رغمَ وقوع المناسبة – 22 تشرين الثاني – في موعد لا يتلاءم وموعد صدور مجلّة فصليّة كالضّحى، لن نترك اليوبيل الماسي لاستقلال لبنان يمرّ دون باقة ورد نرفعها لأبطال الاستقلال، بل للوطن، وبخاصة في تاريخه الحديث.
لماذا نفعل ذلك؟ لا تحتاج الإجابة إلى كبير جهد، فـالضّحى مجلّة لبنانية بالدرجة الأولى، صادرة عن جهة لبنانية ميثاقيّة مُعْتَبَرة، المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدّروز، وعليه فمن حقّها، بل من واجبها أن تشترك واللبنانيين جميعاً في استذكار المناسبة الوطنية العزيزة وما تعنيه من إحياء لقيم الوطن، والوطنية، والمواطنة، قبل – وفوق – كلّ انتماء طائفي أو عشائري، أو حزبي، أو جِهَوي.
لكن سبباً إضافياً يبرز هذه المرّة، وهو اعتزازنا أن يكون قطار الاستقلال الوطني الذي أقلع بقوّة في 11 تشرين الثاني ثم بلغ محطّته الأخيرة ظافراً في 22 تشرين الثاني 1943 قد مرّ – بل توقّف للحظات تاريخيّة حاسمة – في محطّتين عزيزتين جدّاً على قلب الضّحى: محطّة راشيّا الوادي، ثمّ محطّة بشامون ومن غير المعروف، وهذا متروك للمؤرّخين، ما إذا كان الاستقلال الوطني ليتحقّق يومذاك من دون المحطّتين الوطنيّتَيْن الحاسمتين أعلاه، أو من دون الثّورة الوطنية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش (1925-1927)، تلك الثورة التي دقّت – والتعبير للرئيس الراحل عبد الناصر في خطابه في ساحة السويداء مع فجر الوحدة المِصرِيّة السوريّة سنة 1958 – أوّل إسفين في الوجود الاستعماريّ الفرنسيّ البريطانيّ في المشرق العربي. ففرنسا المُنتَدَبة – أي المستعمِرَة – كانت تَعتبر بقاءها في لبنان من ثوابت سياستها الخارجية، وعَرْضُها الاستقلالَ الذاتيَّ – المنقوص – هو أقصى ما تقدمّت به للوطنييّن اللبنانييّن (والسورييّن) الذين عزَموا على نَيْل استقلال وطنهم. أسباب تمسُّك فرنسا المستعمِرة – الاستراتيجية والثقافية – بلبنان كثيرة، أمّا سبب عجزها عن فَهم مطلب الاستقلاليين اللبنانيين فواحدٌ لا غيرَ، وهو ظَنُّها واهمةً أنّ كلمة اللبنانيين لن تجتمع، وقلوبهم لن تأتلف، وسواعدهم لن تتكاتف، كالرجل الواحد خلف مطلبهم باستقلال وطنيّ كامل ذي سيادة تامّة غير منقوصة.
فاجأ اللبنانيّون الدولة المُنتدَبة بتناسيهم لطوائفهم ومذاهبهم وأحزابهم وجهاتهم وتوحُّدهم خلف مطلب الاستقلال الوطنيّ الناجز غير المنقوص فوراً ومن دون تأخير. وظهرت وحدة اللبنانييّن جليّة في إجماع أعضاء المجلس النيابيّ خلف مطلب الاستقلال التامّ متناسين كُلّيَّاً خلافاتهم الجزئية. وفاجأ اللبنانيّون أيضاً، قادةً وجُمْهوراً، الدولة المُنتدَبة بأنّهم مستعدّون لدفع ثمن استقلالهم بقبولهم الاعتقال التعسّفي ورفضهم حتى التفاوض مع الدولة المُنتدَبة، ثمّ باستعدادهم، وهو تطوّر حاسم، للتمرّد الشعبي ضد المُنْتدَب – وقد عمّ الإضراب العامّ البلاد – وأكثر من ذلك، لدفع ضريبة الدَّمِ لِنَيْل استقلالهم، وتمثّل ذلك بتمرّد بشامون الذي كان في وُسْعِه أن يعمّ البلاد لو لم تسرع الدولة المنتدَبة إلى إطلاق سراح الزعماء المعتقلين وإظهار موافقتها العلنيّة من ثمّة على استقلال الكيان اللبناني الناجز غير المنقوص وكأيّ دولة مستقلّة أخرى.
كانت «انتفاضة بشامون» المُباركة التي رفعت راية التمرّد العسكري المباشر في وجه الفرنسيين ذروة ثورة اللبنانيين الاستقلالية، وكانت مؤذنةً بالتوسّع خارج الجبل لو لم يسرع الفرنسيّون ويُسَلّموا بمطلب الاستقلال الوطني الناجز. ونحن يُسعدُنا في الضّحى أن يكون على رأس الانتفاضة المسلّحة تلك أحد أبطال الاستقلال، ابن الجبل والشوَيفات تحديداً، المغفور له الأمير مجيد أرسلان. ويُسعدنا بالتّالي أن يمرّ اللبنانيون سنويّاً ببشامون محطّة الاستقلال الحاسمة، وببيت الاستقلال ( بيت الشيخ حسين الحلبي) الذي انتقل إليه مَنْ نجا من الاعتقال مِنْ أعضاء الحكومة الاستقلاليّة، وبخاصة الأمير مجيد أرسلان والأستاذ حبيب أبي شهلا. فقد غدا البيت ذاك «السراي»، ورُفِع عليه العلم الاستقلالي لأول مرّة، فكانت تجربة استقلاليّة قصيرة حقيقيّة، انتهت بانهيار التّعنُّت الفرنسي وإعلان الاستقلال وعودة الحكومة الشّرعية ظافرة إلى مقرّها في بيروت.
لكنّ فرح المناسبة لا يمنعُنا من أن نسألَ أنفسَنا:
هل تحقّقت الأهداف الوطنية الكُبرى التي سعى إليها وضَحّى في سبيلها المؤسّسون، آباء استقلال لبنان، منذ فخرالدين المعني الثاني الكبير مطلع القرن السابع عشر وصولاً إلى مضمون البيان الوزاري لأوّل حكومة استقلاليّة ألّفها المغفور له المرحوم الرئيس رياض الصُّلح؟ نكتفي من تلك الوثيقة التاريخيّة النّادرة التي كُتبت قبل خمس وسبعين سنة بفِقرة واحدة، تلك التي تناولت المُعضِلةَ الطائفيّة في لبنان لنقارن حالنا الطائفيّ المُزري اليوم بالحالة الوطنيّة العريضة المتفائلة التي طرحها أوّل بيان وزاري استقلاليّ. قال البيان الوزاريّ أعلاه:
«ومِنْ أُسُس الإصلاح التي تقتضيها مصلحة لبنان العُليا معالجة الطائفية والقضاء على مساوئها، فإنّ هذه القاعدة تُقيّد التقدّم الوطنيّ من جهة وتشوّه سمعة لبنان من جهة أخرى، فضلاً عن أنها تُسَمّم روح العلاقات بين الجماعات الروحيّة المتعدّدة التي يتألّف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف أنّ الطائفية كانت في مُعظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصّة كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان إيهاناً يستفيد منه الأغيار. ونحن واثقون أنّه متى غمر الشعب الشعور الوطنيّ الذي يترعرع في ظلّ الاستقلال ونظام الحكم الشّعبي يُقْبِل بطمأنينة على إلغاء النظام الطائفي المُضعِف للوطن. إنّ الساعة التي يُمكن فيها إلغاء الطائفيّة هي ساعة يقظة وطنيّة شاملة مُباركة في تاريخ لبنان. وسَيُسْعى لكي تكونَ هذه السّاعة قريبة بإذن الله.» كتابُ الاستقلال، دار النّهار، بيروت، 1997، ص 253.
نحتفل بعيد الاستقلال، وفق كلمات الصّحافي اللبنانيّ الكبير الراحل غسّان توَيني في مُقَدَّمته لـ «كتاب الاستقلال» حين كتب:
شيءٌ كبيرٌ جدّاً أن نحاول، بعد ما يزيد على النّصف قرن، وضع «كتاب الاستقلال»، أو كتاب عنه!… في طموحنا أن يكون التاريخ موحَّداً – أي أنْ يُوَحِّدَنا – لا أن نصطنع نحن وحدته، وهمية، مُختصرَة، ننتزع منها كلّ ما نخاف أن يفرّق: أحداثاً ووقائع وبطولات وأشخاصاً. وطموحُنا هذا من إيمان عميق في أنفسنا بأنّ قضية الاستقلال وحّدت اللبنانيين، وتستمرّ تُوَحِّدهم، وأنّها في واقعها والمبادئ أرفع بكثير ممّا يصطنعون لها من شوائب، في مواسم الكُفر والتّكفير، وأنّها لا تزال هي هي مصدر الوحدة الحقّة وأقوى من الأزمات، كما كانت أقوى من النّسيان (المصدر نفسه، ص7-8). ■