الثلاثاء, نيسان 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الثلاثاء, نيسان 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

السويداء شوكة في حلق الإرهاب والإرهابيين!

كانت السويداء كذلك في تاريخها الطويل، وستبقى:
شوكة في حلق الإرهاب، كل إرهاب،
الصخرة التي تتكسر عليها كل مؤامرات أعداء سوريا، والعرب…والخونة الحاقدين على الطائفة العربية المعروفية الإسلامية المقدامة،
طائفة سلطان، وشكيب، وكمال، وسائر السادة والأبطال الذين رفعوا راية الإسلام والعروبة والاستقلال والعزّة والتقدم لأوطاننا وشعوبنا:
طائفة الموحدين (الدروز) في المشرق العربي.
هنيئاً للسويداء شهداؤك!
ليست جديدة المؤامرات على أرضك وشعبك،
وليس جديداً شلال الدمّ الذي أجريتيه دائماً دفاعاً عن الأرضْ والعِرضْ، عن أنَفة أبنائك وهاماتهم المرفوعة، و”عقالات” العزّة والشرف… حتى درجة القداسة والمستحيل؛
ودفاعاً عن وحدة تراب سوريا العربية، واستقلالها، وعن كرامة شعبها في وجه محتل أجنبي مغترٍ حيناً، وعدوان إسرائيلي غاشمٍ حيناً ثانياً.


اعتادت السويداء وكذلك بنو معروف، في تاريخهم الطويل، أن لا يسألا ثمناً لموقف بطولي اتخذوه فقلب مخططات المستعمرين رأساً على عقب – كما فعلوا غير مرّة، وباللحم الحيّ:
في تصديهم للحكم المملوكي وعقله الضيّق المتعصّب،
في تصديهم لبدايا الاختراق الاقتصادي والسياسي الغربي للشرق، 1840-1860،
في تصديهم للحكم التركي حين أظهر قوميته الطورانية النافرة، بدءا من سنة 1908،
في تحولهم كتيبة متقدمة للثورة العربية سنة 1916، ودخول بطلهم التاريخي سلطان باشا إلى دمشق ورفعه مع سعيد الجزائري أول علم عربي فيها منذ مئات السنين،
في إشعالهم ثورتهم الوطنية الكبرى سنة 1925-1927، بقيادة سلطان باشا الأطرش، التي أرست على نحو نهائي وحدة الدولة السورية الحديثة بحدودها السياسية الراهنة، رافضين – رغم الثمن الغالي الذي دفعوه – “الكيان الدرزي” الذي قدمه المنتدب لهم على طبق من فضة،
في دورهم البارز في تحقيق استقلال الكيان اللبناني سنة 1943، واحتضان مناطقهم – بلدة بشامون ومحيطها – لتمرد عسكري انتهى بإعلان استقلال لبنان الحديث،
بتضحياتهم في صفوف الثوار الوطنيين الفلسطينيين، منذ سنة 1922 إلى مشاركة كتيبة درزية صريحة في جيش الانقاذ سنة 1948،
إلى تصديهم أخيراً – وليس آخراً – سنة 1983 لاتفاقية 17 آيار التي وقّعت لفترة قصيرة مع الاحتلال الاسرائيلي، قبل أن يسقطها ما اصطلح على تسميتها “حرب الجبل، 1983-1985″، وانتهت بسقوط الاتفاقية وإلغائها في مجلس النواب اللبناني، ثم اكتمل الانتصار – مع تضحيات المقاومة الوطنية اللبنانية وتضحيات الجيش العربي السوري – بانسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان، وقيام الجمهورية الثانية في لبنان،

تلكم بعض تضحيات جمهور بني معروف الوطني العروبي طوال ما يكاد يصبح قرنين من الزمان، دفاعاً عن العروبة والإسلام، ناهيل بالعمل السياسي والفكري والأدبي والتربوي التأسيسي والرائد، في غير باب ومجال وقطر.


هؤلاء هم بنو معروف، وتلك هي السويداء الصامدة الصلبة كحجر البازلت فيها. ولكن ألا يحق لنا التساؤل:
أهكذا يكافأ بنو معروف، وتكافأ السويداء حصن سلطان باشا، بل عنوان كل الوطنيين السوريين والعرب حتى الاستقلال!
أما من أحد قال للقتلة الإرهابيين الذين غدروا بأهل محافظة السويداء أنها كانت الرئة التي تنفسّ منها كل وطني ومظلوم ومهجّر ومحتاج من أرجاء سوريا كافة، هكذا في التاريخ كما في الأحداث الأليمة الأخيرة.

أما من مرجعية كبرى تقول للقتلة الإرهابيين الذي غدروا بقرى المقرن الشرقي فقتلوا رجاله المطمئنين، وخطفوا النساء والأطفال، أن بني معروف، كانوا لمئات السنين سيف الإسلام وحرّاس العروبة وطليعة المدافعين عن أوطانهم!

وأنكم تغدرون بمسلمين آمنين لم تجدوا منهم إلا السلام وحق الجيرة، ولم يرتفع من خلواتهم غير صدى الشهادتين: أن لا إله ألاّ الله، وأن محمداً رسول الله، فبأي حق شرعي غدرتم بالآمنين عندهم، شيوخاً ورجالاً عزّلاً وهم نيام؟ وبأي حق شرعي اختطفتم نساء وأطفالاً من بيوتهن؟ وهل في ذلك شيء من الإسلام الذي تزعمون زوراً الانتساب لضلاله السمحاء المباركة!

أما من مرجعية كبرى تقول لهم بالقلم العريض والصوت الشرعي الصارخ: ألا تبّت أيديكم! إذ ليس مسلماً من يغدر بالآمنين، وليس مسلماً من يقتل الناطق بالشهادتين، وليس مسلماً، بل ليس إنساناً، من يختطف غيلة ومنتصف الليلة نساء وأطفالاً كانوا قد أمِنوا للجيرة فناموا مطمئنين!

ويبقى الأكثر استغراباً أن يجري الغدر بالموحدين الدروز في محافظة السويداء في سوريا فيما أخوانهم في فلسطين يتصدون مع سائر مكونات الشعب الفلسطيني لقانون الهوية الإسرائيلي العنصري الأخير الذي كشف عياناً عن الوجه القومي العنصري للكيان الصهيوني ودفن إلى الأبد حلّ الدولتين.


أخيراً، لن يقتل السويداء حدوث ما حدث – على قسوته – وهي ليست آخر الدنيا لبني معروف ولجمهورهم الواسع في المشرق العربي: فهم تعوّدوا التحديات والصعوبات والتضحيات، بل تعوّدوا في الكثير من الحالات نكران الجميل ومبادلة مودتهم بالكراهية، وتضحياتهم بالتجاهل، وتفانيهم في سبيل أوطانهم بالنسيان!
وعليه، فسيبقى المعروفيون على عهدهم، وكما سلفهم الصالح دائماً، دعاة الإسلام المضيء السمح وسيفه القاطع، حرّاس فكرة العروبة الحديثة، روّاد استقلال أوطانهم ودعاة وحدتها وتقدمها وسؤددها بين الأمم.
ولن ينجح الإرهابيون في جرّ الموحدين الدروز إلى أي موقع أو سياسة تتعارض وتمسكهم بوحدة أوطانهم، وانتمائهم الإسلامي الصريح ديناً، والعروبة الحضارية التعددية الديمقراطية نهجاً سياسياً واجتماعياً.
الخزي والعار للإرهابيين، المجد والخلود لأرواح شهداء مدينة السويداء وبلدات المقرن الشرقي، والحرية لنسائها وأطفالها المخطوفين ظلماً.

افتتاحية رئيس التحرير

ألم ترتوِ إسرائيلُ بعدُ مِنْ دماءِ شَعْبِنا الفِلسطينيّ؟

“لقد باتَ اسمُ غزّةَ يبعثُ على الألمِ هذهِ الأيام”.
هذا هو التّعليق الحزين للبابا فرَنْسيسِ الأوّل، بابا روما، على أعمالِ القتل الإسرائيليّة الجماعيّة الجارية بحقّ المُتظاهرين الفِلسطينييّن العُزَّل من أبناء قطاع غزّة.
لا حدودَ، كما يبدو، لِشَهيّة القتل الإسرائيليّة حيال الفلسطينييّن العُزَّل على حدود قطاع غزّة، والتي حصدت في يوم واحد، “الاثنين الأسود”، 14 أيّار 2018، أكثر من ستّين شهيداً وألفي جريحٍ وإصابات بعضهم فوق المُتوسّطة!
لم يرفَّ للقيادة الإسرائيليّة جَفْنٌ، ولم تردعها القوانين الدوليّة الصّريحة، وهي تنشر مئة قنّاص على حدود غزة فيقتلون الفلسطينييّن المدنييّن العُزّل في الداخل بعيداً عن حدود القطاع شيوخاً ونساء وأطفالاً ومُعوّقين وصحافييّن، وهو أمر لا يحدث حتى في حالة إعلان الحرب الصّريحة الشّاملة بين دولتين.
ولِفَهم ما يجري نقول: إنّ القتلَ الجماعيَّ المُتَعَمّد هذا من جيش نظاميّ بحقّ مدنييّن عُزّل يرفعون شعارات سياسيّة تتناول حقوقهم الوطنيّة الشرعيّة في عاصمة بلادهم لألفيِّ سنة، وفي مواجهة قرار الرّئيس الأميركي نقل السفارة الأميركيّة إلى القدس والاعتراف بها، على نقيض كلِّ القرارات الدوليّة، عاصمة لدولة إسرائيل، لا يجد تفسيره التّام إلّا في ضوء حقيقتين ساطعتين مُتكاملتين:
الحقيقة الأولى: عُزلة إسرائيلَ المُتعاظمة. إذ لم تَعُدْ إسرائيل قادرة يوماً بعد يوم على تحمّل الكلفة السياسيّة العالية للاحتجاجات الفلسطينيّة السَّلميّة أمام شعبها والعالم معاً، فهي لم تعد تملك في مواجهة ذلك غير إظهار وجهها الحقيقيّ، وجه القوّة العمياء المُتَوحّشة. لقد كان استخدامها لهذا القدر غير المسبوق من العنف والقتل العشوائيّ للمدنييّن ردّاَ منها على عزلتها السياسيّة عالميّاً، كما كان بياناً علنيّاً بفقدانها للشرعيّة القانونيّة والأخلاقيّة.
أمّا الحقيقةُ الثانية السّاطعة فهي الصّمود الأسطوريّ للشّعب الفلسطينيّ. فما من شعبٍ آخرَ على وجه الأرض تحمّل أكثر من تسعين عاماً (1922-2018) من الحرب المستمرّة دفاعاً عن حقّه البديهيّ في ترابه الوطنيّ، وفي مُواجهة مشروع صهيونيّ غاصبٍ دعمته القوى الكبرى كافّة وهدف إلى اقتلاعه بالقوّة من أرضه، وتغيير هُوِّيَّة الأرضِ والأمكنة، ومُحاولة مَحْوٍ ذاكرةٍ تعود إلى ألفي سنة على الأقل، كما استثمر الصّهاينة والغرب في مشروعهما الاستعماريّ كلَّ ما يملكون من ثروات اقتصاديّة وماديّة، وقدرات سياسيّة وديبلوماسيّة، ومن تفوّق عسكريّ وعلميّ وتكنولوجيّ في محاولة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً لتغيير هُويّة أرض فلسطين واقتلاع شعبها ورميه لاجئاً باتّجاه المنافي وإخضاع من صمد وبقي في أرضه بالقوة. لكنّ المشروع المجنون بقي كما اتّضح مشروعاً يائساً ومستحيل التّحقُّق. فإذا هو اليوم، بعد مئة عام من إطلاقه، وبعد سبعين عاماً من تسليم المُنتدب البريطاني “دولة” فلسطين للعصابات الصهيونيّة، أكثر صعوبة بل استحالة ممّا كان في أيّ يومٍ مضى، فالأجيال الفلسطينيّة الجديدة تفاجئ العالم اليوم، وهي تبدو وبالممارسة شديدة المِراس، وأكثر تصميماً حتى من آبائهم وأجدادهم على منع تحقيق الحُلُم الصّهيوني وعدم السّماح بخَسارة الأرض وفقدان هُوِّيَّتها، وإذا هم، وهو ما أذهل الإسرائيليَّ، أكثر استعداداً للتضحية بكل شيء، حتى بالدماء، دفاعاً عن حقِّهم التّاريخيّ في كلّ شبرٍ من الأرض الفلسطينيّة المُقدّسة – وما الانتفاضاتُ الفلسطينيّةُ الثلاث الأخيرة غيرَ دليل واحد من بين أدلّة أُخرى كثيرة على الدّور المركزيّ الحاسم الذي لعبه الشّباب، بل الفتيان، في منع تكريس اغتصاب الكيان الصهيوني للأرض الفلسطينيّة.
هذا الصّمود الأسطوريّ حملَ أكثر من كاتب يهوديّ، في الدّاخل أو الخارج، على التّعبير علانيّة عن الخلاصة التي انتهوا إليها وهي ألّا مستقبل لدولة إسرائيل على أرض فلسطين، وأنه لو كان للفلسطينييّن أن يخسروا حربهم الوطنيّة – كما يحلم الاستراتيجيّون الصّهاينة – لكانوا خسروها من قبلُ، وغير مرّة، وهو ما لم يحدث.
ومع ذلك، فاللّافت، بل المُسْتَهْجَنُ، حقّاً هو سكوت العالم على الجريمة الإسرائيليّة المُتمادية بحقّ شعب قطاع غزّة، والشّعب الفلسطينيّ عموماً. فما كان في وسع “دولة” إسرائيل أن تمارس تكراراً هذا المقدار من أعمال القتل والقوّة الغاشمة بحقّ المدنييّن الفلسطينييّن لو لم تتلقَّ الدّعم، أو غضّ النّظر على الأقلّ، من قوى العالم “المتمدّن”، ما سمح لها أن تُطلِق آلتها العسكريّة العاتية، وصولاً إلى استخدام المُقاتلات، ضدّ مدنيّي قطاع غزّة. وقد عبّرت الصّحافة العالميّة المحايدة، نسبيّاً عن هذه الحقيقة في مواجهة الانحياز الأميركيّ الذي لم يسبِق له مثيل، كما أدانت السّكوت، الذي يشبه الموافقة، من دول كُبرى مثل استراليا وكندا وروسيا وغيرها. أمّا الأمم المتّحدة ووكالاتها فلا تَسَلْ عن مقدار عجزها وسخافة مصطلحاتها، من مثل عدم “التّناسب” في استخدام القوّة بين إسرائيل والفلسطينييِّن، وقد عبّرت صحيفة Irish Times الإيرلنديّة عن الخُبث الكامن في المُصطلح ذاك الذي يتردد في أدبيّات الأمم المتّحدة والدّول الغربيّة، فاعتبرته “تبريراً لأعمال القتل الإسرائيليّة بحقِّ الفلسطينييِّن”.

Palestine_flag_stock
Palestine_flag_stock

إنّ استخدام إسرائيل للأساليب النازيّة كاملة، كما عبّر عن ذلك الرَّئيس التُّركيُّ أردوغان، لا يجب أن يبقى دون مواجهة أو عقاب، ولا يجب ترك الشعب “الغزّاويَّ” والفلسطينيَّ عموماً يجرّ صليب آلامه وحيداً في جُلجُلةٍ لم يسبِق لها مثيل. وعليه فالتّحرّك الكُوَيْتيّ في مجلس الأمن، والسّعوديّ في جامعة الدّول العربيّة، والإسلاميّ في منظّمة العالم الإسلاميّ، هو أبسط واجبات العرب والمسلمين حيال القدس وفلسطين وحماية مقدّساتها. ويجب الانطلاق من موقف قداسة البابا فرنسيس الأوّل لبناء موقف مسيحيّ – إسلاميّ عالميّ يُلقي بثِقله خلف الشّعب الفلسطينيّ ويعطيه الأمل في أنَّ العالم لم يخلُ من القِيَم، وأن مُمَثّليّ الأديان الرّئيسيّة في العالم لا يزالون حريصين على ما تُمثّله القدس للدّيانات كافّة، وباعتبارها عاصمة روحيّة للعالم أجمع – وللقِمم الرّوحيّة اللُّبنانيّة دور بارز في هذا المجال.
أمّا من دون مواقف الحقّ الأدنى تلك، فسيوغلُ الكيان الصهيونيّ في غِيّه وباطله وسيزداد شراسة في استخدام عنفه الأعمى بحقِّ المدنييِّن الفلسطينييِّن– وقد أشار بيان المجلس المذهبيّ لطائفة الموحِّدين الدُّروز، الذي سنورد نصّه الكامل في الفقرة التّالية، إلى ذلك بوضوح.
ونختم بالقول: إنّه آنَ أوانُ الانتقال من الإدانة اللّفظية لمواقف الرّئيس الأميركيّ ترامب، التي بلغت ذروتها في قراره المُتَعسّف بتاريخ 15 كانون الأوّل 2017 بنقل سفارة بلاده إلى القدس، على نقيض كلِّ القرارات الدوليّة ذات الصّلة، إلى مواقف عمليّة تذكّره – وهو البراغماتيكي – أنّ للولايات المتّحدة من المصالح مع البلدان العربيّة أضعاف ما لديها مع إسرائيل.
كما يجب الارتقاء بمواقف ممثّلي الدّيانات الكبرى في العالم، وبخاصّة الإسلاميّة والمسيحيّة، إلى مستوى تقدير هَوْل “المذبحة” الجارية بحقِّ الفلسطينييِّن، والجريمة التاريخيّة التي تتفتح فصولاً بحق فلسطين، والقدس على وجه الخصوص.
إنّ للقدس ربّاً يحميها، من دون أدنى شكٍّ، ومهما طال زمن العدوان الصهيونيّ بحقِّها، إلّا أنَّ الدّعم المعنوي والمادي لشعب القدس وغزّة وفلسطين، بعامّة، هو أيضاً مهمّة عاجلة لا تحتمل التّسويف أو التّأخير، ومن غير العدل أنْ يُترَكَ الأخوةُ هؤلاء وحيدين في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة العمياء.
ولأهلِنا في فِلسطين نقول: “…صبراً على الغضب”، فأشدُّ ساعاتِ اللَّيل عتمةً هي تلك التي تسبق انبلاج الفجر. وفجرُ الحقوق الوطنيّة للشّعب الفلسطينيّ آتٍ، بلا رَيْب؛ فدولةُ الباطلِ ساعةٌ، أمّا دولةُ الحقِّ فإلى قيام السّاعة.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

التراث والحداثة

يتنازع قراء ’الضحى’ الكُثُر – والحمدلله – اتجاهان حيال المواد التي تنشرها المجلة، وهم لا يترددون في التعبير عنهما بغير طريقة وشكل، ونحن لا نتردد أيضاً في أخذ الملاحظات تلك بكل الجدية والاهتمام المطلوبين، وكما يفترض أن تفعل كل مطبوعة ثقافية تعنى باتجاهات قرائها.

الاتجاه الأول يطلب المزيد من المواد التراثية، وبخاصة في المجال التاريخي – تاريخ أبرز الرجال المعروفيين الذين رفدوا التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث على نحو ساطع. فمن دخول الأمراء التنوخيين القدس لتحريرها من الاحتلال الصليبي برفقة صلاح الدين الأيوبي، إلى إسهامات الشخصيات المعروفية الحاسمة في التصدي للغزو الغربي الشرق، وتبرز هنا حملة الأمير شكيب أرسلان في التصدي للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 جنباً إلى جنب مع المجاهد الليبي عمر المختار. كذلك الإسهام المباشر في الثورة العربية الكبرى لاستعادة حق العرب التاريخي في إقامة كيان عربي مستقل، ثورة الشريف حسين، شريف مكة والحجاز، وأن يكون أحد أبرز قادتهم التاريخيين، سلطان باشا الأطرش، أول من دخل على صهوة جواده دمشق لإجلاء بقايا جمال باشا السفّاح وتركته عنها سنة 1918. وكذا إسهامهم المباشر في المحاولات اليائسة التي بذلها رجال العرب التاريخيين لمنع سقوط دولتهم الوليدة على يدي الفرنسيين سنة 1920، فكانت مشاركتهم المباشرة في معركة ميسلون، فأصيب منهم من أصيب – ولا أدري إذا كان من ضحايا أيضاً. ولم يطل الأمر حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش واستمرت حوال ثلاث سنوات كبّد فيها مجاهدو بني معروف على قلة عددهم الفرنسيين الهزيمة تلو الهزيمة، ولم تنته الثورة سنة 1927 إلا باتفاق، بل بمؤامرة فرنسية إنجليزية أطبقت على مناطق الدروز. وليس أدل على الموقف المعروفي الواحد، في سوريا ولبنان، من ملاحظة العدد الكبير من دروز لبنان الذين شاركوا في العمليات الحربية وعدد الضحايا الكبير الذي قدموه في رفد الثورة  – إذ تكاد لا تخلو بلدة في وادي التيم وجبل لبنان الجنوبي من شهيد أو أكثر سقطوا في العمليات العسكرية بين سنتي 1925-1927، وبخاصة من منطقة حاصبيا – راشيا، حيث أعداد الشهداء العالية  (وفي العدد ثبت دقيق بشهداء وادي التيم في مواجهات الثورة مباشرة أو عمليات ضد الفرنسيين متصلة بالثورة). ومن تاريخهم الحديث، أيضاً، تصديهم للاحتلال الصهيوني عبر المشاركة المباشرة في الانتفاضات الفلسطينة المتعاقبة (وخصوصاً ثورة 1936) إلى الانخراط أخيراً في حملة ’جيش الانقاذ’ البائسة التي قادها المجاهد فوزي القاوقجي، والتي حاصرتها الخيانات من كل اتجاه. وفي التاريخ الحديث أيضاً تصديهم للانحراف الذي حدث في الخمسينيات في لبنان وانخراطه في محور إقليمي اعتبر معادياً لعبد الناصر ولحركة القومية العربية ما أوصل إلى ثورة 1958 التصحيحية. ثم تصديهم طوال سنوات 1973 و1975-76 وصولاً إلى سنة 1982 للمحاولات الإسرائيلية والأمريكية /الأطلسية التي هدفت إلى محو القضية الفلسطينية بالقوة من معادلات الشرق الأوسط.

 وقاد التصدي البطولي ذاك وبكل شجاعة واقتدار المغفور له كمال جنبلاط، ثم القيادة الدرزية الموحّدة التي تشكلت غداة الغزو الإسرائيلي والتي تكونت من المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا ووليد جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان. قدّم دروز لبنان في المعارك الأخيرة وحدها حوالي أربعة ألاف شهيد، عدا مئات الجرحى والمعوقين، لا يزال معظمهم بيننا اليوم مكرّمين معززين وشهوداً أيضاً على حجم التضحيات التي بذلت في سبيل القضية الوطنية والعربية. هذا في الجانب الجهادي والنضالي فقط، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إسهامات المفكرين والأدباء والفنانين والتراجمة المعروفيين في النهضة العربية الحديثة، وفي نهضة أقطار المشرق العربي قاطبة، من اليمن إلى العربية السعودية، فلبنان وسوريا، وهم بالعشرات، ومن واجب ’الضحى’ البديهي التعريف المستمر بهم

وبعظيم إنجازاتهم.

هذا اتجاه أول، يمكن تسميته بالاتجاه التراثي، يُسعَد لكل فقرة  تتضمنها ’الضحى’ تتصل بالتراث أو بتضحيات المعروفيين في كل اتجاه.

في مقابل هذا الاتجاه، يقوم اتجاه ثان بين قرّاء ’الضحى’، ما انفكوا يعبّرون عنه بأكثر من طريقة، ويمكن تسميته بالاتجاه الحداثي، أو الحداثوي.

أصحاب هذا الاتجاه الحداثي – ولنوضح موقفهم بدقة – هم مع استمرار ’الضحى’ في إبراز الجوانب التراثية في تاريخ بين معروف، وهم يقولون أنها ستبقى مفخرة بني معروف الفذّة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، إلا أن هؤلاء – وهم من طبقات وشرائح اجتماعية وثقافية عدة –يرون أن ’الضحى’ لا تولي الشباب المعروفي الطالع المقدار الضروري من الأهمية – إلا نادراً. هي لا تخاطبهم مباشرة، لا تفسح في المجال ليعبروا بأنفسهم عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، من تقدم المعارف والعلوم والتقنيات التي تلقى هوى عند الشباب ويعنيهم أن يتابعوا تطوراتها، إلى مشكلاتهم الكثيرة: من البطالة وفقدان فرص العمل، والكلفة العالية للتعليم، وغياب معظم مؤسسات التعليم العالي الرسمية عن مناطقهم، والطبابة الرسمية الغائبة عن مناطق الجبل، وكذلك ندرة المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية عن مناطقهم، إلى الحصار الإعلامي الذي تتعرض له مناطقهم وفقدانهم أمكنة التعبير عن أرائهم أو نتاجهم الثقافي، إلى أزمة الشباب المغترب وانشطار الوعي لديه، وعجزه عن التعبير عن أزمته، ومشكلات كثيرة أخرى. بعض أصحاب هذا الاتجاه، وبينهم رجال دين أجلاّء، عبّروا بشكل صريح عن هذا الرأي بالقول: كيف لي أن أجعل أولادي يقرأون ’الضحى’ وهي في عالم بينما أولادنا في عالم آخر مختلف؟

تلك بعض ’ألطف’ الانتقادات التي وردتنا، إذ عبّر آخرون في هذا الاتجاه عن منحى حداثي أكثر جذرية ونقدانية.

لا تستطيع ’الضحى’ إلاّ أن تصغي بانتباه شديد للرأيين أعلاه. ومن باب احترامها لقرائها، تُوسِع الضحى في مضمونها مكاناً للاتجاهين معاً. ومن غير الضروري افتعال التناقض بين الاتجاه التراثي والاتجاه الحداثي بين قرّاء الضحى وعلى صفحاتها. فالمساحة المخصصة للتراث في ’الضحى’ يجب أن تبقى، لما فيه من تذكير بالتقليد المعروفي العريق، ومن حضّ على التمسك بالقيم الموروثة الأصيلة. وكذلك، يجب أن تتسع المساحة التي تتيحها ’الضحى’ للمشكلات التي باتت تواجه مجتمعاتنا لأسباب عدة، كما للهواجس التي تشغل باب شبابنا وأجيالنا الناشئة، وهي كثيرة أيضاً. وثالث التجديدات الحداثية فتحُ آفاقٍ ثقافية جديدة لتطلّ منها إبداعات مبدعينا، فنانين وكتّاباً، رجالاً ونساء، من باب التعريف والتكريم من جهة، وتشجيع الميل للإبداع لدى شبابنا وشاباتنا من جهة ثانية. وفي كل الحالاات، ’الضحى’ هي ’الضحى’، كما أرادها المؤسسون العظام في طائفة الموحدين الدروز، قبل خمسين سنة ونيّف؛ ومستمرة كذلك مع سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، وصحبه في مجلس أمناء المجلة وفي المجلس المذهبي.

والله وليّ التوفيق

رئيس التحرير

د. محمد شيّا

التراث والحداثة

يتنازع قرّاء الكُثُر – والحمدلله – اتّجاهان حيال المواد التي تنشرها المجلّة، وهم لا يترددون في التعبير عنهما بغير طريقة وشكل، ونحن لا نتردد أيضاً في أخذ الملاحظات تلك بكل الجدّية والاهتمام المطلوبَيْن، وكما يفترض أن تفعل كل مطبوعة ثقافية تعنى باتجاهات قرائها.

الاتجاه الأول يطلب المزيد من المواد التراثية، وبخاصة في المجال التاريخي – تاريخ أبرز الرجال المعروفيين الذين رفدوا التاريخ العربي والإسلامي القديم والحديث على نحو ساطع. فمن دخول الأمراء التنوخيين القدس لتحريرها من الاحتلال الصليبي برفقة صلاح الدين الأيوبي، إلى إسهامات الشخصيات المعروفية الحاسمة في التصدي للغزو الغربي للشرق، وتبرز هنا حملة الأمير شكيب أرسلان في التصدي للغزو الإيطالي لليبيا سنة 1911 جنباً إلى جنب مجاهدين آخرين. كذلك الإسهام المباشر في الثورة العربية الكبرى لاستعادة حق العرب التاريخي في إقامة كيان عربي مستقل، ثورة الشريف حسين، شريف مكة والحجاز، وأن يكون أحد أبرز قادتهم التاريخيين، سلطان باشا الأطرش، أول من دخل على صهوة جواده دمشق لإجلاء بقايا جمال باشا السفّاح وتركته عنها سنة 1918. وكذا إسهامهم المباشر في المحاولات اليائسة التي بذلها رجال العرب التاريخيين لمنع سقوط دولتهم الوليدة على يدي الفرنسيين سنة 1920، فكانت مشاركتهم المباشرة في معركة ميسلون، فأصيب منهم من أصيب – ولا أدري إذا كان من ضحايا أيضاً. ولم يطل الأمر حتى اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش واستمرت نحو ثلاث سنوات كبّد فيها مجاهدو بني معروف على قلّة عددهم الفرنسيين الهزيمة تلو الهزيمة، ولم تنته الثورة سنة 1927 إلا باتفاق، بل بمؤامرة فرنسية إنجليزية أطبقت على مناطق الدروز. وليس أدلّ على الموقف المعروفي الواحد، في سوريا ولبنان، من ملاحظة العدد الكبير من دروز لبنان الذين شاركوا في العمليات الحربية وعدد الضحايا الكبير الذي قدموه في رفد الثورة – إذ تكاد لا تخلو بلدة في وادي التيم وجبل لبنان الجنوبي من شهيد أو أكثر سقطوا في العمليات العسكرية بين سنتي 1925-1927، وبخاصة من منطقة حاصبيا – راشيا، حيث أعداد الشهداء العالية (وفي العدد ثبت دقيق بشهداء وادي التيم في مواجهات الثورة مباشرة أو عمليات ضد الفرنسيين متصلة بالثورة). ومن تاريخهم الحديث، أيضاً، تصديهم للاحتلال الصهيوني عبر المشاركة المباشرة في الانتفاضات الفلسطينة المتعاقبة (وخصوصاً ثورة 1936) إلى الانخراط أخيراً في حملة “جيش الانقاذ” البائسة التي قادها المجاهد فوزي القاوقجي، والتي حاصرتها الخيانات من كل اتجاه. وفي التاريخ الحديث أيضاً تصديهم للانحراف الذي حدث في الخمسينيات في لبنان وانخراطه في محور إقليمي اعتبر معادياً لعبد الناصر ولحركة القومية العربية ما أوصل إلى ثورة 1958 التصحيحية. ثم تصديهم طوال سنوات 1973 و1975-76 وصولاً إلى سنة 1982 للمحاولات الإسرائيلية والأمريكية /الأطلسية التي هدفت إلى محو القضية الفلسطينية بالقوة من معادلات الشرق الأوسط.

وقاد التصدي البطولي ذاك وبكل شجاعة واقتدار المغفور له كمال جنبلاط، ثم القيادة الدرزية الموحّدة التي تشكلت غداة الغزو الإسرائيلي والتي تكونت من المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا ووليد جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان. قدّم دروز لبنان في المعارك الأخيرة وحدها مئات الشهداء بالإضافة الى عشرات الجرحى والمعوقين، لا يزال معظمهم بيننا اليوم مكرّمين معززين وشهوداً أيضاً على حجم التضحيات التي بذلت في سبيل القضية الوطنية والعربية. هذا في الجانب الجهادي والنضالي فقط، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك إسهامات المفكرين والأدباء والفنانين والتراجمة المعروفيين في النهضة العربية الحديثة، وفي نهضة أقطار المشرق العربي قاطبة، من اليمن إلى العربية السعودية، فلبنان وسوريا، وهم بالعشرات، ومن واجب البديهي التعريف المستمر بهم وبعظيم إنجازاتهم.
هذا اتجاه أول، يمكن تسميته بالاتجاه التراثي، يُسعَد لكل فقرة تتضمنها تتصل بالتراث أو بتضحيات المعروفيين في كل اتجاه.

في مقابل هذا الاتجاه، يقوم اتجاه ثان بين قرّاء ، ما انفكوا يعبّرون عنه بأكثر من طريقة، ويمكن تسميته بالاتجاه الحداثي، أو الحداثوي.
أصحاب هذا الاتجاه الحداثي – ولنوضح موقفهم بدقة – هم مع استمرار في إبراز الجوانب التراثية في تاريخ بين معروف، وهم يقولون أنها ستبقى مفخرة بني معروف الفذّة، يتوارثها الأبناء عن الأجداد، إلا أن هؤلاء – وهم من طبقات وشرائح اجتماعية وثقافية عدة –يرون أن لا تولي الشباب المعروفي الطالع المقدار الضروري من الأهمية – إلا نادراً. هي لا تخاطبهم مباشرة، لا تفسح في المجال ليعبروا بأنفسهم عن مشكلاتهم وتطلعاتهم، من تقدم المعارف والعلوم والتقنيات التي تلقى هوى عند الشباب ويعنيهم أن يتابعوا تطوراتها، إلى مشكلاتهم الكثيرة: من البطالة وفقدان فرص العمل، والكلفة العالية للتعليم، وغياب معظم مؤسسات التعليم العالي الرسمية عن مناطقهم، والطبابة الرسمية الغائبة عن مناطق الجبل، وكذلك ندرة المؤسسات والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية عن مناطقهم، إلى الحصار الإعلامي الذي تتعرض له مناطقهم وفقدانهم أمكنة التعبير عن أرائهم أو نتاجهم الثقافي، إلى أزمة الشباب المغترب وانشطار الوعي لديه، وعجزه عن التعبير عن أزمته، ومشكلات كثيرة أخرى. بعض أصحاب هذا الاتجاه، وبينهم رجال دين أجلاّء، عبّروا بشكل صريح عن هذا الرأي بالقول: كيف لي أن أجعل أولادي يقرأون وهي في عالم بينما أولادنا في عالم آخر مختلف؟

تلك بعض “ألطف” الانتقادات التي وردتنا، إذ عبّر آخرون في هذا الاتجاه عن منحى حداثي أكثر جذرية ونقدانية.
لا تستطيع إلاّ أن تصغي بانتباه شديد للرأيين أعلاه. ومن باب احترامها لقرائها، تُوسِع في مضمونها مكاناً للاتجاهين معاً. ومن غير الضروري افتعال التناقض بين الاتجاه التراثي والاتجاه الحداثي بين قرّاء وعلى صفحاتها. فالمساحة المخصصة للتراث في يجب أن تبقى، لما فيه من تذكير بالتقليد المعروفي العريق، ومن حضّ على التمسك بالقيم الموروثة الأصيلة. وكذلك، يجب أن تتسع المساحة التي تتيحها للمشكلات التي باتت تواجه مجتمعاتنا لأسباب عدة، كما للهواجس التي تشغل بال شبابنا وأجيالنا الناشئة، وهي كثيرة أيضاً. وثالث التجديدات الحداثية فتحُ آفاقٍ ثقافية جديدة لتطلّ منها إبداعات مبدعينا، فنانين وكتّاباً، رجالاً ونساء، من باب التعريف والتكريم من جهة، وتشجيع الميل للإبداع لدى شبابنا وشاباتنا من جهة ثانية. وفي كل الحالات، هي ، كما أرادها المؤسسون العظام في طائفة الموحدين الدروز، قبل خمسين سنة ونيّف؛ ومستمرة كذلك مع سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن، وصحبه في مجلس أمناء المجلة وفي المجلس المذهبي.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

إفتتاحية رئيس التحرير

ثوابت مجلة … مستمرّة

هوذا العدد 22 من الغرّاء، الزاهرة دائماً، بإذن الله.
يتوجب علي بداءةً، منطقياً وأخلاقياً، وفي مفتتح العدد الجديد (العدد 22)، التعبيرعن خالص تقديري للذين أولوني، أواخر العام الفائت، شرف رئاسة تحرير ، أخصّ بالذكر سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن – الوافر الاحترام – وإخوانه أعضاء مجلس الإدارة واللجنة الادارية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز. ومن الطبيعي، بل المُلزم، بالتالي، أن أبادلهم ثقتهم الغالية بالعمل الدؤوب، في كل المجالات، وبوضع ما أملك من إمكانات ومعرفة وخبرة في خدمة الغرّاء لتستمر أمينة على الرسالة الثقافية والروحية والوطنية والأخلاقية التي وُجدت من أجلها، بل لتزداد رسوخاً في رسالتها السامية، وتألقاً في صورتها البهية، كما في سعيها لاستقطاب أوسع جمهور يجتمع بفرح حول صفحاتها وموضوعاتها وكتّابها، تملأه الثقة التامة بأهمية ما يقرأ، وبعلمية وموضوعية من يقرأ لهم، أولئك الذين نقّبوا وبحثوا وكتبوا ونشروا في . و معنيةٌ، أولاً وأخيراً، باهتمامات جمهورها، وأسئلته، وإذا شاء بنقده وملاحظاته أيضاً.
نقول هي معنية باهتمامات جمهورها، وتلك هي أكثر الصيغ بساطة في التعريف بـ وهويتها وماهيتها. فـ في الأصل ليست مطبوعة أخرى تنضاف إلى ما هو موجود من مطبوعات، ولا هي مجرد مجلة فصلية ثقافية رصينة تنافس ما هو قائم من مجلات ثقافية أخرى.
في الحقيقة أكثر من ذلك. هي، بتعبير دقيق، مجلة ثقافية ملتزمة، وذات مرجعية فكرية واضحة. لذلك فهي تتوجه إلى مجتمعها، ووطنها، وأمتها بأهداف عامة متميّزة وبرسالة اجتماعية محددة.
فعلى صعيد الأهداف العامة، تلتزم من دون تردد المرتكزات الروحية والعقلانية والأخلاقية والوطنية الجامعة هوّية لها، وعلى قاعدة توجهها الثقافي والفكري الأساسي. وأولى مرتكزاتها الفكرية قناعتها الثابتة الراسخة أنْه من غير المنطقي، أو المقبول، النظر إلى الكون وما فيه كما لو كان تجميعاً للمصادفات والأسباب المادية الآلية وغير الآلية لا أكثر. وقناعتها أيضاً أنه من غير المنطقي أو القبول اعتبار حياة البشر فوضى من دون قاعدة أو مسرحاً للتوحش من دون حساب تطغى فيه القوة والشر والفساد على ما هو حق وخير وفضيلة، ومن دون حساب أو محاسب، ولا رقيب أو مراقب.
لا ترى ذلك البتة. الكون هو بخلاف ذلك تماماً، والمجتمع أيضاً. فالكون بما فيه، ومن فيه، من تنوع عجيب مدهش في الكائنات، ومن تكامل وانتظام يفوقان الوصف، إنما يدلّان بجلاء إلى فعل الخلق العظيم وما انطوى عليه من خير ورحمة وغاية وجمال، وإلى الخالق من ثمة، بعيداً عن غطرسة وغرور هذا أو جهل وتجاهل ذاك.
أما في المجتمع، فرسالة تقوم في الحض على الأخذ بالعلم والعقل والثقافة، وبأسباب النهوض والتقدم والوحدة بين المواطنين؛ وعلى اعتبار الآخر أخاً في الإيمان بالله والرسُل والملائكة واليوم الأخِر، وفي فعل الخير والأعمال الصالحات؛ وهو أخٌ أيضاً في المواطنة، في القرية والحي والبلدة والمدينة والوطن، كما في الأخلاق الحميدة. الأخلاق والمواطنة حقلان محددان يلتقي فيهما، وعلى أهدافهما، المواطنون، كلّ المواطنين، تحت سلطة القانون ووازع الآداب العامة.
بهذه المعاني، الروحية والأخلاقية والوطنية، تتوجّه وكتّابها إلى جمهورها: تدعوهم أولاً إلى القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وتخاطب، ثانياً، ما انطووا عليه من قوى وطاقات خيّرة، ما يسهم بالتأكيد في تنمية مواقفهم الإيجابية، وطرائق تواصلهم، وحوارهم، واجتماعهم الذي يجب أن يكون على البر والخير، وعلى إعلاء المصلحة العامة والشأن العام والأخلاق، وتحكيم العقل – لا الغرائز أو العصبيات – في حياتنا الفردية والاجتماعية والوطنية.
مع رئيس تحريرها الجديد ستبقى كما كانت دائماً: أمينة على أهدافها الروحية والأخلاقية والوطنية، كما على رسالتها الاجتماعية أعلاه. وكما كانت في السابق، ستستمر في المستقبل منفتحة على كل رأي، ترحب بكل مساهمة أو اجتهاد لا يتناقضان وهويتها وماهيتها وأهدافها الجامعة. لا مكان في ، لا سابقاً ولا في المستقبل، للسياسة بالمعنى اليومي المباشر، ولا لكل ما يشقّ الصف الوطني الواحد، ولا ما يجزّئ أو يقسّم أو يحرّض أو يستفز. هي مجلة الوحدة الوطنية في الوطن، اللبناني والعربي؛ هي مجلة التجديد الفكري والنهضوي والاجتماعي؛ وهي أخيراً مجلة الوحدة الدينية الروحية في الإطار الإسلامي المنفتح الواسع، تماماً كما هي مجلة قبول الآخر، المختلف.
هذه هي ، على مستوى الهوية والأهداف، في العدد الجديد وما سليه، وكما كانت في كل أعدادها السابقة.
لكن تعدُ أيضاً بالتجديد والتطور، وهما سمتا الكائنات الحيّة، سمة كل ما هو مخلوق وحيّ. فالسنوات الثماني التي تلت إعادة إطلاق أظهرت بطرائق مختلفة ما هو ثابت وضروري ومطلوب من أبوابها، ويجب الاحتفاظ به، وما يحتاج إلى تعديل لجهة الحجم والمساحة والموضوعات، ويجب تعديله، وما هو جديد ونافع وضروري، فيجب الأخذ به وإضافته. وستظهر هذه التغييرات تدريجاً بدءاً من هذه العدد، وبما يخدم أولاً وأخيراً رسالة ومصلحة جمهورها واهتماماته.
باختصار،
، مجلة الوحدة في زمن التمزق، بل التشظّي والتذرر. لقد أراد أعداء أوطاننا وأمتنا العربية الإجهاز على ما تبقى من وحدة سياسية لبلداننا، ومن وحدة اجتماعية بين مكوناتها. وللرد على ذلك، بات علينا في كل عمل أو خطاب نسوقه تجنّب زيادة التوتر والتمزّق، والحضّ بالعكس على كلّ ما يسهم في استعادة وحدة أوطاننا ومجتمعاتنا والسلم الأهلي فيها.
مجلة العقل والعقلانية في زمن الجنون، واللامعقول الذي لم ترَ مثله عين أو تسمع به إذن، أو يخطر ببال، حتى في أكثر الأزمنة السابقة جهلاً وسواداً. لقد فشى الجهل وطغى خطاب الغرائز والعصبيات حتى بات عنواناً مع الأسف للمرحلة هذه، و معنية بقدر ما تستطيع في إعلاء خطاب العقل لا الغرائز.
مجلة التنوع الثقافي والروحي في مجتمعاتنا العربية وباعتباره عامل إغناء لهذه المجتمعات وإظهاراً لإسلامنا المنفتح المتسامح الذي جذب حتى اليهود إلى مجتمعه السمح، ناهيك بالمسيحيين المشرقيين وهم شركاء المسلمين في كل حلٍّ وترحال، في انتصاراتهم كما في هزائمهم، وما الموقف الأخير لرؤساء الطوائف المسيحية من مؤامرة الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني غير برهان آخر على تمسكهم، كما شركاؤهم في الوطن، بالثوابت الوطنية القومية الجامعة.
مجلة المسؤولية في ممارسة الحرية، أيّاً كان مجالها؛ فالحريات التي تمارس اليوم في بعض جوانب المجال الإعلامي، وبخاصة المرئي منه، باتت لا تمت بصلة لا الإخلاق المعروفة فقط، وإنما للثوابت والبدهيات الاجتماعية المسلّم بها. لقد غدا الانحراف هو السائد والقاعدة وعلى حساب الأسس والقواعد الأخلاقية التي نطقت بها أدياننا، أو بلغتنا من التراث الناصع لأسلافنا. ولن تتوانى في الدفاع عن المسألة الأخلاقية واعتبارها واسطة العقد في حياتنا الاجتماعية، من البيت والأسرة، إلى المدرسة، إلى المجتمع في مجاله الأوسع.
و، إلى ذلك، هي الذاكرة الثقافية لمجتمعنا ووطننا وأمتنا. فالجماعات لا تعيش من دون ذاكرة. وقد قدّمت جماعتنا التوحيدية لأوطانها، كما لمحيطها العربي والإسلامي، رجالاً أفذاذاً تركوا بصمات عميقة الأثر في صفحات أزمنتهم، بل أمسكوا أحياناً بناصية أهم القرارات التاريخية، فما اختاروا إلا ما فيه مصلحة عليا لوطنهم وأمتّهم، متناسين ما يتطلبه ذلك من تضحيات تجرّعوا علقمها عن طيب خاطر. وفي العدد 22 هذا نتوقف عند علمين من بين أولئك الرجال: كمال جنبلاط – الإنسان والمثقف والمعلّم – نحتفل بمئوية مولده بملف خاص تفتتحه بالمناسبة، والأمير شكيب ارسلان.
و، أخيراً وباختصار، هي مجلة الاعتدال. وإذا كان الاعتدال هو رمز الحكمة والعدل في كل زمن، فهو في زمن الغلو والتطرف الذي نعيشه أكثر إلحاحاً وأولوية، وكما قال سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن في تقديمه لأحد أعداد السابقة. فسماحته يدفع، وعن حق، بفضيلة الاعتدال إلى المقدمة، وذلك بجعلها ركناً من أركان ممارسة التوحيد، حين يقول: «…يجب التنبّه إلى إلى أخلاق الموحّد هي اعتدال الميزان في عقله وقلبه…والتوحيد إما أن يكون ثمرة الاعتدال، وإما أنه لن يتحقق بالطريقة التي يستشعر فيها الإنسان غبطة الداخل التي سمّاها السلف الصالح “فضيلة الذات”. والاعتدال في يعني، عملياً، نوع الموضوعات التي ننتقي الكتابة فيها، ثم شكل الكتابة نفسها، فتأتي علمية، موضوعية، موثقة، وخلواً مما يحيل او بستثير إلى عاطفة أو غريزة أو عصبية. الغرائز والعنصبيات لا مكان لهما في خطاب مجلة .
هي ذي بعض ثوابت أحببنا التذكير بها، تذكير أنفسنا كما الآخرين، لنؤوب دائماً إلى سواء السبيل، في قولنا وخطابنا كما في أفعالنا وبخاصة تلك التي تتحول بدورها إلى قاعدة وسابقة يقتدى بها، ولطالما كانت سِيرُ أهل التوحيد مضرب المثل في صدق النية كما في حُسنِ القول والمسلك، وخطاب سيكون في خط الثوابت التوحيدية الغرّاء تلك.
وبعد
يقتضي الواجب التنويه بالمساعدة الإدارية والتقنية التي لقيتها من أمانة سرّ المجلس، ومن الفريق التقني فيه، في خلال الفترة القصيرة التي تسلّمت فيها مسؤولية تحضير هذا العدد. كما أنوّه بالجهود الصادقة المخلصة التي بذلها رئيس التحرير السابق، الصديق الأستاذ رشيد حسن، في إعلاء كلمة وإيصال رسالتها الخيّرة والنبيلة إلى أوسع جمهور ممكن.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

كلمة سواء

غزو من الفضاء كيف المواجهة؟

من أعجب ما رأيت في ردود الفعل على حوادث الإنتحار المؤسفة التي حصلت مؤخراً هو هذا التعنيف الشديد من قبل كثيرين لهؤلاء المساكين المعاقين نفسياً وهم في الحقيقة ضحايا هشاشة شخصيتهم أولاً ثم ضحايا التردي الأخلاقي المنتشر على شبكة الإنترنت – وفي المجتمع- وكذلك ضحايا غفلة الأهل وغفلة المدرسة والمجتمع، فإن لم نكن لنرحمهم (على سبيل الإدانة لقتل النفس التي حرم الله قتلها) فإن علينا أن نفهم الظروف التي أحاطت بسقوطهم لأن المطلوب إلى جانب إدانة هذا التصرف فهم الأزمات العميقة التي تهدد التوازن النفسي والأخلاقي للشباب في هذه المرحلة بالذات والتي لا تقتصر على الشباب الدرزي بل تطال الشباب في كافة البيئات اللبنانية والعربية.

إن حوادث الانتحار هي عنوان فقط من عناوين عدة لأزمة شباب ينسلخ يومياً عن ثقافته وعن أسرته وعن تراثه ليهرب إلى عالم افتراضي ينشد فيه مسرات سطحية من دون أي خبرة أو توجيه. ونحن نثور على حوادث انتحار متفرقة لكن يجب أن نثور أيضاً على مئات وربما ألوف الحالات لشبان يعيشون في ظلمة المخدرات والشذوذ وقتل الوقت والوجود الهامشي وهؤلاء “أموات أحياء” ومنسيون ولا يجب بالتالي إهمال مأساتهم والانتظار لكي يحدث لهم سوء أو يتورطوا في مشكلات لكي نعلم بوجودهم والظروف القاسية التي يعيشونها.
والمهم هو مواجهة هذا التحدي الخطير لبيئتنا وقيمنا بعقلانية وروح مسامحة ومن دون ذعر أو تصرف عصبي لأن ردود الفعل العنيفة ستجعل الشباب يخاف التصريح أو التقدم لطلب المساعدة من مجتمع يعامله بالقسوة وعدم التفهم لمشكلاته أو لأخطائه وحتى انحرافه أحياناً على السلوك السليم.

جذور الأزمة
إن ثورة الإنترنت والتواصل الفوري تطور كبير في الحضارة الإنسانية لكنها تطور متعدد الوجوه وأحد هذه الوجوه هو في كونها تحت سيطرة الغرب المادي والقوى الغامضة الإلحادية وهي تمثل لذلك غزواً أخطر بكثير من غزو الجيوش لأنه غزو ينزل علينا من السماء عبر الأقمار الصناعية ويجتاح عقولنا وثقافتنا وهو غزو ممنهج هدفه تربية الأجيال الجديدة وفق ثقافات القوى الغربية وبأسلوب يجرد الشعوب العربية والإسلامية من شخصيتها وإيمانها ويهدم مجتمعاتها واحترامها لنفسها فتسقط أهم دفاعاتها وتصبح بالتالي ساحة مباحة لكل أنواع التدخل والسيطرة. ونحن نوجز أهم المصائب التي حملتها ثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بالتالي:
1. الهجرة من ثقافة السلف وثقافة الأسرة والعائلة والقرية والجماعة إلى البيئة الفاسدة والمُفسِدة لشبكة الإنترنت والهواتف الذكية وتطبيقاتها التي لا تحصى، وهذه الهجرة تتسبب بانسلاخ تدريجي للشاب عن بيئته واندماجه في عالم افتراضي خيالي وغير موجود في الواقع، لكن بعض الشباب المنسلخ باتوا يعتبرونه العالم الجديد الذي يريدون العيش فيه باعتباره أفضل من العالم الواقعي الذي لا يعطيهم أملاً بحياة أو مستقبل.
2. الحرية الرقمية: إن أكثر مبادلات التواصل تحصل عبر أجهزة محمولة من الشباب لا يعلم إلا صاحبها ما يتم بواسطتها فإن الأهل غير مطلعين حقيقة على عمق الانسلاخ الحاصل ولا تتوفر لهم في أحيان كثيرة فكرة مبكرة عن الهوة التي تكبر مع أبنائهم وعن المشكلات التي تتجمع في الخفاء بعيداً عن أعينهم.
3. الصداقة والصداقة الرقمية : كانت الصداقة في الماضي صداقة لبناء الشخصية تزدهر في بيئة القربى أو الجيرة أو القرية أو صداقات الأهل أو المدرسة ولم يكن ممكناً لهذه الصداقات أن تستمر في غفلة عن الأهل الذين يختارون لأبنائهم من الرفاق من يساهم في صون أخلاقهم، وكثيراً ما منعنا والدانا من مخالطة شخص سمعوا أنه يسُبّ أو يشتهر بسوء المسلك. أما الصداقات الرقمية فتتم خارج أي اطلاع من الأهل أو اختيار منهم، وهي ليست صداقات بل “تسليات” سطحية يتنافس فيها الشباب عن جمع أكبر قدر من العناوين و”المعجبين” من دون معرفة الكثير عن خلفية الأشخاص. أما مضمون تلك الصداقات فليست كتاباً ينصح بقراءته أو مادة ثقافة أو دين أو نصيحة بل نكات و”نفايات” الإنترنت أو مقاطع فيديو صريحة يوجد الملايين منها في التداول غذاء مسموماً ومدروساً لإفساد الأجيال في أي مكان لا يزال فيه تراث أو حضارة أو دين.
4. الاختلاط الرقمي: إن الصداقات قبل مجيء العالم الرقمي كانت في كافة البيئات وعلى الأخص الدرزية بين ذكور أو بين إناث ولم تكن مختلطة إلا نادراً أما الآن فإن وسائل التواصل الاجتماعي تتيح تواصل الشباب والشابات من دون قيود كإمتداد لعلاقات التعارف في المجتمع أو على مقاعد الدراسة أو في مكان العمل وهذا من دون رقيب أو مرشد، وهذا النوع من العلاقات الرقمية الحرة يحتوي على مغريات ومنزلقات لا تحصى.
5. مخاطر ومنزلقات :إن الكثيرين ممن يدخلون عالم الفيسبوك أو الإنستغرام أو الواتس آب أو غيرها غير ملمين بصورة كافية بكيفية عمل تلك التطبيقات وهم غير ملمين خصوصاً بالثغرات الكبيرة التي قد تتيح تداول صورهم الشخصية أو أخبارهم أو أقوالهم وغيرها، كما إن العديد منهم قد يتحوّل إلى مادة استغلال من أشخاص هدفهم فتنة الناس وإشاعة الفضائح غير عابئين بمن ائتمنهم (بسذاجة) على أخص خصوصياته. وهذا الجهل أو ضعف الخبرة هو الذي سبّب لبعض ضحايا “الخيانة” والابتزاز الرقمي تلك الصدمة النفسية الساحقة كما لو أن السماء أطبقت بكل ثقلها على صدرهم فإذ بهم لا يجدون مخرجاً من العار الذي لاحقهم وإظلام الدنيا من حولهم إلا الفرار إلى عالم الأموات.

ماذا عن الحلول؟
من السذاجة الاعتقاد بوجود علاجات سهلة لهذا “الغزو الفضائي” المخيف الذي يجتاح البيوت ويدخل غرف النوم ويستولي على النفوس وعلى العقل والشعور والخيال ويدمر نواميس الآداب ويستلب الهوية. ولقد أصبح اقتناء الهواتف الذكية واستخدام تطبيقاتها وكذلك دخول الإنترنت بكل مفاسدها أمراً زهيد الثمن ومتاحاً لجميع الناس من كافة الأعمار بدءاً ربما من العاشرة أو ما دونها. وطالما وجد الفراغ أو البطالة وطالما أن الوصول الحرّ إلى شبكة الإنترنت الكونية متاح في أي وقت للصغير والكبير وبعيداً عن أي رقابة أو توجيه فإن المخاطر التي تهدد شبابنا وشاباتنا ومجتمعنا لا بدّ من أن تتعاظم مع صبيحة كل يوم جديد.
لكن، وبالرغم من ضخامة التحدي، فإن هناك متسعاً لاتخاذ مجموعة من المبادرات المنسقة والهادفة لاحتواء المخاطر ومعالجة المشكلات التي قد تنشأ بين الحين والآخر، ونحن نعرض هنا لبعض الأفكار من دون أن نعتبرها حلاً بل مجرد جدول أعمال يمكن للنقاشات اللاحقة والاقتراحات البناءة من مختلف الجهات التي أظهرت غيرة واهتماماً أن تغنيه وصولاً إلى حلول عملية ومبادرات على الأرض.
1. يجب على وزارة التربية والمدارس الحكومية والخاصة أن تدخل مقرراً أساسياً في برامج التربية يتناول التدريب على الاستخدام المسؤول للإنترنت ووسائل التواصل والتوعية بالمخاطر التي تحيق بالاستخدام الطائش أو غير المتبصر لتلك الوسائل.
2. يجب خلق “غروبات الصداقة” بمبادرة من ناشطين اجتماعيين يدعى إليها الشباب، سواء على مستوى المدرسة أو القرية أو العائلة أو غيرها على أن يتم اختيار موادها بعناية بحيث تجمع بين الترفيه وبين التوجيه.
3. يجب على المدارس والبلديات ومنظمات الشباب والجمعيات الشبابية التعاون في إنشاء “مخيمات الصداقة” خصوصاً في الصيف وبعد انتهاء المدارس وتعزيز النشاطات التثقيفية في الطبيعة كتلك التي تقوم بها محمية أرز الشوف أو غيرها من الجمعيات البيئية.
4. يجب إنشاء مؤسسة اجتماعية يتسجّل فيها الشباب الذين هم بلا عمل، بحيث يمكن الاتصال بهم لعرض أعمال موسمية أو جزئية في المواسم، أو دعوتهم للتسجيل في دورات تدريب على الزراعة أو بعض المهن والحرف.
5. يجب وجود خط ساخن يستعين بمرشدين نفسيين وتربويين يمكن لمن يواجه مشكلة من الشباب بسبب وسائل التواصل الاجتماعي أن يتصل به طلباً للمساعدة، ويجب أن تضمن هذه المنظمة للمتصلين السرية التامة لتفاصيل مشكلتهم وتطبّق احتياطات تحافظ على كرامتهم وتؤمنهم على خصوصيتهم.
6. يجب منع الهواتف المحمولة منعاً باتًا في المدارس خلال الصفوف والدوام الرسمي .
7. يجب تشجيع الشباب على العمل الاجتماعي والبيئي المباشر من خلال البلديات والأندية والمعاهد وإطلاق مبادرات التشجير والعمل الإنمائي والمدني بمختلف وجوهه.
8. يجب تنظيم لقاءات عامة في المدارس يتحدث فيها ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تنبيه الشباب إلى مزالق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
9. لا بد ّأخيراً من تنظيم دورات وورش عمل للتعريف بالفوائد الهائلة التي يمكن تحقيقها من الاستخدام المدروس للإنترنت مع التعريف بالمواقع الثقافية والتعليمية والصحية والتراثية وتدريب الشباب على الاستفادة الكاملة من الشبكة في أمور الدراسة والعمل والتكوين المهني والنفسي والروحي.
والله من وراء القصد

كلمة سواء

تحليلٌ نفسيٌّ لظاهرةٍ غَرِيبَة

يمكن تأريخ تجربة السّير على الطّرقات اللبنانيّة بأنّه تاريخ ما قبل المطبّات وتاريخ ما بعد المطبّات. ففي السّبعينيّات مثلاً أو حتى الثّمانينيّات وربّما التّسعينيّات لم يكن هناك على طرق لبنان وبصورة أخَصّ على طرق الجبل شيء اسمه المطبّات. لكن تبدّل الأمر في ما بعد بصورة غير ملحوظة أوّلاً عندما نبتت مطبّات معدودة على بعض الطرق الرئيسية، وكان واضحاً أنّها سيئة التّصميم وسيئة التنفيذ. ولا بدّ أنّ الفكرة (التي نشأت ربّما من تجربة “السواتر” التّرابية والحواجز في زمن الحرب وتقطيع أوصال البلاد) أعجبت آخرين فزرعوا طرقاتهم بمطبّات حاولوا أن تكون أفضل وأعرض من مطبّات غيرهم، وأهل القرى عندنا يحبون المنافسة والتّشاوف، لذلك، على كل سيارة تمرّ في بلدتي أن ترى أنّ المطبات التي بسطناها لا يوجد مثيل لها في القوّة فنحن بلدة لا نقبل إلا أن نكون الأفضل! وحصل التنافس بعدها (وهنا المصيبة) في عدد المطبّات، وأصبح هناك سباق أعداد: كم من مطب زرعت بلدية بتلون؟ وكم هم زرعوا في كفرحيم أو في باتر؟ وشيئاً فشيئاً أضعنا العدّ لأنّ المطبّات أصبحت مثل الفطر تنبت صباح كلّ يوم بما يناسب مزاج المجلس البلدي (مع تقديرنا لأشخاص الجميع)..

ثم دخل القطاع الخاصّ إلى الميدان (ونحن شعب حرّ مبدع ونحب المبادرة) فانتقل وضع المطبّات إلى أشخاص يخافون على أولادهم الذين اتّخذوا الطريق ملعباً أو إلى مؤسسات تعتقد أن المطب يجبر السيارات على التمهّل والإلتفات إلى بضاعتها، وأصبح كل يُغنِّي على ليلاه، ومع دخول “مقاولين” من كلّ نوع إلى عالم الإعوجاجات هذا تكاثرت التصاميم ورأينا إبداعات لا نهاية لها، فهناك المطبّ “اللئيم” المؤلف من “حبل زفت” مرتفع، الهدف منه تلقين كل سيارة تتجرأ على المرور دون أن تبطئ سيرها درساً قاسياً، وهناك “المطبّ المتسامح” العريض جداً، وهناك “العريض وسط” والمطب الحديديّ الملون، وهو مزعج مؤكّداً لكن أصحابه يعتقدون أنهم متقدمون تكنولوجياً في صناعة المطبّات، ومن أشكال المطبات “المطبّ الأنيق” المطلي بالأصفر والأبيض ومنها “المطب الخفيّ” غير المطلي والذي يفاجئك في آخر لحظة فلا تستطيع تداركه، ومنها المطب “الحضاريّ” المزود بصفّ مسامير فوسفوريّة وأكثرها مما لم يزوّد بأي مسامير فهي إذاً مطبات غير حضاريّة. تكاثرت المطبّات بحيث لم يعد من قبيل الخيال الدّعوة إلى هيئة في الجبل لمنح جائزة “أفضل مطبّ” لهذه البلدية أو لزميلات لها، ثم لم لا نجعل من تحسين المطبّات وتطويرها بنداً في أي برنامج للعمل البلدي؟! لأنّه إذا كانت البلديّات قد تبنّت عقيدة المطبّات فالأحرى – رحمة بالعباد- أن تتقن هذه الصّنعة فتجعل من هذه التلال المنتشرة شيئاً تستحسنه الأعين ويكون رحيماً بالسّيارات وبمن فيها.

المطب في الحقيقة ليس مُنتَجاً من الزّفت أو الإسمنت بل هو مُنتج نفسيّ لأنّه في سياسات القرية الضيّقة إثبات وجود فجّ فحواه “ها نحن نعمل لأجلكم” كما إنّه أوضح عنوان للسلطة على الناس بمعناها الضيّق، والمطب كما يدل اسمه شيء يعترض طريق المواطن ويجبره على مناورة تصبح في حدّ ذاتها عنوان امتثال لشيء قررته سلطة تعلوه وتحكم حياته اليوميّة، وكلمة “سلطة” هنا مهمة لأنّها تظهر المنحى التي تنزلق إليه أيّة “سلطة” ولو كانت هيئة بلدية في علاقتها بالجمهور الناخب. ويكفي للتّدليل على الكيفيّة في هذه السياسات أنه لا يوجد أيّ نصٍّ مرجعيّ يحدّد أين ومتى توضع، ولا نصّ فنيّاً يحدد مواصفاتها الموحّدة، فهي كما نشاهد جميعاً تزرع في أي مكان بتنفيذ مرتجل ودون مشورة مواطنيّ البلدة ومن دون دراسة أو مشورة خبراء. وقد نشأت في مناخات القرى ذريعة بدأت صغيرة ثم كبرت لتصبح مذهباً بلديّاً اسمه “منع الحوادث” وحسب هذه النّظرية فإنه كلّما كثرت المطبات وأُجبر الناس على أن يبطئوا سيرهم كلّما قلت الحوادث، وهذه مقاربة عجيبة غريبة لا يوجد مثيل لها في أيّ بلد في العالم ولم يقدم أيّ دليل عليها للنّاس الذين عليهم أن يتحمّلوا عذاب المطبّات ليل نهار، ولو أنّ الأمر يتعلّق ببعض الشباب الأرعن فإنّ الحلّ الأبسط هو إخضاعهم للقانون إمّا بحجز سياراتهم أو تنظيم غرامات مالية باهظة بحقهم بمعونة قوى الأمن الداخليّ، ولا نعتقد أنّه لو وُجد سلاح الرّدع هذا ستبقى هناك مخالفات على الطرق، ومن أغرب الأمور (التي تحتاج أيضاً إلى تحليل نفسيّ) أن يتمّ تعطيل السّير على الطّرق الرئيسيّة وتكبيد مئات الألوف من أصحاب السيارات والعربات المنضبطين في قيادتهم خسائر كبيرة جراء تخريب سياراتهم وهدر وقتهم، كلّ ذلك لأنّ هناك شخصاً أو عدداً من الأشخاص في مكان ما يصرّون على عدم احترام القانون، فتجري بذلك معاقبة الذين يحترمون القانون وهم الكثرة الهائلة بجريرة بضعة شبان لن توقفهم المطبّات عن ممارسة هواية القيادة السّريعة لسياراتهم خصوصاً عندما يهبط الليل وتصبح الطّرقات ملعباً لهم ولهوايتهم.

“المطبّات ليست شيئاً يمكن لأيّ بلدية أن تفتخر به، بل على العكس، لقد أصبحت فوضى تلال الزفت المفتقدة

لأيِّ معيار فضيحة حقيقية بلديّاً وإقتصاديّاً وإجتماعيّاً “

وهذا المنطق الأعوج والسّاذَج يدخل في علم النّفس أيضاً لأنّنا نتعامل مع مُنتَج آخر هو الجهل المترافق مع الصّلف والمزاجيّة، بدليل أنّ بدعة المطبّات ليست سلوكاً عامّاً فهناك بلديّات كثيرة في لبنان وفي الجبل لا تزرع مطبات، وهناك عدد متزايد من المجالس البلدية استوعب المشكلة وبدأ بإزالة المطبّات في بلداته، وطرق لبنان الرّئيسة والدّوليّة كلّها لا يسمح إطلاقاً بالمطبّات عليها، وباستثناء الطّرق الدّاخليّة في القرى (حصراً) فإنّ جميع طرقات الجبل هي طرقات رئيسة دوليّة والطرق الرّئيسة وإن كانت تمرّ في قرية أو مدينة هي في عهدة الدّولة اللّبنانيّة (وزارة الأشغال) ولا يحقّ للبلديّة التّدخّل في السّير عليها لأيّ سبب كان، لأنّ هذه الطّرق أصول إقتصاديّة يملكها البلد وهي جزء من بنية تحتيّة لتسهيل التجارة وحركة السّياحة والأفراد وحق التّمتّع بها من دون إعاقة من الحقوق المدنيّة التي لا يمكن إلغاؤها بقرار بلديّ أو بقرار من شخص في المجلس البلديّ.

نختم بالقول: إنّ ظاهرة المطبّات ليست شيئاً يمكن لأيّة بلديّة أن تفتخر به، بل على العكس لقد أصبحت فوضى تلال الزّفت المتفشّية دون أيِّ منطق أقرب إلى فضيحة اقتصاديّة واجتماعيّة لا يمكن الدفاع عنها بأيّ سبب أو ذريعة. لقد تفشت الظّاهرة بسبب التّقليد والكسل الذّهنيّ والتّنافس والمزايدات البلديّة، لكن وصل الأمر إلى حدٍّ بات يوجب أن نصحوَ وأنْ نضع حدّاً لهذا التّخريب القصير النّظر لطرقاتنا ولحياتنا اليوميّة، ولأنّ المجالس البلديّة مُنتخبة حديثاً فإنّ الجميع لديه فرصة العودة عن الخطأ وإزالة الضّرر الشّامل لهذه التّشوهات.

هذا في الحقيقة نُصح مُخلص نأمل أن يلقى آذاناً صاغية وفي جميع الحالات فإنّ الحملة التي بدأناها لرفع المطبّات والتّخريب من طرقاتنا ستستمرّ بأشكالٍ مختلفة وسنمدّ اليد فيها إلى منظّمات المجتمع المدنيّ والهيئات الأهليّة والأحزاب والبلديّات والنّوادي. وللموضوع صلة…

كلمة سواء

شَرِيــــــفُ
فيّــــــاض

يَفْخَرُ الموحّدون الدّروز بأبطالهم ويكرّمونهم أعظمَ تكريمٍ وهم رُواةُ جيّدون للمعارك تفيض شاعريّتهم في وصفها وفي تسجيل سِيَرِ فُرسانها المُجَلّين ومآثرهم الخالدة، وهذا التّقليد الرّاسخ له جذوره في تاريخ الموحّدين الدّروز الذين فُرِض عليهم على مرّ القرون أن يدافعوا عن وجودهم المسالم في وجه شتّى أنواع التّعدّي وأنْ يعتنوا لذلك أشدّ الاعتناء بإعلاء قِيَم الشّجاعة واحتقار الجبن وتمجيد الإقدام والاستخفاف بالأخطار مهما عَظُمت.
في هذا السّياق بالتّحديد يجب أن نفهم الكلمات المؤثِّرة التي قالها الزّعيم وليد جنبلاط في تأبين المقدّم شريف فيّاض وقد حرص، وهو الذي كان في قلب المعارك والمواجهات في تلك الفترة، على ألّا يُغيَّب هذا البطل في التّراب مثل أيّ رجل عاديّ، وخَشِي أن يكون الزّمن الذي مرّ على تلك الأحداث المؤلمة قد ألقى بغبار النّسيان على أحد أهم رموزها فعمل بأسلوبه الخاصّ على أن يدخل شريف فياض سجلّ أبطال الحركة الوطنيّة والعشيرة المعروفيّة وأن يحصل بذلك على التّكريم الذي يستحقّه رجلٌ بذل معظم حياته المهنيّة وسنوات عمره من أجل أن يبقى الجبل ويبقى أبناؤه الأباةُ أعزّاء في أرضهم وفي وجه أعتى التّحدّيات.
قبل حرب الجبل بنحو خمس سنوات وبالتّحديد في العام 1978 ترك المقدّم فياض الخدمة في الجيش اللّبنانيّ الذي كان تحت سيطرة المارونية السّياسية وتسلّم على الفور مهمّة بناء الجيش الشّعبيّ الذي كان قد أصبح الأولوية المطلقة لوليد جنبلاط الذي كان يستشعر بحَدسِه السّياسيِّ الإعصار القادم على لبنان والمنطقة، فجعل بذلك من توفير البنية التّحتيّة الكاملة للدّفاع عن الجبل ووجوده مسألة في غاية الإلحاح. وفي المواجهات التي كان يرتقب حدوثها مع ميلشيات عالية التّسليح والتّدريب أو مع جيش لبنانيّ تتحكّم به المارونيّة السّياسيّة أدرك وليد جنبلاط أنّ الجواب يجب أن يكون في بناء قوّات شبه نظاميّة عالية التّسليح والتّدريب تكون هي قوّة الصّدام الأولى، وفي الوقت عينه قوّة الاحتراف والقيادة التي يمكنها أنْ تضبطَ وتُفعِّل إلى أقصى الحدود دور المتطوّعين والقوّات الشّعبيّة غير النّظاميّة. وكان شريف فيّاض في ذلك السّياق الرّجل المطلوب لتلك المهمّة الدّقيقة والصّعبة، إذ كان على هذا العسكريّ النموذجيّ أن يبني جيشاً مُحترفاً من الصّفر وأن يبني هيكليّته وهرميّته القياديّة وتخصّصات مجموعاته وأن يفاوض في موسكو أو في سوريا وغيرهما على سُبُلِ تسليحه وتدريب كوادره وأن ينسّقَ العمل اليوميَّ مع قوى الأمر الواقع الحليفة والسّوريّة وأن يتعامل بحِنكة وجرأة مع الخطر الدّاهم الذي تمثل بالاحتلال الإسرائيليّ- القوّاتي والاحتقان الشّديد الذي بدأت تولِّده استفزازات القوّات في القرى الدّرزية والمختلَطة.
ولَقَدْ عايش شريف فيّاض كافّة مراحل حرب الجبل بحلوها ومرِّها وحقَّق انتصارات وإنجازات بسبب كفاءته العسكريّة والقياديّة وتجرُّده وسهره ودأبه الشّديد في العمل. في كلِّ تلك المراحل تميَّز هذا القائد إلى طيب معشره وصلابته العسكريّة بالتكرّس التّام لعمله مع الزعيم وليد جنبلاط لأكثر من 38 عاماً متواصلة في كلِّ المواقع والمسؤوليّات التي طُلِب منه الاضطّلاع بأعبائها، وأبرزها بناء الجيش الشعبيّ وقيادة معاركه ثم أمانة السرّ العامّ في الحزب التّقدميِّ الاشتراكيّ، وقد قامت بين الرّجلين بمضيّ السّنين رفقة سلاح حقيقيّة ومودّة من النّوع الذي لا يمكن أن ينشأ إلّا في شراكة المعارك ومهنة بذل المُهَج.
هكذا حمل شريف فيّاض مجموع الخِصال التي يحملها المقاتلون الفُرسان تلك التي جعلت منهم دوماً مثالاً وقُدوةً للأجيال، فهو انبرى للدّفاع عن الحِياض بغريزة المُروءة والغَيْرَة على أبناء عشيرته وكرامتهم دون أن يُخالط جهادَه أيَّ غَرَضٍ شخصيّ ودونَ أن تذهبَ مآثرُهُ وأعمالُه بأصالتِه وبتواضعِه، إذ كان في نظر نفسه دوماً عسكريّاً لبّى نداء الواجب ليمضي بعدَها في حياته العاديَّة دون مِنَّة أو طمعٍ بجاهٍ أو أجر.

فُرِجَتْ .. رُبَّما!؟

لبنانُ المأزومُ يتابع عيشه المُعتاد. أزْمَةٌ اقتصاديّة، أزْماتٌ اجتماعيّة، شكوى من كلِّ شيءٍ تقريباً، انقسامٌ وطنيٌّ واستقطاباتٌ طائفيّة ومذهبيّة وشخصيّة، تحالفاتٌ مثل غيومِ تِشرين تتجمّع ثم تتفرّق، ثم تتجمّع ثانية.. لكن في هذا البلد فقط يمكن أن يطالعك المشهد الغريب في هذه الفترة السّوداء من تاريخ المنطقة العربيّة لانتخاب رئيسٍ في مجلس النّوّاب وبواسطة صُندوق اقتراع!

صحيحٌ أننا انتظرنا طويلاً، صحيحٌ أننا خسرنا كثيراً بسبب التّعطيل، لكنْ صحيحٌ أيضاً أنّه لم يكن ممكناً للرّئيس عون أو غيره أن يصبحَ رئيساً للبلاد بغير وسيلة اقتراع النوّاب. وهذا استثناءٌ يكاد يكون وحيداً في العالم العربيّ كلِّه حيث أكثر الأنظمة ملكية ووراثيّة وحيث جاء العديد من الرّؤساء أو الزّعماء من طرق مختلفة لكنْ ليس بينها اقتراعٌ حقيقي، أيْ على مُرشّحِين مُتنافسِين أو انتخابٍ في برلمان.

هناك الكثير من السّوداويّة والسّوداويّون اليوم، لكنْ علينا أن نعلم أنَّ العالَم في كلِّ مكان ليس في أحسنِ حاله، وأنَّ من الأفضل عند الحصول على نِصف كاسِ ماءٍ التمعّن في نِصفه الملآن بدلَ التّحسّر على النِّصف الفارغ، وهذه نصيحة في محلِّها على الرّغم من التّردِّي الذي بلغه حالنا، لأنَّ الكثيرين في المنطقة لم يعد عندهم أصلاً كأس ليتجرّعوا به الماء، وعندما يُمتَحن الإنسان بمصيبة فإنّ من أسباب السّلوى واحتواء الألم النّظر إلى مُصيبة غيره، ولبنانُ إذا قورن وضعُه بما حلّ ويحِلّ في المنطقة قد يجد أسباباًعدّة للسّلوى بل للحمد الكثير. ولا يعني ذلك أنّ الفضل يعود لنُضْجِنا السّياسيِّ في هذه الفُسْحة من الهدوء التي لا زالت متوافرةً لنا، بل الفضلُ هو لرحمةٍ من السّماء جعلت جملةً من العوامل المحلّيّة والإقليميّة تضعنا خارج هذه الفوضى المدمّرة حتى الآن. ولا ننسى أنّ هناك رغم هذا الجوّ الاحتفاليّ ناراً مشتعلةً في أطراف الثَّوب، وهناك من يقدح شَرَرَها في أماكن أخرى لكنَّ المِزاج اللّبنانيَّ العامَّ يبدو وقد مال إلى شيءٍ من التَّصالُح قد يتبعُه انفراجٌ وعودةٌ لِدَوَران عَجَلَةِ البلد وحياة النّاس إلى حالٍ من الاستقرار.

لهذا المُناخ التّصالُحِيّ، رغم أهميّة العامل الخارجيّ، قَدْرٌ كبيرٌ من الأسباب المحليّة أوّلُها أنّ اللبنانيين جميعُهم مَلّوا بالفعل التّعطيل المستمرّ المكلِف جدّاً للاقتصاد والعباد. والبعض الآخر منهم أصابه الوهنُ من مِهنة النّزاعات وهي مهنةٌ مُكْلِفَةٌ ولا نهايةَ لفصولها، وباتت بعض القوى اللّبنانيّة في حاجة ماسّة لإراحة قاعدتها الاجتماعيّة ومنحها فُسحَةّ للتّنفُّس واستذكار الحياة الطَّبيعيَّة بعد سنواتٍ من أوضاعِ استنفارٍ قلبت حياةَ النّاس رأساً على عَقب.

لكنّ العامل الأهمَّ الذي عزّز التّوجُّهَ نحو حلٍّ ومهّد الطّريق لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة هو ولاشكَّ عاملُ الاقتصاد. فالاقتصادُ اللّبنانيّ دخل دائرة الخطر الدّاهم بسبب انفلات شؤون الدّولة، والفساد، وتردّي الخِدْمات، وتوقُّف الاستثمارات، وتزايد عبء الدَّيْن وغيرها من مظاهر انحلال الدَّولة، وقد لعب مَصْرِفُ لبنانَ دوراً استثنائيّاً في محاولة سدّ الفراغ الحكوميِّ والإبقاء على درجة من الحياة في اقتصاد البلد، لكنْ كلّ تلك الجهود ليست أكثر من علاجات إسعافيّة ليس في مقدورها وقفُ النّزف والعجوزات المتراكمة. وربّما أدرك السياسيّون والقوى المتحكّمَة باللّعبة، وقد باتت لهم حِصّةٌ كبيرةٌ في كعكة الاقتصاد، أنَّ الانهيارَ سيصيبُهم هم كما يصيبُ الجميع، وأنهم قد يصبحون وزراء ونواب لكن في دولة مفلسة وفاشلة ما لم يبادروا هم إلى العمل بسرعة من أجل تدارك الموقف، وهم أدركوا بالتالي أنه لم يعد أمامهم مُتّسع لترف إضاعة الوقت والتسلّي بلعبة عض الأصابع بينما البلد يتداعى إلى الأركان.

وبحسبِ هذا التَّحليل فإنَّ انتخابِ الرّئيس ميشال عون (بتأثير تفاهُمات خارجيّة وتوافقات داخليّة) قد يكون عنوانِ انفراجٍ أوسع للمدى المنظور، وقد ينتج عن هذا الجوِّ الانفراجيِّ تأليف حكومة وفاقيَّة وتحريك عمل مجلس النّوّاب، والتّحوّل بكل جديّة للاهتمام بالاقتصاد ومالية الدولة وملفّات كثيرة حيويّة لم يَعُدْ من الجائز أو الممكن المضيّ في تأجيلها.

نتمنى لفخامة الرئيس التوفيق في مهماته على رأس الدولة.

كلمة السواء

ضجيـــــج بيئـــي

حـــول مشـــروع حيـــوي

يعتبر سد بسري من أكبر سدود المياه المخططة في لبنان بسبب كمية المياه التي سيوفرها وتتجاوز الـ 125 مليون متر مكعب سنويا ، وللمقارنة فقط فإن سد شبروح الذي كلف أموالا طائلة يوفر كميات مياه لا تتجاوز الـ 8 ملايين متر مكعب سنويا. ويأتي تنفيذ سد بسري منسجما مع الدعوة المتزايدة للإفادة من فائض مياه الأمطار في لبنان من خلال خزنها عبر سدود صغيرة أو متوسطة ثم الإفادة من مياهها في فترات الشح في الصيف لتأمين حاجات المياه للسكان وخلق فرص لتطوير زراعات اقتصادية وزيادة المساحات المزروعة والمروية في لبنان.

وتعتبر المياه الفائضة في لبنان التي تتساقط في فصل الشتاء أو عند ذوبان الثلوج ويذهب معظمها إلى البحر احتياطا مائيا استراتيجيا معطلا في بلد يعتبر بين ثلاث بلدان عربية فقط مكتفية ذاتيا بالمياه إضافة إلى العراق الذي يستفيد من نهري دجلة والفرات والسودان الذي يمتلك موارد هائلة من خلال نهر النيل.

يتعين على اللبنانيين تقدير هذه الميزة الطبيعية الكبرى، لأن العصر المقبل سيكون عصر حروب المياه، وسيكون التنافس على مصادر المياه أحد أهم أسباب النزاعات بين الدول في المستقبل القريب. إن فكرة إنشاء سدود مائية في أماكن ملائمة من أودية لبنان ومجاري الأنهر والسيول هي الأنسب لبلد يحتوي على أنهار وينابيع كثيرة لكنه لا يستفيد كثيرا من مياهها. بالطبع لا بد في هذه المشاريع أن تتم الموازنة بين العائد الاقتصادي وما يمكن اعتباره “التكلفة البيئية”، وهناك مخاوف مشروعة لدى كثيرين من الثمن البيئي للسدود لكنها مخاوف مبالغ بها وهي تنبع من نظرة وحيدة الجانب تركز على الثمن البيئي للسد لكنها لا تريد النظر إلى الثمن البيئي للعطش وشراء المياه ونقص الموارد اللازمة لإحياء الزراعة والغذاء للبنانيين. ولا يوجد شيء من لاشيء ولا يمكن بناء سد مياه من دون خسارة وادٍ ولا شق طريق سريع أو تطوير مشروع عقاري أو أي نشاط حضري من دون أن نذهب أثناء العملية بجزء من الطبيعية أو البيئة التي نحبها. هذه هي الحقيقة مهما كانت مؤلمة، وقد تغيير لبنان كثيرا عما كان عليه قبل 50 أو 100 سنة بسبب العمران وما أتى عليه من الطبيعة وجمالها.

سد بسري بالتحديد يحلّ مشكلة نقص مزمن في مياه بيروت أدّت إلى انتشار حفر الآبار الارتوازية بصورة عشوائية، مما أدى إلى تسرب مياه البحر إلى الطبقة الجيولوجية التي تستقر فوقها العاصمة بفعل عملية الامتصاص وإلى تملح معظم آبار العاصمة. ومن منظور بيئي فإن هذه كارثة حقيقية يجب على أنصار البيئة أن يأخذوها في الاعتبار كما يجب أن يأخذوا في الاعتبار أن أكثر سكان بيروت يعانون كثيرا من نقص المياه ويضطرون لدفع مبالغ طائلة شهريا لشراء المياه من مصادر غير معروفة وكذلك شراء المياه المعبأة بالبلاستيك لإرواء عطشهم.

إن بيروت هي لجميع اللبنانيين وتعيش فيها نسبة كبيرة من أهل الجبل وهؤلاء مثل غيرهم يحتاجون مع أطفالهم إلى مياه نظيفة في حنفياتهم وغير ملوثة، والسدّ سيحل لأول مرة هذه المشكلة في مياه العاصمة التي تتغذي حالياً بنحو 250 ألف متر مكعب يوميا بينما سيوفر سد بسري كمية إضافية تبلغ ضعف تموين العاصمة الحالي أي نحو 500 ألف متر مكعب يوميا، وهذه الكمية يمكن أن تحل لمدة طويلة مشكلة شح المياه في بيروت. يبقى القول أن القرى المحيطة بالمشروع تتحمل أمانة الحفاظ على البحيرة ونوعية المياه التي ستنساب منها إلى المواطنين في بيروت أو غيرها من مدن الساحل، وعلى الناشطين البيئيين أن يتحدوا من أجل الحفاظ في المستقبل القريب على محيط بحيرة بسري وسدها من الاعتداءات وعلى أهلنا أن يجعلوا من أنفسهم قدوة في المواطنية المسؤولة والسلوك البيئي والمدني.

صندوق شبكات الأمان
مشروع خيري يستحق الدعم

قبل 4 سنوات تقريبا أطلقت مجموعة من رجال الأعمال في الطائفة أول صندوق مالي وقفي ذي حضور محلي واغترابي برأسمال أولي بلغ 325,000 دولار وتم جمع المبلغ من 13 مساهما قدم كل منهم مبلغ 25,000 دولار وارتفع رأسمال الصندوق في ما بعد إلى ما يقارب 400,000 دولار.

الهدف الأساسي للصندوق كما أعلن المؤسسون في حينه هو تحسين نوعية الحياة لأصحاب الحاجات من أبناء الطائفة والتشجيع على العمل الخيري، وحددت أهداف الصندوق بتقديم الدعم المالي لطلاب الجامعات والمعاهد المتفوقين والأسر التي فقدت معيلها الأساسي والمسنّين المعوزين والمرضى في جزء من تكلفة الاستشفاء.

وأعلن الصندوق أنه يعتزم الإنفاق على المعونات من العائد على استثمار الأصول المالية وليس من الأصول نفسها، والتي يفترض أن تستمر في النمو سنة بعد سنة، وحصل الصندوق الوقفي على ترخيص رسمي من الحكومة اللبنانية كما تم تسجيله في الولايات المتحدة الأميركية بموجب القوانين المرعية الإجراء، الأمر الذي يسمح له باستقطاب التبرعات من المغتربين وفق نظام الجمعيات الخيرية التي تعتبر التبرعات إليها معفاة من الضرائب.

الصندوق الوقفي حقق في الفترة الأخيرة إنجازا مهما من خلال اتفاق مع الجمعية الدرزية الأميركية أصبح ممكنا بموجبه لأي مغترب التبرع لصندوق شبكة الأمان بواسطة الجمعية الدرزية الأميركية ADS وقد تلقى الصندوق بالفعل أول شيك تبرعي من الجمعية قبل صدور هذا العدد من “الضحى”، وهذا التطور يعطي لهذه المؤسسة ميزة كبيرة في بلد يضم عشرات الألوف من المغتربين الراغبين في المساهمة في العمل الخيري.
ويجب القول أن صندوق شبكة الأمان يعتبر قفزة نوعية في العمل الخيري لطائفة الموحدين الدروز لأسباب عدة أهمها:
1. أنه أدخل مفهوم الوقف المالي (بدل الوقف العيني) إلى العمل الخيري بحيث يتم الإنفاق على أهدافه من العائد على الاستثمار وهذا يسمح لتلك لأمواله أن تنمو باطّراد.
2. إنه تأسس كمؤسسة ذات قاعدة واسعة من المتبرعين وقواعد عمل شفافة تعزز الثقة بإدارته وبكفاءة القائمين عليه، ويساعد ذلك على تعزيز الثقة بالعمل الخيري والتي تأثرت بسبب أسلوب إدارة كثير من الجمعيات التي قد يهيمن عليها أشخاص أو قد لا يتمتع عملها بالشفافية المالية.
3. المرونة الكبيرة في أسلوب التبرع إذ يتيح الصندوق لأي كان التبرع بمبلغ كبير أو صغير ربما لا يتجاوز الـ 100 دولار وذلك حسب قدرة أو رغبة كل متبرع، والعبرة هنا هي أن المطر يتألف من قطرات وأن التبرع بالمال ولو بمبلغ صغير أمر مهم لأنه إن حصل على نطاق واسع فإنه يحدث فرقا كبيرا . والنصيحة هنا هي أن لا يستقل أي منا أهمية التبرعات الصغيرة لكن التي تأتي من عدد كبير من أهل الخير.
4. إن صندوق شبكات الأمان تأسس على أسس حديثة تجعل التبرع ممكنا عن طريق الإنترنت بواسطة بطاقات الاعتماد وهو أسلوب سهل جدا وآمن إلى أقصى الحدود لأن عملية الدفع محمية تماما بأحدث أنظمة الأمان الشبكي.
5. إننا نحثّ إخواننا في كل مكان على المساهمة في صندوق شبكات الأمان، المقتدر حسب اقتداره وذو الدخل المحدود حسب أريحيته وغيرته، واعلموا أنه كلما دعمنا هذه المؤسسة واعتدنا التبرع لها كلما ساهمنا بتنمية مواردها وقربنا الوقت الذي يصبح في إمكان أي منا أن يلجأ إليها في حال الضيق. والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه.
للمهتمين يمكن زيارة موقع صندوق شبكات الأمان على الموقع التالي: www.TheSafetyNets.org

كلمة سواء

كلمة سواء

الحَـــــــذَرُ أَوْجَـــــب عــــن العمــــل العــــامّ

لا يوجدُ في اللّغة العربيّة كَلمةٌ تفوق في مطاطيَّتِها وضبابيَّتِها ما تجده في كلمة “حِوار”.

إنها كلمة رائعة فعلاً، لأنّها تعني كلّ شيء ويمكن أن لا تعني شيئاً. بل هي كلمة فيها من السّحر ما يجعلُها في عقيدة بعض سَليمي الطّوِيّة أقرب إلى تعويذة أو طِلسمَ يَقي من كلّ الشّرور. إنْ قَطَع عليك الطّريق خصم عنيد أو وجدت نفسَك وجهاً لِوَجه أمام شخصٍ شَرس الطِّباع ويتطاير الشّرر من عينيه، فإنّ كلّ ما عليك قوله هو: “مَهلاً دَعنا نتحاور” لأنّك ربّما وبمجرد لفظ كلمة “حِوار” ستوقفه في مكانه، وتبدّل سِحنتَه المُكفهِرّة إلى سَلام ووداعة. يمكنك أن تُجرّب! لكنّ النّتيجة على الأرجح ليست مضمونة. عليك إذن أن تفكّر بوسيلة أفضل، على الأقلّ على سبيل الاحتياط وإلّا فإنّك، عند الامتحان وانكشاف المستور، ستكون في مأزق.

في لبنانَ حواراتٌ من كلّ الأصناف، وحلقات وندوات تضمّ الكثير من أهل النّوايا الحسنة، وقد أصبح للحوار حِرفتُه ومفرداته ودبلوماسيّته وهناك من ينفق الجهد في التّحاور ويجاهد بصدق للتّقريب وخفض التّوتّر وإحياء الثّقة المفقودة. لكن في موازاة هذه النّوايا الطّيبة فإن اللّعبة على الأرض مختلفة، وهي لعبة القوّة والازدواجية والعنف العاري، لعبة لا ترحم لأنّها لعبة أمم وصراع جبابرة، والشّرق كلّه مشتعل الآن بحروب دينيّة ومذهبيّة لا تبقي ولا تذر، وهذه الحروب لها تردُّداتِها وتفرّعاتها في بلدنا المنكوب ولا نعرف متى تهبّ رياحها الملتهبة في اتّجاهنا. وقانا الله!

في هذا المَعمعان المخيف ننسى أحياناً أن للحوار شرط أساسيّ هو أن يقوم، ليس بين مواطنين أو أهل نخبة مهما كانت مكانتهم، بل بين أهل الحلّ والعقد، أي أصحاب القرار الآخذين بناصية الأمور، لأن المشكلة عندهم، فإن لم يكن لدى أيٍّ من هؤلاء رغبة في الحوار، أو إذا كانوا عاجزين عن حوار حقيقيّ، لأنّ بعضهم أسير مواقفه أو أسير ارتباطاته، فأين سيقع الحوار وعلى ماذا؟ وهل تذكرون جلسات الحوار الوطني قبل سنوات وفشلها؟
الشّرط الثاني والأهمّ للحوار هو أن يُبنى على الإخلاص في قصد التوصّل إلى نتيجة أو تسوية الخلاف، وهذا يَفترض كما قلنا أنّ أمر الزّعماء في يدهم، فإن لم يكن، فلن يحصل تقدّم أو اتّفاق ما لم يتّفق الكبار الذين يديرون اللّعبة عن بعد، وقد شهدت السّاحة اللّبنانية على مدى خمسةَ عشَر عاما حروباً وجولات كثيرة مدمِّرة فشلت فيها جميع مساعي الحوار والوساطات، إلى أن صدرت كلمة السّرّ والتقت الدّول الكبرى على تسوية للوضع، وتمّ ترتيب انعقاد مؤتمر الطّائف لهذا الغرض. وقد حضر ممثلو الفرقاء اللّبنانيين للتّوقيع على ما كان قد تمّ التوصّل إليه ولم يكن لهم تأثيرٌ كبيرٌ في ما كان قد كُتب وقُدِّر!.

وفي غياب صِدقِ النّوايا والقصد الحقيقيّ للتّفاهم أو التّشارك العادل في الوطن ينصرف الفرقاء المتنازعون عادة إلى تزويق الخلافات أحياناً عبر حوار شكليٍّ كان المعلّم الشهيد كمال جنبلاط يسمّيه “التّكاذُب المُشْترك”. وكان يقصد به أن يكون للسّياسيين نوايا تختلف عمّا يعلنونه، وأن يكون الحوار مجرّد شراء للوقت في انتظار توافر ظروف الغَلَبة. وبهذا الأسلوب يصبح للتّكاذب وجهان: وجه أصليّ حقيقيّ نحو داخل الجماعة الخاصة، حيث الأدبيّات واضحة في قصد قهر الآخر وحيث أحاديث المجالس مختلفة والهمز واللّمز مختلفان والابتسامات العراض عند ذكر مصائب الخصوم. أمّا الوجه الذي لا مانع أن يَطلّ به بعض صادقي النّيّة في صالونات الحوار ومنابره، والتي يعلم أصحاب القرار أنّها (أيّ الصّالونات) لا تضرّهم ولا تنفعهم، فهو وجه هاشٌّ باشٌّ يفيض بالبِشْر والتّسامح و”تقبّل الآخر”.

لا يُفهم من ذلك أنّنا نعارض الحوارالمخلص والمجدي، فنحن نعتبره أفضل من الجفاء أو انقطاع التّواصل وهو ربما ساهم في تخفيف التّوتّر وإطفاء بعض الحرائق هنا وهناك قبل امتدادها، لكنّنا في عصر الزّلازل السّياسيّة وحروب التّطهير وإعادة رسم معالم البلدان نعتقد أنّ الحذر أوجب.

العملُ العامّ واندفاع الفرد للعمل في صالح الجماعة وغَيْرَتِه على مستقبلها ووجودها من أهمّ الدلائل على مجتمع حيويّ يوفّق بين الفرديّة وبين الجماعة، بين العمل للنّجاح الفرديّ وبين السّهر على أن يتمّ ذلك في سياق حماية الجماعة وهي الإطار الحامي للنّجاح الفرديّ، فلو ضَعُفت الجماعة لا سمح الله أو وَهَنتْ فإن النّجاح الفرديّ يصبح يتيماً ولا قيمة له، وما نسمّيه “العصبيّة” أو اجتماع الجماعة بسرعة عند الخطر يشرح جيّداً هذه النّقطة، إذ نرى الجميع وقد تساوَوْا في الهمّ وتحرّكوا كأنّهم بنيان مرصوص لِصَدّ النّائبات التي تحيق بهم. حتى من تظنّهم في صفّ اللّامبالاة تراهم عند النّفير يهبّون ويلتحقون بالصّفوف لأنّهم يدركون حقيقة الارتباط الوجوديّ بين مسيرتهم الحياتيّة وبين مسيرة المجتمع الذي ينتمون إليه ويستقون من تاريخه وقيمه وإرثه الغنيّ سبب وجودهم واعتزازهم.
مع ذلك، هناك ملاحظة يتّفق عليها كثيرون ممّن عايشوا العمل العامّ وهي أنّ حالة التّضامن المشهودة في المُلِمّات غالباً ما يصيبها الاسترخاء في مراحل السَّلم والانغماس مجدّداً في الأعمال وفي المصالح الشّخصيّة الآنيّة، وهذا الافتراق كثيراً ما يرتدّ على المؤسّسات والمرافق التي أُنشئت من قِبَل الجماعة ولأجلها بآفة النّسيان فيقلّ الاهتمام بها وتتراجع وتنتكس أعمالها وقد تضيع في دوّامة الإهمال.
كأفرادٍ هناك أشخاصٌ كثيرون يساهمون ولهم فضل على الجماعة ومؤسّساتها، ورجال الأعمال عندنا عصاميّون حقّقوا ما حقّقوه بالتّعب والجهد وهم يحرصون على سمعتهم، ولهم أصلاً صِيْتٌ حسنٌ في كلّ مكان يعملون فيه. لكنّ الفرديّة التي تساعد رجل الأعمال على النّجاح تصبح متأصّلة أحياناً وتنسحب على العمل الاجتماعيّ، إذ إن كلّاً منّا معتاد على اتّخاذ القرارات الفرديّة وتذوّق النّجاح الشّخصيّ، لكن قليلون ربّما لديهم خبرة العمل وثقافة الفريق مع ما يقتضيه ذلك من مرونة وإعطاء الفرصة للآخرين لأنّ كلّ إنسان يحبّ أن يكون له دور، وهذا طبيعيّ، لكنّ البعض يحبّ أن يكون له الدّور الأوّل انطلاقاً من تقاليد الإنجاز وما يجلبه من مكانة. وهذا جانب آخر من تحدّيات العمل الاجتماعي وهو تحدّي التّعاون وتجاوز الميل الإنساني للتّميّز أو التفرّد في العمل. وكلّ عمل تتواجه فيه أجندات خاصّة لا بد وأن يعاني وربّما أُصيب في الصّميم، لأنّ الجدل الذي لا يساعد في تقدّم العمل يؤثّر على المعنويّات وقد يضعف حوافز البعض للإسهام مع الآخرين.
نسوق هذه الملاحظات ونحن نقف على عتبة السّنة الخامسة من إعادة إصدار “الضّحى” التي ثبّتت أقدامها وبات لها دور أساسيّ في البيئة الثّقافيّة المعروفيّة في لبنان أو في سوريا أو ما يتعداهما. وها نحن نستعدّ لإطلاق الموقع الشّبكيّ ونأمل من خلاله أن تتّسع الفائدة ممّا يُنْشَر في المجلّة إلى عدد أكبرَ بكثير من قرّاء النّسخة الورقيّة، وهم كُثُرٌ، وقد يصل عددهم، بالاستناد إلى واقع تداول العدد نفسه بين أربعَ أو خمسة أشخاص على الأقلّ، إلى أكثر من عشَرة آلاف أو ربما خمسَةَ عشَر ألفَ قارئ. ومثل هذا الجمع في حدّ ذاته يمثّل قوّة تأثير كبيرة لاسيّما وأنّه يتألّف من أفراد النّخبة في الطّائفة ومن مثقّفيها وقياداتها المؤثّرة، وهو ما يعني أنّ تأثير المجلّة الفعليّ يتجاوز عدد قارئيها بكثير.
لكننا بلغنا بعد خمس سنوات من العمل منعطفاً مهما على مستوى تكوين مجلس الأمناء ومجموعة الدّعم التي تألّفت انطلاقاً من رجال مرموقين في طائفتنا الكريمة، إذ إنّ بعض الإخوان قرّر عدم تجديد مساهمته، كما أنّ عدداً آخر لم يكمل الطّريق من الأساس، وهذا من طبيعة أيِّ عمل ونحن نحترم موقف كلّ من توقّف عن السّير واعتبر أنّ هناك ربّما أشياء أهم يتعيّن عليه الاهتمام بها، لكن من أجل تأمين الاستمراريّة والبناء على النّجاحات التي تحقّقت نجد أنّه يتعيّن إفساح المجال أمام أفراد النّخبة وشخصيّات الطّائفة الذين لم تُتَحْ لهم الفرصة في السّابق لكي ينضمّوا إلى هذا المشروع المهمّ ويوفّروا له ليس الدّعم الماليّ فحسب بل الدّعم المعنويّ والمَشورة، علماً أنّ نظام عمل مجلس أمناء المجلّة يعطيه دوراً مهمّاً في التّخطيط والتّوجية ورسم السّياسات والتّصديق على الأمور الماليّة.
إنّها دعوة لمن يتطلّع إلى دعم قضيّة تتعلّق بها مصلحة الموحّدين الدّروز ومستقبلهم لأن ينضمّ إلى الجُهد الكبير المستمرّ في تطوير وإعلاء مكانة هذا المرفق الذي بات له دور مركزيّ في الحياة الثّقافية للطّائفة. وهذا المَعلَم المهمّ لم يوجد في ماض قريب ولا يوجد اليوم ما يماثله في محتواه وفي دوره وفي تأثيره الثّقافي والمعنويّ، وهو يأتي في وقتٍ الطّائفة في أمسّ الحاجة إلى وسيلة إعلام وتنوير وتواصل. أملُنا أن نقدّم الإيجابيّات ونرى الإنجاز ونتمسّك به وباستمراره ونغضّ الطّرف عن النّقاشات والتباينات التي تظهر في أيّ عمل. و“الضّحى” في نهاية المطاف مؤسّسة للطّائفة بأسْرِها وليست ملكاً لأشخاص، ومن المؤكّد أنّه سيمرّ عليها كثيرون ويذهبون لكنّها كإنجازٍ يجب أن تستمرّ عبر الزّمن في أداء دورها التّنويريّ والتّوحيديّ.

كلمة سواء

مياهٌ مُعَبّأةٌ في بلدِ الينابيع

من نِعَمِ اللهِ على لبنان أنْ منَّ عليه بعدد كبير من الأنهار الرّئيسة وبألوف الينابيع التي تنساب من سفوح جباله منذ ألوف السّنين لتوفّر المياه العذبة والسّائغة المذاق للشّاربين. ولبنان بهذا المعنى من أكثر بلدان منطقة الشّرق الأوسط تمتّعاً بالثّروات المائيّة وهو بين بلدان قليلة لا تُصنّف عالميّاً بين البلدان التي تشكو من نقص في المياه. فما هو إذن سبب هذا الإقبال الهائل على المياه المُعَبّأة بقوارير البلاستيك؟ ولماذا في بلد المياه تزدهر تجارة بيع المياه وتوزيعها على البيوت دون حسيب أو رقيب؟. وقد أحصى وزير الصِّحَّة وائل أبو فاعور أكثر من 800 شركة لتعبئة وتوزيع المياه تعمل من دون ترخيص، وبالتالي من دون رقابة حكومية؟. وقد أضاف الوزير أنَّ الفحوصات أظهرت أنَّ 90% من تلك المياه تحتوي على أثر مجارير !!
وإذا علمنا، وقد أكّد وزير الصِّحَّة ذلك أيضاً أنَّ “جزءاً كبيراً من مياه الدّولة مُلوّثة” فإنَّنا نصبح “بين شاقوفين” كما يقول المثل العامِّيِّ. فلا مياه الدّولة مأمونة ولا الينابيع ولا المياه المعبَّأة التي يلجأ الكثيرون إليها على اعتبار أنَّها هي الحلّ.
الطّلب الكبير على المياه المُعبّأة أحدث فورةً في معامل التَّعبئة والتّوزيع التي تبيع مياهها المُكرّرة تحت تسميات تجعلك تظنّ أنّها مياه ينابيع بينما هي مياه آبار أو مياه أنهُر غير نظيفة يتمّ تكريرها بتقنيّات مُتَخلّفة لا يمكنها أنْ تزيل كلَّ الشّوائب أو الجراثيم. والنّاس لا يمكنها أن تفرّق بالطّبع وهي تشتري على افتراض أنَّ هناك رقابة من الجهات المعنيّة، لكنَّ هذا الأمر غير واقعيّ لأنّ المعامل كثيرة ولأنَّ النّفوذ السِّياسيّ هو الذي يُبقي على الكثير منها في السّوق. وبسبب الإقبال على قوارير المياه البلاستيكيّة أصبح لبنان يُصَنَّف بين الدّول الأكثر استهلاكاً للمياه المُعبّأة مع معدَّل يقارب الـ 77 ليتراً للفرد سنويّاً. وهذا رقم يقترب من رقم السعوديّة التي لا تمتلك ينابيع بل مياه بحر مُحَلّاة، وهو 79 ليترا للفرد، ويبلغ المُعدّل في أوروبا نحو 85 ليتراً للفرد.
هناك بالطّبع عوامل كثيرة تفسّر هذا الإقبال ولاسيّما الحياة في المدن حيث لا يوجد ينابيع وحيث النّاس يعيشون في أبنية وشُقق لا تصلها مياه الدّولة إلّا مثل “طلّات القمر” وهي إنْ وصلت لا تُعتبر صالحة للشرب. وكثير من الأبنية حُفِرت لها آبار لكنَّ كثرة الآبار أضعفت الحاجز الأرضيَّ للمياه الجوفيّة وجعلت مياه البحر تندفع إلى الطّبقات الجوفيّة للمدن ممّا جعل أكثر مياه الآبار ذات ملوحة عالية.
لكنْ هناك مشكلات صحيَّة أساسيَّة تنجم عن التّحوّل إلى المياه المعبّأة أهمّها استحالة ممارسة رقابة حقيقيَّة على مئات معامل التّعبئة وهذه الرّقابة تبدأ بفحص أنواع البلاستيك المستخدمة في صُنع القوارير ومطابقتها للمواصفات العالميَّة ثم هناك تقنيّات التَّكرير وكفاءتها ونوعية المياه المستخدمة ومصدرها وأخيراً جَودة المياه المعبّأة وخصائصها الكيميائيّة وتوازنها المعدنيّ. والموضوع الأهمُّ هو تجارة القوارير الكبيرة (19 ليتر) التي يتمُّ توصيلها إلى البيوت لاستخدامها في أجهزة كهربائيَّة يمكن من خلالها الحصول على المياه الباردة أو الحارة. وهذه القوارير يتمُّ جمع الفارغ منها ويُفتَرض أن يتمَّ غسلها وتعقيمها جيّداً قبل تعبئتها مجدداً وتوزيعها إلى الزبائن. وعمليّة الغسل والتّعقيم هذه مهمّة لكنْ لا توجد وسيلة للتأكّد من أنَّها تتمُّ بالمواصفات المطلوبة.
ثم هناك الأثر البيئي لفوضى المياه المعبأة. فلبنان ينتج على ما يبدو أكثر من 300 مليون قارورة مياه بلاستيكيّة سنويّاً، وهذه العبوات لا يُعاد استخدامُها بل تأخذ طريقها إلى مكبّات النّفايات لتصبح جزءاً أساسيّاً من مشكلة بيئيّة خطيرة لأنّ قوارير البلاستيك كما هو معروف لا تتحلّل بصورة طبيعيَّة، وليس هناك حتى الآن آلِيّة حقيقيَّة لفرض تدوير هذا المكوّن الأساسي من نفايات البلد خصوصاً في المصدر.
السّؤال البديهيُّ هنا هل الحلول معدومة لمشكلة المياه؟ وإذا كانت الدّولة في وضع مهترئ لا يجعلها قادرة على تجديد البُنية التحتيّة لتوزيع مياه الشّرب وتأمين تعقيم المياه، وإذا كان العمران العشوائيّ يلوّث كلّ يوم المزيد من المياه الجوفيّة، فهل يعني ذلك أن نستسلم ونعتبر الوضع الاستثنائيّ الحاليّ هو القاعدة التي يجب أن نتكيّف معها أو نعتبرها قدراً لا مفرّ منه؟
نعتقد أنّ مشكلة المياه مستمرّة في الكثير من جوانبها بسبب حالة من الاستسلام ونقص المبادرة سواء على مستوى المواطن أم على مستوى المجتمع المدنيّ والجمعيّات الأهليّة وهيئات الإدارة المحليّة. ولقد قامت جمعيّات مدنيّة لكلّ غرض يمكن تصوّره بما في ذلك جمعيّات بيئيّة، لكن لم تقم حتّى الآن إلا مبادرات محدودة لمواجهة أزمة مياه الشّرب وأزمة المياه بصورة عامّة. وهناك بعض البلديّات النّشِطة التي قامت مثلاً بحفر آبار جوفية وأقامت في الوقت نفسه محطّات تكرير تستخدم طريقة التّكرير الطّردي Reverse Osmosis الحديثة لتنقيّة المياه وجعلها صالحة للشّرب، كما قامت تلك البلديّات بتجديد شبكة المياه وبات ممكناً بالتّالي للمنازل الحصول على مياه نقيّة من الصّنبور.
والأمثلة التي أعطيناها تدلّ على أنّ هيئات الحكم المحلّي ولاسيّما البلديّات يمكنها أن تلعب دوراً فاعلاً و”تغييريّاً” في مواجهة أزمة المياه ولاسيّما أزمة نقص مياه الشّرب النَّظيفة. وهناك أموال تُنْفَق على تجميل الشّوارع أو تعميم إضاءة الشّوارع أو إقامة مَعْلَم أو دار للبلدة، وكلّها أعمال محمودة، لكنَّ الأولويَّة لكلّ بلديّة يجب أنْ تُعطى لتوفير المياه النّقيّة للمواطنين ورفع ارتهان الأسر وأطفالها لمياه البلاستيك. وهناك موارد كما أنَّ هناك برامج مساعدات دوليّة يمكن الاستفادة منها لاستقدام وحدات التّكرير أو لتجديد شبكات المياه أو لتوسيع طاقة استيعاب الخزّانات العموميّة.
ولقد أطلقت الجامعة الأميركية في بيروت برنامجاً يستهدف الاستغناء عن قوارير البلاستيك من خلال تأسيس “نقاط مياه شرب” في أنحاء الجامعة وتوزيع “مَطَرات مياه” يمكن للطّالب أن يملأها من نقاط مياه الشّرب المنتشرة في أنحاء الجامعة. بذلك تُقَدِّر إدراة الجامعة أنَّ من الممكن سحب ألوف قوارير المياه البلاستيكيَّة يوميّاً من التّداول وتجنيب البلد أثرها البيئيّ السّلبيّ.
بالمعنى نفسه يمكن للبلديّات العمل على تأسيس نقاط لمياه الشّرب النّقيّة في كلِّ قرية تكون عبارة عن وحدة تكرير تعمل بتقنيات حديثة ويتمّ من خلالها توفير مياه الشّرب النّقيّة لمواطني القرية بإشراف بلديّ. ويمكن للوحدة أن تستفيد من وجود ينابيع أساسيّة وأن يكون الغرض منها تنقية مياه تلك الينابيع التي نَهَلَ الناس منها لألوف السّنين وإعادة ثقة النَّاس بها وبإمكان استخدامها للشّرب. وتفترض هذه المبادرات بالطّبع وضع ضوابط بحيث يكون السَّحب لغرض الشّرب أو الاستخدامات المشابهة مثل الطّبخ فقط، وهذا قد يفترض درجة من التّنظيم حتى لا نقول التَّقنين.
يمكن للبلديّات أيضا إجراء كشف على كافَّة الينابيع الموجودة (وبعض القرى لديها العشرات منها) وتعيين ينابيع محددّة تُعتبر صالحة للشّرب وتشجيع المواطنين على استخدامها لأغراض مياه الشّرب. وهذه الينابيع وإن كانت بعيدة عن العمران يمكن الوصول إليها اليوم بسهولة بالسَّيّارة. وفي الحالات التي لا زالت توجد فيها مثل هذه الينابيع فإنَّ على البلديّات تطبيق معايير صارمة في إعطاء رُخَص البناء التي تستهدف حماية حَرَم الينابيع أو على الأقلّ التّحقّق من استخدام وسائل حديثة لجمع المياه المُبتَذَلة وتصريفها بصورة تمنع تسرُّبها إلى المياه الجوفيّة. ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ تشغيل شبكات الصَّرف الصِّحِّي ومحطّات التّكرير التي أُقيمت في أكثر قرى الجبل يمكن أن يرفع عبئاً هائلاً عن المياه الجوفية بل يمكن أن يُحيي ذلك المصدر المهمِّ بحيث يعود النّاس للاعتماد عليه كما كانوا يفعلون في السّابق.
يجب أيضاً تشجيع المنازل في القرى (وحتّى في المدن) على إيجاد خزّانات مُخصّصة لجمع مياه الأمطار النّقيّة بهدف تخصيصها لاستخدامات الشرب، وقد كان أجدادنا أبعد نظراً عندما كانوا ينشئون لكل منزل بئراً لجمع مياه الشِّتاء النَّقيَّة. علماً أنّ المصدر الأوّل لمياه الشّرب كان عيون الماء والينابيع، (قبل تلوّث الكثير منها) لكنّ البئر كان مصدراً احتياطيًّا في حالات الشِّحِّ وكثيراً ما جرى استخدامه في فترات الصّيف.
نختم بالقول أنَّ الوصول إلى مياه شرب واستعمال نظيفة يُعْتَبر حقّاً طبيعيّاً وأساسيّاً من حقوق المواطنة والكرامة الإنسانيّة، وقد عدّلت الأمم المتّحدة شِرعة حقوق الإنسان في العام 2010 لتضيف إلى تلك الحقوق الأساسيّة حقَّ الحصول على مياه نظيفة.
إنَّنا عبر هذه الافتتاحية نطلق شعار “الماء حقّ وليس سِلْعة” على أمل أن نتابع الحديث في الأعداد اللّاحقة بهدف زيادة الوعي بالموضوع ونحن ندعو جميع المعنيّين وأصحاب المبادرات لاقتراح أفكار وحلول خلّاقة تستهدف تأكيد استعادة حقّ المواطنين بالحصول على مياه نظيفة ونقيَّه تغنيهم عن الاسترهان لتجارة المياه المُعبّأة التي تفتقد للشّفافية وللحدِّ الأدنى من المواصفات الصِّحيَّة.

كلمة سواء

زمــــن الفَـــــــرُّوج

يجد القارئ في باب “الإرشاد الزراعي” في هذا العدد من “الضحى” موضوعاً مفيداً عن تربية الدجاج البيتي. لاحظوا الوصف. فنحن لا نتحدث عن تشغيل المداجن وملحقاتها بل عن “الدجاج البيتي” لماذا؟ لأن هذا الجانب الأساسي من حياة القرية واقتصاد الأسرة يتجه إلى الزوال مع ما نراه يزول يوماً بعد يوم من مقومات الحياة السليمة لتحل محله حياة فقيرة خطرة شاحبة تحولنا فيها من أناس ذوي تراث وثقافة وتاريخ وأسلوب حياة إلى مستهلكين أو الأصح “متسوقين”. سيطرة “الفَرُّوج” النمطي وزوال “الدجاجة” الزاهية الألوان وصيصانها من الدور والحدائق الخلفية للبيوت عنوانان عريضان لموت مجتمع ولسير سريع الخطى نحو المجهول.
لذلك، فإن لنشر موضوع كامل عن تربية الدجاج البيتي وفوائده رمزية يجب أن لا تخفى على القارئ الحصيف، لأنه شكل من أشكال النصح أو التذكير الطويل النفس هدفه ليس بالضرورة العودة إلى الماضي (فهذا الأمر بات بعيد المنال) ولكن توفير المعلومات المفيدة لمن يشاء أن يتّبع سبيل العيش الصحي لنفسه ولأسرته لكنه لا يعرف ربما من أين يبدأ لأن الكثير من ثقافة العيش الطبيعي وخبراته اضمحلت بسبب عدم استخدامها وعدم تناقلها من الأولين إلى الأجيال الجديدة. ونحن لا نريد أن نلعن الظلام بل أن نضيء شمعة وأن نحيي الأمل بإعادة إنتاج ثقافة العيش الطبيعي والصحة الجسدية والنفسية لنا ولأطفالنا. هذا هو الهدف من إفراد المجلة منذ اليوم الأول لإعادة إصدارها بصيغتها الجديدة حيزاً مهماً لباب الزراعة وكذلك الصحة والغذاء.
كثيرون منا ممن تجاوزوا سناً معينة يذكر ولا شك كيف كان الناس يفيقون على أعمالهم باكراً (لم يكونوا اخترعوا التلفزيون!)على صياح الديوك في الحي أو في مزرب البيت، وكان ديك البيت يصيح فتردّ عليه ديوك كثيرة في البلدة ليشكل الكل سمفونية من صياحات متنوعة في موسيقاها وأسلوبها كأنما لكل ديك شخصية وميزة يتفاخر بها على الباقين. كانت تلك أيام البركة عندما كانت الدجاجة من المقتنيات المحببة والعزيزة على أهل البيت يعرفونها حق معرفة ويطعمونها ويبيتونها في المساء. الذين رافقوا تلك الفترة من الزمن لم يروا في حياتهم ربما “فروجاً” منتوفاً في دكان أو سوبرماركت فهذه المناظر جدَّت بعد ذلك في الخمسينات والستينات عندما كبرت المدن ولم تعد هناك وسيلة لتموين سكانها بالدجاج إلا بتوسيع الإنتاج واتباع الوسائل الحديثة ومنها المزارع الكبيرة والمسالخ والأعلاف المصنّعة بهدف الإنضاج السريع للدجاج الأمر الذي يخفض تكلفته على المربي (حيث العلف يمثل التكلفة الأهم) ويجعل ممكناً بيع الفروج بأسعار تكون مناسبة حتى لأصحاب الدخل المحدود.
منذ ذلك الزمان حصل إنقلاب كبير إذ تحوّل الجميع تقريباً – بمن في ذلك سكان القرى من الذين كان أهلهم يربُّون الدجاج البلدي- عن تربية الدجاج في المنزل إلى “تسوُّق” الفَرُّوج في السوبرماركت وكذلك البيض، وأصبح “فروج” المزارع الطري العديم الطعم والمحشو بهرمونات النمو والمضادات الحيوية والرخيص الثمن “زينة الموائد”. يذكر أهلنا أن طهي دجاجة بلدية في الحي كان يتحول إلى خبر في البلدة لأن رائحتها الزكية كانت تنتشر بين المنازل، أما الآن فلا رائحة ولا طعماً ولكن جري وراء السهولة فالجميع في عجلة من أمرهم، ولا يعرف أحد السبب.
لكن لكل عمل نقوم به نتائج، وفي ميزان العقل كل ما يخالف الطبيعة وشرعتها الأزلية لا بدّ أن يرتدّ على الناس عاجلاً أم آجلاً بأوخم العواقب، وها هو حصاد ما نزرعه يرتسم أمام أعيننا في هذه الحالة المخيفة من الأمراض والسقم والكآبة والذبول البطيء؛ الناظر إلينا من بعيد يدهش لمنظر الخلق الشارد في كل اتجاه غير مستقر على حال، ولهذا التفكك في الروابط الإنسانية وهذا العنف واستمراء الحرام والغش حتى بين أهل البيت الواحد. من أين أتى كل هذا؟ من ترك الأرض التي هي جزء من العبادة وتوازن الجسد والروح، ومن إهمال إرث السلف الصالح وسيرتهم وكنوز الحكمة التي ورثناها منهم وهذه الكنوز يلقي بها منكرو هذه الأيام وجهَّاله خلفهم ويستصغرونها مثلما فعل المنكرون للحق قبلهم في كل زمان وأوان إذ قالوا عنه وعن آياته “أساطير الأولين”. إنه زمن “الفَرُّوج ..إفرحوا أيها الآكلون!!

الحلقة المفقودة في أزمة النفايات

في شوارع بعض قرى الجبل إرتفعت يافطات تحثّ المواطنين على المساهمة في حل مشكلة النفايات وعلى الأخص القيام بفرز نفايات المنازل ومن تلك اليافطات ”فرز النفايات دليل حضارة” أو “فرز النفايات دليل رقيّ” وغير ذلك. لكن عدا تعليق اليافطات لم نشهد حراكاً حقيقياً على صعيد مجتمع الجبل لجعل المواطن شريكاً فاعلاً في حل هذه المعضلة التي تبدأ في بيته وفي الأسلوب الذي يتعامل به مع نفاياته هو، ولا توجد نفايات في الشوارع إلا من نتاج الناس والأسلوب الذي اعتادوا أن يطبقوه في التخلص منها.
طبعاً وكما اتضح فإن الحل المقتصر على الجمع والنقل والطمر بلغ نهاية صلاحيته ولم يعد الاستمرار به سهلاً، لأن الناس خصوصاً تلك التي تعيش بالقرب من المطامر لم يعد في إمكانها أن تحتمل أكثر فنزلت إلى الشارع واعترضت وحصلت اجتماعات ولقاءات وقدمت خططاً أبرزها خطة الوزير أكرم شهيِّب التي تقترح تبسيط المشكلة عبر اهتمام كل منطقة بنفاياتها مع تركيز على تشغيل معامل الفرز والبحث في الوقت نفسه عن أماكن مناسبة لإيجاد “مطامر صحيّة” تكون بديلاً عن تلك المشكو منها.
لكن رغم كل ما أذيع، ليس واضحاً إذا كانت النزاعات السياسية وحالة الشلل التي تغرق فيها البلد ستمكّن أصحاب المبادرات من جمع الأصوات المتنافرة حول موقف واحد يضع خاتمة للأزمة. هذا من جهة، من جهة ثانية فإن تعطّل الدولة، يعني أن كل ما يبحث من حلول لا يتعدى كونه من نوع “عالج الحاضر بالحاضر” دون وجود رؤية بعيدة الأمد تتضمن مثلاً تعميم عملية فرز النفايات في المصدر أي في المنازل والمؤسسات، كما هي الحال في دول العالم المتحضرة. وهذه النقطة مهمة ونعتبرها من أهم مسؤوليات المجالس البلدية، ولا يوجد بين مسؤوليات المجلس البلدي ما يفوق مسؤوليته في تأمين نظافة البلدة وصحة المواطن. لكننا الى حد الآن لم نلاحظ أي حراك حقيقي على مستوى البلديات يستهدف طرح مبادرات إيجابية في عملية إدارة معضلة النفايات. فعدا تعليق بعض اليافطات لم نعلم أن رئيس بلدية أو مجلساً بلدياً نظم اجتماعاً واحداً لأهل البلدة بهدف التباحث في نظافتها وتدريب المواطنين على عمليات فرز النفايات في المصدر. ونحن نعتقد أنه من المفروض رفع موضوع فرز النفايات إلى مستوى التكليف البلدي مثله مثل رسوم المسقّفات أو الرسوم على المياه أو إضاءة الشوارع أو غيرها من الخدمات. وإذا كان المواطن بسبب نقص الوعي يتوقع من جهات بعيدة أن تنقل نفاياته على علّاتها، فإنه لا يجوز للهيئات المحلية أن يكون لها نفس الموقف التواكلي وأن تعتبر الموضوع موضوع مطمر صحي أو معالجة أو حرق أو أي أمر آخر.
وفي حال إلزام المواطن بالتخلص من النفايات العضوية بطريقة التخمير Composting في أرضه وبالتالي عدم قبول استلام نفايات عضوية من البيوت الواقعة في البلدات الجبلية، فإن أكثر من 70 % من مشكلة النفايات في قرى الجبل تكون قد حُلَّت هذا باستثناء بعض أحياء المدن الجبلية التي يعيش سكانها في الشقق ولا تتوافر بالتالي لهم أرض زراعية قريبة. وفي حال إلزام المواطنين بتخمير نفاياتهم المنزلية فإن ما قد يرد إلى مراكز تجميع النفايات (وفرزها) من مواد غير عضوية مثل الكرتون والزجاج والمعادن والبلاستيك لا تثير مشكلة بل سنجد جهات كثيرة راغبة في شراء النفايات غير العضوية ومحاولة تدويرها.
المجالس البلدية هي أهم أدوات الحكم المحلي ومن منظور إصلاح اللامركزية الإدارية الذي هو مطلب تقدمي ووطني لا يمكن قيام حكم محلي من دون تحمل المجالس البلدية لأدوار جديدة تتضمن التواصل الدائم مع أهل البلدة ودعوة المواطن لأن يتحمل مسؤولياته، ومن أهم الفرص لوضع ذلك المفهوم الجديد والمتقدم للحكم المحلي موضع التطبيق هو إنطلاق مبادرات أهلية تقودها المجالس البلدية بالتعاون مع لجان يتم إنشاؤها في القرى وبعض المتخصصين من أجل تطوير أسلوب جديد وفاعل لإدارة النفايات المنزلية أو التجارية أو غيرها بالإستناد إلى مبدأ الفرز في المصدر وتفريق النفايات العضوية عن النفايات الصلبة غير العضوية.
إننا نطرح وجهة النظر هذه ونأمل من البلديات أن تستجيب وأن تفتتح أسلوباً جديداً مبادراً للتعامل مع مشاكل البلدات والمواطنين، ونحن في انتظار أصحاب الهمم وعلى أتمّ الاستعداد للإضاءة على أي مبادرة بلدية أو أي نشاط حقيقي يخدم الناس ويضرب مثلاً في الخدمة العامة ما زلنا نفتقده بشكل كبير.

إفتتاحية رئيس التحرير