخلوقاتك
إذا هو تنكّر لأخوّةِ الثدي،
وبالتالي للمحبة؟
أأعتبُ على الذئبِ لا يؤاخي الحمَل؟
أم على الصقرِ ينسى أنه والعصفورُ
أخَوَان في الرضاعة؟
أما على الهرّ يفتكُ بالفأر
وكلاهما ياكلُ من معجنٍ واحد؟
لا. لا أعتبُ على أي مخلوقٍ دون الإنسان.
وأعتبُ على الإنسان.
فهو وحدَهُ بين سائر مخلوقاتك على الأرض
مؤهّلٌ لأن يقيم وزناً لأخوّة الثدي،
وأن يعرفَ أي قوةٍ خارقة
هي المحبة النابعة من تلك الأخوّة،
وأن يؤمنَ بحتمية تلك المحبة،
فيجعلها الأساس الذي تقومُ عليه علاقاته
مع إخوانه الناس
ومع باقي شركائه في بركات الأرضِ والسماء.
وحدَه الإنسان بستطيعُ أن يوسّع ذاته
إلى أن تشملَ كل ذات.
فيباركُ لاعنيه،
ويعطفُ على مبغضيه،
ويشفقُ على حاسديه،
ويطعمُ عدوّه إذا جاع،
وينفذُ حياته إذا تعرّض للخطر.
لأن هؤلاء جميعهم
هم منهُ وفيه.
بهم يحيا،
وبه يحيون.
وحده الإنسان يستطيعُ أن يدرك
عظمة المحبة وجبروتها،*
فهي إن لم تكن في بؤبؤ العين
كان كلّ ما تبصرهُ العين ضباباً في ضباب.
وهي إن لم تكن في طبلة الإذن
كان كلّ ما تسمعهُ الأذن نشازاً في نشاز.
وهي ما لم تدفع اللسان على الكلام
كان كلّ ما يقولُه اللسان هذياناً في هذيان.
وهي ما لم تحرّك أصابعَ اليد
فلا قيمة لكلّ ما تعملُه
ولكلّ ما تعطيه أو تأخذهُ اليد.
وهي ما لم تكن في حبّة القلب
كان كلّ ما يحبّه القلب
سراباً في سراب.
كم كنتُ أتمنى، يا ربّي، –
ورسولُكَ بات على قيد باعٍ مني، –
لو كان لي أن استقبله
وليس في بؤبؤ عيني،
أو في طبلة أذني،
أو في لساني،
أو في أناملي،
أو في حبّة قلبي
إلاّ المحبة!
لبته كان في مستطاعي
أن أمحو من ذاكرتي
كلّ صورة،
كلّ فكرة،
كلّ نية،
كلّ شهوة،
كلّ لذة،
كلّ شكوى،
كان فيها شيءٌ من التجديف على المحبة!
ليته كان في مستطاعي أن أفعل ذلك
حتى إذا جاء رسولُك
ليقطعَ الأمراسَ التي تشدّني إلى الأرض
فتحتُ له صدري،
ومددتُ إليه يدي،
ومعاً قطعنا الأمراس.
على أنني، وإن جدّفت على المحبة
في ما عبرَ من أيامي،
ففي نفسي اليوم
إيمانٌ عميقٌ جداً –
إيمانٌ لا يتزعزع –
بأن المحبة وحدها هي المفتاح
لكلّ ما علّي من أسراري
وأسرار الكون.
وهي وحدها الدواءُ الشافي
لكلّ ضروبِ القلقِ والحيرة والتمزّق
والخوف من سوء المصير.”
(يتبع جزء ثان)

المكتبةُ الوطنيّة

المكتبةُ الوطنيّة
من أغنى الصروح الثقافية في لبنان والعالم العربي وتضم 140 ألف كتاب و280 ألف مطبوعة دورية

مدير المكتبة الوطنيّة غازي صعب لـ :
طموحي أن نرتقي بالمكتبة الوطنيّة الى مصافّ كبرى المكتبات في العالم.

لدينا مشاريع كثيرة بحاجة الى أريحيّة أصحاب الأيادي الخيّرة لتنفيذها.

تمثال الأمير فخر الدّين المعني شكَّل هاجساً لدى النائب جنبلاط حتى أعيد تركيبه في الباحة الخارجية

قد تكون المكتبةُ الوطنيّةُ في بعقلين من أهمّ الإنجازات التي تحقّقت في منطقة الجبل، ويعود الفضل في تأسيسها إلى رئيس اللّقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط الذي أصرّ على الرّغم من كلّ الاعتراضات التي واجهته أن يحوّل هذا المكان الذي كان محكمة وسجناً إلى مكتبة، متجاوزاً المثل القائل (من يفتحْ مدرسة يقفلْ سجناً) إلى القول: من يفتح مكتبة يقفلْ كلّ السجون ويفتحْ أبواب العلم والثّقافة أمام روّاد العلم والمعرفة لتكونَ في مُتناوَل الجميع دون عناء. تلك هي رسالة المكتبة الوطنيّة، شاءها راعي الثقافة في الجبل الأستاذ وليد جنبلاط منارة في قلب هذا الجبل الذي أعاد إليه عزّه وعنفوانه فسما به إلى العلى مَجداً خالداً لا ينحني ولا يلين.

تلك هي المكتبة الوطنيّة في بعقلين؛ فيا أيها الساعون إليها من أيّ مكان أتيتم لتنهلوا العلم من معينه مهلاً إنْ أضعتم البوصلة في الاهتداء إليها، فذا تمثال الأمير فخر الدّين المعني الثاني الكبير؛ المنتصب في باحتها الخارجيّة، بما يرمز من شموخ وكبر، يحفظ لكم في بطانة عباءته عشرات آلاف الكتب القيّمة والمطبوعات النادرة تغرفون من بحورها ما تشاؤون.
تشغل المكتبة الوطنية في بعقلين اليوم مبنىً أثريّاً مميّزاً يعود بناؤه إلى سنة 1897م أيام المتصرفيّة، وكان يُعْرَف بِسَراي بعقلين حيث يضمّ محكمة بدائية ومخفراً للدّرك وسجناً.

تم افتتاح المكتبة الوطنيّة في 13 آذار 1987 بعد ترميم المبنى وتأهيله من الداخل والخارج وتجهيزه بكلّ المستلزمات الخاصّة بالمكتبات العامة بمبادرة من معالي الأستاذ وليد جنبلاط. وفي العام 1996 تبنّى مجلس الوزراء في قراره رقم40 بتاريخ 6/3/1996 هذا الصّرح الثقافيّ المجتمعي. ثم تعاقدت وزارة الثّقافة مع الموظفين العاملين فيها بناء على القرار رقم 44 تاريخ 6/10/ 1996 وهي تضمّ مجموعة أقسام: الإدارة – الفهرسة والتصنيف – الخدمات القرائية والمرجعية – التوثيق والأرشيف – التزويد والاقتناء – الكمبيوتر ــ مكتبة الأطفال – اللغة الإنكليزية – قاعة النّشاطات والنّدوات – مسرح وصالات احتفالات مركزيّة هي اليوم قيد التنفيذ.

وفي هذا الحوار مع مديرها الأستاذ غازي صعب إضاءة مشرقة على ما تحقق من إنجازات وفيما يلي نَص الحوار:
منذ مدة والعمل في المكتبة الوطنيّة لم يتوقّف، فما هي أبرز المشاريع التي نُفِّذَت والمنويّ تنفيذها؟
من الواضح أنّ المكتبة الوطنيّة كانت في السنوات الماضية تقتصر على السّراي القديم، ولقد أصبحت اليوم تضيق بالنّشاطات التي تستضيفها بشكل دائم. وبطلب من رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط تقرر توسعتها وإنجاز الأقسام الباقية مع شرط المحافظة على طابعها العمراني القديم. ومنذ ثلاث سنوات تمّ افتتاح قاعة المحاضرات في المبنى الجديد، وهي تتّسع لنحو 250 شخصاً، وفي المبنى نفسه يوجد المركز المخصّص للأرشيف، ويضم نحو 280 ألف مطبوعة دوريّة من بينها مجلّات وصحف ونشرات متعدّدة. وبعد أشهر قليلة سيتمّ افتتاح مسرح المكتبة الوطنيّة الذي يتّسع لنحو 450 شخصاً وفق أحدث نظم المسارح العالميّة، ويضمّ أيضاً عدّة قاعات قد تُستخدَم للمعارض وصالات للسينما.

من هي الجهة المُموِّلَة لهذه المشاريع الضّخمة؟
مصدر التمويل هو وزارة الأشغال العامّة والنقل، أمّا توقيع الاعتماد فقد تمّ في أيام الوزير غازي العريضي مروراً بوزارة الثقافة وديوان المحاسبة، وقد تطلب الأمر مني متابعة شخصية حتى أصبح قيد التنفيذ.
هل هناك من مشاريع مُلحِّة يجري تنفيذها؟
بعد أن ضاقت الأمكنة بالكتب المُنتقاة، نعمل حاليّاً على تحويل القاعة في الطابق السُّفلي الى مكتبة وتجهيزها لتستوعب الكتب والمراجع الجديدة، وهي بغالبيتها مُهداة للمكتبة من النائب وليد جنبلاط، وهو مشروع كبير تتولّى وزارة الثقافة تنسيقه وتمويله، كما بدأنا بتطوير برنامج مكننة المكتبة وتحويله إلى برنامج حديث يمكّنها من تقوية موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت. وفي العام 2002 كنّا من أوائل المكتبات اللّبنانية والعربيّة التي سهّلت لروادها البحث عن مصادر المعلومات من خلال موقعها الإلكتروني www.baakeenlibrary.com وهذا الموقع نال المرتبة الأولى من حيث المضمون والمحتوى وقد تمت المقارنة بين موقعنا الإلكتروني والعديد من المواقع المشاركة بشكل دقيق.

مدخل المكتبة الوطنية
مدخل المكتبة الوطنية

ما هي البرامج والأفكار التي أطلقتَها لتحديث المكتبة؟
من أهم البرامج التي اشتغلنا عليها لتحديث المكتبة وتطويرها، برنامج الإعارة الخارجيّة الذي باشرنا العمل عليه منذ ثلاث سنوات بعدما أتَحْنا فرصة الإعارة الخارجية المجانية للجميع على مستوى لبنان، ولقد بلغ معدّل الإعارة سنويّاً عشرة آلاف كتاب، وهذا رقم قياسي إنْ في لبنان أو في بعض الدّول العربيّة. والجدير ذكره في هذا الموضوع أننا خطّطنا لتشجيع المطالعة للفئات العمرية كافّة، وكنّا نستهدف بشكل خاص الأطفال والناشئة وجيل الشباب، وأعتقد أننا حقّقنا هدفنا إذ بلغ عدد المستعيرين 65 بالمئة من روّاد المكتبة. ومن المفيد ذكره أنّ هناك الكثير من طلّاب الدراسات الجامعيّة والجامعيّة العليا يزورون المكتبة لمتابعة دراساتهم وأبحاثهم من مختلف المناطق اللبنانية، وهذا أمر نعتزّ به ونفتخر لأنّنا استطعنا أن ننشرَ المعرفة بين أبناء الوطن بكل فئاته.

هل لك أن تذكر لنا أبرز المعوقات التي اعترضت قيام هذه المكتبة؟
المعوقات كانت كثيرة في بداية الأمر ولكنها ذُلِّلَت. والقِصّة بدأت في العام 1985 عندما حاولت الدّولة استرجاعها والإبقاء عليها كسجن. لكن أهالي بعقلين رفضوا ذلك وطلبوا من النائب جنبلاط المحافظة على طابعها الجديد وتحويلها إلى مكتبة فكان لهم ما أرادوا، وقد اعتصمت الهيئات الثقافية اللبنانية في المكتبة دعماً لاستمرارها. في العام 1986 قام النائب جنبلاط بترميمها وأمر بإزالة الزنازين والقضبان الحديديّة التي كانت تحيط بها ومحو معالم السّجن عنها، وحوّلها إلى مكتبة وطنيّة وقدّمها إلى الدولة اللبنانية التي انتظرت عشر سنوات حتى اتّخذت قراراً بضمّها إلى وزارة الثّقافة بقرار من مجلس الوزراء في العام 1996، ثمّ جرى التعاقد مع الموظّفين المختصّين في السّنوات اللاحقة.

من يُموّل النشاطات التي تُقام في المكتبة الوطنية؟
لدينا معاناة كبيرة بالنسبة لتمويل الأنشطة والأعمال المطلوب تطويرها، فوزارة الثقافة تؤمن رواتب الموظّفين، وتقدّم القليل من المصاريف والنّفقات الضّرورية، كأعمال الصيانة وتأمين المحروقات لجهاز التدفئة، والقرطاسية، ولكي نؤمّن الموازنة التي تحتاجها المكتبة نقيم كلَّ سنة عشاء سنوياً ندعو إليه بعض الشخصيّات البارزة لتقديم الدّعم للمكتبة. كما أن جمعيّة أصدقاء المكتبة تضمُّ عدداً من المتطوّعين من الشخصيّات الفاعلة في المجتمع وتبذل جهدها لمساعدة إدارة المكتبة.

قاعة المحاضرات والمعارض
قاعة المحاضرات والمعارض

لملاحظ أنّ تمثال الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير عاد لينتصب من جديد في باحة المكتبة، فماذا أضاف هذا الرّمز التاريخيّ على المكتبة الوطنية؟
منذ أن أزاح الرّئيس الراحل سليمان فرنجية الستار عن تمثال الأمير فخر الدين ممتطياً ظهر حصانه في هذا المكان. كان لهذا التمثال حكاية طويلة، ففي الحرب الأهلية أصيب التمثال بقذيفة من العيار الثقيل أدّت الى تحطّمه آنذاك، وقد شكّلت إعادته إلى هذه الساحة هاجساً بالنسبة لوليد بك، حتى أنّه أوعز بتحضير تمثال بدلاً منه، وهذا ما حصل، وقد أشرف الفنان عساف عساف وأخواه على تصميمه، وعند الانتهاء منه أصرَّ النائب جنبلاط على وضعه في باحة المكتبة مع الإبقاء على اللوحة الرخاميّة نفسها التي كتب عليها (تمّ وضع هذا التمثال في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة) مع الإشارة إلى أنّ معظم المكتبات في العالم تزدان بمنحوتات وتماثيل لقادتها وزعمائها وأدبائها وعباقرتها. ولقد أضفى هذا التمثال على باحة المكتبة جماليّة خاصة ومميزة.

ما أهميّة وجود مكتبة وطنيّة بهذا الحجم في قلب الجبل؟
لا تقتصر أهمية المكتبة على منطقة الجبل فقط، وإنّما على لبنان كلِّه، فقد استطعنا من خلال التواصل الدائم مع وليد بك ووزارة الثقافة لاحقاً، أن نجعل منها مكتبة لكلّ لبنان لما تقدمه من خدمات تقليديّة وعينيّة ومرجعيّة؛ ولما نقيمه من أنشطة ثقافيّة وتربويّة يشارك فيها معظم الأدباء والشعراء والمبدعين من كلّ لبنان.

متى يتدخَّل النائب جنبلاط في شؤون المكتبة؟
أجزم أنّ مؤسس المكتبة وليد جنبلاط، لا يتدخّل في أيِّ شأن من شؤون المكتبة منذ أن أصبحت تابعة لوزارة الثقافة، وأذكر بالمناسبة أنّه مرّة أرسل لنا كتاباً بالّلغة الإنكليزية لنضعه في المكتبة، وبعد فترة سألني إذا تم تسجيل الكتاب في أرشيف المكتبة فأجبته بنعم، فردّ سائلاً ما إذا كان يستطيع استعارته لمدّة أسبوعين فقط فأجبته بالتأكيد، ولكنّه قبل انقضاء المدّة اتّصل وأبلغني عدم الانتهاء من قراءته فأعطيناه فرصة أسبوعين آخرين غير أنّه أعاده إلى المكتبة بعد أسبوع، وهو كما أشرت يَهَبُ المكتبة كلَّ ما يَصِل إليه من كتب ودراسات.

من هي أبرز الشّخصيات التي قمتم بتكريمها؟
كثيرة هي الشخصيات التي جرى تكريمها في المكتبة الوطنية منها: مئوية الشاعر الكبير سعيد عقل، والشاعر الكويتي عبد العزيز البابطين، ومن أبرز الأنشطة التي أتذكّرها، زيارة العديد من السفراء العرب والأجانب، المعتمدين في لبنان الذين تعاونّا معهم في العديد من الأنشطة المشتركة وأخص بالذكر إمارة الشارقة تحديداً، وزيارات العديد من الوفود العربية والأجنبية التي تشارك في المؤتمرات التي تعقد في لبنان، ومن الزوار المهمين مدير المكتبة الوطنية في طهران، وأصدقاء المكتبات العربية المشاركة في مؤتمر جمعيات المكتبات العربية، والعديد من الباحثين من دول أوروبا والشّرق الأوسط. وبالمناسبة أتمنّى على كل اللبنانيين القادرين وخاصة من أبناء الجبل زيارة المكتبة لتشجيع هذا الفريق العامل فيها، والمميّز بدقة عمله وبخبرته المكتبية لدعم المكتبة لنعمل معاً على تطويرها بشكل أفضل ولدينا مشاريع كثيرة بحاجة إلى أريحية أصحاب الكرامة لتنفيذها.

ل لديكم إحصاء حول مجموع روّاد المكتبة في العام 2017؟
بلغ مجموع المشاركين في مُجمل الأنشطة التي أقيمت في المكتبة للعام 2017 ما مجموعه 20369 شخصاً، وهذا العدد فاق كلّ التوقعات لهذه السنة.

لمزيد من المعلومات عن المكتبة يرجى زيارة:
www.baakeenlibrary.com

المطالعة ضرورة وليســت هــوايـة

المطالعة ضرورة
وليســت هــوايـة

أين نحن… وكيف ننهض؟

في هذا البحث، سنقدّمُ للقارئ الكريم موضوعًا بعنوان “المطالعة ضرورة وليست هواية”، نُلقي فيه الضّوء على أهميّة المطالعة في حياة الإنسان، ونشرح واقع المطالعة والقراءة وتأليف الكتب في العالم العربيّ مقارنةً بالعالم الغربيّ وشرق آسيا، من خلال عرض لإحصائيّاتٍ قامت بها جهاتٌ دوليّة مهتمّة بهذا الشّأن. كما نتطرّق إلى لمحةٍ تاريخيّةٍ عن النّتاج الفكريّ العربيّ منذ قيام الإسلام حتّى يومنا هذا، ثمّ نقدّمُ نصائحَ عديدةً في كيفيّة جعل القراءة جزءًا من حياتنا وحياة أولادنا، وما لذلك من تأثيرٍ إيجابيٍّ علينا وعليهم.

المقدمة
اِتّفق علماء المسلمين على أنّ أوّل آية أُنزلت في القرآن الكريم هي قوله تعالى: ﴿إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(1)، وبذلك تكون أوّل كلمة نزلت في الوحي الكريم هي “إقْرَأْ “، فكأنّما القراءة جُعلت أوّل الأوامر الّتي يجب على المنتسبين إلى الدّعوة الإسلاميّة الالتزام به، فهل في الأمر حكمةٌ ما؟ أم عبثاً كان هذا؟ وحاشا الله من ذلك، فالأمر إذن فيه حكمةٌ أرادها مَن أَذِنَ ببدءِ الوحيِ، ولا يخفى هذا على ذوي العقول، والأفهام الصّحيحة، إذ يمكن القول إنّ تصدير القرآن الكريم بكلمة “إقرأ”، إشارةٌ واضحةٌ لكلّ المـُنتسبين إلى الدّين الجديد، إلى أنّ القراءة ستكون سبيلَهم إلى العلم والمعرفة، وأنّهم مقبلون على تعاليمَ جديدةٍ، فيها من الأوامر والنّواهي والتّشريعات والعلوم، ما لا يمكن الوصولُ إلى معرفتها إلا بتعلّم القراءة.
ونلاحظ أنّ فعلَ الأمر “إقرأ” قد أخذ يفعل فعله في الملتزمين بالدّعوة الجديدة، خاصّةً مع انتظام حال المسلمين في دولةٍ إسلاميّةٍ منظّمةٍ، أخذت تتوسّعُ حتّى بلغت حدودُها بلاد الأندلس، وقد رافقَ هذا التّوسعَ نهضةٌ علميّةٌ كبيرةٌ، وبدأت أحوالُ المسلمينَ تتطوّرُ وتتقدّمُ في مختلفِ المجالات، حتّى أضْحَوْا مرجِعًا لكلّ قاصد علمٍ، أو ساعٍ إلى المعرفة، وشملت علومهم الطّبَّ والفلسفةَ والرّياضيّاتِ وعلومَ الفلك وغيرها، وتحوّلت عواصم المسلمينَ إلى مقصدٍ ومَحَجّةٍ للعلماءِ والفلاسفةِ من مختلفِ أقطارِ المعمورة، كما كان لدراسة القرآن الكريم، حيّزٌ كبيرٌ في حياة المسلمين، فانتشرت علومُ القرآن وتقسَّمت على مباحثَ عدّةٍ، منها علم التّفسير ونزول الآيات والقراءات إضافةً إلى علوم الفقه والشّريعة، الّتي كان النّاس في ذلك الوقت بحاجةٍ إليها لفهم المطلوب منهم في أمور الدّين.
استمرّت النّهضة العلميّة لفترةٍ طويلةٍ من الزّمن، تخلَّلَها حركات ترجمةٍ واسعة النّطاق، بدأت في أواخر الحكم الأمويّ واستمرّت خلال العصر العبّاسيّ الأوّل، وقد شملت حركة التّرجمة مختلفَ العلوم، فأغنتِ الفِكر العربيّ والإسلاميّ، وأعطته متّسعًا كبيرًا من التّقدّم والتطوّر، كما كان لإنشاءِ بيت الحكمة في زمان هارون الرّشيد، دورٌ بارزٌ وتأثيرٌ إيجابيٌّ في انتشار العلوم، وكذلك في عهد الخليفة المأمون حيث أمر بجلب الكتب اليونانيّة من بلاد الرّوم وترجمتها وجعلها في متناول أيدي العلماء والمفكرّين.
ومع سقوط بغداد في أيدي المغول وحرق مكتبتها ،بيت الحكمة، وما نتج عن ذلك من هدمٍ للحضارة الإسلاميّة والعربيّة، انتهى عصر النّهضة، وبدأ عصر الانحطاط الّذي استمرّ من سقوط بغدادَ حتّى حملة نابليون على مِصرَ عام 1798م، فلم يبقَ في حياة العرب والمسلمين ناحيةٌ إلاّ وأصابها الضّعف والوهن، فانعكس ذلك على نتاجهم الفكريّ، وتراجعت حركة التّرجمة حتّى يمكن القول إنّها انعدمت بالكليّة، وانقلبت الأمور رأسًا على عقب، فبعد أن كانت بلاد العرب محجّةً لكلّ طالب علمٍ، أصبح العرب يتوافدون على بلاد الغرب طالبين العلم، وأضحت دولهم سوقًا استهلاكيًّا للنّتاج الفكريّ الأجنبيّ، فارتفعت معدّلات الأميّة، وخفّت نسبةُ القراءة في مختلف أرجاءِ الوطن العربيّ، حتّى وصلت إلى مستوًى متدنٍّ جدّا، يُنذر بوجود أزمة قراءةٍ خطيرةٍ.
فما هي الحلول لهذه الأزمة الرّاهنة؟ وما الخطوات الّتي يجب علينا اتّخاذها للنّهوض بأنفسنا وأولادنا؟ وما هي الأسباب التي تقف في وجه نهضة عالمنا العربيّ على صعيد القراءة وتأليف الكتب؟

النتاج الفكري العربي
إنّ هذا البحث المُختصر، لا يحتمل الإطالة في سرد حركة النّتاج الفكريّ العربيّ منذ قيام الدّعوة الإسلاميّة وحتّى يومنا هذا، وإنّما يمكن اختصار الأمر بعرض محطّات مهمّة والتّحدّث عن شخصيّاتٍ برزت في مجالي التّرجمة والتّأليف، وساهمت بشكلٍ فعّالٍ ليس في نهضة العرب وتقدّمهم فحسب، بل في نهضة العالم بأسره.
لقد كان للعصر الأمويّ (41 – 132 هجري) دورٌ بارزٌ في التّمهيد للعصر العلميّ الذّهبيّ الّذي شهدته الدّولة العباسيّة، إذ انتشرت في زمان الأمويّين حركةٌ علميّةٌ قويّةٌ انحصرت في علوم الدّين واللّغة والتّاريخ والجغرافيا إضافةً إلى العلوم الفلسفيّة والطّب؛ كما كان لتعريبِ الدّولة في زمان الخليفة عبد الملك بن مروان تأثيرٌ بالغٌ سمح للعلماء العرب والمسلمين البدءَ بحركة التّرجمة، والاطّلاع على مختلف العلوم، ثمّ توسّع نفوذ الدّولة، فامتزجت بشعوبٍ جديدةٍ ساهمت في نهوض الحركة الفكرية.
ومع انتقال الحكم إلى العبّاسيين في العام 132ه، واتّخاذهم من بغداد عاصمةً لهم، بدأ العصر الذّهبيّ لحركةِ النّهضة الإسلاميّة والعربيّة، ونشطت حركة التّرجمة بدعمٍ من الطّبقة الحاكمة، فكان أوّل ما تُرجم إلى الّلغة العربيّة كتب الفلاسفة اليونانيّين: أفلاطون وأرسطو وكتب العلم الإغريقي القديم، وكان لهذا الأمر دورٌ كبيرٌ في حفظ هذه العلوم من التّلف والاضمحلال، إذ كانت أوروبا في ذلك الوقت تمرّ في عصر انحطاطٍ لا مثيل له، وقد عبّر عن ذلك كثيرٌ من الكتّاب الأوروبيّين الّذين اعتبروا أنّه لولا ترجمةُ هذه العلوم إلى الّلغة العربيّة لاندثرت وامّحقت.
ثم بدأ العرب أنفسهم في المساهمة في تطوير مختلف العلوم، فبرزت علوم الرّياضيات والفيزياء والفلك والطّبّ وغيرها، ممّا جعل اللّغة العربيّة لغةَ العلوم الأساسيّة، ولم يكتفوا بترجمة كتب الإغريق فحسب، بل أضافوا إليها كثيرًا من المؤلّفات الجديدة الّتي أسهمت في فَهم المخطوطات الأساسيّة. ويمكن القول بأنّ الوجود الإسلاميّ العربيّ في بلاد الأندلس في ذلك الوقت ساهم كثيرًا في وصول النّتاج الفكريّ العربيّ إلى أوروبا عبر قرطبة، وهذا ما ساعد الأوروبيّين لاحقًا في نهضتهم العلميّة الّتي بدأت مع الثّورة الفرنسيّة في نهاية القرن الثّامن عشر الميلاديّ.
فالمنجزاتُ العلميّة لتلك الحقبة كثيرةٌ جدًّا، ومن أبرزها رسمُ أوّلِ خريطةٍ للعالم على يد عالم الجغرافيا “الإدريسيّ” الّذي ألّف أوّلَ كتاب جغرافيا سمّاه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”. وكذلك العالم الكبير ابن الهيثم الّذي ألّف نحو مئتي كتابٍ في علوم الطّب والفلسفة والفيزياء والرّياضيّات، إضافة إلى بروز حركة فلسفةٍ ناشطةٍ على يد الكنديّ والفارابي وابن رشد، كما كان للخوارزمي مساهمةٌ كبيرةٌ في علوم الرّياضيّات وما زالت نظريّاته تُدَرّس حتّى وقتنا هذا.
وأمّا ما يخصّ حركة التّرجمة الّتي كانت أساس النّهضة العلميّة، فقد كان من أبرز روّادها حُنَين بن إسحاق الّذي ترجم الكثير من كتب الفلاسفة اليونانيّين ورسائلهم إلى الّلغتين العربيّة والسّريانية، كما ساهم ابنه إسحق أيضا في ترجمة بعض مؤلّفات أرسطو مثل كتاب النّفس وتوالد الحيوانات.
وفي الوقت الّذي كانت فيه بغداد عاصمة العالم في العلوم، ظهرت في شمال إفريقيا في مدينة المهديّة، دولةٌ جديدةٌ هي “الدّولة الفاطميّة”، باعتبار أنّ نسب حكّامها يعود إلى فاطمة الزّهراء(ر)، وسرعان ما توسّعت هذه الدّولة واستولت على شمال إفريقيا وصولًا إلى مصر، فاتّخذت من القاهرة عاصمةً لها، وبدأ نجم العباسيّين بالأفول لتشرق مكانه شمس الفاطميّين الّذين برزوا بتنظيمهم الدّقيق لشؤون دولتهم، واهتمامهم البالغ في العلوم، فأنشأوا دار الحكمة في القاهرة، وأغدقوا عليها من المال الشّيء الكثير، وجلبوا لها الكتب والمؤلّفات والمخطوطات النّادرة من مختلف أقطار المعمورة، فجمعوا فيها ما يقارب المليون وستمائة ألف مجلّد(2) في مختلف علوم الدّين والفقه وعلوم الفلسفة والطّبّ والرّياضيّات، وجعلوا ذلك مباحًا لكلّ الناس.
وخلاصة ما تقدّم، فإنّ العوامل الّتي ساعدت على النّهضة العلميّة والفكريّة للمسلمين والعرب، كثيرة جدّا، ومن أهمّها أنّهم نظّموا شؤونهم في دولة إسلاميّة قويّة، وتعرّفوا على مختلف الشّعوب من خلال الفتوحات الإسلاميّة الّتي وصلت بهم إلى أوروبا من بوابة الأندلس، ثمّ الأمن والاستقرار الّذي نعموا به في أثناء حكم العباسيّين والفاطميّين، وحياة البذخ والرّفق التي كانت متوفّرة لديهم نتيجة ازدهار الاقتصاد والتّجارة في بلادهم، كلّ ذلك وغيره من الأسباب جعلت العرب والمسلمين حكّام العالم، وبلادهم مقصدًا لكلّ طالب علمٍ، ولغتهم العربيّة لغةَ العلوم كافّة.

بعض الأسباب التي أوصلت العرب
إلى عصر الانحطاط
بعد أن وصل العرب إلى ذروة عزّهم، إنْ في الحكم أو في التّنظيم أو في العلوم، وبعد أن امتدّ حكمهم من الأندلس غربًا إلى بلاد فارس شرقًا، دخل الوهن على مفاصل الحكم، وبدأت السّلطة المركزيّة تفقد قوّتها شيئًا فشيئًا. فدارت عليهم الأيّام وتغيّرت، واشتعلت نيران الحروب فيهم واستعرت. فضعف حكم الدّولة الفاطميّة وحصل فيها من الفوضى والخراب الشّيء الكثير، أدّى إلى حرق دار الحكمة ونهبها في العام 461 ه. ثمّ كان سقوط قرطبة (الأندلس) في سنة 636 هجري، وما تلا ذلك من حرقٍ لمكتبتها ونهبها، تلك الّتي احتوت على الكثير من تراث العرب وعلومهم خلال فترة حكمهم للأندلس.
وجاءت بعد ذلك الحرب الضروس، على يد هولاكو قائد المغول، الّذي غزا بلاد العرب قادمًا من آسيا، فأسفرت حربه عن سقوط بغداد في العام 656 هجري. ويمكن القول أنّ العربَ لم يشهدوا مثلَ هذه الحرب من قبلُ، إذ لم يكتفِ هولاكو بأن هزمهم في عُقرِ دارهم، بل عمل على إبادتهم ونسف حضارتهم، فقتل منهم أعدادًا كبيرةً، حتّى إنّ بغداد كادت تقفر من السّكان، وحرَقَ مكتبتها المعروفةَ ببيت الحكمة، بعد أن رمى جزءًا كبيرًا من محتوياتها في نهر دجلة، حتّى قيل إنّ مياهه اسودّت بحبر المخطوطات والكتب.
هذه الحوادث وغيرها الكثير أدّت إلى تقهقر العرب في مختلف المجالات، ويصعب في هذا المكان سرد كلّ الأسباب التي أوصلت العرب إلى عصر الانحطاط، إذ إنّ ما ذكرناه يعدّ من الأسباب الأساسيّة، ولكن لا نغفل أيضًا عن الحملات الصّليبيّة وتأثيرها وما عاناه العرب من ظلمٍ واضطهادٍ وهدمٍ لحضارتهم وثقافتهم ولغتهم.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ هناك الكثير من الأسباب الدّاخليّة المتعلّقة بإدارة شؤون الدّولة وما نتج عنها من فساد في الحكم والحكّام، أدّى إلى إضعاف مركزيّة الدّولة، فانعكس ذلك على الولايات التّابعة لها، وأصبحت خاصرة الدّولة المتمثّلة بالولايات الحدوديّة ضعيفةً، ممّا جعلها عرضةً لهجمات الطّامعين بأرضها وخيراتها.

تأثير عصر الانحطاط على النتاج
الفكري العربي
اِختلفت الآراء في تحديد الزّمن الفعليّ لعصر الانحطاط الّذي مرّت به البلاد العربيّة، ولكنّ المؤكّد أنّ سقوط بغداد بيد المغول كان مفصلًا تاريخيًّا مهمًّا في حياة العرب، وبذلك اعتبره كثيرٌ من الباحثين في هذا المجال بدايةَ عصر الانحطاط الّذي استمرّ ستّة قرون حتّى وصول أسرة مح محمّد علي إلى الحكم في مصر سنة 1220 ه. وقد شهدت مصر في فترة حكم محمّد علي نهضةً علميّةً كبيرةً، تمثّلت في إرسال بعثاتٍ طلابيّةٍ من مصر إلى أوروبا ليدرسوا مختلف العلوم وينقلوها إلى مصر، وقد اعتبر البعض أنّ هذه المرحلة تمثّل عصر نهضة العرب، فيما اعتبر البعض الآخر أنّها تجربةٌ ناجحةٌ لم تستمرَّ طويلًا بسبب افتقادها الرّؤية الواضحة.
فمن المظاهر الّتي تميّز بها عصر الانحطاط، جمود العقول وندرة الإبداع العلميّ، بحيث اقتصر الإنتاج الفكريّ على تكرار ما سبقه من دون تميّز يَذكر، واللّافت في ذلك، أنّ الجمود لم يقتصر على الإنتاج العلميّ فحسب بل أصاب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة كذلك.
وممّا زاد الأمور صعوبةً، أنّ الحكم العثمانيّ للبلاد العربيّة، وإن كان قد أعاد للمسلمين هيبتهم من خلال توحيد الخلافة، لكنّه عمد إلى سياسة القمع الفكريّ ومحاربة الّلغة العربيّة في الولايات العربيّة، إضافةً إلى انشغال الولاة العثمانيّين بالحروب بدلًا من العمل على تطوير ولاياتهم والاهتمام بها.
وبعد انقضاء الحكم العثمانيّ، انتقلت البلاد العربيّة إلى عهد الانتداب الّذي لم يكن أفضل حالًا ممّا سبقه، ثمّ جاء استقلال الدّول العربيّة في منتصف القرن العشرين، ليكونَ منطلقًا للشّعوب العربيّة بعد تحرّرها، إلّا أنّ الوقت كان قد نفد، والثّورة الصّناعيّة والتّكنولوجيّة قد خطت خطواتٍ سريعةً يصعب اللّحاق بها، ومع مجيء الثّورة الرّقميّة الأخيرة بداية القرن الحادي والعشرين، والتي غيّرت مسار العالم بأسره، وجد العرب أنفسهم يغرّدون خارج السّرب، إذ سبقهم العالم بأشواطٍ عديدةٍ، باتت معها سرعة الجري غيرَ كافيةٍ لاستعادة المبادرة.

نتائج بعض الإحصائيات المتعلقة بالنتاج الفكري العربي
إنّ الإحصائيّات الّتي أجرتها العديد من الجهات الرّسميّة وغير الرّسميّة، في موضوعات مختلفة تتعلّق بالإنتاج الفكريّ العربيّ، إن لجهة قراءة الكتب وتأليفها، أو المساهمة في الأبحاث العلميّة، أو لناحية تصنيف الجامعات العربيّة وغيرها من مؤشّرات النّموّ والتّقدّم، أظهرت النّتائج المخيّبة للآمال، فكلّ المحاولات المتواضعة الّتي حاول العرب من خلالها فعلَ شيءٍ مؤثّرٍ في هذه المجال لم تُجد نفعًا، بل بعضها زاد الأمور سوءًا لأنّ الجهود الّتي بُذلت لم تكن في الاتّجاه الصّحيح.

للأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم
للأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم

فالتّقرير الصّادر عن منظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة (اليونسكو) في العام 2015، بعنوان تقرير اليونسكو للعلوم، يعطي صورة كافية وواضحة عن الواقع العربي فيما يتعلّق بالنّتاج العلمي، والمساهمة العربية في المنشورات العلميّة، فقد بلغ عدد الباحثين العرب 149.5 ألف باحث في العام 2013، من إجمالي 7758.9 ألف باحث حول العالم، منهم 2408 ألف باحث في أوروبا، و1721 ألف باحث في القارة الأمريكية و660 ألف في اليابان، وكذلك فيما يتعلق بالمنشورات العلمية، فقد بلغت مساهمة العرب 29944 بحث علمي من إجمالي 1270425 بحث حول العالم، منهم 498817 في أوروبا و417372 في القارة الأمريكية و73128 في اليابان. وعلى صعيد الاختراعات، فقد سجّلت الأرقام 492 براءة اختراع في العالم العربي من إجمالي 277832 حول العالم، منها 52835 في اليابان و17586 في ألمانيا و7761 في الصين.
وفي تقرير بعنوان “أرقام عن واقع القراءة في الوطن العربيّ”، نشرته صحيفة البيان الإماراتيّة في عددها الصّادر بتاريخ 19/9/2015، يبدو واضحًا الواقع المرير وانعكاسه على مختلف مجالات الحياة، وقد أورد التّقرير الأرقام الآتية:
• 757مليون أمّيّ عالمياً بينهم 100 مليون عربيّ
• كلّ 80 مواطناً عربيًّا يقرأون كتاباً واحداً في السّنة، في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتاباً في السّنة
• يأتي دافع القراءة للتّرفيه أوّلاً بالنّسبة للدّول العربيّة بنسبة 46 %، بينما لا يبلغ دافع التماس المعلومات إلا 26 % فقط.
• معدّل النّشر في الدّول العربيّة سنويًّا حوالي 6.500 كتاب، بينما يصل 102.000 كتاب في أميركا الشّماليّة و42000 كتاب في أميركا اللاتينيّة والكاريبي.
• إصدارات كتب الثّقافة العامّة في العالم العربيّ لا تتجاوز الـ 5.000 عنوان سنويًّا، وفي أميركا حوالي 300 ألف كتاب.
• النّسخ المطبوعة من كلّ كتابٍ عربيٍّ تقارب 1.000 أو 2.000 وفي أميركا 50 ألف نسخة.
• يُترجَم سنويًّا في العالم العربيّ خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصّغيرة، والحصيلة الكلّيّة لما تُرجم إلى العربيّة منذ عصر الخليفة العبّاسيّ المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ 10.000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنةٍ واحدة، أمّا الصّين فهي تعمل على ترجمة وطباعة كلّ كتابٍ يصدر في أمريكا خلال ثلاثة أيّام من صدوره، في حين أنّ أكبرَ الدّول العربيّة لا يُترجم فيها إلا 400 كتاب في السّنة.
• في النّصف الأوّل من ثمانينيّات القرن العشرين كان متوسّط الكتب المترجمة لكلّ مليون مواطنٍ عربيٍّ، على مدى خمس سنوات، هو 4.4 كتب (أقلّ من كتابٍ لكلّ مليون عربيٍّ في السّنة) وفي هنغاريا كان الرقم 519 كتاباً لكلّ مليون، وفي إسبانيا 920 كتاباً لكلّ مليون.
• تبلغ مبيعات الكتب إجمالاً في كلّ أنحاء العالم 88 مليار دولار، وفي الولايات المتّحدة الأميركيّة 30 مليار دولار و10 مليارات دولار في اليابان، و9 مليارات دولار في بريطانيا، ويبلغ نصيب العالم العربيّ 1% من الرقم الإجماليّ للمبيعات.

الحلول الممكنة والرؤية المستقبلية
إنّ ما أوردناه سابقا، يعطي فكرةً واضحةً عمّا آلت إليه الأمور في وطننا العربيّ الّذي نحن جزءٌ منه ونتأثّر بما يتأثّر به، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الأفق مسدودٌ أمام محاولات تغييرٍ تنقل الواقع من الحالة الرّاهنة إلى النّهضة الفكريّة المرجوّة.
وهذا الأمر ليس مُناطًا بالمؤسسات الرّسميّة فحسب، بل هو مسؤوليّة كلّ فردٍ منّا انطلاقاً من موقعه وعمله. فللأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم، كما أنّ للمدرسة دورًا بارزًا في ذلك، إذ إنّ التّعليم لا يقتصر على المناهج الرّسميّة المُعدّة من قبل وزارة التّربية بل ينبغي أن يكون سبيلًا لتعويد أبنائنا على عاداتٍ سليمةٍ تكون القراءة من ضمنها، بل أهمّها، ومن هنا نجدُ أنّ دور الأسرة والمدرسة في تعويد أبنائنا على القراءة يعدّ دورًا أساسيّا بالغ الأهميّة، لأنّه يغرس في النّفوس حبّ الكتاب والقراءة.
ثمّ يأتي دور الجامعات في تحفيز إنتاج البحث العلميّ وتأمين الموارد الماديّة وغير الماديّة اللّازمة له، والانفتاح على مراكز البحث العلميّ الأجنبيّ، للتّعاون معها والتعرّف على آخر ما توصّلت إليه من نتائج علميّة.
ولا ننسى دور الوزارات المعنيّة في الشّأن التّربويّ والثّقافيّ، في رسم رؤيةٍ واضحةٍ تسير عليها المؤسّسات التّربويّة ومراكز الأبحاث ودور النّشر، وهو ما يلزم وجود خطّةٍ متكاملةٍ على صعيد الحكومات العربيّة بأجمعها، تضع في حسبانها الاحتياجات الأساسيّة لكلّ دولة، ويتمّ توجيه نتاج الفكر العربيّ على أساسها.
وربما تكون الخطوات الأخيرة التي قام بها عدد من دول الخليج، خاصة الإمارات العربية المتحدة من خلال مسابقات لتحدي القراءة وغيرها، قد غيّرت من واقع الأرقام المخيفة الذي استمر لسنوات على حاله، ففي آخر نتائج مؤشر القراءة العربي، الذي كشف عنها في أثناء افتتاح الدورة الثالثة لقِمّة المعرفة في دبي في العام 2016، تبيّن أنّ الأمور تتّجه نحو التّقدّم على هذا الصّعيد، إذ أظهر الاستبيان الإلكتروني الذي شارك فيه حوالي 148 ألف مشارك، أن العرب يقرؤون ما يقارب 35 ساعة سنويّا، وأن متوسط عدد الكتب بلغ 16 كتاب سنويا، وهذا يشمل القراءات المتعلقة بالعمل والقراءات الأخرى (راجع مقال بعنوان: “مؤشر جديد.. كم كتابًا يقرأ العربي في السنة وكم عدد ساعات القراءة؟” على موقع eremnews.com، بتاريخ 7/12/2016)

قاعة القراءة الرئيسية في مبنى الكونغرس الأميركي
قاعة القراءة الرئيسية في مبنى الكونغرس الأميركي

فوائد القراءة
يقول الدكتور ساجد العبدلي: “أرى القراءة أكثر من شيءٍ ضروريٍّ، لأنّي أراها مظهرًا من مظاهر الحياة الجوهريّة، والإنسان الّذي قد حرمه الله نعمة القراءة، قد حُرِم شيئًا عظيمًا، وأوصد في وجهه بابًا كبيرًا من أبواب الحياة هو باب العلم والمعرفة”(3).
فالقراءة هي المصدر الأساس للوصول إلى المعرفة، ولا يجدر أن تكون صدفةً تحدث في حياتنا، بل تتخطّى ذلك لتكون جزءًا أساسيًّا نُخصّص له الوقت اللّازم، بل نقدّمه على سواه من ناحية الأهميّة.
وعندما سُئِل الأديب المصريّ الكبير عبّاس محمود العقّاد عن سبب حبّه للقراءة قال: “إنّي أهوى القراءة لأنّ لي في هذه الدّنيا حياةً واحدةً، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيني، ولا تحرّك كلّ ما في ضميري من بواعثِ الحركة، القراءة وحدها هي الّتي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياةٍ واحدةٍ، لأنّها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تُطيلها بمقدار الحساب”(4)
فالقراءة تجعل القارئ مشاركًا الكاتب أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، وهو ما يُكسبه غنًى وتنوُّعًا. ولذلك وجب علينا أن نختار من القراءة ما يفيدنا في حياتنا، وأن نكون قادرين على تمييز الصّحيح من المعلومات من الخاطئ منها، وأن يكون عقلنا ميزانًا راجحًا لكلّ معلومة تدخل إلى فكرنا، ولنبدأ بتعويد أنفسنا وأبنائنا على قراءة كتب الأخلاق وأخبار الصّالحين، ثمّ الكتب الثقافيّة والعلميّة الّتي تساعدنا على فهم العالم من حولنا أكثر فأكثر، وكذلك الموضوعات التّاريخيّة المهمّة الّتي من خلالها نفهم سير الأمور وأسبابها. ومن المهمّ أيضًا أن نقرأَ من الكتب ما نحبّ، فيعطينا ذلك حافزًا كبيرًا للاستمرار، ويفتح لنا آفاقًا جديدةً مع كلّ كتاب نقرأه.

الخاتمة
إنّ النّهضة الفكريّة المرجوّ تحقيقها في وطننا العربيّ عامّة وفي حياتنا وحياة أبنائنا خاصّة، تبدأ من قراءة الكتب والاطّلاع على كلّ ما هو مفيد، واستغلال الوقت الّذي هو رأسمال كلّ إنسان، فينتج عن ذلك رؤيةٌ جديدةٌ للحياة، تتبلور شيئًا فشيئًا، وتزداد وضوحًا مع كلّ خطوةٍ نقوم بها إلى الأمام، فيحدّد كلٌّ منّا هدفه من الحياة، ويجعل لهذه الحياة معنًى وغايةً، يعمل على تحقيقها والوصول إليها. فالاهتمام بالنشء الصّاعد لا يجب أن يقتصر على تأمين الطّعام والشّراب والمسكن وإرساله إلى المدرسة فحسب، بل في تأمين جوٍّ من الطّمأنينة والرّاحة وزرع عاداتٍ سليمةٍ في ذهنه وفكره، تقوده إلى رسم طريقه بالشّكل السّليم، ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نزرعه في أبنائنا هو حبّ القراءة والاطّلاع.

مراجعات كتب

[su_accordion]

[su_spoiler title=”

وثائق سياسيّة من تاريخ المقاطعات اللبنانية 1707-1873- الدكتور رياض غنّام
دار معن، بيروت، 2018 (464 صفحة)

” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عمل تاريخي، توثيقي، جديد، ضخم، للمؤرخ الدكتور رياض غنّام.
يتابع المؤرخ غنّام في عمله الجديد إماطة اللثام عن صفحات “حسّاسة” من تاريخ المقاطعات اللبنانية، بدقة العالم المنقّب، وبتجرد ونزاهة الرياضي الموضوعي الذي لا يرى من المعطيات إلّا ما هو موجود حقّاً، ولا يرى في الواقعة أكثر مما تحتويه فعلاً. هو ذا ما يخلص إليه قارئ مئة وخمس وثلاثين وثيقة من الدرجة الأولى جعلها المؤرخ غنّام بين دفتي كتابه الضخم. وما يزيد حقاً في تقدير القارئ لمنهجية المؤرخ الموضوعية عدم تدّخله في سياق أية وثيقة (خلا ما هو ضروري لإيضاح بعض المفردات)، وفي موضوعات ومسائل ما انفك معظم المؤرخين اللبنانيين يقاربونها بكثير من الهوى الأيديولوجي وبعيداً عن الحيدة العلمية.

ما يلفتك حقاً في نصوص الوثائق أعلاه، أنها تنقل معاناة اللبنانيين، كل اللبنانيين، لحقبة امتدت لأكثر من مئة وخمسين عاماً (1707-1873). ليس في الوثائق ما يسرّ أو يسعد، بل جلّها تعبيرات لمعاناة الجماعات اللبنانيين في أوقات متقاربة، تصاعد توترها بقوة بين بدء الاختراق الغربي (الاقتصادي والسياسي) إلى الخاصرة العثمانية الرخوة والمتفجرة باستمرار – أي المقاطعات اللبنانية التي كانت تدار من اقطاعيين/ مقاطعجية محليين مع غلبة واضحة للهموم المحلية في ظل الانحسار التدريجي لقبضة السلطة العثمانية المركزية القوية. يستثنى من ذلك الدور العسكري والديبلوماسي النشيط الذي لعبه الأتراك في أحداث 1856-1861، حيث بدا أنهم لا يملكون إلا ردّ الفعل حيال الاختراق الغربي القوي، إضافة إلى استعدادهم باستمرار لتقديم الجماعات الواقعة تحت سلطانها جوائز ترضية للدول الغربية، الواحدة بعد الأخرى.

ولأن التاريخ لا يحتفظ إلا بالمشكلات أو بصور منها، يمكن للقارئ أن يتوقع سلفاً مضمون الوثائق الأصلية (كما هي في الأصل ثم تفريغ المؤرخ لها بلغة اليوم كيما تصبح مفهومة للقارئ). مئة وخمس وثلاثون وثيقة يمكن أن تكون مشاهد لمسرح اللامعقول الذي أداره الغربيون بخبث ما بعده خبث طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مستفيدين من ضعف الجماعات الطائفية المحلية وقلة حيلتها من جهة، وتخلي العثمانيين منذ زمن بعيد عن المنطقة من جهة ثانية وتركها نهباً لصراعاتها وتلاعب القوى الغربية بمكوناتها الإثنية والدينية والمذهبية.

في صحبة الوثائق التاريخية الكاملة لا يفيد الاختصار أو الاختزال في شيء، ما يفيد، بل المثير حقاً، هو حين تدخل إلى متون الوثائق تلك، فتشاهد (ولا أقول تقرأ) مآسي اللبنانيين في جماعاتهم كافة، حيث القلق والفزع والاستغاثة واليأس وفقدان الأمل وتسليم مصائرهم للأقدار وللوجهاء المحليين (الإقطاعيون من جانب الدروز والأحبار والكرادلة التي باتوا يكتسبون بالتدريج قوة موازية للإقطاع المسيحي بل وتزيد أحياناً). دعوة لقراءة كتاب في منتهى الإثارة، تأريخاً وراهنية في آن.

[/su_spoiler]

 

[su_spoiler title=”

تَصَدُّعات مَرْكَبِ الحضارة
الأديب نبيه الأعور، الجزء الرابع

” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

التأليف في موضوع الحضارة، هو مزيجٌ من التاريخ والفلسفة، والاجتماع والأدب، والسياسة، والجغرافية، والعلوم، وما الى ذلك… والعماد الأكبر، هو معرفة الإنسان بالتاريخ وأحوال البشر، وما تجمّع له على السنين من آداب وما استخرجه بنفسه من ملاحظات وهو يقلِّبُ صفحات تاريخ هذه الأرض ومن عليها..
ليس بوسع أي إنسان أن يقدِّم إجابات شافية وافية، لكل الأسئلة التي يطرحها على الذهن موضوع الحضارة.
فالموسوعة، تصدعات مركب الحضارة الإنسانية عبر الأزمنة، لا تقرِّر حقائق ثابتة، إنما هي تفتح باب التفكير والمناقشة في اتجاه سليم. وتوجه الذهن الى قضايا جديدة بأن توضع موضع التأمل والبحث بهدف حمل الأذهان على التفكير في الموضوعات المطروحة فيها، وإثارة الإهتمام بمواصلة البحث.
في الجزء الرابع من هذه الموسوعة وهو بعنوان تحولات حادّة: وقف المؤلف عند مفكري الغرب في العصور الحديثة وخاصة “فلاسفة عصر الأنوار” عرض ما وضعوه من مشكلة الإنسان، وأحواله، وماضيه، وحاضره، ومستقبله، موضع درس عميق كما وأنهم أطلقوا الفكر في بحث مشاكل الإنسان، وإعادة النظر في كل ما قامت به الإنسانية من تجارب في الماضي. وفتحوا أبواباً واسعة للتفكير والتغيير.. ومهدوا بذلك لثورة طويلة، بعيدة المدى في الفكر الإنساني والنظم السياسية والإجتماعية، بدأت بالثورة الفرنسية، ومازالت متصلة الى يومنا هذا. وستبقى هذ
المسائل موضع استزادة، في هذا العمل كما في سواه.

[/su_spoiler]

 

[su_spoiler title=” أَنْسَنَةُ الدِّين – الدكتور توفيق بَحْمَد
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كتب المؤلف في التعريف بكتابه:
أنسنة الدين، كما اعتقد، يجب أن تكون نقطة البيكار في جميع المذاهب والأديان. تأنسن الله سبحانه في الإنسان … ليكون إنساناً.
وكانت ذاته الجوهرية ليستمد الإنسان … أي إنسان إنسانيته من دينه.
فإذا فقد الإنسان إنسانيته … فقد ذاته الجوهرية منه أي فقد الله منه.
وهكذا جميع أبناء الله، أي بني البشر … فلا الألوهوية منفصلة عن جوهر الإنسان وطبيعته… ولا طبيعة إنسانيته منفصلة في جوهرها، وحقيقتها، عن احدية الوجود المطلق.
الدين علم وعمل ومسلك توحيد الإنسانية. وكتاب “أنسنة الدين” لم أكتبه بل جمعته من ينابيع الإنسانية.. إنسانية المعلم كمال، وإنسانية المرجع العلّامة السيد محمد فضل الله وبيان بلاغته.
ومدرسة مولانا سقراط… في التوحيد … والأخلاق.. والإنسان.
سئلت: بالله عليك… من ألهمك… من أوصى إليك بهذا العنوان.. وكان الجواب لنا … مع الإيمان.
• تصحُّر الروح ….
• توحش الإنسان … في هذا الزمان.
• الروح تصحَّرتْ في أمتي.
• الإنسان توحّش في بلادي.
• رحت أنا الطبيب… أفتش عن داء التصحّرْ… والتَّوحش لمعرفة الدواء …للعلاج.. لم أجده … ولم أعرفه
• فاستعنت بالمجهر الكوني.. الإنساني.. المجهر الإلهي:
– للمعلّم الكمال.
– وللعلّامة السيد.
– لمولانا سقراط الإنسان.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رواد ومجاهدون
حسيب ذبيان في ذاكرة الثورة العربية
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كتاب جديد بقلم مؤلفه تيسير ذبيان. يروي الكتاب فصولاً من حياة المجاهد الوطني والقومي، إبن مزرعة الشوف (لبنان)، المولود سنة 1885، من العائلة الذبيانية الشوفية العريقة، والمتوفي سنة 1969. لكن عمر المجاهد حسيب ذبيان لا يقاس بالسنوات، كما بيّن الكتاب. فقد ملأها منذ نعومة أظفاره بالجهاد المتواصل في لبنان، وسوريا، والأردن.
أولى منازلات المجاهد الكبرى كان تركه السلك الأمني، الذي كان آمر مخفر أو مفرزة في الدرك برتبة ملازم، والتحاقه بيوسف العظمة في معركة ميسلون العاثرة مع جيش الانتداب الفرنسي الغازي على أبواب دمشق في 24 تموز 1924. كانت المعركة غير متكافئة، بضع مئات من الشباب المندفعين مقابل ألآف من الجنود الفرنسيين المدعومين بالمصفحات والمدفعية الثقيلة. وكانت النتيجة بديهية لجهة الطرف الغالب، لكنها فجّرت لدى الطرف المغلوب، بل المغدور، احاسيس الحقد على المستعمر لعقود لاحقة. هكذا حال رشيد طليع، وفؤاد سليم، وكذلك حسيب ذبيان، وآخرون.

كانت وجهة حسيب ذبيان بعد معركة ميسلون إمارة شرق الأردن التي استقبلت من تبقى من رجالات ثورة الشريف حسين والدولة العربية الحديثة التي لم تعمّر كثيراً. تولى حسيب في الإمارة الحديثة مهمة تأسيس قوة درك محلية. لكن حسيباً لم يلبث أن غادر الأردن إلى جبل العرب حين اندلعت الثورة السورية الكبرى سنة 1925 فالتحق بسلطان باشا الأطرش وقيادة الثورة. هذه إلماعات إلى سيرة مجاهد شجاع في كتاب يستحق القراءة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” زيارة إلى التاريخ، عمّان
د. فارس حلمي
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

المؤلف أكاديمي فلسطيني، مؤلف وباحث ومترجم. يقول المؤلف أن غايته هي “بيان أن الشعب الفلسطيني يستطيع بقدراته الذاتية، انتزاع جميع حقوقه المغتصبة؛ وبيان أن حلف الدكتاتورية والجهل يدمّر ولا يعمّر”.
ولإثبات وجهة نظره، يقوم المؤلف بجولات تاريخية واسعة في موضوعات معاصرة، متصلة بالشأن الفلسطيني على وجه الخصوص والشأن العربي عموماً. أما اللغة فنقدية في الغالب، تضع اللوم على الطريقة الفردية التي ندير بها شؤوننا الأكثر أهمية، مأ أدّى إل ما شاهدناه ونشاهده من هزائم وتداعيات. من الموضوعات التي توقّف المؤلف عندها نجد:
– كيف ينتصر الفلسطينيون وهم متفرقون أحزاباً وشيعاً؟
– لا بد من اتحاد الأمة العربية لمساعدة الشعب الفلسطيني
– لا بد من اتحاد المسلمين لمساعدة الشعب الفلسطيني
– ما هي وظيفة الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية
– متى تتوقع لنا أن ننتصر وننتزع حقوقنا المشروعة المغتصبة؟
– وموضوعات مماثلة أخرى.
السؤال الذي تردد كثيراً في الكتاب هو: هل يستطيع العرب العودة على التاريخ؟ والمؤلف يجيب نعم، إذا تعلّمنا من الأخطاء. ويسهب الكتاب لذلك في بيان الأخطاء الفلسطينة والعربية، وسببها الرئيسي برأي المؤلف التفرّد في اتخاذ القرارات والإصرار على اعتبار الخطأ صواباً، وعدم التشاور، وغياب شجاعة انتقاد اخطائنا. ونصيحة المؤلف هي أن العمل من دون معرفة وخبرة ودراية مسبقة، أقصر الطرق إلى الفشل والهزيمة..وهناك عشرات الأمثلة قديماً وحديثاً على صحة الاستنتاج ذاك.
الكتاب في 278 صفحة، ممتع، وموضوعاته تقع بين التاريخ والسياسة.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

حمــايــة الأطفال في أثناء الحروب والنـزاعـات

حمــايــة الأطفال
في أثناء الحروب والنـزاعـات

في حالات الصّراع المسلّح، يتعرّض الأطفال بالآلاف للقتل والتّشويه والاغتصاب والتّعذيب. كما يتعرض مئات الآلاف من الأطفال الذين يتم تجنيدهم لمخاطر الإصابات والعاهات والوفاة أثناء القتال، بالإضافة إلى الانتهاك البدني والجنسي من جانب رفاقهم من الجنود أو قادتهم. أمّا الأطفال الذين يفرّون من مناطق الحروب ليصبحوا في عداد اللّاجئين، فيصبحون مهمّشين ويواجهون المخاطر بدورهم، لأنّهم يظلون معرّضين للانتهاكات البدنيّة والعنف الجنسيّ، والهجمات التي تتمّ عبر الحدود.
وظاهرة استهداف الأطفال في الحروب ليست ظاهرة جديدة على مستوى العالم العربي، فأطفال فلسطين كانوا وما يزالون ضحايا حرب مزمنة، ومع توسّع دائرة الحروب يسجّل الضحايا من الأطفال أرقاماً مُفجعة في مناطق الصّراع، وتزداد المأساة الإنسانية حين يودّع الأطفال الطفولة ويرتدون الزِّي العسكري في الجبهات، وتتزايد معدّلات تجنيد الأطفال في العديد من الدّول العربية بتصاعد حدة الصّراعات، ورغم عدم وجود احصائيّات دقيقة وشاملة إلّا أنّ تقارير أصدرتها منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسيف) تؤكد على أن كافة أطراف النزاع في دول الصراعات، تقوم بتجنيد الأطفال من الإناث – لخدمة الجُناة سواء في الأعمال المنزليّة أو في المعاشرة الجنسية – والذّكور – إذ يُستخدمون حمّالين وجواسيس أو يستخدمون “لمرة واحدة” كدروع بشريّة وفي العمليّات الانتحارية – بالإضافة إلى تحويلهم جنوداً في حروبها، بشكل عام، وبصرف النّظر عن اختلاف الظروف، ودرجة انتشار الظّاهرة في البلدان موضع الصراعات، وعن الكيفيّة التي يتمّ فيها تجنيد الأطفال، تؤدي مشاركة الأطفال في المعارك إلى آثار مدمّرة على صحّتهم النفسيّة وتعرّضهم لمخاطر جسدية، مما ينتج عنه صعوبات بالغة التعقيد في عملية إعادة دمجهم مجتمعيّاً.
تجنيد الأطفال الى قائمة العار التي يصدرها الأمين العام سنويــاً
لقد حدّدت القوانين والأعراف الدوليّة “سن الثامنةَ عَشْرَةَ بوصفها الحدّ القانوني الأدنى للعمر بالنسبة للتجنيد ولاستخدام الأطفال في الأعمال الحربية، وتضاف أطراف النزاع التي تجنِّد وتستخدِم الأطفال بواسطة الأمين العام في قائمة العار التي يصدرها سنويّاً..”، لكن غالبيّة الأطراف المنخرطة في النّزاعات المسلّحة لا تراعي القوانين والأعراف. وتعدّ عمليات اختطاف الأطفال جريمة حرب، وكذلك سبيِ الفتيات القاصرات اللاتي يتمّ إجبارهن على العمل كـ “إماء للأغراض الجنسيّة”، وواحدة من المشاكل الكبيرة التي ستعترض طريق تلك المجتمعات، الغارقة في نزاعات مسلّحة، تتمثّل في وضع خطط مجتمعيّة لتقديم الدعم للأطفال الضّعفاء الذين تضرّروا بشدّة جرّاء الصراع. لتعزيز المصالحة وتجنب التمييز، ووفقاً لما تؤكد منظّمة “اليونيسيف” “تتطلّب هذه الإجراءات منظوراً والتزاماً طويل الأمد تجاه الأطفال والمجتمعات المحلية المتضرّرة من النزاعات التي يعودون إليها”.
وقد احتلّت تونس المرتبة الأولى عربيّا والعاشرة عالميّاً في مؤشر حقوق الأطفال لعام 2016 الذي أصدرته منظّمة حقوق الأطفال، وشمل 163 دولة، من بينها 17 دولة عربيّة، وجاء العراق في آخر القائمة بالمرتبة الـ 17 عربيّا والمرتبة 149 عالميا؛ نظراً لما يعانيه أطفال العراق من ويلات الحروب، ونالت مصر المرتبة الـ 34 عالميّاً، فيما احتلّت سلطنة عُمان المرتبة الـ 40، ولبنان في المرتبة الـ 42 عالميّاً، ثمّ الأردنّ في المرتبة الـ 46، كما احتلت الإمارات المرتبة الـ 78 عالمياً في مؤشر حقوق الأطفال، ثم السعودية في المرتبة الـ 80 ، وليبيا في المرتبة الـ 82، وجاءت سوريا في المرتبة الـ 105 عالميا، تلتها البحرين في المرتبة الـ 106، ثم موريتانيا في المرتبة الـ 120 واليمن بدورها حلّت في المراتب الأخيرة للمؤشّر، وورد اسمها في المرتبة الـ 131، أمّا إريتريا فقد سبقت العراق بنقطة واحدة وجاءت في المرتبة الـ 148.
في هذه الحالات كيف نستطيع حماية أطفالنا من العنف الذي يواجههم؟
قبل دراسة كيفية حماية الأطفال أثناء الحروب، سنبدأ بتعريف الطفل في الاتفاقيات الدولية. ثم سنعرض لبعض الإحصاءات الدولية واللبنانية التي تشير إلى مدى تأثير الحروب على الأطفال، ومدى خطورتها!

طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة
طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة

عريف الطفل في الاتفاقيات
الدولية لحقوق الطفل
الطفل في إعلان حقوق الطفل هو إنسان ينقصه النضوج البدني والعقلي. وقد جاء في الديباجة «أنّ الطفل، بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة، قبل الولادة وبعدها».
وتعرّف المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل «الطّفل كلّ إنسان، لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ما لم يبلغ سن الرّشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه». وتعتبر المادة المذكورة أنّ الطفل سواء أكان ذكراً أم أنثى هو فرد أو عضو في أسرة وفي مجتمع في آن معاً، وله مجموعة حقوق مع الإشارة إلى أنّ غالبية البلدان والمجتمعات كانت قد اعتمدت قبل ظهور الاتفاقيّة بزمن سنَّ الثامنة عشرةَ كحد أقصى لمرحلة الطفولة، في حين أنّ غيرها من البلدان والمجتمعات اعتمدت ولا تزال سنّاً أصغر لأنّها تعتبر أن الطفل يكتمل نموّه البيولوجي قبل ذلك بفعل عوامل المناخ.
ولا بدّ من أن نشير بأنّ البلوغ المبكر لسن الرّشد يتأتى عنه مسؤولية أكبر للطفل الراشد، لأنّه يتحرر باكراً من الولاية والوصاية، ممّا يجعله مسؤولاً كاملاً أيضاً أمام القانون والمجتمع.

حماية الأطفال أثناء الحروب
والنزاعات المسلحة.
جاء في تقرير اليونيسيف “وضع الأطفال في العالم 2005” أنّ الأطفال الذين يعيشون في ظروف النّزاعات المسلحة، فحتّى وإن لم يُقتلوا أو يصابوا فمن المحتمل أن يُيَتَّموا أو يُخطفوا أو يُترَكوا وهم يعانون آثار الأسى والألم النفسي والاجتماعي جرّاء التعرض المباشر للعنف أو التشرد، والأطفال الذين يَبْقَوْن على قيد الحياة غالباً ما يجدون أنفسهم محاطين بمعركة من نوع آخر في مواجهة المرض والمأوى غير الملائم والافتقار إلى الخدمات الأساسية وسوء التغذية.
ويمكن أن تتورّط المدارس أيضاً في العنف المصحوب في أغلب الأحيان بنتائج مأساوية وربما يجبر الأطفال على التجنيد لغايات القتال والاستعباد ومواجهة العنف الجنسي أو الاستغلال أو التعرض لبقايا الأعتدة الحربية التي لم تنفجر أثناء الحرب والتي تقتل أو تُقعِد أو تشوّه الآلاف، وتكون الفتيات بصورة خاصّة عرضة للاستضعاف والتعرّض للعنف الجنسي والإساءة والوصم الاجتماعي أثناء أوضاع النّزاعات المُسلّحة وبعدها.
وتظهر إحدى الدّراسات المسحيّة التي أجرتها منظمة اليونيسيف على45 طفلا تعرضوا للغزو أن:‏
֎ 62٪ من الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية، كأن شاهدوا جُثَثاً ملقاةً
على جانبي الشارع لأشخاص لا يعرفونهم وأحيانا لأشخاص يعرفونهم.
֎ 20 ٪ من أطفال العينة العشوائية فقدوا أقرباء لهم بواسطة القتل أو
الأسر.‏
֎ 50٪ تعرضوا لاضطرابات نفسية من جرّاء الغزو كالأحلام المزعجة
والكوابيس والخوف المستمر من كل شيء.‏
واتضّح أنّ جميع الأطفال الذين خضعوا للدراسة خاصة في المرحلة العمرية (6 سنوات) يخافون الخروج من المنزل وكانت رسوماتهم تعبّر عن الألم المكبوت كأن يقوموا برسم صور الجثث – الدم – الطائرات وكل ما له علاقة بالغزو.‏
إن معاناة الأطفال من الحروب لا تتوقّف بتوقّف المدافع، بل ترافقهم إلى مراحل متقدمة من أعمارهم وهذا ما أكّده بحث أجرته منظمة “اليونيسيف” بالتعاون مع وزارة التعليم العالي في لبنان على 500 طفل لبناني ممن عايشوا أو شاهدوا مذبحة قانا أثناء الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان عام 2006، حيث تبين أنّ 30% من هؤلاء الأطفال لا يزالون يعانون من اضطرابات النوم، و14% يعانون من الاكتئاب، و40% منهم فكّروا في الانتحار.
إنّ النتائج السلبية التي يمكن أن تتركها الحرب على شخصية الأطفال قد لا تظهر مباشرة في سلوكهم، ولكنّها سوف تنعكس على مستقبلهم، وعلى الأخص عندما يصبحون مراهقين فالطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل والدمار من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية، وإذا رجحت كفّة التجارب السلبية على التجارب الإيجابيّة، فإنّ السلوك عند الطفل سيكون له النصيب الأوفر في حياته المستقبليّة.
وتشير بعض الدراسات إلى أنّ الأطفال الذين يتعرّضون في طفولتهم لمأساة إنسانية، كالتعذيب، أو العنف الجسدي الحاد، أو التوقيف الاعتباطي، أو الاغتصاب وغيرها من المآسي كالتهجير القسري والمجازر، تنشأ لديهم رغبة قوية في أن يصبحوا جنوداً، فهذا يُشعرهم بأنّهم يكملون المسيرة التي بدأها أقرباؤهم الذين قُتلوا، بالإضافة إلى أنّ نمط الحياة العسكرية يخوّلهم أن يحلموا بالانتقام ويعطيهم انطباعاً بأنهم يتحكّمون بزمام الأمور، ولكن بالعكس يتعرّض الأطفال الجنود إلى أشكال عنيفة شتّى.
ومن آثار التجنيد على الأطفال، الكوابيس الليلية كالأرق والتبول اللّاإرادي واضطرابات في الأكل، وعدم القدرة على التركيز… كما يُرافق الطفل ضغط نفسي ومشاهد سابقة لحوادث مؤذية حدثت أمامه أو شارك فيها، وهذا ما يدفعهم إلى الإدمان على الكحول والمخدِّرات.

وفي إطار مكافحة هذا النوع من العنف، نصّت المادة 38 من اتفاقية حقوق الطفل على ما يلي:
أ‌) تتعهّد الدّول الأطراف بأن تحترم قواعد القانون الإنساني الدّولي
المنطبقة عليها في المنازعات المسلّحة وذات الصلة بالطفل وأن تضمن احترام هذه القواعد.
ب‌) تتّخذ الدّول الأطراف جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن
ألّا يشترك الأشخاص الذين لم تبلغ سنّهم خمس عشرة سنة اشتراكاً مباشراً في الحرب.
ت‌) تمتنع الدول الأطراف عن تجنيد أيّ شخص لم تبلغ سنّه خمس عشرة سنة في قواتها المسلحة، وعند التجنيد من بين الأشخاص الذين بلغت سنّهم خمس عشرة سنة ولكنّها لم تبلغ ثماني عشرة سنة، يجب على الدّول الأطراف أن تسعى لإعطاء الأولويّة لمن هم أكبر سناً.
ث‌) تتخذ الدّول الأطراف، وفقاً لالتزاماتها بمقتضى القانون
الإنساني الدَّولي بحماية السكّان المدنيين في المنازعات المسلّحة، جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن حماية ورعاية الأطفال المتأثّرين بنزاع مسلّح.
كما جاء في المادة 39 من الاتفاقية ذاتها: تتّخذ الدول الأطراف كلّ التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة، أو التعذيب أو أي شكل آخر من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أو المنازعات المسلّحة. ويجري هذا التأهيل وإعادة الاندماج هذه في بيئة تعزز صحّة الطفل، واحترامه لذاته، وكرامته.
وتجدر الإشارة إلى البند 25 من الإعلان العالمي لبقاء الطفل وحمايته ونمائه الصادر في 30 أيلول/ سبتمبر عام 1990، الذي أكّد على ضرورة ضمان حقوق الطفل في ظل النزاعات المسلحة.

قانون العمل الدّولي.
إنّ الاتفاقية الأهم في قانون العمل الدولي لناحية حماية الأطفال في النزاعات المسلحة هي اتفاقية حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال.
حدّدت الاتفاقية 182، وللمرّة الأولى منذ قيام منظمة العمل، مفهوم “أسوأ أشكال عمل الأطفال”، فنصّت المادة الثالثة على التالي:
“يشمل تعبير “أسوأ أشكال عمل الأطفال” في مفهوم هذه الاتفاقية ما يلي:
֎ كافّة أشكال الرقّ أو الممارسات الشبيهة بالرِّق، كبيع الأطفال
والاتجار بهم وعبودية الدّين والقنانة والعمل القسري أو الإجباري، بما في ذلك التجنيد القسري أو الإجباري للأطفال لاستخدامهم في صراعات مسلحة.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لأغراض الدّعارة، أو لإنتاج
أعمال إباحية أو أداء عروض إباحية.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لمزاولة أنشطة غير مشروعة، ولا
سيّما إنتاج المخدِّرات بالشّكل الذي حُدِّدت فيه في المعاهدات الدّولية ذات الصّلة والاتجار بها.
֎ الأعمال التي يُرَجّح أن تؤدي، بفعل طبيعتها أو بفعل الظّروف التي
تزاوَل فيها، إلى الإضرار بصحة الأطفال أو سلامتهم أو سلوكهم الأخلاقي”.
إضافة إلى الحماية القانونية، لا بد من الحماية الاجتماعية، وهنا يأتي دور الدّولة والمؤسّسات الأهلية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام في:
֎ الالتفات للأطفال في زمن الحرب.
֎ توفير مساكن آمنة ومجهّزة للأطفال أثناء الحرب.
֎ إنشاء مراكز متخصّصة لتقديم برامج علاجية – نفسيّة خلال فترة الحرب وبعدها للأطفال.
֎ تأمين الغذاء اللازم والمساعدات الصحية.
֎ تأمين دورة إسعافات أولية لأهالي المناطق المعرضة للحرب.
وتلعب وسائل الإعلام دوراً مهمّاً في نقل الصّورة والوقائع بحذافيرها للمسؤولين في محاولة ما يمكن إنقاذه من أهالي وأطفال.
֎ يجب على الآباء والأمّهات الانتباه إلى ملاحظة الآثار النفسيّة السلبيّة التي سببتها الحرب لدى أبنائهم مثل الخوف والقلق والعُصاب والكوابيس والبكاء والتبول اللاإرادي، والمُسارعة إلى تقديم العلاج النّفسي اللازم لأبنائهم.‏
֎ تعزيز روح المواطنيّة وتعزيز روح التعاون.
يواجه الأهل تحدِّيات جمّة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إل معاملة خاصّة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها، بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمّهات من خلال برامج توعية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.

الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017
الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017

ودور الأيتام، وسمات الشيخوخة على وجوه أطفال أنهكهم الجوع وسوء التغذية في الدول الأكثر فقراً في العالم، حيث أنّ طفلاً من بين ستة أطفال حول العالم يموتون قبل سن الخامسة، ولا يزال آلاف الأطفال يشكّلون الحلقة الأضعف في بُنية المجتمع، فيفرض عليهم الحد الأقصى من الواجبات والعقوبات، مقابل الحد الأدنى من الحقوق والضمانات، ولا يزال الطّفل فيه عرضة لشتّى أنواع الضّغوطات والتوتّرات والانتهاكات النّاجمة عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتمييز الجنسي والعرقي وأحياناً الطائفي.

وكعيّنة لا أكثر من الإحصاءات الدّولية التي توضح أو تشرح الوضع المأساوي للأطفال نورد ما يلي:

إحصاءات دولية
֎ يعيش نحو 1.5 مليون طفل من ضحايا الحرب في رعاية الدولة في وسط أوروبا وشرقيها وحدهما.
֎ إنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة في المئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ لقد زادت في العقود الأخيرة نسبة الضحايا المدنيين في النزاعات المسلحة بصورة مثيرة، وأصبحت تُقدّر الآن بأكثر من 90 في المائة، ويمثّل الأطفال ما يقرب من نصف الضحايا.
֎ ويتعرض من ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف طفل كل عام للقتل بسبب الحروب والنزاعات.
֎ أُجبر ما يقدّر بنحو 20 مليون طفل على الفرار من ديارهم بسبب النّزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان، ويعيشون كلاجئين في بلدان مجاورة أو نزحوا داخليّاً، أي داخل حدودهم الوطنية، وإنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة بالمئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ أكثر من مليون طفل أصبحوا يتامى أو منفصلين عن ذويهم، وتعرّض ما لا يقل عن 6 ملايين طفل، للإعاقة الدائمة، أو لتقطيع الأطراف، بين عامي 1990و2000.
֎ ويُقَدّر عدد الأطفال الجنود بنحو 300 ألف، من البنين والبنات الأقل من 18 سنة، وهم متورّطون في أكثر من 50 نزاعا مسلّحاً على مستوى العالم ويستخدم الأطفال الجنود كمحاربين وكمراسلين وحمّالين وطباخين ولتقديم خدمات جنسية، ويتعرّض البعض منهم للتجنيد القسري أو الخطف، وآخرون يدفعهم الفقر وإساءة المعاملة والتمييز إلى الانضمام، أو السّعي للثأر بسبب العنف الذي تسلّط عليهم وعلى أسرهم.
֎ وتتعرّض الفتيات والنّساء إبّان النّزاعات المسلّحة لمخاطر الاغتصاب، والعنف المحلّي، والاستغلال الجنسي، والاتجار، والإذلال والتشويه الجنسي، وقد أصبح استخدام الاغتصاب وغيره من أشكال العنف ضدّ النساء استراتيجية في الحروب تستخدمها كل الأطراف.
֎ كشف عن استخدام الأطفال في التفجيرات من قبل منظّمات مسلّحة، وذلك للقيام بعمليات انتحارية على مراكز عسكرية محددة.
֎ كما تؤدّي النزاعات إلى تشتيت الأسر، الأمر الذي يضع مزيدا من الأعباء الاقتصادية والعاطفية على المرأة.
֎ يعيش أكثر من مليون طفل في الاحتجاز حيث تنتظر الأغلبيّة العظمى منهم محاكمات على جرائم صغرى، ويعاني العديد منهم الإهمال والعنف والأذى.
֎ وهناك مواقع أميركية، تقدم عرضاً لبيع أطفال الشوارع بمبلغ 27440 يورو للطفل الواحد

إحصاءات عربيّة
مع تصاعد وتيرة العنف ضدّ الأطفال في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، بات لا ينقضي يوم واحد دون أن نسمع عن مقتل أو استهداف طفل! بات الأطفال هم الهدف وهم الضّحية في الحروب البشعة، والمجازر الظالمة! وإن لم يُصَب هؤلاء الأطفال بأي مكروه جسدي، تصيبهم التداعيات النّفسية، وتؤثّر عليهم وعلى مستقبلهم وحياتهم على المدى الطويل.
حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة، هناك نحو 1 مليار طفل يعيشون في مناطق يتواجد فيها صراعات، ومنهم ما يقارب الـ 300 مليون طفل دون الخامسة من العمر!، وأوضحت منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو -UNESCO أنه في عام 2013، كان هناك نحو 28.5 مليون طفل خارج المدارس بسبب الصراعات الموجودة.
وقد أعلنت الممثّلة الخاصّة للأمين العام للأمم المتحدة المعنيّة بالأطفال والصراعات المسلحة بحسب إحصائية سابقة أنّ عدد الأطفال اللاجئين أو المشردين داخل سوريا وصل إلى (خمسة ملايين طفل)، وفي مصر يموت يوميًا (125) طفل بسبب التلوث وعدم الرّعاية الصحيّة، كما يوجد (5) مليون طفل عراقي محرومين من حقوقهم الأساسية ومعرّضين للانتهاكات الخطيرة لحقوق الطفل، كما أنّ نصيب الدّول العربية من عمالة الأطفال هو (10) مليون طفل، منهم (3 مليون) طفل في مصر وحدها، ويوجد في الدول العربية نحو (5 مليون) طفل غير ملتحقين بالتعليم الابتدائي, و(4 ملايين) مراهق تقريبًا غير ملتحقين بالتعليم الثانوي.
وفيما يلي تستعرض مُنظّمة “هيومن رايتس مونيتور” أوضاع الأطفال على مستوى العالم العربي كالآتي:

3- أطفال فلسطين
قالت القائمة بالأعمال بالإنابة لبعثة المراقبة الدائمة لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، نادية رشيد، إنّ أطفال فلسطين يتعرّضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال مع الإفلات التام من العقاب، ومنذ تشرين أول/ أكتوبر 2015، قتل أكثر من 40 طفلاً، قضى العديد منهم بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وذكرت أن الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال، في الأرض الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقيّة يعانون لما يقرب من نصف قرن تحت الاحتلال الإسرائيلي من انتهاك حقوقهم من قبل السلطة الإسرائيلية، القائمة بالاحتلال، مشدّدة على أنّه رغم من وجود أحكام لتوفير الحماية للمدنيين تحت الاحتلال الأجنبي وفقاً للقانون الدّولي، لا يزال الأطفال الفلسطينيون يتعرضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال.

1- أطفال سوريا.
حسب بيان لليونيسف قال “مارتن” الذي زار لبنان للقاء الأطفال اللاجئين الذين فرّوا من الحرب في سورية: «نحن في السنة السادسة من أزمة أثّرت على حياة الملايين من الأطفال وأسرهم. إنّ ما يقارب 2.8 مليون طفل سوري خارج مقاعد الدراسة في المنطقة، وقد التقيت أطفالاً باتوا المعيلين الوحيدين لعائلات بأكملها، يعملون لمدة 12 ساعة يوميّاً» مشدّداً على ضرورة أن يفعل العالم المزيد لحماية هؤلاء الأطفال من الاستغلال وتوفير الوصول إلى بيئة آمنة حيث يمكن لهم التعليم والتمكين.
ويتعرّض الأطفال النازحون لمخاطر الاستغلال وإساءة المعاملة، ولم يعد أمام أعداد كبيرة من الأطفال سوى خيار العمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، ويشار إلى أنّ نحو 1.1 مليون سوري لجأوا إلى لبنان منذ بداية الأزمة عام 2011، أكثر من نصفهم من الأطفال، كما فاقمت الحالة الاقتصادية المتدهورة للنازحين السوريّين بدرجة كبيرة من مشكلة عمالة الأطفال في لبنان، وبالإضافة إلى المعاناة النفسية التي تؤثر على عدد لا يستهان به من الأطفال الذين فرّوا من الحرب، هناك تحدٍّ مرتبط ببعض أسوأ أشكال عمالة الأطفال، مثل العمل في مواقع البناء التي يُمْكن أن تلحق بالأطفال أضرار نفسية وجسديّة طويلة الأمد.

2-أطفال اليمن
أفادت منظمة رعاية الأطفال السويديّة، بأنّ ما لا يقل عن ثلاثة أطفال يلقَوْن مصرعهم كلّ يوم في اليمن، كنتيجة مباشرة لاستخدام أشكال مختلفة من مخلّفات الحرب في القرى والبلدات والمدن.
فالحرب في اليمن لم تقتصر على المتصارعين السياسيين أو المحاربين فقط، بل كان للطفل اليمني النّصيب الوافر من مرارة هذه الحرب، حيث قُتل وجرح أكثر من “4005” أطفال في الوقت الذي اتُّهمت أغلب المنظمات الدولية والمحلّية الأطراف المشتركة في الحرب، بشن غارات جوية، على مواقع مدنيّة راح ضحيتَها غالبية قتلى الأطفال في اليمن.
في حين أظهرت التقارير أنَّ نحو 21988 طفل يُرْعَبون يوميًّا بسبب القصف، إلى جانب حرمان قرابة 3،4 مليون طفل من الذهاب إلى المدارس، و6،5 مليون طفل حُرِموا من التعليم لمدة ثمانية أشهر عام 2015، وقرابة نحو 10،5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية العاجلة، ومنذ العام 2016 ازدادت على نحو خطير تطوّرات الحرب اليمنيّة وازدادت حالات المرض والعوز والتهجير، وكان آخرها تعرض مئات آلاف اليمنيين لحالات الكوليرا، وكان الأطفال كالعادة الضحيّة الأولى.

طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب
طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب

ولفتت رشيد إلى ما ذكره تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الأطفال والنزاعات المسلحة، مع العديد من تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك المنظّمات الإسرائيلية، إن قوّات الاحتلال الإسرائيلي لجأت إلى الاستخدام المفرط للقوة والقتل غير القانوني، رغم أنّه لا توجد مؤشّرات على أن الأطفال الذين قُتلوا شكّلوا خطراً أو تهديداً لقوّات الاحتلال، كما أصيب أكثر من 2600 طفل، جرّاء استخدام إسرائيل للذخيرة الحية ضد الأطفال العزل، وأضافت أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير تمّ اعتقال واحتجاز عدد كبير من الأطفال من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفي القدس الشرقية المحتلة وحدها، اعتُقل 860 طفلاً فلسطينيّاً، بينهم 136 تتراوح أعمارهم بين 7 و 11 عاما، دون سنّ المسؤوليّة الجنائية ويتعرّض معظم الأطفال المحتجزين في السجون أو مراكز الاعتقال الإسرائيلية لأشكال مختلفة من التّعذيب النفسي والجسدي، إضافة إلى مواصلة المستوطنين أعمال العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال تحت حماية ومرأى من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وذكرت رشيد أنّه إضافة إلى الانتهاكات المذكورة، فإنّ إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، تواصل تدابير العقاب الجماعي ضد المدنيين في الأرض الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية، والتي أثّرت بشكل خطير على أطفالنا، وأبرزها ممارسة السلطة القائمة بالاحتلال عمليات هدم المنازل التي تركت مئات الأطفال وأسرهم بلا مأوى، والاعتداءات على المدارس والمستشفيات، رغم الحماية الخاصة المتوفّرة لها بموجب القانون الإنساني الدولي.
كما تطرقت إلى أوضاع الأطفال في قطاع غزّة والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي ضدهم على يد السلطة القائمة بالاحتلال، ومعاناتهم خلال ثلاثة حروب على غزّة في فترة ست سنوات مع آثارها النفسية الشديدة والمدمّرة عليهم، مشيرة إلى أنّ أكثر من 44 ألف طفل فلسطيني لا يزالون مشرّدين نتيجة تدمير السلطة القائمة بالاحتلال لمنازلهم في عدوانها على غزة عام 2014، كما تواصل إسرائيل حصارها غير القانوني لمدّة عشر سنوات والذي يشكل عقاباً جماعياً يصل إلى جريمة حرب، ومصدر انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، وأكّدت رشيد ضرورة أن تتوقف كل هذه الانتهاكات، ويجب ارغام إسرائيل على احترام القانون الدّولي ووقف جرائمها بحق أطفالنا، والشعب الفلسطيني بما في ذلك الأطفال، لا يمكن أن يبقوا الاستثناء من المسؤولية لحماية المدنيين من الفظائع والانتهاكات الصارخة للقانون فهم ليسوا مجرّد إحصاءات لكنّهم بشر يجري تحطيم حياتهم باستمرار من قبل المحتل، ويجب على المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن، تحمّل مسؤولياته وتقديم المساعدة والحماية اللازمة للأطفال الفلسطينيين ومحاسبة منتهكي القانون الدولي، لا سيّما القوانين التي تهدف إلى حماية حقوق الطفل.
وفي بيان له قال نادي الأسير الفلسطيني بتاريخ السبت 19 نوفمبر/ تشرين ثان 2016، إنّ نحو 350 طفلاً ما زالت إسرائيل تحتجزهم في سجونها، بين محكومين وموقوفين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، بينهم 12 فتاة قاصراً، جاء ذلك في تقرير للنادي بمناسبة اليوم العالمي للطفل الذي أقرّته الجمعية العامّة للأمم المتحدة والذي تحتفي به العديد من الدول 20 نوفمبر/تشرين ثان 2016، وذكر النادي أنّه وثّق أكثر من 2000 حالة اعتقال للأطفال منذ تاريخ “الهبّة الشعبية” في مطلع أكتوبر/تشرين أوّل 2015 كان أعلاها في القدس (لم يذكر العدد) ، قبل إطلاق سراحهم في وقت لاحق.

الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.
الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.

4- أطفال العراق
أمّا في العراق، فيقدّر أن 2,7 مليون طفل تأثَّروا بالصِّراع؛ حيث تعرّض أكثرُ من 700 طفل للإصابة والقتل وحتى الإعدام، وحذَّرَت منظمة الأمم المتّحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) من خطورة الأوضاع التي يَعيشها أطفال العراق؛ حيث يُعانون الحرمان من أبسط الحقوق التي يتمتَّع بها أقرانهم في الدول الأخرى، وذكرت المنظمة في تقرير لها أن أكثر من 360 ألف طفل يعانون من أمراض نفسية، وأن 50% من طلبة المدارس الابتدائية لا يرتادون مدارسهم، و40% منهم فقط يحصلون على مياه شرب نظيفة.
وفي جريمة سابقة – ولا تزال مستمرّة – ضد الأطفال ظهرَت فيها بشاعة المليشيات الطائفية ضدهم، أظهَر تحقيق صحفي نُشِر على 6 صفحات في كُبرَيات الصحف السويديَّة ووكالة الأخبار العالمية إكسبريس، وعرَضه التلفاز السويدي والذي تُرجم إلى أكثر من 12 لغة عالمية، قامت به الصحفيَّة السويدية (تيريس كرستينسون) وزميلها (توربيورن انديرسون) اللَّذين تخفَّيا ورَصَدا وجود سوق في وسط بغدادَ لبيع الأطفال الرضَّع والكبار، وعرَضا فيه بالصوت والصورة مَشاهد غاية في الفزع لأطفال عراقيين يُعرضون للبيع بمبالغَ لا تزيد عن 500 دولار، ويؤمّل أنْ يؤدي انتهاء الأعمال العسكرية في العراق إلى البدء بتصميم وتنفيذ خطة شاملة لإزالة آثار الحرب الطويلة عن أطفال العراق وإعادة دمجهم في النظام التعليمي العراقي.

طفلة سورية تنتظر العلاج
طفلة سورية تنتظر العلاج

5- أطفال السودان
تبذل منظمات المجتمع الأهلي في السودان، بالتعاون مع المنظمات الدولة المختصة، جهوداً كبيرة لوقف جريمة تجنيد الأطفال، والعمل على تسريح المجندين منهم، وإعادة دمجهم وتأهيلهم، والإفراج عن الأطفال المختطفين في مناطق النزاع، حيث ارتفع عددهم في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان إلى مئات الأطفال في السنوات الأربعة الماضية، وأبدى المجلس القومي لرعاية الطفولة بالسودان، قلقه من تجدد وتزايد ظاهرة اختطاف وتجنيد الأطفال من قبل الحركات المتمردة، بالمناطق الشرقية بولاية جنوب كردفان، وازداد معاناة الأطفال سوءاً بعد انفصال جنوب السودان واندلاع الحرب الأهلية داخل الإقليم الجنوبي حيث جرى على نطاق واسع خطف الأطفال وتجنيدهم في الأعمال القتالية أو الرديفة لها.
ولا تقلّ عمليات تشغيل الأطفال في أعمال تتّصل بدعم العمليات العسكرية خطورة عن المشاركة المباشرة في المعارك، مثل الحراسة في المواقع الخلفية أو نقل العتاد أو التجسّس، ولم تسلم الفتيات القاصرات من أفعال تنظيم (داعش وما يشبهه) في العراق وسورية وليبيا أخيراً، حيث قام التنظيم بسبيهن واستغلالهن جنسياً، وبالتالي هنّ يواجهن أيضاً مخاطر ربّما في بعض الحالات أشد من تلك التي يواجهها الذكور القاصرون.

6-أطفال تونس
في ظلّ تواصل ظاهرة تشغيل الأطفال دون عمر الـ14 سنة وتفاقمها في تونس، هذه الظاهرة التي تعدّ انتهاكاً لحقّ الطفل في الحماية وفي نمو طبيعي سواء على المستوى البدني أو الذهني كما تحرمه الحق في تربية سليمة ومتوازنة خاصّة في سنّ ما قبل المدرسة ممّا يؤثر سلباً على مستقبله، وتبعاً لتحقيق متعدّد المؤشّرات تمّ القيام به سنة 2011/2012 وشمل 9600 منزلاً في مختلف الجهات الكبرى في البلاد وتناولت الشريحة العمرية بين 5 و 14 سنة من ذكور وإناث، تبيّن أنّ النسبة الاجمالية للأطفال المعنيين بظاهرة التشغيل بلغت 3% تتوزع على 5% في المناطق الريفية و2% في مناطق العمران علماً أنّ هذه الظاهرة تشمل خاصّة الشريحة العمرية بين 5 و11 سنة كما تهمّ الفتيات باعتبار العمل كمعينات منزليّات.
يشار إلى أن برنامج مقاومة عمل الأطفال بدعم من مكتب العمل الدولي عمل على إنجاز دراسة حول المنظومة القانونية والمؤسساتية لمقاومة تشغيل الأطفال في تونس. بالإضافة إلى إنجاز دراسة ميدانية حول واقع استغلال الأطفال في العمل بالمنازل في محافظتي جندوبة وبنزرت، وإعداد دليل حول تشغيل الأطفال في تونس، كما ركّز على أوضاع الأسر والأطفال والمتدخّلين على المستوى المحلّي بمخاطر تشغيل الأطفال دون السنّ القانونيّة عن طريق نوادي الأطفال المتنقلة وذلك من خلال إنجاز برنامج مصغّر مع وزارة شؤون المرأة والأسرة لتحديد مناطق التدخّل وعدد النوادي المتنقّلة وعدد الأطفال المُهدّدين باستغلالهم في العمل وتفيد دراسات سابقة أنّ فتيات يتراوح سنّهن بين 12 و13 سنة يشتغلن معينات منزليّات تتهدّدهن أحكام سجنيّة لارتكابهنّ جنح وجرائم تصل حد القتل، كردّ فعل على تعرضهن لمعاملات سيئة حيث يعملن، وأكّد مندوبو حماية الطفولة بتونس على أنّ عدد الأطفال الذين تتكفّل بهم مندوبات حماية الطفولة لا يعكس حقيقة الأوضاع باعتبار أنّ الأرقام الصحيحة أكبر من المعلنة بكثير بسبب غياب المعطيات الخاصة بذلك، كما نبّهوا إلى أنّ غياب أرقام ودراسات معمقة وحقيقية حول تشغيل الأطفال في تونس ساعد على استفحال هذه الظاهرة وتنامي انتهاك حقوق الطفل. وشددوا على أهمية الدّور الموكول إلى المؤسسات التربوية وضرورة مراجعة الزمن المدرسي واحترام حقوق الطّفل التي نصّ عليها الدستور التونسي الجديد، ودعَوْا بالخصوص إلى إحداث هيئة دستورية مستقلة تتكفّل بمتابعة تطبيق حقوق الطفل في تونس.

من ضحايا المعارك
من ضحايا المعارك

7- أطفال مصر
إنّ عدد الأطفال المعتقلين منذ أحداث 30 يونيو 2013 وحتى نهاية أيار/ مايو 2015، ممّن هم تحت سن 18عاماً؛ وصل إلى 3200، ما زال 800 منهم معتقلين “، مؤكّداً “تعرّض معظمهم للتّعذيب، والضّرب المبرح، والحرمان من أبسط الحقوق”، وذلك بحسب مسؤول الملف المصري بمؤسّسة الكرامة لحقوق الإنسان – ومقرّها جنيف بسويسرا- أحمد مفرح، والذي أضاف أنّ “وزارة الداخلية هي المسؤولة عن أماكن احتجاز الأطفال في مصر”، مشيراً إلى أنّ ذلك يُعدّ “مخالفة لقانون الطفل، الذي يجعل وزارة التضامن الاجتماعي هي المنوط بها تسيير وإدارة شؤون الأطفال المحتَجزين في أماكن خاصة بهم.
وأشار مفرح إلى الانتهاكات التي تحدث في معسكر الأمن المركزي في مدينة بَنْها، جنوب القاهرة “الذي يتمّ التعامل فيه باعتباره مكاناً لاحتجاز الأطفال” مقدّراً عدد الأطفال المحتجزين فيه “بأكثر من 300 طفل، يتمّ منع الزيارة عنهم، ومعاملتهم معاملة سيئة؛ تصل إلى حدّ التعذيب البدني، والعنف الجنسي”، في حين أكّد المحامي في المؤسّسة المصرية لأوضاع الطفولة، والائتلاف المصري لحقوق الطفل، “فادي وجدي”، أنّ الاتّهامات الموجّهة للأطفال المعتقلين “هي مجموعة من الاتّهامات الكيدية، فهي تتلخص في قطع الطرق، والانضمام إلى جماعة محظورة، والتعدّي على قوّات الأمن، واستخدام القوة والعنف، وهي بالقطع لا تتناسب مع بنية الأطفال الذين هم تحت سن 18 سنة”.
وقد كشف تقرير تحليلي للمضمون الصحفي خلال شهر يوليو 2016، والذي أصدرته المؤسّسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة حول انتهاكات حقوق الطفل، عن ارتفاع معدلات انتهاك حقوق الطفل بمصر لأقصى معدل لها خلال 2016 حيث وصلت إلى 496 حالة تم انتهاك حقوقها، بلغ عدد الأطفال المُنتَهكين في شهر يوليو من عام 2016 إلى 496 طفلا في 267 قضية تم تداولها إعلامياً من خلال الصحف والجرائد الحكومية وغير الحكومية، وتتراوح تلك الانتهاكات بين القتل والاختطاف والاغتصاب والغرق وغيرها الكثير، وكانت نسبة الإناث من تلك الانتهاكات 31% بينما نسبة الذكور 58% و11 % للأطفال لم يتم ذكر نوعهم.

خاتمة
لا تزال نتائج وتداعيات الحرب الأهليّة اللبنانيّة السابقة، والاعتداءات الاسرائيلية، ماثلة وأحياناً تتفاعل، ومن دون معالجات جديّة للتّداعيات تلك ومنها:
فبحسب إحدى الدوريات اللبنانية، يوجد في أوروبا وأميركا، ما بين ثلاثة وأربعة آلاف طفل لبناني متبنّى (وبعضها الآخر يذهب إلى أنّهم أكثر من ذلك بكثير) كبروا وترعرعوا هناك، حتّى أنّه تمّ تأليف رابطة سُمّيت “لبنانيون متبنّون”، هدفها أنّ يبحث هؤلاء الأطفال عن أهلهم الأصليين في لبنان وتشير بعض الصّحف إلى أنّ معظمهم أطفال غير شرعيين.
عشرات الأطفال قتلوا أثناء حرب تموز عام 2006، بينهم 27 جثة انتُشلت من مبنى واحد في مجزرة قانا الثانية، و1183 شهيداً منهم 30% أطفال دون 12 سنة، و4055 جريحاً، و913000 مهاجر، بالإضافة إلى هدم عدد كبير من المدارس والجسور.
كما خلّفت إسرائيل عشرات ألاف الألغام في الجنوب والتي أودت بحياة عشرات الأطفال، فضلاً عن حالات التشويه والإعاقة. (95% من المدنيين ماتوا في الحرب بسبب القنابل العنقودية بينهم 40% أطفال دون الثامنة عشرة من العمر) وذلك حسب إحصاءات الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
إنّ ظاهرة تهميش الأطفال أو حتى استعبادهم أصبحت ظاهرة اجتماعية، وتتفاقم يوماً بعد يوم، وتزيد وتيرتها أثناء الحروب والنّزاعات، وهي تشكّل خطراً على مستقبل المجتمعات لذا، يجب دراستها بعمق، وإحصاء أعداد الأطفال المهمّشين والمعرضين للتهميش بدقة، ومعالجة الأسباب التي جعلت هؤلاء الأطفال مهمّشين، ووضع الحلول المناسبة لكل عينة ولكل حالة على حدة.

النَّفسُ في مُحاورة «فايدروس» الأفلاطونية عَربَةٌ تُحلِّق بالحكمة والفضيلة إلى الملأ الأعلى

لَطالما كانت النّفسُ البشريّة مِحورَ كلّ فكرٍ فلسفيّ توّاق إلى استجلاء حقائق الوجود وعظمة خلق الإنسان، ولَطالما حيَّرَت العقول وباتت معرفةُ حقيقتها مفتاحاً لمغاليق المعرفة بجميع نواحيها، كما يختصرها قول سقراط “إعْرَفْ نفْسَك”. وفيما يتناول الباحثون محاورة “فايدروس” (Phaedrus) الأفلاطونية على الأغلب من خلال معالجتها لمفهومَيِّ “الحُبّ” (Eros: ἔρως) و”الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فضلاً عن نقد أساليب الفنّ والخطابة المفتقدة للحكمة، فإنّ مفهومَ “النّفْس” (psyche: ψυχή) كما صوَّره أفلاطون في قِصّته الرمزية عن “عَربَة النّفس”، هو لا ريب المَنْهلُ الرئيسي لكلّ النظريات الفلسفية والسيكولوجية حول النفس البشرية، وسُبُل تطهُّرها، ورُقيِّها، وتحقُّقها الصوفي الرُّوحاني (Henosis: ἕνωσις)، فضلاً عن كونه يُمثِّل العقلانية والبُعد الأخلاقي لدى أفلاطون و”الحماسة” في انتهاج الحياة الرُّوحية الدينيّة بكلّ حكمة واتّزان، بعيداً عن أيّ انغماسٍ مادي حِسّي وشهويّ، أو اندفاعٍ عاطفي غضبي.
كتبَ أفلاطون محاورة “فايدروس” بعد محاورتَي “الجمهوريّة” (The Republic) و”المأدُبة” (Symposium) كما يتبدّى بوضوح من الاقتباسات الواردة فيها، فيما تُحدِّدُ الخاتمةُ المنطقيّة (Epilogue) للمحاورة على لسان سقراط الصّلةَ في ما بين محاورة “فايدروس” والمحاورات التي تلتها لاحقاً، على غرار “بارمينيدس” (Parmenides)، و”السفسطائي” (Sophist)، و”السياسي” (Statesman)، و”فيليبوس” (Philebus).
يرافق الفيلسوفُ سقراط في مستهلّ المحاورة الشابَّ الأثينيَّ فايدروس إلى وادٍ خلّاب خارج أثينا، يُبدِعُ أفلاطون في وصفه، ومستهِلّا حواراً حول فن الخطابة وما قاله الخطيب الشهير ليسياس (Lysias) عن مفهوم “الحُبّ” (Eros: ἔρως) ومن ثمّ “الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فيؤكّد سقراط أنّ هذا الخطيب يفتقد إلى الحكمة وأنّ الحُبّ، خلافاً لمفهوم ليسياس السّلبي، هو “نعمة إلهية” ترقى بالمُحِبّ إلى الخير الأسمى وإلى التّحقُّق الصوفي الرُّوحاني، ويُعِينُ النفسَ على تذكُّر الجمال العُلوي والسُّمو إليه من جديد، وهو ما يُدرِكهُ حقّاً كلُّ مُحِبٍّ للحكمة.

الحُبّ والجمال وارتقاء النفس وسقوطها
من ثمّ يستعرض أفلاطون على لسان سقراط أبعادَ مفهوم الحُبّ الفلسفي أو “الحُبّ عند الفيلسوف” بكونه، بمنأى عن الحُبّ الجسدي، قوّةً تحثُّ على حُبّ الحكمة، أي الفلسفة، هذه القوّة التي ربّما تدفع الفيلسوف إلى مغادرة “ظُلمة الكهف” كما ورد في محاورته “الجمهورية”، تَحَرُّراً وانطلاقاً نحو النور. وبموازاة مفهوم الحُبّ، يتحدّث أفلاطون على لسان سقراط عن مفهوم “الجَمَال” (κάλλος) (وتجمع الكلمة في اليونانية ما بين الخير والجمال وهو ما يُشدِّد عليه سقراط دائماً)، تلك القوّة التي تدفعنا للرُّقي إلى الملأ الأعلى وتجعل النفوس تعود تَوْقاً إلى مصدرها بطاقة الحُبّ، فهذا الجمال إنّما يحثُّ على الفضيلة، شأنُه في الإغراء على الرذيلة، وهنا تعيش النّفس البشريّة صراعاً ما بين الجمال والحُبّ العُلوي الطاهِرَين، وحُبّ الجمال الجسدي المادّي السّفلي، ما بين ذلك الطابع المقدَّس اللطيف العُلوي، وتلك الطّبيعة المادية الكثيفة الدنيا.
وفيما يَحْسُن بذي الحكمة أن يتفادى الجَمَال الجسدي لتحقيق السَّكِينة في النفس والاقتراب من الفضيلة، فإنّ الفيلسوف برؤيته للجَمَال بحقيقته العُلوية المقدَّسة ما فوق الجَمَال الأرضي الحِسّي إنّما يُحلِّق بأجنحة فضيلته وحكمته فوق المُتَع الحِسّية على هذه الأرض نحو الملأ الأعلى حيث الحقائق الحِكميّة الإلهية، بانجذابٍ مقدّسٍ فوق عالم الحِسّ والشهوة والمادّة، فينصرفُ عمّا يهيم به الناس ويرنو بناظرَيه إلى ما هو إلهي قُدُسِي.
وفي ظل هذا الصراع ما بين الحكمة والفضيلة والشهوة والغضب، يبسط أفلاطون رؤيته لـ “الطبيعة الثُّلاثية للنفس” (Tripartite psyche)، بلغة مَجازيّة في القصة الرمزيّة عن “عربة النفس”، حيث تتبدّى جميع روائعه الحِكْميّة والفلسفيّة من المُثل العُليا والمعرفة والفضيلة إلى مفهوم الخير والشر في سياق نظريته هذه عن النفس التي تتميّز بها محاورة “فايدروس”.

نَظريّة النّفس لدى أفلاطون
قبل التطرُّق إلى الطبيعة الثّلاثية للنفس البشريّة، لا بُدّ من أن نُلقي الضوء بِتمعُّن على مفهوم النفس عند أفلاطون. فالباحث والفيلسوف الأنغلو-كندي روبرت كليندون لودج(1) (Rupert Clendon Lodge) يرى أنّ “النّفس” و”الفكر العقلاني” يتماثلان لدى أفلاطون في جميع النواحي، أمّا الباحث الاسكتلندي الكلاسيكي ويليام غوثرييه(2) (William Guthrie) فيرى من جهته أنّ أفلاطون يستخدم كلمة النفس لكي تعني تلك القوة التي تقوم بجميع الوظائف الحيوية مثل التغذية والحِسّ والفكر، من خلال واسطة الجسد، وأنّ مصطلح “النفس” يعني أيضاً لديه العقلَ أو الذكاء أو تلك القوة التي تبثّ الحياة في الجسم. وهنا ترى الباحثة الأميركية إيدث هاملتون(3) (Edith Hamilton) في دراسة مشتركة مع الباحث الأميركي هنتنغتون كايرنز(4) (Huntington Cairns) أنّ كلمة “النفس” لدى أفلاطون أفضل ما تُفسَّر اعتماداً على سياق المحاورات، فهي تعني المنطق والعقل والذكاء وكذلك الحياة والمبدأ الحيوي في الإنسان وفي كلِّ كائنٍ حَي، وهو التفسير الأقرب إلى فكرة النفس البعيدة الغور كما تَرِدُ في جميع المحاورات الأفلاطونية.
ففي محاورة “تيماوس” (Timaeus) وكذلك محاورة “ثياتيتوس” (Theaetetus) يعتبر أفلاطون أنّ العقل هو مَنْ يُدرِك المُثُل العليا والصُّوَر الهيولانية، أمّا في محاورة “فيليبوس” فيرى أنّ تلك المُثُل يستوعبها العقل والذكاء والفكر معاً، ونصل إلى محاورة “فيدون” (Phaedo) فنرى أنّ المُثُل العليا تُدرِكها النفس؛ لذا فإنّ العقل والفكر والمنطق والذكاء هي بالنسبة إلى أفلاطون يُشار إليها معاً بتسمية “نوس” (nous: νόος)، وهو أرقى قوة من قِوى النفس. ويشير في أحد مقاطع تلك المحاروة إلى أنّ النفس تنطوي على “مشاعر المحبّة والرغبات والمخاوف وجميع أنواع الأحاسيس”، وهي سِماتٌ تُعتبر عواطف وجدانية. لذا فإنّه وفقاً لأفلاطون لا تشتمل النفس على الذكاء والمنطق والعقل والفكر فحسب، بل أيضاً على العواطف.
وهو ما يتبدَّى بوضوح في محاورته “القوانين” (Laws) حيث يرى أفلاطون أنّ النفس تنطوي على “الأماني والتبصُّر والمشورة والحُكْم … واللذّة والألم والأمل والخوف والكراهية والمحبّة …”. فالأولى هي نشاطاتٌ للعقل والأخيرة هي نشاطاتٌ للجسد، بما لها من صلة بالعواطف والرغبات. هذه الثنائية في مفهوم طبائع النفس لدى أفلاطون تتبدَّى بتفصيلٍ في الكتاب الرابع من محاورة “الجمهورية”، حيث يُقسِّم النفس إلى مستويين منفصلين: “النفس العُليا” و”النفس الدُّنيا”، المنطق والعقلانية، يكمنان بحسب أفلاطون في “النفس العُليا”، أمّا الشَّهَوات والرَّغبات فتكمنُ في “النفس الدُّنيا”، وإضافةً إلى ذلك، يرى أنّ النّفس تشتمل على الشّغَف، وهو أحياناً يصطّفُ إلى جانب العقل وأحياناً أخرى ينجرفُ مع الرغبة.

إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس
إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس

العقل: القوّة الأرقى والأقدس
بما أنّ المُثُل العليا تُدْرَك عبر العقل والفكر والمنطق والذكاء، فهذا لا يعني أنّ أفلاطون يرى أنّ النفس بكلّيتها تُدرِك المُثُل العليا، بل إنّ المُثُل تُدرَك فقط من خلال العقل، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قُوى النفس، وهذا ما يتبدَّى بوضوح في العديد من محاوراته، ففي محاورة “الدفاع” (Apology)، وكذلك في محاورة “فايدروس” موضوع هذه المقالة، يرى أفلاطون أنّ العقل الأرقى “نوس” هو ذلك الجزء الخالد من النفس، أي ذلك الجزء الذي يربط الإنسان بالمقدَّس العُلوي الإلهي. ويتحدَّث أفلاطون عن الأمر ذاته بمصطلحاتٍ أكثر تعقيداً في محاورة “السفسطائي” بقوله إنّ التفكُّر أو التبَصُّر من خلال النفس يصلنا بالوجود الحقيقي، وفي محاورة “المأدُبة” وكذلك في محاورة “الجمهورية” يصفُ أفلاطون الإدراك المعرفي للمُثُل العليا بكونه تذكُّراً، تماماً كما في محاورة “مينون” (Meno)، وأنّها تُدرَك أيضاً من خلال تجربة “الرؤية”، وبحسب وصف أفلاطون لنشاطات ووظائف النفس نرى أنّها ثنائية في طبيعيّتها، فالعقل الأرقى “نوس” هو الجزء المُتَحَكِّم، في حين أنّ العاطفة والرغبة هما المُتَحَكَّم بهما. فالجسد بحسب أفلاطون كما في “الجمهورية” ينتمي إلى عالم الشهادة والتغيُّر، في حين أنّ النفس تنتمي إلى العالم المُدْرَك بالعقل غير المرئي واللّامُتغيِّر. إذاً، فإنّ النفس تنتمي إلى الفئة ذاتها التي تنتمي إليها المُثُل العُليا، وهي كرابطٍ ما بين العالمَين المادي والعقلي.
ففي محاورة “فيدون”، يُلمِّح أفلاطون إلى أنّ تَعَلُّق “الدُّنيا” بلذّات “متغيِّرات الجسد” إنّما “يُلوِّث” النفس بأكملها، ويرى في هذا الصدد أنّ هناك مُتَعاً حقيقية” و”مُتَعاً زائفة”. فتلك الحقيقية هي التي تجعل الإنسان أقرب إلى العالم العُلوي، على غرار مُتَع العلم والمعرفة، وذلك من خلال السيادة على النفس. أمّا المُتَع الزائفة فهي ما يتصل بالعاطفة والشهوة والرغبة على نحو غير مُتَحَكَّم به كما ورد في محاورة “فيليبوس”؛ لذا، فإنّ أفلاطون يؤكد أنّ النفس من خلال التحكُّم والسيادة على الذات، أو تقاعسها عن ذلك، تختار بأنّ تكون إمّا خَيِّرة وإمّا شريرة، “فكما يرغب الإنسان يميل … ويكون”، حسبما قال في محاورة “القوانين”.

نظريّة الخير والشّر
يمكننا بذلك أن نرى أنّ نظرية النفس لدى أفلاطون تتّصل بنظريّته عن الخير والشر، فبحسب نظرته هذه فإنّه إذا ما وصلت “النفس العُليا” (نوس) إلى إدراك المُثُل العُليا الروحانية، فإنّ النفس بكلّيتها ستكتسب المعرفة ومن ثمّ الخير، لكنْ إذا ما ركّزت النفس اهتمامها على العالم المادي المرئي والمتغيِّر، فإنّها ستطغى عليها الشهوات والعواطف والرغبات بغية الحصول على المتعة الزائلة، أي بعبارةٍ أخرى، إذا ما سيطرت على النفس طبيعتها الدُّنيا، فما من فرصةٍ أمامها لكي تُدرِك الحقائق العُليا والخير، وبالتالي لن تُحرِز المعرفة الحقة أبداً، وهنا نلجأ إلى ما أوضحه أفلاطون في محاورة “فايدروس” في قصة “العربة” الرّمزيّة.

عربة النفس
نعود بذلك إلى محاورة “فايدروس” وقصة “عرَبَة النفس” الرّمزية موضوع هذه الدراسة، حيث يُصوِّر أفلاطون قُوى النفس رمزيّاً في قصة “الحوذي والجوادَين المُجنَّحَين”، إذ تعمل هذه القِوى معاً إمّا تناغماً وإمّا تنافراً على طريق الفضيلة أو الرذيلة. وهنا تتألّف النفس من ثلاث قُوى: العقلية، والغضبيّة، والشهويّة. فالعقلُ، أي الجزء العقلاني من النفس، هو حاكم النفس تماماً كما هو الحوذي حاكم العربة، أمّا الجزء الشَّهَوي من النفس فهو أشبه بالجواد الأسود الذي يتمرّد على العقل وتحكُّمه. وبالنسبة إلى الجزء العاطفي أو الشّغفي والغضبي فهو أشبه بالجواد الأبيض، الذي هو ضائعٌ ما بين شهوة الجواد الأسود وحِكْمة الحوذي، فيتّبع الأول تارةً ومن ثم الآخر طوراً، لكن كِلا القوّتَين العاطفيّة والشهويّة يحكمهما العقل (نوس)، تماماً كما يتحكّم الحوذي بالجوادَين.
ويصف أفلاطون الجواد الأسود بلغةٍ رمزيّة بأنّه “حيوانٌ ثقيل مُراوِغ، لونه أسود وعيناه رماديّتان، وممسوخٌ وعنيد، وثقيل الطبع، ودمويّ المزاج، وقرين الاغترار والزهو، وقلّما يستجيب للضرب بالسَّوط والوخز”. أمّا الجواد الأبيض فهو “نبيلٌ ومطواع وعيناه سوداوان، ومُحِبٌّ للمجد باعتدالٍ ولا حاجة لاستخدام السَّوط معه بل يكتفي بالكلمة والزجر”. ويقود الحوذي العربة مُتحكِّماً بالجوادَين بكلّ قوة وفعالية، ووجهته صِراطُ الجنَّة السماوية حيث ما أنْ تصل العربة بنجاحٍ، تُبصِر تلك المُثُل العُليا وجوهر الأشياء في حقيقيتها، كالجَمَال والحكمة والخير والعدل والحق والفضيلة والشجاعة والمعرفة المطلقة، فتُحلِّق عربة النفس بجوادَيها المجنَّحَين تحقُّقاً في تلك العوالم العُلويّة.
وجوادا هذه العربة في صراعٍ دائمٍ، فالجواد الأسود يسعى دائماً إلى جذب العربة إلى الأسفل نحو الأرض، في حين أنّ الجواد الأبيض يرتقي بها صعوداً إلى الملأ الأعلى، وبين هذا وذاك يسعى الحوذي إلى ضبطهما والمواءمة بين تحليقهما. وتأخذ العربة في الصعود والنزول بحسب قوّة جذبٍ كلٍّ من هذَين الجوادَين، فتارةً يجذبها ثقلُ المادة الأرضية استجابةً لمعاندة الجواد الأسود، وطوراً ترتقي نحو مشارف عالم المُثُل الرُّوحانية العُلوية فتلتقط ومضاتٍ من ذلك العالم الماورائي تكون ذخيرةً لها قبل أن تعود العربة وتهبط تثاقلاً. وإذا ما كانت قوة الجواد الأسود أقوى، يتصادم الجوادان فتهوَى العربة إلى الأرض وتتكسَّر الأجنحة وتصبح النفس أسيرةً للجسد المادي كلّياً.
ودرجة هذه السقوط تُحدِّد أيضاً كم يستغرق من الوقت للجوادَين لكي تنمو أجنحتهما مجدّداً ويتمكّنا من الطيران، فبقدر ما يلمَح الحوذي من تلك الحقائق بقدر ما تكون سقطته أقلّ تأثيراً، وأسهل ما يكون عليه أن يستجمع قواه وينطلق من جديد. وتتسنَّى إعادة نموّ الأجنحة بخُلُق النّفس الكريمة ومصادفتها لأُناسٍ واختبارها تجارب تُعيد لها تلك اللَّمَحَات العُلوية، فتستعيد ذكريات الحقائق التي شاهدتها، وهو ما يُعزِّز عودة النفس إلى عالمها العُلوي. وتفسير رمزيّة عربة النفس لدى أفلاطون يأتي على مستوياتٍ عديدة، جميعها يُفضِي إلى الارتقاء بالنفس نحو الصفاء الرُّوحي، وتحقيق الكمال الأخص بكل إنسان.

تناغُم قِوى النفس
فلنكشُف وشاح الرّمزية عن القصة قليلاً: الحوذي يُمثِّل عقل المرء، والجواد الأسود شهواته ورغباته الحسية، والجواد الأبيض قوته الغضبيّة والعاطفية. فالحوذي مُحِبّ للحكمة، والجواد الأسود مُحِبّ للكسب والطّمع والملذات وتلبية الشهوة، أمّا الجواد الأبيض فهو مُحِبّ للمجد والعُلى. ولكلّ قوة من قِوى النفس حوافزها، فالعقل يسعى إلى الحقيقة والمعرفة، والشهوات تنشدُ إشباعها بالحِسّ والمادة، أمّا القوة الغضبيّة فتسعى إلى المجد والشرف وفرض الاعتراف.
والجواد الأسود لا يسهُل تطويعه وترويضه واستخدامه، وذلك إنّما يتطلّب اعتدالاً في كلّ شيء، أو على حدّ قول أرسطو ذلك الوسط الذهبي بين طرفين، فالحياة المكرَّسة كُلِّياً لإرضاء ملذّات وشهوات الجسد إنّما تجعل الإنسان لا يختلف عن البهائم، ويُجادل أفلاطون بأنّ نتيجة الخضوع لشهوات النفس هي “عبوديّة قاسية للجزء الأقدس من الذات لذلك الجزء الأدنى والأدنس”، وأيُّ إنسانٍ يخضع لذلك إنّما يصبح تعيساً شقيّاً.
نعم، إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس، وإنّ السماح للجواد الأسود بالهيمنة واستعباد النفس إنّما يقود إلى حياةٍ وضيعة ومُتّسِمة بالرّذيلة والشرّ بعيدة عن الخير والعدل والحقّ و”الفضيلة الأخلاقية” (arête: ἀρετή) و”سعادة المعرفة الحقّة” (eudaimonia: εὐδαιμονία)، ومع ذلك يُجادَل بأنّ الجواد الأسود إذا ما تمّ ترويضه على نحو ملائم فإنّما يُشكِّل طاقةً كافية لمعاونة الجواد الأبيض على التّحليق بالعربة عالياً بتناغمٍ فيما بينهما، وذلك بسيطرة الحوذي عليهما وموازنة قوتهما وتوجيه طاقتهما بطريقةٍ إيجابيّة.
وإذا ما تسنّى ترويض واستخدام كلّ قوةٍ من قوى النفس كما ينبغي وعلى نحو ملائم فإنّ الإنسان يرقى إلى تحقيق فضيلته وكماله الأخص، فالهدف الأسمى للحوذي، أي العقل، هو أن يضع أرقى الأهداف ومن ثمّ تدريب جوادَيِّ عربة النّفس على العمل سويّةً لتحقيقها، وعليه أن يتّسِم برؤيةٍ وهدفٍ واضحَين ويعلم إلى أين يتّجه ويتفهَّم طبيعة ورغبات هذَين الجوادَين للسيطرة عليهما على نحو متوازن، وألاَّ يكن خادماً لأهواء أيٍّ منهما، فكلّ جوادٍ له نقاط قوته ومكامن ضعفه، فالجواد الأبيض أيضاً يمكن أن يقود المرء في المسار الخاطئ كشأن الجواد الأسود تماماً، إذا ما جَنَح وتخطَّى انقياده للعقل، لكن إذا ما كان مطواعاً فإنّ هذه القوّة الغضبيّة المحمودة (thumos) الموجِّهة للنفس في الطريق الصحيح تصبح حليفةً للحوذي على طريق العدالة والفضيلة والحقيقة، ومعاً يُروِّضان الجواد الأسود ويُبقيانه على المسار الصحيح. فالحوذي الماهر المتبصِّر لا يدع مجالاً لتصادم الجوادَين بل يُحقِّق التناغم في ما بينهما تحت سلطانه ويضبط قواهما المتجاذبة وينطلق بهما إلى تحقيق تلك الأهداف السامية.
وبعد تحقيق تناغم النفس تَتَسهَّل جميع مهمّات الحياة، بحسب أفلاطون، الذي يقول إنّ المرء بعدما يُحرِز تلك السيادة على الذات، وذلك النظام البديع في ذاته، وبعدما يُحقِّق التناغم بين تلك القُوى الثلاث، وهي العُليا والدُّنيا والوسطى، وكلّ ما وقع في ما بينها، وبعدما يجمع فيما بينها في وحدةٍ، وتحكُّمٍ بالذات، يتّجه بنفسه نحو الفضيلة والتحقُّق الرُّوحي، وهو ما ينبغي أن يكون الهمّ الأول لكلٍّ مِنّا، وألّا تعلو عليه أيّةُ مشاغلَ دنيويّةٍ أخرى، وأن يكتسب المرء القدرة والمعرفة على التّمييز بين ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وما يُفضِي إلى تحقيق الهدف الأسمى للنفس.

الرمزيّة في تصوير قُوى النفس
تُمثِّل هذه القصة الرمزيّة جزءاً مهمّاً جداً من التقليد الرُّوحي والفلسفي في بلاد الإغريق والعالم ككلّ، فالهدف الرئيسيّ الذي يبتغيه أفلاطون هو ارتقاء النّفس إلى العوالم المقدَّسة. وقد سعى عالِم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) عبثاً في نظريّته البُنيويّة المتشابِكة بالعُقَد والمُغرقة بالماديّة والحِسّية، إلى محاكاة هذه الطبيعة الثلاثيّة للنفس البشرية ولكن على نحو مشوَّه لا يرقى إلى الفكر النبيل لأفلاطون فتحدَّث عن “الأنا” (ego) و”الهو” (id) و”الأنا العُليا” (super ego) بغاية حسية جنسانية واجتماعيّة في حين أنّ أفلاطون في قصّة عربة النفس يرمز إلى الحياة الرُّوحيّة والفلسفية للنفس متفوّقاً على تفسير فرويد المادي والحِسّي المحدود الخالي من أيّة حكمة أو قيمة إنسانية. إنّ أفلاطون يُشدِّد في رمزيّته على التَّوق الديني الباطني داخل النفس البشرية، وحينما يستخدم الأسطورة، فإنّما يسعى إلى إثبات حقائق روحيّة وفلسفيّة سامية.
ولكي نُفسِّر مغزى أفلاطون لا بُدّ من أن نغوص عميقاً في ما يتعدّى المعنى الحرفي، فهو ليس كاتباً عاديّاً ولا عبقرياً عادياً، بل إنّ عمق تفكيره العقلاني مذهلٌ ومتفرِّد، فهو لا ريب كان يُدرِك مدى أهميّة رسالته، وكم كان توّاقاً لمشاركة معرفته لأجل صالح البشرية جمعاء. ولأجل هذا الغرض درس جميع العقائد القديمة ومن ثمّ كتبَ لكلّ الأجيال المقبلة في جميع محاوراته وأعماله.
لا بدّ من تفسير هذه القِصّة الرّمزية على الصعيدَين السيكولوجي والديني الرُّوحاني. وهذان التفسيران مترابطان. ونجد هذا التقسيم الثلاثي لقُوى النفس في جمهورية أفلاطون أيضاً، حيث يُدعَى جانب الجواد الأسود من النفس في الفكر الأفلاطوني “إيبثوميتكون” (epithumetikon) وهي كلمة ترمز إلى الشهوات. أمّا الحوذي وهو بحسب أفلاطون مرتبطٌ بالعقل والمنطق فيُدعَى “لوجيستيكون” (logistikon)، وهي تسمية مشتقّة من الكلمة الإغريقية التي تشير إلى العقل “لوغوس”. وبالنسبة إلى الجواد الأبيض فيُرمَز إليه بمصطلح “ثموس” (thumos) وهو يختصر المحبة والشجاعة والبطولة والقوة الغضبيّة المحمودة، كما أشرنا سابقاً.
ولا ريب أنّ أفلاطون استقى فِكْرةَ هذه العربةِ الروحية من الفكر الفيثاغوري، الذي بدوره نقلها عن فكرٍ هِرْمسي عريق في مصرَ حول “مركبة الرّوح”، فَمِن بين الآيات الذهبية لفيثاغورس قولُه أن “نُبقي عربةَ أنفسِنا موجَّهّةً بإلهامٍ يأتي من فوق، ذلك الذي يُحكِمُ السيطرةَ عليها”. واستلهاماً لتعاليم أفلاطون وفيثاغورس وهرمس الروحيّة الصوفيّة هذه، هلَّ أتحنا لحوذي عربة النفس بأن يضبطَ عنانَ جوادَيْها الأبيض والأسود ويحلّق بهما في سَمَوات المعرفة والفضيلة لتحقيق الغاية التي لأجلها خُلِقَتْ هذه النفس؟

2018