الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بعد 150 سنة من الحروب الأهلية العبثية: “الجبل” نحو المزيد من النضج والعقلانية!

شكلت زيارة سيّد صرح بكركي نيافة الكاردينال الراعي إلى الجبل نهار الجمعة في 8 أيلول 2023، إحياء للذكرى الثانية والعشرين لـ «مصالحة الجبل» التي رعاها مثلث الرحمات البطريرك صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط، حدثاً أيجابياً استثنائياً وسط لوحة غرائبية (محزنة) سوداء تحيط بلبنان، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

زيارة غبطة البطريرك تلك، من ألفها إلى يائها، في تفاصيلها كافة، (من استقبال سماحة شيخ العقل له في شانيه، إلى الباروك، فبيت الدين فبعقلين، ثم المختارة، والتي غطّتها «الضحى» بالتفصيل في عدده الأخير) تستحق أن نعتبرها الذروة في تطور العلاقة البينية بين مكوّنين رئيسيين في جبل لبنان التاريخي، ومؤسسين، بين آخرين، للكيان اللبناني الحديث. الزيارة هي كذلك، في رأينا، لأسباب عدّة باتت معروفة ومكرورة.
ما هو أكثر أهمية استخلاص الدروس الضرورية، المرّة قبل الحلوة، في العلاقة «الدرامية» المتقلّبة بين مكوّني الجبل الأساسيين. ما الذي جعلهما ينخرطان من غير هوادة في دورات عنف متبادلة المرّة تلو المرّة، طوال 150 سنة؟ وما الذي يجعلهما في آن يكتبان معاً في أحايين أخرى صفحات مضيئة من الوحدة في الجبل والوطن، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية؟ فسلام الوطن، إلى حد كبير، من السلام بين مكوّني الجبل الأساسيين؛ تماماً كما أن سلام الجبل وازدهاره، من سلام لبنان بأسره، ووحدة بنيه، وازدهار اقتصاده.

في موضوعنا، وباختصار، هل من قوانين «خلدونية» يمكن استخلاصها من العلاقة الدرزية – المارونية المضطربة في الجبل طوال 150 سنة؟ هل من قوانين تفسّر فترات الاضطراب والحرب بينهما؟ وقوانين أخرى تفسر فترات الجيرة والوئام والسلام؟

للجزء الأول من المعادلة (حقبات الاضطراب والحرب)، تتسم الخلاصة التي انتهت إليها المؤرخة المتمكنة ليلى طرزي في الفصل الأخير من عملها التوثيقي «الحرب الأهلية في دمشق ولبنان 1860» (صدر سنة 1996)، وهي تقارن حرب 1860 بحرب 1975-1989، بالكثير من الدقة التاريخية والمنطق. تقول المؤرخة طرزي أن عاملين حاسمين كانا الأكثر أهمية في صنع الحربين أعلاه، وفي وسعهما صنع كل الحروب المشابهة الأخرى، وهما: فقدان التوازن والعدالة في الداخل، والتدخل الإقليمي أوالخارجي المنتظر على الدوام الفرصة والذريعة للدخول والسيطرة. ففي حرب 1860 كان التوازن في جبل لبنان قد اختل بشكل متصاعد وسريع منذ سنة 1824: إعدام بشير جنبلاط بدسيسة من بشير الثاني ووالي عكا، ثم تلا ذلك إبعاد الملّاكين الدروز الكبار إلى حوران ومصادرة أراضيهم وبيعها أو تقديمها لأتباع بشير الثاني وإغراق الدروز بالضرائب، وصولاً إلى ضريبة «الشاشية» على قماش عمائم مشايخ الدين، ما قاد إلى فقدان التوازن والعدالة وعلى نحو متصاعد حتى 1840، تاريخ عودة المُبعدين الدروز واصطدامهم بملاّكي الأراضي الجدد. وتعاظم عدم التوازن ذاك في كل شأن، ما أوصل المجابهة الدرزية المارونية في جبل لبنان عشية 1859-1860 درجة الغليان ثم الانفجار. وفي الشق الخارجي من المعادلة هذه، أفاد الأتراك من جهة والفرنسيون من جهة أخرى من الاضطراب الداخلي ذاك للدخول بقوة إلى الجبل بذريعة حماية المسيحيين (عنوان الحملة الفرنسية العسكرية لتسعة أشهر، أيلول 1860-حزيران 1861) كما حماية مصالح الدولة العثمانية (عنوان التدخل التركي المقابل).

عاملا التأزم الداخلي (فقدان التوازن والعدالة من أوجه عدّة، والاستثمار الخارجي للتأزم الداخلي من جهة ثانية)، سيستمران في قلب كل حرب أهلية في الجبل، وبخاصة بين الدروز والموارنة، لمئة وخمسين سنة (1840-1990). والحرب الأهلية الطويلة تلك هي من دون شك أحد أبرز الأمثلة التاريخية على صحة قانون المؤرخة طرزي. الفئوية وفقدان العدالة (مطلب المسلمين بين 1969 و1979) من جهة، والخوف على مستقبل المسيحيين ( بنتيجة الخلل الديمغرافي والانتشار الفلسطيني الكثيف والفوضوي) كانا في صلب اندفاع المسلمين والمسيحيين معاً للحرب الأهلية في نيسان 1975. وسرعان ما جلب التأزم الداخلي التدخل الخارجي الصريح (السوري والاسرائيلي، وسواهما على نحو أقل علانية وصراحة).

العاملان أعلاه، وفق المؤرخة طرزي، يفسّران كل حرب أهلية حدثت في جبل لبنان، وبخاصة بين الدروز والموارنة طوال 150 سنة (1840-1990).

وبالمقابل هل من «قوانين» للسلم بين الجماعتين، الدرزية والمارونية؟ وهل اكتشف الدروز والموارنة حديثاً ، أي منذ سنة 2001، تاريخ مصالحة الجبل التي أسس لها ورعاها الراحل الكاردينال صفير والأستاذ وليد جنبلاط، «مفاتيح» العيش الواحد في المكان الجغرافي نفسه، بسلام ووئام وحرية؟ ترسيخ العيش الواحد في الجبل اللبناني، مهمة سياسية وتنموية في الآن نفسه، إذ الكثير من اضطرابات الجبل طوال 150 سنة إنما كان سبباه الحصريين: اللاتوازن التنموي بل فقدان التنمية في أجزاء كبيرة منه من جهة، والتدخلات السياسية الخارجية من جهة ثانية. وهو ما أسميناه مفاتيح نجاح العيش الواحد وترسيخه.

المفتاح الأول لنجاح العيش الواحد وديمومته بسلام ووئام وحرية بين المجموعتين تلك (بمواصفات السلام والوئام والحرية) سياسي ويجب أن تتأتى دستورياً من الدولة ومؤسساتها الراعية لمصالح مواطنيها أفراداً وجماعات. لكن استقالة الدولة من وظائفها الأساسية، نقل الرعاية اللصيقة تلك إلى قطبين أساسيين: الزعامة السياسية الأبرز لدى الدروز (المختارة)، من جهة، والمرجعية الروحية الأعلى لدى الموارنة والمسيحيين عموماً (بكركي)، من جهة ثانية.

المفتاح الثاني وطني، وهو أن حال السلام في الجبل ووحدة بنيه انعكاس لحال السلام في لبنان والوحدة الوطنية فيه. وبمقدار ما يسهم السلام في الجبل في السلام الوطني الشامل، كذلك في وسع حال السلام الوطني المريح أن يؤسس للسلم الداخلي في الجبل ويمنحه باستمرار أسباب القوة والديمومة، ما ينزع عن العلاقة أعلاه تهمة الثنائية.

المفتاح الثالث اقتصادي، إذ لا قاعدة صلبة لسلام مستدام حين يجري تهميش الجبل وابنائه اقتصادياً وتنموياً. تتضمن القاعدة الاقتصادية المطلوبة للجبل، والتي في وسعها ضمانة العيش الواحد، توفّر خدمات الدولة الأساسية، وبخاصة ما اتصل بتعزيز العمل البلدي وتحفيز حضور الوزارات والمصالح المستقلة والإفادة من الشراكات الدولية، كذلك أعمال التدريب والتأهيل الضرورية.

المفتاح الرابع تنموي، أيضاً، وهو ضرورة قيام القطاع الخاص بدوره في التنمية الشاملة لبلدات الجبل، (ومن ضمنها كونتوارات إقراض زراعي وتجاري وصناعي صغيرة منتشرة في البلدات الكبيرة)، فتخدم بين أغراض تنموية عدة بقاء سكان الجبل في قراهم على وجه الخصوص.

المفتاح الخامس اجتماعي، وهو توفر الخدمات التربوية والصحية والرياضية والشبابية في البلدات الكبيرة، وقيام مجالس أهلية ترعى الأنشطة تلك، إضافة إلى قيام مؤسسات الدولة بواجباتها.

المفتاح السادس سياسي، وهو توفر مظلة سياسية حريصة على السلم الأهلي في الجبل فتُقلع عن استخدام مكونات الجبل الدينية وقوداً لأي مشروع سياسي فئوي.

لا يخفى بالتأكيد ما للعامل الإقليمي من دور (فاعل)، سلبي في الغالب، في انتظام الحياة الواحدة في الجبل، أو اضطرابها. لكنه عامل لا سيطرة للبنانيين عليه.

يبقى أن زيارة غبطة البطريرك الراعي للجبل، والحفاوة الواسعة، الأهلية والسياسية، التي لقيها في كل محطة من محطاتها، هي خطوة واسعة في الاتجاه التاريخي الصحيح؛ وهي تشي في كل تفصيل من تفاصيلها أن العلاقة الدرزية -المسيحية (والمارونية على وجه الخصوص) بلغت درجة النضوج. الخطوة الكبرى أعلاه لا تبني وحدها حال السلم الأهلي الداخلي المستدام، لكنها فتحت الباب واسعاً في الاتجاه الصحيح: وحدة الجبل الراسخة جوهر وحدة الوطن الراسخة.

“الإفساد الجنسي” المنظّم للمجتمع اللبناني:
تطورات مقلقة وسط تواطؤ رسمي مشبوه!

لا حاجة للتخمين، أو لاستخدام المنظار، لمعاينة تفاقم «الإفساد الجنسي» الجاري منذ فترة للمجتمع اللبناني. فقصصُ هذا الوافد المستجدّ تشعرُ الكاتب، كما القارئ، بالقرف، وبالتحسّر أن يجري ذلك تحت يافطة الحريات وحقوق الإنسان، خداعاً وتزويراً!

أمّا الطريق الأقصر المستخدم لتحقيق الهدف الشرير ذاك فبات علنياً يتمثّل يومياً من خلال الضغط في أربعة خطوط متكاملة:
الأول، التمويل الغربي والأممي المالي المباشر للجمعيات المحلية أو المستوردة، وللأشخاص، وبعض الأحزاب والنوّاب، ربما، بهدف نشر ثقافة الانحلال الأخلاقي، والجنسي خصوصاً، في أشكاله الشيطانية المختلفة.

الثاني، التهويل على الحكومة اللبنانية والمؤسسات ذات الصلة بالتقديمات والقروض الغربية والدولية، وربط توفيرها واستمرارها بوقف كل ما يعيق حرية حركة «المثليين والمتحوّلين» العلنية وطلب حمايتهم بالقانون ومحاولة تعديل المادة 534 من قانون العقوبات اللبنانية التي تحظر الشذوذ الجنسي.

الثالث، مع الأسف، تساهل الكثير من وسائل الإعلام (والمرئي على وجه الخصوص) مع مواد إعلامية متقنة تروّج بطرائق خبيثة للانحلال الجنسي، وتسهّل إشهار أبطاله، ومروّجيه، وإدخاله في لا وعي المشاهد كأمرٍ عادي، دونما خجلٍ أو وجل، أو أدنى احترام للعائلة اللبنانية، ولثقافتنا الشرقية العربية، وللقوانين النافذة، قبل ذلك وبعده.

والرابع، أخيراً، وهو أمر محزن، تساهل (حتى لا نقول غير ذلك) الكثير من جمعيات «المجتمع المدني» ورموزه مع المخطط الشيطاني الدولي، على الأرجح، لتدمير ما تبقى في مجتمعنا من ثقافة محترمة، ومن إنسان لم تبقِ منه هذه الحضارة المادية الاستهلاكية وثقافة العولمة «الكلبية» المسيطرة إلا القليل. فنكاد لا نصدّق أن جمعيات مثل «المفكرة القانونية» أو «المركز الاستشاري» (برجيس الجميل) وسواهما يروّجان لتسهيل الانحلال الجنسي، بحجة حرية الإنسان و«الثقافة اللبنانية التعددية والقائمة على حرية الاختيار»!!!!

وبسبب من ذلك، وبتواطؤ رسمي لا يخفى على مراقب، لم يعد الفساد الأخلاقي نزوة جشعة هنا، أو حالة فردية هناك، مستهجنة ويعاقب عليها القانون. بات الفساد في ظل نظام العولمة الطاغي، ومراكزه المشبوهة، إفساداً، يجري القبول به بل والتشجيع عليه من قبل الشركات الدولية وممثليها المحليين. بات الفساد والإفساد في كل مجال نظاماً دولياً متكاملاً متسانداً، ثقافة جديدة في حقل الأعمال، و»صناعة» متقنة، رائجة، لها أربابها، وصنّاعها، ومحاموها، وإعلامها، والمستفيدون من فُتاتها أيضاً. فلا عجب أن ينال اللبنانيّون، في لحظة تأزم أحوالهم المادية والسياسية، الانهيار الأخلاقي الذي نشهده اليوم.

إلامَ أدّت الضغوط الأربعة تلك، وعلى العائلة اللبنانية قبل سواها؟
يجب الاعتراف، أن العائلة اللبنانية تشهد هذه الأيام، وتحت ضغوط اقتصادية واجتماعية وإعلامية لا تحتمل، مظاهر تراجعٍ كبير في تماسكها واحتفاظها بأدوارها المختلفة. العائلة اللبنانية عرضةٌ الآن لاختراقات وتداعيات لم تكن موجودة سابقاً، حتى في ذروة سنوات الحرب الأهلية (1975-1990).

الحرب الإعلامية والنفسية الشعواء التي تُشنّ على الأسرة أو العائلة اللبنانية اليوم أقوى من الحرب العسكرية أو الاقتصادية التي تعرضت لها في سنوات التأزم الأهلي.

وإذا قيل إنّها الأزمة الاقتصادية والمالية تخصيصاً، قلنا إنّ سنوات الحرب الأهلية شهدت من الأزمة تلك أصنافاً وأصنافاً، ومع ذلك لم تفقد الأسرة دورها أو فاعليتها الحاسمة في حياة الشريكين وأبنائهما.

ما الذي تغيّر إذن؟ وما الذي استجدّ من عناصر بدت أقوى من الأسرة؟
ما تغيّر في العالم باختصار هو أولاً المتغيّر المادي النفعي، الذي دخل منذ ثلاثة عقود، إذ حلّت مرحلة جديدة من الفردية القاتلة، والنفعية المطلقة، والأنانية الجشعة، وكسرِ المحرّمات على أنواعها. وثانياً، المتغيّر التقني والإعلامي الذي اخترق غرف نوم أطفالنا فسحَرَهم بصورٍ خادعة، وفصَلهم عن واقعهم، عن أسرتهم، بل فصل الأخ عن أخيه، والأخت عن أختها (نتفليكس نموذجاً واحداً بين آلاف التطبيقات). تلاعبَ التطورُ التقني المجنون بعقل المراهق، وأحياناً الطفل في سريره، فانفصل عن واقعه، صار أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع؛ بات يعيش شخصية غير شخصيته، يقضي نهاره وليله مع أصحاب غير موجودين وتحت سيطرة مراكز تأثير وتوجيه شيطانية خبيثة.

بعد المجتمع، تحطّمت العائلة الآن، النواة الصغرى التي كانت إلى وقت قريب الحضن الدّافئ لأفراد الأسرة وحصن الطفل الحصين على وجه الخصوص. انكسرت الآن صورة الوالد أمام أسرته، أمام أطفاله. لم يعد المثال لهم. بل ربما باتوا يخجلون به أمام رفاق وهميّين، وصور وهمية، يظنّون أنها حقيقية، فيعيشون أوهامها، ولا يجنون منها آخر الأمر غير التعاسة واليأس،وربما ما هو أخطر من ذلك. لم تعد الأم المثال لابنتها، وهذا أكثر خطورة. صارت قديمة، تقليدية، متأخرة: فهي لا تحمل في حقيبتها أحدث صرعات ال «أي فون»، ولا تصبغُ شعرها بثلاثة ألوان كما باربي، أو كما «الساحرات» التي تقدمها شاشات الموبايل والتطبيقات الخادعة.

ويزيد الطين بلّة في مجتمعنا وبلادنا نمط «المسؤول» الذي يراه أولادنا في وسائل الإعلام، فكثير من مواده خلاعي، فاسد، تكاد رائحته النتنة تخترق الشاشة إلى أنوفنا، أو طائفي مذهبي متزمت مُنفّر، أو غبي. والثلاثة تزيدُ في دفع أبنائنا بعيداً عن مجتمعهم وواقعهم، ويغدون أرضاً خصبة لكل شيطان خبيث متربصٍ بعائلاتنا وأولادنا الشرّ وينتظر الفرصة المؤاتية لينقض عليهم.

حتى المدارس تخلت عن واجباتها حيال أطفالنا: فهي إما فاشلة لا تعلّمهم ولا تربيهم ولا تثقفهم، أو هي ناجحة في تعليمهم العلوم واللغات، لكن من غير قاعدة أخلاقية أو وطنية، بل إن مدارس أجنبية معينة منتشرة لا تخفي تحريض طلابها على أسرهم وعلى قيم مجتمعهم الأخلاقية.

هذه صورة بسيطة لمجمل الضغوط التي تحاصر الأسرة في لبنان الآن ، وربما في غير لبنان من بلدان المنطقة. فأين الأسرة اللبنانية الشرقية من هذه الضغوط التي لا تقاوم. كيف تستطيع الأسرة في لبنان أن تواجه تحدي خسارة أبنائها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً فيما الأزمة لم تبقِ في أيدي الغالبية الساحقة من عائلاتنا الحد الأدنى من المقومات المادية والدعم الرسمي، في دولة استقال مسؤولوها من كل مسؤولية!

العائلة في لبنان تدفع الآن فاتورة الانهيار الأخلاقي الجاري، بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. وربما الآتي أعظم!

ونصل أخيراً تخصيصاً إلى ما أدهى من ذلك كلّه: إدخال ثقافة الانحلال الجنسي، وممارساته، إلى مجتمعنا اللبناني، بكل وسائل الإكراه والضغط غير المشروعة وغير المسبوقة.

أما الطريق الأقصر إلى ذلك فكان مزدوجاً:
استغلال الضائقة المالية الخانقة التي تتحكم بحياة اللبنانيين، من جهة، وتدمير العائلة في لبنان الحصن الأخير أمام انحراف الأفراد وشذوذهم في ما خصّ الحياة الجنسية والزواج عمّا هو طبيعي وشرعي في أخلاقنا وثقافتنا ومجتمعنا.

وبزعم المساعدة المالية، تقوم سفارات غربية وجهات دولية مشبوهة بتمويل سخي لكل الجمعيات (ميم عين، وسواها) التي تأخذ على عاتقها علانية العمل على إزالة العوائق القانونية أمام حركة الشاذّين والمنحرفين وما شابه من حثالة نتنة وأمام تجمعهم وتحوّلهم إلى النشاط العلني. وكان آخر الأنشطة المشبوهة تلك ما دعت إليه «الدولية للتربية» بإقامة ورشة تدريب في أحد فنادق بيروت «لتقبّل المدرسين المثليين في المدارس اللبنانية». وكافأت المنظمة كل رابطة حضرت بمبلغ 800 دولار، و40 دولار لكل فرد حضر الورشة.

كذلك أمكن لهؤلاء، بالضغط المادي والمعنوي، الوصول إلى بعض غاياتهم بإجبار قضاة ومحاكم (القاضي ربيع معلوف، محكمة المتن، 31-1-2017) على إصدار أحكام قضت بعدم اعتبار المثلية الجنسية والتحول الجنسي جرائم جزائية وإنما حقوق طبيعية. إنّ مراجعة بسيطة لميزانيات الجمعيات العاملة على تشريع الانحراف والشذوذ الجنسي في بلادنا تظهر أنّ ملايين الدولارات تصرف لها من منظمات مشبوهة في الولايات المتحدة وأوروبا.

وبسبب من الطمع والفساد نفسه، (على الأرجح) أعلن حزب لبناني يميني صغير إلى حملة «مناهضة أفعال الكراهية ضد المثليين». وبسببٍ من الإغراء المادي نفسه (على الأرجح) انضمّ قبل فترة قصيرة بعض النواب في البرلمان اللبناني إلى الحملة المنظمة المدعومة (بل المطلوبة) من الخارج الرامية إلى الدفاع عن حقوق المثليين والشاذّين جنسياً.

واشتركت «الجمعية اللبنانية للطب النفسي» في حملة الضغط تلك (وهل تستطيع غير ذلك؟) فأصدرت في وقت مبكر (11 تموز 2013) تقريراً طلبت فيه التوقف عن اعتبار المثلية مرضاً يتطلب العلاج». وكان لبنان بذلك أول دولة عربية تتوقف عن اعتبار المثلية مرضاً!

وكان آخر ما يُستغرب حقاً أن يكسر مجلس شورى الدولة في حزيران 2022 قرار وزير الداخلية القاضي مولوي»اعتبار تجمع المثليين بناء لدعوة من «ميم» و»المفكرة القانونية» تجمعاً غير شرعي».

أخيراً، لم تتورع الأمم المتحدة نفسها (وبسبب من التمويل المشبوه نفسه)عن إصدار بيان علني في 17 آيار 2021 يدعو إلى «مناهضة أفعال الكراهية ضد المثلية الجنسية» وضمان حماية الجماعات تلك.

غضُ النظرِ الرسمي ذاك جعل بيروت – مع الأسف – ثالث وجهة سياحة مطلوبة للمثليين على مستوى العالم، كما يقال! بل شجّع هؤلاء على إصدار مجلاّت ومنشورات إلكترونية ومنشورات، وإقامة تجمعات ومعارض علنية («فخر لبنان» – يا للعار) وسمح لهم بالمشاركة العلنية في انتفاضة 17 تشرين، وكان خطأ كبيراً ينضاف إلى أخطاء الانتفاضة الكثيرة.

وبعض الأعلام فتح الهواء والصورة لهؤلاء ليستخدموا في واحدة من إطلالاتهم مصطلحاً بل مطلباً في منتهى الوقاحة لغةً قبل المضمون، إذ طالبوا: «أن تكون منازل الشركاء المثليين، ومنازل الأزواج المغايرين « على السويّة نفسها لجهة المعاملة القانونية والخدمات! تخيّلوا مبلغ الوقاحة: الفارق عادي جداً بين زواج مناف للطبيعة، شاذ، أحد أشكال الرذيلة؛ وبين زواج طبيعي شرعي موثّق بالأنظمة الدّينية والاجتماعية! هو فقط حسب زعم هؤلاء الوقحين «زواج مغايرين»!

وآخر انتهاكات القانون دفاع بعض وسائل الإعلام ومثقفين عن عرض فيلم «باربي»، الذي يناقش مشكلة المثلية عند الأطفال، وكأنما أطفالنا لا مشاكل (تربوية وأمنية واجتماعية) لديهم غير المثلية!

وننوّه هنا بالموقف العلمي والأخلاقي الشجاع لمعالي وزير الثقافة، القاضي مرتضى. شكراً.

ماذا عن ردود أفعال سواد اللبنانيين الأعظم على حملة الضغط الشرسة من الجماعات المثلية ومحاميها؟
هناك لا مبالاة رسمية تكاد لا تصدّق، بل هي أقرب إلى الموافقة، لولا أن اخترقها قرار الوزير المولوي!

في مقابل اللامبالاة الرسمية تولّت المرجعيّات الدينية اللبنانيّة التنديد العلني بالنشاط المحموم للمثليين في بيروت. فكانت بيانات مندّدة من مشيخة عقل الموحدين الدروز ودار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وسواهم، محذرة من أي تعديل في قوانين الأحوال الشخصية بهدف تشريع أفعال الشذوذ والانحراف الجنسي. ومطلب المرجعيات ومعها كل اللبنانيين (السويّين) التمسك بالتطبيق الدقيق للقانون (وبخاصة المادة 534) التي تحظر هذا الشكل من العلاقة المضاد للطبيعة.

وتبقى مهمة التصدي للأفعال الشاذة تلك، «المخالفة للطبيعة»، (وفق القانون، كما وفق بيان البطريركية المارونية)، واجب جميع اللبنانيين المدركين مخاطر المثلية وسائر أشكال الشذوذ الجنسي على مجتمعنا، وعائلاتنا؛ وعلينا كبشر، إذا كنا لا نريد حقاً الهبوط إلى مستوى الحيوان، الذي لا يرضى بعض أنواعه العليا بالشذوذ الجنسي! حتى الحيوان نفسه لا يرتضي الإخلال بنظام الطبيعة.

إلى ذلك، يتصدى اللبنانيون يومياً، بالمقالات والبيانات والتجمعات، لنشاط أصحاب الشذوذ أولئك، ولا يتوانون عن إظهار فضائحهم وخطورتهم في آن معاً.

اخترت من مظاهر التصدي الإعلامي مقاطع من مقالة للكاتبة ألسي خوري في 2 آب 2023، تحت عنوان «لا للعبث بهوية أطفالنا . نرفض تشريع المثلية الجنسية في لبنان».

رأت الكاتبة أنّ مخاطر الشذوذ الجنسي صارت على الأبواب في لبنان، من المثلية الجنسية والتحول الجنسي إلى التلاعب بتسجيل جنس المولود. وهي ترى أنّ التطور ذاك هو تدمير ل«قدسية العائلة»، وأنّها حرب شرسة على اللبنانيين وقيمهم تريد أن تفرض على اللبنانيين بالإغراء المالي والتهويل الإعلامي ما لم تستطع الحرب العسكرية فرضها عليهم، من تفكيك للعائلة وللقيم التي يؤمن بها اللبنانيون. تضيف الكاتبة: «تتسلح هذه الحرب المشينة ضد المجتمع والقيم بالإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لتضلّل أولادنا، هو هجوم مسلّح على فلذات أكبادنا لقلب المجتمع وتغيير القوانين». وتضيف: «الوقاحة في هذا الموضوع وصلت إلى حد تخييرنا بالمطالبة بحقوق أولادنا بعدم شطب كلمة أب وأم عن الهوية واستبدالها ب parent 1
و parent 2، وحتى العبث بتعريف الذكر والأنثى».

إنها حرب أخلاقية، تقول الكاتبة، «لتغيير أفكار أولادنا وهويتنا وثقافتنا وإيماننا وسط سكوت تام من الجهات المعنية».

تضيف: «لا لن نجعل من الباطل دستور حياتنا، وسندافع عن قيمنا ومبادئنا مهما كلّف الأمر… إذا لم تستحِ فافعل ما شئت، وإذا فعلت فلن تستطيع المجاهرة به علناً أمام أولادنا… إنّ الله أنزل العقاب عبر التاريخ بقومٍ آتوا الفاحشة حتى أبادهم عن بكرة أبيهم، وهو يُمهلُ ولا يهمل».

وتختم ألسي خوري: «انتبهوا لأولادكم على هواتفهم، أولادنا بخطر».

لا حاجة لأية إضافة إلى صرخة الأم تلك، المرتعبة بحق من شبح المخاطر التي يمثله ممارسو الشذوذ الجنسي (على أنواعه) ودعاته، ومحاموهم المرتشون، على عائلات اللبنانيين ومستقبل أولادهم.

إنّ عدم التساهل، بأي شكل من الأشكال، مع الممارسات والدعوات المشينة تلك هو حق اللبنانيين وواجبهم في آن معاً، ولا حلول وسط في المسألة هذه. فإمّا نكون مع كل ما هو طبيعي وحق وشرعي في وضوح الشمس، أو نكون مع ما هو خطأ وباطل وضلال وحرام وارتكاب الفاحشة.

في الذّكرى 75 للنّكبة: 1948 – 2023

تقول الوثائق البريطانية التي أُفرج عنها أخيراً، أنّ مخطط الدولة العبرية التي استولت على الأراضي الفلسطينية سنة 1948، في أعظم جريمة إنسانية وحقوقية عرفها التاريخ، كاد يفشل ويتلاشى غير مرة، وبخاصة في إضراب سنة 1936، ثم بعد أيار 1948، لولا التدخّل المباشر والحاسم للبلدان الغربية، والبريطاني قبل سواه.

وقبل ذلك، يُروى أنّ رئيس بلدية تل أبيب أراد في العشرينيات تعريف ونستون تشرشل الذي كان وزيراً للمستعمرات على إنجازات بلديته الحضارية. ولمّا كان الأمر حدث على عجل، فقد استقدم رئيس البلدية عشرات أشجار الصنوبر من المشاتل وزرعها لتبدو حديقة للساحة حيث يجري الاحتفال.

تقدمت صبيّةٌ يهودية لتلقي كلمة البلدية، لكنّها تعثرت بإحدى الشّجرات تلك، فسقطت على جارتها، والثانية على الثالثة، وسقط معظم الشجر المدسوس في الأرض باعتباره شجراً حقيقياً. تبسّم تشرشل وقال: أخشى أن يكون مستقبل الدولة العبرية مشابهاً لما حدث لهذه الحديقة.

أجل، قلَّةٌ هي التي صدّقت أنه بالإمكان اقتلاع شعبٍ بأكمله، وزرع شعب آخر بدلاً منه. فأرضُ فلسطين قبل 1948 لم تكن خالية، لا من السكان ولا من المنشآت الحضارية، المادية والمعنوية؛ ولا من المظاهر الثقافية والحضارية والفنية والإعلامية البارزة. تكفي ملاحظة أن «سكة حديد فلسطين» هي التي كانت تتولى بكفاءة عالية الاتصال البري بين مصر وبلاد الشام. وأن الموانئ الفلسطينية، وبخاصة حيفا، كان صلة الوصل التجارية الناشطة بين بلدان الشرق من جهة (وخصوصاً سوريا والعراق) والموانئ الأوروبية من جهة مقابلة – الوظيفة التي تولّاها مرفأ بيروت بعد قيام دولة إسرائيل. إلى ذلك، كان في فلسطين صحفٌ ومجلات ودور نشر ومدارس ( في القدس والناصرة وغيرهما) يؤمّها طلاب العلم من بلاد الشام ومصر، وكان فيها إرساليات تربوية مهمة من الغرب ومن الشرق (من روسيا وكنيستها)، ومستشفيات رائدة. والّلافت عدد الطلاب الفلسطينيين الكبير الذي كان يتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، كان الطلاب بالمئات، ويتخرجون في الاختصاصات كافّة.

لم تكن فلسطين إذاً – كما زعم ويزعم الإعلام الصهيوني والغربي – أرضاً بلا شعب. بل كان هناك شعب، بكل مواصفات الشعب، اقتُلِع غصباً وعنوة من أرضه التاريخية والطبيعية، ومن غير وجه حق، ليستوطن فيها بدلاً منه شعبٌ آخر.

من المحزنِ حقاً، أن قرارات عصبة الأمم (1922) التي أوكلت إلى بريطانيا إدارة فلسطين، أرضاً وشعباً، ومساعدة شعبها على التقدم الحضاري، وتأهيله للاستقلال، قد ضُرِبَ بها عرض الحائط، بل رُميت في سلّة المهملات. فمنذ اللحظة الأولى كان كل همّ بريطانيا المساعدة على إقامة كيان يهودي في فلسطين لأسباب عدّة، دنيوية أكثر منها دينية – متصلة بإبعاد الرأسمال الصهيوني عن لندن الذي كان يسيطر على بورصتها، وإقامة أسواق حديثة جديدة للمُنتجات الغربية التي كانت تشهد كساداً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك زرع سكين عريض في قلب الوطن العربي ليمنع أي اتصال بري بين عرب المشرق وعرب المغرب، وليجعلَ أي حُلمٍ بالوحدة العربية أضغاث أحلام. وحين كشف الروس سنة 1917 نصوص معاهدة سايكس – بيكو التي تضمنت وعداً بوطن قومي لليهود؛ ثم لمّا أرسل جمال باشا نصوص المعاهدة إلى الشريف حسين التي لم تتضمن أيَّ وعد بحكومة استقلالية عربية ما تسبب بحرج كبير للشريف حسين، هُرِع مندوبو بريطانيا يكيلون الوعود للشريف حسين بأنهم مع الدولة العربية المستقلة، وأنه سيكون ملكاً عليها؛ وأن الكيان اليهودي لن ينشأ إلّا بالتفاهم مع الفلسطنيين والعرب – إحدى الأكاذيب البريطانية المألوفة. (1)

هذه الأكاذيب، وطبيعة الدولة العبرية، ومخاطرها على لبنان تحديداً، هي ما أفاض في الكشف عنها، وتفصيلها، المفكر اللبناني (المسيحي لمن يهمّه الأمر) ميشال شيحا، وهي مدار الجزء الثاني من هذه الافتتاحية.

قدّم المفكّرون اللبنانيون، كما معظمُ المفكرين العرب، وعياً مُبكراً بالطبيعة العنصرية العدوانية المتوقعة للكيان العبري العتيد الذي عملت له بكل ما أوتيت من قوة الدوائر الاستعمارية الغربية، وبخاصة البريطانية منها.

إلا أن أحداً لم يبلغ في معرفته بالطبيعة الداخلية للدولة المزمع إنشاؤها، ثم الوليدة، والتحذير الصريح من مخاطرها، الحدّ الذي بلغهُ المفكرُ اللبناني الاقتصادي- السياسي ميشال شيحا.
بخلاف كثيرين، لم يستخفَّ شيحا بالقدرات الضخمة التي ينطوي عليها العقل اليهودي، قبل المال اليهودي، ودوره في تنفيذ مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. ففي أيديهم (اليهود) من أدوات الضغط، كما من الكفاءات والعقول، ما يجب أن يُحسب له ألفُ حساب.

يقول شيحا في طبيعة الدولة اليهودية، والدور المنوط بها، وكيف أن لا أحد أخذ الاحتمالات السيِّئة على محمل الجد:
«لا أحد كان يريد أن يعي ذلك منذ سنتين أو ثلاث…. فإذا في قلب الشرق الأدنى دولة متوسطيّة، جدُّ صغيرة في ظاهرها، عالمية في الواقع. وهي في رأي من يعرف كيف يستشفّ الأمور تنعمُ منذ أمد بعيد بخصائص الدولة الكبرى».
ويضيف: «ولئن كان للاستعمار معنى، ومعنى للعنصرية، فإنّ إسرائيل هي بالتحديد الدولة الأشدّ عنصرية والأشدّ استعماراً على وجه الأرض… هذه الإسرائيل التي تتمدد وتسترسل من يستطيع إنكار طابعها العالمي، ومقدار نفوذها ومداه، وما تتمتع به، إلى جانب دبلوماسيتها الرسميّة، من شبكة دبلوماسية شبه رسمية.» ص 111

ولا يتردد شيحا في التنبيه من أن لبنان يجب أن يُدرك أهمية تنمية اقتصاده، زراعة وتجارة وصناعة؛ وإلى بناء مواطنين قبل ذلك؛ قبل فوات الأوان؛ إذ تنتظره أخطارٌ جمّة من هذا «الجار» الجديد، و»لنا مما يحدث لفلسطين عبرة»، يقول:
«ولئن كنا في حاجة لتجارة مزدهرة وصناعة ناهضة وحياة زراعية منوّرة (والأخطار أقلّها في القطاع الزراعي)، ولئن كنا في حاجة لتجّار وصناعيين ورجالات أعمال وأموال من الرعيل الأول، فشدّ ما نحن بحاجة إلى مواطنين! وليكن لكل منّا في ما يجري بفلسطين عبرة». ص 73-74

ويضيف: «فإذا لبنان لم يبادر إلى صنع جماعات تلوَ جماعات من المواطنين فقد يمسي على التمادي مهدّداً. وهذا ما يثبته التاريخ برمّته عبر أربعة ألاف سنة من حياتنا السياسية والاجتماعية. وتكاد تكون هذه حال جيراننا. أضف إلى جمّ المخاطر المتوارثة جوار إسرائيل وما يثيره هذا الجوار من خَشية، إذ لن تتناهى إلينا من هذا الجار موسيقى عذبة وحسب، بل محاولة للسيطرة يتعهدها أبعد المفكرين بصيرة، وأشدّ النظم حزماً، وأكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».ص 74

يتوجب قراءة البضعة أسطرٍ قليلةٍ أعلاه بكل عناية ودقة. فهو أولاً يعيّن بشكل جليّ أنّ الجار الجديد مصدر أخطار، ويتوجب الخشية منه. ثم هو يعيّن أسباب قوة هذا «الجار» ومكمن المخاطر فيه: فليست قوته العسكرية ما يجب الخشية منه بالدرجة الأولى، بل لأنه يمتلك تحديداً، وفق شيحا، «أبعد المفكرين بصيرةً»، كذلك «اشدّ النظم حزماً»، ويمتلك «أكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».

لو أحسن الاستراتيجيون العرب قراءة تحذيرات شيحا الدقيقة وتعييناته المحددة لمكامن قوة الدولة العبرية، لتغيّرت، ربما، صفحات وصفحات من التاريخ.

ولكن، مع الأسف، من اهتمّ من هؤلاء بكيف يفكّر العقل اليهودي؟ وبطرائق التنظيم لديه؟ وبأدوات النفوذ العالمي الذي يمتلكها، وهي «الأكثر» تنوّعاً وفعالية؟
يقول شيحا، وبكثير من الموضوعية: «في ودّي هنا أن أكون موضوعياً قدر ما ينبغي أن أكون، فأكتفي بهذا القول: لا الدول العربية، ولا كبريات الدول، قدرت حقّ القدر ما يمثّله هذا الواقع وهذا الحضور». ص111

لن استرسل في عشرات النصوص من شيحا، وجميعها تعود إلى الأربعينيات ونهايتها من القرن العشرين؛ يقول:
«ما من أحدٍ أكثر مني…. حذّر من مخاطر جوارهم الخطير. ففي جنوب لبنان، على التّخوم، كما على تخوم مصر والأردن وسوريا، تقوم واحدة من أشدّ القوى نفوذاً في الأرض، حيث الّلاملموس واللامرئي يفوقُ كثيراً ما يستطاعُ لمسه ورؤياه.»111

ويقول في نص آخر: «أمّا في الجنوب فهناك إسرائيل، بدعةُ الأرض، وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دوِيّاً. إسرائيل ليست في الواقع بلداً كالبلدان. فمن يتاخمها يتاخمُ دولة عالمية نسيجَ وحدها، ومشتلاً للعنصرية في صميمها، حيث المواطنيةُ يرسمُ حدودها دينٌ يتسم بالتستّر على الأقل…. ففي جنوبي لبنان، وعلى عتبة بابنا بالذات، ينصبّ الجهد على تجربة سياسية ولا أغرب. ذلك أن إسرائيل إذ تصبح دولة تصبحُ عاصمة لليهودية جمعاء، ممثلون من الطراز الرفيع له يده الطولى في سياسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودولٍ أخرى فضلاً عمّا يملكه هذا الشعب من موارد طائلة وأواصرَ تتناهى سرّاً وعلانية على مدى الأرض…» ص 137-138

ونختم، بين نصوص عدّة من المفكّر اللبناني ميشال شيحا:
«من جهتي قلتُ وكتبتُ عشرات المرّات ما أحسبه الحقيقة عن إسرائيل. فحذارِ حذارِ جارتنا الجديدة، لأن جارتنا الجديدة ستطالعنا بالأخطار على صنوفها ونحن مهما عملنا، فلن نؤتى الراحة بعد اليوم، أو لن نؤتاها طويلة الأمد على الأقل. هذا ما ينبغي أن نجاهر اللبنانيين به، لأنه الحقيقة بعينها». ص138 (٢)
هذا قليلٌ من كثيرٍ تمخّضت عنه، باكراً، عقلية المفكّر اللبناني ميشال شيحا التحليلية الثاقبة، فكانت تحذيراته القويّة الصادقة، وتنبؤاته التي لم تزل تتحقق فصلاً بعد آخر.


المراجع:

١- تقدّم المصادر الدولية الإحصاءات التالية التي تظهر العنصرية التامة للدولة الوليدة واستهتارها بالقوانين الدولية وبشرعة حقوق الإنسان:
– شرّد الاحتلال 950 ألف فلسطيني من أصل مليون و400 الف فلسطيني، توزّعوا في 58 مخيّما كما يلي:
10 في الأردن، 9 في سوريا، 12 في لبنان، 8 في غزة، و19 في الضفة الغربية.
– استولوا على 85% من الأراضي الفلسطينية،
– أزالوا من الوجود 531 قرية فلسطينية،
– ارتكب 70 مجزرة بحق الفلسطينيين
٢- النص جميعه من كتاب شيحا: “لبنان في شخصيته وحضوره” (نقله إلى العربية، فؤاد كنعان)، منشورات الندوة اللبنانية، بيروت، 1962

حصاد أربع سنوات

لا شيء، على الإطلاق، يعدلُ الرضا على الذات.
لا مديح، لا ثمن، وربما، لا كلمات.
هوذا إحساسي الدقيق وأنا أرسمُ، بالأسودِ على أبيض، صورةَ مشاعري عشيةَ صدورِ العدد 36-37 من المجلة العزيزة «الضّحى»، تشرين الثاني2021.

لقد أنجزتُ طوال أربع سنوات، وعلى أفضلِ نحوٍ ممكن، المهمةَ التي أناطها بي سماحةُ شيخِ العقل، واللجنةُ الإداريةُ المصّغرة في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وهي رئاسة تحرير «الضّحى»، التي تصدرُ عن المجلس، وتعكسُ التوجهاتِ العامة لسماحة الشيخ والمجلس، وتوجيهاتهما الوطنية والأخلاقية.

أربع سنواتٍ من التعايش، بل العيش الأسبوعي، الناجح، في كنف دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت. أسعدني في السنوات الأربع تلك سائرُ ما شاهدتهُ من إخلاص الجميع لعمله، من أعضاء المجلس، إلى مدير الدار، فالعاملات والعاملين جميعاً دون استثناء.
لم أشعر يوماً واحداً أنهنّ، أو أنهم، مجردُ موظفاتٍ أو موظفين يؤدّون أعمالاً كلّفوا بها، ثم يطوون أغلفةِ ملفاتهم، ويقفلون أبواب مكاتبهم، فتنتهي نهاراتهم وجداولُ أعمالهم في انتظار يومٍ جديدٍ رتيبٍ آخر.
لأربع سنوات، شهدتُ نهاراتٍ لا تنتهي، وأناساً أنّى طلبتهم حاضرين، لا يعرفون لفظة «لا» – كأنما صحّ فيهم عياناً وممارسةً، ما كنت أقرأهُ على الدوام:
«ما قال لا إلاّ في تشّهُدِهِ لولا التشهّد كانت لاؤه نعما»
شاهدتُ، بل شهدتُ، ما كنتُ أخجلُ أن أقارنَ سويعاتِ حضوري القليلة بساعات حضورهم التي كانت تستعصي على العدّ، ولا تحتاجهُ أصلاً.

لولا تعاون، بل تفاني، الفريق الإداري لدار طائفة الموحدين الدروز، بتوجيهات أكيدة من سماحة الشيخ، لم يكن بالإمكان – وبخاصة في الظروف شبه المستحيلة للسنتين الأخيرتين – أن تبقى «الضّحى» واقفة على قدميها، وأن تصدر كالمعتاد، وكأنما البلاد بألف خير، وهي لم تكن كذلك في حال من الأحوال. لهؤلاء جميعاً، شكري وامتناني.

إثنا عشر عدداً في أربع سنوات – إذ كان بعضها مزدوجاً – ولأسباب متصلة مباشرة بظروف الإقفال الطويل للبلاد سحابة سنتي 2020 و2021.
إثنا عشر عدداً، وأكثر من مئة وخمسين فقرة، قرأناها، كلمة كلمة، بل «درسناها» على بيدر المعرفة والمحبة، والواجب قبل كل شيء، سنبلةً سنبلة، بل حبةً حبة، فلم نترك خارج البيدر إلا القشر والزؤام، أما حبّة الحنطة فلم نلمسها، بل احتفينا بها، وبصاحبها، فأوردها – أخي خلدون، والمخرج الفنّي- أيّما موردٍ، من العناية والحرص وجمال الصورة تنضافُ إلى قوة الفكرة وديمومة أهميتها. وحين كنّا نتعب قراءةً ومراجعةً مرة واثنتين وثلاثاً، كان حرص سماحة شيخ العقل الشخصي كفيلاً بتجنّب كل وهدة، أو هفوة، فتخرج «الضّحى» إلى قرائها -أصدقائها- في أفضل مضمونٍ وصورةٍ ممكنين. وعليه لم يردنا – صدقاً – من جمهور «الضّحى» في لبنان وجبل العرب، وربما أبعد، من مرجعيات وأصحاب مسؤوليات وطنية وديبلوماسية محترمة، إلا عبارات التقريظ، لا أقول المديح – فالمرء لا يمتدحُ على قيامه بالواجب.

إثنا عشر عدداً، كانت «الضّحى» فيها، كما ديدنها على الدوام، أمينة لرسالتها في نشر ما يحثّ على الأخلاق القويمة، والإيمان الصافي الصادق، من جهة، والثقافة الرفيعة، والمعرفة الواسعة بتراثنا التوحيدي الثقافي والتاريخي والأخلاقي والعروبي والوطني من جهة ثانية. فأمطنا اللثام – بفضل كتّابنا الأفذاذ المميّزين عن قصص بطولات معروفية تقرُبُ حدّ الأساطير، وعن أسماء معروفية في دنيا النضال والثقافة ملأوا زمانهم بما يرفعُ الرأس والجبين، وبسِيرِ مشايخ، عابدين، موحّدين، متواضعين، من حق أجيالنا الطالعة أن تتعرف إلى إرثهم المعرفي، والمسلكي المنقطع النظير، كيما يكونوا مشعلاً يهدي في زمن إمّحت فيه معظم معالم الطريق، وأطفئِت فيه على الأغلبِ سُرُجُ النور؛ زمن قال فيه أبو العلاء المعري قبل ألف ومئة وثلاثين عاماً:
قد فَسُدَ الأمرُ كلّهُ، فاتركوا الإعرابَ إن الفصاحةَ اليوم لحنُ

إثنا عشر عدداً، ما كان بالإمكان أن تخرج إلى القرّاء، وبخاصة في السنتين الأخيرتين، لولا محبة أصدقاء «الضحى» المنتظرين لها، وتفاني العاملين فيها، وبخاصة مندوبيها، يحملون العدد منها كما لو كانوا يحملون تحفة، يتمسكون بها، مدركين قيمتها الأدبية والأخلاقية، لا يرمونها كيفما كان، ولا يتحدّثون عنها وعن عملهم إلا باعتباره «واجباً» يؤدّونه، ولا ينتظرون له مقابلاً أو أجراً أو ثمناً إلا عند رب العالمين، ومن سريرتهم وضمائرهم، أولاً وأخيراً.

إثنا عشر عدداً جرى تمويل صدورها المكلف، وبخاصة في السنتين الأخيرتين، حيث غاب كل إعلان، وكل دعم خارجي، بفعل أريحية بضعة رجال صالحين صادقين مؤمنين، بل استثنائيين، في مجلس الأمناء، تكفّلوا، وحدهم تقريباً، بمعظم نفقات طباعة «الضّحى» – فيما عزّت المشاركة في الأعباء ممن لم نكن نتوقع منهم ذلك.

في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص كنّا ومندوبونا الأوفياء، نمرّ بطرق مقطوعة، وحواجز مقفلة، وممرات محفوفة بالمخاطر، كي نحمل «الضّحى» إلى قرائها، بل أصدقائها المنتظرين، بل العاتبين – بحق – إذا تأخر صدورها أو وصولها.
كان نجاح «الضّحى» في استمرار صدورها، في ظرف لبناني مرهقٍ للحياة حتى الاستحالة – بفعل صعوبات غير عادية ليس أقلها انهيار سعر العملة الوطنية إلى الحد الأدنى، إقفال المطابع، وانتشار الوباء الخبيث – ثم استمرار صدورها في مئة وثماني عشرة صفحة، ويزيد، في أغلى أنواع الورق وأرفع أشكال الطباعة – في حين اختفت معظم الدوريات اللبنانية الورقية أو تقلّص حجمها إلى وريقات قليلات – أقرب إلى إنجاز استثنائي، كي لا نقول أكثر من ذلك؛ أمرٌ ما كان ليتحقق لولا قوةُ دفعِ «رسالة » نفسها، أولاً وأخيراً، والإيمان الوطيد بها، الذي تحوّل تضحيات وتعاون مثاليين.

وأخيراً،
«الضّحى» أكثر من وسيلة إعلام، أو إخبار، أو إعلان – ولم تكُ يوماً كذلك.
«الضّحى»، وكما أرسى المؤسسون قبل أكثر من نصف قرن: رسالةٌ، ثم واجبٌ في القيام بأعباء الرسالة.

لقد خبرتُ من قرب العدد الكبير من الأفراد المؤهلين لأن يسهموا من خلال علمهم وخبرتهم وإخلاصهم في مسيرة «الضحى»، وأن يتقدّموا بها – ورقياً وإلكترونياً – إلى أمام، لتصل شهرياً إذا أمكن إلى جمهورٍ هو في شوقٍ، وحاجةٍ، إليها.
وبسببٍ من ذلك، يجب أن تهونُ كل التضحيات – المالية على وجه الخصوص – وأقصدُ تلقائياً أصحاب الإمكانيات المادية في بيئتنا، وهم كُثُر.

وفي المضمون، يتوجب، وبناء على مسحٍ علمي، مراكمة ما لقي من موضوعات «الضّحى» قبولاً واستحساناً من قرّائها، والتعديل في ما بات عبئاً على المجلة والمهتمين بها.

وسيكون، بالتأكيد، في طليعة ما يجبُ حفظه سياسة «» الحكيمة، في النأي بنفسها عن الصراعات السياسية، وجعلِ الجهد كلّهُ موقوفاً على التأصيل المعرفي والأخلاقي والتاريخي والثقافي الحقيقي، بعامة؛ وتجديد التزامها، كما الجماعة المعروفية أبداً، بالقضايا الوطنية والعروبية والإسلامية المنفتحة والمحقّة – وفي مقدّمها قضية الشعب الفلسطيني.

 

إصلاحُ النّظام الترّبويّ

كان مطلب الإصلاح في لبنان، على الدوام، جزءاً من كل خطاب سياسي، وفقرة في البيان الوزاري الأوّل لحكومة الرئيس رياض الصلح الاستقلالية في تشرين الثاني سنة 1943، وصولاً إلى آخر بيان وزاري قبل بضعة أشهر.
وتوالت بعد ذلك مطالب الإصلاح وتحوّلت جزءاً دائماً في كل خطاب وبيان، وأخيراً شرطاً عربيّاً ودولياً للمساهمة في إنقاذ لبنان من أزمته الراهنة الخانقة.

إلّا أنّ القارئ لكل خطاب إصلاحي مقترح سيلاحظ أن كل الأوراق الإصلاحية المُقدّمة، دون استثناء، قد غرقت في مجالات مالية وإدارية وسياسية، واقتصادية إلى سواها. ومع أهمية المجالات تلك، والحاجة المُلحّة إليها؛ إلا أنّ أيّاً منها لم يُشِر إلى الصلة الجوهرية والحاسمة بين الإصلاحات المطلوبة للنظام السياسي اللبناني والإصلاح التربوي تحديداً، وهو في أهمية الإصلاحات الأُخرى، بل نزعُم أنّ كل إصلاح لا يبدأ أو يستند إلى نظام تربوي وطني حديث، هو إصلاح سطحي، مؤقّت، سرعان ما يستنفد فاعليته بعد سنوات، لتعلو الصرخة إلى الإصلاح من جديد.

غير خفي على عاقل أو باحث أنّ حقلَي التعليم والتربية، معاً، هما من دون رَيب مفصل أساسي في كل نظام سياسي، أو اجتماعي، في كل مكان وزمان. إلّا أن النظام التربوي ذاك اكتسب في لبنان أهمية إضافية للنظام السياسي المُهَيمن منذ فترة طويلة، والقائم على مرتكزات طائفية وطبقية في آنٍ معاً.

حقل التربية والتعليم هو المكان الذي جرى، وتجري فيه، عملية إعادة إنتاج النظام السياسي الطائفي على نحو يكفل استمراره. هذا هو المسكوت عنه في الخُطَب والبرامج السياسية اللبنانية الراهنة.

لذلك فكلّ سعيٍ لإصلاح النظام السياسي في لبنان (ومعه النظام الاجتماعي وحتى الاقتصادي) باتجاه نظام سياسي مدني، تعدُّدي، ديمقراطي، حديث (كما يشتد الكلام فيه اليوم) يجب أن يبدأ برأيي بإصلاح النظام التربوي فيه. أمّا من دون ذلك فالتغيير سطحي، آني، وغير مستدام. ولكن كيف؟
عمليّاً، على نحو محدّد، ومن دون مُقدَّمات نظرية، يجب العمل في لبنان، إذا كنّا راغبين بإصلاح تربوي حقيقي، على سبعة محاور أساسية متلازمة ومترابطة:
1- تعزيز ثقافة الانتماء لوطن واحد، من خلال توحيد كتب: التربية الوطنية، التاريخ، والجغرافيا، وجعلها بلغة البلاد الرسمية، العربية، وبما يعزز ثقافة المواطنة والانتماء متساوين إلى وطن واحد. فكيف نكون وطناً واحداً وناشئتنا تتداول أكثر من تاريخ واحد، وجغرافيا واحدة، وبأكثر من لغة، بل وبغير اللغة الوطنية للبلاد؟ هذا غير موجود في أي بلد آخر! وذلك لن يتحقق إلّا بإلزامية التقدّم إلى البكالوريا اللبنانية لكل طالب يدرس البكالوريا على الأراضي اللبنانية. لغة التدريس والامتحان، هي من الأهميّة بمكان. وأياً تكن مكاسب تعدد لغات التدريس، إلّا أنها ستكون على حساب وحدة الانتماء الوطني.

2- تعزيز التعليم العام في لبنان، من خلال تعزيز المدرسة الرسمية، مناهج ومدرسين وأبنية مدرسية وتجهيزات حديثة، وتعزيز الجامعة اللبنانية الوطنية من خلال تحريرها من الفاسدين والفاشلين والطائفيين، وجعل الرئاسة فيها، كما في كل المراكز، دورية، وحقاً دستوريّاً لمن تتوفر فيه الشروط الأكاديمية والقانونية، بعيداً عن الاستتباع لهذا الزعيم أو ذاك، ولهذه الطائفة أو تلك.

3- مراقبة التعليم الخاص غير المجّاني، ما قبل الجامعي والجامعي، وتحريره من سلطة المراكز الطائفية ومن الهيمنة التجارية، وإلغاء التعليم الخاص المجاني حصراً، لأنه لا يؤدي اليوم أية وظيفة تربوية، بل هو حلقة غامضة تُنفق فيها المليارات على مدارس وهمية تعود لجيوب الطائفيين وأصحاب المصالح والمشاريع التجارية. إنّ التأسيس للثقافة الطائفية والمذهبية لا يجري في المرحلة الجامعية، بل هي مجرد خاتمة وتتويج. التأسيس إنّما يجري في مراحل ما قبل الجامعة، وبخاصة في المرحلتين المتوسطة والثانوية.

4- توحيد التعليم الديني في لبنان، وهذا أمر جديد، وجعله موحّداً وإلزامياً في كل المدارس الرسمية والخاصة، (وهذا اقتراح محدد من المصلح الكبير المعلّم المغفور له كمال جنبلاط)، وذلك بتكليف لجنة مؤلفة من رجال دين منفتحين وعلمانيين متخصصين تقوم باقتراح كتاب واحد للتعليم الديني يأخذ على عاتقه التعريف بأهمية الدين والانتماء الديني معرفياً وأخلاقياً ونفسياً، ويعرّف الطالب اللبناني على معنى الدين عموماً، والمشترك بين الأديان كافة، وأنواع الاختبارات الدينية المتنوعة التي يزخر بها المجتمع اللبناني، وفي أهمية الاحترام والتفهم المتبادلين بين أبناء ديانات الله كافة.

5- العمل على تعزيز حس الاشتراك والتشارك لدى الشباب اللبناني، ويتضمن ذلك تعزيز روح العمل والمبادرة والتبادل والاعتراف بالآخر وفتح مساحات للنقد الذاتي والحوار السَّلمي الديمقراطي، من دون استبعاد أو إلغاء أي مكوّن أو رأي، بل اعتبارها كلها عناصر إثراء وغنى للإجتماع اللبناني.

6- تعزيز المجتمع المدني اللبناني، المكوّن من أندية وجمعيات مدنية ومنظمات ثقافية ونقابية وحقوقية وإعلامية ونسائية وبيئية وخيرية، باعتبارها:
أ – حالة مستقلة عن الطوائف، ب – غير تابعة للقطاع الخاص، وهي، ج – الصلة المدنية الحديثة بين المواطن والدولة، بل والرديف للدولة في المجالات التي لا تستطيع الدولة العمل فيها بكفاءة وفاعلية.

7- وأخيراً، إبراز قيمتَيّ المواطنة، والحس الإنساني العالي، باعتبارهما الهدف الحقيقي لكل تربية وتعليم، قبل وأعلى من كل اختصاص أو مجال معرفي مفيد نزوّد الطالب به. لقد أثبتت الأبحاث التي أُجريت على الصلة بين نوع التربية التي يحصّلها الناشئ والميل للاتجاهات المتطرّفة والإرهابية، أن لا الاختصاص ولا الشهادات العليا هي ما يحصّن الطالب والخريج من الاختراق الإرهابي: بل إنّ ما يحصّنه حقّاً هو العمل على تجذير قيمتَيّ المواطنة والعالمية في شخصيته منذ بواكير حياته التعلّمية، بالإضافة إلى تعزيز شخصيته الفردية من جهة، والناقدة، من جهة ثانية.

هذه بعض العناوين ذات الصلة بما هو مطروح اليوم من مطالب إصلاحية، والتي يمكن التفصيل والتوسّع أكثر فيها، برسم البرامج الإصلاحية المطروحة الآن.

لا لكلِّ تفكيرٍ طائفيّ،

لم أكن في تاريخي الثّقافي والسياسي يوماً غير وطنيّ عروبيّ إنسانيّ، عقلانيّ التفكير، بعيداً عن كل مرض طائفي أو عنصري؛ وعليه فما أخطُّه في هذه الكلمة ليس دفاعاً عن الدروز كطائفة – هذه ليست مهمّة رئيس التحرير – وإنَّما دفع بالكلمة لظلم فادح وقع عليهم منذ حين؛ دفاع عن الحقوق الإنسانية والوطنية ومطلب العدالة لكل جماعة إنسانية، وهو واجب أخلاقي قبل أن يكون حقّاً من حقوق الإنسان.

لم يخطئ شوقي أمير الشعراء حين دافع عن الدروز سنة 1925 في ما أصابهم من عَسفِ الفرنسيين المحتلِّين لسوريا آنذاك وعنفهم، إذ فقدوا بين سنتي 1925-1927 ما يقارب ربع رجالهم في جبل العرب جَرّاء الغارات التدميرية لطيران الجيش الفرنسي ودباباته ومشاته، وكان يومذاك جيش البرّ الأوّل في أوروبا، في ذلك يقول شوقي:

وما كان الدروزُ قَبِيلَ شَرٍّ            وإنْ أُخِذوا بما لم يستحقُّوا

تلك عَيِّنَةٌ فقط من تضحيات العشيرة المعروفيّة في المشرق، وبخاصة في لبنان وسوريا، طوال تاريخها اللّافت الذي أمتدّ لألف سنة، منها 800 سنة في إمارة جبل لبنان، لم تعرف البلاد فيها فتنة طائفية أو مذهبية واحدة، بفعل الحكم الرَّشيد لأمراء جبل لبنان من الموحِّدين الدروز – والذي ما إن آل الحكم فيه إلى بشير الشهابي الثاني حتى غرقت البلاد سريعاً في كل أنواع الفتن، من الطائفي والمذهبي والعشائري المَحلِّي، إلى اصطفافات إقليميّة متقلّبة، جَرَّت الويل على البلاد فأدخلتها سياساتُه الرعناء في فتن لم تنتهِ إلّا بمغادرته على بارجة بريطانية إلى منفاه في مالطة. لكنَّ فساد سياسته استمرَّ مع خليفته الضعيف، بشير الشهابي الثالث، فدخلت البلاد – وسط عالم متغيّر عنواناه: ضعفٌ عثمانيٌّ متمادٍ مقابل هجوم أوروبيٍّ سياسيٍّ واقتصاديٍّ بالغ القوَّة، بل غير مسبوق منذ الغزوات الفرنجيَّة في القرن الحادي عشر ميلادي. وكانت النتيجة الطبيعيَّة لفقدان التوازن ّ وقوّة التدخّلات الخارجية أن اندلعت أحداث 1841، 1842، 1845، وذروتها أحداث 1860 المشؤومة: أحداثٌ أُسميت طائفية وهي ليست كذلك إلّا شكلاً، فيما هي في حقيقتها حروب سياسيَّة واقتصادية واجتماعية مُعَقّدة متداخلة، برداء طائفي خادع. لقد أُدخل اللبنانيون، دون استشارتهم في حروب وفِتَن لا يدَ لهم فيها، ولم تكن لهم القدرة على منعها، فحدَث ما حدَث. ومع ذلك جرى تحميل الدُّروز ظلماً، وكانوا قلَّة قليلة، خسائر تلك الحروب التي فقدوا فيها أكثر من 4000 رجل، وسيق المئات منهم إلى المنافي في الأناضول وطرابلس الغرب والبلقان، عدا النَّهب الواسع الذي جرى لممتلكاتهم وأرزاقهم وأوقافهم.

كما أنّ تضحيات العشيرة المعروفية في جبل العرب لم تكن أقلّ من ذلك، بل أكثر فداحة بكثير. إذ أشبع الولاة العثمانيون الجشعون الجبل غزوات وغارات طمعاً بمحاصيله الزراعية، أو لكسر شوكة وكرامة أبنائه، وهي أغلى لدى المعروفيين من الرزق والمال وحتى الأرواح. ولمعرفة فداحة ما تحمّله جبل الدروز من عسف أولئك الولاة وغزواتهم.

وشكّلت ثورة جبل الدروز لثلاث سنوات 1925-27 ذروة مواقف العشيرة المعروفية في السياسة والوطنية والقومية. فقد عوقب جبل الدروز أشد العقاب لأنَّه رفض القبول بدويلة درزية على حساب وحدة أراضي الدولة السورية المُرْتجاة وكيانها الإداري، وكانت عاقبة رفضهم ذلك حرباً عسكريّة ثقيلة شعواء على جبل العرب، ردّ عليها المعروفيون بثورة وطنية قومية من الدرجة الأولى، بقيادة سلطان باشا الأطرش، وتحملوا في سبيلها ما لم تتحمله جماعة من عَسف وظلم وقصف وتهجير ومنفى. فقد هُزمت الثورة عسكريّاً نتيجة تواطؤ فرنسي-بريطاني، وأُجبر قائد الثورة سلطان الأطرش، ومعه المئات من مقاتليه – ونسائهم وأطفالهم – أن يغادروا إلى الأزرق في الأردن، ثم أَبعدَ من ذلك إلى صحراء وادي السّرحان شمال العربية السعودية حيث عاشوا لسنوات ظروفاً معيشية ومناخية قاسية أسطورية، صارت روايات على كل لسان، لما احتوته من جوع وعطش، ومن موت أطفال في هجير صحراء لا ترحم، وبعدما شاع خبر مجاعتهم، أرسل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني ممثّله السيد أكرم زعيتر ليستقصي أحوالهم، فهاله ما رأى من شظف العيش وشاهد سلطان قائد الثورة لثلاث سنوات خلت؛ يحتطب من أمكنة بعيدة ليؤمن لعائلته الموقد والنار والدفء وسط قَرِّ الصحراء وقريرها. ولعل أكثر ما هال أكرم زعيتر أن يرى الثوار المنفيين لا يملكون إلا «ملاعق خشبية» صنعوها ليأكلوا هم ونساؤهم وأطفالهم بها. ولم يتردَّد الحاج الحسيني أن يضع الملاعق تلك، بعدما جاءه بها أكرم زعيتر، في رُكنٍ مميّز من المسجد الأقصى، وجعل فوقها عبارة: تلك هي عدّة كلِّ مناضلٍ حقيقي صاحب قضية مُحِقَّة.

أكرم زعيتر

أمّا جريمة المعروفيين الدروز، ثوّار 1925-27، فهو تصدِّيهم للاستعمار الفرنسي ورفضهم تقسيم سوريا إلى عدّة دويلات طائفية، بل رفضهم دولةً درزيَّةً عُرِضَت عليهم، لها علَمُها وكيانُها وحدودُها، ورئاستُها لآل الأطرش.

ذلك هو تاريخ المُوحّدين الدروز الحديث، من إسقاط مشروع الدولة الطائفية التقسيمية في سوريا، بقيادة سلطان باشا الأطرش، إلى إسقاط كل مشروع إسرائيلي في لبنان طوال حربهم الطويلة 1975-1990، وذروتها إسقاطهم حصراً وبفعل صمودهم في حرب الجبل لاتفاقية 17أيّار المُذلّة التي فُرضت على لبنان بُعَيْد الغزو الاسرائيلي سنة 1982.
ومقابل ذلك، وبكل صراحة: لا شيء تقريباً ممّا كان يجب تقديمه لِتُوفى العشيرة العربية المعروفية حقها، لاحتفاظها المُكلِف بشعلة الكرامة، وإشعالها لأوَّل حرب تحريرية في الشرق ضد الانتداب الأجنبي على سوريا ولبنان، وإسقاطها من ثمة كل مؤامرة تمس وحدة البلدين أو عروبتهما.
وبسببٍ من محدودية ما نال جبل العرب وجبل لبنان الجنوبي من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بدا التعليم هو الميدان الأكثر اتساعاً وديمقراطية أمام أبنائه، إلاّ أنّ العجز عن استيعاب مُخرَجات التعليم المتوسع ذاك أحال العملية إلى تخريج عاطلين عن العمل، أو موظفين إداريين هامشيين، وإلى مشروع هجرة ونزف في البلدين نحو الخارج. ولطالما جرى التحذير أن الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء هي قنابل اجتماعية وسياسية موقوته، لا ينزع فتيلها غير التنمية المتوازنة والاندماج الوطني المواطني، والديمقراطية – صمّام الأمان لكل المجتمعات المركّبة.

ومع ذلك، وعلى المستوى الاستراتيجي، لا حلول طائفية حقيقية لأيّة طائفة، لا في لبنان، ولا في أي قطر عربي. الحل الطائفي وإن بدا مُغْرياً ليوم أو يومين فهو قاصر عن أن يؤمِّن الاستقرار والتنمية والديمقراطية على المدى البعيد.

كل الحلول الطائفية مآلها الإخفاق وكل حلّ طائفي لأيّة مشكلة هو مشروع مشكلة أكثر خطورة وأدهى نتائج وتداعيات. وعليه يجب إزالة هذا الوهم من الأذهان: لا حلول طائفية، ولا عدالة طائفية، كلُّها ألغام وأفخاخ أَدرك فشلَها وخطرها وحذّر منها روّاد العروبة الأوائل في نظريّاتهم القومية منذ ما يقرب من مئة سنة.
ومن لم تقنعه النظرية، فليقرأ وقائع السنوات الثلاثين الأخيرة في العالم العربي، حيث تراجع المشروع القومي الجامع لمصلحة الحساسيّات المحلية الطائفية والثقافية والعشائرية، فإلامَ قادت الحلول الطائفية المُرتجاة أو المزعومة في العالم العربي؟ لقد أوصلت المجتمعات العربية إلى الخراب، بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لا مشروع حلٍّ طائفي يؤتمن لأيّة مشكلة تتعلّق بالمكوّنات الطائفية والإثنية…
المشروع الحقيقي الذي يمكن الوثوق به، والرّهان عليه، هو المشروع الديمقراطي، الوطني، العروبي الجامع.

“الكورونا”

 أيها «الدهريون» (وهو الإسم الذي أطلقه الفلاسفة العرب في العصر الوسيط على من نسمّيهم اليوم «الماديون») أما آن لنا أن نفكر بطريقة مختلفة عمّا تعوّدتموه وعوّدتمونا عليه في زمننا الحديث، فيما تصطدم نظرياتكم، من جديد، وللمرة الألف، بحيطان الحروب والأوبئة والكوارث – وآخرها وباء الكورون الذي شلّ حتى اليوم قطاعات اقتصادية عدّة وبخاصة في مجالات النفط والنقل والسياحة وسواها وبكلفة بلغت ثلاثة ترليونات دولار حتى الآن، وبعزلة بين مدن البلد الواحد ناهيك بالعزلة بين البلدان، وبعدد من الضحايا عسى أن يبقى محدوداً.

 أيها العلماء الدهريون، وببساطة شديدة، لقد أخذتم البشرية منذ قرنين نحو علم مادي بالكامل، وقلتم هذا هو العلم، وأن لا مكان فيه لأي عنصر غير مادي. ومن خالفكم الرأي، أو طالبكم بالتروي، كما فعل كثير من الفلاسفة والشعراء والفنانين ناهيك عن مريدي الأديان، أسقطتم عليهم سريعاً ومن دون تروٍ حكماً مُبرماً «لا علمي» – فبات لا يؤخذ أو يعتد برأيه في كل مجال وميدان.

  لقد هيمنتم على مراكز إنتاج العلم والأبحاث في المدارس والجامعات، فباتت اختصاصات المال والمحاسبة والصيرفة وإدارة الأعمال والإعلان والكومبيوتر، في أميركا أولاً، ثم في أوروبا وبعدها في باقي أجزاء العالم، ومنها لبنان والوطن العربي، هي «الموضة» على حساب الاختصاصات الانسانية والاجتماعية التي باتت نادرة، يتيمة، غير مطلوبة، «وتثير السخرية».

 ايها «التقانيون»، هل حقّق تقدمكم التقني – ولا أقول العلمي – خلاص البشر؟ هل انتهت الحروب؟ ألا ترون أن معظم الإرهابيين الأكثر خطراً كانوا من -التقنيين-؟ هل أفدتم البشر، في شيء، حتى عملياً، من شطبكم الإنسان والأخلاق والقيم والتراث، والله في أسمائه المختلفة؟ لقد زاد الشر أضعافاً مضاعفة، وبات لا يردعه إلا وجود شرطي وكاميرة مراقبة عند كل زاوية وباب!

وأخيراً، إذا كان من معنى لغزوة الكورون الآن فهي تذكيرنا أن العلم للإنسان وليس الإنسان للعلم، وأن الإنسان ليس جسداً فحسب، والمجتمع ليس أرقاماً فحسب، بل هما التوازن في كل شيء…وهو ما غفل عنه عامداً العقل «التقاني» المعاصر فبات أقرب إلى الشر منه للخير، على ما نرى يومياً، في غير باب ومجال. لقد آن أوان التفكير من زاوية مختلفة، فهل يجرؤ العلماء؟

الانتفاضةُ الشعبيّةُ الأخيرةُ،

لم تُفاجئ الانتفاضةُ الشعبيّةُ اللّبنانيّةُ الأخيرة (انتفاضة 17 تشرين الأوَّل) المُراقبين اللّبنانييِّن أو غير اللبنانييّن. فقد كان هؤلاء يتابعون بهلَعِ المسارَ التّصاعُدي الكارثيّ لظواهرَ عدّة مُقلقة في الوضع اللّبناني في السنوات الأخيرة، وأبرزُها:

  • وصول رقم الدَّيْن العام المُتَرتِّب على الدّولة اللبنانيّة سنة 2019 إلى ٩٠ مليار دولار أمريكي، أي ضعافا إجمالي إجمالي الناتج الوطني في لبنان المُقَدّر بنحو 55 مليار دولار تقريباً، (زاد الدّين العام في السنوات الثلاث الأخيرة فقط 18 مليار دولار، 3 مليارات دولار كل سنة في إنفاق استهلاكي لا استثماري) ما يجعل نسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلّي في لبنان الثانية أو الثالثة في العالم بأكمله.
  • تراجع الإنتاج المَحَلِّي القابل للتّصدير إلى درجة لم يبلغها حتى في أثناء الحرب الأهلية، فبات الميزان التجاري مُخْتِلًّا حتى درجة الكارثة: نُصدّر بملياري دولار أمريكي ونستورد بعشرين مليار؛ ما يعني بين أشياء كثيرة: أنّه مقابل كل دولارين يدخلان البلاد يخرج منها عشرون، وفي حِسْبَة بسيطة دخل البلاد في عشر سنوات بين 20 و 30 مليار دولار بدل الصادرات، فيما خرج منها أضعاف أضعاف أضعاف ذلك ثمن الواردات ممّا يحتاجه ولا يحتاجُه اللبنانيّون.
  • انهيار القطاعين الصّناعي والزّراعي على نحو لم يسبِق له مثيل. ففيما كان القطاعان يشكّلان قبل 20 سنة بين 30 و35 % من الناتج القومي، ويعيلان 50% من اللبنانييّن، أدّت سياسة الأسواق المفتوحة بالكامل وممرَّات التّهريب الكثيف إلى إغراق السوق المَحَلِّي بمنتوجات صناعيّة وزراعيّة أرخص بكثير من تلك التي تُنْتَج محلّيّاً، وأدّت من ثمّة إلى إقفال تدريجي للمصانع أو لنقلها إلى خارج لبنان، وإلى بوار الإنتاج الزراعي الذي بات عبئاً على المزارعين لكلفة خدمته العالية وانعدام الربحيّة فيه. ومع انهيار القطاعين انضمّ عشرات ألوف اللبنانييّن إلى طوابير العاطلين عن العمل، أو الباحثين عن فُرَص عمل في سوق مُتراجع ومُنْحَسر سنويّاً.
  • انهيار مُتَسارع لما تبقَّى من شرائح الطبقة الوسطى نحو أحزمة الفَقر بنسبه المختلفة (والتي باتت تضمّ نحو 50 % من اللبنانييّن) مقابل التّمركز المُتزايد للثّروات في أيدي القلَّة القليلة وعلى نحو خطير ومُؤْذِن بالاضطراب الاجتماعي، فقد بات 1% من اللبنانييّن يملكون 50% من الثروة الوطنية. رافق هذا الانهيار، وأسهم فيه، تراجع المداخيل، وارتفاع أكلاف الحياة والمعيشة، ووصول أرقام البطالة وبخاصّة بين الشباب إلى أكثر من الثّلث، وانسداد فُرص العمل في الداخل أو الهجرة إلى الخارج، واتساع هجرة الأعمال المُنتجة إلى قطاعات طفيليّة مؤقَّتة، والتوظيف الطُّفيلي للأموال في المصارف لا في الإنتاج، واتساع الهجرة من الأرياف إلى مدن الشريط الساحلي ما خلق أزمة سكن حادّة، بالإضافة إلى الوجود الكثيف للأشقّاء اللاجئين بفعل الحرب من سورية ما شكّل ضغطاً على موارد البلاد القليلة في الأصل. 

قادت هذه الأسباب وغيرها إلى ازدياد في حِدّة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة، الكبرى واليومية، وإلى درجة انتحار عدد من أولياء أمر العائلات الأكثر فَقراً، فتشكّل من ثمَّة مُستودَع اليأس والغضب الذي أَطلق انتفاضة اللبنانييِّن الأخيرة.

ومع ذلك، ولنعترف، فالأزمة ليست مَحَليَّة فقط. فإذا أمعنّا النظر في لوحة العالم الراهن بأسره، لوجدنا أنَّ القاسم المُشترك بين أطراف هذا الكوكب قاطبة، وداخل كلِّ مجتمع، كلمة واحدة: الأزْمة، ثمّ الأزمة، ثمّ الأزمة.

لقد أدّى الطّور الأخير المُتوحّش من الرأسماليّة المُهيمنة (والتي سُمِّيت رمزيّاً: العولمة)، وكذلك التقانة العالية التي بلغت حدّاً أعمى غير مسبوق، وسحب أنظمة الرّعاية الاجتماعية والصحيّة، والكُلفة العالية للحروب الإقليمية أو الأهليّة المُفتَعَلة، إلى إنهاك العالم وسكّانه إلى أقصى الدّرجات. وإذا كان ذلك صحيحاً في البلدان والمجتمعات ذات الاقتصادات القويّة، فما بالك بالبلدان والمجتمعات الهشّة في عالم الجنوب، وبخاصة في مجتمعات المَشرق العربي (مصر، فلسطين، الأردنّ، العراق، سورية، ولبنان). لقد ابتُليَت هذه البلدان والمجتمعات بالعدوان الإسرائيلي المُستمر والشّديد الكُلفة، أوّلاً، وبالسياسات الاقتصاديّة الفاشلة، ثانياً، ثم بأعباء التطوُّرات السياسية السلبيّة بل المُدَمِّرة التي عصفت بالمنطقة منذ سنة 2010.

وفاقم التراجع الاقتصادي والمالي في بلدان الخليج منذ بضع سنوات من حِدّة وقع التّطورات العاصفة أعلاه على المجتمع اللبناني الضعيف والهشّ. وعليه، كان لتراكم الأسباب السلبية تلك أن يبلغ ودونما إبطاء مستوى الأزْمة الحادَّة، ثم الانفجار. وهو ما حدث حقًّا.
ومع ذلك، وبالرَّغم من الأسباب الماديّة والتقنيَّة للأزمة الخانقة تلك، فإنَّ للأزمة الاجتماعيّة والاقتصادية والمالية الضاربة في مجتمعاتنا تحديداً أسباباً أُخرى، أكثر عمقاً، كما أعتقد، وهي باختصار، خروجنا، جماعاتٍ وأفراداً:

  • عن الطّبيعي نحو المُصْطَنَع،
  • عن العقل نحو الغرائز،
  • عن الـ ‘نحنُ’ الجامعة نحو الـ ‘أنا’ الفرديّة، المُقَسِّمة، والقاتلة،
  • عن التّضامُن والتّعاضُد والغيريّة نحو الانشطار الطّبقي والتّنافس الحادّ،
  • عن المبادئ والقِيَم الأخلاقيَّة والإنسانيَّة نحو ما هو مادّي ونفعي بالمعنى الضيّق،
  • وخروجنا، فوق ذلك كلّه، بل تمرُّدِنا على الله، وعلى كلّ شريعة سماويّة أو روحيّة، أو أخلاقيّة، كانت دائماً هي الضّامنة لحياتنا، وبخاصّة في مجتمعنا؛ حياة قائمة على الإيمان والفضيلة والرّضا والقناعة والتعاضد بين أفراد الأُسرة الواحدة والمجتمع الواحد.

تلك هي الثّروة الحقيقيّة لمجتمعنا وعائلاتنا والتي خسرناها يوم خسرنا إيمانَنا وفضائلَنا وإنسانيتنا ومَحبّتنا وتعاضُدنا، بعضنا مع بعضنا الآخر، والمُقتَدر فينا مع الأقل حُظْوةً وقدرة.

ونسأل على المستوى الميكروي الأصغر، بكثير من الصّراحة، هل مَنْ يوازن اليوم بين ما يُدْخِلُه، وما يُنْفِقُه؟ وهل الشبكة الاستهلاكيّة العنكبوتية الشيطانية التي انخرط فيها مُعظم مُجتمعنا، عائلاتٍ وأفراداً، هي حقّاً في باب الضّروري الذي لا يُستغنى عنه؟

وإلى أنْ نَجِدَ الجواب الصّحيح عن السّؤالين أعلاه، وإلى أنْ نستعيدَ ما فقدناه (في زمن العولمة الماديّة الاستهلاكيّة المُتَوحِّشَة) من إيمانٍ، ومحبّةٍ، وتعاضُدٍ، فلن نستعيدَ راحة البال، وطمأنينة الروح، التي كانت لنا، ولا الأمل بمُسْتقبل زاهرٍ نمنحُه لأبنائنا وجيراننا ولمجتمعنا بأسره…

الأزْمة الحقيقيّةُ، إذاً، هي أزْمة أخلاقيّة قبل أن تكون أزْمةً مادّيَّة: أزْمة الخَيارات السيّئة التي أخذتها مجتمعاتُنا في العقود الأخيرة، أو أُجبرت على أخذها، بعيداً عن العقل وعن الله والإيمان والمحبّة…

وحدةُ أبناءِ الجبل أقوى من مشاريع الفتنة

  في مُقدَّمة محاضرتِه التي ألقاها في لندن الباحث السوسيولوجي العريق فؤاد إسحاق الخوري (وقد نقلتُها إلى العربية تحت عنوان «جوانب من التركيب الاجتماعي الدرزي»)، يقول: «بدا الدروز تاريخيّاً في صورة تميّزت – باستثناءات قليلة جداً – بتماسك داخلي واضح وبشعور قوي بهويّتهم الإثنية. وبالفعل شدّد كل الذين كتبوا عن الدروز، قديماً أو راهناً، على وحدتهم وتضامنهم الداخليين. فقد كان لـ «لويه برييه»، و «فيليب حتّي»، الذي عاش بين الدروز يافعاً، و «غابرييل بن دور»، و «تشارلز تشرشل» الذي كان شاهد عيان للصدامات الطائفيّة في جبل لبنان بين 1842 و1860، والراحل «حنّا بطاطو» في كتابه الأخير عن سوريا، كان لهم جميعاً الملاحظة نفسها في ما خص وحدة الدروز وتضامنهم. وخلال حرب لبنان الأهلية الطويلة (1975-1990) انقسمت أو تقاتلت في لبنان، بطريقة أو بأخرى، كلّ طائفة، كلّ حزب سياسي، كلّ تنظيم ميليشياوي، عدا الدروز. فقد كانوا مُوَحَّدين كُلِّيّاً طيلة ذلك النزاع الأهلي. والتضامن لم يقتصر على دروز لبنان فقط، وإنّما امتد خارج الحدود ليشمل دروز سوريا وفلسطين.»*

  لهذا السبب الداخلي قبل سواه، بدا ما حدث مطلع تموز 2019 في «البساتين» – قبرشمون، والذي سقط بنتيجته الشهيدان رامي سلمان وسامر أبو فرّاج وعدد من الجرحى، وقبل ذلك في الشويفات في خلال انتخابات أيّار 2016، والتي سقط من جرّائها الشهيد علاء أبو فرج، أمرين مستهجنين، ومن خارج التقليد الدرزي العريق في الوحدة، وفي حلّ كلّ الخلافات الدرزية بالعقل والحكمة وبالطريقة المُتَعارف عليها.

  كانت الحادثتان اختراقاً خطيراً لسلام داخلي تامّ عاشه جبل لبنان الجنوبي منذ منتصف القرن الماضي، منذ نهاية ثورة 1958، التي افتتحت من جهة أولى حقبة من التنمية الشاملة التي ميّزت مرحلة ما بعد الثورة، وبخاصة في عهد اللواء فؤاد شهاب (1958-1964)، وكرّست من جهة ثانية وِفاقاً وطنيّاً لبنانيّاً قام على التوازن الداخلي، والنأي بلبنان عن سياسة الأحلاف والمحاور العربية والإقليمية.

  طوال خمسين سنة ونيّف، مرّت العواصف السياسية والعسكرية العاتية بالمنطقة ولبنان، فلم تَنَل في شيء من وحدة الجبل التامة. فهو كان مُوحَّداً خلف البرنامج الإصلاحي للحركة الوطنية اللبنانية 75-76، الذي قاده المُعَلّم كمال جنبلاط ، وجوهره الخروج نهائيّاً من دوّامة النظام السياسي الطائفي في لبنان، والدخول في نظام سياسي اقتصادي جديد قوامه التوازن السياسي والدولة المدنية وتنمية الأطراف والمناطق المُهَمّشة.
وهو كان موحداً طوال حقبة 1983-1989، كأشد ما تكون عليه الوحدة، في مواجهة الاحتلال الإسرئيلي واتفاقية 17 أيّار، ومفاعيلهما السياسية، وعلى قاعدة البيان الشهير لسماحة شيخ العقل المغفور له محمّد أبو شقرا، والمغفور له الأمير مجيد أرسلان، والزّعيم وليد جنبلاط، الذي أعلن المقاومة المدنية الشاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وصولاً إلى انسحابه من الجبل سنة 1984. وبفعل وحدة الجبل الصامد المقاوم،وبطولات المقاومة الوطنية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية على وجه الخصوص، وبفعل وحدة اللُّبنانيين مسلمين ومسيحيين، أمكن إخراج الإسرئيلي وإسقاط الاتفاقية المقيّدة لاستقلال لبنان وعروبته، وصولاً إلى التحرير الناجز في 25 أيّار سنة 2000.

  في كل الحالات تلك، وطوال خمسين سنة، كان الجبل يعيش ما يشبه الجزيرة الآمنة وسط الاضطراب الذي أصاب الوطن والإقليم، بل إنَّ الانتخابات النيابية الدورية كانت تتسم في الجبل بالحدّ الأدنى من التنافس، ما نزع من قاموس أهل الجبل مفردات العداوة والكراهية والخصومة الحادّة.

  ما الذي حدث إذاً منذ انتخابات أيّار 2016، إلى تمّوز 2019، وقاد مع الأسف إلى الحادثتين الأليمتين في الشويفات والبساتين – قبرشمون. ما حدث، باختصار، هو أنّ وحدة الجبل، وما فيه من توازنات وتفاهمات وقبول واحترام متبادلَيْن، تعرضت (منذ 2016) لضغوط خارجية شديدة لم يقوَ الداخل الطّري والهش على ردّها أو دفع مفاعيلها وأذيَّتها. وقد تعرّض لبنان بأكمله، قبل الجبل، للاهتزاز الشديد نفسه. فانعدمت تفاهمات الأطراف المحلِّييِّن، وتقطّعت الجسور بينها، وتحوّل التنافس إلى «قتال»، والخصومة التقليدية إلى عداوة، وغدا المقياس والعنوان «أنا، وليكن من بعدي الطوفان».

  أمّا السبب الحاسم – وليس الوحيد – وراء ذلك كلّه فقد كان قانون الانتخابات الذي أُقِرَّ عشية انتخابات 2016، والذي قام على أساس الصّوت الفردي التفضيلي المُرَجِّح – أما النسبية فكانت الغطاء والحجّة. أطلق قانون «الصوت الفردي التفضيلي المُرَجِّح» العنان للغرائز، كل الغرائز: من الأنا الفردية الفاقعة إلى الاصطفاف الطائفي المُدَمِّر. وهكذا فرض القانون الجديد على السياسيين قتالاً فردياً لا هَوادة فيه، وفرض على المواطنين اصطفافاً لم يسبق له مثيل. خرجت كلّ الأصوات المستقلَّة، المُعْتدلة، الخارجة على طوائفها، من السباق الانتخابي. لا صوت يعلو الآن على الصوت الطائفي الصّريح حتى منتهى الشرِّ والقُبح.

  بات الخطاب الطائفي الصّريح، وإثارة العصبيّات المذهبية، أقرب الطرق للفَوْز بأصوات الناخبين. وبدل أن ينتهي مفعول الخطاب الطائفي بنهاية الانتخابات، استَعرَ أوارُه على نحو أكثر قوّة في الحقبة التي تلت، طمعاً بأرباح سريعة أخرى توفّرها الشّعبويّة الانتحاريّة. لم يتأخّر أصحاب الخطاب ذاك في الاندفاع به في كلّ اتجاه، وفي استخدام مفردات وصور ممجوجة من ماض كريه لا يريد أحد أن يتذكّره. جلب هذا الخطاب المُثير للعصبيّات والغرائز التوتّر في أرجاء الوطن كافّة: من بعلبك إلى بشرّي إلى طرابلس… فالجبل، وعلى نحوٍ لا يُسَرُّ بها لبناني واحد الآن، إنطلاقاً من رغبة واعية في أن لا نتذكر إلّا ما يوحّد اللبنانيين ويجمعهم، على نقيض كل خطاب طائفي يستخدم لإحداث الفرقة بين اللبنانيين، بين الأديان والمذاهب المختلفة، بل داخل كل دين ومذهب.

  وعليه، لم يكن مُستَغرَباً أن يقود الخطاب الطائفي التحريضي إلى ما قاد إليه من مشروع فتنة داخلية في كل منطقة لبنانية، وأن يوصل البلاد والعباد إلى ما أوصلهما إليه. ومع الأسف الشديد كان قدر الجبل من جديد أن يدفع الثمن من دماء بنيه الزكيّة، ومعه لبنان بأكمله.
  ومع ذلك، كان أبناء الجبل، ومعهم غالبية اللبنانيين، في مستوى التحدّي التاريخي الذي فُرِض عليهم. فقد تخطَّوْا خطر الفتنة الداخلية، وفخّ إعادة الانقسام والاقتتال بين أبنائه من الطوائف كافة؛ بل بادروا، أكثر من ذلك، ومن مُنطَلق مسؤوليتهم الوطنية العميقة إلى تسفيه خطاب الفتنة بتجديد عقد العيش الواحد بينهم زمن المصالحة التاريخية التي انبرى لها المثلث الرحمات المغفور له الكاردينال صفير، ولاقاه بالإخلاص نفسه وليد جنبلاط والقادة السياسيّون في الجبل، فأُسقط في يد من يريد بالجبل ولبنان شرّاً: وبدل أن يكون الخطاب الطائفي التحريضي مناسبة للاقتتال الداخلي والموت من جديد، تحوّل ببركة الخيّرين كافَّة وبحكمة القيادات السياسية العاقلة إلى مناسبة لتجديد الثقة بين أبناء البيت الواحد وتجديد الحرص على العيش الواحد ونبذ كل خطاب طائفي أو تقسيمي.

  نعم، تجاوز لبنان، مع الجبل، الفخ – الفتنة. فسلامة لبنان من سلامة الجبل، وسلامة الجبل من سلامة لبنان، وهو العنوان البارز لرسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في العدد السابق من (وحدة الجبل، وحدة لبنان). لكنّ إسهام سماحة شيخ العقل لم يتوقّف عند حدود النداء الفردي، بل كانت دعوته المباركة إلى قمَّة روحية لبنانية جامعة للتباحث وإعلاء الصوت وإظهار الموقف الروحي الواحد دفعاً للفتنة وتجديداً لمواثيق العيش الواحد بين اللبنانيين. فكان انعقاد القمَّة الروحية في دار طائفة الموحدين الدروز حدثاً بارزاً، بل الحدث الأبرز، في مواجهة مشروع الفتنة وتجديد الانقسام بين أبناء الجبل واللبنانيين بعامّة. وكان الخطاب الافتتاحي لسماحته وثيقة وطنية روحية – سياسية جامعة، تلقَّفها بكلِّ الترحيب والتأييد القادة الروحيّون المجتمعون وشكَّلت الأساس في البيان الختامي للقمّة. وعلى هدي من القمة الروحية، وببركة النوايا الخيّرة للقادة الروحيين جميعاً، اكتمل التصدي للفتنة، ووأدها، بقمة سياسية وطنية جامعة انعقدت في القصر الجمهوري في بعبدا بدعوة من فخامة الرئيس عون، ومشاركة الرئيسين برِّي والحريري، ووليد جنبلاط وطلال أرسلان، فأرست الأرضيّة لمعالجة ذيول ما حدث من خلال ما أسمي بالمصارحة والمصالحة.

  نعم، هُزم مشروع الفتنة، المشروع التقسيمي الشيطاني الباعث من جديد لصور الاقتتال والموت ونبش بعض ذكريات الماضي البَشع – يوم كان الجبل ولبنان مجرد ألعوبة في الصراعات الإقليميّة، ولم يكن للبنانييِّن في أيَّة لحظة القدرة على ردّ التدخلات الخارجية. لكن اللبنانييِّن، وبخاصّة أبناء الجبل من طوائفه كافة، كانوا أكثر وعياً من أي يوم مضى، ووحدتهم كانت أكثر صلابة من كلّ المؤامرات الشيطانية الخبيثة. وقد تمكنوا، بفضل وعيهم ووحدتهم، وبحماية مؤسستهم العسكرية والأمنية، من وأد الفتنة قبل أن تنتشر، ومن إطفاء النار التي أشعلت غيلة وأريد لها أن تحرق الجبل والعيش الواحد المشترك، بل وتحرق لبنان، كياناً وتجربة ديمقراطية تعدّدية غنية، من خلال إظهاره ساحة ملتهبة على الدوام يستحيل العيش فيه ويستحيل من ثمّة تحوّله إلى وطن مستقل.
  نعم، هُزمت الفتنة، واللبنانيّون باتوا من الوعي ما يردعهم أن يكونوا، الآن وفي المستقبل، وقوداً لأية فتنة أُخرى.


* «الموحدون الدروز: الواقع والتصورات، أوراق بحثية»، مؤسسة التراث الدرزي، لندن-بيروت، 2019.

غيابُ القراءة… واغتيالُ العقل النّقدي الحُرّ!

  هذه ليست فكرة سقطت من عابر سبيل، أو مجرّد قول طيّب يتردّد دون سند علميّ موثوق. هي، على العكس تماماً، خلاصة ما انتهت إليه مئات البحوث العلميّة الأكاديميّة، في عشرات الجامعات ومراكز البحث العلمي المرموقة حول العالم. هناك الآن ما يقارب الإجماع على أنّ التطوّرات السريعة التي حدثت في قطاع «السوشيال ميديا» في العشرين سنة الماضية، على مستوى العالم، كما على المستوى المحلِّي الذي نعرفه جيداً، قد انتهت حتى الآن إلى نتيجتين خطيرتين مترابطتين: الأولى، تسارع التحوّل الكارثي الجاري منذ عقدين عن الكِتاب، والصّحافة الورقيّة، نحو الكتاب الإلكتروني والصحافة الإلكترونية، أي الموت الفعلي للكتُب والمجلّات الرّصينة، الثاني، التدهور السريع في الحاجة إلى العقل، والعقل النّقدي الحُر خصوصاً، والقبول دونما اعتراض بالإملاءات والتّنميط وفرض القِيَم والمعايير المُستوردة، والغريبة غالباً عن ثقافتنا وسُلّم قيمنا الاجتماعية والأخلاقية.

  في المسألة الأولى، يقول البحّاثة إنّ التحوّل عن الكتاب الورقي والصحافة الورقيّة إلى البديل الإلكتروني هو تحوّل عن الأصل إلى التقليد، وعن الماء العذب إلى الماء المقطّر والمُصَنّع والمُكَرّر الذي لا يشبه الأصل إلّا في اللون. لقد دمّرَ التحوّل ذاك فعل القراءة – وما فيه من متعة وشَغف وسعادة ومشاركة للنّصّ وللمؤلف – كما دمّر صناعة الكتاب والمكتبات العامَّة، فقضى في عشرين أو ثلاثين سنة على ما أنجزته البشرية في خمسة آلاف سنة على الأقل.

  يريد المُروّجون لهذا التحوّل، بل لتلك الجريمة التاريخية، أن يزرعوا فينا الوهم أنّ النّص هو المعلومات فقط ويمكن بالتالي نيلها بسرعة، بلمحة بصر، وبغير فعل القراءة الهادئة المُتَبصِّرة التي تعوّدناها منذ آلاف السنين. ويريد هؤلاء أن يحجبوا الأبعاد الأُخرى لفعل القراءة وبكل المعاني التي صَنعت عبر التاريخ المُتعلّم والمُثقف والمواطن الصالح والطّبقات الوسطى، فَصَنع الحضارة والثقافة وجعل الارتفاع عن مستوى الحواس وغرائزها أمراً مُتاحاً، مُمكناً، وجميلاً. لقد فات هؤلاء ما بات يؤكّده العلماء، بل الأطبّاء، في عشرات البحوث ومؤدّاه أنّه حين نتوقَّف عن القراءة تصاب فاعليات الدّماغ ونشاط التفكير في العقل بالكسل والانحطاط التدريجي ليصل أخيراً إلى ما يشبه الموت العقلي (رمزيّاً)، تماماً كما يحدث الموت الفعلي للجسد وأعضائه ووظائفه حين تتوقّف عضلات هذا الجسد عن كلّ حركة.

  صحيحٌ أنّ القراءة، حسب تعريف الموسوعات المتخصّصة، هي: «استقبال معلومات من الكاتب أو المُرسِل للرسالة، واستشعار المعنى المطلوب….»، لكنّها أيضاً وسيلة للتواصل مع الثقافات والحضارات الأُخرى. كما أنّ للقراءة، وبعد خمسة آلاف سنة من المُمارسة، عوائد أُخرى تُضاف إلى مجرّد فهم النص المكتوب واستشعار معناه. تلك هي وظيفة أوّلية «رسميّة» للقراءة، بينما هي تمتلك، إلى ذلك، فوائد أُخرى جَمّة وتُنتج عوائد في كلّ اتجاه لا تُقدَّر بثمن، على المستوى الفردي والنفسي والشخصي، كما على المستوى الاجتماعي والحضاري والإنساني. انتهت البحوث العلمية المتخصصة إلى أنّ للقراءة، على المُستوى الفردي والشخصي الفوائد الستّ التالية على الأقل، إضافة إلى الوظيفة الأوّلية للقراءة أي فَهم المكتوب. الفوائد الستّ هي كما يلي:

1- تقوية الوصلات العصبيّة وبخاصة لدى اليافعين فـ «القراءة من أكثر الأنشطة التي تُحَفّز الدماغ للقيام بمهامه وتطوّر القدرات الدماغية التواصلية والتحليليّة».
2- تعزيز التّركيز، ولا يخفى أنْ لا عملية تعلّم منتجة دون حدٍّ مقبول من التركيز، وهو ما يعمل عليه المدرّسون والمربّون دون هوادة. القراءة هنا تعزّز هذه المَلَكة، وتجعلها تلقائيّة في الذهن، يلجأ إليها العقل على نحو اعتيادي ودونما صعوبات أو مشقات تُذكر.
3- تنشيط الذاكرة. القراءة تقلّل حتماً وبعد مئات الاختبارات من وتيرة تباطؤ فاعليّة الذاكرة، وتحد من خطر الإصابة بمرض الزهايمر، فقد ثبت أنَّ «القرّاء المُصابين بمرض الزهايمر ظهرت عليهم الإصابة بالمرض في وقت متأخّر مقارنة بغيرهم من غير القرّاء».
4- مقاومة الاكتئاب والتوتُّر. تبيّن بعد تجارب ومراقبة أنّ القراءة تمنح صاحبها آفاقاً رحبة جديدة فتخرجه من سجن التوتّر وعادات الاكتئاب، وإلى ذلك «هي مقاومة للأمراض العصبيّة البسيطة مثل الصداع والأرق».
5- تحفيز الذّهن؛ من فوائد القراءة والمطالعة تحفيز عمليات الذّهن ووظائفه، إذ «يحتاج العقل إلى تحفيز دائم، وقد تختلف هذه المحفِّزات من شخص إلى آخر، ومن عقل إلى آخر، ولكن يبقى أنَّ القراءة هي من دون شك على رأس هذه المُحفِّزات».
6- فرصة إضافية للإبداع. تقدّم القراءة كفعل تقَنيّ، وكإطلالة على حقول شاسعة متنوّعة، باباً إضافياً للإبداع. هي تقترح موضوعات جديدة، مسارات جديدة، ودوافع لن تكون متاحة، أو حتى معروفة، دون فعل القراءة، واكتناه عادتها.

  وبسبب هذه الفوائد المُباشرة الشخصيّة، ركّز التربويّون، والحكومات في أنحاء العالم المُتقدِّم على تنمية فعل القراءة لدى الشباب والكبار، من خلال تخصيص أيام وبرامج وجوائز للقراءة. وركّزوا أكثر على ضرورة زرع عادات القراءة في شخصيّة الأطفال الآخذة بالنّمو واكتساب العادات المعرفية، لما في ذلك من نتائج خَيّرة على المستويات الأخلاقيّة والتربويّة والسيكولوجيّة. وعليه، يجب أن يدرك الآباء والأمّهات، أنّ تعوّدهم القراءة أمام أطفالهم، وإحاطة هؤلاء بالكتب والمجلات، وشرح أهميّتها، سيتركان آثاراً إيجابيّة مستقبليّة على توجّهات أطفالهم، وميولهم، وعاداتهم، وعلى نوع الأهداف التي يضعونها نُصب أعينهم. وليس غريباً بالتالي أن يتضمّن مقياس تَحَضُّر أية جماعة معدّلاً وسطيّاً بعدد الساعات التي يصرفها الفرد يوميّاً أو أسبوعيّاً في القراءة. ولا لزوم للقول، وقد بات معروفاً في الإحصاءات الدوليّة، أنّ معدلات القراءة في العالم العربي بعامة هو متدنٍّ جدّاً ولا يتناسب مع الدور البارز الذي لعبه العرب قديماً في الثقافة العالمية، ولا مع امتلاكهم حافزاً دينيّاً كي يقرأوا، ليس له مثيل، إذ إنَّ أول ما خاطب به جبريل محمَّد(ص) قال له: إقرأ.

  أمّا إذا أردنا التماس أسباب تدنّي معدّلات القراءة عموماً في العالم العربي، لوجدنا في طليعتها مستوى الأُميّة العالي الذي لا يزال مُهيمناً على النّساء في العالم العربي (أُميّة قراءة تبلغ الثّلثين)، كما على شرائح اجتماعيّة كثيرة في الأرياف والأطراف وبين الجماعات المُهَمّشة.

  يُضاف إلى السبب البنيوي أعلاه انتشار الاضطرابات وفقدان الأمان وحالات التّهجير والتسرّب المُبكر من المدرسة وعمالة الأطفال في معظم أجزاء العالم العربي، ما يجعل القراءة بما تعني الإقبال على الكتاب مطلباً ثانويّاً وفرعيّاً قياساً بما هو أكثر خطراً، ماديّاً ووجوديّاً.

  يُضاف إلى السّببين الكبيرين، أعلاه، المانعين لاكتساب عادة القراءة عند الفرد العربي، سبب ثالث بات ملموساً في مُعظم المجتمعات العربية، لدى الأطفال واليافعين على وجه الخصوص، كما لدى الكبار عموماً وهو التحوّل عن الكتاب الورقي والمطبوعة الورقية إلى شاشات مُضيئة مُسطّحة (أو مُقعّرة) تحت مسمّيات عدّة: من التلفزيون إلى الإنترنت وساعات البث طوال النهار والليل، وما يسمّى وسائط التواصل الاجتماعي (وهي غير اجتماعية كُليَّاً لأنَّها تُحيل الطفل واليافع إلى فرد شديد العزلة وأحياناً إلى فرد عدواني). الصورة هي التي تهيمن على هذه الشاشات الخادعة. والصورة المسطحة التي تُقدَّم للمشاهِد لا تحتاج في الغالب معرفةً أو علماً أو مهارة قراءة، بل سلسلة طويلة متداخلة من الصُّور والتطبيقات الخادعة، الوهميّة، والآسرة للطفل أو لليافع.

  السبب الأخير يضعنا مباشرة في المسألة الثانية وهي اجتياح ما يُسمَّى بـ «السوشيال ميديا» للعقل البشري، وتجريده فعليّاً من أهمّ ما حققه عبر التاريخ: حُرّيته وقدرته على الاختيار.

  هذا الدّفق غير العقلاني، وغير المعقول من الإقبال على الشاشات المُضيئة الرَّخيصة (عمداً وعن سابق تصوّر وتصميم) يكاد يُدَمّر أجيالنا الشابّة، بتدميره لملكة العقل الحُرّ والنقدي فينا. لقد بات البشر أشياء، لا ذواتاً، موضوعات تتلقّى، لا كائنات تفكّر، «روبوتات» تجري برمجتها بمئة طريقة، مباشرة وغير مباشرة، فتصبح ببَّغاوات بائسة تنطق بما لقّنها إياه مُصَمِّمو البرامج – تُجّار العولمة ومهندسو الشرّ في العالم؛ كائنات تتكلّم، ترتدي، تشتهي، تميل، تستسلم، وفق إرادة مُبرمجيها في الغُرَف المُغلقة. هوَ ذا ما يحدث حين يُحْرَم اليافع من القراءة المُمتعة والتفكير بحرّية لصالح دفق المَشاهِد والصُّور: ويظنّ وسط ذلك أنّه أمام خيارات في التطبيقات لا حدّ لها، بينما هي في الحقيقة تكثيرٌ أو تكرارٌ لخيار واحد إلزامي أمام اليافع، وحدّث بعد ذلك بما شئت عن الأضرار النفسيّة والاجتماعية وحتى الجسدية اللاحقة. وخير سند عمليّ لما نقوله لجوءُ أكثر من عالِم وتقَنيّ في مجال برامج اليوتيوب وتطبيقاته إلى منع أطفاله من استخدامها.

  هذا هو الواقع الأسود الذي لم تتمكن كلّ الدعايات الملوّنة من التَّغطية على لائحة الانحرافات الكارثيّة التي قاد إليها (وصولاً إلى حد طلب الانتحار من المُشاهِد وفق بعض التّطبيقات)؛ كما لم تتمكّن بالتأكيد من تغطية طبيعته الفاسدة والمؤذية، فرديّاً واجتماعيّاً، أخلاقياً ومدنياً، ولنا في مجتمعاتنا أكثر من شاهد على ما نقول (وقد دَلّت إحصائيّات حديثة إلى أنّ 46% من مُستخدمي الإنترنت في العالم العربي إنّما يفعلون ذلك لأجل التّرفيه لا أكثر!).
وحتى لا نُرمى بالغُلوّ والأحكامِ المُطلقة، نستدرك فنقول: إنّه ربّما نجد في تقنيّات التواصل والإعلام السائدة قدراً من الفائدة، الفرديّة والجمعية ولكن شرط أن يُحسنَ الآباءُ والأمّهات والمُربّون على وجه الخصوص، ضبط استخداماتها وحصرها بما هو نافعٌ وخَيّر.

  وبعد، فَلْنُداوِ الجهلَ بالمعرفة، والتأخُّرَ بالعلم، والتّهوّرَ بالحكمة، والمفاسدَ الكثيرة بطلب الخير والنّصح والرُّشد، من حكيم وراشد إذا توفّرا، ومن قراءة الكتاب أوّلاً وأخيراً: فهو خيرُ جليسٍ في جَمْعتنا، وأمتعُ أنيسٍ في وحدتنا. أمّا إذا سُئِلتَ عن فعلٍ فيه الخيرُ التّام والنأيُ عن كلّ شرّ فقلْ: القراءة.

أما حان وقت وضع خلافاتنا “الصغيرة” جانباً؟

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران، 103)

آن لمن لا يعرف، والجميع يعرفون كما اعتقد، أن في الاتحادِ والوحدةِ والتعاضدِ والتضامنِ القوةَ والمنعةَ والسؤددَ، والخيرَ كلُ الخير؛ أما في الشقاقِ والافتراقِ فالشرُّ كلّ الشرّ، وما يصحبُ ذلك من التنابذ، والاختصام، والفتنة، والضعف، والعجز في المحصلة عن إدراك الحقوق البديهية المشروعة لأبنائنا، كما لسائر المواطنين، في وطنهم.

من يطلب برهاناً اجتماعياً أو سياسياً أو واقعياً على ما نقول فله ألفُ برهانٍ. فالخير المتأتي عن الاتحاد والوحدة والتسامح والتفاهم هو أضعافُ أضعاف ما «يؤملُ» تحصيله من التصعيد والافتراق والتنابذ والتناحر؛ ويبقى كلام الله في الآية الكريمة أعلاه خاتمة كل قول.

لا للافتراق والاختصام والتنابذ، «نعم» للتنوع في الاجتهاد والرأي، والتنافس في أفضل ما يخدم الوطن والمواطنين.

الاختلاف في الرأي داخل البيت الواحد والوطن الواحد أمرٌ شرعي، بل هو صحّيٌ وضروري. فهو يُظهر على المدى البعيد أفضلَ ما لدى الجماعة أو الأمة من مضمون وإمكانات – وهو معنى الديمقراطية وتفوقها على كل ما عداها. والاختلافُ في الرأي يعزز التنوعَ في مناهج التفكير وزوايا النظر في جملة المسائل التي تدخل في ما نسمّيه «الشأن العام»، الذي يخصّ الجميع من دون استثناء. وبهذا المعنى جرى القول المأثور، الصحيح، المتناقل منذ زمن طويل (الخلافُ في الرأي لا يفسدُ في الودّ قضية). ولكن هل ما يجري على المستوى المحلي هو فعلاً في باب الخلاف الصحّي ومن النوع المطلوب بل الضروري وجوده؟ مع الأسف، لا.

وعليه، فمن واجبنا الوطني والأخلاقي – والمهني – أن نقول على الورق، ما يقوله المواطنون علانية بمئة طريقة، وبينهم أكثرية الموحدين الدروز.

وهو أيضاً، ومن باب أولى، أبسط الواجب في أن نُخْلِص الخطاب، وكما تفعل دائما، حيال الآلاف من جمهور قرّائها ومريديها.

من باب الواجب الوطني والأخلاقي، إذاً، وبالصراحة تلك، القول إن القضايا الحقيقية التي تعني الشباب المعروفي – العاطل عن العمل، المهمّش، المُبعد عن دائرة القرار الإداري والاقتصادي – ليست تلك التي نصطرع عليها، وينشر البعض مع الأسف غسيلها على كل سطح – كما حدث في الأشهر القليلة الماضية.

المسائل الجزئية والفرعية، وغير الحقيقية في نهاية المطاف، ومهمّا زيّن في أهميتها المصطادون في الماء العكر، والمتربصون بالموحدين الدروز شرّاً، لا تستحق شيئاً مما أعطيناها من اهتمام وضجة وصراخ، أحياناً، ومن على بعض المنابر، عمداً أو عفو الخاطر في الغالب.

هي لا تستحق – وهنا بيت القصيد – أن تكون وبكل المعايير سبباً لشقاقٍ داخل البيت الوطني الواحد، أو لنزاعٍ أو فرقةٍ في جمهورنا، ولا لكلمات غير مناسبة – بل معيبة – تصدر عن مُعتدٍّ مُحتدٍّ متسرّعٍ لا علاقة لها بالسياسة ولا بلغة السياسة. التنافس بين القيادات السياسية والاجتماعية في الخدمة العامة مطلوب، والاختلاف في المواقف والأراء ضروري، ولكن أين؟ في أي ساح؟ ولأية غاية؟

مطلوبٌ أن تتنافس القيادات والمعنيون بالشأن العام في استعادة الحقوق السياسية والاقتصادية والوظيفية للمستضعفين في هذا الوطن والتي جرى اقتناصها، تدريجاً ومن دون خجل، وإلى الحد الذي بات معه «أهل الصبي» لا يعرفونه، ولا يخصّهم بشيء.

مطلوبٌ أن تكون لمواطنينا المهاجرين، بل المهجّرين ظلماً واستبعاداً وإكراهاً ويأساً، حقوق لهم مساوية لسواهم في خيرات الوطن وفرص العمل والترقي فيه.

مطلوبٌ أن تكون للمهمّشين منّا – ومن سوانا – في أطراف الوطن، مستشفيات وثانويات وفروع جامعية ووزارات ومصالح ومكاتب ودوائر نفوس ومراكز ميكانيك تُبقي أهلنا في قراهم فلا يجبرون على هجرة داخلية لا قِبل لهم بها، أو لنسيان حقوقهم، أو استجدائها عندما يسدّ كل طريقٍ آخر.

مطلوبٌ أن ينال شبابنا المتعلم والكفوء فرصاً مساوية لسواه في الدخول إلى «جنّة» الإدارة العامة: إلى مصرف لبنان، ووزارة المال، وشركة الكهرباء، والإحصاء المركزي، ومجلس الإنماء والإعمار، والجامعة اللبنانية، والأوجيرو، والهيئات الناظمة، والمواقع الحساسة الأخرى في كل الوزارات والمجالس والصناديق والمصالح (التي تفرّخ يومياً فلا نسمع بحاجتها إلى الموظفين إلا بعد سنة من امتلاء كادراتها!).

مطلوبٌ أن نكون موجودين في الوفود والبعثات الديبلوماسية حين تُرسل إلى الخارج، إسوة بمكوّنات الوطن الأخرى، وأن تكون لمناطقنا ومجتمعاتنا الفقيرة والمهمّشة حصتها العادلة من تقديمات المؤسسات والصناديق العربية والدولية.

المطلوبٌ أخيراً، وأكثر من ذلك بكثير، أن نرفع الصوت، وربما العرائض، لنقول للجاهلين الناسين أوالمتناسين، وللناكرين والجاحدين في آن: أنْ مَهلاً يا قوم … فليقف من ضحّى أكثر منّا في سبيل قيام الوطن، وحفظه، لنتعرّف عليه…لأننا بالفعل لا نعرفه. ليقف من دفع من دمه وجيبه وعرقه وتعبه أكثر من سلطان باشا ومحمد أبو شقرا وكمال جنبلاط ومجيد أرسلان … لتكون لنا بلدان مستقلة وأوطان شامخة لنتعرف عليه حقاً – من دون أن يعني ذلك أبداً أننا وحدنا من أقام البلدان وحفظها، إلا أننا كنا وبشهادة التاريخ في الصف الأمامي في كل ساح تطلّب إقداماً وتضحية بالغالي والنفيس!

المطلوب كثيرٌ جداً، إذاً، لمن يحتاج عناوين لمعاركه ولعمله السياسي. أما أن ننساق في حملات تجريح وافتراء وتزييف داخلية، فهذا ظلم لأنفسنا قبل الآخرين، نندم عليه بعد حين، ساعة نستفيق من ضغط اللحظة ونكشح غشاوة الأوهام عن أعيننا. وباب مؤسسات الطائفة مفتوح على مصراعيه للجميع، ودون استثناء، لمن يرغب بالعمل العام، والتضحية والبذل والعطاء: ولم يحدث قط أن وُضِع قيدٌ أو شرطٌ واحد، في أية لحظة، ومن أي نوع، على راغبٍ بالإسهام والعمل في واحدة من مؤسسات الطائفة الشرعية، بل إن المؤسسات نفسها هي من تبحث في غالب الأحيان عمّن يرغب ويستطيع أن يكون جزءاً من العمل الوطني والاجتماعي العام لطائفتنا المعروفية، وفي ظل القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.

وبعد، فمطلوبٌ، وعلى المستوى الداخلي، أن نجتهد حتى درجة الاختلاف في المواقف والأراء، ومن وجهة إيجابية، في كل ما يخدم أكثر وطننا، ومجتمعنا، وشبابنا، ولكن، كفى تضييعاً للطاقات التي نحتاج لكل قطرة منها، وأكثر. كفى تناقضات لا ترضي رب العالمين ولا تتصل أو تخدم مجتمعنا وأهلنا في شيء. ألا «اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا»….وأنتم قادرون بالحكمة التي أوتيتم إياها على حلّ ما أشْكَلَ من إشكاليات وما استعصى من صعوبات. والقادة السياسيون والروحيون بيننا أهلٌ لتولّي مناط كل الأزمات وإدارتها على النحو الهادئ والصحيح وصولاً الى خواتيمها السعيدة.

لقد دلّ سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي الشيخ نعيم حسن إلى الطريق الصحيح للخلاص من كل الإرباكات الصغيرة التي بتنا نتسربلُ بها منذ بضعة أشهر بأن دعا الجميع إلى «كلمة سواء» واحدة، نجتمعُ حولها فننجح، فيصيبُ من ثمة سهمُنا… إذا خلُصت النوايا. فالأعمال بالنيّات.

هوذا مضمونُ رسائل شيخ العقل المتكررة، من خلال منبر ، وفي مناسبات دينية واجتماعية كثيرة، دعوةٌ يجب أن تشكل القاعدة لالتفاف واسع حول الموقف الوطني التوحيدي الجامع، والعمل من ثمة في هَدْيه، فيستقيمُ أمرُنا أمام مجتمعنا، وضمائرنا، وأمام رب العالمين قبل كل شيء.

والله وليّ التوفيق.

75 سنة استقلال …. رغم كل شي

رغمَ وقوع المناسبة – 22 تشرين الثاني – في موعد لا يتلاءم وموعد صدور مجلّة فصليّة كالضّحى، لن نترك اليوبيل الماسي لاستقلال لبنان يمرّ دون باقة ورد نرفعها لأبطال الاستقلال، بل للوطن، وبخاصة في تاريخه الحديث.

 لماذا نفعل ذلك؟ لا تحتاج الإجابة إلى كبير جهد، فـالضّحى مجلّة لبنانية بالدرجة الأولى، صادرة عن جهة لبنانية ميثاقيّة مُعْتَبَرة، المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدّروز، وعليه فمن حقّها، بل من واجبها أن تشترك واللبنانيين جميعاً في استذكار المناسبة الوطنية العزيزة وما تعنيه من إحياء لقيم الوطن، والوطنية، والمواطنة، قبل – وفوق – كلّ انتماء طائفي أو عشائري، أو حزبي، أو جِهَوي.

لكن سبباً إضافياً يبرز هذه المرّة، وهو اعتزازنا أن يكون قطار الاستقلال الوطني الذي أقلع بقوّة في 11 تشرين الثاني ثم بلغ محطّته الأخيرة ظافراً في 22 تشرين الثاني 1943 قد مرّ – بل توقّف للحظات تاريخيّة حاسمة – في محطّتين عزيزتين جدّاً على قلب الضّحى: محطّة راشيّا الوادي، ثمّ محطّة بشامون ومن غير المعروف، وهذا متروك للمؤرّخين، ما إذا كان الاستقلال الوطني ليتحقّق يومذاك من دون المحطّتين الوطنيّتَيْن الحاسمتين أعلاه، أو من دون الثّورة الوطنية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش (1925-1927)، تلك الثورة التي دقّت – والتعبير للرئيس الراحل عبد الناصر في خطابه في ساحة السويداء مع فجر الوحدة المِصرِيّة السوريّة سنة 1958 – أوّل إسفين في الوجود الاستعماريّ الفرنسيّ البريطانيّ في المشرق العربي. ففرنسا المُنتَدَبة – أي المستعمِرَة – كانت تَعتبر بقاءها في لبنان من ثوابت سياستها الخارجية، وعَرْضُها الاستقلالَ الذاتيَّ – المنقوص – هو أقصى ما تقدمّت به للوطنييّن اللبنانييّن (والسورييّن) الذين عزَموا على نَيْل استقلال وطنهم. أسباب تمسُّك فرنسا المستعمِرة – الاستراتيجية والثقافية – بلبنان كثيرة، أمّا سبب عجزها عن فَهم مطلب الاستقلاليين اللبنانيين فواحدٌ لا غيرَ، وهو ظَنُّها واهمةً أنّ كلمة اللبنانيين لن تجتمع، وقلوبهم لن تأتلف، وسواعدهم لن تتكاتف، كالرجل الواحد خلف مطلبهم باستقلال وطنيّ كامل ذي سيادة تامّة غير منقوصة.

فاجأ اللبنانيّون الدولة المُنتدَبة بتناسيهم لطوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم وجهاتهم وتوحُّدهم خلف مطلب الاستقلال الوطنيّ الناجز غير المنقوص فوراً ومن دون تأخير. وظهرت وحدة اللبنانييّن جليّة في إجماع أعضاء المجلس النيابيّ خلف مطلب الاستقلال التامّ متناسين كُلّيَّاً خلافاتهم الجزئية. وفاجأ اللبنانيّون أيضاً، قادةً وجُمْهوراً، الدولة المُنتدَبة بأنّهم مستعدّون لدفع ثمن استقلالهم بقبولهم الاعتقال التعسّفي ورفضهم حتى التفاوض مع الدولة المُنتدَبة، ثمّ باستعدادهم، وهو تطوّر حاسم، للتمرّد الشعبي ضد المُنْتدَب – وقد عمّ الإضراب العامّ البلاد – وأكثر من ذلك، لدفع ضريبة الدَّمِ لِنَيْل استقلالهم، وتمثّل ذلك بتمرّد بشامون الذي كان في وُسْعِه أن يعمّ البلاد لو لم تسرع الدولة المنتدَبة إلى إطلاق سراح الزعماء المعتقلين وإظهار موافقتها العلنيّة من ثمّة على استقلال الكيان اللبناني الناجز غير المنقوص وكأيّ دولة مستقلّة أخرى.

كانت «انتفاضة بشامون» المُباركة التي رفعت راية التمرّد العسكري المباشر في وجه الفرنسيين ذروة ثورة اللبنانيين الاستقلالية، وكانت مؤذنةً بالتوسّع خارج الجبل لو لم يسرع الفرنسيّون ويُسَلّموا بمطلب الاستقلال الوطني الناجز. ونحن يُسعدُنا في الضّحى أن يكون على رأس الانتفاضة المسلّحة تلك أحد أبطال الاستقلال، ابن الجبل والشوَيفات تحديداً، المغفور له الأمير مجيد أرسلان. ويُسعدنا بالتّالي أن يمرّ اللبنانيون سنويّاً ببشامون محطّة الاستقلال الحاسمة، وببيت الاستقلال ( بيت الشيخ حسين الحلبي) الذي انتقل إليه مَنْ نجا من الاعتقال مِنْ أعضاء الحكومة الاستقلاليّة، وبخاصة الأمير مجيد أرسلان والأستاذ حبيب أبي شهلا. فقد غدا البيت ذاك «السراي»، ورُفِع عليه العلم الاستقلالي لأول مرّة، فكانت تجربة استقلاليّة قصيرة حقيقيّة، انتهت بانهيار التّعنُّت الفرنسي وإعلان الاستقلال وعودة الحكومة الشّرعية ظافرة إلى مقرّها في بيروت.

 لكنّ فرح المناسبة لا يمنعُنا من أن نسألَ أنفسَنا:
هل تحقّقت الأهداف الوطنية الكُبرى التي سعى إليها وضَحّى في سبيلها المؤسّسون، آباء استقلال لبنان، منذ فخرالدين المعني الثاني الكبير مطلع القرن السابع عشر وصولاً إلى مضمون البيان الوزاري لأوّل حكومة استقلاليّة ألّفها المغفور له المرحوم الرئيس رياض الصُّلح؟ نكتفي من تلك الوثيقة التاريخيّة النّادرة التي كُتبت قبل خمس وسبعين سنة بفِقرة واحدة، تلك التي تناولت المُعضِلةَ الطائفيّة في لبنان لنقارن حالنا الطائفيّ المُزري اليوم بالحالة الوطنيّة العريضة المتفائلة التي طرحها أوّل بيان وزاري استقلاليّ. قال البيان الوزاريّ أعلاه:

«ومِنْ أُسُس الإصلاح التي تقتضيها مصلحة لبنان العُليا معالجة الطائفية والقضاء على مساوئها، فإنّ هذه القاعدة تُقيّد التقدّم الوطنيّ من جهة وتشوّه سمعة لبنان من جهة أخرى، فضلاً عن أنها تُسَمّم روح العلاقات بين الجماعات الروحيّة المتعدّدة التي يتألّف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف أنّ الطائفية كانت في مُعظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصّة كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان إيهاناً يستفيد منه الأغيار. ونحن واثقون أنّه متى غمر الشعب الشعور الوطنيّ الذي يترعرع في ظلّ الاستقلال ونظام الحكم الشّعبي يُقْبِل بطمأنينة على إلغاء النظام الطائفي المُضعِف للوطن. إنّ الساعة التي يُمكن فيها إلغاء الطائفيّة هي ساعة يقظة وطنيّة شاملة مُباركة في تاريخ لبنان. وسَيُسْعى لكي تكونَ هذه السّاعة قريبة بإذن الله.» كتابُ الاستقلال، دار النّهار، بيروت، 1997، ص 253.

 نحتفل بعيد الاستقلال، وفق كلمات الصّحافي اللبنانيّ الكبير الراحل غسّان توَيني في مُقَدَّمته لـ «كتاب الاستقلال» حين كتب:

 شيءٌ كبيرٌ جدّاً أن نحاول، بعد ما يزيد على النّصف قرن، وضع «كتاب الاستقلال»، أو كتاب عنه!… في طموحنا أن يكون التاريخ موحَّداً – أي أنْ يُوَحِّدَنا – لا أن نصطنع نحن وحدته، وهمية، مُختصرَة، ننتزع منها كلّ ما نخاف أن يفرّق: أحداثاً ووقائع وبطولات وأشخاصاً. وطموحُنا هذا من إيمان عميق في أنفسنا بأنّ قضية الاستقلال وحّدت اللبنانيين، وتستمرّ تُوَحِّدهم، وأنّها في واقعها والمبادئ أرفع بكثير ممّا يصطنعون لها من شوائب، في مواسم الكُفر والتّكفير، وأنّها لا تزال هي هي مصدر الوحدة الحقّة وأقوى من الأزمات، كما كانت أقوى من النّسيان (المصدر نفسه، ص7-8). ■

إفتتاحية رئيس التحرير