تعرّض الإسلام، في صورته الظاهرة، في السنوات القليلة الماضية إلى سوء فَهم شديد هبّت رياحُه من مصدرين أساسيّين:
1- التشويه العنصري (الاستعلائي) الذي صدر بغير وسيلة وصورة من بضعة مراكز غربية إعلامية بحقّ الإسلام والمسلمين – بغضِّ النظر عن مدى تمثيل تلك المراكز المتجنّية المُتحاملة على الإسلام لروح الثقافة الغربية التي لا ينكر أهميتها غير المتعصب والجاهل – وكانت ذروة التشويه ذاك؛ الطريقة المقيتة المُنَفّرة التي أبرز بها بعض الإعلام الغربي رسوم الكاريكاتير المسيئة التي تناولت النبي محمّد (عليه الصلاة والسلام)، وردود الأفعال الغاضبة التي تلت ذلك.
2- الطريقة الانفعالية التي ردّ بها بعض المسلمين على التشويه العنصري أعلاه. فقد تحوّلت بعض ردود الأفعال تلك، وبخاصة ما اتّصل منها بإراقة بعض الشبّان اليائسين المهاجرين إلى أوروبا للدماء وقطع الرؤوس ومهاجمة الأبرياء في الكنائس، إلى مادة جديدة لهجوم ظالم لا على هؤلاء حصراً، وإنّما على المسلمين بعامّة، بل على الإسلام نفسه باعتباره «حضارة انفصالية» تعيق اندماج المهاجرين إلى أوروبا مع مجتمعاتهم الجديدة، وتعيق اندماج المسلمين عموماً بالمدنية، في وجهها المعاصر على الأقل.
بين هذين التشويهين، الأفعال المسيئة المُستنكَرة وردود الأفعال المُستنكَرة أيضاً، أين يقف العقل الإسلامي الرصين الهاديء الواثق من درجة سماح دينه العظيم. يمكن لمن يرغب العودة إلى بيانات مفتي الديار السعودية الذي افتى بوأد أيّة فتنة قد تنشأ عن ذلك، وعدم جوازها، وأنّ ما جرى لا يعود عن كونة عمل قِلَّة طائشة، وكان ذلك منتهى العقل. كذلك لا بدَّ من العودة إلى الأزهر الشريف، باعتباره مرجعية شديدة الحرص والمسؤولية، إلى مرجعيات إسلامية أُخرى في مدارسهم كافة. وضعت المرجعيات الإسلامية تلك، وسواها شرقاً وغرباً، وفي غير بيان وموقف، الأمور في نصابها الصحيح، وأعادت التذكير بالقاعدة المعاصرة للتفاهم الإسلامي المسيحي المتبادَل والتي ظهرت قبل عام تقريباً في ما سمّي بوثيقة أبو ظبي التاريخية التي وقّعها بابا رومة وشيخ الأزهر.
في هذه المقالة لا نتناول الحدث الخطير الذي جرى قبل وقت قصير، بل هي محاولة بالعودة إلى كيفية معالجة الأمير شكيب أرسلان قبل مئة سنة تقريباً للمسألة تلك، بل تأسيسه لكل نقاش مُتبادَل، وردُّه تحديداً لا على المتحاملين على الإسلام بعامّة فحسب (وقد كانوا دائما موجودين وسيبقَوْن كذلك ولأسباب أكثرها مشبوه وربما دخيل على المسيحية والإسلام معاً)، وإنما دعوته قبل مئة عام (وكان ذلك جديداً تماماً يومذاك ) لوقف المقارنات المتسرعة بين هذا الدين وذاك، بل لإخراج الدين من هذا النقاش على وجه الإطلاق. لقد كان الأمير شكيب في ذاك، وكما في أمور كثيرة أخرى، مُنْصفاً، موضوعيّاً، ومتنوّراً معاصراً أكثر بكثير من بعض مدّعي التنوير والمعاصرة اليوم.
عالج الأمير شكيب المسألة في أكثر من عمل له، وبخاصة في الكُتَيّب الذي غدا إنجيل الحركات الإسلامية لمئة عام، عَنيت به كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرُهم»، وهو في الأصل رسالته إلى أهل جاوة في إندونيسيا سنة 1925 جواباً على سؤال منهم في مسألة التقدّم والتأخير وموقع الدين منها، وقد أعيد طباعة الكتاب أكثر من سبعين مرّة (إقرأ عرضاً مفصلاً لجواب الأمير في كتابي «الأمير شكيب أرسلان، مقدَّمات الفكر السياسي»، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1989).
سأعرض في هذه المقالة رد الأمير المتقدم استناداً إلى عمل آخر له وهي مقالته بعنوان (مدنية الإسلام)، من كتاب «حاضر العالم الإسلامي» للوثروب ستودارد، ترجمة عجاج نويهض (مع مُقدَّمة من الأمير شكيب كان حجمها ضعفي الكتاب الأصلي (ص 117- 127) – وكانت طبعته الأولى سنة 1925، ثم توالت طبعاته لاحقاً، ومنها الطبعة الثالثة الصادرة سنة 1973 والتي استندت إليها المقالة هذه.
يبدأ الأمير مقالته، بل بحثه، بإثبات بطلان دعاوى من يزعم أنه لم يكن للإسلام من حضارة أو مدنيّة، فيقول:
«مدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة إذ ليس من أمّة في أوروبة سواء الألمان أو الفرنسيين أو الإنكليز أو الطليان إلخ، إلّا وعندهم تآليف لا تحصى في «مدنية الإسلام»؛ فلو لم يكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنية على كتابه وسنّته، ما كان علماء أوروبة حتى الذين عُرفوا منهم بالتحامل على الإسلام يكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت بها.» (حاضر العالم الإسلامي، الجزء الثالث، 119).
ويسهب شكيب في عدّ مظاهر مدنية الإسلام وتجلّياتها، فإذا بغداد «قد بلغت في دور المنصور والرشيد والمأمون من احتفاء العمارة واستبحار الحضارة وتناهي الترف والثروة ما لم تبلغه مدينة قبلها ولا بعدها إلى هذا العصر، حتى كان أهلها يبلغون مليونين ونصف مليون من السكّان، وكانت البصرة في الدرجة الثانية عنها وكان أهلها نحو نصف مليون. وكانت دمشق والقاهرة وحلب وأصفهان وحواضر أخرى كثيرة من بلاد الإسلام أمثلة تامة، وأقيسة بعيدة في استبحار العمران، وتطاول البنيان، ورفاهة السكان وانتشار العلم والعرفان، وتآثل الفنون المتهدلة الأفنان.» (119)
ولم تكن القيروان وفاس وتلمسان ومراكش في المغرب بأقل من ذلك. أما قرطبة، والكلام لشكيب، فلم يكن يدانيها في أوروبة مُدانٍ، وكان عدد سكانها نحو مليون ونصف مليون نسمة، وكان فيها سبعمئة جامع عدا المسجد الأعظم الذي كان يسع حسب المهندسين الأسبنيول خمسين ألف مُصَلٍّ في الداخل و30 ألف مصلٍّ في الصحن «يسعهم هذا المسجد العجيب ثمانون ألفاً من المصلين» ويضيف:
«ولما ذهبنا إلى آثار قصر الزهراء، رأيناها آثار مدينة لا آثار قصر واحد، وعلمنا أنها تمتد على مسافة تسعمائة متر طولاً في ثمانمائة متر عرضاً… وقال لي المهندسون الموكلون بالحفر على آثارها: إنهم يرجون الإتيان على كشفها كلّها من الآن إلى خمسين سنة. وحسبك أنّ غرناطة التي كانت حاضرة مملكة صغيرة في آخر أمر المسلمين في الأندلس لم يكن في أوروبا في القرن الخامس عشر بلدة تضاهيها ولا تدانيها، وكان فيها عندما سقطت في أيدي الأسبانيول نصف مليون نسمة…. وحمراء غرناطة لا تزال يتيمة الدهر إلى اليوم.» (119-120).
يسخّف الأمير شكيب دعاوى المُكابرين «حُسّاد المدنية الإسلامية» الجاحدين فضل الإسلام في قيام المدنيات شرقاً وغرباً، وما تركته من آثار ماديّة وعقلية وروحية لا تزال تبهر المؤرخ المنصف والتي سمحت بسيادة عربية تامة شرقاً وغرباً «لثلاثة قرون أو أربعة». لكن السيادة تلك ما لبثت، برأيه، أن تراجعت «فذهبت ريحهم وولى السلطان الأكبر الذي كان لهم»، ولذلك أسبابه الموضوعيّة والنفسية، ولا علاقة لذلك بالدين، من قريب أو بعيد.
وبالمعيار نفسه، يرى شكيب أن ميزان التقدّم المادي يميل منذ حين وإلى الآن لصالح الحضارة الغربية، لا الحضارة بل الحضارات الإسلامية، ولكن السبب في ذلك ليس الدين، ولا هو الميزان في التقدّم والتأخر الماديين، يقول:
« نحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية ولكننا لا نسلّم بأنه يصحّ أن يكون لها ميزاناً، وذلك لأنه كثيراً ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتَتَفلَّت من قيوده وتفسد أخلاقها وتنهار أوضاعها، فيكون فساد الأخلاق هو علّة السقوط، ولا يكون الدين هو المسؤول: وكثيراً ما تطرأ عوامل خارجية غير مُنْتظرة فتتغلّب على ما أثلته الشرائع من حضارة وتزلزل أركانها وقد تهدمها من بوانيها، ولا يكون القصور في الشريعة. فتأخُّر المسلمين في القرون الأخيرة لم يكن من الشريعة بل من الجهل بالشريعة، أو من عدم إجراء أحكامها كما ينبغي. ولمّا كانت الشريعة جارية على حقها كان الإسلام عظيماً عزيزاً.» (118)
أما بعض سياسيي الغرب ومؤرِّخيه المتحاملين المُنكرين مدنيّة الإسلام فلا يستحقون من شكيب غير الشفقة وتنبيههم إلى ما هم عليه من الإنكار وعدم النّصفة؛ وليسوا جميعاً كذلك، بل بينهم الموضوعي والمنصف أيضاً، يقول:
« وكم حرر المؤرخون الأوروبيون تحت عنوان «مدنية الإسلام» كتباً قيّمة ومجاميع صور تأخذ بالأبصار. وإن أشد مؤرخي الإفرنجة تحاملاً على الإسلام لا يتعدى أن يحاول التصغير من شأن مدنيته….. فقصارى هذه الفئة أن ينكروا كون المسلمين قد ابتكروا علوماً وسبقوا إلى نظريات صارت خاصة بهم، وغايتهم أن يقولوا إنّ المسلمين لم يزيدوا على أن نقلوا وأذاعوا وكانوا واسطة بين المشرق والمغرب. وهذا القول مردود عند المحققين الذين يعرفون للمسلمين علوماً ابتكروها وحقائق كشفوها وآراء سبقوا إليها، فضلاً عمّا زادوا عليه وأكملوه، وما نشروا ونقلوه، ومن استرقَ شيئاً وقد استرقّه فقد استحقّه.» (120)
لكنَّ شكيباً، المؤرخ الموضوعي المنصف لا تأخذه نعرة عصبية، ولا تدوّخه لحظة غرور وفخار قومية، فإذا به يسرع الخطى إلى صياغة قاعدة تليق لا بالتاريخ فقط، بل بفلسفة التاريخ، وتاريخ الحضارات – وقد سبق فيها غارودي وغيره ممّن أنصفوا الحضارة العربية والإسلامية – فينتهي من نصّه الدقيق الهادئ إلى خلاصة تاريخية، فيقول:
«وبعد، فلم نعلم مدنية واحدة من مدنيات الأرض إلاّ وهي رشح مدنيات سابقة، وآثار آراء اشتركت بها سلائل البشرية، ومجموع نتائج عقول مختلفة الأصول، ومحصول ثمرات ألباب متباينة الأجناس.» (120)
نكتفي الآن، ولنا عَوْدٌ إلى الموضوع لاحقاً، بهذه الخلاصة التاريخية الساطعة التي لا ينكر صدقيتها وشمولها إلّا العنصري المتعصب المُكابر الذي يضع أوهامه، بل مرضه، بديلاً للحقائق الموضوعيّة التي تقدمها صفحات التاريخ لكل ذي بصر وبصيرة، ولكل عالم منهجه في طرائق العلم، ومستنده في تناول الوقائع، لا أوهام زمن الاستكبار والإقصاء والاستعلاء: زمن لا قاعدة علمية، ويجب أن نكون قد تجاوزناه – لكنّه يطلّ من جديد مع الأسف في طيّات خطاب شعبوي عنصري مقيت، لكنّه أقلّوي حتى الآن، والحمد لله.
ولنا في مقالة لاحقة إن شاء الله عرضٌ لتحليل الأمير شكيب العميق لموقع الدين، كل دين، في صعود الحضارات وأفولها.