الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الانقلاب القطبي

حَصلَ آخرَ مرّة قبل 780,000 سنة

قُطبا الأرض سيتبادلان موقِعَيْهما والنتيجةُ مُخيفة للحضارة البشريّة

القطـــبان يبتعدان بسرعة عن مكانهما المُعتاد
والخوف الأكبر هو زوال الغلاف المغناطيسيّ للأرض

زوال «الدّرع المغناطيسيّ» جَرَّاء الإنقلاب القطبي
قد يبيد الحضارة ويعود بالبشر إلى العصر الحجريّ

{يوم تُبدّلُ الأرضُ غير الأرضِ}
(إبراهيم: 48)

كتب المحرّر العلمي
كأنّ المخاطر المتزايدة للتغيّر المناخي وذوبان الغطاء الجليدي للمناطق القطبيّة وارتفاع منسوب المحيطات والبحور وغير ذلك من الكوارث المناخية ليس كافيا،ً فقد برز للعالم في الفترة الأخيرة موضوع جديد…
إذ تركّز إهتمام العالم وعلماء الفضاء والمناخ فجأة على موضوع لم يخطر في بال أحد وهو اتّجاه القطبين الشمالي والجنوبي لتبادل موقعيهما بحيث ينتقل القطب الشمالي إلى طرف الكرة الجنوبي وينتقل القطب الجنوبي إلى ما يسمى الآن القطب الشّمالي. علميّاً هذا التبادل بين القطبين لموقع كلّ منهما ليس جديّاً على الكرة الأرضية، إذ هو حصل مئات المرات منذ تكوّن الأرض قبل ما يزيد على ثلاثة مليارات سنة ويقدّر العلماء، بناء على دراسات الخصائص المغناطيسية للتّرسبات الجيولوجية ولفلزات البراكين أنّ ما يمكن تسميته الانقلاب القطبي Pole shift يحصل كل 200,000 إلى 300,000 عام، علماً أنّ آخر انقلاب لموقعي القطبين حدث قبل نحو 780,000 عام وهي مدّة أطول من المعتاد. فما الذي يعنيه تبادل القطبين لموقعيهما على الكرة؟ كيف ومتى سيتمّ ذلك؟ وما هي النّتائج المتوقعة على الحضارة البشرية والحياة على وجه الأرض نتيجة لهذا الحدث العظيم بكل مقياس؟

لماذا انشغل العالم فجأةً بموضوع الإنقلاب القطبيّ؟
لأنّ الدلائل تتزايد على أنّ انقلاباً قطبيّاً يمكن أن يحدث للأرض في وقت قريب وربّما في حياتنا كأفراد، وأهمّ الدلائل على اتّجاه الأرض نحو حدث من هذا النّوع هو أن القطبين الشّماليّ والجنوبيّ بدآ يبدّلان موقعيهما: الشّماليّ يتجه تدريجيّاً نحو الجنوب والجنوبيّ باتّجاه الشمال والأهمّ من ذلك هو تزايد سرعة إنزلاق القطبين عن مكانهما بصورة مُلفتة، فقد سجّل العلماء في أواخر القرن التّاسع عشر انزلاق القطب الشّماليّ نحو الشّرق والجنوب بمسافة لم تكن تزيد على سنتمترات معدودة في السّنة، ثم ازدادت سرعة إنزلاق القطب الشّمالي بحيث بات العلماء يقدّرون أنّه يبتعدُ عن مكانه الأصليّ بمعدّل 40 كلم في السّنة (في مقابل 15 كلم في السّنة في مطلع القرن العشرين).
ونتيجة لتلك الظّاهرة، فإن القطب المغناطيسيّ الشّماليّ إبتعد عن محوره الجغرافيّ التّاريخيّ أكثر من 920 كلم حتى الآن وهو يتّجه شرقاُ وجنوباً نحو سيبيريا في روسيا.
بالطّبع هذه المعلومة ستفاجئ الكثيرين لكنّها صحيحة، فالقطب الشماليّ الفعليّ لم يعد في مكانه وقد بلغ حجم التّغيير في الحقل المغناطيسيّ وموقع القطبين أن اضطُرّت أكثرُ مطارات العالم لتغيير الإحداثيّات والتّعليمات المتعلّقة بعمليّات الهبوط والإقلاع لأنّها لم تعد صحيحة بالنّسبة إلى حركة الطّائرات.

متى سيحصل التّبادل القطبيّ؟
العلماء متّفقون ووكالة الفضاء الأميركيّة (ناسا) يؤكّدون جميعاً أنّ الأرض دخلت في مسار الإنقلاب القطبيّ منذ عقود لأن المؤشّرات على ذلك تتزايد كلّ يوم، لكن متى سيحصل هذا الإنقلاب فهذا ما لم يستطع العلماء الجواب عليه بالتّحديد، لأنّ التّبادل القطبيّ يحصل في البدء بصورة تدريجيّة لكن عند نقطة معيّنة يبدّل كلٌّ من القطبين الشّماليّ والجنوبيّ موقعيهما فجأة، وعندها يكون التّبادل القطبيّ قد أصبح ناجزاً فينقلب القطب الشّماليّ إلى القطب الجنوبيّ والعكس بالعكس.
بعض التوقّعات تشير إلى أنّ هذا الأمر قد يتمّ في غضون المئة سنة المقبلة، بينما يعتقد علماء آخرون أنّ التّبادل القطبيّ قد يفاجئنا وأنّه أصبح أقرب إلينا من أيِّ وقت سبق ممّا يعني أنّه قد يحدث في حياة هذا الجيل ويشهد عليه أهل الزّمان أنفسهم.

” لا توجد معلوماتٌ أو آثارٌ مؤكّدةٌ يمكن أن تنبئنا بالذي حدث للأرض وللحياة قبل 780,000 عام وما الذي يمكن أن يحدث قريباً، لكن الجميع خائفون  “

تآكلُ الغلافِ المغناطيسيِّ
بناءً على الأبحاث والبيانات العلميّة المُجَمّعة بواسطة نظام أقمار وكالة الفضاء الأوروبية المسمّى Swarm، فإنّ الغلاف المغناطيسيّ للأرض دخل مرحلة من الضّعف المتسارع، ومن بين الأدلّة على ذلك، الطيور التي تفقد حسّ الإتجاه في هِجرتها وتغيّر اتجاهها فجأة في السماء أو تموت بالألوف نتيجة فقدها لخطّها الملاحيّ، أو تزايد عدد النّيازك التي تتساقط على الأرض، أو موت بعض الدلافين بسبب ما يبدو أنّه نتيجة لإضاعة الاتّجاه.. وأبرز ما في نتائج أبحاث الوكالة الأوروبية أنّها وجدت نقاط ضَعف كبيرة في الحقل المغناطيسيّ للأرض خصوصاً فوق الجانب الغربيّ للكرة في الوقت الذي زادت قوة الحقل المغناطيسيّ فوق مناطق مثل جنوب المحيط الهندي. وأحد التّفسيرات التي أعطيت لهذه الظّاهرة هي أنّ القطبين الشماليّ والجنوبيّ يقتربان من لحظة تبادل المواقع أو ما يمكن تسميته “الإنقلاب القطبيّ” ونتيجة لذلك، فإنّ البوصلة التي كانت إبرتها تشير إلى الشّمال ستشير بعد ذلك إلى الجنوب، كما أظهرت أبحاث وكالة الفضاء الأوروبيّة أنّ تراجعَ كثافة وفعاليّة الغلاف المغناطيسيّ للأرض (نتيجة للإنزلاق القطبيّ الحاليّ) أصبح الآن أسرع بعشَرَة أضعاف ممّا كان الحال عليه في مطلع القرن.
من جهة ثانية، أعلن عالمان من جامعة كاليفورنيا هما غاري غلاتسمايراند وبول روبرتس أنّهما توصّلا إلى الاستنتاج بأنّ التّبادل القطبيّ سيحصل في حياتنا أي قبل مضيّ وقت طويل بينما حذّر عالم سابق في وكالة الفضاء الأميركيّة في مقابلة خاصّة نُشرت على اليوتيوب من أنّ الانقلاب القطبيّ أصبح وشيكاً وأنّه سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة على الكرة الأرضيّة.

القطبان الشمالي والجنوبي يتهيّئان لتبادل مواقعهما
القطبان الشمالي والجنوبي يتهيّئان لتبادل مواقعهما

سيناريوهاتُ الكارثةِ!
إنّ حادثاً طبيعيّاً هائلاً بحجم انقلاب القطبين لا بدّ وأن يترك المجال واسعاً للتكهّنات بنتائجه، وهناك تباين واسع في الآراء بين من يقلّل من خطورته وبين من يعتبره مقدّمة لنهاية الحضارة الإنسانيّة. لكن نظراً إلى أنّ آخر انقلاب في القطبين المغناطيسيّين للكرة الأرضيّة حصل قبل 780,000 عام فإنّه لا توجد حقيقة أيّة معلومات أو آثار مؤكّدة يمكن أن تقول لنا ما الذي حدث وما الذي يمكن أن يحدث عند حصول الانقلاب القطبيّ القادم. ومن الواضح أنّ آخر انقلاب قطبيّ حدث ربما قبل ظهور البشر كما نعرف وحتماً قبل وجود المجتمع البشريّ، كما بدأنا نعرفه منذ ستة أو سبعة آلاف عام وهذا زمن “قصير” جدّاً بالنّسبة إلى حياة الأرض (أكثر من ثلاثة مليارات عام) وبالنّسبة إلى آخر انقلاب قطبيٍّ حصل عليها. وأيّة آثار قد تكون رافقت آخر انقلاب قطبيٍّ لم تصادف مجتمعات بشريّة وحضارات متطّورة كما هي حالنا اليوم، لذلك فإنّ تلك النتائج لا بدّ كانت محدودة بسبب حياة الإنسان الأوّل البدائيّة جدّاً على الأرض، أمّا الآن وبسبب التطوّر الهائل في الحضارة البشريّة والتّزايد السكّاني وقيام المدن الهائلة والاعتماد الشبه التّام للحياة الأرضية على الأقمار الصّناعية وشبكات الكهرباء والاتّصالات فإنّ الانقلاب القطبيّ المقبل يعتبر حادثاً خطيراً وغير مسبوق وهو بالتالي سيفسح في المجال لكافة التّكهّنات والنّظريات.
وكالة الفضاء الأميركيّة (ناسا) حرصت في بيان مفصّل على موقعها الشّبكيّ على تهدئة المخاوف من الآثار المحتملة للتّبادل القطبيّ، وقد استندت إلى ما أسمته تحليل الطّبقات الرّسوبيّة وفلزات البراكين القديمة الهامدة تحتَ البحر للقول بأنّ تلك الأبحاث لم تقدّم أدلّة على أنّ الانقلاب القطبيّ ترافق مع أحداث كارثيّة للحياة على وجه الأرض. لكن في المقابل حذّر علماء آخرون ومواقع علميّة من أنّ الانقلاب القطبيّ سينعكس بنتائج بعيدة على الحياة الأرضيّة نتيجة لجملة من الأحداث التي سترافقه على شكل زلازل غير مسبوقة في قوّتها وموجات تسونامي هائلة تغرق إلى الأبد قسماً كبيراً من اليابسة في أنحاء كثيرة من العالم تقع أراضيها على مستوى محاذ أو غير مرتفع عن سطح البحر. وهناك من يذهب إلى أبعد فيعتبرُ أنّ الانقلاب القطبيّ المقبل سيؤدي إلى نهاية معظم أشكال الحياة على سطح البسيطة.

الدّرع المغناطيسي
لكن بينما تتضارب التّنبّؤات حول الظواهر الكارثيّة التي سترافق الانقلاب القطبيّ فإنّ هناك على الأقلّ أمراً أساسيّاً يتّفق العلماء عليه وإنْ بنسب متفاوتة، وهو أنّ الانقلاب القطبيّ سيتسبب في ضعف شديد للغلاف المغناطيسيّ الذي يحيط بالأرض وهذا الغلاف الذي يسمّى أحياناً “الدّرع المغناطيسيّ” للأرض (أو “حزام فان بلت” ) هو الذي يحمي الحياة على وجهها من الأشعّة القاتلة التي تندفع باتجاه الأرض نتيجة للإنفجارات الشّمسية التي تحدث على سطحها الملتهب بإستمرار.
حتى وكالة (ناسا) مثلاً التي طمأنت إلى أنّ الانقلاب القطبيّ لن ينعكس بكارثة على الإنسانيّة اعترفت في البيان نفسه الذي نشرته على موقعها عبر الإنترنت بأنّ انزلاق القطبين عن موقعيهما الجغرافيّين المعتادَين سيترافق بضعفٍ “ملموس” في الغلاف المغناطيسيّ للأرض، لكنّ الملفت هو أنّ الوكالة التزمت الغموضَ حول النتائج المتوقّعة على الحياة جرّاء ضعف الغلاف الجويّ الحامي للأرض وما يعيش عليها من كائنات حيّة أو نباتات، علماً أنّ هذه النتائج تدخل ضمن الأمور المتّفق عليها بين العلماء وهي في حدّ ذاتها تحمل مخاطر وجوديّة على الحياة البشريّة بل على الحياة الأرضيّة في الإجمال.

كيف يحمي الغلاف المغناطيسي الأرض من الأشعة القاتلة للانفجارات الشمسية
كيف يحمي الغلاف المغناطيسي الأرض من الأشعة القاتلة للانفجارات الشمسية

7 حقائق حول الانقلاب القطبي

1. القطب الجنوبيّ إبتعد عن موقعه الأصليّ في المحيط المتجمّد الجنوبيّ بينما ينزلق القطب الشماليّ بدوره بعيداً عن موقعه عبر المحيط المتجمّد الشماليّ
2. القطبان المغناطيسيّان للأرض (الشّمالي والجنوبيّ) في طريقهما لتبادل موقعيهما على الكرة، بحيث ينتقل القطب الشماليّ إلى مكان القطب الجنوبيّ وينتقل القطب الجنوبيّ إلى القطب الشماليّ، وذلك حسب البيانات المجمّعة من نظام الأقمار الصّناعية الثّلاث لوكالة الفضاء الأوروبيّة المسمّى SWARM
3. الغلاف المغناطيسيّ للأرض بدأ يضعف في القرن السابع عشر وهو ضعف بنسبة 10% عن كثافته الأصليّة ما بين العامين 1800 و2000.
4. تآكُل الغلاف المغناطيسيّ أصبح يتسارع بقوّة، إذ بينما كان هذا الغلاف يضعف بنسبة 5% كل 100 سنة فإنه أصبح الآن يضعف بنسبة 5% كل عشر سنوات أي إنّ سرعة تآكُل الغلاف المغناطيسيّ للأرض زادت عشر مرات منذ العام 2000 وإذا استمرّت هذه الوتيرة (وربّما تتسارع أكثر مع اقتراب لحظة تبادل المواقع بين القطبين) فإنّه لن يبقى الكثير من الغلاف المغناطيسي للأرض في غضون عقود من الآن.
5. بالفعل ابتداءً من العام 2014 بدأ الغلاف المغناطيسيّ للأرض يضعف بسرعة.
6. يقدّر العلماء أنّ الانقلاب القطبيّ سيحصل في حياتنا أو في غضون عقود لاحقة لكن هذا الوقت عند قياسه بعمر الأرض فإنّه يعني أنّ الحدث أصبح وشيكاً.
7. الانقلابُ القطبيّ قد يؤدي في حال ترافق مع عواصف شمسيّة إلى فناء نسبة كبيرة من الكائنات الحيّة والنباتات وإلى زوال الحضارة كما نعرفها اليوم.

هذه الأرض ليست ملاذا !

الموضوع حول احتمالات تبديل القطبين الشمالي والجنوبي لموقعيهما يجب اعتباره دليلاً آخر من الأدلة المتزايدة على هشاشة موقع الإنسان على هذه الكرة وخطأ النظر للأرض كثابت كوني وإلى الحياة عليها كأمر مغرق في القدم ومهيّأ للإستمرار لآلاف السنين القادمة. وقد أصبحت هذه النظرة “العلمية” أساس الثقة الواهمة التي تغذي المعتقدات المادية والإلحادية التي تعتبر الإنسان مركز الكون وتحلم بمستقبل تعتقد أن البشر يمتلكونه بأيديهم بفضل العلوم والتقنية والإبداع البشري.
المفارقة هي أننا بفضل المعارف المعاصرة بتنا نعلم أن هذه النظرة هي مجرد غرور واهم كما إننا وبفضل ما أصبح بين يدينا من معلومات عن الأزمة الخطيرة التي يعيشها كوكب الأرض بتنا مدركين أن وجودنا عليه محفوف بمخاطر كثيرة،كما إننا عندما نقيس عمر البشر على الأرض بمقياس الزمن الفلكي نجد أن عمر الإنسانية هو فعلاً مجرد “برهة” بالنسبة لعمر الأرض. ولقد تعرض كوكبنا إلى عشرات الأحداث الكبرى التي بدّلت وجه الكرة أكثر من مرة، وآخر هذه الأحداث الكونية مثلا العصر الجليدي الذي استمر ملايين السنين وانحسر عملياً قبل 10 آلاف سنة فقط مما يعني أن المجتمع البشري يبدو طفلاً بمقياس حياة الأرض التي تقدّر بمليارات السنين. وها هو خطر الانقلاب القطبي الذي يحدث لأول مرة منذ 780,000 عام مع ما قد ينجم عنه يقدّم الدليل على أن وجود البشرية على هذه الأرض تمّ لحكمة ربانية وأنه قد يتغير أيضاً لحكمة ربانية
}وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا { (الأحزاب: 63)

الخطرُ الحقيقيُّ
هذه الآثار المتوقّعة على صحّة البشر جرّاء ضعف الغلاف المغناطيسيّ للأرض تحدّث عنها جانيس ل. هاف العالم في برنامج الإشعاع الفضائيّ في وكالة ناسا بالقول إنّ عمليّة تبادل القطبين الشّماليّ والجنوبيّ لموقعيهما ستترافق مؤكّداً مع انكماش كبير في الغلاف المغناطيسيّ المحيط بالأرض، وبالنّظر لأنّ العمليّة قد تأخذ وقتاً فإنّ الانكماشَ أو حدوث فجوات كبيرة في الغلاف المغناطيسيّ سيجعل الأرض عمليّاً بلا حماية من الإشعاعات الشّمسيّة أو مقذوفات لهب الهالة الشّمسيّة Coronal Mass Ejections التي تنجم عن الانفجارات المستمرّة على سطح الشمس، وهذه الانفجارات تُنْتِج أيضاً ما يسمّى بالرّياح الشّمسيّة وموجات الطّاقة التي تصيب جوّ الأرض وسيكون لها (من دون حماية الدّرع المغناطيسيّ) تأثير كبير على الكائنات الحيّة التي ستكون مكشوفة للآثار القاتلة للإشعاعات الشّمسيّة وهذه الطاقة الهائلة تتفاعل مع جوّ الأرض وكذلك مع قشرتها. لهذا السّبب، وحسب العالم الأميركيّ فإنّنا سنشهد مع اقتراب الانقلاب القطبيّ مزيداً من العواصف والتقلّبات المناخيّة والزلازل والتسونامي وانفجار البراكين التي قد تكون خامدة منذ زمن.

” وكالةُ الفضاء الأميركيّة تهدّئ الخواطر :
لا أدلّةَ على أنّ الانقلابَ القطبيَّ سينعكس بنتائج كارثيّة لكنّه سيضعف الغلافَ المغناطيســــيَّ الحامـــــي للأرض  “

جيمس فان ألن يشرح نظريته حول الغلاف المغناطيسي للأرض والذي سمي باسمه
جيمس فان ألن يشرح نظريته حول الغلاف المغناطيسي للأرض والذي سمي باسمه

لكنْ ما هي الآثار التي يُخشى منها أكثر من غيرها على الإنسان؟
يجيب العالم “جانيس هاف” إنّ تعرّض الكائنات الحيّة ولاسيّما الإنسان لهذا المزيج من الإشعاعات الشّمسية دون حماية من الغلاف المغناطيسيّ أمر غير مسبوق في الذّاكرة البشريّة، لكن بالإستناد إلى الأبحاث العديدة المتوافرة، فإنّ أحد الأخطار الكبرى هو ما سيصيب جسم الإنسان ودماغه من ضرر فادح نتيجة اختراقه من تلك الإشعاعات. ومن هذه المخاطر مثلاً احتمال فقد الذاكرة لأنّ دماغنا يعمل على الطّاقة الكهربائيّة وكذلك دم الإنسان يعمل على الأيونات الكهربائيّة الموجودة في الدّم. والضّرر المتوقّع هنا لا يقتصر على التّأثير الخطير للأشعّة ما فوق البنفسجية UVA لأنّ اندفاعات اللّهب الشّمسيّ CMEs تُنتِج أيضا أشعّة إكس X rays وأشعة المايكروويف Microwave وموجات الراديو التي تنبعث عند الانفجارات الشّمسيّة من سطح الشّمس.
كلّ هذه الأشعّة المدمّرة ستجد فضاءنا مفتوحاً بالكامل لدخولها جوّ الأرض عندما يتلاشى الغلاف المغناطيسيّ الحامي للكرة التي نعيش عليها. وحتى قبل حدوث الانقلاب القطبيّ (المتوقع) فإنّ صحّة الإنسان تتأثّر بصورة ملحوظة بالتحوّلات الجارية في جوّ الأرض بسبب ما يجري على سطح كوكب الشمس. فقبل أعوام ضربت الأرض موجة رياح شمسيّة صغيرة نتيجة انفجارات على سطح الشمس؛ وعلى الأثر قامت الحكومة الأميركيّة بالتعاون مع وكالة الفضاء الأميركيّة وعدد من المؤسسات العلميّة بتقييم الأثر المحتمل لتلك العاصفة الشمسيّة على المسافرين بالطّائرة الذين تعرضوا بسببها إلى أشعة اللّهب الشمسيّ الخفيفة في الطبقات العليا للجوّ، وتوصّل الباحثون إلى أنّ ما بين 4 و6 من ركاب الطائرات الذين كانوا في الجوّ في تلك اللّحظة زاد احتمال إصابتهم بسرطانات قاتلة خلال السّنوات الأربع التّالية لوجودهم في الطائرة على ارتفاع شاهق.
وحسب العالم “هاف” فإنّه لو كانت العاصفة الشّمسيّة أقوى من ذلك فإن ركّاب الطائرات الذين سيتعرضون لخطر الإصابة بالسّرطانات في تلك اللّحظة سيكون بالمئات وربما بالألوف، وبصورة عامة، فإنّ جميع المسافرين بالطّائرات على ارتفاعات شاهقة سيكونون في خطر وكذلك ركّاب المحطّات الفضائيّة، وفي حال التعرّض لعواصف شمسيّة قويّة فإن انعدام الحماية الكافية من الغلاف المغناطيسيّ للأرض سيضع جميع سكّان الأرض في

دائرة الخطر وخصوصاً سكّان المرتفعات العالية.
ويشير العالم هاف إلى أنّ الاحتمال المخيف هو أن ينزلق القطب الشماليّ جنوباً في اتجاه البرازيل بينما ينزلق القطب الجنوبي شمالاً باتجاه أندونيسيا على الجهة المقابلة لكن دون أن يعود القطبان إلى حيث كانا فإنّ الأرض ستكون عمليّاً ولسنوات طويلة من دون درع مغناطيسيّ على الإطلاق، مما سيجعلها هدفاً يوميّاً للإشعاعات الشمسيّة القاتلة التي تنبعث بإستمرار من الشّمس لكن يتم حرفها والتصدّي لها من قبل الغلاف المغناطيسيّ الذي يحيط بالأرض مثل “فقاعة هائلة” وهو يمثل بالتالي حاضنة الحماية التي يوفّرها الله تعالى للأرض وللحياة البشرية منذ فجر التّاريخ المعروف.
لكنّ الخطر الأكثر فداحة، والذي لم يحصل أبداً للبشر أن تعرضوا له في السابق، حسب جانيس هاف، هو الموجات القاتلة المسمّاة النبض الإلكترومغناطيسي Electromagnetic Pulse وأي موجه منها تفوق في قوّتها ما يمكن أن تنتجه القنابل النّووية، وعلى سبيل المثال، فإنّ أيَّ انفجار على سطح الشّمس يفوق في حجمه عادة حجم الأرض ويمكن أن ينتج بسبب حجمه الهائل “شموسا” مصغَّرة داخله. رغم ذلك فإنه وبوجود الدّرع المغناطيسيّ فإنّ هذه الموجات تقوم الأرض بحرفها عن مسارها ومنعها من دخول أجوائها، لكن في حال أدّى الانقلاب القطبيّ إلى ضَعف شديد في هذا الغلاف الحيويّ فإنّ عاصفة شمسيّة من هذا النّوع يمكنها وحدها أن تقضي على الحضارة الإنسانيّة وتعود بالبشر -أو ما يتبقّى منهم فعلاً- إلى العصر الحجريّ.

الأرض بحجمها الحقيقي بالنسبة للشمس هدف جاهز للعواصف الشمسية التي سيطلقها الانقلاب القطبي
الأرض بحجمها الحقيقي بالنسبة للشمس هدف جاهز للعواصف الشمسية التي سيطلقها الانقلاب القطبي

العاصفةُ الشمسيّةُ هي المسألة
لا أحدَ يعرف الكثير عمّا سيحصل في حال الانقلاب القطبيّ، والكثير مما يقال عن النتائج الكارثيّة لسيناريو نهاية العالم لا يستند إلى سوابق موثّقة، فالموضوع وهو بمجمله “تكهّنات علميّة” وليس علماً، لكن مع ذلك، فإن الانكشاف المحتمل للأرض للعواصف الشّمسيّة نتيجة تآكل الغلاف المغناطيسيّ الذي يحمينا هو المسألة الحقيقيّة التي قد تجعل من الانقلاب القطبيّ كارثة على البشريّة وهذه العواصف الشّمسيّة ليست في حاجة إلى تبدّل موقع القطبين الشّماليّ لأنّ مجرّد حدوث عاصفة شمسيّة قويّة (من عيار X20 مثلاً) أو أكثر كفيل بتدمير البنية التّحتيّة للكهرباء وأنظمة الأقمار الصّناعيّة والاتّصالات ومعها عمل الأسواق الماليّة والحكومات والجيوش والطّيران والملاحة وعمليّاً كافّة وجوه الحياة المعاصرة. ويتّفق العلماء على أنّه لو أُصيبت الأرض بعاصفة شمسيّة بقوة “عاصفة كارنغتون” التي حصلت في العام 1859 فإنّها ستدمّر أسس الاقتصاد العالميّ والحياة المعاصرة وقد تُكبِّد العالم أضراراً لا تقلّ قيمتها عن 10 تريليونات دولار ويحتاج إصلاحها إلى ما لا يقل عن 10 سنوات أو 20 سنة ولاسيّما شبكات الكهرباء والأقمار الصناعيّة وشبكات الاتّصالات، لأنّ الكثير من الأعمال التي تتطلّب إصلاح شبكات الكهرباء أو شبكات الاتّصالات في حدّ ذاتها تتطلّب وجود الطاقة الكهربائيّة.
يقول العلماء: إنّ الأرض تمكّنت بوجود الغلاف المغناطيسيّ الحامي من أن تتحمّل عواصف شمسيّة بقوة X5 أو حتى بقوة X10 لكنّ الأرض يصعب أن تتحمّل عاصفة شمسية بقوة X20 مثلاً، وفي حال حصلت تلك العاصفة في وقت يكون الغلاف المغناطيسيّ فيه قد تلاشى أو أصيب بضعف (كنتيجة للانقلاب القطبي) فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى نتائج مخيفة لا يمكن تصوّرها. وقد أبدى أحد علماء ناسا ملاحظة قال فيها: إنّ الخطر هو أن تُصاب الأرض بعاصفة شمسيّة مُميتة ثم تصاب بعد ذلك بسلسلة من الكوارث الطبيعيّة التي يتوقع أن ترافق الانقلاب القطبي مثل الزلازل والبراكين والعواصف المدمَّرة.

مصادر

2008 – NASA Magnetic Breach: http://science.nasa.gov/science-news/science-at-nasa/2008/16dec_giantbreach/
2011 European Space Agency Magnetism Article: http://www.esa.int/Our_Activities/Observing_the_Earth/The_Living_Planet_Programme/Earth_Explorers/Swarm/Overview/
Magnetic Field Animation: http://wdc.kugi.kyoto-u.ac.jp/igrf/anime/index.html
2003 NASA Pole Shift Article: http://science.nasa.gov/headlines/ y2003/ 29 dec_magneticfield.htm/
2008 Kyoto Pole Shift Animation: http://geomag.org/info/Declination/magnetic_lines.avi
2010 Kyoto Pole Shift Visual: http://wdc.kugi.kyoto-u.ac.jp/poles/figs/pole_ns.gif
2011 Discovery Pole Shift Article: http://news.discovery.com/earth/weather-extreme-events/earth-magnetic-field-north-110304.htm

اوقاف الموحدين

أوقاف الموحدين
الــــــــــــــــــــــــدروز

النشــوء . الإدارة . الواقــع والمرتجــى

الموحِّدون الدروز أقل الناس وقفا لأملاكهم
والكلام عن ثروة هائلة للوقف يخالف الواقع

يَعتبر الموحِّدون الدروز الوقف من الواجبات الدينية والاجتماعية، ومن الضرورات لخدمة المجتمع وتقديم العون للفقراء والمحتاجين، وأحد الأدلّة على التعاطف الإنساني، وعلى التضامن الأخوي الذي يحرصون عليه؛ وخصوصاً رجال الدين منهم. ومجال الصدقات عندهم واسع لأنهم أحرار بالإيصاء لغير وارث كما لوارث، وبكل التركة أو ببعضها في جميع سبل الخير والمنفعة العامة. وتخضع شؤون الوقف عند الموحِّدين (الدروز) لأحكام الشرع الإسلامي، وهم متمشُّون على الحديث النبوي الشريف بشأن أهمية الصدقة الجارية في دوام ذكر الإنسان بعد وفاته، وهذا الحديث مدرج في وصايا الواقفين إِمَّا بنصِّه الحرفي أو بمضمونه.
لكنّ الموحِّدين (الدروز) هم أقلُّ الجماعات الدينية الرئيسية وقفاً، وأن أكثرية أوقافهم هي من أشخاص لا ورثة لهم، وأنها تتنوَّع تبعًا لمقاصدهم، فمنها ما هو وقفٌ على ذرِّيّتهم، ويخصّ أعقابهم وأعقاب أعقابهم، وأعقاب أعقاب أعقابهم. ومنها ما هو وقفٌ للخير العامّ، ومنها ما يخصَّص للمجلس والخلوة.

قدسية الوقف
يعتبر الموحِّدون (الدّروز) الموقوف من المحرَّمات التي لا يجوز المسُّ بها، والتطاول عليها، لأن في ذلك إثماً كبيراً ومدعاةً لإنزال غضب الله على الفاعل. والوقف، في نظرهم، هو بحماية الله أكثر مما هو بحماية الناس، وهو تعالى يدافع عنه، ويعرِّض المعتدي عليه لعقابه السماوي إضافة إلى العقاب الأرضي. والدّروز يستشهدون في ذلك ببيوت وأُسَر انقرضت، أو افتقرت، أو تدنَّى شأنها، لأن الأجداد من أبنائها تعدَّوا على الوقف. لذا يحاذر الكثيرون الانتفاع مما يتلف من الوقف كأغصان أشجار حطّمتها العواصف أو الثلوج، ولو بمقابل ثمن، ولذا يحرص أكثر الأمناء والوكلاء والنظَّار على الأوقاف، على التقيُّد بشروط الواقف بحذافيرها وتفاصيلها، والمحافظة على عين الوقف، والعمل على زيادة ريعه وحسن توزيعه، وذلك تبرئةً للذمَّة وإراحةً للضمير وطلباً لرضا الله تعالى.

الوقف في الشَّرع والقانون
قوام الوقف في الشرع ركنان هما الحبس والتأبيد. فمتى حبس الواقف العين عن التملُّك، وأبَّد الحبس بالتقييد إلى جهة لا تنقطع أصبح الوقف مبرماً، وأضحت العين محبوسة شرعاً، ولا يمكن تحريرها من قيد الوقف ورجوعها ملكاً صرفاً كما كانت، لأن الشرع صانها للجهة الموقوفة عليها من تصرُّف الانتقال والتمليك. وبمجرد أن توقف العين للمنفعة العامة تخرج من ملكية الواقف ولا تدخل في ملكية ورثته، ولا في ملكية أحد من الناس، وتصبح في حكم ملك الله، إلاَّ أن هذا لا ينطبق على الوقف الذرّي واقعاً وقانونا.
وحكم الوقف في القانون “أنه عمل قانوني صادر عن فريق واحد، ويُدعى في اللغة إسقاطاً. وهو تامّ بمجرد صدوره عن إرادة الواقف مستوفياً الشروط، فلا حاجة لقبوله من أحد لكي يصبح صحيحاً”1. وقد اختلف الفقهاء في مختلف العصور على الشروط العشرة العامة للوقف، وهي الزيادة، والنقصان، والإدخال، والإخراج، والإعطاء، والحرمان، والتغيير، والتبديل، والبدل، والإستبدال، ويلحق بها التخصيص والتفصيل.
إن مسائل الوقف الإسلامي متشعِّبة جداً نظراً لاختلاف المذاهب والفتاوى فيها، وللاختلاف حتى في المذهب الواحد، لأنه ليس هناك نصٌّ على الوقف في القرآن الكريم. وقد ازدادت مسائل الوقف تشعُّبًا مع اختلاف الأيام والأحوال، وظلَّ الاعتماد الأوّل فيها على مصادر الشرع الإسلامي، وعلى اجتهادات الفقهاء وأعمال الخلفاء والأمراء وسابقاتهم التي بقيت بعض آثارها إلى يومنا الحاضر. ثم تجاوُباً مع مقتضيات التطبيقات العملية للأوقاف صدرت في العصور اللاحقة المختلفة قوانين وأنظمة، وقرارات ومنشورات، وتعديلات عديدة “ففي لبنان، مثلاُ، نرى إلى جانب الفقه الحنفي أنظمة عثمانية، ثم قرارات انتدابيّة فرنسية، ثم لبنانية رسمية، ثم استقلالية صادرة عن المجلس الشرعي الإسلامي”2.
كانت شؤون الوقف عند الموحِّدين (الدروز) خاضعة للشرع الإسلامي قبل أن توضع القوانين المنظِّمة له، وظلَّت تخضع له في كل ما لم تنصَّ عليه هذه القوانين. والوقفيات التي وصلت إلينا منذ القرن الخامس عشر الميلادي مصدَّقة عند قضاة الشرع الإسلامي في دمشق وبيروت، الذين كان يحقُّ لهم النظر في المسائل والنزاعات المتعلِّقة بها. وحين غدا القضاء الشرعي في جبل لبنان في عهدَي الإمارتَين: المَعنيَّة والشهابية، بأيدِي قضاة من الدروز، كان هؤلاء يحكمون في النزاعات اعتماداً على المذهب الشافعي والمذهب الحنفي في ما يتعلَّق بأهليَّة المتولِّين على الأوقاف والشروط التي يجب أن تتوافر فيهم.
تمتَّع جبل لبنان بإستقلال إداري في عهد المتصرفيَّة فانعكس هذا على وضع الموحِّدين (الدروز) القضائي، فبات عندهم قضاء مذهبي مختص بهم. وبعد أن استقلَّ لبنان صدر قانون الأحوال الشخصية المتعلِّق بهم، في 24 شباط 1948 فبات قضاتهم يحكمون بموجبه وبموجب الشرع الإسلامي في كل ما لم ينصَّ عليه ، أو تنصّ عليه قوانين القضاء المدني.
نصَّت المادة (170) من قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، على ما يلي:
“يرجع في حكم الوقف ولزومه واستبداله واستغلاله والولاية عليه وتعيين مستحقيه وتوزيع ربحه إلى صكوك الوقف أو التعامل الجاري منذ القدم، وإلى الأحكام الشرعية والقوانين النافذة”.
ونصَّت المادة (171) من القانون المذكور على ما يلي:
“في جميع المسائل الداخلة في اختصاص قاضي المذهب، والتي لم يرد عليها نصٌّ خاص في هذا القانون، يطبِّق القاضي المشار إليه أحكام الشرع الإسلامي، المذهب الحنفي، وجميع النصوص القانونية التي لا تتعارض مع الشرع الإسلامي”. وتجري تصفية الوقف الذُّرِّي بحسب المادة (27) من قانون الوقف الذُّرِّي الصادر في 10 آذار 1947، وهذه المادة تنصُّ على ما يلي:
“يفرز عند تقسيم الوقف الذُّرِّي المحض ما يقابل خمسة عشر في المائة لقاء جهة البرِّ المشروطة في الوقف والتي لولاها لما صح الوقف وتُسلَّم إلى الدائرة الوقفية المحلية لتُصرف في وجوه البرِّ العامَّة”، وتوجد أمثلة عديدة عن هذا النوع من الأوقاف.

مقام-النبي-ايوب
مقام-النبي-ايوب

الولاية على الوقف
إن الوقف شخص معنوي يحتاج إلى شخص طبيعي يمثِّله، ويرعى عينه، ويحسن استثماره للمنفعة التي وُقف من أجلها، فيشرف على أملاكه، ويتناول غلاله ويوزِّعها على المستحقين وفق شروط الواقف، وهذا الشخص الطبيعي يُسمَّى المتولِّي، كما يُسمَّى أيضاً الناظر والقيِّم والوكيل.
إن المتولِّي على الوقف هو أوَّلاً واقفه نفسه، ثم الشخص الذي يعيِّنه أو الأشخاص الذين يعيِّنهم، في حجَّة وقفِه. وقد يعيّن الواقف متولِّياً ومشرفاً، وفي هذه الحال لا يحقُّ للمتولِّي أن يتصرَّف في مال الوقف دون أخذ موافقة المشرف. وإذا مات الواقف وله وصيٌّ اختاره، قام هذا الوصي بعد موته بشؤون الوقف. ويحقُّ لكلٍّ من الوصيّ والمتولِّي أن يعيِّن خلَفًا له يدير الوقف بعد موته.
لا يجوز بقاء الوقف دون من يتدبَّر أمره في حال عدم وجود الوصي والوكيل، وفي هذه الحال تعود إدارة الوقف إلى القاضي بما له من الولاية العامَّة. وصلاحيّة القاضي في التولية أضيق من صلاحيَّة الواقف، لأنه لا يحقُّ له تولِيَة أجنبي إذا وُجد بين أقارب الواقف من يصلح للولاية، فيما يجوز ذلك للواقف.
أمَّا أهليّة الولاية على الوقف، أي الشروط التي يجب أن تتوفَّر في الوليِّ، فهي، حسبما تضمَّنَته كتب الفقهاء: أن يكون عاقلاً، أميناً، قادراً، بالغاً (راشداً) إذ لا تجوز تولية المجنون، وإنما تَولِية سليم العقل. ولا تجوز تَولِيَة الخائن، وإنما تولية المشهود له بالأمانة. ولا تجوز تولية العاجز عن القيام بشؤون الوقف، وإنما القادر المُؤهَّل للإشراف عليه، والمحافظة على عينه. ولا تجوز تولية الصغير القاصر لعدم قدرته على التمييز، وإنما تجوز تسميته على أن يتولَّى الوقف حين يبلغ سن الرشد3.
إن الأمور التي ورد ذكرها عن الولاية على الوقف، وشروطها، هي ذاتها عند الموحِّدين (الدروز). وفي وقفيّة الأمير السيد عبد الله التنوخي(ق) –وهي أقدم وقفيَّة وصلَتْنا- دليل على معظم ما ورد عن الوقف والولاية عليه، وشروطها، فقد جاء في وَقْفيّته ما يلي:
“أنشأ الواقف- أي الأمير السيد عبد الله (ق)- وقْفَه هذا على نفسه أيام حياته أبداً ما عاش، ودائماً ما بقي، لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فيه منازع، ولا يتأوَّل عليه متأوِّل، ثم من بعده لمن سيذكرهم، وهم حضرة الجناب العالي المولوي الشريفي الزعيمي الأمير سيف الدين أبي بكر، والشيخ الجليل فخر الأفاضل العالم العلاَّمة الشيخ زين الدين جبرائيل من قرية المعاصر، والشيخ الفاضل مولانا العلاَّمة عماد الدين إسماعيل من عين داره، والشيخ الرئيس الجليل الفضيل أَوْحَد المعتبرين وقدوة العارفين شرف الدين عليّ من قرية الفساقين. فجملة السادة المذكورين جعل لهم النظر في أمر وَقْفِه هذا والتكلُّم عليه والإدخال والإخراج فيه ما جعل لنفسه، ثمَّ من بعدهم جعل النظر للأرشد فالأرشد من مشايخ بلاد الغرب لا ينازعهم فيه منازع، ولا يتأوَّل عليهم متأوِّل”4.
إنَّ لِلَفظَتَي “الراشد والأرشد” –وهما من مشتقات لفظة الرشد الذي هو أحد شروط الولاية على الوقف- مدلولاً مختلفاً عند الموحِّدين (الدروز) عن سائر المسلمين، إذ إنَّ الراشد عندهم هو الرجل العاقل البالغ الدَّيِّن، أي هو المُنضمُّ إلى سلك رجال الدين، والمواظب على القيام بالواجبات الدينية مع أخوانه. والمقصود بلفظَتَي “الراشد فالأرشد” من مشايخ بلاد الغرب: البارزون من رجال الدِّين في هذه البلاد.

نهج الأمير السيد
تمشَّى الموحِّدون (الدروز) على نهج الأمير السيد(ق) في تولية البارزين من رجال الدين على الأوقاف، ذلك أنهم في نظرهم هم، على العموم، أجدر من يتحمَّل الأمانة وينفِّذ شروط الواقف. وظلَّ هذا مرعِيّاً حتى أوائل القرن العشرين حيث أخذ رجال الزمن يحلُّون مكان رجال الدِّين في الولاية على الأوقاف. وفي حال عدم وجود المتولِّي، فإن الولاية تعود إلى قاضي المذهب إلى أن صدر قانون المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز عام 1962.
إنَّ بعض متوَلِّي الأوقاف تَجاوزوا شروط الواقف، فباعُوا ورهنوا ما هو محرَّم بيعه ورهنه، وبعضهم وظَّفوا مال الأوقاف في مشاريع أثارت اعتراض رجال الدين كإنشاء عارف النكدي مثلاً، سينما في عاليه، فكان ذلك أحد اعتراضات شيخ العقل محمد أبو شقرا على إدارته للأوقاف. وإن التطور بشكل عامّ وتطوُّر حاجات الدروز بشكل خاص، فرض وضع الأوقاف في وجوه من الخير العامّ لم تكن في زمان الواقف.
كان بعض الناس يتهيَّبون التعاطي في شؤون الوقف بما في ذلك الولاية عليه، ولا يقبلون بها إلاَّ عند الضرورة، أو نزولاً عند طلب الآخرين منهم، وإلحاحهم عليهم، فيما يرى غيرهم ذلك سبيلاً إلى الشهرة والنفوذ ورفعة الشأن، ومنهم من يراه فرصة للاستفادة المادية، وهؤلاء هم الذين أساؤوا الأمانة، وسطَوا على عين الأوقاف وريعها.
إنَّ النظارة العموميّة العليا على الأوقاف هي لشيخ العقل والقاضي، ويتم إشرافهما عليها عبر الوكلاء أو المتولِّين الذين عليهم أن يعودوا إليهما ويقدِّموا كشف حساب، وأن يأخذوا الموافقة على كل إجراء يريدون القيام به كالبيع والشراء والرهن والاستبدال وقد منع القانون الأخير بيع الأوقاف. وظلَّت النظارة العامة على الأوقاف لمشيخة العقل بعد إنشاء المجلس المذهبي، ذلك أنَّ رئيس هذا المجلس هو شيخ العقل الذي من مهامّه الإشراف على عمل لجان المجلس بما في ذلك لجنة الأوقاف ومديرية الأوقاف. وقد بدأ تنظيم الإشراف على الأوقاف منذ سنة 1862، وتَتَالَى لجاناً وهيئات ومجالس ومديرين.

أنواع الوقف
الوقف، بشكل عامّ، أنواع عديدة يختلف بعضها عن بعض بحسب القصد منها، والجهة الموقوفة عليها، ووضعها القانوني، وطبيعتها المادية، ووجوه الانتفاع بها، وأصول التولية عليها، وإدارتها. والأنواع الأساسية للوقف هي، بحسب ما نصَّت عليه المواد: الأولى والثانية والثالثة من قانون الوقف الذُّرِّي الصادر في 10 آذار 1947، ما يلي:
1. الوقف الخيري: وهو ما وقَفَه أصحابه من أملاكهم وأموالهم الخاصة ليُصرف ريعه في وجوه البر والخير والإحسان، كالمساجد والمعابد، والمستشفيات والمعاهد والمدارس ودُور الأيتام والعجزة، والملاجئ والجمعيات. وهذا الوقف بمثابة مُلك لله تعالى من حين إنشائه، لا يُباع ولا يُورث ولا يُوهب ولا يُرهن ولا يُحجز وهذه الامتيازات التي يختصُّ بها تحصّنه ضد مجالات العبث فيه.
2. الوقف الذُّرِّي: وهو ما وقَفَه أصحابه من أملاكهم وأموالهم على ذرِّيّتهم. وهو وقفٌ على الذرِّيَّة، وعلى الغالب على الذكور منهم. وهو لا يصير وقفاً عاماً إلاَّ إذا انقرض المستحقون، وهذا قليلاً ما يحصل. كما أنه، بعكس الوقف الخيري، كان على الصعيد الواقعي معرَّضًا للتصفيات من ذرّيّة الواقف. وقد جاء قانون الوقف الذّرّيّ المشار إليه أعلاه يمنع تأبيده على أكثر من طبقتَين، وأجاز إعادته إلى الواقف وتمليكه وتقسيمه.
3. الوقف المشترك: هو الذي يكون بعضه خيريّاً وبعضه ذرّيّاً، أي إنه وقفٌ مشترك بين الخيري والذرّيّ، تُصرف غلّته على جهة برٍّ محدَّدة كمسجد أو معهد أو ملجأ، وما تبقَّى منها يُصرف للذرّيّة. إنه وقفٌ لم يرد ذكره في كتب الشرع، وتنطبق عليه أحكام قانون الوقف الذرّي.
أمَّا الأوقاف الدرزية، فيمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسيَّين، هما الأوقاف الخاصة، والأوقاف العامَّة.
1. الأوقاف الخاصة: ويُقال لها أيضاً الأوقاف الأهليّة، وهي قسمان: الأوقاف الذُّرِّيَّة، والأوقاف العائليَّة.
أ. الأوقاف الذّرّيّة: هي التي يوقفها المرء على ذُرِّيَّته الخاصة من ذكور وإناث، وأقدمُ ما وصل إلينا منها وقفيَّة الشيخ ناصر الدين حمدان المدوَّنة في سنة 1575 5.
ب. الأوقاف العائلية: هي التي يوقفها المرء لصالح عائلة ما بمفهومها الواسع. وهناك نوع جديد من الأوقاف العائليَّة، نشأ مؤخًَّراً،هو بيوت العائلات المخصَّصة للمناسبات العامَّة، وحكمها حكم الأوقاف العامّة، إذ تبقى مخصَّصة لمنفعة أبناء العائلة الذين أُوقِف البيت لمصلحتهم، ولمنفعة ذرياتهم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وتعود إدارة البيت إلى أشخاص أو لجنة تنفق العائلة عليهم أو عليها، أو إلى جمعية أو رابطة عائلية.
2. الأوقاف العامة: ويُقال لها أيضاً الأوقاف الخيرية، مع العلم أن جميع الأوقاف خيرية. إنها موقوفة للمنفعة العامّة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. وأنواعها البارزة أربعة، هي:
أ. الأوقاف العامَّة للطائفة الدرزية: إنها جميع الأملاك من العقارات والأبنية الموقوفة لصالح الطائفة الدرزية.
ب. الأوقاف التابعة للمقامات الدينية: وهي متعددة، والأموال التي تدخل في صناديقها هي تبرُّعات ونذورات.

• وقْف مقام النبي أيوب:النبي أيوب(ع) من الأنبياء المكرّمين عند الدروز. أُقيم له مقام على هضبة فوق بلدة نيحا (الشُّوف) متفرِّعة من جبل نيحا. حوله مساحة قليلة من الأرض. وهو ومقام النبي شعيب(ع) في فلسطين، ومقام النبي هابيل(ع) في سورية، أهم مقامات الأنبياء عند الدروز. كان دروز نيحا يتفقون على وكيل عليه، ثم بات هذا الأمر من اختصاص مشيخة العقل.
• وقْف المقام الشريف: ويقع في منطقة “شمليخ” عند بداية الطريق الذاهبة من بلدة العزُّونيَّة إلى بلدة شارون وتُشرف عليه عائلات شارون: الصايغ، والأحمدية، والبنَّا، وقد مُسح باسمها. وهي تنفق ما يتجمَّع في صندوقه من التبرُّعات والنُّذورات على تحسينه وصيانته والإشراف عليه، وعلى المساعدات الاجتماعية لأبناء شارون.
• وقْف الأمير السيد عبد الله: سنتكلم عنه لاحقًا خلال الحديث عن أقدم الأوقاف.
• وقْف الست شعوانة: إنها فتاة مؤمنة، هَرَبَت من والدها الظالم، وعاشت متستِّرة بثياب الرجال مع عُبَّاد منقطعين لعبادة الله. عُرفت حقيقتها بعد موتها، وصار الناس يضعون النُّذورات على حجارة قبرها البسيط في محلَّة “الصّعلوك” في السفح الشرقي لجبل الباروك، إلى الجنوب من بلدة قب الياس. أقام لها الشيخ ملحم قبلان كرامي مقاماً دشَّنه شيخ العقل محمد أبو شقرا في 29 أيلول 1967، واهتمَّ به في البداية الشيخ ملحم مع الشيخ خطار زهر الدين. ثم زِيد البناء، وقدَّم النائب جوزف سكاف قطعة أرض محيطة به، وجرى مؤخَّراً شراء قطعة أرض واسعة بجانبه، وهو اليوم بإشراف لجنة الأوقاف ومديريَّة الأوقاف في المجلس المذهبي.
ج. الأوقاف العامَّة لصالح القرى: وهي ما أُوقف لصالح دروز قرية من القرى المأهولة بالموحِّدين (الدروز)، ومنها مؤخَّراً بيوت القرى المشادة للمناسبات العامّة، وحكمها حكم بيوت العائلات التي جرى الحديث عنها. وأشهر الأوقاف العامة لصالح القرى:
• وقْف الست زهر أبو اللمع (1737- 1813م): هي ابنة الأمير منصور ابن الأمير مراد أبو اللمع. ظلَّت على مذهب التوحيد بعد تنصُّر أقربائها. وقفت كل ما تملكه في صليما والبقاع لعائلتَي المصري وسعيد في صليما. وقد تقاسمت هاتان العائلتان مناصفةً الأملاك الموجودة في صليما بعد زوال الأملاك في البقاع، وشُكّلت لجنة من كلٍّ منهما تضمُّ وجوه العائلة للإشراف على الوقف.
• وقف دروز بلدة المتين ويوجد وثائق تشير انه وقف مسجد المتين: هو من الأملاك التي وقفتها لصالحهم إحدى الأميرات من آل أبو اللمع، فيما وقفت شقيقتها أملاكها، الموازية في مساحتها لما وقفَتْه هي، إلى دير مار مخايل في بنابيل. ووقْف دروز بلدة المتين كان كوقْف صليما من أوسع أوقاف القرى. أُقيم عليه مؤخَّراً بناء “الخلية” المخصَّصة للمآتم، والصالة المخصَّصة للأفراح، ويتبعه عقارات موجودة في الزعرور (محلَّة الحبش).
د. الأوقاف المحدَّدة لغاية معيَّنة، مثل وقْف نبيهة وعبد الله النَّجّار للتعليم العالي.
ه. كما يوجد العديد من الوقوفات على معابد القرى.

مبنى معهد العلوم والتكنولوجيا في عبيه
مبنى معهد العلوم والتكنولوجيا في عبيه

أقدم الأوقاف العامة (وقْف الأمير السيد عبد الله)
الأمير جمال الدين عبد الله، الملقَّب بالأمير السيد (ق) ،هو من الأمراء البحتريين التنوخيين، المتسلسل في نسبه “إلى الأمير جمال الدين حجى ابن أمير الغرب التنوخي الجميهري اللخمي” حسبما جاء في وصيته. وهو أهمّ علماء وأولياء ورؤساء الموحِّدين (الدروز) الروحيِّين. وقد وقف ما يملكه بوصية أو وقْفيَّة، مؤرَّخة في 21 جمادى الآخرة من سنة 820 هـ (5 آب 1417م) مصدَّقة بحضوره من قاضي الشّرع في دمشق في 6 صفر 822 هـ (4 آذار 1419م) ومن قاضي الشرع في بيروت في شهر شوال 822 هـ (تشرين الأول 1419م)6.
وقَفَ الأمير السيد (ق) ما عنده من أبنية في بلدته عبيه، وهي الحارة تحت العين والمساكن، والحارة الكبيرة الفوقا، وأملاكه البعلية، والمروية، والمشجَّرة، وهي في مدينة “بيروت المحروسة”، ومزرعة خلدة، وعرمون، ومنطقة اليهودية التابعة حاليّاً لبشامون، وعبيه، وعين درافيل، والبون (المشرف حاليّاً)، وجسر القاضي، وبعورته، ورمطون، وكفر زبيد.
وخصّص الأمير السيد ما ورد ذكره من أوقاف إلى “الفقراء والمساكين والأرامل المنقطعين من المسلمين أهل الصلاح والعفَّة والدين، من أهالي قرايا بلاد الغرب”. أمَّا وجوه الإنفاق، فهي إطعام طعام، وتفريق خبز، وفكّ أسير، وخلاص مسجون، وعمارة سبيل، والقيام بمصالح الجوامع في بلاد الغرب، والإنفاق على الفقهاء وعلى الكتَّاب الذين “يعلِّمون الكتاب والسُّنَّة وتلاوة القرآن”. ثم خصَّ الأمير السيد في وصيَّة خاصَّة أشخاصاً محدَّدين بصدقات من ماله ومقتنياته وغلال أملاكه.
سمَّى الأمير السيد أربعة نظَّار على وقْفه، وقد تَوالى النظَّار على وقْف الأمير السيد وفْق شروطه فكانوا من الأرشد من بلاد الغرب، وحافظ الأوائل منهم على الوقف لكن من خلفوهم تهاونوا في ذلك أو عجزوا عنه، وربما امتدَّت أيادي بعضهم إليه، كما امتدَّت إليه أيادي الأمراء الشهابيِّين. وهذا موجز عنه أورده متسلِّمه عارف النكدي في مجلة الضحى:
“الوقف الذي وقفه سيدنا الأمير استولى عليه الشهابيون في جملة ما استولوا عليه من أملاك التنوخيين، أمَّا ما تسلَّمناه نحن فليس فيه شيء من الوقف الأصلي، وإنما هو يتألف:
أ. من مجموعة قطع متفرِّقة أوصى بها بعض المحسنين.
ب. مما اشتراه جدُّنا سليم بك في ولايته الطويلة على الوقف ، ومن قطعتين اشتراهما بعده جدّنا سعيد بك.
ج. مما بيَّنَّاه نحن واشتريناه بإسم هذا الوقف”7.
وفي مكان آخر يقول عارف النكدي ما يلي: “الوقف التنوخي، بالتسمية التي أطلقناها عليه مؤخَّراً، أو “وقف السيد” كما كان معروفاً من قبل، وقفٌ أنشأه الأمير السيد ونُسب إليه”. ثم يعيد النكدي ما ذكره عن استيلاء الشهابيين على هذا الوقف وعلى أملاك التنوخيين، ويضيف قائلاً: “ثم عاد بعض المحسنين، من الفقراء الأتقياء، فأوصَوا لمقام الأمير السيد، بقطع من الأرض، كانت غلَّتها، مع ما يجتمع إليه من النُّذور، تقوم على ضآلتها بنفقات المقام”8.
وفي رأينا أن عارف النكدي قلَّل من أملاك الوقف التنوخي عند إنشائه، وقلَّل منها بعد ذلك ، كما يبدو من وقوعات المجلس المذهبي المنشأ في سنة 1962.

أكبر الأوقاف العامَّة (وقْف الشيخ أحمد أمين الدين)
كان الشيخ أحمد أمين الدين (…- 1809) شيخ عقل الموحِّدين (الدروز)، وهو يعود في النسب إلى الشيخ بدر الدين حسن العنداري، شيخ مشايخ الدروز زمن الأمير فخر الدين المعني الثاني. وقد تميَّز بالتقوى وإشاعة الخير والوفاق بين الناس، ولقَّبه الأمير بشير الشهابي الثاني بـ”الشيخ الرضي”. كانت أملاكه منتشرة في تسع قرى، وقد وقَفَها كلها مع سائر ما يملك للخير العام في وصيته (وقْفيّته) المؤرَّخة في العشر الأخير من رجب سنة 1218 هـ (تشرين الأول 1803م). وجاء في هذه الوقفية أنّ ما وقَفَه هو “وقْف مؤبَّد كلما مرَّ عليه زمان أكَّده، وكلما أتى عليه عصر ثبَّته، لا يغيِّره مرور الأيام والشهور، ولا الأعوام والدهور”.
وقفَ الشيخ أحمد أمين الدين حارته (بيته) “وقفاً مثبَّتاً لأهل الخير، مستمرًّا جريانه كما هو في وجوده إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، منهلاً إلى كل من يلفي إليها من أجاويد [رجال الدين] عبيه وغيرها، غريباً أم قريباً”، على أن يكون ما فيها وقف يتبع المجلس. ووقَفَ لحارته وللمجلس وللخلوة غلالَ عقارات كثيرة، ووزَّع ماله وأملاكه وغلالها بشكل لم يسبقه أو يعقبه مثيل، إذ شكَّلت خيراً عاماً مستداماً، ولا تزال، لجميع الموحِّدين (الدروز)، وشملت حسناته ما يلي:
• القرى: عبيه- البنّيه- عين عنوب- عاليه- بعذران- الرملية- بشامون- كفرمتى- بعورته. وهي القرى التي كانت توجد أملاك الشيخ أحمد فيها.
• الخلوات: 27 خلوة.
• المجالس: 42 مجلساً.
• المقامات: (مقامان).
• مجموعات الإخوان، أي أخوان الشيخ أحمد أمين الدين من رجال الدين: 42 مجموعة.
• الأشخاص: 144 شخصاً.
سمّى الشيخ أحمد أمين الدين الوكلاء على الحارة والمجلس والخلوة والأملاك وجعل الوكلاء من نخبة رجال الدين، وأوصى أن يكون نظر الشيخ بشير جنبلاط على الوكلاء للذبِّ عنهم. فالولاية على الوقف لا ينهض بها إلاَّ القوي الأمين، وهذا بدوره يحتاج إلى نظر مقاطعجي المنطقة أو أهم مقاطعجيّي الدروز، الذي كان في زمن الشيخ أحمد قريبه الشيخ بشير جنبلاط، وهو الزمن الذي كثرت فيه مصادرة الأمراء الشهابيين لأملاك الدروز لأسباب مختلفة.
ومن المعروف أن بناء مدرسة الداودية الأساسي التي عرفت في ما بعد بـمدرسة الحكمة تمّ بناؤه من أموال وقف الشيخ أحمد أمين الدين، وضُمّت إليها أراض سجلت بإسم وقف المدرسة الداودية. كما يوجد في بلدة عبيه مقام وخلوة الشيخ أحمد أمين الدين، أما أراضي بلدة البنية فقد مُسحت في عهدة لجنة الأوقاف الحالية مشيرة إلى وصية الشيخ أحمد أمين الدين.

أوقاف خلوات البيَّاضة
تقع خلوات البيَّاضة في خراج بلدة حاصبيا، وإلى الجنوب منها، وإسمها مشتق من بياض عمائم الشيوخ الكثيرين الذين يقيمون فيها. تعود نشأتها إلى أواسط القرن الثامن عشر حين أسَّس الشيخ سيف الدين شعيب أوّل خلوة لتدريس المريدين الذين يرغبون بالإنضمام إلى سلْك رجال الدين. وقد اختار مكان الخلوة على سفح إحدى التلال البعيدة نسبيّاً عن حاصبيَّا، ليتاح له التعبُّد وتعليم المريدين بعيداً عن ضوضاء الناس، وفي أجواء السكون والهدوء. ومع الزمن صارت الخلوة خلوات، وغدت منذ أواسط القرن التاسع عشر “أشهر أماكن الدروز المقدَّسة” حسبما قال عنها الرحَّالة الأوروبي إدوار روبنصون9. وغدا عددها مؤخَّراً 52 خلوة، ذات بناء متواضع جدّاً، موزَّعة على الشكل التالي: 31 خلوة بأسماء الأشخاص المتبرِّعين بالبناء، 11 خلوة بأسماء العائلات، 3 خلوات بأسماء القرى، 7 خلوات بأسماء مناطق لبنانية وسورية وفلسطينية.
أُوقِفَت لخلوات البيَّاضة العقارات التي كثر عددها مع الزمن حتى بلغت 278 عقاراً، أكثرها ريعاً تلك التي أوقفها الشيخ أمين شمس وزوجته الست نايفة جنبلاط، ابنة الشيخ بشير جنبلاط، التي لها خلوة بإسمها. وهذه العقارات تغطِّي قسماً قليلاً من النفقات فيما تغطِّي القسمَ الأكبرَ منها نذوراتُ المؤمنين، وتبرُّعاتهم المدرجة في وصاياهم.
تَوالَى على إدارة الشؤون الدينية للخلوات سُوَّاس عديدون، وتَولَّى شيخ مسؤول الإدارة العملية الممثَّلة باستقبال الضيوف والمريدين والاهتمام بشؤونهم وإدارة الأملاك والتصرُّف بالموجودات. وتمثَّلَت الإدارة الدينية خلال عقود عدَّة بشيخ واحد، لكنها حاليّاً ممثَّلة بهيئة دينية 10 وقد استطاعت هذه الإدارة، بوحدانيتها أو بتعدديتها، تجديد نفسها بناءً على الأعراف والتقاليد، والكفاءة، وبطريقة تحفظ التوازن المطلوب.
مما ورد ذكره يظهر أنّ لخلوات البيَّاضة خصوصيَّة معيَّنة جعلَتْها تتميَّز عن سائر أماكن العبادة عند الموحِّدين (الدروز)، لذا استُثْنِيَت أوقافها من إشراف المجلس المذهبي المنشأ بموجب القانون الصادر في 13 تموز 1962، وأُبقيت بيد شيوخها، ثم استُثنِيَت في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل.
ثم استُثنِيَت أوقاف خلوات البيَّاضة في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل. واستُثنِيَت من إشراف اللجنة المعيَّنة من مقام مشيخة العقل بتاريخ 17 آب 1999، ومن إشراف مجلس أمناء الأوقاف المنشأ بموجب القانون الصادر في 18/12/1999. كما استُثنِيَت أخيراً من إشراف المجلس المذهبي ومشيخة العقل في قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006 ثم استُثنِيَت أوقاف خلوات البيَّاضة في جميع مشاريع القوانين المطروحة لإنشاء المجلس المذهبي ولانتخاب شيخ العقل، واستُثنِيَت من إشراف اللجنة المعيَّنة من مقام مشيخة العقل بتاريخ 17 آب 1999، ومن إشراف مجلس أمناء الأوقاف المنشأ بموجب القانون الصادر في 18/12/1999. كما استُثنِيَت أخيراً من إشراف المجلس المذهبي ومشيخة العقل في قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006.
الأوقاف الدرزية في بيروت
الأوقاف الدرزية في بيروت هي 11 عقاراً، مجموع مساحاتها 41.657 متر مربّع، منها عقار جعل مجلساً لدروز جبل لبنان بعد الحوادث الطائفيّة التي جرَت في سنة 1860، وهو معروف بإسم “مجلس القنطاري”. أصغر هذه العقارات عقاران، مساحة الأول 29 متراً مربّعاً، والثاني 32 متراً مربّعاً. وأكبرها عقار بقي من مساحته، التي كانت كبيرة، 36426 متراً مربَّعاً، الواقع في محلَّة “المصيطبة” رقمه 2046، وهو معروف بعدَّة أسماء هي: مقبرة الدروز، وتربة الدروز، وتلّة الدروز، ودار الطائفة الدرزية. والإسم الأخير هو المتداول حين اكتمل بناء دار الطائفة، ودُشِّن في سنة 1965، وصار مقرّاً لمشيخة العقل والمجلس المذهبي وبعض الهيئات، ومكاناً للإستقبالات والاجتماعات.
وبالرغم من صغر مساحة “تربة الدروز”، فإنها تستأهل بحثاً خاصاً يتناول كيفيّة نشوئها، والنزاعات حولها، ورمزيتها، وأهمية عقارها الذي هو اليوم أفضل العقارات في مجال الاستثمار، إضافة إلى أهمية دار الطائفة التي قامت على هذا العقار.
يلي هذا العقار عدة عقارات تعرف بإسم المدرسة المعنية مساحتها حوالي 5000 متر مربع.

إدارة الأوقاف العامَّة
الأوقاف العامّة شأن مهمّ من شؤون الموحِّدين (الدروز)، جرى الإشراف عليها بحسب الأعراف والتقاليد، كما بدأ تنظيمها منذ سنة 1862 بشكل مستقل أحياناً عن سائر الشؤون، وأحياناً أخرى في إطار تنظيم مشيخة العقل والمجلس المذهبي حيث وُضعت بإشرافهما. لقد كانت الأوقاف أحد عناوين الصراع في الأوساط الدرزية، كما كانت في الوقت نفسه أحد أسلحة هذا الصراع. ويمكن تلخيص أبرز الخطوات التنظيمية لها بما يلي:
• نظام داود باشا الموضوع في سنة 1862، وهو يتضمَّن اثني عشر بنداً تنصُّ على تغطية نفقات المدرسة الداودية، المنشأة في السنة نفسها، من إيرادات الأوقاف العمومية، وخاصة وقف الشيخ أحمد أمين الدين كما ذكرنا، باستثناء أوقاف المعابد.
• نظام رستم باشا الموضوع في سنة 1880، والمتضمِّن 37 مادة. وقد حلَّ مكان نظام داود باشا، الذي لم يفضِ إلى تسيير المدرسة الداودية والإشراف على أوقافها كما يجب.
• محاولة إنشاء مجلس ملّيّ في سنة 1921 للاهتمام بشؤون المدرسة الداودية وأوقافها، وذلك بعد تعثُّر المدرسة وإقفالها لسنوات كثيرة جرَّاء عجز ريع الأوقاف المخصَّصة لها عن تغطية نفقاتها، ومردّ ذلك إلى سوء إدارتها والإشراف عليها.
• تولّي عارف النكدي الوقف التنوخي في سنة 1921، وتوليته في سنة 1931 على الأوقّاف العامة من قبل شيخي العقل حسين حماده وحسين طليع، وقاضي المذهب الدرزي ملحم حمدان.
• إنشاء المجلس المذهبي في سنة 1962، برئاسة شيخ العقل، بموجب القانون الصادر في 13 تموز 1962، ومن صلاحياته الإشراف على الأوقاف باستثناء أوقاف خلوات البيَّاضة، وهو يتضمَّن لجنة للأوقاف ومديراً عاماً لهذه الأوقاف، لكن هذا المجلس الذي كان مطلباً لعارف النكدي من أجل إراحته من مهمّة الولاية على الأوقاف، دخل مع النكدي نفسه في نزاع حول إدارة الأوقاف وحول ملكيّة بعضها.
• إدارة خالد جنبلاط للأوقاف لسنتين زمن عمل المجلس المذهبي، بعد المُديرَين محمود أبو خزام ومحمود خليل صعب، واستمراره في إدارتها، بعد انحلال المجلس المذهبي في سنة 1970، حتى وفاته في سنة 1992. ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو إنشاؤه قبل وفاته بخمسة أيام لجنة لتدير الأوقاف من بعده، لكن هذه اللجنة لم تمارس عملها بسبب المعارضة لإنشائها.
• اللجنة المؤقَّتة المشكَّلة في سنة 1994 بقرار من محكمة بيروت المذهبية، للحلول مكان دائرة الأوقاف التي كان يرأسها سلمان عبد الخالق، بعد حصول النزاع بينه وبين القائم مقام شيخ العقل الشيخ بهجت غيث.
• إدارة سلمان عبد الخالق للأوقاف بعد وفاة خالد جنبلاط، بصفته أكبر موظَّف في دائرة الأوقاف، واستمراره في ذلك حتى سنة 1994، ثم إدارته لها من سنة 1995 إلى سنة 1999 بصفته مكلَّفاً من رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري بتسيير شؤون مشيخة العقل والأوقاف، وذلك بعد عزل الحريري القائم مقام شيخ العقل الشيخ بهجت غيث عن تسلُّم هذَين الشأنين بموجب القرار الرقم 69/95 بتاريخ 25/10/1995. واستمر بإدارة العديد من أوقاف قضاء عاليه حتى انتخاب المجلس المذهبي عام 2006.
• اللجنة المؤقَّتة المشكَّلة في سنة 1999 بقرار من الشيخ بهجت غيث.
• مجلس أمناء الأوقاف المنشأ في سنة 1999 بموجب المرسوم الرقم 1767 بتاريخ 25/10/1999 بناءً على القانون الرقم 127.
• لجنة الأوقاف ومديريّة الأوقاف المشكَّلتان بموجب قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين (الدروز) الصادر في 9/6/2006. وقد تسلَّمَت الأكثرية الساحقة من الأوقاف التي يجب أن تكون بإشرافها.
ومما يجدر ذكره هنا هو أنَّ بعض هيئات الإشراف على الأوقاف هي من نتائج انقسام الدروز حول تنظيم شؤونهم وإدارتها، وأفضل مثال يُعطَى عن ذلك هو إنشاء الإدارة المزدوجة للأوقاف في سنة 1999، والممثَّلة باللجنة المؤقَّتة وبمجلس أمناء الأوقاف. وقد أضاع انقسام الدروز حول تنظيم شؤونهم ومنها الأوقاف الكثير من الفوائد، وكانت خسائرهم تلك كخسائرهم من عدم تنظيم شؤونهم، وخسائرهم من غياب الإشراف الفعَّال على أوقافهم الذي أضاع عليهم بعض مساحاتها وبعض إيراداتها.

أحراج-جسر-القاضي-جزء-من-الإرث-الغني-للأوقاف-الدرزية1
أحراج-جسر-القاضي-جزء-من-الإرث-الغني-للأوقاف-الدرزية1

إحصاء الأوقاف العامَّة
إحصاء الأوقاف حتى سنة 2006: إنَّ أولى المقاربات لعدد عقارات الأوقاف العامّة حصلَت من خلال مقاربة عدد القرى التي توجد فيها، وجاءت في دفاتر ناظر أوقاف المدرسة الداودية: ملحم تقي الدين، ثم في بيانات متولِّي الأوقاف العامة: عارف النكدي.
وعندما تسلَّم الشيخ محمد أبو شقرا مشيخة العقل في صيف 1949 كلَّف المسؤول عن مكتب مشيخة العقل، الشيخ أبو علي سليمان تاج الدين، بتفقُّد المعابد والأوقاف في القرى لجمع المعلومات عنها، وعمَّم بياناً بتسهيل مهمته التي تنحصر بالإطِّلاع والدرس والإحصاء فقط. وأرسل ونظيره الشيخ محمد عبد الصمد رسالة بتاريخ 19/11/1951 إلى قاضي المذهب، الشيخ علي زاكي، يطلبان فيها إحصاء الأوقاف في قضاء راشيَّا وضبطها، وتسليمها لمن يرى أنهم من أهل الأمانة والاستحقاق، بعد أن كثرت الشكاوى الواردة إليهما من قضاء راشيَّا عن الأوقاف11.
وبدأت مجلة “الضحى” بدءاً بعدد تموز 1970، وبتوجيه من الشيخ محمد أبو شقرا، نشر بعض أرقام عقارات الأوقاف الدرزية، في ضوء المعلومات المتوافرة عنها، إضافة إلى ما جرى نشره قبل ذلك وبعده من أرقام عقارات متنازع عليها بين المجلس المذهبي وعارف النكدي.
بعد تكليفها في آب 1999، قامت اللجنة المؤقَّتة للإشراف على الأوقاف بإحصاء سريع لها، أوردتْه في كتيِّب صدر عنها في سنة 2000، وأعادت طبعه في سنة 2005 بعد إضافة عقارات ومعلومات جديدة، وهو يتضمَّن أرقام العقارات وأماكنها، موزَّعة بحسب القرى والمحافظات المأهولة بالموحِّدين (الدروز) كما يتضمَّن جدولاً عاماً بها، وقد بلغ عددها 940 عقاراً، وهو دون العدد الحقيقي.
إحصاء الأوقاف في سنة 2015: أجرت لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي، المنتخب بموجب قانون سنة 2006، إحصاءً لعقارات الأوقاف نشرتْه في كتاب بعنوان “أوقاف الموحِّدين الدروز. واقع وحقيقة 2015”. وقد بلغ عدد العقارات في المحفظة الوقفيّة، باستثناء عقارات أوقاف خلوات البيَّاضة وعقارات قليلة لأوقاف غيرها، 1173 عقاراً، موزَّعة على الأقضية والقرى، مع ذكر أرقام العقارات، ومساحة معظمها، الحقيقية أو التقريبية، ومشتملاتها، وإيجاراتها، ونوع استثمارها، والإشكاليَّات حولها، كالنزاعات والدعاوى مثلاً، وذلك بناءً على الواقع وعلى القيود الرسمية والأوراق الثبوتيّة.
إنَّ الإحصاء المذكور هو أيضاً إحصاء غير نهائي، بدليل القول في نهاية كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز”: إنه إحصاء أوَّلي. وهو يشتمل على نوعين من الأوقاف، أولهما أوقاف القرى والعائلات والمعابد والمزارات والمجالس، وعددها 796 عقاراً موجوداً في 73 بلدة وقرية من البلدات والقرى المأهولة بالموحِّدين (الدروز)، وللجنة الأوقاف ومديريّة الأوقاف الإشراف عليها فقط، وثانيهما أوقاف بإدارة لجنة الأوقاف ومديرية الأوقاف ، وعددها 377 عقاراً موجوداً في مدينة بيروت وعشر بلدات فقط، بحسب ما يظهر في الجدول التالي12:

يتبيَّن من الجدول المذكور، الذي يضيء على ثروة الأوقاف وأماكنها، أنّ بلدة البنّيه هي الأولى بعدد عقارات الأوقاف وبمساحاتها، تليها بالعدد والمساحة بلدة عبيه، وتليهما بالمساحة بلدة كفرمتى فبلدة بعورته، والسبب عائد إلى أنَّ الأملاك التي أوقفها الأمير السيد (ق)، المعروفة بالوقف التنوخي، والأملاك التي أوقفها الشيخ أحمد أمين الدين، والمعروفة بوقف المدرسة الداودية، موجودة بأكثريّتها الساحقة في البلدات المذكورة، كما سيتبيَّن لنا من خلال الحديث عن ثروة الأوقاف أنّ ثروة عقارات بيروت هي الأكبر.

ثروة الأوقاف
إن ثروة الأوقاف تختلف من زمن إلى آخر باختلاف الأسعار، واختلاف طرق الاستثمار، وهي لا تتعلَّق بأعداد العقارات وبمساحاتها بقدر ما تتعلَّق بمواقعها، وبمشتملاتها وخصوصاً الأبنية، وبإيرادات إيجارها واستثمارها التي تختلف بين عقود قديمة وعقود جديدة، وبين عقود قصيرة الأمد وعقود طويلة الأمد، كما تتعلَّق بنوع الاستثمار فيها وبوجوهه التي تختلف من سكنية إلى تجارية إلى صناعية إلى زراعية، فريع الأوقاف التي كانت تُستثمر في الزراعة سابقاً هو أفضل بكثير من استثمارها في هذا القطاع حاليّاً، وهي –أي ثروة الأوقاف- تتعلَّق أخيراً بضبط الموارد وعدم التطاول عليها.
جاء في دراسة عن أوقاف المدرسة الداودية، بناءً على دفاتر المحاسبة بين سنتَي 1873 و1889 “أنه يتبيَّن أنّ الأموال الأميرية المدفوعة عن أملاك هذه الأوقاف، كانت قيمتها من حيث المساحة الإنتاجية التقديرية تقارب دراهم أراضي وأملاك البطريركية المارونية خلال فترة عهد المتصرفية والبالغة حوالي 209 دراهم و17 قيراطاً وحبتين، وقد فاقتها في سنة 1880 بحوالي 10 دراهم و16 قيراطاً و8 حبَّات، فوصلت –أي دراهم إنتاج الأراضي الزراعية والمغالق التابعة لأوقاف المدرسة الداودية- إلى 220 درهماً و9 قراريط و10 حبَّات”13.
كان هذا التقدير في زمن انتعاش المدرسة الداودية، وفي زمن استغلال الأوقاف المخصَّصة لها في وجوه الزراعة، وفي زمن كانت فيه المغالق تدرُّ الأرباح، وقد تغيَّر هذا الوضع مع ضعف مردود القطاع الزراعي منذ عهد الانتداب، وانتعاش القطاعين: الصناعي والتجاري، ومع نزوح السكان من الأرياف إلى المدن واشتداد الهجرة إلى الخارج.
ظهر الدروز منذ أواخر القرن التاسع عشر أقل وقفاً من مُساكنيهم المسيحيين في جبل لبنان. فقد كانت أوقاف المسيحيين 25% من مساحة الجبل في أوائل الربع الأوَّل من القرن العشرين14، وبلغت نسبة أوقافهم 26% من مساحة لبنان. فأين هي مساحة أوقاف الدروز من المساحة المذكورة، وممَّ كانوا يملكون؟ إنها لا تبلغ مساحة أوقاف بضعة أديرة من أديرة الرهبانيات المارونية التي بلغت في أواسط القرن التاسع عشر 80 ديراً تمتلك في الفترة نفسها ربع مساحة جبل لبنان بحسب تقدير مبالغ فيه بعض الشيء فيما كانت لا تمتلك شيئاً عند تأسيسها في سنة 1700 15، مع العلم أن نشأة الأوقاف الدرزية تعود إلى ما قبل ذلك بكثير.
وإذا انتقلنا من الزمن الذي غابت فيه الإحصاءات الدقيقة والشاملة لعقارات الأوقاف والبيانات الصحيحة عن المداخيل والمصاريف، وصعُب فيه تقدير الثروة الواقعية والريع الحقيقي، إلى زمننا اليوم حيث أظهر الإحصاء الدقيق الذي أجرته لجنة الأوقاف مؤخَّراً عدد العقارات، وأظهرت البيانات المالية ريع الأوقاف، تتبيَّن لنا ثروة الأوقاف الحقيقية والواقعية، كما يتبيَّن لنا أن الدروز حاليًّا هم أيًًا أقلُّ الطوائف الدينية الرئيسة في ملكيّة الأوقاف وأقلُّها استفادةً منها.
إن عدد أوقاف القرى والعائلات والمقامات والمزارات والخلوات والمجالس هو 796 عقاراً، إيراداتها_ باستثناء القليل منها كالمقامات الشهيرة ومنها مقام النبي أيوب مثلاً_ هي إمَّا معدومة، وإمَّا قليلة بالنسبة إلى مساحتها، إذ من العقارات ما هو مدفن عام، أو خلوة، أو مجلس، أو بناء صغير جدّاً، أو بيت خرب، أو بركة ماء جمع، أو شجرة جوز، أو شجرة زيتون، أو شجرة تين، أو بضعة أغراس من الكرمة، إضافة إلى أن هذه العقارات موجودة في المناطق الجبلية، ومستثمرة في الزراعة، أو هي أراضٍ بُور وسليخ كالعقارات الثلاثة الموجودة في بلدة المتين، والتي هي أكبر عقارات أوقاف القرى، وأكبرها مساحته 55080 متراً مربَّعاً وهو مستَغلٌّ في الزراعة، وثانيها مساحته 53280 متراً مربَّعاً وهو أرض سليخ وبُور، وثالثها مساحته 44680 متراً مربَّعاً، وهو مستغَلٌّ في الزراعة.

عقارات بيروت
إن ثروة الأوقاف، المعوَّل عليها، هي الثروة الكامنة حاليّاً في الأوقاف المستثمرة أو التي معظمها قابل للاستثمار في الوجوه السكنيّة والتجاريّة. وتأتي عقارات مدينة بيروت القليلة العدد والصغيرة المساحة، في المرتبة الأولى ثمناً واستثماراً، وأوّلها العقار الرقم 2046 المعروف حالياً بدار الطائفة الدرزية، إذ تبلغ مساحته 36426 متراً مربَّعاً، وهو يقوم في وسط المدينة، وعلى تخوم منطقة فردان المصنَّفة حاليًّا أفضل المناطق التجارية في لبنان. إنَّ جزءاً صغيراً من هذا العقار أفضل في الوقت الحاضر وأجدى –من حيث الريع_من عقارٍ في كفرمتَّى مساحته 170000 متر مربَّع، هو قطعة أرض سليخ مشجَّرة صنوبراً وأشجاراً برِّيَّة، ضمنها أتونان، ومردودها السنوي الذي هو خمسة ملايين ليرة أقلُّ بكثير من إيجار شهر لمحلٍّ من محالّ العقار الرقم 2046، الواقعة على الشارع العامّ في الاستثمار الجديد.
وإن مجمل الإيرادات المتوقَّعة في ميزانيّة أملاك أوقاف بلدة البنَّيه، التي هي أكبر العقارات المستثمرة (729396 متراً مربَّعاً تقريباً) “تقارب خمسة وستين مليون ليرة سنويّاً”16 وهذا المبلغ يوازي فقط جزءاً قليلاً لا يُذكر من إيراد العقار الرقم 2046 المارّ ذكره بعد تطويره.
لم يبقَ من إيرادات الأوقاف المتواضعة، الواردة في جداول لجنة الأوقاف حتى سنة 2015، سوى نصف مليار ليرة هي مال احتياط غير تشغيلي، مودع في المصارف كأمانة. وبناءً على ذلك، وعلى ما ورد ذكره سابقاً، تظهر ثروة الأوقاف مختلفةً عن صورتها المزعومة عن جهلٍ أو عن تغرّض ضد متسلّميها، أو صورتها البرَّاقة المرسومة في أذهان الموحِّدين (الدروز) التي تظهرها غنيَّة.

المدينة أو البلدة عدد العقارات مساحة العقارات
(بالمتر المربع)

مساحة العقارات
(بالمتر المربع)
عدد العقارات المدينة أو البلدة
41657  11 بيروت
 53787 42 عاليه
 26936 14 الشويفات
 223535  14 بعورته
 363695  62 عبيه
348880 26 كفرمتى
 729396  164 البنّيه
230  1 عيناب
 78351 23 العبادية
222219 19 حاصبيّا
34896  1 راشيا الوادي
 2123582 مترا مربَّعًا 377 عقارًا المجموع

الواقع
مرَّت أوقاف الموحِّدين (الدروز) في مراحل جرَى التقيُّد خلالها بشروط الواقف من حيث التَّوليَة ووجوه الانتفاع، وبالأعراف والتقاليد، وقُيِّض لها مَن أَحسَن الإشراف عليها، وضبَط وارداتها وثمَّرَها، وحافظ على عينها، ومنع التعدِّي عليها، وحصَّل حقوقها. ومقابل ذلك مرَّت منذ القرن التاسع عشر في مراحل عدّة من الفوضى والتسيُّب والإهمال، مما أدَّى إلى هدْر ريعها والتطاول عليها وضياع فرص استثمارها وتحقيق الفوائد المرجوَّة منها، وكانت غالبًا في عهدة مسؤولين ضعفاء لم يستطيعوا الحفاظ عليها وضبْط وارداتها، أو مسؤولين أدخلوها في إطار المحسوبيّات والمحاصصات، أو مسؤولين غير محصَّنين في غياب الرقابة والمحاسبة فغلبت عندهم الأطماع والمصالح الشخصية على المصالح العامَّة، وتعدَّوا على عين الوقف وريعه، وضربوا بعُرض الحائط ما له من قداسة.
ودخلت الأوقاف منذ سنة 1962 مرحلة التنظيم القانوني، وآخرها قانون تنظيم شؤون طائفة الموحِّدين الدروز، الصادر في سنة 2006، وجرى إحصاؤها، وتسلَّم أكثرها، ووُضعت بإدارة لجنة الأوقاف وتحت إشراف المجلس المذهبي الذي يرأسه شيخ العقل، والذي يضمُّ قادة الدروز. لذا يمكن القول إنها دخلت مرحلة التنظيم المؤسَّساتي، ومرحلة الضمانة الأكيدة والموثوقة، التي يؤمّل فيها حُسن الإشراف وحسن الاستغلال، ومرحلة إيجاد الثقة الكاملة، وتوطيدها بين المسؤولين عن الأوقاف وجمهور الموحِّدين الدروز، بحيث تنتهي الإشكاليات والشكوك والشكاوى التي لطالما كثرت حول الأوقاف، وخصوصاً أنّ قانون 2006، وبعكس القوانين السابقة التي تناولت شؤون الموحِّدين (الدروز)، منَع بيع أو شراء أو رهن جميع أو بعض الأوقاف، وأخضَع الاستبدال والإيجار والاستثمار لموافقة المجلس المذهبي، وبشروط معيَّنة. وقد شاء واضِعُو قانون 2006 ذلك ليدحضوا اتهامات معارضيهم، وليزيلوا الشكوك، وليطمئنوا جميع الدروز إلى وضع أوقافهم من سنة 2006 وصاعداً.
جاء في رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الشيخ نعيم حسن، الواردة في أوَّل كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز. واقع وحقيقة 2015” الصادر عن لجنة الأوقاف برئاسة القاضي عباس الحلبي ما يلي: “نحن بدورنا نستطلع المؤشِّرات التي يمكن استخلاصها بعد مراجعة مضامين الكتاب لنقف بموضوعيّة وواقعيَّة على مآلات هذا المسار، أعني تقييم القدر الصحيح لقدرتنا على التأسيس القانوني السليم لكل نشاط وقفي بهدف العبور من مرحلة “المشاع” المجهول إلى مرحلة البناء في ضوء النهار التي من شأنها إدخال كل ما هو موقوف لدى الطائفة للخير العامّ إلى حيِّز الإنتاجيّة الكبرى التي تعود ثمارها بالنفع على كل مستحقٍّ وفق الأصول”.

المرتجى
لقد أظهرَت الإحصاءات بأرقامها الدقيقة أنَّ الأمر لا يتعلَّق فقط بريع الأوقاف، ولا بتحسينه من خلال حسن إدارتها وتثميرها، بل يتعلَّق أيضاً بحجم عينها ونوعها، وبعدد عقاراتها ومواقعها، وهذا ما يضع الدروز أمام التحدِّيَين التاليَيْن: زيادة العين وزيادة الريع. لقد استغلَّ الدروز مجموعةً من الأوقاف الخيريّة العامّة هي جزء قليل مما كانوا يملكون، فما هو المرتجى منهم في ظلِّ واقعهم وواقع الأوقاف اليوم؟ وهل يستطيعون زيادة عينها من القليل الذي بقي لهم بعد أن فرَّطُوا بالممتلكات الكثيرة ساحلاً وجبلاً، وغَدَوا أقلَّ الطوائف الدينية الرئيسة وقْفاً، وبعد أن تجزَّأ ما تبقى من ملكيات مقاطعجيهم الكبيرة عبر الأجيال المتعاقبة؟! ومما لا شك فيه أنه يبقى هناك مجال لزيادة ملكيات الأوقاف، ومجال أوسع في تقديم الخدمات التي تقوم بها ، وفي التخفيف عن كاهلها بعض الأعباء.
من الأمثلة البارزة على المساهمة في زيادة عين الأوقاف تبرُّع الزعيم وليد جنبلاط بمبلغ ثمانمائة ألف دولار أميركي، وجمعية التضامن الخيري الدرزي في بيروت بمبلغ مائتي ألف دولار، للمساهمة مع المجلس المذهبي في شراء العقار الرقم (18) في منطقة “المصيطبة” لإنشاء المركز المخصَّص لإقامة الطالبات الجامعيَّات الدرزيّات، كذلك تبرع وليد بك جنبلاط بأرض في مدينة الشويفات أنشأت عليها “جمعية الغد للتنمية والإسكان” المنبثقة عن المجلس المذهبي أربعة أبنية سكنية تحتوي على أربع وستين شقة سكنية وبدأت عملية تسويق وحداتها بطريقة التقسيط. ومن الأمثلة البارزة على المساهمة في تحسين وصيانة أبنية الأوقاف ما قام به السيد عدنان سليم الحلبي من إنجاز أعمال إعادة تأهيل وتجهيز مقام الأمير السيد عبد الله (ق)، وما قام به بعض أصحاب الأريحية بمبادرة من رئيس اللجنة الاغترابية في المجلس المذهبي الشيخ كميل سري الدين من إعادة تأهيل قاعات وغرف مبنى دار الطائفة الدرزية، وما يقوم به مجلس أمناء مجلة “الضحى” التي تصدر عن المجلس المذهبي، حيث يقوم منذ ست سنوات بتمويل إصدارها.

1.دار-الطائفة-في-فردان-أحد-أهم-إنجازات-الشيخ-محمد-أبو-شقرا
1.دار-الطائفة-في-فردان-أحد-أهم-إنجازات-الشيخ-محمد-أبو-شقرا

إنَّ ما يمكن أن يقوم به أغنياء الدروز في ما يتعلَّق بالأوقاف هو وقف عقار أو أكثر من العقارات الكثيرة التي يمتلكونها لتُوضع في سبيل الخير العامّ، أسوةً بالواقفين الأقدمين الذين درَّت ممتلكاتهم الموقوفة المنافع العامّة خلال عقود عديدة، ولا تزال تدرُّ هذه المنافع حتى اليوم.
كما إنَّ ما يمكن أن يقوم به أغنياء الدروز أيضًا هو المساهمة في الوقف المالي كبديلٍ عن الوقف العيْني، وذلك بالتبرُّع لمصلحة الأوقاف، أو بتزكية أموالهم من خلال دفع نسبة معيَّنة منها إلى أيّ صندوق مالي يقدِّم الخدمات من ريع أمواله لا من أصولها، كالصندوق الذي تأسَّس منذ بضع سنوات من قبل مجموعة من رجال الأعمال والمتبرعين الدروز تحت اسم “شبكة الأمان” والذي يُرجى دعمه وتفعيله لتزيد أمواله وتزيد خدماته.

الهوامش

1. سليم حريز: الوقف، دراسات وأبحاث، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1994، ص7.
2. صبحي المحمصاني: مقدمة كتاب عبد الرحمن الحوت: الأوقاف الإسلامية في لبنان، ص9.
3. للمزيد من المعلومات عن الولاية على الوقف وشروطها، انظر: سليم حريز: الوقف .. ص131- 148.
4. نصُّ وقفيّة الأمير السيد (ق).
5. انظر عن هذه الوقفيّة: مقالتنا في مجلة “الضحى” بعنوان: آل حمدان في تاريخ جبل لبنان، العدد 17، ص13- 14.
6. انظر نصّ الوقفيَّة والتصديق عليها: فرحان العريضي: مناقب الأعيان، الجزء الثاني، ص354- 377.
7. مقالة عارف النكدي بعنوان “من أين للأوقاف هذا؟” منشورة في مجلة “الضحى” عدد تشرين الثاني 1959، ص275 (هامش رقم 2).
8. البيان الثلاثون (سنة 1961) نشره عارف النكدي في مجلة “الضحى” عدد كانون الأول 1961، ص371- 372.
9. إدوار روبنصون: يوميات في لبنان، ترجمة أسد شيخاني، منشورات وزارة التربية في لبنان 1949، الجزء الأول، ص242.
10. للمزيد من المعلومات عن خلوات البيَّاضة انظر غالب سليقة: تاريخ حاصبيَّا وما إليها، طبعة 1996، ص252- 262.
11. رسالة الشيخ محمد أبو شقرا والشيخ محمد عبد الصمد.
12. استنتجنا الجدول من كتاب “أوقاف الموحِّدين الدروز 2015”، ص58- 79. وهو كتاب أصدره المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدروز. لجنة الأوقاف.
13. سليمان تقي الدين وآخرون: دراسات في تاريخ الشوف … ص427.
14. محمد كرد علي: خطط الشام، دار العلم للملايين، بيروت 1969، المجلد الخامس، ص100.
15. إيليا حريق: التحوُّل السياسي في تاريخ لبنان الحديث، الأهليّة للنشر والتوزيع، بيروت 1982، ص87- 88.
16. أوقاف الموحِّدين الدروز 2015، مرجع مذكور سابقًا، ص16.

الإمام جعفر الصادق

تمكن في ظل مناخ التسامح العباسي من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء

عالِمُ الأمّةِ وحُجَّة الدّين

الإمامُ جعفرٌ الصّادق

من أوضح كراماته اجتماع المسلمين سُنّة وشيعة على إجلاله
والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ

كرّس حياته كلها للعلم ونأى بنفسه عن خلافات زمانه
وتجنب أهل السلطان رغم سعيهم للتقرّب منه وكسب ودّه

كتب إليه المنصور : لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!” فأجابه :
ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له

من أوضح كرامات الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه اجتماع المسملين جميعاً سُنّة وشيعة على إجلاله والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره الكبير في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ وصياغة قواعده وأحكامه، ويكفي القول إنّ اثنين من مؤسسي المذاهب الفقهيّة لأهل السّنة وهما الإمام أبي حنيفة النّعمان ومالك بن أنس حضرا مجلسه في المدينة المنوّرة وكانا من بين المتابعين لحلقته ودروسه، وبينما اعتبره الشّيعة الإماميّة أو الإثنا عشريّة سادس الأئمة المعصومين، فقد أفاض علماء السنّة والتفسير والسِّيَر في الإشادة بعلمه الوافر وبزهده وحكمته وحجّته البليغة، ولم يختلف حوله مسلمون طيلة العصور باستثناء ما كتبه بعض شيوخ المذهب الوهّابي المتزمّتين ممّا لا يبدّل في شيء من الإجماع الإسلاميّ حول هذا الإمام العَلَم الجليل من مشارق الأرض إلى مغاربها.

برز الإمام الصّادق ولمع اسمه في الآفاق في وقت عصيب كان قد شهد انتقال الملك من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسية التي استفادت من دعم الحركات الشّيعيّة للفوز بالملك وبمؤسّسة الخلافة قبل أن تبدّل مواقفها إلى محاربة تلك الحركات بعد أن وجدت فيها وفي انتسابها إلى آل البيت خطراً يهدّدها، لكنّ الإمام حرص مع ذلك على اجتناب الدخول في خلافات المسلمين والابتعاد في الوقت نفسه عن أهل السلطان وهذا رغم سعي الحكّام في العهدين الأمويّ والعبّاسي إلى التقرّب منه وكسب ودّه، وهو دعا في أجواء الاحتقان والخلاف للحفاظ على الوحدة ونبذ الفتن والاحتراب وأظهر حكمة بعيدة وصبراً وجلداً على ما ناله من ظلم الحكام اضطهاداً وسجناً دون سبب سوى الخَشية من مكانته وتهافت الناس من كافة الأقطار لأخذ العلم والسّلوك على يديه.

المدينة المنورة حيث ولد الإمام جعفر الصادق (ر) وعاش وتوفي
المدينة المنورة حيث ولد الإمام جعفر الصادق (ر) وعاش وتوفي

زمانه
يعتبر زمن الإمام جعفر الصادق عصراً مفصليًّا في تاريخ الإسلام والمسلمين، زمنٌ اتّسعت فيه رقعة الدّولة الإسلاميّة من المحيط الأطلسيّ حتى تخوم الصّين وتدفّقت بسبب ذلك الثّروات والأموال وبرزت معالم الثّروة والجاه في كلّ مكان، وبرغم استمرار الدّولة الإسلاميّة في “جهاد التّوسع” الجغرافيّ وصدّ التهديدات على الدّولة الفتيّة فإنّ السّمة العامّة كانت قد أصبحت منذ ظهور الانقسام حول الخلافة نزاعات سياسيّة وفتن لا تنتهي، لكن على صعيد آخر كان الإسلام يشهد توطيد أركانه كرسالة خاتمة عبر نشاط هائل في حفظ القرآن الكريم وتدوين السّيرة والأحاديث وإطلاق حركة التّدوين والنّقل والتّرجمة والاجتهاد في مختلف الأصول والفروع، وفي هذه البيئة الشديدة الحيويّة كان الإمام الصادق طيلة حياته بمثابة المحور الجامع لتلك الحركة المباركة وقطبها وقد كان أعلم علماء المدينة المنوّرة، لكنّه كان في الوقت نفسه أكثرهم تواضعاً وتراحماً وتلاحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة بشكل فطريّ، فكان يصدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه. وينقل الإمام الذّهبيّ في كتابه سير أعلام النبلاء عن عمرو بن أبي المقدام قوله “كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبييّن”.
إلى جانب علومه الدينيَّة، كان جعفر الصادق عالماً فذّاً في ميادين علوم وضعيّة عديدة، مثل: الرّياضيَّات، والفلسفة، وعلم الفلك، والخيمياء والكيمياء، وغيرها. وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أشهر كيميائيٍّ عند المسلمين هو أبو موسى جابر بن حيَّان المُلقّب بأبي الكيمياء. كما حضر مجالسه الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وقد نقل الأخير 12 حديثاً عن جعفر الصّادق في مؤلفه الشّهير “المُوطّأ”، بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسّس مذهب المعتزلة، وأخذ عنه أيضا ابن جريج وشُعبة والسفيانان ووهيب وحاتم بن إسماعيل ويحيى القطّان وخلق كثير غيرهم. وروى له مُسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة. وكان الصّادق حريصاً على أن تستفيد الأجيال من علمه الغزير، فكان يحثّ الناس على العلم والتعلّم والاستفادة من العلماء بقوله “سَلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي”.

غزارة علمه وفقهه
سُئل الإمام أبو حنيفة عن أفْقَهِ من رأى فقال: ما رأيت أحدًا أفقهَ من جعفر بن محمد؛ وذكر الإمام أبو حنيفة في هذا السياق أنّ الخليفة أبو جعفر المنصور لما قدم الحيرة بعث إليه فقال: “يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيِّئ له من مسائلك الصّعاب”، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلَّمت وأُذِنَ لي فجلست ثم التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة قد أتانا، فقال المنصور: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.”

من أقوله البليغة

يقول الإمام جعفر الصّادق (ر):
• إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتمّ فإنّه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها.
• إيّاكم والخصومة في الدّين فإنّها تشغل القلب وتورث النّفاق.
• الصلاة قربان كلّ تقي، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصّيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرّزق بالصّدَقة، وحصّنوا أموالكم بالزّكاة، وما عال من اقتصد، والتّقدير نِصف العيش وقلّة العيال من اليسارين.
• من أحزن والديه فقد عقّهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مُصيبة فقد حبط أجره، والصّنيعة لا تكون صنيعة لا عند ذي حسب أو دين.
• الله يُنزل الصبر على قدر المُصيبة، ويُنزل الرزق على قدر المُؤنة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذّر معيشته حرمه الله.
• أول حدود الصّداقة أن تكون سريرة الصّديق وعلانيّته لك سواء. والثّانية أن يرى شينك شَينه وزينك زَينه، و الثالثة لا يغيره مال ولا ولاية، والرّابعة لا يمنعك شيئًا تناله يدُه والخامسة وهي تجمع هذه الخصال وهي أنْ لا يُسلمك عند النّكبات.

نسبه
هو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد سُمي باسم “جعفر” تيمّناً بجده جعفر الطيّار الذي كان من أوائل شهداء الإسلام1. كُني جعفر الصادق بعدة كِنى منها: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى. ولُقّب بالصّادق، والفاضل، والطّاهر، والقائم، والكامل، والمُنجي.
والدة أبيه محمد الباقر هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.
والدته هي: أمّ فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق. أمَّا والدة أمّه فهي: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدّيق.
وقد اجتمعت في نسبه خصائص ميَّزته عن غيره كما قال الأستاذ عبد الحليم الجندي: “فجعفر قد ولده النبي مرّتين. وعليّ مرتين، والصدّيق مرتين، ليدلّ بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده”
وُلد جعفر الصادق في المدينة المنورة بتاريخ 24 أبريل سنة702م، الموافق فيه 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة. وقد وُصف الصّادق بأنّه مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض الوجه، أزهر، له لمعان كأنه السّراج، أسود الشعر، جَعِده أشمّ الأنف قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهراً، وعلى خده خال أسود2 .

تبوِّئه للإمامة
والده الإمام محمد الباقر خامس الأئمّة عند الشّيعة الإماميّة، وقد اتّخذ من ولده جعفر وزيراً، واعتمده في مهمّات أموره، في المدينة وفي سفره إلى الحجّ، وإلى الشام عندما استدعاه الخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك لأنّه كان أنْبَهَ إخوته ذِكراً، وأعظمهم قَدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة3 فكان أبوه الباقر مُعجباً به، ونُقل عنه أنّه قال: “إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبه خَلْقِه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلْقي وخُلُقي وشمائلي”. وعند أهل السّنّة والجماعة أن جعفر الصادق كان يُدافع عن الخلفاء الراشدين السابقين لعليّ بن أبي طالب، ويمقت الذين يتعرّضون لأبي بكر (جدّه لأمِّه) ظاهراً وباطناً ويغضب منهم.
آلت الإمامة، وفق مذهب الشّيعة الإماميّة، إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربيعه الرابع والثلاثين (34 سنة)، وذلك بعد أن توفّي والده مسموماً (وفق بعض المصادر مثل كتاب “الفصول المهمة “لابن الصباغ المالكي) وكان ذلك في ملك هشام بن عبد الملك، وتشير المصادر إلى أن الأخير كان وراء سمّ الباقر4. وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصّادق قال: “قال لي أبي ذات يوم في مرضه: “يا بنيّ أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم”، فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: “يا جعفر إذا أنا مِتُّ فاغسلني وكفنّي، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء”، فلما خرجوا قلت له: “يا أبتِ لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوماً تشهدهم”، فقال: “يا بنيّ أردت أن لا تُنازَع، وكرهت أن يُقال أنّه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحُجة” ووفق المعتقد الشّيعي فإنّ الإمام الباقر رغب من وراء هذا أن يُعلم الناس بإمامة الصادق من بعده. وفعلاً فقد قام الإمام الصّادق بغسل والده وتكفينه على ما أوصاه، ودفنه في جنَّة البقيع إلى جانب الصّحابة الذين تُوفّوا قبله5

يا عظيم
يا عظيم

زوجاته وأبناؤه
تزوَّج الصادق من نساءٍ عديدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبوها ابن عم زين العابدين، ومنهنّ حميدة البربريَّة والدة الإمام موسى الكاظم، واتّخذ إماء أخريات. وكان له عشرة أولاد، وقيل أحد عشر ولداً، سبعة من الذكور وأربع إناث، فأما الذكور فهم: اسماعيل (وإليه ينسب المذهب الإسماعيلي)، وعبد الله،وموسى الكاظم، وإسحق، ومحمد، وعلي (المعروف بالعريضي)، والعبَّاس. وأما الإناث فهنّ فاطمة وأسماء وفاطمة الصّغرى وأمّ فروة، وكانت زوجة الصّادق الأولى هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي أمّ إسماعيل وعبد الله وأمّ فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسية، يرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حميدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشّرع والدّين ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشّيعة وبالأخصّ نساؤهم، لورعها وتقواها وحكمتها6”.

وفاة ابنه البكر إسماعيل
كان الإمام شديد التعلّق بولده البِكْر اسماعيل وهو ما جعل قومٌ من أنصاره يظنّون أنه الإمام بعد أبيه، وهؤلاء قالوا بأنّ جعفر الصادق نصّ على إمامة اسماعيل، ثم وقع الخلاف بينهم: هل مات إسماعيل في حياة أبيه أم لا؟ والأشهر أنه مات في حياة أبيه سنة 145 هـ7 لكن على الرّغم من ذلك بقي فريق من الشيعة يعتقدون بإمامته وحياته حتى بعد وفاة والده الصّادق. وكان اسماعيل رجلاً تقياً عالماً، أمَّا أخوه عبد الله فقد اتُهم بمخالفة أبيه في الاعتقاد وأنّه عارض أخاه موسى الكاظم في الإمامة، وادّعى الإمامة بعد أبيه لنفسه، احتجاجاً بأنّه أكبر أخوته الباقين، واتّبعه حشدٌ من الناس قبل أن يرجعوا لإمامة موسى الكاظم8.

علاقة حذرة مع الأموييّن
كان موضوع الخلافة أساس النزاع بين المسلمين، وقد تفرّقت الأمة بسببه إلى فرق وطوائف كثيرة، كما عانت صراعات دمويّة لفترة طويلة. وقد رأى قسم من المسلمين -وهم أهل السّنّة- أنَّ الخلافة تكون بالشورى والاختيار كما قال الرسول محمد (ص)، فينتقي المسلمون أفضل الرجال وأكثرهم عدلاً وقسطاً وعلماً، وبناءً على هذا بايع المسلمون أبا بكر وباقي الخلفاء الراشدين من بعده. أمَّا القسم الثاني من المسلمين – أي الشّيعة – فإنّهم اعتبروا أن الرسول لم يعتمد الشّورى أساساً لاختيار الخليفة، بل إنّه أوصى بإمامة علي بن أبي طالب ثم ابنيه الحسن والحسين من بعده، وأنّ الخلافة تستمرّ بأن ينصّ كل إمام على الإمام الذي سيأتي خليفة من بعده. وبناء على ذلك عارض الإماميَّة خلافة بني أميَّة واعتبروها غير شرعية، وقامت عدَّة ثورات شيعيَّة على الحكم الأمويّ، عمد الخلفاء إلى إخمادها. ولمَّا كان جعفر الصّادق سادس الأئمة عند الشّيعة، فقد حرص الأمويّون على مراقبته تحسّباً لأيّة ثورة قد يعلنها على الحكم في دمشق9.
وزاد في حذر الأمويين أنّه وبعد وفاة الإمام محمد الباقر بفترةٍ قصيرة وتسلّم ابنه جعفر الصادق مقاليد الإمامة، خرج عمّه زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بالكوفة يريد قتاله وإرجاع الخلافة إلى بني هاشم. لكنّ الأمويين أحبطوا المحاولة وتوفّي زيد (الذي تنسب إليه طائفة الزّيديّة) متأثراً بسهم أصابه خلال المواجهة.
لكن على الرّغم من مقتل عمَّه على يد الأمويين، فإنَّ الإمام جعفر بن محمد لم يثُر على الدولة، ورفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة رغم حثّه على ذلك من قبل عدد من أتباعه، كما رفض الصادق التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر. في المُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ الصّادق رفض الثّورة على الحكومة الأمويَّة خوفاً على حياته، وكي لا يصيبه ما أصاب الحركات الشيعيَّة السابقة وقادتها ورجالها من قتل وهزائم وخسائر جسيمة 10. ويُقال أنّه أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصب الخليفة11.

“كان أعلم علماء المدينة، وأكثرهم تواضعاً وتراحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة، فكان يصــــدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه”

رفض التقرّب من المنصور
كان الإمام الصّادق مدركا لخطورة الصّراعات السياسيّة التي كانت تضرب عالم الإسلام، وبينما رأى كثيرون في تلك النزاعات فرصة للثّورة واستعادة الخلافة لآل البيت فإنّ الإمام الصّادق تمسّك بالابتعاد عن السّياسة سواء معارضة الحكّام أو التقرّب منهم، وبينما كان العباسيّون يُحضِّرون لضرب الدّولة الأمويّة، حاول أبو مسلم الخراساني أن يزجّ الإمام في الثورة العبَّاسيَّة نظراً لكلمته المسموعة خصوصاً بين الشّيعة الذين يرونه معصوماً، وبين سائر المسلمين الثائرين، لكنّه رفض، وتملَّص من الدّعوة، وتفرَّغ لما اعتبره الهدف الأهمّ وهو تعزيز مناعة العقيدة الإسلاميّة في مواجهة الأفكار الدّخيلة والمذاهب الفكريَّة المنحرفة التي انتشرت في تلك الفترة. إلا أنّه وعلى الرّغم من انصراف الإمام جعفر إلى شؤون التّعليم والإرشاد وابتعاده عن السياسة، فإنّه بقي محطّ أنظار الخليفة العبَّاسيّ، لا سيَّما وأنّ عدداً من أتباع زيد بن علي انضمّوا إلى مجالسه واستمعوا لكلامه ومواعظه وإرشاداته بعد أن لاحقهم العبَّاسيّون بلا هوادة12، فأقدم العبَّاسيّون على اعتقال الصّادق غير مرَّة، وزُجَّ بالسّجن لفترة من الزّمن على أمل أن تنقطع الصّلة بينه وبين تلاميذه الذين يُحتمل أن يهددوا استقرار الدّولة وينفّذوا انقلاباً على الخلافة. وقد تحمَّل الصّادق ما تعرَّض له من مضايقات من قِبل الحكومة العبَّاسيَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمرّ يقيم مجالسه العلميَّة ومناظراته الدينيَّة مع كبار علماء عصره من المسلمين وغيرهم من معاصريه.

الأثر الفقهيّ الكبير للإمام الصادق
لكن رغم تخوّف العباسيين من أصناف المعارضة وخصوصا الحركات الشّيعية ومناصريّ آل البيت فإن عهدهم كان من أكثر عهود الإسلام انفتاحا وتقبّلا للتنوّع الفكريّ وتميّز بهامش من الحريّة الفكريّة جعل حتى الملاحدة يناقشون في حلقات العلم دون خوف.
وفي ظلّ هذا المُناخ تَمكَّن الإمام الصّادق من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الكوفة: “أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول”حدثني جعفر بن محمد13” مع العلم أنّ بين الكوفة والمدينة (التي كانت معقل الإمام الصّادق) مسافة شاسعة وهذا يدل على مدى التأثير العلمي الذي أحدثه الإمام جعفر الصّادق في أرجاء العالم الإسلامي كافّة. بذلك، وبمجرّد أن ارتفع الضّغط الذي كان يمارسه الأمويّون على مدرسة الإمام بدأ الطلّاب يتوافدون على مدرسته من كل حدبٍ وصوبٍ، ينقل أسد حيدر فيقول: “كان يؤمّ مدرسته طلّاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية، وذلك بسبب ارتفاع الرّقابة وتراجع الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمّد أولادها من كل قبيلة14” ويقول الشيخ محمّد أبي زهرة في كتابه “الإمام الصّادق”:
“إن للإمام الصّادق فضل السّبق، وله على الأكابر فضل خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف النّاس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلاً. وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزّهري، وكثير من التّابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جعل الله له الشّرف الذّاتيّ والشّرف الإضافيّ بكريم النّسب، والقرابة الهاشميّة، والعترة المحمديّة15”

قبر الإمام جعفر الصادق (ر) في البقيع قبل هدمه
قبر الإمام جعفر الصادق (ر) في البقيع قبل هدمه

مناظراته الشّهيرة
ويدخل في مساهماته العلميّة والفقهيّة الوفيرة مناظراته العلميّة والدينيّة مع العلماء والفقهاء وغيرهم من أتباع الفرق والفلاسفة، وقد اتّبع الإمام الصّادق منهجاً منطقياًّ يُبرز رجاحته وإحاطته الواسعة وقدرته على استحضار كافة جوانب الموضوع وحضور البديهة في الردّ، ومن تلك المناظرات المدوّنة: مناظرة له مع الملحدين ومناظرة مع أبي حنيفة في القياس وفي حكم التوسل بالنبي، ومناظرة مع رؤساء المعتزلة، ومناظرة مع طبيب هندي. ومناظرة مع عبد الله بن الفضل الهاشميّ ومناظرة مع الزّنادقة ومناظرة في الحكمة من الغيبة. ولم تكن الأسئلة التي تُطرح على الإمام الصّادق مختصّة بالمسائل الفقهيّة أو مسائل الحديث، فقد كان عصره عصر ترجمةٍ وعلوم، وكان يأتيه علماء ومفكّرون متأثرين بتيّارات الفلسفة اليونانيّة التي كانت منتشرة في تلك الحقبة من الزّمن، ويُلاحظ هذا المعنى واضحاً في نقاشات الإمام الصّادق مع عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان يشكّك في الدين والعقيدة الإسلامية من منطلق فلسفي وكلامي.
مذهبه ومنهجه الاجتهادي
يتوافق منهج الإمام جعفر ومنهج علماء السنَّة في أمور أساسيَّة، فهو يعتمد كمصدر للتشريع بالتّدريج القرآن والسنَّة النبوية ثم الإجماع ثم الاجتهاد. لكنه -حسب المصادر الشيعية اللاحقة- أضاف إلى ذلك أمراً أساسيّاً هو الاعتقاد بالإمامة وما يترتّب عليه من تقييم للصّحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت. ويترتّب على المفهوم الشّيعي للإمامة القول بعصمة الإمام. فكانت اجتهادات الإمام غير قابلة للطعن، لأنّه معصوم عن الخطأ والنّسيان والمعصية؛ بل إنَّ أقواله واجتهاداته تدخل حكماً في إطار السنَّة16.

وفاته
توفي جعفر الصادق سنة148 هـ، الموافقة لسنة 765م كما نصّت على ذلك بعض المصادر التاريخيّة؛ قال ابن كثير( المتوفى سنة774 هـ): “ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة، وفيها توفي جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق، وقال ابن الأثير (المتوفى سنة630 هـ) في تأريخه للأحداث التي وقعت في سنة 148 هـ : “وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يُزار هو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب”. وقد كان الإمام جعفر الصادق في آخر لقاءاته مع أبي جعفر المنصور يقول له: لا تعجل، فقد بلغت الرّابعة والستّين وفيها مات أبي وجدي فرأى بعض الباحثين أنّ هذه الكلمة توحي بأنّ الإمام جعفر الصادق كان يشعر باقتراب أجله17.
ورغم قول بعض المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على يد الخليفة العبَّاسيّ أبو جعفر المنصور فإنّ كتب السّير والمدوّنات المعتمدة لم تشر إلى ذلك، واستند أصحاب نظريّة اغتيال الإمام الصّادق أنّ الخليفة المنصور كان يغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فيه: “هذا الشّجن المُعتَرِضُ في حُلوقِ الخلفاءِ الّذي لا يجوزُ نفيُهُ، ولا يحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعني وإيّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِكَت في الذرّيّة، وقُدِّست في الزُّبر، لكان منِّي ما لا يُحمدُ في العواقبِ، لِمَا بلغني من شدّة عيبِهِ لنا، وسوءِ القول فينا18” وتدّعي تلك المصادر أنّ المنصور حاول قتل الإمام الصادق أكثر من مرَّة، وأرسل إليه من يفعل ذلك، لكن كلّ من واجهه هابَه وتراجع عن قتله، لكنّ مصادر أخرى رفضت نظريّة موت الصّادق مسموماً بالتّشديد على أنَّ المنصور كان يخشى أن يتعرَّض للإمام، لأنّ ذلك سيؤدّي لمشاكل جمَّة ومضاعفات كبيرة19. وممّا قيل عن الفتور الذي كان بين الصّادق والمنصور، أنَّ الأخير كتب له يقول: “لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!”، فأجابه جعفر الصّادق: “ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها وفي نقمة فنعزيك بها”. فكتب إليه مجدداً: “تصحبنا لتنصحنا”. فكتب الصادق إليه: “من يطلب الدّنيا لا ينصحُك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك20”بالمُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ المنصور لم يُقدِم على تسميم جعفر الصّادق؛ على الرّغم من تخوّفه من أيّ انقلاب مُحتمل بقيادته، فقد كان يجلّه ويحترمه، ويرعى فيه صلة الرّحم وحقوق العمومة، وحزن عليه أشد الحزن لمّا توفّي لأسباب طبيعيَّة، بعد أن تقدَّم به العمر وضعف جسمه. وفي رواية لليعقوبيّ أنّ اسماعيل بن عليّ قال: “دخلت على أبي جعفر المنصور وقد اخضلّت لحيته بالدّموع وكأنّه متأثّر من مصيبة وألمّ به أمر جلل” وقال لي: “أما علمت بما نزل بأهلنا؟” فقلت: “وما ذاك يا أمير المؤمنين؟!” قال: “فإنّ سيّدنا وعالمنا وبقيّة الأخيار منا توفّي!!” فقلت: “ومن هو يا أمير المؤمنين؟” قال: “ابن عمّنا جعفر بن محمد” قلت: “أعظم الله أجر أمير المؤمنين! وأطال بقاءه” فقال: “إن جعفراً ممن قال الله فيهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، وكان هو من السابقين في الخيرات21 كما لم يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “مقاتل الطّالبييّن” أن الإمام الصادق قتل مسموماً.

بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم

“رفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة أو التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونــه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصـــب الخليفة”

أقوال علماء السنَّة فيه
يعتبر الإمام الصّادق أكثر الأئمة رواية في كتب الحديث عند طائفة الإثني عشريَّة، بل يُطلَق على الطائفة الشّيعية اسم الجعفريّة بسبب نسبة المذهب بمجمله إلى الإمام جعفر الصّادق، وبناءً على ذلك فإنّه لا توجد حاجة للاستشهاد بآراء العلماء الشّيعة لأنّهم مجمعون على عصمته وحُجيّة قوله، لكن الملفت وما يكتسي دلالة كبيرة على المكانة التي يحتلها الإمام جعفر الصّادق هو التبجيل الشامل الذي حظي به بين أعلام السنّة، ومن ذلك أنّه يعتبر شيخ الطريقة الخامس في سلسلة المشايخ الأربعين للطّريقة الصّوفيّة النقشبندية. وهنا بعض أهم شهادات كبار علماء السنّة في الإمام جعفر الصّادق:
قال الإمام النّووي عنه : “اتَّفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته”
وقال عمرو بن أبي المقدام: “كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين”.
وقال ابن خِلِّكان: كان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصّادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر”
وقال محمّد الصبّان: “وأمّا جعفر الصّادق فكان إِماماً نبيلاً. وكان مُجاب الدّعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه”22
وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السِّيَر: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرّئاسة
قال الشيخ محمَّد بن طلحة الشّافعي المُتَوفّى في سنة 652 هـ :”هو من عُظماء أهل البيت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيِّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه23”
وقال مالك بن أنس إمام المالكية: “وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصّادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً ويقول في كلمة أخرى: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد.
وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: “كان جعفر الصادق – من بين أخوته – خليفةَ أبيه، ووصيَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعته بالفضل؛ وكان أنبهَهُم ذِكراً، وأجلَّهُم قدراً”24
قال حسن بن زياد: “سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفْقَه من رأيت؟ فقال: “ما رأيت أحداً أفقَهَ من جعفر بن محمّد”.

الهوامش

1. راجع: الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 130
2. منبر فاطمة: الإمام جعفر الصّادق
3. موقع الشّيخ علي الكوراني العاملي. الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام): الفصل الخامس
4. A Brief History of The Fourteen Infallibles. Qum: Ansariyan Publications. 2004
5. مؤسّسة الرسول الأعظم قصّة الإمام محمد الباقر عليه السلام 2008
6. جمعيَّة الأشراف: فصل في ذكر ترجمة الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه.
7. تعريف بفرقة الإسماعيلية.
8. مؤسّسة الإمام الصّادق: المقالات العربيَّة، العقائد. لماذا حُرم السيد عبد الله بن جعفر الإمامة بعد شقيقه اسماعيل الذي مات في حياة والده؟
9. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions). USA: Facts on File
10. 108 The Sources of Esotericism in Islam – Page
11. Armstrong, Karen (2000). Islam: A Short History
12. المصدر نفسه
13. رجال النّجاشي، ترجمة الحسن الوشّاء، برقم 79.
14. أسد حيدر، الإمام الصّادق
15. محمد أبو زهرة، الإمام الصّادق: 30.
16. الوافي في الفلسفة والحضارات. تأليف: عبده الحلو، محمد عبد الملك، د. كريستيان الحلو. دار الفكر اللبناني (1999). بيروت – لبنان. صفحة: 159
17. الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 369.
18. شبكة النبأ المعلوماتيَّة: فاجعة استشهاد الإمام جعفر الصّادق.
19. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions)
20. بوّابة صيدا: إسلاميَّات…مع الصّحابة والصّالحين. الإمام جعفر الصّادق والمنصور العبّاسي
21. الرّابطة العلميَّة العالميَّة للأنساب الهاشميَّة: الإمام جعفر الصادق
22. إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار ص 208
23. مطالب السَّؤول في مناقب آل الرّسول: 436.
24. مناقب آل أبي طالب 3/396.

السياحة الدينية في منطقة حاصبيا التيميّة

المعالـــــــمُ الدّينيّةُ فـي منطِقـــــــــة حاصبيّـــــــــا

علامــاتُ حضـارةٍ وتاريــــخٍ تستحـقُّ الزّيــــــــارة

كتبنا في عددٍ سابقٍ من الضُّحى عن ميزة في منطقة حاصبيّا تفرّقها عن مناطقَ كثيرةٍ من لبنانَ وهي غنى المنطقة بالمعالم الدينيّة والمقامات التي يزورها الناس بهدف أخذ العبرة والتبرّك وذكر الله تعالى في رحابها، وأوّل ما تتميز به تلك المعالم والمزارات أنّها مقصودة ليس فقط من الموحّدين الدروز بل من الناس على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وهذا يدل على كرامة لأصحاب تلك المزارات الذي شدد القرآن الكريم على أنّ الإسلام لا يفرق بينهم:
}قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ (البقرة 136)
أما الأمر الثاني الذي تتميز به تلك المزارات فهو احترام الموحّدين الدّروز بخاصة لها وحرصهم على خدمتها وقد قام أفراد منهم عبر الأزمنة ببناء أكثرها والعديد منها يتولّى الموحدون خدمتها ويعتبرون ساكنيها أو من أقيمت على نيّتهم من أنبيائهم وقديسيهم. وهذا يشهد على اتّساع حدود التّوحيد وشموله وانفتاحه كما أوصى الإسلام وكتاب الله العزيز.
في هذه المقالة سنقوم مع القارئ بجولة على تلك المعالم الرّوحيّة على سبيل التعريف بمنطقة حاصبيّا وغناها بآثار الأقدمين الصّالحين ومن ثم التّعريف بكلّ من تلك المزارات وإعطاء معلومات موجزة عن أصحابها وعن تاريخها وقصدنا أيضا تشجيع قرائنا الكرام على زيارة المنطقة واستكشاف معالمها والتبرّك بقديسيها وصالحيها لأنّ في ذلك كسب للفائدة وللأجر في آنٍ معا.

مقام النّبي حزقيال
أولاً مع الزائرين لمنطقة حاصبيّا عبر طريق- بيروت – صيدا النّبطية، والذين يمكنهم أوّلاً أن يجتازوا بلدة مرجعيون متّجهين شمالاً نحو بلدة بلاط حيث سيواجههم مزار ومدفن النّبي حزقيل (حزقيال) (ع) وهو بناء قديم يعود مع السنديانة التي أمامه إلى مئات السنين، وممّا يشار إليه عند ترميم وتجديد بنائه أيام العهد العثماني ما رواه أمامنا رجل من آل حسيكي في بلدة بلاط إذ قال إنّ جدّهم من بلدة بيصور الشّوفيّة ومن آل ملاعب قد أتى به الأتراك لتجديد البناء، غير أنّ ما صادفه كان يدعو إلى الدّهشة والاستغراب إذ إنّ ما كان يبنيه في النّهار كان يُهدم أثناء الليل. ولما تكرّر الأمر ذهب إلى مشايخ البيّاضة وسألهم عن سبب ذلك، فكان جوابهم أن سألوه عمّن يدفع له أجر عمله، فقال إنّها الدولة (العثمانية) فأجابوه: هذا هو السّبب، فإن أردت إكمال البناء فعليك أنْ تشتغل لوجه الله دون أجر، وذلك ما حدث واستكمل البناء بإذن الله. ويضيف الرّجل إن القوّات الإسرائيليّة أجرت حفريّات أمام المزار عند اجتياحها لبنان في العام 1982 واكتشفت مدافن من الصّخر الطبيعي يتّسع كلّ منها إلى ثمانية نووايس لكن تم ردم الموقع في ما بعد لأسباب لا نعرفها.
وعن النّبي حزقيال تقول بعض المراجع المخطوطة إنّ من أخبار سيرته عليه السلام، أنّه كان من جملة أسرى بني إسرائيل في عهد نبوخذ نصّر الكلداني وكان عددهم سبعين ألفا، على ما قيل، فأقام فيهم مدّة ثم تنبـّأ بهم عشرين عاما وكان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر، فصدّقته القِلَّة وكذّبه الكَثرة منهم. فلما ألحّ عليهم بالإنذار وبالغ في النّصح والتّذكار ردّوا كلمته وقتلوه غير خائفي الله من فعلتهم، وهذه عاداتهم في قتل الأنبياء.

النبي رؤبيل حاصبيا
النبي رؤبيل حاصبيا

 

مقام الداعي عمار في ابل السقي
مقام الداعي عمار في ابل السقي

مقام الدّاعي عمّار
بعد زيارة ذاك المقام الشريف، ينتقل الزّائرون إلى بلدة إبل السقي، حيث أقيم على التلّة المقابلة لبلدة بلاط لجهة الغرب مقام في المكان الذي يُعتقد أنّه شهد سقوط أوّل شهيد لدعوة التوحيد هو الداعي حسن بن يقظان المعروف بالدّاعي عمّار، وأصله من طرابلس الغرب وقد أتى إلى وادي التيم لردع جماعة مارقة عن البدع والأفعال الرديّة، فلمّا اخبرهم بالمهمة التي بُعِث بها وبيّن لهم قُبح أعمالهم أنكروا وأعرضوا وأصرّوا ولم يتركوه بل أوقعوا به وجرحوه، ولمّا خرج من عندهم تبعوه إلى أرض إبل السّقي فدلّهم على مكان تواجده رجل من آل بصبوص فقتلوه وغيّبوه إلى رجمة من الحجارة، ويُعتقد أنّه المكان الذي أقيم عليه المقام الحالي على نيّة صاحبه.

مقام النبيّ شُعيب
بعدها يمكن الانتقال إلى بلدة الفرديس حيث مقام النبي شُعيب (ع)، لكن يمكن للزّائرين وهم على الطريق بين مرجعيون وحاصبيّا أن يعرّجوا إلى مكان يدعى الهرماس على نبعٍ صغير ملاصق للطريق المذكوره ويُعرف بنبع مار جرجس أو الخضر عليه السلام، وهو نبع يعتقد بعض الناس أنّه مبارك، وحتى وقت ليس ببعيد كان الناس يأتون إليه بكل إمرأة عاقر أو بالبنات اللّواتي ينشد ذويهِنّ تزويجهنّ للاستحمام في مياهه، لكن هناك شرط على الناذر والمنذور هو التزام الصمت وعدم التحدّث لأحد وذلك اقتداء بالسيّدة مريم التي أمرها القرآن الكريم بذلك بعد ولادة السيّد المسيح بقوله جلّ من قائل:
}فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا{ (مريم: 26) وبالمناسبة فهذا النّبع يُزار من جميع الطّوائف والمذاهب.
أما مقام النّبيّ شعيب (ع) في بلدة الفرديس فكان يُزار سابقاً من قبل سكّان البلدة في القرون السّابقة وهم من الطائفة الأرثوذكسيّة ويتباركون به. كما أنني كنت أشاهد في طفولتي النّسوة من النّصارى وهنّ يزرنه ويشعلن السّرُج من زيت الزّيتون لإيفاء النذور. وهو في الواقع مقامٌ بديع البُنيان، أقيم فوق الكهف الذي كان كان يسستظلّه النبي شعيب في نسكه وصلواته، وتكتنف البناء أشجار الصّنوبر من جهاته الأربع، ويوم العُطَل كأيّام الجمعة والسّبت والآحاد ربّما لا تجد مكاناً للجلوس مع عائلتك في بهوه أو في الأماكن المحيطة به لكثرة الزوّار ومن شتى المناطق والبلدان.
وسيرته كما ورد ذكره في القرآن الكريم أنّه وُلد في مدْيَن على ساحل الحجاز لجهة البحر الأحمر وكان قومه (قوم مديَن) يغشّون الناس في البيع والشراء، فإذا باعوا شيئاً استعملوا المكيال الصّغير، وإذا اشتروا استعملوا المكيال الكبير، فأرسل الله تعالى إليهم النبيّ شُعيب يأمرهم بعبادة الله وعمل الخير والصّدق في البيع والشراء. وذات يوم جاء النّبيّ شعيب تاجر من إحدى القرى وشكا إليه أنّ تجار المدينة باعوا له مئة كَيلة فلمّا كالها وجدها ثمانين كَيلة، فغضب النبيّ على هؤلاء التّجار المخادعين، وأخذ بيد التاجر وخرج معه إلى السّوق يدعوهم إلى التّوبة وإعطاء التاجر حقّه وينذرهم من عاقبة أعمالهم ومن عقاب ربّ العالمين، لكنّهم استمرّوا في ضلالهم وهددوا شُعيباً والذين معه بالطّرد، فابتهل النبيّ شعيب إلى الله تعالى قائلاً: }رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ{(سورة الأعراف:89).
آنذاك سلّط الله عليهم ريحاً صرْصَراً ثم زلزالاً قويّاً فأحرقهم وأهلكهم. وتقول الرّوايات إنّ النبي شعيب انتقل إلى بلادنا أي من شماليّ فلسطين إلى جبل عامل ووادي التّيم، وإنّ إحدى دلائل تواجده لمدّة في المنطقة وجود مزار له في حطّين في فِلِسطِين ومزار له في الفرديس يقال أنه بُني فوق الكهف الصّخري الذي كان يتعبّد فيه، كما يوجد له مقام في “ السّفينه ” في موقع تابع لبلدة الكفير وهناك بئر وجامع على اسمه في بلدة بليدا العاملية، وقد اشتغل النبيّ شُعيب بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر والدّعوة إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والضَّلال. وتُوفي شُعيب ودُفن في مغارة في جبل حِطّين من أعمال فلسطين المحتلّة.
وقد ورد ذكر النبي شعيب 11 مرّة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:
}وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلــه غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلكم خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{(الأعراف:85)

3مقام-النبي-حزقيال-في-بلاط
مقام-النبي-حزقيال-في-بلاط

“احتضان الموحّدين الدّروز للمقامات والمزارات الرّوحية على تنوّعها يشهد على اتّساع التّوحيد وشموله وأنّ عمره من عمر الدّيانات السماويّة جميعها”

في رحاب خلوات البيّاضة
بعد الجولة على المزارات يمكن التوجّه لزيارة مباركة لخلوات البيّاضة في حاصبيّا منارة التّوحيد وركن اجتماع الأمّة وقِبلة المؤمنين الزّاهدين، وتقع خلوات البيّاضة على هامة رابية من الرّوابي التي تحيط ببلدة حاصبيّا لجهة الجنوب، وهذه الرّابية ربّما قّدستها وأعلت مكانها كموقع إقامة وتنقّلات الدّعاة الأوّلين في شِعاب وهضاب وادي التّيم وكذلك الإقامة الدّائمة فيها منذ مئات السنين للزّهاد الموحّدين الذين نذروا أنفسهم للعبادة وخدمة المؤمنين والزائرين فأصبحت رمزاً للبساطة والفَقر والتّواضع في سبيل الله وبرز منها مشايخ أكابر رفعوا راية الحق وكانوا بمثابة الحصن الحصين للطّائفة في المُلِمّات. وأهمّ ما في خلوات البيّاضة ابتعادها عن كل ما يفرّق الموحّدين فلا توجد هنا سياسة وولاءات وانتماءات بل اتّفاق على الوحدة ونبذ الفرقة وشؤون الدنيا وفي رأسهاسهأسها السّياسة.
نشأت البياضة في أواسط القرن الحادي عشر للهجرة أي نحو 1650 ميلاديّة، وهي لتاريخه، بالإضافة إلى الخلوة الكبيرة أو ما يُعرف “بالمجلس” تحيط بها أكثر من خمسين خلوة لجميع المناطق والعائلات التوحيديّة، ومن أهمّ مميّزاتها تواضع وبساطة المفروشات والزّهد والتقشّف في المأكل والمشرب من قبل سكانها. وفوق هذا وذاك مُحرّم العيش فيها من قبل الأزواج ومهما تكن الظّروف صعبة عند المتعبّدين الكبار، فالعُرف الدّيني يحتّم عليهم البعد عن كل الشّبهات، إذ إنّ العيش فيها فقط للعبادة والتّفقّه والتعلّم وحفظ ما هو مطلوب ومعلوم وليس التّنعّم أو المفاخرة أو المباهاة، والزّيارات مسموح بها للجميع بعد استئذان الحرّاس أو القيّمين عند مدخلها.

المجلس-الكبير
المجلس-الكبير

مزار النّبي رؤبين
بعدها ينتقل الزّائر من خلوات البيّاضة لزيارة مقام وقبر النبي رؤبين في حاصبيّا وموقعه عند أسفل البلدة بالقرب من القصر الشّهابي وبجانب مجرى ماء شتوي يُعرف بالبصيص.
والنبي رؤبين هو من الأسباط الاثني عشر من أولاد يعقوب (ع) وهو أكبرهم. وكلمة الأسباط في اللغة العربية ومعناها ولد الولد. أمّا الأسباط في بني إسحاق فهم كالقبائل في بني اسماعيل، وقوله تعالى في القرآن الكريم : }وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا{(الأعراف: 160)

“مقام النبي شُعيب في الفرديس مقصد يتمتّع بشعبيّة كبيرة بين مختلف الطــّوائف ويزار من مختلــــف مناطق لبنان”

النبي شعيب الفرديس
النبي شعيب الفرديس

مزار السّتّ صالحة
وبعد الانتهاء من زيارة بلدة حاصبيّا ينتقل الزّائرون إلى بلدة ميمس حيث مزار السّتّ صالحة كمال، التي ولدت في مطلع القرن التاسع عشر وتُوفّيت قبيل أحداث عام 1860، وكانت منذ ولادتها ضريرة، وكانت تتقن اللغة اليونانية بالإضافة إلى العربية. ويوم أحرق ابراهيم باشا المصري الحيّ الجنوبيّ من بلدتها ميمس والذي يعرف بالبيسانيّة سابقاً عام 1837 بقيت مع إمرأة أخرى ضريرة ورجل آخر ضرير في أحد أقبية القرية وإذ بجنود من بلاد البلقان يتجوّلون في القرية ويتكلّمون اللّغة اليونانية، فخاطبتهم بلغة بلادهم وبكلام قاسٍ: لماذا أحرقتم قريتنا، ولماذا هذه الأعمال الوحشيّة؟ ممّا أدهش الجنود، فتقدّم أحدهم وخاطبها: هل أنت من اليونان؟ فأجابته: نعم، آنذاك أخرج من جيبه كتاباً دينياً وقدمه إليها قائلاً: خذيه، ربّما قُتِلتُ في أحدى المعارك فأنت أولى به. هذا الكتاب انتقل بعد السّتّ صالحة فيما بعد إلى خلوات البيّاضة وبقي يُتَداول به حتى إحراقها عام 1925 من قبل المستعمر الفرنسي إذ فُقد مع جميع محتوياتها.
ويُنسب إلى السّتّ صالحة كلام عن ملامح آخر الزّمان جاء فيه: “عندما تشربون من الحيط، وتضيئون بالخيط وتكرّجون الغربال، أي الدولاب، فيصل إلى عريش مصر وأخيراً تأتي بلادنا عساكر ترتدي زي الضفادع (الثياب المرقَّطة)..أمّا مزارها ومدفنها عند مدخل بلدة ميمس الغربي الجنوبي فهو بناء لائق ويُسمح بزيارته في كل الأوقات.
بعد ذلك يمكن الانتقال إلى بلدة الخلوات حيث يقع في ظاهرها لجهة الشرق معبد النّبيّ “شئت” وهو معبد مقام ربّما فوق معبد رومانيّ أو وثنيّ قديم، ويعود تاريخه إلى آلاف السّنين، واللّافت للأمر الناووس الضّخم أمامه وهو كناية عن حجر كبير مجوّف من داخله ليتّسع الجثمان وفوقه غطاء صخري من قطعة واحدة، ويروي الكثيرون من المُعْمرين عن المستعمرين السابقين كالأتراك والفرنسييّن وسواهم أنّهم زاروا هذا المدفن وربّما قاموا ببعض الحفريات إذ لتاريخه لم تزل هناك العديد من النّواويس وبقايا هياكل وأعمدة، وحديثاً أقام أبناء البلدة بناء يليق بالعبادة والاستقبال وفيه ما يحتاجه المقيمون والزائرون.
ويروي عن هذا المقام الشيخ شرف الدين عمار من مزرعة النبيّ شِئت، وهو من مرافقي وتلامذة الشيخ الفاضل (ر) أي منذ حوالي 375 سنة إذ يصفه بقوله إنّ أمامه سنديانة ربّما هي السّنديانة الحاليّة والتي يلزم لإحاطتها سبعة رجال.

مقام الشّيخ الفاضل
أمّا مسك الختام فزيارة سيّد المقام والمقال الوليّ الطّاهر الشيخ محمد أبي هلال والمعروف بالشّيخ الفاضل في بلدة عين عطا، ومدفنه ومزاره فوق تلّة صخريّة تعانق السماء بشموخها وأوّل ما يستقبلك نَسرٌ كبير منحوت في الصّخر فاتح جناحيه، وقد بُني المدفن والمزار فوق معبد روماني قديم. والواقف على شرفاته لا يحجبه عن رؤية البحر سوى بُعد المسافة وتكاثف الغمام والضباب في الأفق البعيد، ويتألّف البناء من عدّة طبقات وقاعات وغرف للمنامة من قبل الزّوار.
ولد الشيخ الفاضل في بلدة الشّعيرة قرب كوكبا أبو عرب، وهي اليوم بلدة دارس، وله مزار في بلدة كوكبا المذكورة غير أنّه قضى معظم أيامه وحياته في بلدة شْوَيّا، إذ كان يأوي ليلاً إلى كهف يقع بين الكروم لجهة الجنوب ويأتي نهاراً إلى القرية حيث يجلس مع مريديه تحت سنديانة لم تزل قائمة مع المزار المقام على نيّته لتاريخه.
في النّهاية نقول إنّ من تيسّرت له هذه السّياحة الدينية المكرّمة لمنطقة حاصبيّا التيميّة، وهذا ليس بالصّعب في هذه الأيام، وخصوصاً لسهولة التنقّل وتيسّر الأمان، وبالإمكان زيارتها في يوم واحد والعودة إلى أيّ مكان.
إنّ القيام بهذه الزّيارة للمعالم والمقامات الرّوحية تثبيت وتجديد للاعتقاد وتعزيز للإيمان لكن شرط وجود النيّة لذلك والالتزام باحترام تلك الأمكنة وعدم التلهّي عن الهدف بأنواع التّسلية والطّعام والسّمَر كما يحصل في بعض الأحيان.
(الصور الفوتوغرافية للمصور زياد الشوفي مع الشكر)

الفينيقيين

ما لا تعرفُه عن أسلافنا الذين هيمنوا على تجارة العالم

لمـــــــــــــاذا يجــــــــب أن
نحـــــبَّ الفينيقييّــــــن؟

الفنيقيّون سيطروا على تجارة العالم القديم دون جيوش
ونَبغوا في مُسالمة الجميع ومشاركتهم وكسب احترامهم

تستّروا على معتقداتهم احتراماً للشّعوب الأُخرى الزائرة
وأقاموا نُصُبَ عبادةٍ مفتوحةٍ للزّوّار على تنوّع شعائرهم

الفينيقيّون عَربٌ نَزَحوا من جنوب الجزيرة بسبب القَحط
وبصمتُهم الجينيّة وُجِدَت في أكثرِ مدنِ البحرِ المُتَوسّط

إذا سألتَ اللبنانييّن اليوم أن يُبيٍّنوا مدى معرفتهم بالفينيقييّن، ثمة احتمالٌ بأن يُردِّدوا الحقائق الثلاث الأكثر شهرةً عن هؤلاء القوم: كانوا روّاد التجارة البحريّة، واشتُهِروا بالصِّباغ الأُرجوانيّ المستخرَج من أصداف “الموريكس”، وعرّفوا العالمَ القديم على الأبجديّة الأولى ــ وهم على الأرجح، بحسب ميولهم السياسية، إمّا يُصرّون على فكرة أنّ ثمة تاريخاً مُشترَكاً مع هؤلاء القُدامى المغامرين في البحار وهم يواصلون إرثهم حتى اليوم، وإمّا يرفضون ذلك رفضاً تامّاً. وبعدما أصبحت هذه المسألة في صميم الخلافات السياسية فقد حُرِمَ لبنانيّو هذا العصر من فَهمٍ حقيقيّ ومحايد للفينيقييّن وهم لا شكّ في ذلك أسلاف اللّبنانييّن ليس بالمعنى العِرقي بالضّرورة لكن بمعنى مشاركتنا كمجتمع وكاقتصاد للحتميّات الجغرافيّة والطبيعيّة التي كان على الفينيقييّن التعامل معها وبناء نمط اقتصادهم وتجارتهم ودبلوماسيّتهم الخارجيّة بالاستناد إليها، إنّ المعلومات والدّراسات الأخيرة بما في ذلك الأبحاث الآثاريّة والجينيّة باتت تؤكّد الأهميّة الكبرى لحضارة الفينيقييّن التي قامت على السّاحل الشرقيّ والشمالي للبحر الأبيض المتوسّط لنحو من 1470 عام (من 1550 ق.م وحتى 79 ق.م). كما تؤكّد تلك الأبحاث نواحي التميّز الأساسيّة التي فرّقت إمبراطورية البحر الفينيقيّة عن بقية الإمبراطوريّات والممالك التي تعاقبت في العهد القديم. لقد كانت الممالك الفينيقيّة مثلاً نموذَجا فريداً لمجتمع تجاريّ بحريّ لا يمتلك جيشاً ويحترم الممالك المجاورة ويهادنها ويساعدها في ترويج تجارتها وفي بناء سفنها، كما كان مجتمعاً يحترم ديانات الشّعوب التي تعايش معها ولا يركّز على إظهار شعائره ومعتقداته فلم يبنِ لذلك المعابد بل اكتفى بوضع نُصُبٍ صغيرَة تدلُّ على أمكنة العبادة كما شجّع الزّائرين من مختلف الأصول والمعتقدات على ممارسة شعائرهم في معابد صغيرة تضمّنت عموماً رموزاً وشعاراتٍ تمثّل تلك الدّيانات.
فمن هم الفينيقيّون فعلاً وما هي درجة انتساب اللّبنانييّن المعاصرين للعرق السّاميّ الفينيقي؟ وما هو سرّ التفوّق الذي حقّقه الفينيقيّون وهم شعبٌ صغيرٌ يسكن بضعة مدن على الساحل الشرقيّ للبحرِ المتوسّط في نطاق العالم القديم، كيف تمكنوا وهم شعب لم يكوِّن جيوشاً ولم يؤمن بفائدة شنّ الحروب من الحفاظ على أنفسهم وممالكهم ومصالحهم التّجاريّة والاقتصاديّة طيلة ما يقارب الاثني عشرَ قرناً؟ كيف تعاملوا مع الحضارات المختلفة في المنطقة وما هي الإسهامات الكبرى الأساسيّة التي يمكن أن تُنسَب لهم ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم؟.

تجار فينيقيون يعرضون بضاعة سفينتهم في أحد موانئ البحر المتوسط
تجار فينيقيون يعرضون بضاعة سفينتهم في أحد موانئ البحر المتوسط

أحدثت دراسة نشرتها مجلّة ناشونال جيوغرافيك الشّهيرة في العام 2008 ضجّة في أوساط اللبنانييّن بسبب ما توصلت إليه من أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين (سواء أكانوا مسلمين أم مسيحييّن) هم من أصول فينيقيّة1
استندت المجلّة العلميّة في استنتاجها إلى أبحاث الدكتور بيار زلّوعة المختصّ في دراسة الحمض النّووي والذي قام بدراسته كجزء من مشروع الجينوم الذي ترعاه مؤسّسة ناشيونال جيوغرافيك ويهدف إلى وضع بيانات مفصّلة بالبصمات الجينيّة للشّعوب المختلفة ومحاولة فَهم حركات هجرة الشّعوب القديمة وإقامتها، وعلاقة الشّعوب المعاصرة بأولئك الأسلاف.
ورغم أن دراسة الدكتور زلّوعة تمكّنت من إقامة رابط بين جينات الفينيقييّن وبين نسبة لا بأس بها من اللّبنانيين المعاصرين وسكان مناطق مختلف على سواحل البحر الأبيض المتوسط، أي مناطق الانتشار الفينيقي، إلّا أنّها لم تحسم الجدل حول أصل الفينيقييّن أنفسِهم والمناطق التي جاؤوا منها قبل أربعة أو خمسة آلاف عام من ظهورهم على السواحل الشرقية للمتوسط.
وبصورة عامّة فإنّ أكثرَ الدراساتِ التّاريخيّة تَعتبر أنّ الفينيقييّن هم كنعانيّون ساميّون من صُلب سام بن نوح، بينما تُرْجِع أكثر تلك الدراسات نَسبهم أو مصادرهم التّاريخيّة إلى جنوب الجزيرة العربيّة، فالمؤرّخ الروماني سترابون الذي عاش بين العام 64 ق.م والعام 19الميلادي أشار إلى أنّ المقابر الموجودة في جزر البحرين تشابه مقابر الفينيقييّن، وأنّ أسماء جُزُرِهم ومدنهم هي أسماء فينيقيّة مثل صور على ساحل عُمان، و جُبَيْل وجزيرة أرواد (وهي الاسم القديم لجزيرة المحرّق في البحرين) وجزيرة تاروت بالقطيف التي تقارب اسم مدينة بيروت بلبنان وقد عُثِر بتاروت والقطيف على اثار فينيقية كثيرة، كما عُثِر في جميع هذه المدن على هياكل تشبه الهياكل الفينيقية.
ويرى فرنسيس لزمان مؤلف “تاريخ الشّرق القديم” أنّ الفينيقييّن “سلكوا طريق القوافل من القطيف نحو بلاد الشّام الخصبة”. وقال هنري راولينسون إنّ أصلَ الفنيقييّن (الكنعانييّن) من سكّان البحرين والقطيف في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى سواحل الشّام منذ نحو خمسة آلاف عام. وأنّهم عرب بأصولهم وأنّ هناك في الجزرة العربية مدناً أسماؤها فينيقيّة مثل صور وجبيل وأرواد.
وإذا أخذنا بمجموع النّتائج التي توصّل إليها البحث الجينيّ للدّكتور زلّوعة وآراء المؤرّخين الثّقات من أيّام سترابون الرّوماني فإنّ من الممكن الخروج برأي يوافق اللّبنانييّن جميعهم، أي أنّ اللبنانييّن يحملون أصولاً فينيقيّة بالتّأكيد (وقد أثبت علم الجينات الحديثة ذلك) لكنّ الفينيقيين أنفسهم لم يهبطوا من المرّيخ بل جاءوا ضمن الهجرات التي انطلقت من الجزيرة العربيّة التي شهدت قبل 12 ألف عامٍ ثمّ في مراحل تالية فترات قَحط وتَصَحُّر أو كوارث مثل انهيار سدّ مأرب دفعت بتلك الشّعوب النّشِطة التي قادت التوسّع الإسلاميّ في العالم في ما بعد إلى الهجرة نحو بلاد الشّام الخصبة وهي كانت أصلاً تَعرف عن تلك البلاد وتتاجر معها منذ أقدم الأزمان.

“دراسة ناشونال جيوغرافيك للبصمات الجينيّة للشـــّـعوب أكّدت: كلّ واحد من ثلاثة لبنانييّن (مسيحيّاً أو مسلماً) من أصل فينيقيّ”

نموذجٌ لحضارة التّجارة والسَّلم
يعتقد المؤرّخون أنّ الفينيقييّن تمكّنوا من الحفاظ لأكثرَ من 12 قرناً على إمبراطوريّة مزدهرة وسط الصّراعات وتعاقُب الممالك القويّة بفضل إحجامهم عن بناء قوّة عسكريّة مُكلفة اقتصاديًّا واللجوء بدلاً من ذلك إلى الاستخدام الفعّال لسلاح المصالح والتّجارة والدبلوماسيّة وقبل كلّ شيء عبر تقديم أنفسهم كمجتمع مسالم يتخصّص في التّجارة مع الحضارات التي تجاوره بدلاً من تهديدها. بذلك تآخى الفينيقيّون مع المصرييّن ومع غيرهم واستطاعوا عموماً حماية تجارتهم وسط العواصف والأمواج المتقلّبة للممالك وتعايشوا وإن بصعوبة أحياناً وبأثمان ماليّة مرهِقة مع الحِثِّييِّن ثم مع الهكسوس ثم مع الإغريق والفرس الرّومان.. وتحتوي الرّوايات القديمة على شهادات عديدة في مهارة الفينيقييّن أبرزها وصف هوميروس لهم في الأوديسّة بالقول “هؤلاء البحّارة المَهَرةُ والتّجار الماكرون” وقد أضاف هوميروس إلى ذلك وصفهم بالـ “القراصنة” في شهادة تعكس في نظر بعض المؤرخين شعور الغَيْرَةِ والحسد الإغريقيّ من هذه الامبراطورية البحريّة المقدامة لكنّها تعكس في الوقت نفسه حجم الهيمنة التي كان الفينيقيون قد حقّقوها على تجارة العالم القديم وسيطرتهم على البحار. وقد كان الإغريق في نمط حياة أقرب إلى عصر ظلمات ولم تكن لهم لغة مكتوبة عندما كان الفينيقيّون يجوبون البحار وصولا إلى شواطئ كورنوال البريطانية الجنوبيّة الغربية وأيرلندة وسيقوم هؤلاء الإغريق في وقت متأخّر (نحو 400 ق.م.) بتطوير لغتهم المكتوبة لأوّل مرّة بالاستناد إلى الألفباء الفينيقيّة.
لا يعني ذلك أنّ الفينيقييّن تمكّنوا دوماً من التّفاهم مع الدّول الغازية فقد أدّت الغزوات المتوالية التي قامت بها شعوب المنطقة إلى دمار عدد من المدن الفينيقيّة بصورة متكرّرة لكنّ الفينيقييّن أعادوا بناء مدنهم في وقت قصير وتمكّنوا عادة من توفير صيغة للتّعايش أو للمشاركة بينهم وبين القوّة المهيمنة الجديدة.

كيف أصبحت اللغة الفينيقية
لغة العالم وأمّ اللغات القديمة

يعتبر اختراع وتطوير الألفباء الحديثة أحد أعظم مساهمات الفينيقيين في الحضارة الإنسانية، لكن الفينيقيين لم يكونوا أول من استخدم اللغة وكتبوا بها، فقد وجدت قبلهم لغات عدة مثل المسمارية المستخدمة في ممالك بلاد ما بين النهرين والهيروغليفية المصرية لكن أهمية الإنجاز الفينيقي – وما جعل اللغة الفينيقية قفزة كبيرة في الحضارة البشرية- هي أنها -مثل اللغة الحديثة- كانت أول لغة لا يحتاج المرء للكتابة والتحدث بها لأكثر من عدد محدود من الرموز، وحيث كل رمز في حد ذاته يمثل صوتا محددا. وكانت هذه البساطة قفزة كبيرة بالمقارنة مع لغات قديمة، مثل المسمارية أو الهيروغليفية اللتين استخدمتا رموزا كثيرة ومعقدة.
لقد كان لدى الفينيقيين حافز مهم لتطوير لغة “عالمية” يمكن (بسبب سهولتها) استخدامها من كافة الشعوب (وهو دور يشبه الدور الذي باتت تلعبه الإنكليزية في العالم المعاصر) وهذه اللغة ستؤمن للفينيقيين وسيلة فعالة للتواصل ليس فقط مع الملوك والكهنة والقادة المهمين بل مع كثير من الناس والأجناس التي كانت تدخل معهم في تجارتهم المنتشرة في كل مكان. وقد سمحت بساطة اللغة الفينيقية بتعلمها والكتابة بها ليس فقط من نخبة المجتمع بل من الناس العاديين، وهي كانت بالتالي عاملا مهما في تطوّر العلاقات الاجتماعية بل وفي بروز مفهوم معين من “الديمقراطية” سيتطور لاحقا في الممالك الهيلينية والرومانية.
ويعود اختراع الألفباء الفينيقية إلى نحو العام 1050 قبل الميلاد وهي الفترة التي عاشت فيها المدن الفينيقية عصرها الذهبي من توسع في التجارة البحرية مع مختلف شعوب العالم القديم. وتعتبر هذه الألفباء الأقدم على وجه الأرض، وهي تتألف من 22 حرفا وأصبحت يومها الأكثر انتشارا واستخداما في الكتابة حول العالم. وتعتبر العبرية القديمة والآرامية واللغة اليونانية القديمة ثم اللاتينية والقبطية كلها متفرعة عن اللغة الفينيقية، وكانت الفينيقية تكتب في العادة من اليمين إلى اليسار، وفي العام 2005 قامت المنظمة العالمية للثقافة والعلوم (الأونسكو) بإعلان اللغة الفينيقية جزءا من ذاكرة البشرية ومن تراث لبنان.

الألفباء الفينيقية كما وجدت على لوح من الحجر
الألفباء الفينيقية كما وجدت على لوح من الحجر

تجّار عابرون للقارات
لقد حجبت شهرة الفينيقييّن كتجّار بحار الشّهرة التي حققّوها أيضا كتجّار قوافل غطَّوْا بنشاطهم رقعة واسعة من آسيا وأفريقيا وهم اعتمدوا في تجارتهم البرّيّة طريقين رئيسين، أوّلهما يتفرّع عن الطّريق السّاحليّ الشّماليّ. فيذهب من أوغاريت نحو حماه وحلب والرُّها وكركميش ونِصّيبين في القفار السّورية الشماليّة وكان هذا الطّريق يتّصل بوادي الفُرات حتّى ما بين النّهرين، أو يذهب من حَرَّان إلى نَينوى. أما الطّريق الثّاني فكان يعبر جبال لبنان إلى الزّبداني فدمشق فتدمر فبلاد ما بين النّهرين وشرق سوريا. وهذا هو الطّريق الأقصر، لكنّه الأصعب. وكانت الجزيرة العربيّة وبلاد ما بين النّهرين الصّلة الجغرافية بين فينيقيا والشّرق الأقصى خصوصاً الهند.
وفي طرقهم البريّة هذه، وبسبب الحجم والقيمة الكبيرين للبضائع التي كانوا ينقلونها في رحلاتهم وبسبب طول مدّة إقامتهم (وكانت بعض الرّحلات تستغرق 3 سنوات) كان الفينيقيّون يقيمون علاقات الودِّ مع شعوب البلدان والمناطق التي يعبرونها أو يقيمون فيها لمدة مؤقتة فيعزّزون أواصر المودّة مع القبائل، ويستعينون ببعضها كوسطاء أو كمرشدين، الأمر الذي حفظ قوافلهم من مخاطر اللّصوص وقطاع الطّرق الذين كانون يتربّصون المناطق النّائية أو الممرّات الجبليّة المنعزلة. وسهَّل ذلك للفينيقييّن إقامة المحطّات التّجاريّة على طول طرقهم التّجاريّة، كما أنّهم بنَوْا أحياءهم الخاصّة بهم في بعض المدن التي أقاموا فيها.

“أنشأوا نظاماً ديمقراطيّاً تشاركيّاً لإدارة مصالح المجتمع واحترموا المرأة واختاروا ملكـــــاً منهم فقط لحاجتهم إلى «مفاوض» لملوك الشّعوب الأُخرى !”

إعادة التّصدير
عندما اشتُهر لبنان في القرن الماضي بتجارة إعادة التّصدير وبكونه طريق التّجارة العابرة من ساحل المتوسّط فهو كان بذلك وللأسباب الجغرافيّة والاقتصاديّة نفسها يستعيد تقليداً فينيقيّاً أصيلاً كبلد خدمات وتجارة لا يمتلك الموادّ الأوّليّة ومقوّمات الاقتصاد الزّراعيّ لبلاد النيل أو بلاد ما بين النّهرين. رغم تطوّرها الاقتصاديّ فإنّ فينيقيا لم تكن تملك ما يكفي لتلبية احتياجات أسواقها الواسعة باستثناء أخشاب الأرز (وتقليد قطع الغابات وتعرية الجبال في بلادنا ليس جديداً !) وكميّات محدودة من الزّيوت والأصباغ والخمور والأنسجة وبعض المصنوعات البرونزيّة والفضّيّة أو مصنوعات العاج. لذلك اتّكل الفينيقيّون على إنتاج غيرهم يشترونه بأسعارٍ رخيصة ثمّ يبيعونه بربح جيّد، وهم استوردوا الصّوف والجلود واللّحوم من وسط سوريا، والعسل والحبوب من فِلِسْطين، والتّوابل من الشّرق الأقصى، والنّحاس من قبرص واليونان والقفقاس، والفضة من إسبانيا، والحجارة الكريمة والذّهب والكَتّان والقُطن من مصر ، والعطور من بلاد الرّافدين، والأبَنُوس والعاج من السّودان، والخيول من أرمينيا. وحقّق الفينيقيّون فتحاً تجاريّاً مهمّاً عندما وصلوا عبر مضيق جبل طارق إلى جنوب الجزر البريطانيّة حيث توجد مناجم وفيرة من القصدير وبسبب ذلك، ولاكتشافهم طريقة صهر القصدير مع النّحاس لإنتاج معدن البرونز فقد حقّق الفينيقيّون لمدّة طويلة شهرة في الصّناعات المعدِنيّة وتفوّقاً على جميع معاصريهم في هذا المجال. وقد كتب ديودورس الصّقلِّي، المؤرّخ اليونانيّ، حول هذا الموضوع قائلاً: “إنّ بلاد الأيبيرييّن (إسبانبا) تحتوي على أغنى مناجم الفضّة التي نعرفها ولم يكن لدى السكّان المحلييّن خبرة في طرق معالجة هذا المعدِن النّفيس واستخدامه، لكنّ الفينيقييّن كانوا يبادلون كميّات كبيرة من الفضّة الخام مقابل كميّة صغيرة من البضائع، ثم يقومون ببيعها في أسواق اليونان وآسيا وشعوب أخرى بأرباح ضخمة وهم اكتسبوا من ذلك ثروات كبيرة”.
وكانت رحلة التّجّار الفينيقيّين تستغرق بضع سنواتٍ أحيانًا. إذ كانوا تجارا متجوّلين، أو “مغتربين” بصورة مؤقتة، وهم كانوا يأخذون وقتهم في التعرف على أسواقهم وبناء العلاقات مع مجتمعاتها، الأمر الذي عزز موقفهم وسهل مبادلاتهم وساهم في تحقيقهم لثروات كبيرة، حتى أنهم كانوا أثناء فترة المتاجرة يزرعون المحاصيل في بعض الأماكن وينتظرون وقت حصادهم فيستفيدون أيضا بصورة مضاعفة من إقامتهم.

“بسبب عدم وجود جيـــــــش يمكن أن يدعم الدّكتاتوريـــّـــة لم يحصل في تاريخ الفينيقييّن نزاع عنيف على المُلْــــــــك ولم يُسمَع عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة بسبب الظّلم الاجتماعيّ”

سفينة حربية فينيقية مزودة بمهماز لتحطيم السفن المعادية
سفينة حربية فينيقية مزودة بمهماز لتحطيم السفن المعادية

سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.

سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.

إدارة الأعمال وفق النّمط الفينيقيّ
بسبب الاعتماد الكبير للفينيقييّن على التّجارة وعلى الرّحلات البحريّة كانت الحاجة ملحّة لإيجاد إدارةٍ ذكيّة وماهرة للمغامرات البحريّة وكافّة العمليّات التّجاريّة واللّوجستية التي تفرّعت عنها فالاستثمار في أيّة رحلة كبير، والمخاطر أكبر، والمطلوب في مثل هذه الحالات استنباط ترتيباتٍ دقيقة وتبنّي نظام فعال لتخصيص المسؤوليّات والمخاطر والمشاركة في المغانم. لقد كان على جميع المستثمرين في الرّحلة (بُناة السّفينة، وربّانها، وطاقَمها ومزوّديها بالبضائع ومموّليها) أن يعملوا كشركة بالمعنى الحديث للكلمة أي أن يلتقوا ويتخذوا معا القرارات المهمّة التي ستؤثّر على مسار الرّحلة ونتائجها. ولم يكن مسموحاً بتفرّد أحد مهما كانت خبرته بالرّأي وإلّا فإنّ الأعضاء المتململين كانوا سينسحبون من المغامرة ويمتنعون عن المشاركة فيها. فضلاً عن ذلك، وبعد الاتفاق على التّفاصيل كلّها كان على هؤلاء الشّركاء أن يختاروا واحداً من بينهم ليكون الشّريك الأكبر، وهو ما يوازي في لغة العصر موقع العضو المنتدب أو المدير التّنفيذي، وكان دور هذا الشخص يتركّز في مراقبة تقدُّم الاستعداد للرّحلة وتنظيمها وإطلاقها وإدارة شؤونها ومعالجة الأمور التي تطرأ وذلك حتّى نهاية البعثة التّجارية وعودة السّفينة – أو السفن- إلى قواعدها.
لكن مع تنامي أعداد السكّان في المدينة على مرّ السنين، غدا استدعاء الجميع لمثل هذه اللّقاءات خطوةً غير عملية. ونتيجةً لذلك نشأت في ذلك الوقت أولى مجالس الممّثلين عن الشّعب. وكان يُعقد اجتماع عموميّ لجميع الشّعب، وربّما على أساس سنَويّ، واختيار أعضاء المجلس والتّعبير بقوّة عن امتنان أو عدم رضى الشّعب تجاه ما تمّ تحقيقه منذ الاجتماع العموميّ الأخير. ومن ثمّ يجتمع أعضاء المجلس عند اقتضاء الضّرورة ويعمل بأداءٍ أشبه بمجلس إدارة يُدير جميع المستثمرين، ومن ثم اتّخاذ القرارات المهمّة. وكان المجلس يمنح أحد أعضائه أيضاً الحقّ باتّخاذ قرارات يوميّة إزاء المغامرات التّجاريّة وتحمُّل مسؤوليته ليبدو في الظّاهر كقائدٍ للمدينة واستدعاء أعضاء المجلس عند الحاجة إلى اتّخاذ قرارات كبيرة.

“تعاملوا بحزم وحكمة مع أعتى القوى التي سادت زمانهم لكنّهم لم يتباهَوْا يوماً بإلهِ حرب، ولم يتغنّوْا كغيرهم بسحق الأُمم، وتدمير المــــدن وإحراقـــها ونهبها وقتــــل سُكّانها”

ملِك فينيقيّ ولكن..
على الرّغم من أنّ الفينيقييّن اتّبعوا نظام الحُكم التّشاوريّ الخاصّ بهم، فإنّهم احتاجوا إلى التّعامل مع مجتمعاتٍ وكياناتٍ أخرى كان يحكمها ملوك. وبالرّغم من أن نظامهم لم يكن مصمّماً لقيام ملك مطلق الصّلاحية فإنّهم رأوا أنّ من الأفضل، ولو لأجل المظاهر البروتوكوليّة، أن يكون لهم ملِكٌ هم أيضاً. لذا أعلنَ فينيقيّو جُبيل قائدَهم “مَلِكاً”، وشكّل ذلك سابقةً في التّاريخ القديم لأنّ الملك جاء هنا باختيار الشّعب بينما كان الملوك يصلون إلى السّلطة عبر الغزوات وسفك الدّماء ويحمون حكمهم المطلق بالقوة العسكريّة العنيفة.
لقد اختار الفينيقيّون أن يجدوا لأنفسهم “مَلِكاً” ليس لأنّ تنظيمهم الاجتماعيّ والسياسيّ كان في حاجة إلى هذا الابتكار بل لأنّهم يحتاجونه من أجل اكتساب الشّرعيّة والاحترام الدّوليّ لمجتمعهم كما أنهم يحتاجونه في التّعامل مع الشّعوب الأخرى التي كان لها ملوك وكان لا بدّ لهم من أن يقيموا علاقاتهم مع الجيران من خلال ملك لهم يمكنه التّعامل والتّفاوض مع ملوك الأقوام الأخرى.
وكان من السّهل على الفينيقييّن المحافظة على منصب الملِك، لأنّ الأخيرَ عبر اختيار المجلس له بمصادقةٍ من المدينة وسُكّانها، كان ينحدِرُ غالباً من العائلات العريقة فيها. لكن هل كان الحكم الملكيّ الفينيقيّ وراثيّاً؟ كان في حقيقته تسوية توفّق بين استمراريّة الملك وبين ضمان اختيار الأفضل. فعند الحاجة لاختيار خليفة للملِك فإنّ الخيار الأول كان يتّجه لاختيار أحد أولاد الملِك السّابق، لكن دون التزام بأن يكون الابن الأكبر للملِك هو الخيار الوحيد. إذ كان ممكناً اختيار ولد آخر معروف بالكفاءة أو ربّما عضو من أُسرة نبيلة أخرى. وكان معيار الاختيار هو جدارة الملك المعيّن لقيادة الأعمال التجاريّة للمدينة وعلاقاتها الدبلوماسيّة. وعندما كان الملِك يُقصِّر في أداء مهمّته، كان من السّهل القيام بالتغييّر إذ إنّ ذلك كان لا يتطلّب أكثر من قرار تتّخذه جمعيّة الممثّلين المنتَخبين لتمثيل المدينة. والملفت أنّه لم يسجَّل في تاريخ العهد الفينيقيّ أنْ نشأ نزاعٍ عنيف على السلطة أو محاولة أيّ فينيقيٍّ للاستئثار بالمُلك خلافاً وكانت هذه شهادة بليغة على المستوى الحضاريّ الذي ساد علاقات المجتمع الفينيقيّ ونظامه السياسيّ.
كان الفينيقيّون يدركون في الوقت نفسه أنّ ثمّة مخاطر دائمة (بسبب طبيعة النّفس الإنسانيّة) من أن يصبح القائد الجديد مُفتَتناً بالقوة، وأن يسعى إلى تنصيب نفسه ملِكاً حقيقيّاً، أي حاكماً مستبدّاً على المدينة، لكن هذا الاحتمال قلّل كثيراً منه عدم استناد الدّولة الفينيقيّة إلى جيش أو قوّة مسلّحة يمكن أن يستخدمها الطّاغية لفرض سلطانه. وأكثر ما قام به الفينيقيّون كان تشكيل حاميات قليلة العدد داخل كلّ مدينة بغرض السّهر على الأمن وحفظ النّظام العام، لكن من دون أن يكون لأيٍّ من تلك الحاميات قوّة كافية للسّير خارج المدينة بهدف خوض معارك داخليّة أو خارجيّة.
وحيث إنّ الملِك لدى الفينيقييّن كان يحكم من دون جيشٍ يفرض إرادته، لم يكن ثمّة خطرٌ يُحيق بالمجلس المُنتَخَب والشّعب. وممّا زاد هذا الشّعور بالأمان هو وجوب أن تعود جميع القرارات الرّئيسة إلى المجلس المذكور. فلم يكن بوسع الملِك أن يبرمَ اتفاقيّات تُضفي مزيداً من السّلطة على حُكمه لأنّ المجلس ما إن يشعر بتحرُّكٍ مماثل حتى يُعيِّن ملِكاً جديداً. وهكذا بدأ تقليد جُبَيل بتنصيب مَلِكٍ، ذلك التّقليد الذي استمرّ لعهدٍ طويل. ويُعتقَد أنّ الملِك كان يقطن في القسم السّكَنيّ من دار التّجارة الرّئيسيّ في المدينة، قريباً من جميع العمليّات اليوميّة التي كان مسؤولاً عنها. وهذا الملِك الذي يُشبه إلى حدٍّ كبير مديراً إداريّاً أو مديراً تنفيذيّاً لشركة حديثة، كان في تصرُّفه فريقٌ كبير من الأشخاص لتنفيذ العمل الفِعلي تحت إشرافه. وهو كان بدوره يعود بالنّتائج إلى مجلس مدراء، أي المجلس المنوَّه عنه أعلاه.
لقد عاد مبدأ المشاركة بالغُنْمِ والغُرْم بالنّفع الكبير على الفينيقييّن وأصبح قوّة دافعة وراء كلّ ما أنجزوه على مر القرون. ذلك ما جعلهم متّحدين في مجتمعٍ متكاملٍ، بدلَ أن يكونوا مجموعة من الأتباع يُهيمن عليهم قائدٌ قوي، كشأن الشّعوب الأخرى. وكونهم يتّصفون بمجتمعٍ كهذا هو الذي أمدّهم بالقوة والتّميُّز وهو الذي مكّنهم من أن يمدّوا في عمر حكمهم النّاجح والمُزدهر قروناً طويلة من الزّمن.

فينيقيون يحملون الهدايا إلى ملك الفرس
فينيقيون يحملون الهدايا إلى ملك الفرس

المساواة والمشاركة في الثروة
أحد المبادئ الأساسيّة للمجتمع الفينيقيّ كان المساواة والمشاركة في الثّروة. ولم يُقْصَدْ بذلك أنّ كلّ عضو في المجتمع يجب أن يكون مساويا كلّيّاً في كلّ نواحي الحياة للآخرين، فبعض العائلات كانت نشطة على وجهٍ خاصٍّ في التّجارة، وهي غامرت واستثمرت وحقّقت بعض الثّروات الإضافيّة لنفسها. لذلك، فإنّ المبدأ الفينيقيّ في المساواة كان يعني أنّ الضّعفاء وأشدّ النّاس عوزاً كانت تُحسب لهم حصة في الأرباح المُكْتَسبة من قِبَل المجتمع بأكمله، وعلى الرّغم من أنّ التّجارة الدّوْليّة، وبناء السّفن، وإنتاج السّلع على غرار الملابس الشّهيرة المصبوغة بالصِّباغ الأُرجوانيّ المَلَكيّ، قد جعلت الفينيقييّن من أغنى المجتمعات في العالم القديم على الإطلاق، فإنّ الهوّة بين الغنيّ والفقير في ما بينهم كانت أصغر بكثير ممّا كانت عليه لدى معظم المجتمعات الأخرى في تلك الأيّام.
فالمناطق الأخرى غالباً ما كان يحكمها ملِكٌ قوي ومجموعة صغيرة من العائلات الفائقة التّرف تطغى على طبقة “نبيلة” تابعة لكنّها محدودة الحجم، بينما يبقى على القسم الأكبر من السُّكّان كسب قوتهم يوماً بيوم. وكان شائعاً بين الفينيقييّن، وحتى الفقراء منهم، العيش في منازل تتألّف من غرفٍ عديدة، في وقتٍ كانت المنازل ذات الغرفة الوحيدة هي السّائدة في المجتمعات المجاورة. وعبر اختيارهم لأعضاء مجالسهم وملوكهم، والقدرة على استبدالهم، حرص الفينيقيّون على ألَّا تستأثر أُسرة واحدة بثروة المجتمع. واللّافت أنّ المدن الفينيقيّة لم تُقلِّد أبداً ظاهرة بناء القصور الفرديّة الباذخة كما في مصر وبلاد ما بين النّهرين وفارس ومناطق تاريخيّة أخرى.
وفي المجتمع الفينيقيّ، كان لكلّ شخصٍ صوتٌ في شؤون الجماعة، وحِصّةٌ في نجاحها. وكان من شأن مبدأ المساواة هذا أنْ أحدثَ تأثيراتٍ مهمّة. أوّلاً، لم يُسمَع طيلة تاريخ الفينيقييّن الطّويل عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة أو فتنة أو تمرّد. فالهوّة الصّغيرة نسبيّاً بين الطّبقات العليا والدّنيا من المجتمع لم تُشكِّل عامل احتقان يمكن أن يؤدّي إلى حصول مثل تلك القلاقل، فضلاً عن أنّ شعور الفينيقييّن الدّائم بوجود تهديد كامن أو علنّي لمصالحهم فرض عليهم واجب التّضامن من أجل حماية طريقة عيشهم وازدهارهم.

احترام المرأة
كان الشّعب الفينيقي يحترُم المرأة ويُوقِّرها، وهذا ما مكّنه من الإفادة على نحو أكمل من قدرات المرأة في تنفيذ استثماراته الواسعة الانتشار وتنظيم شؤونه المدنيّة. ومع ازدهار الأعمال الفنيّة في أوساط الفينيقييّن، أخذت المرأة تُشارِك بالكامل في نشاطات المدينة، وعزا بعض الباحثين ذلك إلى أنّ الفينيقييّن كانوا يعبدون “سيّدة جُبيل”، التي كانت يُسبَغ عليها صفات “الأرض” و”الطّبيعة الأمّ”، و”حامية النّساء والأطفال”، التي تجلب خيرات الأرض للنّاس، وذلك في مقابل الإله “بعلشميم”، “إله السماء” الذي لم يجعلوه على الأرض بل في السّماء، سيّد العواصف، وهو ما كان نابعاً من هواجس الفينيقييّن بشأن البحر وصعوبة التّنبّؤ بسلوكه في وقت كان اعتمادهم تامّاً تقريباً في أكثر رزقهم على مزاجه وأحواله.

الانتشار الملاحي الفينيقي جعلهم أسياد التجارة في البحر المتوسط
الانتشار الملاحي الفينيقي جعلهم أسياد التجارة في البحر المتوسط

فنّ التّعايش مع الأقوياء
في المراحل التّالية من تاريخ “أمراء البحار” الفينيقييّن، حينما انبثقت التّجارة البحريّة، كحِرفةٍ وفنٍّ ومصدرٍ للعيش الكريم، لم يستحدث الفينيقيّون آلهةً لكلِّ غَرضٍ في الحياة كغيرهم من الشّعوب والحضارات الأخرى في تلك العصور. وبدلاً من ذلك، اتّبعوا وجهةً فريدة عكست نمط حياتهم، ومجتمعهم وتميُّزهم.
بسبب اختلاطهم بعد كبير من الشّعوب والمجتمعات المتنوّعة كان لكلٌّ منها لغته وعاداته ومعتقداته الخاصّة، وكان المصريّون القُدامى، على سبيل المثال، يبدون للآخرين بمظهر الافتخار والتّعالي على مَنْ حولهم وظهر ذلك بحِرصِهم على بناء التّماثيل الهائلة المُهيبة، والمصنوعات الذّهبيّة اللمّاعة، ونظام الحكم المُطلق، والجيوش الجرّارة الجاهزة للتحرُّك في أيّ وقت.
في المقابل، حافظ الفينيقيّون على ثقافتهم الخاصّة، لكنّهم سعَوْا في آنٍ إلى الاختلاط بالشّعوب الأخرى التي كانوا يُصادفونها في رحلاتهم التّجارية. وقد كان من خصائصهم وعاداتهم المتميّزة، أنّهم ما إن يصلوا إلى أرضٍ جديدة حتى يُظهرِوا إعجاباً كبيراً بالثّقافة المحلّيّة فيها، بما في ذلك الطقوس والمراسم. وثمّة أدلّة كافية على أنّ الفينيقييّن أظهروا عاطفةً شديدة في مدح المصرييّن وحضارتهم وفراعنتهم. وفي المقابل فقد عاملهم المصريّون كما لو كانوا “أبناء عمومة” يقطنون ناحية الشّرق من بلادهم، وكانت أشجارُ أرز لبنان وأخشابُ غاباته وصِمغه في غاية الأهمّية لعادات المصرييّن في تحنيط موتاههم، وبناء المعابد والهياكل، وتأثيث القصور، بل إنّ سلوكهم الرّاقي في الاختلاط أيضاً جعلَ وجودَهم مقبولاً بالفعل في هذه المنطقة الشّديدة الحساسيّة.
وغدت هذه العلاقة عميقة ومتجذّرة لدرجة أنّها أثّرت في تقاليد المصرييّن وأساطيرهم الدّينيّة، لا سيّما في أسطورة “إيزيس وأوزوريس”، وبسبب نزوعهم إلى المسالمة وحبّهم للتّواصل مع الشّعوب الأخرى، وإرساء الشّراكات والمبادلات التّجارية فإنّهم مالوا بطبيعتهم إلى احترام أديان ومعتقدات وعادات وتقاليد الشّعوب الأخرى، ورأَوْا في ذلك عاملاً إضافيّاً في حماية مجتمعاتهم وإنشاء روابط المودّة مع الشّعوب المحيطة بهم. وكما يقول أحد الباحثين المختصّين، فإنّ الفينيقييّن بكونهم مطّلعين على مختلف المجتمعات، ربّما “وصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ كلّ تلك المجتمعات كانت تعبدُ ربّاً واحداً لكن بأسماءَ وتصوُّراتٍ مختلفة”. وفيما كانوا يتّبعون هذا السّلوك السبّاق في احترام أديان الآخرين وتقاليدهم، فإنّهم في الوقت ذاته لم يجعلوا لأنفسهم نُصُباً يتعبّدونها، كتلك التي استخدمتها الشّعوب الأخرى، كأصنامٍ حجرية تُصوِّر آلهة بأجسامٍ بشريّة أو رؤوسٍ حيوانية، أو ثيرانٍ من ذهب كما فعلَ أبناء عمومتهم الكنعانيّون. فما اعتمدوه هو مجرّد “مصطبة” حجرية تدلُّ المهتمين على أنّ المكان هو مكان لتقديم القرابين والعبادة.

لوحة فسيفسائية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد تظهر بعض أنواع السفن الفينيقية
لوحة فسيفسائية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد تظهر بعض أنواع السفن الفينيقية

مهارة دبلوماسيّة
برع الفينيقيّون في مملكة جُبيل وشقيقاتها في استخدام التّفاوض ودبلوماسيّة المصالحة والسَّلم لفضّ النّزاعات وتجنُّب المواجهات. لذلك لم يذكر التّاريخ أنّهم تباهَوْا يوماً بإلهِ حربٍ، ولم يتغنّوا كالشّعوب الأخرى بسحق الأُمم، وتدمير المدن وإحراقها وقتل سُكّانها وسلب غنائمها. ومع ذلك، لم يكونوا ضعفاء بأي شكلٍ من الأشكال، فهم بشجاعتهم هيمنوا على التّجارة عبر العالم وتعاملوا مع أعتى القوى السّائدة في زمانهم، لكنّ الحربَ لم تكن خيارهم على الإطلاق، إنّما تمسّكوا بمفاهيم السَّلم والتّواصُل واحترام الآخر. بل يذكر التّاريخ إنّهم تحالفوا مع “شعوب البحر” العنيفة التي اجتاحت المنطقة ودمّرت حضاراتها في العام 1200 قبل الميلاد ولم يصطدموا بهم خلال اجتياحهم لشواطئ شرق البحر المتوسط.
إنّ هذه المهارة في احتواء الأزَمات واجتناب الصّدامات ليست فقط في أساس النّجاح الفينيقيّ في مَدّ عمر الامبراطوريّة لقرون طويلة بل كان أحد أهم أسباب الازدهار الاقتصاديّ للمدن الفينيقيّة التي تمكّنت من توفير الأموال الهائلة التي كانت تُنْفق على الجيوش والحملات العسكريّة لاستثمارها في تحقيق مستوى معيشة كان الأعلى في المنطقة وفي تعزيز القوّة البحريّة للممالك الفينيقيّة وهيمنتها على تجارة العالم القديم.

قرطاجة

آثار لمنازل فينيقية في مدينة قرطاج في تونس
آثار لمنازل فينيقية في مدينة قرطاج في تونس

إسبارطة الفينيقييّن التي ذهبت بمجدهم

في العام 820 قبل الميلاد، حدَثَ نزاعٌ في مدينة صُور الفينيقيّة، بعد وفاة ملِكها ماتان الأول الذي أوصى بالحُكم من بعده لِوَلَدَيْه، ابنته الكبرى أليسار وشقيقها الصّغير بيغماليون. وانقسم المجلسُ الفينيقيّ بين هذَين الخَيارَين، لكنّ التجّارَ الأثرياء الكبار والكهنة، وعلى رأسهم زيكار بعل، كبير كهنة معبد ملقارت وصاحب الثّروات الضخمة، وقفوا إلى جانب أليسار الابنة الكبرى الذّكية والطموحة. وقد تزوّجت أليسار من زيكاربعل. لكنّ شقيقها الصّغير السّنِّ ومَنْ حوله أحسّوا بالخطر، وتآمروا على قتل زوجها داخل المعبد. وداهمَ الخطرُ أليسار ومَنْ ناصرها، فأقنعت شقيقها أنّها ستنطلق في رحلةٍ تجاريّة عبر البحر كشأن الفينيقييّن، وأخذت كنوزَ زوجها وفعلَ مثلها الأثرياء الكبار الذين هربوا بثرواتهم إلى السّفن، وانطلقوا بعيداً نحو الغرب.
القصة تقول إنّ سفن أليسار رست في شاطئ شمال أفريقيا بالقرب من مدينة يوتيقا (“عتيقة” في تونس اليوم)، تلك المستعمرة الفينيقيّة منذ أمدٍ والتي لعبت دوراً كبيراً في التّجارة. لكنّ المُرتحلين أرادوا أن ينطلقوا من بقعةٍ جديدة تقع على بُعد أميال من عتيقة. وتقول الأسطورة: إنّ أليسار تفاوضت مع مَلِك السُكّان البربر للمنطقة على منحها قطعة أرض صغيرة بحجم جلد ثور. وأمرت أليسار جماعتها بقطع خيوطٍ من هذا الجلد ووصلها ببعضها بعضاً ورسم نصف دائرةٍ حول تلّة عالية (كانت تُدعَى بيرسا) في تلك المنطقة القريبة من الشاطئ. وبذلك اختار الفينيقيّون المرتحلون تلّةً عالية يمكنهم من خلالها الإشراف على المناطق المحيطة بها والدّفاع عن مدينتهم العتيدة. وذُهِلَ ملكُ البربر لذكائها الخارق، وأوفى بعهده. وأخذت أليسار تبني معابد ومساكن فيها، وأُطلِقَ على هذه المدينة الناشئة اسم “قرت حدشيت”، وتعني حرفياً “المدينة الجديدة”، هذا الاسم الذي تحوّل لاحقاً إلى “قرطاجة”، تلك التي وفَدَ إليها أثرياءُ صور فُرادى وزرافات في موجاتٍ متتالية من المهاجرين.
وكان من الطبيعيّ أن تُنسَج الأساطير حول تأسيس قرطاجة والإمبراطورة القويّة التي قادتها في ذلك الزمن الغابر. ودارت تلك الأساطير حول شخصيّة أليسار (أو ديدون، أي المترحِّلة بالفينيقيّة) ورحلتها من صور تيهاً في البحر نحو شمال أفريقيا. ويعود أوّل نصٍّ يتحدّث عن مغامراتها إلى تيماوس الصّقلّي (Timaeus of Sicily) بين عامَي 256 و 200 قبل الميلاد. هذا النصُّ فُقِد، لكن بقي منه بعضُ الاقتباسات في نصوصٍ أخرى. وهو الذي حدّد تاريخ تأسيس قرطاجة حوالى العام 814 قبل الميلاد، وهو تاريخٌ مقبول من النّاحية التاريخيّة حيث إنّ ملِك صور “بيغماليون” قد حكم بين عامَي 820 و 772 قبل الميلاد.
وقد أوردَ قصّةَ أليسار وتأسيسها لقرطاجة الشّاعرُ الرّوماني الشّهير فيرجيل (Virgil) في ملحمته الرائعة “الإنيادة” (Aeneid). وتتحدّث الملحمة في بدايتها عن قدوم البطل الإغريقيّ “أنياس” إلى شواطئ شمال أفريقيا حيث أخبرته “أفروديت” قصّة أليسار، لتنشأ بعد ذلك قصّة رومانسيّة تجمعه مع المَلِكة الفينيقيّة.
ربّما من المؤسف أنّ الفينيقيين لم يحتفظوا بكتابات عن أمجادهم وحُكّامهم، وكلّ ما انتقل إلينا هو قِصَصٌ كتبها خصومهم، ولا سيّما الرّومان الذين خاضوا مع القرطاجييّن ما عرف بـ “الحروب البونيّة”، والذين كتبوا عن أليسار والفينيقييّن وقرطاجة بينما أصوات فِيَلَةِ هنيبعل لا زالت تزعق في آذانهم وجيوش الغازي الفينيقيّ الجرّارة تُحاصر روما.
لأسباب تاريخيّة وجغرافية اختلفت فلسفة قرطاجة عن مَنْشَئِها الفينيقيّ على السّواحل اللّبنانيّة ربّما لأنّ الممالكَ الأُمَّ في ظلّ الملك بغماليون هي التي ورثت امبراطوريّة الفينيقييّن البحريّة ومصالحهم التّجاريّة وفلسفتهم السلمية. بينما نزعت قرطاجة لمحاولة بناء إمبراطورية على النّمط التقليديّ أي مملكة تقوم على الجيوش العظيمة (التي تستخدم المرتزقة) والفتوحات وإخضاع الأمم الأخرى.
ولا بدّ من القول: إنّ خلاف أليسار وبغماليون وما رافقه من مكائدَ كان نذير شؤم على الإمبراطورية التي لم تكن قد شهدت حتى ذلك التّاريخ نزاعات بهذه الحدّة على المُلْك، كما أنّ قيام قرطاجة على ضرب وحدة المجتمع الفينيقيّ والطّموحات الجامحة التي غذّتها، وتبني فينيقيّو تلك المستعمرة النّائية لِعَقليّة توسّعية مناقضة تماماً لفلسفة الفينيقييّن المسالمة، كان أيضا نذير تحوّلات مشؤومة ستؤدّي قبل وقت طويل إلى انهيار قرطاجة وذهاب مجدها القصير، لكنّ النتائج الكارثيّة لن تقف عند ذلك الحدّ لأنّ التوتّر الشّديد وروح العداء الذي أثارته حملة هَنيبعل على روما ذهبت بالاحترام التّقليديّ الذي كانت تتمتّع به ممالك الفينيقييّن على ساحل المتوسّط وخلقت ما يكفي من المبررات لارتداد الرّومان على الممالك الفينيقيّة وإنهاء ملكها وإزالة آثاره إلى الأبد.

الشيخ بشير جنبلاط

عَمود السّماء

الشّيــخ بشيــر جُنبـلاط

الشّيخ بشير جنبلاط (1775-1825) هو أهمُّ المشايخ المقاطعجيِّين في جبل لبنان في العهد الشِّهابيّ، وهو القائم بِدَور كبير زمن الأمير بشير الثّاني، والمُشكِّل معه ثُنائيَّة في الحُكم استمرَّت طوال ثلاثة عقود، كانا خلالها قُطبَي العمل السِّياسيّ، ومِحور معظم الأحداث. ونظرًا لأهمِّيَّته تلك لا يُكتَب تاريخ الإمارة الشِّهابِيَّة إلاَّ ويُذكَر فيه بصفحات كثيرة، ولا يُكتَب تاريخ الأمير بشير إلاَّ ويُشكِّل جزءاً كبيراً منه، ولا يُكتَب تاريخ الموحِّدين (الدّروز) إلاَّ ويبرز فيه أحد أعلامِه الكبار.

الزَّعامَة المُبكِّرة
الشيخ بشير جنبلاط المكنَّى بـ (أبو علي)، والملقَّب بـ(عمود السَّماء)، هو ابن قاسم بن علي بن رباح بن جنبلاط. وُلِد في سنة 1775 في بلدة بعذران، في القصر الذي بناه جدُّه الشيخ علي، الذي عايَشَه ثلاث سنوات. وإذا كانت المراجع التاريخيَّة لم تذكُر شيئًا عن نشأته، ولا عن تحصيله العِلميّ، فإنَّ الاستنتاج يسمح لنا بالقول: إنَّ ما تلقَّاه من علوم كان محدودًا، شأنُه في ذلك شأنُ الأكثرِيَّة السَّاحقة من أبناء زمانه. أمَّا ما تلقَّاه من خبرة في الشُّؤون السِّياسيَّة والحياتِيَّة فهو وافِرٌ جدًّا، ذلك أنه ابن بيت عريق في التّعاطي السّياسي والاجتماعي، يُضافُ إليها وَفْرة ما تلقَّاه من خبرة عسكريَّة من خلال تعلُّم فُنون الفُروسيَّة والقتال في الميدان القائم أمام قَصْر جدِّه في بعذران. وكلاهما لا يزالان موجودَيْن إلى اليوم.
إنَّ أُولَى التجارب السياسيَّة والعسكريَّة للشّيخ بشير جنبلاط، هي اتِّخاذه وهو في سن السابعة عشرة موقفًا سياسيًّا، وموقعًا عسكريًّا، مُتعارضَيْن مع موقف وموقع والده قاسم، ذلك أنَّه كان في مواقع الكرِّ والفرِّ، التي دارَت في نهاية سنة 1791، وأوائل سنة 1792، في نهر الحمَّام، وعِينبال، وإقليم الخَرُّوب، مع عسكر البلاد، الذي يقوده الأميران الشِّهابيَّان (حَيدَر ملحم وقعدان) ضدَّ عسكر والي صيدا (أحمد باشا الجَزَّار)، الذي قَدِم مع الأمير بشير الشِّهابيّ الثاني لإعادته إلى الحُكم، وكان هذا العَسكر يضمُّ والدَ الشيخ بشير قاسم ، وتجدر الإشارة إلى أنّ الجزّار، الذي تسلّم ولاية صيدا سنة 1776، أقام في عكّا وجعلها مقرّاً للولاية حتى وفاته سنة 1804. وهكذا فعل من تسلّم هذه الولاية بعده.
وهنا يجدر التَّساؤُل: هل كان تعارُض الشيخ بشير مع والده في الموقف والموقع المذكورَيْن، من قَبِيل التعدُّد الطبيعي للميول والاتِّجاهات، أم مِن قَبِيل توزيع الأدوار بينهما، حتى إذا انتصَر فريق أحدهما يكون فيه خيرٌ للاثنَيْن معًا؟ وما يجعلُنا نطرح هذا التَّساؤُل ما ذكَرَه حنانيَّا المنيّر، وهو التّالي: “وكان الشيخ قاسم جنبلاط في كبسة شحيم مع عسكر البلاد، فلمَّا وصل إلى هناك خان واعتزل عن العسكر، وانحاز إلى الأمير بشير في عانوت. لمَّا رَكبت الدَّولة هذه المرَّة على الدَّير(دَيْر القمَر)، كان الشيخ بشير ابن الشيخ قاسم جنبلاط في نبع الحمَّام، ومعه جماعة من رجال الشُّوف، فترك أباه ومضى برجاله إلى نصرة البلاد”1.
ساهم الشيخ بشير مساهمة فعَّالة في دحْر عسكر الجَزَّار في موقعة عانوت، وظلَّ يتعقَّبه حتى دخل صيدا “وغنم عسكرُ البلاد جميعَ ما معهم حتى بِيع الفَرَس بقِرْش لكثرة الغنيمة”2.
تراجَع عسكر الجَزَّار مهزومًا إلى صَيْدا، ومنها قفل راجعًا إلى عكَّا ومعه الأمير بشير والشيخ قاسم جنبلاط. فسمح الجزَّار بِعَودة الأمير بشير، وأبقَى الشيخ قاسم مسجونًا في عكَّا إلى أن تُوُفِّي في أواخِر سنة 1793، “فأرسل الجَزَّار يطلب من الأمير بشير أن يرسل إليه الشيخ بشيرًا عِوَض والده الشيخ قاسم”3. وفي أحد المراجع التّاريخيَّة أنَّ الجَزَّار “دسَّ له سمًّا ومات ودُفِن في عكَّا، وقام ولده بشير عِوَضه”4.

إنَّ ما جرَى لِقاسم جنبلاط، مضافًا إليه عجز الأميرَين الشِّهابيَّيْن (حيدر، وقعدان) عن الاستمرار في الحُكم، وعَودة الأمير بشير إليه، كان له تأثيرٌ في تغيير موقف الشّيخ بشير، إذ إِنَّه تحوَّل إلى جانب الأمير بشير، حيث سيبدأ معه مسيرة طويلة معظمها صداقة وتحالُف، ونهايتها عَداء قاتل.

توحيد الزَّعامَة الجُنبلاطيَّة
إنَّ توحِيد الشّيخ بشير للزَّعامة الجُنبلاطِيَّة، هو، بعبارة موجِزة، إعادتها مُوَحَّدة بشخصِه، كما كانت في عهد جَدِّه الشّيخ علي المُؤَسِّس الفِعلي لهذه الزَّعامة، التي لم تتوفَّر مُعطَياتها في وراثتِه لِزَعامة والدِه رباح، وجدِّه جنبلاط، بقَدْر ما توفَّرَت في وراثته لزعامة عمِّه الشيخ قبلان القاضي، الذي كان له الشُّوف الحَيْطي، والشُّوف الشُّويزاني (السويجاني)، وبعض مقاطعة جِزِّين. كما أنَّ زَعامة الشيخ علي جنبلاط كانت مطلب أهالي الشُّوفَيْن المذكورَيْن وسِوَاهم، لأنَّهم اعتبَرُوها زعامتهم، ودفعُوا 25 ألف غرش ترْضِيَةً للأمير حَيدر الشِّهابي، كي يقبل بانتقال معظم ممتلكات الشّيخ قبلان القاضي إلى صِهره الشّيخ علي جنبلاط، فعُرِفُوا بـ(أهل السميّة) أو بـ(السميّة الجنبلاطيَّة). وعُرِف المال الَّذِي دفَعُوه بـ(مال السميّة). وقد ظلَّ الشّيخ بشير حريصاً على هذه (السميّة) ومصالحها، إذْ إنَّه في وصيَّته الوَقفِيَّة التي كتبَها سنة 1808، أوصَى الوُكَلاء بمَصالِح (السميّة الجُنبلاطِيَّة) 5.
إذن، إنَّ أهالِي الشُّوفَين كانوا يتطلَّعُون إلى زَعامة قويَّة تخلُف الشّيخ قبلان القاضي، يستَقْوُون بها، ويستظِلُّون بحمايتها في عهد سِيادة الإِقطاع، فوَجدُوها في الشّيخ علي جنبلاط الذي كان جديرًا بتحمُّل أعبائها، مُمتلِكًا صفاتِها، وقد جمع إلى جانب القيادة السِّياسيَّة، قِيادة دِينيَّة ممثَّلة بالاتفاق عليه شيخًا لِلعُقَّال، أي شيخ عَقْل6.
تجَزَّأَت أملاك الشّيخ علي جنبلاط ومعها زَعامته بين أبنائه وأحفاده، وبعد أن كان لها مَقرٌّ واحد هو دار بعذران التي بناها، تعدَّدَت الدُّور، فصار هناك دارٌ أُخرى بِقُربها بناها ابنه حُسَين، ودار في بلدة الخرَيْبة المُجاوِرة بناها ابنه يُونس، ودار المختارة التي استقَرَّ فيها ابنه نجم، وهي موروثة من الشيخ قبلان القاضي. وتوزَّعَت السميّة الجُنبلاطِيَّة على هذه الدُّور الأرْبع التي كان لِمَواقعها تأثير في التَّوزُّع، إذْ كان معظم أنصار قاسم، ويونس، وحسين، من الشُّوف الحيطي، ومعظم أنصار نجم من الشُّوف السّويجاني، وفي حين لم تبرُز المُنافَسات والنِّزاعات بين أبناء الشيخ علي، برزَت بِقوَّة بين أحفاده، وتحديدًا بين ثُنائيّة الزَّعامَتَين الرئيسَّتَين المُستقِرَّتَين في دارَي بَعذَران، والمُختارة، أي بين ابنَي قاسم (بشير، وحسن) في دار بَعذَران، وأبناء نجم (أبو قاسم حمد، وسيّد أحمد، وبشير) في دار المُختارة.
إنَّ توَزُّع المُلكيَّة العِقاريَّة، التي هي مصْدر لِلسُّلطة، على أبناء وأحفاد الشيخ علي جنبلاط، جَعل كُلاًّ منهم ذا ثَروة بسيطة، قياسًا على ثَروة الشّيخ علي الأصليّة، وإنَّ توَزُّع مَقارِّهم صعَّب اتِّخاذ القَرار المُشترَك، أو غيَّبَه، وجعلهم يذهبون في أكثر من اتِّجاه، وحتى في الاتِّجاهات المُتعارِضة، جرَّاء تدخُّلهم في صِراعات الأُمَراء الشِّهابيِّين المُتنافِسين على الإمارة، بِدعمٍ من الوالي العُثماني الذي كان يُناصِر فريقًا ضِدَّ آخَر.
برَز الشيخ بشير منذ أن اشترك في مواقع الكرِّ والفرِّ، والكبسات التي حصلَت بين عسكر البلاد وعسكر الجزَّار، والتي ورد ذِكرها، ومُنذُ أنِ استطاع تثبيت حُكم الأميرَين الشِّهابيَّيْن (حيدر، وقعدان) حوالي السنتَين، فغدا أقوَى الزُّعَماء الجُنبلاطِيِّين “وتقَدَّم على الجميع، فضادَّه بعض أقاربه حَسداً” حسبَما يَذكر المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق7. وأقاربه الذين ضادُّوه وحسدُوه هم أبناء عمِّه نجم في دار المُختارة، الَّذين كانوا ينافِسونه على الزَّعامة، ويتطلَّعُون إلى القيام بِدور مهمّ على مسرح الأحداث، ويرفضون تفوُّق زعامته على زعامتهم.
لا يَذكر المُؤَرِّخان حيدر الشِّهابي، وطنُّوس الشِّدياق عن صراع الشّيخ بشير وأخيه حسن، مع أبناء عمِّهما نجم، سِوَى القول إنه في نيسان 1793 كبس الشّيخ بشير وأخوه حسن أبناء عمِّهما في المختارة، وقتلوا الشّيخ حمد، والشّيخ أحمد، ولم يكن لهما عقب8. أمَّا المؤرِّخ يوسف أبو شقرا، فيَذكُر الأسباب ويقول “إنّ التَّنافُس بين الفريقَين مَوروث عن الآباء”، ويُعيد سبب كبسة الشّيخ بشير وأخيه حسن لأبناء عمِّهما إلى عِلمهما بمؤامرتهم عليهما، دبَّرُوها بالاتِّفاق مع بعض أهالي الشُّوف، فقاما بضربةٍ استباقيَّة، وهاجماهم قبل أن يهاجموهما، وفتَكا بِهم قبل أن يفتكوا بهما. وحين رأى الشّيخ بشير المتآمِرِين من الشّوف السّويجاني قادمِين إلى المختارة ليلاً، حاملِين مشاعلهم، أمَر رِجاله أن يُحَورِبوا بحسب عادة ذلك الزَّمان، فحَوْرَبوا، وأنهَوا حَوْروبتهم بالعبارات التالية مرفقة بإطلاق زخَّة من الرصاص: “راعي الدَّار الشيخ حسن، ذبَّاح الخَيل بو علي”9، أي الشّيخ بشير.
كان ما قام به الشّيخ بشير ذا نتائج سلبيَّة عليه في البداية، إذْ أثار القوَى المُناوِئة له والحليفة لِلأخوَين المقتولَين، وفي طليعتها الأُمَراء الحاكمون: أبناء الأمير يوسف الشِّهابي (حسين، وسعد الدين، وسلمان)، الَّذين طلَبُوا الشيخ بشير وأخاه، واسْتدعَوا قوَّات الجزَّار للقبض عليهما، الأمر الَّذي اضطرَّهما إلى ترك المختارة، وبَعذران. كما عُيِّن أبو دعيبس علاء الدين عبد الصمد مُتوَلِّيًا أمور الشُّوفَين بدلاً من آل جنبلاط، فأقام في قصر المختارة لسبعة أشهر، ممَّا أدخله وعائلته في نزاع مع الشيخ بشير وأخيه، عمد الشيخ حسن خلاله إلى الانتقام منهما ومن بعض أفراد عائلتهما، مع الإشارة إلى أنَّ بعض وجوهها كانوا من جملة المتآمِرِين عليهما مع أبناء عمِّهما نجم.
لكن ما قام به الشّيخ بشير أعطى النَّتائج الإِيجابيَّة التي توقَّعَها، وكانت بدايتها مع المُشترِكين في المُؤَامرة ضِدَّه وضِدّ أخيه، وهم من قرى مزرعة الشُّوف، وغرِيفه، وبعَقْلِين، وسِوَاها، إذْ إِنَّهم حين سمِعوا حَوْروبة رجاله الَّتي أنبَأَت بانتصاره، عادُوا أدراجهم قبل أنْ يصِلوا إلى المختارة، ثم ما لبِثوا أنْ تحوَّلُوا إلى نُصَراء له، ذلك أنَّ الأجْدَى لهم هو التَّعامُل مع الأحياء، لا العيش على ذِكْرَى الأموات، والأجدى لهم أيضاً إتباع الأقوِياء الَّذين كان من رُموزهم في تلك الفترة الشيخ بشير المشهور بدهائه وحنكته السياسية ومواقفه الصلبة، وأخوه حسن المشهور بِفُرُوسيَّته وشجاعته. وقدِ استقرَّ الشّيخ بشير في دار المختارة، واستقرَّ أخوه في دار بعذرَان. وهو، أي الشيخ بشير، لم يُبقِ الجرح الدَّاخلي مفتوحًا، ولم يترُك مجالاً لأحدٍ أنْ ينكَأَه، بل بلْسَمه نهائيًّا بتزويجه ابنته لنجم بن علي بن بشير.
إنَّ تَوحِيد الشيخ بشير للقَرار الجُنبلاطِيّ، ومَرْكزته بشخصه وبدار المختارة، كانا منطلق زعامته السِّياسيَّة التي استمرَّت مُتألِّقة، فاعلة، مؤَثِّرة في تاريخ لبنان حتَّى نهايته في سنة 1825. وأصبح توحيد القرار ووحدانية الزعامة نهجًا سار عليه آل جنبلاط-ولا يزالون-، زاد من قوَّة زعامتهم بصيغتها التَّقليدِيَّة، أو بصيغتها الحديثة المتطوِّرَة، وأبرَزَها بين سائر القِيادات والزَّعامات، حتى إنَّه عندما اغْتِيل فؤاد بن نجيب بن سعيد بن بشير في 30 تمُّوز 1921، وكان نجْله الوحيد كمال صغيرًا، تسلَّمَت زوجته الست نظيرة جنبلاط مقاليد الزَّعامة، حتى كبر ابنهما كمال فتسلَّمَها في سنة 1943، بعد وفاة ابن عمِّه حكمت علي نجيب جنبلاط في السَّنَة نفسِها.

مشايخ الموحدين الدروز في قصر بيت الدين - صورة تعود إلى مطلع القرن الماضي
مشايخ الموحدين الدروز في قصر بيت الدين – صورة تعود إلى مطلع القرن الماضي

الإِمساك بالقَرار الدُّرزِي
حِين تُوُفِّي آخِر الحكّام المَعنِيِّين (الأمير أحمد) بدون عقب، في سنة 1697، فضّل أعيان القيسِيِّين أميرًا شِهابيًّا سُنِّيًّا من خارج جبل لبنان، هو بشير الشِّهابِيّ، على أمير درزي يمنِيّ من الجبل. وحِين حاول أُمراء آل علم الدين اليمنيِّين استعادة الإمارة الدُّرزيَّة بمساعدة محمود باشا أبو هرموش، قضَى عليهم الأمير حيدر الشِّهابي بمُساعدة القيسيِّين في موقعة عَين داره سنة 1711، حيث انتهى بها الحزب اليمنِيّ، وفشلت محاولة الدُّروز استعادة الإمارة.
ثَبَّت الأمير حيدر الشِّهابي أقدامه، وغدا أميراً على الدُّروز في (جبل الدُّروز)، وخلَفَه أبناؤه وأحفاده، ومنهم الأمير بشير الثاني زمن الشيخ بشير، وخسر الدُّروز الإمارة، لكنَّهم حافظوا على إقطاعاتهم في جبل لبنان، وعلى السُّلطة المُتأتِّيَة منها. فكانت معظم أراضي الجبل بِيَد أُسَرهم المقاطعجيّة، ومنها أمراء آل أبو اللمع في المَتن الذين تنصَّرُوا تباعاً، والأمراء الأرسلانيُّون اليمنيُّون في الغرب الأسفل، الذين التزَمُوا الحياد، والذين تراجَع شأنهم ودَورهم. أمَّا الأُسَر المقاطعجيّة الأُخرى التي برزَت بِصفة المشايخ الكبار، فهي آل جنبلاط في الشُّوفَين، وآل العماد في العرقوب، وآل نكد في المناصِف والشَّحَّار، وآل تلحوق في الغرب الأعلى، وآل عبد الملك في الجرد.

كان من المُمكن للأُسَر الدُّرزيَّة المقاطعجيَّة أنْ تعوِّض عن فقدان الإمارة باتِّحادها، إلاَّ أنَّ المصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة كانت تُباعد بينها، إذْ قَلَّما اتَّحدَت كلُّها حول شأنٍ واحد، إذا استثنينا الخطر المباشر المشترك الذي يتهدَّدُها جميعها. فلقد تفسَّخَت الوَحدة القَيسيَّة، بعد زوال الغرضِيَّة اليمنيَّة، إلى غرضِيَّات انشغل الدُّروز في صراعاتها، وشغلوا أحيانا مُساكنِيهم بها، فكانت تعويضًا تافهًا عمَّا فقدُوه من نُفوذ.
إنَّ الغرضِيَّات الرئِيسة التي خلفَت الغرضيَّتَين (القيسيَّة، واليمنيَّة) ثلاث: اثنتان منها هما الغرَضِيَّتان (الجنبلاطيَّة، واليَزبكِيَّة) اللَّتان تعُود جُذورهما إلى نزاع الشيخ جنبلاط، والشيخ يَزْبك بن عبد العفيف العماد، اللَّذين عاشا في زمن الأمير فخر الدين. وإنَّ شُيوخ آل جنبلاط هم زعماء الغرَضِيَّة الجنبلاطيَّة، وشُيوخ آل العماد هم زُعماء الغرضِيَّة اليزْبَكيَّة، وقد انضمَّ إليهم آل تلحوق وآل عبد الملك لإيجاد نَوع من التَّوازن مع الغرضِيَّة الجنبلاطيَّة القويّة. أمَّا الغرضيَّة الثالثة فهي الغرضيَّة النَّكدِيَّة، وزُعماؤها المشايخ النَّكَدِيُّون. وكان الصِّراع على النُّفوذ بين مشايخ هذه الغرضِيَّات الثلاث يَتلاقَى غالبًا مع صِراع الأُمراء الشِّهابيِّين على الإمارة، فيُناصر فريق منهم أميرًا ضِدَّ أمير، فيما يَتوَسَّل الأمراء الشِّهابيُّون هؤلاء المشايخ لإزاحة خصومهم، ولتسلُّم الإمارة، ويعمد الأمير الحاكم منهم إلى سياسة “فرِّق تسُد” إِزاء المشايخ المقاطعجيِّين الدُّروز، من أجل إنفاذ قراراته، والثَّبات في مَرْكزه، وهذا ما أضعَف هؤلاء المشايخ وشتَّت قراراتهم.
كان القرار الدرزي في الجبل بيد مشايخ الأسر الخمس المذكورة، لكن آل تلحوق وآل عبد الملك كانوا أضعفهم تأثيراً فيه، لأنهم في المرتبتين: الرّابعة والخامسة، ولأن منطقتي نفوذهم هما خارج جبل الشوف، وبعيدتان عن مركز الإمارة (دير القمر)، فيما كان التأثير القوي في القرار الدرزي هو لمشايخ آل جنبلاط وآل العماد وآل نكد، الذين أمسكوا فعلياً به، لأنهم الأقوى من ناحية، ولأنهم من ناحية أخرى موجودون في جبل الشوف الذي غدا مركز الإمارة بعد انتقالها إلى المعنيين، والذي، نظراً لأهمّيته، توسَّع مدلوله فأصبح يشمل، إضافة إلى الشوف الحيطي والشوف السّويجاني واقليم الخروب والمناصف والعرقوب، الجرد والغرب والشحّار والمتن.
بعد أن لمَس الشّيخ بشير فوائد مَرْكزَة القرار الجنبلاطي بِيَده، عمد إلى الإمساك بالقرار الدُّرزي من خلال وسيلتَين، أُولاهما: تقوية حزبه، أي السميّة الجنبلاطيّة، بزيادة المُلكيَّة العَقاريَّة، ومُراكمة ثرَواتها، لأنَّها مصْدر السُّلطة. وثانيتهما: إضعاف المشايخ النَّكَدِيِّين الذين هم أشدُّ مُنافسِيه على النُّفوذ. وهذا ما جعله يلتقي مع آل عماد، ويشترك وإيَّاهم في المؤَامرة الَّتي دبَّرَها الأمير بشير للفتْك بالنَّكديِّين. وقد تمَّ تنفيذ المُؤَامرة في اجتماع بِدَير القمر بتاريخ 23 شباط 1797، دعا إليه الأميرُ بشيرٌ الشيخَ بشير، ومشايخَ آل العماد، والنَّكديِّين، للتَّفاوُض معهم حول بعض الشُّؤُون، ولإجراء الصُّلح مع النَّكديِّين حول خلاف سابق. ولم يكن الأمير بشير بحاجة إلى حجَّة للفتك بالنَّكديِّين، إذْ كانت جاهزة عنده، وأظهرها في بداية الاجتماع بتوجِيه اتِّهاماته إليهم، وأردف قائلاً لسائر المشايخ الحاضرين: “دُونكم هؤلاء…”. عندها بدأ الفتك بهم، وقُتِل من الحاضرين أبناء كليب النكدي الخمسة، وجرَى تعقُّب الغائبين، وقَتل من ظُفِرَ بهم، وجرَت مُصادرة مُمتلكاتهم، أو شراؤها بأسعار بخسة10.
يُمكن إيجاز أسباب الأمير بشير للقيام بمُؤَامرته على النَّكديِّين بحقده عليهم، لأنهم ساهموا في عزله مرَّتين، وبرغبته في التخلُّص من عصبيتهم المشاكِسة القويَّة، ومن هيمنتهم على العاصمة (دَير القمر)، واستِئْثارهم بمعظم عائدات مغالقها، وأسواقها، وصناعاتها، وتمتُّعهم بامتيازات أخرى فيها، تتمثَّل في منع ملاحقة أيِّ مطلوب في حماهم، بِمَن في ذلك من يذنب أمام السَّرَاي ويَعبُر مجرَى (نبع الشَّالوط) إلى حيِّهم. يُضاف إلى ذلك ما يمتلكونه من أراضٍ في خراج دَير القمر، وسائر بلدات وقرى المناصِف المحيطة بها.
ويمكن إيجاز أسباب العماديِّين برغبتهم في حماية إقطاعهم في العرقوب من تمدُّد نفوذ النَّكديِّين إليه، إذِ امتلك هؤلاء منه بعض المزارع على طريق دَير القمر- الباروك، وأكثر خطّار النكدي من إعتداءاته على مزارعهم في كفرنبرخ.
أمَّا الأسباب العائدة للشيخ بشير للاشتراك في ضرب النَّكديِّين، فهي تنحصر في اثنين. أَوَّلهما: دخول الشيخ بشير النَّكدِي قبْله إلى اجتماع في دَير القمر، فيما الأفضليَّة بموجب الأعراف والتقاليد للشيخ بشير جنبلاط ، كَونه أهمَّ المشايخ وله الحقُّ في التَّقدُّم عليهم. وهذا السَّبب ضعيف في رأينا، لأنَّ الشيخ بشير- وهو الأصغر سنًّا بين المشايخ- دعاه إلى الدُّخول بقوله: “ادخُل يا عمَّاه”، كَوْنه الأكبر سنًّا بين المَوجودِين. وثانيهما: -وهو السَّبب الرئيس- رغبة الشيخ بشير جنبلاط في تحجيم النَّكديِّين وكسْر شَوكتهم من أجل التَّوصُّل إلى الإمساك بالقرار الدُّرزي. وطالما ظلُّوا أقوِياء سيحُولُون بينه وبين ذلك. وهو لم يكن يطمَع بأملاكهم، بل كان يطمع بأخذ نفوذهم. فهو لم يأخذ من أملاكهم إلاَّ القليل جدًّا، وما أخذه أخوه حسن أخذه بالشِّراء، فيما كان النَّصيب الأكبر من أملاك النَّكديِّين وامتيازاتهم من نصيب الأمير بشير الذي كان الرَّابح الأوّل، والَّذي وزَّع بعض ما كسَبه على أقربائه.
إنَّ اشتراك الشّيخ بشير في الفتك بالنَّكديِّين كان سيفًا ذا حدَّين، إذْ وفَّر له ثمانِيَ وعشرين سنةً من الهيْمنة على القرار الدُّرزي، وما في ذلك من نفوذ ومنافع. لكنَّه بالمُقابِل كان أحدَ عَوامل نهايته عند دخوله في الصِّراع مع الأمير بشير، ذلك أنَّ الأخير ترَك عن قصدٍ بعض ذكور فرع كليب الذي فُتك به، حتَّى يكونوا أعداء أكيدِين للشّيخ بشير، جاهزِين عند الطَّلب للعمل ضدَّه، لأنَّه، ومِن منطلق خبث سياسته، عاد وحضَن هؤلاء الذُّكور، فإذا بهم بدلاً من أنْ يقتصُّوا منه، كَونه رأس المؤامرة عليهم، وقفُوا معه نكايةً بالشيخ بشير وانتقامًا منه كما سنرى. وحين خطَّطُوا في سنة 1831 للانتقام من الأمير بشير لم يكن لهم أيُّ أمل في النَّجاح، وظلَّ ذلك مُؤَامرة خفيَّة.
أزاح الشيخ بشير، بتغيِيب النَّكديِّين عن المَسرح السِّياسي، الحلقة الدُّرزيَّة الأقوَى من المنافسين له، ولم يَبقَ إلاَّ الحلَقات الدُّرزيَّة الأضعَف، المُمثَّلة بسائر المشايخ الكبار. وبعض هؤلاء تحالَفوا معه، وبعضهم الآخَر أضعَفَه الأمير بشير الذي كان يعمل على مركزة القرار. وتَبعًا لذلك ساد الشيخ بشير في المقاطعات التَّابعة له، وامتدَّ نُفوذه إلى خارجها، وامتدَّ صِيته إلى خارج جبل لبنان. وغدا الزَّعيم الدُّرزيُّ الأقوَى بين زُعماء جميع المناطق المأهُولة بالموحِّدين الدُّروز، تُسمع كلمته، ويُؤخذ برأيه، ويُعوَّل عليه، ويُستنجد به. وهذا الصُّعود السِّياسِي، والنُّفوذ المُتنامِي، سمح له بالتَّدخُّل في شؤون الإمارة السِّياسيَّة، وفي الشُّؤون الاجتماعيَّة.

خلوة الموحدين الدروز في قصر بيت الدين كانت مؤشرا على النفوذ الكبير للشيخ بشير في بلاط الأمير بشير الشهابي
خلوة الموحدين الدروز في قصر بيت الدين كانت مؤشرا على النفوذ الكبير للشيخ بشير في بلاط الأمير بشير الشهابي

الاشتراك في القضاء على جرجس وعبد
الأحد باز
كما تلاقَت مصالح الأمير بشير، والشيخ بشير، وآل العماد، في ضرب النَّكديِّين، هكذا تلاقت مصالحهم ومصالح آل تلحوق، وآل عبد الملك في تصفية الأخوَين جرجس، وعبد الأحد باز، في 15 أيَّار 1807، ذلك أنَّ جرجس باز مدبِّر أبناء الأمير يوسف الشِّهابي، ومهندِس اتِّفاقهم مع الأمير بشير على أن يحكموا بلاد جبيل بالاستقلال عنه، تعاظَمَ أمره، وأخذ دَور النَّكديِّين في دَيْر القمر التي هو أحد ابنائها المَوَارِنة. فتَضرَّر منه جميع مَن وَرد ذِكرهم أعلاه، خصوصًا الأمير بشير، وأخوه الأمير حسن، إذْ بدا منافسًا للأمير بشير على النُّفوذ. وإذا كانت لِكلٍّ منهم أسبابه في ضرب جرجس باز، فإنَّ السَّبب المهمَّ عند الشيخ بشير هو تحدِّي جرجس باز له، على أثر حادثة الدِّبِّيّة والجاهليّة.
أطلق جرجس باز ستّة من نصارى بلدة الدِّبِّيّة دون سؤال الأمير بشير، الذي سبق له أن سجنهم بناءً على طلب الشيخ بشير، لأنَّهم ضربوا أُناسًا من بلدة الجاهليّة، ثم أبلغ الأمير بذلك بحضور الشيخ بشير. وحِين تعرَّض له الشيخ بشير قائلاً: “إنَّه إلى الآن ما جرَى عادة أنّ نصرانيّ الدّبّيّة يمدّ يده إلى دُرزي الجاهليّة”، تحدَّاه جرجس باز بالكلام، وممَّا قاله له: “بينِي وبينَك سهل البقاع، والسالم لسعادة الأمير، أو إني بِجْعَل شيخ عقلك يبُوس إِيد خُورِيي”، وخرج غاضبًا، وكلٌّ في قلبه حزازة ضدَّ الآخَر. ثم كتَب جرجس باز إلى أخيه عبد الأحد في جبيل، وإلى آل الخازن يخبرهم بالحادث، فأجابوه أنَّهم مستعِدُّون لمُناصرته في أيِّ وقت11.
إنَّ الفتك بجرجس باز، وأخيه، وسائر وجوه الفتك والتَّصْفيات الجسديَّة، التي جرَت آنذاك بالأشخاص والأُسَر، هي أساليب مكيافيليّة منافيَة للاعتبارات الإنسانيَّة، لكنَّها مبرَّرَة في عالم السِّياسة بضَرُورات الدِّفاع عن النَّفس، وبتحقيق الطُّموحات والمصالح، وقد اعتمدها الملوك، والخلفاء، والسَّلاطِين، والحُكَّام، والأُمراء، والشُّيوخ، والأعيان. وأكْثَرَ منها الأمراء الشِّهابيُّون، واعتمدوها ضدَّ بعضهم البعض وضدَّ الآخَرين. ومن وُجوه ذلك تصْفِيَة الأمير يوسف الشِّهابي لأخيه أفندي، وخالَيْه بشير، واسماعيل 12. كما من وجوهه ما اعتمده الأمير بشير ضدَّ خصومه، ومنهم الشّيخ بشير نفسه كما سنَرَى.

الأعمال العُمْرانيَّة
كان الشّيخ بشير يأتي في المرتبة الأُولَى بين المقاطعجيِّين بتملُّك الأرض والثَّرْوة، وقد امتلَك في أوْج مجدِه ثُلث أراضي الجبل حسبما جاء في رسالة القنصل الفرنسي في صَيْدا (الكسيس تايبو) في رسالته بتاريخ 18 أيلول 1814 13. وكانت الأموال الطَّائلة تتجمَّع لدَيْه من غلال الأراضي، ومن الضَّرائب المفروضة على الفلاَّحين، فيُسدِّد الأموال الأميرية المطلوبة منه للدَّولة، ويعتمد على الفائض المُتبقِّي لدَيْه في كسْب رضَى الوُلاة العُثمانيِّين، وفي تَوليَة الأمير الشِّهابيّ أو تثبيته في الإمارة، وفي مسائل البِرِّ والإحسان التي أنفَق في مجالها بسنةٍ واحدة 650 ألف غرش على الفقراء جميعا 14. كما أنفَق قدْرًا كبيرًا من الأموال في أعمال البِناء والعِمران.
أحدَثَ الشيخ بشير في قصر المختارة بعض الأجنحة، والإضافات، والنَّوَاحي التَّجميليَّة، وأنجَز بعض الأعمال العِمرانيَّة في قرية المختارة وسِواها، وهي ما يلي:
• التبرع بالمال لبناء ضريح لشيخ العقل حسين ماضي في العبادية سنة 1802.
• تجديد ميدان ملعب الخَيْل أمام قصر المختارة سنة 1806.
• عقْد بناية بوَّابة الدَّار الفَوقانيَّة في قصر المختارة سنة 1807.
• تجديد عَين المختارة، وإنشاء بناءٍ عليها سنة 1807.
• إنشاء مسجد (مجلس) للدُّروز في المختارة سنة 1808.
• جرُّ المِياه إلى قصر المختارة بقناة من نهر البارُوك
سنة 1808.
• إنشاء تربة (ضريح) سنة 1808.
• بناء جِسر على نهر بحنِّين سنة 1809.
• إنشاء مقعد في الدَّار التَّحتاتيَّة بقصر المختارة، مكشوف من جهاته الأربع، وهو على عمود في الوسط، مثمَّن، ودايرُهُ حَوض يستلقِي الماء من ثمانية أنابيب، سنة وذلك سنة 1809.
• إكمال بناء القاعة في الدَّار الفَوْقانيَّة سنة 1810.
• إشادَة إِيوان بِقُبَّة مزخرفة مقابلة للقاعة سنة 1812.
• إنشاء جامع بالقُرب من قصر المختارة، شبِيه بجامع الجزَّار في عكَّا، سنة 1812.
• بناء سبيل في بلدة مرستي سنة 1812.
• بناء دار لولَدَيه (قاسم، وسليم) في المختارة سنة 1813.
• تجديد بناء جسر سنة 1813.
• إنشاء مقصف على جانب القاعة بقصر المختارة للاستراحة الصَّيفِيَّة.
• المساعدة في تجديد بناء دَيْر مشموشة.
• المساعدة في بناء كنيسةٍ في المختارة على أرضٍ قدَّمَها لمَسِيحِيِّي البلدة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ جرَّ الأمير بشير مياهَ نبع الصَّفَا بقناة إلى القصر الذي شادَهُ في بيت الدِّين، سنة 1814، جاء تشبُّهًا بالشّيخ بشير الذي سبقَهُ إلى ذلك بستِّ سنوَات حين جرَّ المياه من نهر الباروك إلى قصره في المختارة. كما تجدر الإشارة إلى أنَّ الإنجازات العِمرانيَّة للشّيخ بشير مؤرَّخة بقصائد، أو أبيات للشَّاعر نقولا التّرك، ومُدرَجة في ديوانه 15. وهي بحسب تواريخها حصلَت بين سنتَي 1806 و 1813، أي في سبع سنوات هي المرحلة الذَّهبيَّة من زمَنِه.

نجدة دُروز الجبل الأعلى
بعد قيام الحركة الوهَّابيَّة في الجزيرة العربيَّة، امتدَّ تأثيرها إلى بلاد الشَّام، ووصلَت طلائع قوَّاتها، في تمُّوز 1810، إلى سهل حَوران، وتجاوزَتْه إلى جبل حَوران فبلغَت بلدة عرى. وبعد أن أَوْقَف والي دمشق زَحْف رجال هذه الحركة، عمل إلى الحدِّ من امتدادها الفِكريّ، باعتماد أسلُوب عقائدي هو إِحياء المَظاهر السَّلَفِيَّة المتشدِّدة مع المسيحيِّين، ومع أتباع المذاهب الإسلامية غير السُّنِّيّة، وكان من نتائج ذلك على دُروز الجبل الأعلى، الواقِع إلى الغَرب من حلَب، تعرُّضُهم للضُّغوطات والمُضايَقات من قِبَل جيرانهم السُّنَّة، ومحاولة هؤلاء القضاء عليهم.
كان الشّيخ بشير، آنذاك، أقوَى شخصيَّة دُرزيَّة في بلاد الشَّام كلِّها، فاستغاث به دُروز الجبل الأعلى، وطلبُوا مساعدته العاجلة، فعرَض الأمر على الأمير بشير، فكتَب إلى صديقَيْه: سعيد آغا حاكم أريحا، وطبّل آغا حاكم جسر الشُّغور، لتسهيل مهمّة بعثة أرسلها والشّيخ بشير، قوامها ثمانون رجلاً، وفي مقدَّمها حسُّون وَرْد، وبشير حسن أبو شقرا، وفارس الشِّدياق. وقد تمكَّنَت هذه البعثة من الإتيان بأربعمائة عائلة عن طريق البقاع، فوصلُوا أوَّلاً إلى زحلة، ومنها توزَّعُوا في قرى المتن، والغَرب، والشّوف وحاصبيَّا، وراشيَّا ومدينة بيروت، وعُرِف المُتحدِّرُون منهم باسم الحلبي، نسبة إلى جهات حلَب التي جاؤوا منها16 . وقد خلَّد الشَّاعر نقولا التّرك مأثرة البشيرَيْن، وهذا بعض ما قاله:
مــــــــــن الأعـــــلــــــــــى تــــــــــَرجَّــــــــــتْ فيــــــــــه قــــــــــَومٌ أَراهــــــــــــمْ حــــــــــــادِثُ الأيــــــــــَّامِ فَــــــــــجْـــعــــــــــا
فنـــــــــادَوْا يــــــــــا شِهابَ العَصــــــــــرِ أَشْرِقْ علينــــــــــا وَاقْمَــــــــــعِ الأَخْصَــــــــــامَ قَمْعــــــــــا
فــــــــــَلاَ الشَّـــهْــــبــــــــــاءُ عــــــــــادَتْ مُــــــــــرْتَجــــــــــانــــــــــا وَلاَ الأَعْلَــــــــــى لَنــــــــــا سَكَنًا ومَرْعَى
وجَــــــــــاؤُوا بِــــــــــهِم مِنَ الأَعْلــَى وأَوْلــــــــــَوْا قُــــــــــلــــــــــوبَ الضِّــــــــــدِّ إِنْكــــــــــاءً ولَكْــــــــــعَــــــــــا
تَـــــــــــــــلــــــــــقَّــــــــــاهــــــــــُمْ بَــــــــــشِيــــــــــرُ الْــــــــــعِــــــــــزِّ شَــــــــــيــــــــــْخٌ سَما بَــــــــــيْنَ الشُّيوخِ عُــــــــــلاً ورِفْعَــــــــــا
وأَكْـــمَــــــــــلَ كُـــــــــــــــــلَّمــــــــــا يَــــــــــقْضِــــــــــي اعْــــــــــتَنــــــــــاهُ لِــــــــــرَاحتِهِــــــــــم وَأَحْكَمَ فيـــهِ وَضْعَــــــــــا
فــــــــــَأَمــــــــــْســــــــــَوْا آمِنِــــــــــــــــــــين علَــــــــــى صَـــــــفــــــــــاءٍ بــــــــهِ رَدَعُوا خُطوبَ الدَّهــْرِ رَدْعَــــا71
إنَّ تطلُّع دُروز الجبل الأعلى إلى الشيخ بشير جنبلاط دليلٌ على تجاوُز صِيتِه وشهرته حدود المقاطعات اللبنانيّة إلى سائر المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدُّروز) في بلاد الشَّام. وإتيانه بِدُروز الجبل الأعلى مع ما جاء عند المُؤَرِّخ إبراهيم العورة عن محاولته ضمّ إقليم البلاَّن إلى جبل الدُّروز 18 (جبل لبنان الجنوبي)، أوحى للأستاذ عارف أبو شقرا، محقِّق كتاب “الحركات في لبنان”، أنْ يقول: إنَّ الشَّيخ بشير أراد تكتيل دُروز بلاد الشَّام وجمْعهم في منطقة واحدة “تمتدُّ من البحر إلى جبل حَوران، يكون هو المهيمن عليها، ويكون معظم سكَّانها جنودًا له” 19. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ محاولة الشيخ بشير ضمَّ إقليم البلاَّن لم ترِدْ إلاَّ عند المؤرِّخَين إبراهيم العورة ويوسف خطّار أبو شقرا.

مع البابا بيوس السَّابع
كان سكَن الرُّهبان والرَّاهبات في المقاطعات اللُّبنانيَّة، في دَيرٍ واحد، أمرًا مقبولاً من بعض رجال الدِّين المَوَارنة، ومن بعض مقاطعجيِّيهم كآل الخازن مثلاً، على اعتبار أنَّ الرَّاهبات يساعِدْن في العمل بِحقول الدَّيْر، ويقُمن بخدمة الرُّهبان. وبالمقابل، كان هذا السَّكَن مرفوضًا من البطاركة، ومن بعض المطارنة، لِمعاكسته القوانين الكنسيَّة، ولِما يثير من التَّساؤلات والشُّكُوك، ولِما ينتج عنه من المزالق، لكنَّهم عجزوا عن حلِّ هذه المشكلة التي سبَّبَت أزمةً بلغَت مسامع البابوِيَّة في رُوما.
تدخَّل البابا لحسْم هذا الموضوع الذي يتناقَض مع القوانين المقدَّسة، فكَتَب إلى بطريرك الطَّائفة المارونِيَّة ومَطارنتها، يدعوهم إلى عقْد مَجْمع دِينيّ يلغي العيش المشترك في الأدْيِرة، ويحدِّد أدْيِرَة خاصّة لكلٍّ من الرُّهبان والرَّاهبات، ويحدِّد مكانًا دائمًا لإقامة كلٍّ من البطريرك والأساقِفَة، وينهي النِّزاعات حول الأوقاف. وحِين تأخَّر عقْد هذا المَجْمَع الدِّيني كتَب البابا إلى الشَّيخ بشير جنبلاط رسالةً في 15 شباط 1817 يقول فيها:
“شمِلنا فرَح كبير إذْ بلغَ سمْعنا لأوَّل مرَّة من جملة المزايا الرَّفِيعة التي تتحلَّى بها نفسكم، وعطفكم الخاصّ على الكاثوليك المَوَارنة.. نطلب منكم -والنفس واثقة- أنْ تسهرُوا بحمايتكم واهتمامكم على أولادنا الأعزَّاء، الكاثوليك المَوَارنَة، وتُتابعوا إعارة سُلْطتكم وخدماتكم، فتنفذ أحكامنا المذكورة العائدة بالخير على قوانين الطَّائفة الكنسيَّة. واعلموا أنَّكم بعملكم هذا تحقِّقون أمرًا عزيزًا علينا، وتساهمون في سبيل ازدهار الطَّائفة المارونيَّة الكريمة، وتوطيد السَّلام بين أبنائها”.
عقَدَ البطريرك الماروني والمطارِنة مَجْمع اللُّوَيزة في سنة 1818، وساهَم الشَّيخ بشير، والأمير بشير، في إنجاحه، وفي تحقيق طلب البابا. وأرسل الشَّيخ بشير رسالة إلى البابا بتاريخ 21 رجب سنة 1233هـ =27 أيّار 1818م. هذا بعض ما جاء فيها:
“وما تَقدَّم من فحوى الخطايا صار معلومنا، وحسب المرغوب بسطْنا أعراض الرَّجا لسعادة أفندينا الأمير بشير الأفخم -أطال الله بقاه-، فيما التمسْتُموه من لَدُنْهُ، ومن وُفُور غَيْرَته، ومزيد شهامته، أمَر بإتمام مطلوباتكم إلى حضرة مُحبِّنا البطرك ومُحبِّينا المطارين، وأقاموا مَجْمعهم وانتها [وانتهى] حسبما أمرتموهم به بمُوجب رسوم ديانتكم” 20.
إنَّ جدَّ الشَّيخ بشير جنبلاط (الشيخ علي) تلقَّى رسالة من قَداسة البابا كليمنت الثالث، تاريخها 11 أيلول 1765، يطلب منه أنْ يشمل بعنايته البطريرك الشَّرعي تايودوسيوس، ويمنع البطريرك الدَّخيل اغناطيوس من التَّجاسُر عليه، وبلبلة سلام وهدوء الكاثوليك المتَّحدين مع الكرسي الرَّسولي. وفي رسالته هذه، ورسالة حفيده الشَّيخ بشير، دليل على اهتمامهما بشؤون المسيحيِّين، وعلى رعايتهما لهم، كما فيهما وفي غيرهما من الرَّسائل المُرسَلة من البابَوات إلى سائر مقاطعجيِّي الدُّروز، دليل على أنَّ الموحِّدين (الدُّروز) الذين استقْدَموا المسيحيِّين إلى مناطقهم، أو استقبلوهم فيها، عاملوهم أفضل معاملة، وتسامَحوا معهم، ووهبوهم الأراضي، وساعَدوهم في بناء الأدْيِرَة والكنائس، وفي تنظيم شؤونهم، وسهَّلوا لهم سبل العمل، الأمر الذي أَرْسَى قواعد متينة من العيش المشترك، لم يُزعْزِعها فيما بعد إلاَّ التَّدخُّل الخارجي، ونشوء فكرة قيام الوَطن المسيحِي على حساب الدُّروز، عندما اختلَّ التَّوَازن الديمغرافي لمصلحة المسيحيين بِفضل تكاثُر أعدادهم، وتَنامِي ثرواتهم.

ثُنائيَّة البشِيرَيْن
أمسك الشَّيخ بشير قاسم جنبلاط بالقرار الدُّرزي، وأمسك الأمير بشير قاسم الشِّهابي بحُكم جبل لبنان ما عدا جبيل. ثمّ قويَ موقعه بعد الفتك في العام 1807 بجرجس وعبد الأحد باز، وهذا ما سمح له بانتزاع بلاد جبيل من أبناء الأمير يوسف الشهابي وضمّها إلى الإمارة. ومنذ ذلك التّاريخ شهد تاريخ جبل لبنان ثنائيَّة البشيرَيْن بالاسم، وبالفِعل، والتي يمكن أن نطلق عليها تعبير الحُكم المزدوِج.

ما كان الشَّيخ بشير يطمح إلى توَلِّي الإمارة، لأنَّه ليس أميراً، ولأنَّ مسألة إمارة الجبل حُسِمت في موقعة عَين داره لمصلحة الأسرة الشِّهابيَّة، حتَّى إنَّ المعارضِين للأمير الحاكم كانوا يسيرون في معارضتهم له تحت شعار أميرٍ شهابي أو أكثر، لإيصاله إلى الحُكم. وكان الأمير بشير يعْلم أنَّ الشَّيخ بشير لا ينافسه على منصبه، وإنَّما على النُّفوذ، كما يمكنه أن يُزَعزِع استقرار أوضاعه بتأييد المنافِسِين له من أبناء الأمير يوسف وسِوَاهم. لذا، ما كان بوسعِه إلاَّ أنْ يعطي الشَّيخ بشير المجال الحيَوِي لِدَوره، حتى أنّه كان يعامله معاملة الأمراء اللّمعيِّين والشِّهابيِّين، فيكتب له في نصف طبق، بينما يكتب في ربع طبق لغيره من المشايخ، باستثناء مشايخ آل حماده في بلاد جبيل، لأنَّهم قديمًا كانوا يتولَّون أمْرها، والشَّيخين ناصيف وحمُّود النَّكديَّيْن، “وهو لم يذكُر كنية إلاَّ للشَّيخ بشير جنبلاط لأنَّه كان على جانب عظيم في البلاد” 21. وكنية الشَّيخ بشير هي أبو علي.
وعلى هذا بُنِيَت ثُنائيَّة البشيرَين واستمرَّت، فكانت على الشَّكل التَّالي: سُلطة إداريَّة رسميَّة للأمير، وسُلطة مقاطعجيَّة فعليَّة للشَّيخ بشير، تُوَازي سُلطة الأمير، مع تفوُّق الأمير بامتلاك القَرار الرَّسمي، وتفوُّق الشَّيخ بالرِّجال والثَّروة، بحيث كان يمدُّ الأمير بالرِّجال في المَواقع، وبالأموال لتلبيَة طلبات الوُلاة العثمانيِّين.
كان الأمير بشير أكبر من الشَّيخ بشير بلقَبِه، وبمَوقِعه الذي يمكنه بواسطته انْ ينزع من الشَّيخ ما يشاء من مقاطعات. وقد وَرد الحديث عند المؤرِّخ إبراهيم العورة عن الشَّيخ بشير أنَّه كتخدا الأمير بشير22، أي وكيله وأمينه. وفي حين لُقِّب الأمير بشير بـ(الكبير) لأنَّه أهمُّ الأمراء الشِّهابيِّين، ولِلتَّميِيز بينه وبين الأميرَين: بشير الأوَّل، وبشير الثَّالث، لُقِّب الشَّيخ بشير بـ (عمود السماء). فإذا كان الأمير بشير عمود الإمارة، فإنَّ الشَّيخ بشير هو عمود ما هو أهمُّ من الإمارة، أي السماء.
وهناك مَقُولة تعبِّر عن شأنَي البشيرين وهي: “الصِّيت لأبُو سعدَى، والفِعل لأخُو عدلا”23. وأبو سعدَى هو الأمير بشير، وأخو عدلا هو الشيخ بشير. وكانت اللاَّيدِي استر استنهوب البريطانيَّة المُقِيمة في بلدة جون، تنظر إلى الشَّيخ بشير باحترام كلِّيّ، وقد حافظت على علاقاتها الجيِّدة معه، في حين أنَّ علاقتها بالأمير بشير بدَأَت تسوء منذ سنة 1818، ثم نقمت عليه عند قيام النِّزاع بينه وبين الشَّيخ بشير، وعند اتِّخاذه الإجراءات القاسِيَة ضِدَّه24.
يَصِف المؤرِّخ يوسف خطَّار أبو شقرا علاقة البشيرَين ببعضهما، وكيفيّةَ تصريفهما للشُّؤون، فيقول: إنَّ الأمير بشير حين يصله البريد من عكَّا، كان يُرسله إلى الشَّيخ أوَّلاً ليفضَّه ويطَّلع عليه، وبعد تحرير الأمير للأجوبة، كان يرسلها إلى الشَّيخ ليقف عليها “فينفِي منها ما يريد نفْيه، ويثبت ما يريد إثباته”. ولم يكن الأمير يعيِّن مأمورًا أو يعزل موظَّفًا “إلاَّ بأمر الشَّيخ”. كما أنَّ الرَّاغبين في الاستخدام كانوا يسألون الشَّيخ أوَّلاً قبْل الأمير، وكانوا لا يُكملون الطّريق إلى الأمير إذا لم يَرُقْ طلبهم للشَّيخ 25.
إنَّنا نرى أنّ كلام المؤرِّخ يوسف أبو شقرا ربّما ينطبق على الأمير عبّاس الشهابي الذي تسلّم الإمارة سنة 1822، ولا ينطبق على الأمير بشير، كما أنَّه لا ينطبق على جميع الشُّؤون وينطبق على السَّمِيّة الجنبلاطيّة فقط، إلاَّ أنَّ فيه دلالةً على مدَى تاثير الشَّيخ بشير في قرارات الأمير، وهذا أمرٌ ما كان متيسِّرًا إلاَّ قليلاً جدًّا قبْل الشَّيخ بشير، بين الأمير الشِّهابي ومقاطعجيِّي الجبل، الَّذين كانت تحُول تجاذباتهم وتضارب مصالحهم دون اتِّخاذ القَرار الموَحَّد. وإضافة إلى ما ذكَرَه المؤرِّخ يوسف أبو شقرا عن أهمِّيَّة الشيخ بشير، نرَى في ديوان شاعر الأمير بشير (نقولا التّرك) ما يدلُّ أيضًا على هذه الأهمِّيَّة، إذ فيه عشرات المدائح في الشَّيخ وفي تاريخ مناسباته.
تَعاوَن البشيران في تصريف الشُّؤون وتَسْوِيَة المشكلات، وإجراء التَّسوِيات، ونادرًا ما كان الأمير بشير يرفض طلبًا للشَّيخ، أو حلاًّ لمسألة يطْرحه. ومن وجوه ذلك إصلاح الشَّيخ الأمر بين الأمراء الشِّهابيِّين والأمراء الأرسلانيِّين، بعد خلاف نشبَ بينهم في مأتم الأمير موسى منصور الشِّهابي سنة 1807، وإصلاح الأمور بين الأمير بشير ومشايخ آل الخازن، وإعادة مقاطعة كسروان إليهم، وتَولِية الشَّيخ بشارة جفال عليها. وقد تعمَّقَت جرَّاء ذلك العلاقة بين آل الخازن وآل جنبلاط، ولا تزال مستمرَّة إلى اليوم، مع الإشارة إلى أنَّها تعُود إلى زمن الشَّيخ علي جنبلاط، حيث ساهم آل الخازن في دفْع مال السميّة لإجراء التَّسوِيَة مع الأمير حيدر الشِّهابي على ترِكَة الشَّيخ قبلان القاضي.
ساعَد الشَّيخ بشير الأميرَ بشير في تثبيت دعائم حُكمِه، وأنجدَهُ بالرِّجال للقَضاء على عاميّة لحفد، وخاض معه المَواقع الحربيَّة مع والٍ عثمانيٍّ ضدَّ آخَر، وتحمَّلا نتائج الهزيمة والخسارة، ومن ذلك سجنهما معاً في عكا سنة 1794م ومغادرتهما البلاد بعد عاميّة انطلياس وعزْل الأمير بشير عن الحُكم. كما نَعِما بمنافع الانتصار والرّبح. وقليلاً ما تَعارَض موقفهما، كوُقُوف الأمير بشير موقف المؤيِّد ضمناً للجنرال بونابرت عند بلوغ جيشه عكَّا سنة 1799، وغضِّه النّظر عن المساعدات المُرسَلة إليه، في حِين تخوَّف الشَّيخ بشير من تقدُّم الجيش الفرنسي إلى الجبل. لذا، كان أحد زُعماء الدُّروز المجتمعين في عبيه في مقام الأمير السَّيِّد، حيث تقرَّر التَّصدِّي للفرنسيِّين، وللأمير بشير.
بعد نحو ثلاثة عُقود من التَّحالُف والتَّعاوُن بين البشيرَين، حصلَت أحداث وتحوُّلات سياسيَّة كُبرى فرَّقَت بينهما، ووَجد الأمير بشير فيها فرصة سانحة للتَّخلُّص من مُشاركة الشَّيخ بشير له في القَرار. ناصَرَ الأمير بشير في سنتَي 1821 و1822 والي صيدا عبد الله باشا في قتاله لوالي دمشق درويش باشا، وجاراه الشَّيخ بشير بدايةً وقليلاً في ذلك، لكنَّه حين علِم أنَّ الدَّولة العثمانيَّة تؤيِّد درويش باشا، ضدَّ عبد الله باشا الذي خرج على إرادة السُّلطان محمود الثاني، نصح الأمير بشير بالوُقُوف مع الدَّولة. وقد أسْفَر هذا الصِّراع عن هزيمة عبد الله باشا وتراجُعِه عن دمشق، بعد قدوم مصطفى باشا والي حلَب، مرسَلاً من الدَّولة العثمانيَّة لنصرة درويش باشا. وكان من الطَّبيعي أنْ يتأثَّر وضْع الأمير بشير بذلك، فسعى الشَّيخ بشير لدَى درويش باشا، لإبقائه في الحُكم، لكنَّه رفَض ذلك مفضِّلاً بقاءه إلى جانب عبد الله باشا، وسافَر إلى مصر، وهناك صار مقرَّبًا من واليها محمّد علي باشا الذي كان يقرِّب إليه أمراء ومشايخ العشائر في بلاد الشَّام تمهيداً لأخذها من الدَّولة العثمانيّة.
كان الأميران حسن وسلمان الشِّهابيَّان مرشَّحَي الحزب اليزبكي لتسلُّم إمارة الجبل مكان الأمير بشير، فحال الشَّيخ بشير دون وصولهما، وعمل لدى درويش باشا على تولية الأمير عبَّاس الشِّهابي، فكان له ذلك في آب 1822، وبما أنَّ الفضل في تولية هذا الأمير هو للشّيخ بشير صار الأمير مُسَيّراً كلياً بإرادته بدليل ما صَّرح به لميخائيل الدّمشقي عند مراجعته له في مسألة ماليَّة، إذ قال له: “إنَّك لحدِّ الآن ما عرفْت بأنِّي أمير على طاولة الطَّعام فقط، وأنَّ كلَّ شيء بيد الشَّيخ بشير26”. وبناءً على ذلك يمكن القول إن الشَّيخ بشير صار الحاكم في الجبل بعد عزْل الأمير بشير.

قلعة عكا من الداخل حيث أعدم الشيخ بشير جنبلاط
قلعة عكا من الداخل حيث أعدم الشيخ بشير جنبلاط

صِراع البَشِيرَيْن
قال الأمير يوسف الشِّهابي لشيخ العقل يوسف أبو شقرا أثناء مناظرتهما الحادَّة حول ضريبة الشَّاشيَّة التي فرضها الأمير: “البلاد لا تتَّسع ليُوسفَين”، فأجابه الشَّيخ يوسف: “المزروك يرحل”. أي المتضايق يرحل. وهذا الأمر نفسه ينطبق على البشيرَين، وخصوصًا على الأمير بشير الذي كان متضايقًا من تعاظُم قوَّة الشّيخ بشير، ويترقَّب الفرصة السَّانحة ليتخلَّص من ازدواجيَّة الحُكم معه، والتي قبِل بها مُكرهًا ليؤمِّن استمراريَّته فيه. إذ بقدر ما كان دعْم الشيخ بشير له ضروريًّا ليثبت في الإمارة، بات عبئًا ثقيلاً عليه يرغب في إزاحته عن كاهله، والتَّحرُّر من قيوده. لذا رفض تولية درويش باشا له، لأنَّها جاءت بوساطة من الشيخ بشير.
وفي حين بدا للشَّيخ بشير انّ هيمنته على الإمارة الشِّهابيَّة ستستمرُّ بوجود الأمير عبَّاس، وأنَّ الأمير بشير ابتعد نهائيًّا عنها، حصل ما لم يكن في الحسبان، وما لم يكن متوقَّعًا حسب تطوُّر الأمور والوقائع، إذ إنَّ تدخُّل محمّد علي مع الدَّولة العثمانيَّة قلَب المَوَازين، وأعاد عبد الله باشا واليًا على صيدا، والأمير بشير أميرًا على الجبل. كما أنَّ عجز درويش باشا عن احتلال عكَّا لِدفاع عبد الله باشا القويّ عنها، آلَ إلى عزْل الدّولة العثمانيَّة له، وتعيين مصطفى باشا والياً على دمشق مكانه.
بعد وصول الأمير بشير إلى عكَّا أواخر سنة 1822، آتياً إليها من القاهرة، ومزوَّدًا بنصائح محمّد علي بضرب أخصامه من المقاطعجيِّين، أرسل إلى أعيان الجبل ينبِّئهم بقدومه، وإلى الشيخ بشير يطلب منه 750 ألف غرش كمساهمة في تأدية المبلغ المقرَّر لقاء العفو عنه، وإعادته إلى الإمارة. فقَبِل الشيخ بشير بذلك، وقدَّم مبلغاً آخَر لعبد الله باشا إرضاءً لخاطره.
انتقل الأمير بشير سنة 1823 من عكَّا إلى صَيدا، فوجد أعيان البلاد في استقباله وبينهم الشّيخ بشير الذي حضر في وفد كبير. فسار الأمير بشير بالموكب الضّخم نحو بيت الدِّين، ولدى الوصول إلى مرج بعقلين نادى الشّيخ بشير قائلاً: “يا شيخ بشير، درب بيتك من هون”27، وهذا يعني في الجغرافيا ألاَّ يكمّل الشّيخ طريقه إلى بيت الدِّين، بل يسلك طريق الصّليّب التي توصله إلى المختارة، ويعني في السِّياسة افتراقًا بينهما، وبداية للصِّراع السِّياسي الذي سينتهي صداماً عسكريًّا.
أظهرت الوقائع والتَّطوُّرات، ولا سيَّما الاجتماعات التي عقَدَها الأمير بشير مع عبد الله باشا، وجود مؤامرة ثلاثيَّة مدبَّرة ضدَّ الشّيخ بشير، عناصرها محمّد علي باشا، وعبد الله باشا، والأمير بشير، وأداتها التَّنفيذيَّة المباشرة هي عبد الله باشا، والأمير بشير، اللَّذان تناوَبا على ابتزاز الشّيخ بشير ماليًّا لإضعافه اقتصاديًّا وسياسيًّا، تمهيداً للقضاء عليه. وقد وعى الشّيخ بشير خلفيَّات ذلك وأهدافه ومخاطره، فعمد إلى إرضاء عبد الله باشا والأمير بشير بالممكن تقديمه لهما من الأموال، لكنَّه لم يتمكَّن من وقْف طلباتهما المتكرِّرة، وإشباع نهمهما إلى المال.
ابتعد الشيخ بشير عن الشُّوف، وأقام في راشيَّا. لكن عبد الله باشا قبل بعودته مقابل دفع أربعمائة كيس، فعاد إلى المختارة وذهب إلى بيت الدِّين لمقابلة الأمير بشير وبرفقته ألْفا رجلٍ من قبيل إظهار القوَّة. استقبله الأمير بحفاوة وخلع عليه، لكنَّه بعد ذلك أرسل من يبلِّغه استياءه من كبر الحشد الذي رافقه إلى بيت الدِّين، فعاد الشّيخ إلى مقابلة الأمير مع وفد صغير، لكنّ هذا لم يغيِّر شيئًا في مجريات الأمور، وفي سير الأمير في مخطَّطه، إذ توالت طلباته الماليَّة ومضايقاته للشّيخ بشير ولأنصاره، الأمر الذي اضطرَّ الشيخ إلى الابتعاد مرَّة ثانية عن البلاد، واللُّجوء إلى حوران، ثم العودة منها إلى عكَّار قاصدًا توسيط والي طرابلس سليمان باشا. وقبْل أن يصل فوجِئ بخبر وفاته، وبهذا فقَد أيّ أمل في تسويَة الموضوع بالسِّياسة وبالتَّوسُّط، وفي تأجيل الصِّدام العسكري مع الأمير بشير، وهو صراع أخطأ في تأخيره وفي المراهنة على الوقت وحصول المستجدّات، لأنَّ معطيات واحتمالات فَوزه فيه كانت في سنة 1823، وبعدها بقليل، أكثر منها في أواخر سنة 1824، ومطلع سنة 1825.
كان من أنصار الأمير بشير آل نكد، وآل تلحوق، وآل عبد الملك، وآل أبو اللمع، وآل الدحداح، وآل حبيش ومعظم الشِّهابيِّين وآل الخازن، وآل حماده، وآل عبد الصَّمد، ومعظم مسيحيِّي دَير القمر. وكان من أنصار الشّيخ بشير فريق كبير من الدُّروز، يضمُّ إضافة إلى الجنبلاطيِّين، آل العماد، وآل أرسلان. وكان معه بعض آل الخازن، وبعض الأمراء الشِّهابيِّين وهم: الأخَوان سلمان وفارس، وحسن أسعد، وعبَّاس الطَّامح إلى تسلُّم الإمارة، كما من أنصار الشّيخ بشير أيضًا الفلاَّحون النَّصَارى العاملون في أراضيه.
كانت الاستعدادات تجري للمعركة الحربيَّة بين البشيرَين، وكان أنصار الأمير يحتشدون في بيت الدِّين، وأنصار الشَّيخ بشير يحتشدون في المختارة. وقَبْل أنْ يأتي الشَّيخ بشير من عكَّار هاجم أنصاره قصر بيت الدِّين، لكنَّهم عجزوا عن احتلاله، لأنَّهم وسائر مقاتلي الجبل آنذاك لا يحسنون تسلُّق الأسوار كما قال القنصل الفرنسي هنري غيز الذي عاصر ذلك28.
وبعد أن ربح الأمير بشير المعركة سياسيًّا بوقوف الوُلاة العثمانيِّين معه، بدأ يربحها عسكريًّا بصدِّ رجاله الهجومَ على قصْره، ثم بِقدوم النَّكديِّين من دَيْر القمر وثنْيه عن الرَّحيل الذي عزَم عليه، وذلك بتقطيعهم حبال الأحمال المحمَّلة على الجِمال، وبِمُداوَمتهم على حراسة قَصْره، إذ إنهم وجَدوا في ما يجري فرصة سانحة للانتقام من الشّيخ بشير الذي ساهم في نكبتهم سنة 1797.
لا مجال هنا للتَّوَسُّع في الحديث عن المَواقع التي دارَت بين البشيرَين، وإنَّما يُمكن القَول إنَّه بعد هجوم رجال الشَّيخ بشير على بيت الدِّين تتالَت مَواقعهم الدِّفاعيَّة في خطٍّ تراجعيّ، وهي السِّمقانيَّة، سهل بقْعاتا وظهور الجدَيْدة، الجدَيْدة، المختارة، إضافة إلى كبسة بعقلين الفاشلة التي قام بها رجال الشَّيخ بشير ضدَّ أنصار الأمير في البلدة. كما يمكن القَول إنَّه كان للنَّجدة العسكريَّة المُرسلة من عبد الله باشا إلى الأمير بشير الدَّور الكبير الفعَّال في تخلِّي بعض أنصار الشَّيخ بشير عنه، وفي هزيمته.
تناوَل العديد من المؤرِّخين صِراع البشيرَيْن، والمواقع التي دارت بينهما29. وإذا كان لنا من رأيٍ خاصّ نُبدِيه، فهو تشبيه هذا الصِّراع بفُصولِه، وعناصِره، ونتائجه، بموقعة عَيْن داره في النواحي التَّاليَة:
1. كان المتقاتلون في عين داره دروزاً مما جعل القتال فيها درزياً درزياً. وكان معظم المتقاتلين في صراع البشيرين دروزاً، لكنّ القتال فيه لم يكن ذا طابع طائفيّ دِينيّ، وإنَّما ذا طابع سياسيّ وصراعٍ على النُّفوذ، بالرّغم من أن رجال الكنيسة المارونية ألّبوا المسيحيين على القتال مع الأمير بشير ضد الشّيخ بشير.
2. لم يتسنَّ لِعسكرِيِّ واليَيْ دمشق وصَيْدا نصرة أمراء آل علم الدِّين، ومحمود باشا أبو هرموش، لأنَّ الأمير حيدر الشِّهابي استطاع حسْم المعركة لمصلحتِه قَبْل وصولهما، في حِين تسنَّى لِعسكر والي صَيْدا (عبد الله باشا) الوصول إلى قلْب الشُّوف، والاشتراك في القِتال والمساهمة في حسْم المعركة لمصلحة الأمير بشير.
3. قضَى الأمير حيدر الشِّهابي، وبمُساعدَة القيسيِّين الدُّروز، على اليمنيِّين في عَيْن داره، وأفشل محاوَلة استرداد الإمارة الدُّرزيَّة. وقضَى الأمير بشير الشِّهابيّ على أكبر زعيم درزي هو الشّيخ بشير، وعلى مرْكزيَّة القَرار الدُّرزي التي تَوصَّل إليها، وجسّدها بشخصه، وذلك بمساعَدة فريق دُرزيّ له، مُمثَّل بالنَّكديِّين، والتَّلاحقة، وآل عبد الملك، وبعض الأُسَر الدُّرزيَّة الأخرى. وما استطاع بعد ذلك أحدٌ من أعيان الدُّروز القِيام بدَور الشَّيخ بشير أو ببَعضه، حيث كان ندًّا بالسُّلطة للأمير بشير، ذلك أنَّ الدُّروز بلَغُوا في الخمس عشرة سنة من أواخِر عهده أقصَى درَجات ضُعفهم، وأسْوَأ مراحل تدنِّي دَورهم في عهد الإمارة الشِّهابيَّة. أما الفراغ الذي تركه الشّيخ بشير. فقد ملأت معظمه الكنيسة المارونيّة.

الأمير بشير الشهابي الثاني - الشراكة المستحيلة
الأمير بشير الشهابي الثاني – الشراكة المستحيلة

تَمادِي الأمير بشير في اقتصاصِه ومظالِمه بعد انتصاره على الشّيخ بشير
بعد انتصاره على الشّيخ بشير انفسح المجال واسعاً أمام الأمير بشير للإمعان في إجراءاته القمعيَّة، والتَّمادِي في مَظالمِه، والاقتصاص بشتَّى الأساليب من أنصار الشَّيخ بشير بِمَن فيهم الأمراء الشِّهابيُّون، فسَمَل أعيُن، وقطع ألسُن الأمراء: عبَّاس، وسلمان، وفارس، لأنَّهم وقَفُوا مع الشَّيخ طمَعاً في تسلُّم الإمارة. وهذا، حسبما جاء عند ميخائيل الدِّمشقي، “قساوَة وحشيَّة، لأنَّ الفتْك أهْوَن من هذا العذاب، وكان النّاقص سكب رصاص في آذانهم ليصبحوا طرشان أيضاً”30.
تتبّع رجالُ الأمير بشير رجالَ الشّيخ بشير وأنصاره، فقتلوا كلّ من ظفروا به ولم ينجُ باختفائه أو بفراره، حتى أنّ الأمير اقتصّ ممّن لم يقفوا إلى جانبه والتزموا الحياد. ومن سَلِم من الاقتصاص بالقتل أو بالسجن، لم تسلم ثروته وأملاكه من المصادرة، كما لم تسلم من الهدم دور كثيرة.
هدَم الأمير بشير قُصور آل جنبلاط في المختارة وبَعْذران، ودكَّ بالبارود جامع المختارة الذي بناه الشَّيخ بشير كأحد الأدلَّة على إسلاميَّة الموحِّدين (الدُّروز)، وجرْياً على عادات أكابرهم منذ مئات السِّنين. إنَّ هدْم هذا الجامع ما كان لِيحصل بتصرُّف ذاتي من الأمير بشير نظراً لدقَّة الموضوع وخطورته، وإنَّما تمَّ بأمرٍ من والي صيدا عبد الله باشا الذي طلب ذلك “لأنَّ الدُّروز غيْر أهلٍ له”، كما جاء عند طنُّوس الشِّدياق31. وهذا يُظهر مدَى تحامُل عبد الله باشا على الشَّيخ بشير وقَومه الدُّروز، كما يُظهر دهاء الأمير بشير ونجاحه في إظهار إسلامه، وإخفاء مسيحيَّته التي عاش ومات عليها، كالعديد من الأمراء الشّهابيِّين، والتي نرجّح أنَّه أخَذها عن والده قاسم عمر حَيْدر الذي يذكُر طنُّوس الشِّدياق أنَّ البطرك اسطفان الغسطاوي نَصَّرَه في سنة 1764 32. لكنَّه حيَّرَ المؤرِّخين بِغموض هُويَّته الدِّينيَّة، إذ كان أميرًا مُعيَّناً من الدَّولة العثمانيَّة المُسلمة على المسلمين الدُّروز في جبل الدُّروز، الذي بات في عهده مكوُّنًا من أكثريَّة مسيحيَّة.

صادَر الأمير بشير ما في بُيوت آل جنبلاط، وخصوصاً دار المختارة، من تُحَف، وأسلحة، وحلَىً، وجواهِر، وما يردُ إليها من غلال الأملاك الواسعة، وصادَر كلَّ إِقطاعات الشَّيخ بشير المُمتدَّة من البقاع الغربي إلى البحر، ووزَّعها على أنصاره، وعلى أبنائه الذين نالُوا الحصَّة الكُبرى منها. فأعطَى الشُّوف وبعض إقليم الخَرُّوب للشَّيخَين حمُّود، وناصيف النَّكدي، وطلب منهما الإقامة في بلدة الشَّيخ بشير (المختارة)، التي وهَبهما إيَّاها أيضًا. وأعطى الغَرب الأسفل لآل تلحوق، باستثناء بلدة الشُّوَيفات التي أعطاها للأمير بشير ملحم شهاب، وأعطى بعض إقليم الخَرُّوب للشَّيخ حسين حماده، وأعطى إقليم جِزِّين وإقليم التُّفَّاح لِوَلده خليل، والعرقوب لولدِه قاسم.
أمعَن الأمير بشير خصوصاً في الاقتصاص من العائلات الجنبلاطيَّة، فعمَد إلى التَّضيِيق على أفرادها والفتك بوجهائها، ومُصادَرة ممتلكاتهم، ممَّا أدَّى إلى إفقارها، وإلى نزوح قسم كبير من أبنائها إلى جبل حوران (جبل العرَب). وكان يختلق السَّبب لِمَن يريد الاقتصاص منهم، ويجبرهم على تحرير صكّ فراغٍ وانتقال إلى أحد أتباعه.
بلَغ إضعاف الأمير بشير للمقاطعجيِّين الدُّروز مداهُ بقضائه على أكبرهم، الشَّيخ بشير. وبعد أن أضعف الموحِّدين (الدُّروز) سياسيًّا بالفتْك بزعمائهم واحدًا بعد آخَر، وتحجيم دَورهم، وأضعفَهم اقتصاديًّا بنهْب ثرَواتهم ومُصادَرة ممتلكاتهم، عمَد إلى إضعافهم اجتماعيًّا بتعيِين رُؤسائهم الدِّينيِّين، بحيث صار لهم منذ سنة 1825، وبِتدخُّل منه، ثلاثة شيوخ عقْل، اثنان منهم على أساس الغرضيَّتَين (اليزبكيَّة والجنبلاطيَّة)33. ثم إنَّ ما قام به خلال الخمس عشرة سنة التي أعقَبَت انتصاره على الشَّيخ بشير يطُول شرحه، ولكن يمكِن إيجازه بأنَّه من أهمِّ نتائج انفراده بالحُكْم، وخلوِّ الجوِّ له بعد تغيِيب أكبر شخصيَّة شارَكَته في الحُكم، وكانت ندًّا له.
في حديثه عن الأمير بشير يذكُر الأمير شكيب أرسلان، أنَّه “لم يَسْلَم بيت من بُيوت الأكابر في جبل لبنان من تغريم الأمير بشير بدلاً من المرَّة مرَّات”، كما يُضيف أنَّ ثروَته تَضاعفَت كثيرًا بِسبب ذلك، وأنَّه بِرغم كلِّ ما كان يُؤَدِّي للوُلاة كانت خزانته يوم صُرِف من وِلاية الجبل سنة 1840، تحوِي ثمانية عشر ألْف كيس، أي نحو سبعين ألف جنيه، عدا الحلى والمجَوهرات34.
يُضاف إلى هذه الثَّروة الطَّائلة، التي ذكَرها الأمير شكيب أرسلان، أملاك واسعة وغنيَّة، آلَت إلى الأمير بشير بلْصاً ومُصادَرة، وأربعة قُصور شادَها في بيت الدّين له ولأبنائه: قاسم، وخليل، وأمين. وأكبرها قَصْره الَّذي عُرف مؤَخَّرًا بـ(قَصْر بيت الدِّين)، وصار مُلكًا للدَّولة، ومقَرًّا صيفيًّا لرئيس الجُمهوريَّة. وإنْ كانت هذه القُصور كسِواها من قُصور أرباب الحُكم والشَّأن، دليلاً على العظَمة والجاه، ونَوعاً من أنواع العُمران، إلاَّ أنَّها بُنيت بأموال الفلاَّحِين والفُقراء، والضَّرائب الباهِظة التي كانت تُفرَض زيادةً عن المطلوب للدَّولة، وتُجبَى أكثر من مرَّة في السَّنَة. وقد بُني بعض أقسام هذه القُصور بما صادَره الأمير بشير بعد انتصاره على الشَّيخ بشير، وبالحجارة والأخشاب والرّخام والبلاط، التي نقلها بعد هدْم قصْر الشَّيخ، وجامِعِه في المختارة. ثم إنّ بيت الدّين كانت ملكاً للموحِّدين (الدّروز) قبل أن“يناكدهم الأمير بشير ويشتري أراضيهم وبيوتهم” حسبما جاء عند ميخائيل الدّمشقي35. لذا تركوها، وانتقلوا إلى بلدتَي كفرنبرخ، وبَعْذران، حيث حمَلوا فيهما شهرة (البتدِّينِي)، نسبة إلى بلدتهم الأصليَّة (بيت الدِّين).

المختارة اليوم
المختارة اليوم

نهاية الشَّيخ بشير
بعد هزيمته في أواخِر كانون الثاني 1825، تَرك الشَّيخ بشير المختارة متنقِّلاً من مكان إلى آخَر أمام قوَّات الأمير بشير التي تُطارده، واتَّجَه نحْو حوْران قاصدًا إمَّا عرب الفحيليَّة والسّلوط، حيث لجأ إليهم في السَّنَة الماضِيَة، وإمَّا المشايخ الحمدانيِّين في جبل حوْران (جبل العَرب)، حيث أمَّن عِياله في سنة1820 عندما غادَر مع الأمير بشير الشوف، إثر عزْل الأمير. ولدَى وُصوله إلى نوى وَجد نفسه ورجاله مُحاطِين بِقوَّات الدَّالاتيَّة بقيادة كنج آغا. فسلَّم لهذا القائد على أمان أُعطِي له، لكن القائد نهب أمواله ثم سلَّمه إلى والي دمشق مصطفى باشا الذي قام بتسليمه إلى والي صيدا عبد الله باشا، بناءً على طلب الأخير.
وَضع عبد الله باشا الشيخ بشير في السِّجن لِمدَّة ثلاثة أشهر، ولم يقتله لطمَعه في مالِه والمساوَمة على إطلاق سراحه. لكنَّ الأمير بشير الذي كان مصِرًّا على تصفِيَة الشّيخ بشير، ويخشى حُصول تحوُّل ما ضدَّه، أو تغييرٌ مفاجئ يُعَرقل مخطَّطه وسياسته، أرسل إلى محمّد علي باشا يُعْلمه بالأمر، ويطلب منه القضاء على الشيخ بشير، فكتَب محمّد علي إلى حليفه عبد الله باشا أنْ يُجْهزَ على الشَّيخ، فأمَر بشنْقه ورفيقه أمين العماد، ونفذ ذلك ليلة الخميس في 9 شوَّال 1240هـ = 27 أيَّار 1825م، حسبما جاء في رسالته إلى الأمير بشير الشِّهابي، وظلَّت جثتاهما معلَّقتَين أمام مدْخل عكَّا لمدَّة ثلاثة أيام. ويذكُر قنصل فرنسا بعكَّا في رسالته إلى رئيسه بتاريخ 26 حزيران 1825 أنَّ الشَّيخ بشير حين بلَّغَه الحَرس بأمر إعدامه “أدَّى الصَّلاة ومات ثابت الجَنان”، وأنَّ الحَبْلة التي عُلِّقَت برقبته انقطعت مرَّتَين، “فقال لجلاَّدِيه بهدوء: أليس عند سيِّدكم حبْلة في سرايَته أمْتن من هذه”36. وبِشنْق الشَّيخ بشير في عكَّا سنة 1825، بعد مَوت والده فيها بالتَّسميم له سنة 1793، تصبِح عكَّا شُؤْمًا على آل جنبلاط.
كَتب الشَّيخ بشير وصيَّته في سنة 1808 تحسُّبًا من المَوت، أو من القتل في إحدى المَوَاقع الحربيَّة، أو من القضاء عليه كما كان يحصل لأكابِر القَوم. وبنَى ضريحًا في سنة كتابة وصيَّته حتَّى يُدفن فيه. لكنَّه قُدِّر له أن ينتهي بعد 17 سنة من كتابة وصيَّته، وألاَّ يُدفَن في الضَّريح الذي بناه، وأن يُدفَن في أرضٍ غير لبنانيَّة، ذلك أنَّ أحد وُجَهاء دُروز فلسطين (مرزوق سعيد معدِّي)، وكان صديقًا لعبد الله باشا، طلب منه السَّماح بِدَفن الشَّيخ بشير ورفيقه، فنقلهما إلى قريته (يرْكا)، ودفنهما فيها خلْف مدفن الشَّيخ أبو سرايا، ولا تزال رفاتهما هناك.
نهاية الشيخ بشير و”المسألة الشرقية”
غالباً ما يجري النِّقاش بين المؤرِّخين حول مدلُول (الحَدث)، و(الحادثة)، ويختلفون حول الأمثلة عنهما لاختلاف زاوية النَّظر إليها، ولأدلجة المواضيع. فلقد اعتَبر بعض المؤرِّخين عزل الأمير بشير في سنة 1840 حدَثًا لِما تلاه من تطوُّرات، ونتائج خطيرة، فيما اعتبروا نهاية الشَّيخ بشير حادثةً لنتائجها المحدودة، في رأيهم. وفي الحقيقة أنَّ نهاية الشَّيخ بشير شنْقًا في عكَّا، بطلب من الأمير بشير المُنتصِر عليه، وبِقَرار من والي صيدا الذي نزَل عند طلب والي مصر (محمّد علي)، هو حدَث يتوالى فصولاً في تاريخ لبنان عُموماً، وتاريخ الموحِّدين (الدُّروز) خصوصًا، ماثل في الذّاكرة الشّعبيّة والأدبيّات، جاء في سلسلة تمهيدات محمَّد علي لاحتلال بلاد الشَّام، وهو من كان بِحروبه وتوسُّعاته جزءاً من المسألة الشَّرقيّة. لذا، يمْكن اعتبار الشّيخ بشير أيضاً إحدى ضحايا هذه المَسألة، وقد كانت لنهايته نتائج كثيرة ورَد ذِكرها، بعضها كارثي، ونتائج أخرى بعيدة لم يتَّسِع المجال لها.
يعتبر المؤرّخ كمال سليمان الصّليبي نهاية الشّيخ بشير على يد الأمير بشير حدثاً مؤثّراً في تاريخ لبنان، فيقول: “كان سقوط بشير جنبلاط حدثاً ذا أثر في تاريخ لبنان. فبقضاء الأمير بشير على منافسه القويّ، الواسع الثّراء، أصبح هو وحده السيّد المطاع في لبنان. لكنّه، في الوقت نفسه، قضى على الزّعامة الدرزيّة الفعّالة الوحيدة التي بقيت في البلاد. وبذلك سدّد ضربة قاضية على مكانة الدّروز فيها، وإذ ضعفوا وصاروا بلا قيادة، أحجموا عن التّعاون الفعلي في شؤون الإمارة، منتظرين فرصة سانحة للثأر. ولئن صحّ القول بأنّ الأمير الشّهابي المسيحيّ إنّما سحق الشّيخ الجنبلاطي الدّرزي، لا لأنه درزي، بل لأنّه كان خصماً سياسيّاً عنيداً، إلّا أن الدّروز حملوا الأمر على غير محمله. وما كانت سياسة الأمير بشير، فيما بعد، إلا لتجعلهم يمعنون في النّظر إليه كعدوّ مسيحي”37.
تمُرُّ السُّنون، ويدُور الزَّمان دَورته، وتتَوالى الأحداث آخذًا بعضها برقاب بعض، وتنسحب أيضًا آثار بعضها على بعض. وتبدأ الحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة في سنة 1975، ويكون من فُصولِها المَأسويَّة والكارثيَّة حرب الجبل، ويكون من أهمِّ محطَّات حرب الجبل صعود الميليشيات المسيحيَّة أو (القوَّات اللُّبنانيَّة) إليه مع الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان سنة 1982، واتِّخاذ بعض قراهُ وبلداته ثكنات عسكريّة لها، ومنها بيت الدِّين، وذلك بقرار مشترك من والي عكَّا مجازًا: الدَّولة اليهوديَّة، ومن حليفها، قائد القوات اللُّبنانيَّة (بشير الجميِّل). ويوضَع الموحِّدون (الدُّروز) أمام خطر التَّهجِير والإخضاع والإذلال، والتَّبعيَّة للمارونيَّة السِّياسيَّة التي يشكِّل عهد الأمير بشير إحدى مراحل نهوضها. لكنهم ينتصرون في حرب الجبل بقيادة حفيد الشّيخ بشير (الزَّعيم وليد جنبلاط).
لقد شاد الأمير بشير أحد أجنحة قصره في بيت الدّين، ولا سيّما واجهته ومدخله، مما نقله من قصر الشّيخ بشير جنبلاط وجامعه، وأنهى بناءه في سنة 1829، فأُرّخ ذلك ببيتين من الشعر يشيران أيضاً إلى انتصاره على الشّيخ بشير، وهما:
شـــــــادهــــــــا المـــــــــــولـــــــى الشّهابـــــــيُّ الـــــــذي جـــــــاء بـــــــــــــالسعـــــــد بـــــــشيـــــــراً لـــــــلأنـــــــام
وعلـــــــــــــــــــــى بـــــــاب الحمـــــــى قـــــــد أرّخـــــــوا دام نَـــــــصراً فـــــــادخلـــــوهــــــا بــــــــــــــسلام
وفي سنة 1983 أهدى الدّروز انتصارهم في حرب الجبل إلى المقاتلين الأبطال، وإلى الشّيخ بشير، وأرّخوا ذلك بثلاثة أبيات من الشّعر، وُضعت ردّا على البيتين المذكورين أعلاه، وهي:
هذا هــــــــــــــــــــــــــــــــــــو القَصْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ انْحَنَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى لِسُيوفِنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
لِمَلاحِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الأبطالِ لِلنَّصْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِ الْكَبِيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
وأَطَــــــــــــــــــــــــــلَّ فَجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرُ الحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقِّ بَعْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أُفـــــــُولِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ
والدَّهْرُ يَخْشَــى صَوْلــــــــــــــــــــــــــــــــــــةَ الشَّيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخِ البَشِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير

جمعيةُ الغد للتّنمية والإسكان تعلنُ عن طَرح وَحَداتٍ سَكَنيّةٍ فخمةٍ في مشروع الشّوَيْفات

متوسّط مساحة الشقّة بين 145 و 155 متراً مربّعاً
سعر البيع بين 800 و1000 دولار بالمتر المربع

أعلنت جمعيَّة الغد للتّنمية والإسكان وهي جمعيّة تابعة للمجلس المذهبيّ لطائفة الموحّدين الدّروز عن طرح أوّل دفعة من الوحدات السّكنية في مشروع الشّويفات للبيع (وهي شقق البلوك A ( كما أعلنت أن وحدات البلوك B ستكون جاهزة للتّسليم بعد سنة. أمّا البلوكات الثّلاث الأخرى فقد أنجزت أعمال الباطون فيها بالكامل، ويتوقّع أن يبدأ طرح وحداتها السّكنيّة للبيع ابتداء من العام المقبل.
وتُعنى جمعيّة الغد للتّنمية والإسكان بالدّرجة الأولى بإقامة مشاريع سكنيّة لأبناء مجتمعها. وقد باشرت عملها بإشادة مُجَمّع سكنيّ على العقار رقم /896/ في مدخل الشّويفات الشّمالي (العمروسيّة) وهو يتألّف من أربع بلوكات سكنيّة A,B,C,D وكلّ بلوك عبارة عن أربعة طوابق ويضمّ كلّ طابق أربع شقق سكنيّة تتراوح مساحة الواحدة منها بين 145 إلى 155 م2. ويحتوي المجمّع على طابق أرضي مُخصّص لمواقف السّيّارات وغرف النّاطور والكهرباء وطابق سفليّ تجاريّ وذلك على كامل مساحة البلوكات الأربعة.

مواصفات فخمة وتفصيل المُحتويات

تتألّف كلّ شقّة من صالون مع سُفرة وموزّع ومطبخ وثلاث غرف نوم وثلاثة حمّامات وشرفات وأحواض للزّهور عِلماً أنّ كلّ مبنى يضمّ مصعداً كهربائياً ذا مواصفات عالية وموقف سيّارة لكلّ شقّة.
الواجهات الخارجيّة تتضمّن نسبة عالية من تلبيس الحجر الطّبيعي. كما أنّ الحوائط الخارجيّة مزدوجة وذلك لمنع تسرّب المياه والحرارة.
أعمال الألمنيوم نوعيّة مُمَيّزة Sidem 2000 double glazing وإكسسوارات فولدا.
أعمال الصّحيّة من الطّراز العالي (الأنابيب الـ PPR ماركة RAK الإماراتية وقساطل الصّرف الصّحّيّ ماركة MIA اللّبنانية الصّنع ) مع تأمين مياه للشّرب وخطّ مياه بارد وساخن منفصلين وسَخَّان عدد 2 لكلّ شِقّة وتجهيز المواسير لزوم الطّاقة الشّمسيّة وخلّاطات إيطاليّة الصّنع مع بئر ارتوازي لكامل المشروع.
أعمال الكهرباء ذات مواصفات عالية ( كابلات لبنان + ticcino) وانترفون لكلّ شقّة.
أعمال البلاط الدّاخلي للمطابخ والحمّامات هي من السّيراميك ليسيكو الصّنع والصّالونات والموزّع قياس 60X60 إسبانيّة الصّنع وهي أيضاً من السّيراميك.
أمّا الأدراج والأقسام المُشترَكة فهي من الغرانيت والحجر الطّبيعيّ للمدخل الرّئيسيّ.
أعمال الطّرش والدّهان من شركة تينول.
أبواب الخشب الرّئيسة هي من خشب الماسيّف ( فراكيه) والبقيّة من الـ mdf ذات مواصفات عالية.
خزائن المطابخ من الألمنيوم والدّرف pvc المقاوم للرّطوبة مع غرانيت وستانلس في الأسفل.
هذا وقد بوشر ببيع الشّقق. ويترواح حاليّاً سعر المتر المربّع الواحد بين 800 و 1000 دولار أميركي.

للمراجعة :هاتف المشروع 800998/03 المكتب 341355/01

عماطور

عَمّــاطور الزّاهرة
بلدةُ الرِّجالات والمَشايخ الثّقات

سُمّيت «بَلدة الموحدين» لكَثرة مجالسها وخلواتها
وبرز منها خَمسة مشايخ للعقل كان لهم شأنُهم

الشّيخ محمّد أبو شقرا عهده استمرّ 42 عاماً
وأكبر إنجازاته، الوَحدة وبناء المؤسّسات

كنيسة البلدة القديمة شارك الدّروز في بنائها
ولازالت رمزاً للحضور المسيحيّ في عَمّاطور

مثل معظم أسماء قرى الجبل يعود اسم قرية عمّاطور» إلى الحقبة الآرامية وأصله باللّفظ الآرامي “en mayya d tura” ومعناه عين ماء الجبل، وقد تكون القرية أُعطيَت تلك التّسمية نسبةً إلى العَيْن الرّئيسة عند مدخلها الجنوبي والتي تسمّى اليوم «عين العريش» وربّما كان السّبب أيضاً وفرة الينابيع فيها. لكنْ وفي أغلب الحالات فإنّ المعنى الآرامي لاسم القرى في الجبل سقط في أحيان كثيرة مع الزمن لتحلّ محلّه مضامين جديدة متّصلة بحياة سكانها العرب الذين أعمروها منذ ما بعد الفتح الإسلامي، وغالبا ما تُعرف القرى اليوم بمعايير مثل أهمية عائلاتها أو ثقلها البشري أو السياسي أو التّضحيات التي قدمها أبناؤها في الملمّات.  وبهذا المعنى فإنّ عمّاطور المعاصرة عُرفت بكل هذه الأمور مجتمعة، فهي بلدة ذات ثقل بشري وسياسي وأهمية تاريخية وقد اشتُهرت بقوّة عائلاتها وتعليم أبنائها وأدوارهم البارزة في مواقع الدّولة والسّلك العسكري والتّعليم والسّياسة والدبلوماسيّة والقضاء والأدب والثقافة فضلا عن كونها أنجبت مشايخ عقل ثقات كان لهم أيضا أدوار بارزة في تاريخ المنطقة والموحّدين الدّروز.  فماذا نعرف عن هذه البلدة العريقة وعن أعلامها وآثارها وعن مساهمتها ومساهمة أبنائها في العمل لرفعة المنطقة ورفعة الوطن والمجتمع.

جُغرافية البلدة
تمتدّ عمّاطور على مساحة تقارب 577 هكتاراً أو ما يعادل خمسة ملايين وسبعمائة وسبعين ألف مترٍ مربّعٍ. وتتّصل أراضي عمّاطور بالأراضي التّابعة لمحافظة لبنان الجنوبي عبر القرى التالية: الميدان – جل ناشي – الغبّاطية – عاريّ (جنوباً). وتّتصل بقرى الشوف عبر: مزرعة الشوف (غرباً) يفصل بينهما نهر الباروك. عين قني (شمالاً). بعذران – حارة جندل – باتر – جباع (شرقاً). والجدير ذكره أنّ في عمّاطور 365 نبع ماء (على عدد أيام السنة!) تساهم في ريّ المساحات الزّراعية الشاسعة، رغم عدم اعتماد الأهالي على الزّراعة بشكل أساسي.
تبعد البلدة عن العاصمة 55 كلم، وعن مركز القضاء، بيت الدين، 14 كلم. وترتفع عن سطح البحر 850 متراً مما أعطاها مُناخاً مُميّزاً في الصّيف وفي الشّتاء، كما أنّ موقعها على الطريق العام بيروت- جزين (عبر الشوف) وعلى التقاطع الذي يربطها ببلدة بعذران وبلدات الشوف الأعلى جعل منها مركزاً مهمّاً ونقطة رئيسية لأهالي القرى المجاورة.
عدد سكّانها اليوم نحو 4,300 نسمة يتوزّعون على عدّة عائلات درزيّة ومسيحيّة، وتشكل عائلتا أبوشقرا و عبد الصمد نسبة 80% تقريباً من عدد السكان، أمّا النسبة الباقية فتتوزع على العائلات التالية: ناشي، ربَح، ناصيف، حرفوش، قنديل، الدّاهوك، سْليم، جوديّة، حسنية وأبوعاصي (دروز). وعائلات: سالم، جبارة، لْطَيْف، أبورعد، طوبيا، صوايا وكنعان (مسيحيّون).

ثروة مياه واقتصاد زراعيّ ــ حِرفي
كانت عمّاطور، وفقاً لمحاضر مجلس الإدارة الكبير في متصرفيّة جبل لبنان، “من أغنى القرى خراجاً ومالاً في الجبل المذكور، خلال النّصف الثاني من القرن التاسع عشر” وقد شجّع الإنتاج الزراعي الضّخم على قيام مؤسّسات صناعية، فانتشرت في البلدة المطاحن و معاصر العنب والزّيتون، وكان فيها أيضاً معصرة حلاوة وثلاثة أفران، ومحلّ صبّاغ، ومحلّ لتصنيع الأحذية، ومحل صياغة، و نول حياكة وربما أكثر. ونظراً لاتّساع الأراضي المزروعة (آنذاك) ومنعاً لأي خلافات على المياه وضع أهالي عمّاطور اتّفاقية لتوزيع مياه الريّ هي الأولى في المنطقة، ونصّت الاتفاقية على ما يلي حرفيّاً:
اتّفاق ما بين أهالي الضّيعة – عين ماطور على مياه الضّيعة وتقسيمها إلى عدّانين (12 ساعة):
حصة بيت بو شقرا أربعة أيام (ليل نهار) حصة بيت عبد الصمد أربعة أيام (ليل نهار) حصّة النصارا وأولاد الضّيعة: يوم وليل وكّل من تعدا او خالف يكون عنده خمسين قرش الى حاكم الوقت ويكون الله وأنبياؤه خصمه.
حرّر ذلك وجرا في ثلاثة أيام خَلت من شهر جمادى الأول من شهور سنة الف ومئتين وعشرين هجري (1805 م)».
(سيرة الشيخ محمد قاسم عبد الصمد) للأستاذ عادل سليمان عبد الصمد.
لكنّ الماضي الزّراعي الزّاهر تراجع مع الأسف كما حصل في كل مكان، وبات أغلب سكّان البلدة يعتمدون، وبشكل أساسيّ، على الوظيفة (في القطاعين العام و الخاص) وقد شجّعت مكانة البلدة وقوّة عائلاتها على انخراط رجالاتها منذ عصر مُبَكِّر بالخدمة العامّة وسجل البلدة حافل بكوكبة من أبنائها الذين بلغوا مراتب عليا في الدّولة اللّبنانية (مثل رئاسة أركان الجيش اللبناني وقيادة الشرطة القضائية كما أنّها أنجبت العديد من القضاة والسّفراء والقناصل والمدراء العامّين، وكبار الضباط في صفوف الجيش والقوى الأمنية. ورؤساء مصالح، ورؤساء الدوائر الحكومية وهذا فضلا عن عشرات الأطباء والمهندسين والمحامين وعدد آخر موزّع بين مهاجرين وأصحاب مؤسّسات ومصالح (صناعيّة ، تجاريّة) ومؤسسات تربوية ومكاتب هندسة. أمّا الذين لا زالوا يعتمدون على الزّراعة كمورد رئيسيّ فقد أصبحوا أقليّة في البلدة.

 

العين .. لكن أين الجرار ؟
العين .. لكن أين الجرار ؟

“بلدةُ الموحّدين”
كان لعمّاطور موقع ديني مرموق بين البلدات الشّوفيّة، حتى لُقّبت في حين من الأحيان “بلدة المُوحّدين” بسبب ما كان فيها من مشايخ ثقاة وخلوات ومجالس للذكر ونذكر منها خلوات المشايخ: علي حسين يوسف عبد الصمد، نجم معضاد أبوشقرا، قاسم فهد علي عبد الصّمد، محمود حسن شرّوف عبد الصمد، حمّود حيدر أبو شقرا، فارس يونس أبو شقرا، خلوات الحدّ (أبوعلي باز عبد الصمد) وخلوات الضّيعة لعائلتي أبوشقرا وعبد الصمد، ومجلس آل سْليم.
كما ارتقى خمسة مشايخ من عمّاطور سدّة مَشيخة عقل طائفة الموحّدين الدّروز هم: الشيخ ناصيف أبو شقرا، الشّيخ يوسف عربيد أبو شقرا، الشّيخ حسين سلمان عبد الصمد، الشّيخ محمد قاسم عبد الصمد والشّيخ محمد داوود أبو شقرا.

كنيسة عمّاطور
تُمثّل عمّاطور منذ القدم نموذجاً مُشَرِّفاً للمحبّة والتّعايش الدّرزي المسيحيّ، وتُعتبر كنيسة البلدة من أقدم الكنائس في الشّوف، وكانت من قبل تشغل موقعاً آخر في البلدة كان يعرف باسم محلة الكنيسة، ثم أشيدت الكنيسة الحاليّة في أواخر القرن التاسع عشر وشارك مواطني البلدة الدّروز أيضاً في بنائها.
يشكّل المسيحيّون في عمّاطور نسبة لا تقل عن 10 % وهم ينتمون إلى الكنيستين الكاثوليكيّة والمارونيّة وهم مُمَثّلون في المجلس البلدي، وبلغ كاهن عماطوري من آل جبارة مرتبة دينية مرموقة عندما جرت سيامته مُطراناً. ويقيم عدد كبير من مواطني البلدة المسيحيّين بصورة دائمة فيها بينما يحرص الباقون منهم الذين يقيمون خارجها بداعي العمل أو غيره من الأسباب، على أن يفِدوا إليها أيام الآحاد والأعياد وفي المناسبات للمشاركة في المراسم والاحتفالات الدينية. وهناك راعٍ للكنيسة يحضر من مطرانيّة صيدا ليترأّس القداديس أيّام الآحاد والأعياد وكذلك في المآتم حيث أنّ 90 % من المسيحيين يَدفنون موتاهم في عمّاطور، ويتشاركون مع أبناء بلدتهم الدّروز في غالبيّة المناسبات. ويلاحظ أنّ مالكي الأراضي المسيحيّين لم يُهملوا أرزاقهم بل هم يعتنون بها مباشرة أو بواسطة وكلاء وعمّال زراعيّين.

أحد شوارع البلدة
أحد شوارع البلدة

عمّاطور سياسيّاً
منذ القرن الثامنَ عشَرَ، لعبت عمّاطور دوراً بارزاً على الصّعيد السّياسي، و قد تجلّى هذا الدّور في عدة امتيازات لم تحصل عليها أيّة مدينة أو منطقة في لبنان، أهمّها أنّه كان على الفارس الترجّل عن حصانه أثناء مروره بساحة عمّاطور، حتّى لو كان الأمير بحدّ ذاته. و كان من يطلب الحماية من إحدى العائلتين (أبو شقرا وعبد الصمد) يُفرج عنه وتلازمه الحماية مدّة سنة وأنّ الأسير لا يمرّ في عمّاطور مقيّداً أو مَكتوفاً بل يجب أنْ يُفَكَّ قيدُه.

حاضرةُ عِلم وثقافة
كان أهالي عمّاطور منذ القدم تواقين إلى العلم والبحث والمعرفة. وقد أنشأ الشّيخ اللّامع سليمان نجم أبوشقرا الذي، كان يلقّب بـ “الفقيه”، أوّل مدرسة في عَمّاطور عام 1870، وكان يمتلك تجهيزات لتسطير الورق وقطعه وخياطة الكتب.
وفي العام 1905 أسّس الشيخ نايف أبوشقرا مدرسة أخرى. وفي العام 1912 أسّس السّيد نعمان ابوشقرا مدرسة ثالثة. وفي العام 1922 أسس الاستاذان أمين عبد الصمد وعارف أبوشقرا المدرسة الرابعة. وفي العام 1934 افتُتِحت المدرسة الرّسمية وكانت أوّل مدرسة رسميّة تكميلية في الشّوْف توالى على إدارتها كلٌّ من الأساتذة:
1. الأستاذ سامي أبوشقرا الذي كان له الفضل الأوّل في نهضة مدرسة عمّاطور ولما قدمه من تَفانٍ وسهر وبعد فوز أوّل دفعة بالشهادة التّكميليّة انشأ الصّف الأوّل الثّانوي دون العودة لوزارة التّربية.
2. الأستاذ سمير لْطَيف
3. الأستاذ حسن ضاهر أبوشقرا
4. الأستاذ شوقي أبوشقرا
5. الأستاذ منصور أبوشقرا
6. وحاليّاً الأستاذة جيهان أبوشقرا
وفي العام 1936 افتُتحت مكتبة تحت عنوان (غرفة المطالعات الديمقراطيّة).
وحوالي سنة 1942 أسّست السيّدة حميدة أبوشقرا مدرسة.
ولم تكن المدرسة الرسمية في عمّاطور لأبناء البلدة فقط فقد تخرّج من تكميليّتها عشرات الطّلّاب من باتر ومزرعة الشّوف وجباع وبعذران وعين قني ومْرستي وغيرها من القرى المجاورة.

بلدةُ الطُّموح
لعبت عمّاطور دوراً فاعلاً في جميع الحركات منذ القِدم ففي عهد فخر الدين الأوّل أيّ سنة 1516 تملّكت عمّاطور بعائلتيها عبد الصمد وأبو شقرا أراضي إقليم التّفاح الذي كان يضمّ 24 قرية، وبقيت هذه الحِيازة في يد العائلتين إلى أنْ استولى والي صيدا على قسم من إقليم التّفاح.
وقد نبغ وتميّز من هذه البلدة جمعٌ من الرجال في عدّة مجالات لا بدّ من ذكرهم بصورة مُختصَرة:
• أحمد علي منصور عبد الصمد عُيّن وكيلاً عن الشّوف الحَيْطي (الآعلى) في تحقيقات شكيب أفندي سنة 1845.
• حسين بشير أسعد أبو شقرا الذي كان يحمل الوسام العثماني الرّابع، وبعد تقاعده من الوظيفة أحدث في عمّاطور نهضة صناعيّة.
• حسن يوسف حمد أبو شقرا عُيّن مديراً لناحية الباروك في عهد الانتداب وأحرز الوسام المجيديّ الخامس. تولّى مشيخة عمّاطور لثلاثين سنة.
• حسين محمد شاهين عبد الصمد كان مديراً لمدرسة الشّرطة في القدس درس القانون وعين مُدّعياً عامّاً ثم قاضياً في مدينة حيفا.
• داود علي أحمد أبو شقرا الذي ترقّى من شرطي ليصبح مفوّضاً عامّاً ممتازاً في الشرطة فاشتُهر باكتشافه للجرائم وملاحقة المجرمين أقيم له تمثال في عمّاطور وأطلقت بلديّة بيروت اسمه على أحد شوارع العاصمة.
• صبحي نايف حمد جنبلاط أبو شقرا تخرّج من جامعة القدّيس يوسف وعُيِّن مديراً لمتحف بيت الدّين حقّق مع الدّكتور أسد رستم كتاب “الجواب على اقتراح الأحباب” ومخطوطة “وثائق لبنانيّة”.
• ضاهر عثمان معضاد نجم أبو شقرا كان سعيد بك جنبلاط يعتمد عليه نظراً لمقدرته وحُسن إدارته وقوّة شخصيّته. عُيّن وكيلاً مع أحمد علي عبد الصمد لشكيب أفندي لتسوية أحوال البلاد وعُيّن عضواً في مجلس إدارة الشّوف وعضواً في مجلس الإدارة الكبير.
• رفيق علي عباس عبد الصّمد نال شهادة الحقوق ومارس المحاماة سنة 1932 ثم عُين قاضيَ تحقيق لجبل الدّروز، وبسبب انتمائه إلى الكتلة الوطنية وسلوكه الوطني نفاه الفرنسيّون، ثمّ عاد بعد تقلّص نفوذهم إلى القضاء وشغل وظيفة عضو محكمة دير الزّور سنة 1942 ثم حاكم صلح دير الدروز ثم رئيس محكمة بداية درعا ثم قاضي استئناف في دمشق 1958 ثمّ رئيس محكمة جنايات سنة 1959 وأسّس بعد تقاعده مكتباً للمحاماة في الشّام 1966.
• عارف يوسف خليل أبو شقرا أنشأ أكثر من مدرسة ودرَّس في مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت وأصدر مجلّة “البادية” سنة 1928 واشترك في تحرير مجلّة “الأماني” وكتب في عدّة صحف باسم مستعار “أبو ذرّ” ودرّس في الكليّة السعوديّة، وكان شاعراً وكاتباً وخطيباً له عدّة كتب وبحوث ومخطوطات وديوان شعر.
• عباس محمود نجم معضاد أبو شقرا بعد أن أنهى دروسه سافر إلى مصر وعمل محرّراً في جريدة المقطّم وتعرّف بسعد زغلول ومكرم عبيد وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم، ثم عاد إلى لبنان ومن ثمّ سافر إلى الولايات المتحدة واشتغل في الصّحافة وكتب في “الهدى” و” البيان” و”نهضة العرب” ثم أصدر جريدة “البرهان” وانتُخِبَ سكرتيراً عامّاً لحزب سوريا الجديدة، وكان يجمع المساعدات ويرسلها إلى مجاهدي الثّورة السّورية وفي سنة 1934 حضر الى الوطن ففرضت عليه السلطات الفرنسية مغادرة الوطن خلال ثلاثة أيام. فذهب إلى اللّاذقية ثم إلى الشّام فاستقبله رجال الحركة الوطنيّة استقبالاً حافلاً أمثال شكري القوّتْلي وخالد العظم وجميل مردم بك وعمل على إزالة الخلاف وإحلال الصّلح بين أعضاء الحركة الوطنيّة وعاد إلى لبنان بعد رفع الفرنسيين الحظر عنه.
• محمّد بو شديد ناصر الدّين شبلي عبد الصمد، عُيّن ضابطاً في درك جبل لبنان في عهد المتصرّف داود باشا فنفّذ حملات ناجحة لمطاردة الأشقياء وكفّ شرورهم، ثم عُيِّن في سنة 1883 مديراً بالوكالة لمديريّة المناصف ثم وكيلاً لمديرية الجُرد ثمّ مديراً لمركز بعقلين، وبعد التّقاعد انصرفَ إلى الكتابة وألّف كتاباً ضخماً في تاريخ لبنان لم يُطبع وفُقدت مخطوطته.
• الشيخ محمد قاسم سليمان أحمد عبد الصمد من بيت وجاهة وثروة وتقوى أشرف على وقف سماحة الشيخ محمد حسين عبد الصّمد وكان تقيّاً ذا وقار وهيبة، تولّى مشيخة العقل سنة 1946 بعد وفاة الشيخ حسين حمادة واضطّلع بأعمالها بكلّ إخلاص.
• الشيخ أبوعلي ناصيف علي ابراهيم تميم أبو شقرا، شيخ جليل تولّى مشيخة العقل لمدة 15 سنة وكان على درجة رفيعة من الوجاهة والتّقوى عاصر الشّيخ علي جنبلاط، الذي كان يحترمه ويجلّه وقد أوصى بثروة طائلة إلى المجالس والخلوت والمشايخ أصحاب التّقوى وخاصة المجلس الذي يعرف باسمه: مجلس الشّيخ ناصيف.

بيت تراثي
بيت تراثي

• نسيب داوود علي أحمد أبو شقرا، بعد انتهاء علومه في مدرسة اللّيسه الفرنسيّة في بيروت بدأ حياته في الصّحافة فاصدر مجلة “البادية” مع الأستاذ عارف أبو شقرا. كانت لديه رغبة في السفر إلى المهاجر لكنّ والده ثناه عن ذلك وحَملَه على دخول مدرسة الشّرطة سنة 1933 وفي سنة 1940 أحرز رتبة مفوّض وبسبب نشاطه وإخلاصه وجرأته بلغ رتبة مفوّض عامّ ممتاز وشغل وظيفة مفتّش عام للشّرطة وفي سنة 1956 أسندت إليه قيادة الشّرطة القضائية. ثم بعد تقاعده أصدر مجلة “الحديث المصوّر” مع الأستاذ سلمان جابر والتي استمرّت لسنوات. مثَّل لبنان لسنوات في قيادة الأنتربول وتولّى رئاسة قسم مكافحة المخدّرات، نال عدّة أوسمة رفيعة.
• محمود حسين محمود سليمان أحمد عبد الصّمَد، بعد انهاء علومة في سوق الغرب استدعاه الأمير شكيب أرسلان ليكون أمين سرّه فصحبه إلى سويسرا سنة 1930 وعاد بعد سنة 1939 فانتخب رئيساً لبلدية عمّاطور وكان قد أسّس مع المجاهد على ناصر الدّين البحريني “دار الحكمة” للتّأليف والنّشر واستمرّ برئاسة بلديّة عمّاطور حتى سنة 1973.
• منصور قاسم سليمان أحمد علي عبد الصّمد تعلّم في مدرسة الحكمة في بيروت ودرس الحقوق في مكتب الحقوق الأعلى عين بعد تخرجه مأمور معيّة في بيروت ثم نُقل إلى نابلس ثم عين قائمّقام في صور. وبسبب تمنّعه عن إلقاء القبض على الأمير فيصل بن الحسين بناء لأمر جمال باشا فقد نُقل إلى معان ثم إلى تيرانا في ألبانيا، ثمّ رُقِّي إلى رُتبة مُتصرّف على السّليمانية في العراق وبعد جلاء الأتراك عُيّن متصرّفاً على السّلْط، فالكرك من قبل الأمير فيصل، وبعد احتلال الفرنسيّين الشّام عُيِّن مديراً عاماًّ للقضاء، ثم انتُخب عضواً في مجلس النّواب في جبل الدروز سنة 1921 وانتخب ثانية سنة 1922 وأخيراً شغل وظيفة رئيس محكمة الاستئناف في السّويدا، وبعد التقاعد اتّخذ مكتباً للمحاماة ومارسها لسنوات.

العزّ القديم
العزّ القديم

“بلديّة عمّاطور خليّة نشاط ومشاريع بنى تحتيّة واهتمام خاص بزرع الصّنــوبر وتطوير البيئة”

• نعمان محمود رافع ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة صيدا الأميركية ثم دخل في سلك الدّرك اللّبناني سنة 1918 وتخرّج من المكتب الحربي في حمص برتبة مُرشَّح ضابط. تقلّب في مراكز عدّة بين مرجعيون ومشغرة وزغرتا قام خلالها بالقضاء على عدّة عصابات ونال على أثرها التّرقية لملازم أوّل وعُيّن قائداً لدرك صور ثم رئيساً للحرس الجمهوريّ سنة 1927 وتقاعد برتبة نقيب.
• يوسف ملحم وهبة عبد الصمد، أكمل علومه الثّانوية في الاسكندريّة وثم سافر إلى الولايات المتّحدة ودخل جامعة شيكاغو وتخرّج منها طبيباً في جراحة الأسنان وعُيّن طبياً خاصّاً للخديوي عبّاس حلمي، ثمّ عاد إلى لبنان سنة 1906 وأنشأ عيادة لطبّ الأسنان هي الأولى في صيدا وحاضر في الجامعة الاميركيّة في بيروت بناءً على طلب الدكتور غراهام سنة 1939 تلقّى كتاباً من جلالة الملك فاروق مُنِح بموجبه رتبة البكويّة.
• (أبو زين الدين) يوسف أحمد عربيد أبو شقرا، تولّى مشيخة عقل الطائفة الدرزية سنة 1778 بعد الشيخ علي جنبلاط في عهد الأمير يوسف الشّهابي، وكان له مع الأمير جولات وأخصّها بشأن ضريبة الشّاشيّة حيث كان الأمير شديد الانحراف على الدروز وفرَض عليهم كثيراً من الضّرائب. وكانت أهمّها الضّريبة على العمائم سنة 1782 وبعد اعتراض المشايخ الدّروز ذهب الشّيخ يوسف أبو شقرا إلى مقر الأمير في دير القمر وبعد جدال محتدم قال له الأمير :البلاد لا تحتمل يوسفين” فأجابه الشّيخ أبو زين الدين “المزروك يرحل”!! وبعد عودته، وجّه كتاباً من بعقلين إلى كافّة وجوه البلاد دعاهم إلى الحضور في وقت محدّد بالأسلحة والمؤن والذّخائر “لأمر يحبّه الله” وسار أمام سبعة آلاف مقاتل نحو دير القمر بالأناشيد الدّينية ترتجّ منها أودية الشّوف، فوقع الرّعب في قلب الأمير فأراد أن يركن إلى الفرار لكن منعه من الهرب مشايخ آل نَكد ودخلوا في الصّلح وأُلغِيت ضربية الشّاشيّة وضرائب أخرى فهدأت المشاعر وصلحت العلاقة، لكنّ الأمير يوسف بدّل خطّته فأصبح يلاطف الشّيخ ويدعوه إلى مجلسه ثم أمر بأن يدسّ السم في طعامه في وقت مناسب وكان له ذلك.
• يوسف خطّار خليل ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة الحكمة في بيروت سنة 1892 ثم درس الفِقْه على يد الأستاذ عبّاس بك حميّة وزاول المحاماة في محكمة الشّوف. وكان يعرف اللّغات الفرنسيّة والانكليزيّة وشيئاً من التركيّة. وكان أديباً وشاعراً نُشرت قصائده في جريدة “الصّفا” سنة 1900، له دراسة نشرت في أعداد متسلسلة عن تاريخ دول أوروبا. اشتغل إلى جانب المحاماة في الصّحافة مع ابراهيم بك الأسود في تحرير جريدة “لبنان” وانصرف إلى تأليف كتاب الحركات في لبنان ثمّ عاد إلى العمل في جريدة “لبنان”.

رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد
رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد

بلديّة عمّاطور
استُحدِثت بلدية عمّاطور عام 1927 بموجب المرسوم رقم 1721 تاريخ 9 حزيران 1927. وعُيّنَت لجنة بلديّة للقيام بأعمال بلديّة عمّاطور- محافظة الشّوف بالمرسوم رقم 1778 تاريخ 24 حزيران 1927 مؤلّفة كما يلي:
رئيس: علي أفندي عبّاس عبد الصمد.
أعضاء: سلمان أفندي أحمد أبو شقرا، فؤاد أفندي حسين سلمان عبد الصّمد، فؤاد أفندي حسين يوسف أبو شقرا، بولس أفندي لْطَيف. (وهذان المرسومان محفوظان في مكتبة الأستاذ نايل أبو شقرا).
ساهم وجود بلديّة في عمّاطور في ذلك الوقت في إتمام عدّة مشاريع حيويّة للبلدة، إضافة إلى استفادة الأهالي من الخدمات الأساسية بشكل متتالٍ:
ففي العام 1936 وصلت شبكة مياه الشّفة الى المنازل وكانت آلة الضّخ هي الـ belier تعمل بقوّة ضغط المياه دون وقود.
أمّا الكهرباء فقد استفادت منها عمّاطور في العام 1951 حين استحصل السّيد فؤاد حسن أبو شقرا على إذن لتوليد الطّاقة الكهربائيّة من مولّد خاص.
وفي العام 1964 أسّست بلديّة عمّاطور أوّل مستوصف في البلدة.
كما قامت في هذه الفترة بصبّ المسالك القديمة للبلدة بالإسمنت بطول إجمالي زاد على 3,000 م. وبعرض وسطي يبلغ المترين. ثم استُحدثت شبكة الصّرف الصّحي عام 1970.
وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن توفّي أكثر من نصف أعضائه، حُلّ المجلس البلديّ وبقيت البلدية باستلام القائمّقاميّة حتى انتخاب المجالس البلديّة عام 1998 فاقتصر العمل في هذه الفترة على الأمور الضروريّة، لكنّ فعاليّة العمل البلدي عادت بعد الانتخابات حيث ضمّ المجلس البلديّ 12 عضواً، تميّز بوجود العنصر النّسائي، وقام بعدة مشاريع حيوية، نذكر منها:
• زرع 5,000 غرسة صنوبر جوي في مشاع البلدية في مرج عمّاطور.
• شراء قطعة أرض ملاصقة لمشاع البلدية مساحتها التقريبيّة 5,000 متراً مربعاً، وضمّها إليه.
• شراء مبنى مع قطعة أرض في السّاحة العامذة وجعله المركز البلدي.
• بناء خزّان لمياه الشّفة بسعة 380 متراً مكعّباً، واستبدال الشّبكة القديمة بالكامل.
• إصدار مجلّة مختصّة بالشؤون البلديّة، وكانت المجلّة الأولى في لبنان التي تُعنى بهذا الشأن، هي مجلّة “السّاحة”.
• إعداد مخطّط توجيهي للبلدة Zoning .
• انشاء محطّة لتكرير الصّرف الصّحيّ بتمويل من الوكالة الأميركيّة للتّنمية الدوليّة، وبالتّعاون مع اتّحاد بلديّات الشّوف الأعلى.
• إنشاء برك زراعية مخصّصة للرّي.
• إعادة تأهيل مصابيح الشّوارع بعدما كانت معطّلة بالكامل.
• إطلاق مهرجان عيد الزّيتون وجعله تقليداً سنويّاً، وذلك بمشاركة النّادي الاجتماعي الرّياضي والجمعيات الأهلية.
• بالإضافة إلى بناء الجدران والأقنية وصيانة الطّرق وغيرها من المشاريع.
بعد ذلك تمّ استحداث غرفة تعقيم على شبكة مياه الشّفة، لتصبح صالحة في جميع المنازل.

زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء
زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء

المجلس البلديّ الحالي
يقول رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد الذي يتابع مسيرة الإنماء والتّطوّر مع المجلس البلدي مجتمعاً: “قمنا بعدّة إنجازات هامّة، منها تقوية قدرة ضخّ مياه الشّفة، من خلال تأهيل نفق عين العريش الذي يفوق عمقه الـ 90 متراً بمواصفات عالميّة (بتمويل من الصّندوق الوطني للمهجّرين)، واستبدال المضخّات بمضخّات ذات قدرة دفع مضاعفة، وتركيب محطّة تعقيم ثانية على الشّبكة، تعمل المحطّات على التّعقيم بأشعة الـ UV وإضافة الـ Cl، كما قدّم الأستاذ وليد بك جنبلاط مولّداً كهربائيّاً لتشغيل الشّبكة” ومن إنجازات البلديّة أيضاً:
• إنشاء شبكة كهرباء لمولّد بقوّة 350 KVA يغذّي المنازل عند انقطاع الكهرباء، ويستفيد منه الأهالي بإنارة شوارع البلدة بشكل كامل، قدّمه الأستاذ وليد بك جنبلاط بمساهمة من معالي الأستاذ نعمة طُعمة والشّيخ وجدي أبو حمزة.
• تنفيذ أكثر من 3,000 م من أقنية الرّي، يتمّ العمل على إنجازها بالكامل.
• زراعة 1,000 غرسة صنوبر جوّي في مشاع البلديّة، وهناك قرار بزرع 1,000 غرسة أخرى.
• الاستحصال على رخصة إضافة بناء على المركز البلدي الحالي
• العمل جارٍ على تعديل تصنيف الأراضي بحيث تزيد نسبة الاستثمار.
• إطلاق “رحلة المرج” وهي رحلة سنويّة تنظّمها البلديّة إلى مرج عمّاطور، بغية التعرّف على الطّبيعة وخلق جوّ من الألفة والمحبّة بين أبناء البلدة الواحدة، وقد أصبحت هذه الرّحلة تقليداً سنويّاً.
• رعاية مهرجان عيد الزّيتون و تكريسه بشكل سنوي.
• مخطّط تجميل السّاحة العامة.
• السّعي لإتمام إضافة بناء على البناء الحاليّ لمدرسة عمّاطور الرّسميّة.

المَخْتَرَة
توالى في هذا الموقع كل من السّادة فؤاد حسن أبو شقرا ونجيب نايف أبو شقرا وحسيب عارف عبد الصمد وسمير أحمد أبو شقرا ومروان عارف أبو شقرا وعدنان فرحان عبد الصمد.
يقول المختار عدنان عبد الصمد إنّه ومنذ استحدُث منصب المختار في عمّاطور كان للمختارين المنتخَبين الدّور البارز في رعاية شؤون النّاس وتسهيل أمورهم في المجالات الموكلة إليهم، كما كانت تعهد إليهم قضايا الصّلح وفضّ الخلافات. و كانت لهم اليد الطّولى في إعلاء شأن عمّاطور وتميّزها.
وفي العام 1998 تم انتخاب مختاريَن، ومنذ ذلك الحين يتابع المختارون الرّسالة التي بدأها أسلافهم، والجدير بالذكر أنّ المختار في عمّاطور، وبحسب العُرف المتّبع، لا يتقاضى أيّ بدل من الأهالي لقاء معاملاتهم

العزّ القديم
العزّ القديم

المُنظّمات والجمعيّات الأهليّة النّاشطة
• دار البلدة: أنشأها المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا لتكون مقرّاً جامعا للمناسبات والاحتفالات في البلدة.
• النّادي الاجتماعي الرّياضي (عُدِّل الاسم فأصبح: “النّادي الثّقافي الرّياضي”).
• رابطة سيّدات عمّاطور.
• الاتحاد النّسائي التّقدّمي.
• جمعيّة الكشّاف التّقدّمي – فَوج عمّاطور.
• اللّقاء الثقافي.
• الجمعيّة التعاونيّة للتّوفير والتّسليف والسّكن.
وفي عمّاطور وجود لبعض الأحزاب والحركات السياسية اللبنانية.
لكلّ من هذه الجمعيّات حضورها وأعمالها المُشرّفة وعطاءاتها في المجالات الاجتماعيّة والتنمويّة.

مواقعُ أثريّة
في عمّاطور العديد من البيوت الأثريّة والمزارات و الحُجَرات والمدافن الأثريّة في وسط البلدة ومن أبرز هذه المعالم:
• مزار السّت أم علي صالحة.
• مزار السّت أم علي حربا.
• مزار الشّيخ ناصيف أبو شقرا.
• مزار الشّيخ أبو سليمان محمّد عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ محمّد أبو شقرا.
• مدفن الشّيخ أبو قاسم محمود عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ يحيى عبد الصّمد في عريض عمّاطور (محفور في الصخر).
إضافة إلى معابد وجسور رومانيّة وعثمانيّة في محلّتَيّ المَرج والدّرجة ومعاصر قديمة للزّيتون وآبار قديمة، و”بلاطات الهوا” و”رأس المنقود” في أعلى البلدة بالإضافة إلى عدّة مواقع طبيعيّة خلّابة وهياكل مهدومة ذات أهميّة تاريخيّة تقع بين نهر بْحَنّين ونهر عارَيْ في بِسري وقد أعطت الأعمدة هذه اسمها لمرج بسري فصار يعرف بـ “مرج العواميد”، ويُرجَّح أنْ يكون هذا الهيكل قد تهدّم نتيجة الزّلازل القويّة التي دمّرت مدينة بيروت سنة 551م أو بسبب الزّلزال الذي ضرب البلاد سنة 1261م وأحدث أضراراً بالغة في جنوب لنبان وشمال فلسطين ولا سيّما السواحل.
كما يعتزّ ويفاخر العمّاطوريون بالعريض الحاضن للبلدة من الشرق وبالسّاحة العامّة حيث اصبحت مُلتَقًى لأهالي البلدة من كلّ الأعمار.

مدفن الشيخ محمد أبو شقرا
مدفن الشيخ محمد أبو شقرا

الشيخ محمد أبو شقرا
1910-1991

عند الحديث عن رجالات عمّاطور لا بدّ من إفراد موضع خاص لشخصيّة تاريخيّة وفذّة خرجت من هذه البلدة لتلعب دورها على صعيد لبنان والمنطقة وهي شخصيّة المغفور له الشيخ محمد أبو شقرا وقد تولى مشيخة العقل لمدة 42 عاماً وطبع هذا الموقع بطابَع لا يُمحى إذ كان عهده الطّويل عهد الوحدة الدّرزية والنّضال الوطنيّ وبناء المؤسّسات والدّفاع القويّ غير الهيّاب عن مصالح العشيرة المعروفيّة بالتّعاون مع الزّعامة السّياسية.
في زمنه تمّ توحيد مشيخة العقل عبر تفاهم بين الأمير مجيد أرسلان والزّعيم كمال جنبلاط فقوي المنصب وبات له مكانته واعتباره في العلاقة مع الطوائف اللّبنانية ومع الدّولة ومع العالم الخارجيّ.
أظهر الشيخ محمّد إلماما واسعا بأوضاع الطائفة وكان عهده عهد أعمال وإنجازات ومبادرات وكان سريع الاستجابة للظّروف كما حصل عندما أدّت صدامات في وَطى المصَيْطْبَة بين سكان أكواخ دروز من جبل العرب وبين الشّرطة إلى سقوط قتلى وردود فعل شعبيّة، إذ سارع إلى تأمين أرض بين الشويفات وعين عنوب تمّ توزيعها على المتضرّرين ليبنوا فيها مساكنَ لهم وهذه القرية تُعرَف اليوم بالـ “معروفيّة”.
كان له الفضل الأوّل في تنظيم أوضاع الطائفة ورجال الدّين وإحداث نهضة دينيّة، وإطلاق بعض أهمّ المؤسّسات التي أصبحت معالم إنجاز ساطعة مثل دار الطّائفة الدّرزية في فردان والمؤسّسة الصحية في عَيْن وزين
توفّيَ، رَحِمه الله، في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 1991.

كوكبا

كوكبا

حديقة آثار وزراعة
ونجاح تعليمي باهر

أهل كوكبا لصيقون بالأرض لا يحبون الهجرة لكن حبذا لو جاءتها الإنترنت وتوفّرت المياه

بالعمل والتنظيم تحوّلت مدرسة مهدّدة بالإقفال
إلى حاضرة تعليمية لطلاب وأهالي المنطقة

كوكبا قرية صغيرة وادعة في منطقة راشيا تجلس قبالة جبل حرمون، وهناك غير قرية تحمل الإسم نفسه، لكنها تابعة لقضاء حاصبيا في محافظة الجنوب. يمتد تراب هذه القرية الوادعة تلالاً خضراء حتى الأفق، لكن رغم البساطة الظاهرة فإن القرية تنام فوق تاريخ سحيق من الحضارات السابقة التي تركت بصماتها واضحة في أكثر من مكان كما إنها -عندما تقاس الإنجازات بمدى الاهتمام بالإنسان- تبرز في الطليعة بسبب نجاحها التعليمي وتحولها إلى حاضرة تربوية لقرى المنطقة.

عود تسمية القرية كوكبا الى الآرامية – السريانية ومعناه الحرفي
« الكوكب » والذي يرتبط بكوكب الزهرة الذي كان له شأن في العبادة عند الفينيقيين. وتقع القرية في قضاء راشيا وتتبع إدارياً لمحافظة البقاع وهي تبعد عن العاصمة بيروت 92 كلم وعن مركز القضاء 5 كلم وترتفع عن سطح البحر 1100م وتتصل بقرى مجاورة هي ضهر الأحمر شرقاً ومجدل بلهيص غرباً والمحيدثة شمالاً وكفرمشكي جنوباً، ويمكن الوصول إليها من بيروت عبر طريق شتورا – ضهر الأحمر أو طريق شتورا – مشغرة – سحمر وهناك طريق يتجه من بيروت إلى صيدا ثم مرجعيون في الجنوب ثم حاصبيا فكوكبا.

أهميتها التاريخية
تعتبر قرية كوكبا من القرى الموغلة في القدم وهو ما تدل عليه الآثار الموجودة في محيط القرية ولاسيما القلعة القديمة المحفورة في الصخر ويوجد في داخلها العديد من النواويس الحجرية المنحوتة بإتقان كما توجد مدافن قديمة ايضاً، وهذه الآثار تعود حسب الخبراء الى الحقبة الرومانية، كما توجد بالقرب من القرية معصرة مع جرن كان يتم استخدامهما لعصر العنب وتحويله الى دبس، أضف الى ذلك الكهوف التي تحتوي بدورها على آثار يرجح أنها تعود الى زمن «عنا ايل” اي الى العصور الآرامية التي سبقت التاريخ الميلادي.
ونظراً إلى هذه الآثار الغنية فقد أصدر وزير الثقافة في العام 2012 قراراً بتحويل المنطقة التي تضم الآثار الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني والذي يقضي بدراسة كافة الطلبات المقدمة من أجل الحصول على رخص بناء أو ترميم أو استصلاح أراض الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني لإبداء الرأي في أي تأثير محتمل للنشاط العمراني على طبيعة المنطقة وسلامة الطابع الأثري. ومن المعالم البارزة في كوكبا مزار بني في فترة متأخرة لسيدنا الشيخ الفاضل رحمه الله مع العلم أن ضريحه ومدفنه يقعان في قرية عين عطا.

الوضع السكاني
يبلغ عدد سكان القرية المسجلين 950 نسمة تقريباً على الرغم من غياب الإحصاء الدقيق منذ زمن بعيد وخلافاً للعديد من قرى الجنوب اللبناني التي تعاني من الهجرة فإن نسبة المقيمين في كوكبا مرتفعة نسبياً مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة، إذ إن 50% من أبناء القرية المسجلين يقيمون فيها والذين يغادرونها الى بيروت مثل الطلاب فإنما يفعلون ذلك بهدف متابعة تحصيلهم العلمي بينما انتقل قسم من السكان إلى خارج القرية لأسباب اقتصادية، لكن حركة الاغتراب في كوكبا محدودة وهي تتركز حالياً على دول الخليج.
عائلات البلدة: أبو غوش ، مغامس ، كرامة ، علامة ، زين الدين، الغزال ، كيوان .

الثروة المائية
تعتبر مصادر المياه في القرية ضئيلة مقارنة مع كمية المياه المطلوبة للقيام بأعباء الزراعة، حيث تستفيد القرية في مياه الشفة من بئر ارتوازي تمّ حفره في محاذاة القرية، وقد تمّ جرّ المياه الى خزان القرية وتوزيعها على المنازل من خلال شبكة داخلية عملت البلدية على تأهيلها في الأشهر الماضية بحيث تغطّي كافة المنازل وبحيث يتم تفادي هدر المياه الناتج عن تآكل الشبكة وتقادمها، كما يعمد أبناء القرية الى إنشاء خزانات من الإسمنت لتجميع مياه الأمطار خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها خلال موسم الشحائح في فصل الصيف .
وتوجد في جوار القرية بركة اصطناعية تستخدم لتجميع مياه الأمطار والمتساقطات خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها في تأمين المياه لري بعض المزروعات خلال فصل الصيف حيث يتم نقل المياه من البركة بواسطة الصهاريج ، لكن مياه هذه البركة غالباً ما تنضب قبل انتهاء فصل الصيف ولا يتم الإستفادة منها عن طريق المداورة أو بطريقة الحصص بين المزارعين .

الزراعة والثروة الحيوانية
تعتبر كوكبا قرية زراعية وهذا على الرغم من أن العاملين في القطاع الزراعي لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من مجموع سكان القرية المقيمين والذين هم في سن العمل ، لكن حتى الذين لا يمارسون النشاط الزراعي كنشاط مستقل فإنهم يعولون عليه لتأمين حاجات الأسرة من محاصيل مثل الحمص والقمح والعدس أو من الفواكه والخضار.
وبسبب شح الموارد المائية الطبيعية فإن الزراعة في كوكبا زراعة بعلية بالدرجة الأولى أما أهم المزروعات التي تعتمد على موسم الأمطار فهي زراعة الكرمة والزيتون، وقد نشطت زراعة الزيتون بصورة خاصة في العقود الأخيرة إضافة الى زراعة الأشجار المثمرة مثل اللوزيات والتفاح. والجدير بالذكر أن زراعة الكرمة يتم الإستفادة منها في تصنيع دبس العنب الذي يتمتع بجودة عالية نظراً إلى اهتمام المزارعين بهذه الزراعة منذ القدم .
كما يتم الإستفادة من السهول المجاورة للقرية في بعض الزراعات الموسمية ولاسيما زراعة الخضار والفاكهة، ويتم ريّ هذه المزروعات خلال فصل الصيف من بركة القرية لكن هذا المورد ينضب عادة قبل انتهاء الموسم وقد يتسبب بضياع ما تبقى بسبب عدم وجود المياه أو تكلفة شرائها.
كما يتم الإستفادة من سهول القرية في زراعات مطرية مثل القمح والحمص والعدس والشعير وهذه الزراعة بعلية ولا تستخدم فيها الأسمدة الكيماوية أو أي مواد مصنعة لزيادة الإنتاج فهي لذلك زراعات طبيعية .
تسويق متجوِّل!
يتم تسويق المنتوجات والمحاصيل الزراعية داخل القرية وفي الأسواق المجاورة وفي بعض قرى وبلدات راشيا عبر وضع محاصيلهم داخل مركباتهم والمناداة عليها في القرى المحيطة. ورغم أن ظاهرة «التاجر المتجول” لم تعد معروفة في القرى، إلا أن أهل كوكبا ما زالوا يرون فائدة في اتباعها ويعتبرونها وسيلة فعّالة لتسويق المحصول وكسب العيش.

السهل
السهل

تربية المواشي
على الرغم من ظاهرة «التمدين» التي أصابت العديد من قرى وبلدات راشيا واخذت تطمس بعض مظاهر الحياة القروية ولاسيما تربية الماشية، إلا ان هذه الحرفة ما زالت نشطة وأساسية في قرية كوكبا وهناك نسبة كبيرة من الناس ما زالت تعتمد على تربية الماشية ولاسيما الأبقار لكن الوضع تغير كثيراً عن الماضي كما يقول إبن البلدة السبعيني الشيخ سامي مغامس الذي يذكر أن ما يقارب ثلاثة ارباع القرية كان قبل عقود قليلة يهتم بتربية الماشية وأن المواشي والماعز كانت تسرح في مراعي القرية وفي الجبال المحيطة بها طوال فصلي الربيع والصيف ومطلع فصل الخريف عندما كان أصحاب الماشية ينقلون ماشيتهم هرباً من برودة الطقس والثلوج الى «بلاد بشارة» في الجنوب اللبناني .
وحسب الشيخ مغامس، فإن أعداد الماشية تراجعت اليوم مع إنخراط ابناء القرية في المؤسسات الحكومية والوظائف الرسمية ومعارضة الناس لوجود المواشي في جوارهم مما يعرّض المربي إلى المضايقة الدائمة فيقرر عندها التوقف عن هذا النشاط المهم لأسرته – وللقرية أيضاً لأنه يوفر منتجات الحليب الطبيعية والطازجة لأسرها.

محمية الخلف الطبيعية
قامت لجنة البيئة في متوسطة كوكبا الرسمية بالتعاون مع المجلس البلدي وتمثلت في انشاء محمية طبيعية بمساحة 9,000 متر وقد تمّ وضع سياج من الأسلاك لحماية المكان من تعدي الرعاة والصيادين وتمّ غرس 2000 شجرة مثمرة من لوز وجوز وصنوبر وغرس 1000 شجرة حرجية من سنديان وملول وأرز وشربين وكينا وتمّ زرع 500 شتلة صعتر (زعتر).
وتحتوي هذه المحمية على أنواع مختلفة من الأزهار والأعشاب البرية والغذائية والأعشاب ذات الاستخدام الطبي.

مغاور-من-العصر-الروماني
مغاور-من-العصر-الروماني

نجاح تربوي
يعتبر تطوير التعليم في كوكبا وتحولها إلى مركز للخدمات التعليمية في نطاقها الجغرافي نجاحاً لافتاً يغاير الاتجاه العام الذي شهد إقفال مدارس في المنطقة أو استمرار معاناة الكثير منها من جراء ضعف الموارد وعدم كفاءة التعليم.
مؤشرالنجاح التربوي الأهم الذي حققته كوكبا هو أنها وبعد أن كانت متوسطة البلدة مهدّدة بالإقفال وبعد أن كان عدد الطلاب تراجع إلى 36 طالباً فإنها حققت تحولاً بفضل جهود الهيئة التعليمية وتمكنت من وقف التراجع والبدء بإجراء تطوير حقيقي في أسلوب التعليم وإدارة المؤسسة ما جعل عدد الطلاب يقفز في سنوات إلى 400 طالب من القرية ومن القرى المجاورة كما ارتفع عدد أفراد الأسرة التعليمية إلى 50 مدرساً بين أساتذة متعاقدين وأساتذة مثبتين في ملاك وزارة التربية.
كيف تمكنت مدرسة كانت مهدّدة بالإقفال بسبب تراجع عدد التلامذة المسجلين فيها أن تحدث هذا التحول الباهر وتصبح محط أنظار التلامذة وأهاليهم في القرية وفي القرى المحيطة؟ السبب الأهم هو تمكن الهيئة التعليمية ومديرها من إجراء تحول كبير في أساليب التعليم وفي إدارة النشاطات والعلاقات مع الطلاب ومع الأهالي بحيث تمكنت من رفع مستوى الأداء الطالبي كثيراً وقد انعكس ذلك سنة بعد سنة بمعدلات النجاح الاستثنائية لتلامذة المدرسة في الامتحانات الرسمية الأمر الذي عزّز شهرة المدرسة وزاد ثقة الطلاب والأهالي بها وبإدارتها. وبالنظر إلى اهتمام الأهالي الكبير بمستقبل أولادهم وكذلك حرص الطلاب على تلقي التعليم الذي يمكّنهم من متابعة تحصيلهم وتأمين مستقبلهم فقد أصبح هناك إقبال على المدرسة يفوق قدرتها الاستيعابية كما يقول مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش الذي يضيف أن المدرسة وحتى هذا التاريخ لم تنته من استقبال الطلاب، رغم أن جميع الصفوف في كافة المراحل باتت مكتملة مما يضطرنا في بعض الحالات الى استحداث شعب إضافية إفساحاً في المجال امام جميع الطلاب الراغبين في متابعة تحصيلهم العلمي. ويردّ الأستاذ أبو غوش نجاح تجربة متوسطة كوكبا إلى الجهود التي بذلت في تطوير مهارات أفراد الهيئة التعليمية بشكل مستمر من خلال متابعة الدورات التي تعدّها وزارة التربية والتي تهدف الى رفع قدرة المدرس على مواكبة التقنيات الحديثة والفعالة في حقل التربية. ويضيف أبو غوش: عملنا بشكل خاص على تحفيز الطلاب من خلال إقامة توازن بين النشاط التربوي والنشاطات المواكبة له إضافة الى النشاط اللاصفي الذي يترك للطالب مساحة للإبداع والتعبير عن ذاته ولاسيما الأعمال المتعلقة بالبيئة من خلال لجنة البيئة داخل المدرسة .
وقد دفع نجاح تجربة متوسطة كوكبا ووفرة عدد الطلاب الذين باتوا ينهون المرحلة المتوسطة إلى إستحداث ثانوية رسمية في القرية بحيث يتمكن الخريجون من متابعة التعليم الثانوي مع تخفيف اعباء انتقالهم الى بلدة سحمر أو الى بلدة راشيا لمتابعة تحصيلهم العلمي، كما ساهم إنشاء الثانوية في خلق فرص عمل لحملة الإجازات الجامعية الأمر الذي ينعكس بنتائج مميزة للثانوية في الامتحانات الرسمية. تبقى مشكلة التعليم الجامعي وبعد أكثر الجامعات عن القرية بما في ذلك الجامعة اللبنانية في زحلة، وقد تمّ استحداث فرع لكلية الاقتصاد في راشيا لكن محدودية الاختصاصات لم تفك المعضلة بعد.

كوكبا والإنترنت
رغم وصول شبكة الهاتف الثابت (أوجيرو) إلى القرية منذ العام 2000 فإن كوكبا ما زالت من دون شبكة الإنترنت وهذا أمر مستغرب بالطبع لأن الإنترنت بات حاجة أساسية في التعليم وفي الكثير من النشاطات الاقتصادية والثقافة الشخصية، لذلك فإن الخدمة تقدم من خارج القرية من خلال اشخاص يعمدون الى ايصالها بكلفة مرتفعة نسبياً.

المدرسة الرسمية
المدرسة الرسمية
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش

محطة بارزة
إحدى الحوادث التي ما زالت ماثلة في ذاكرة أبناء القرية حملة التنكيل التي شنّها الجيش الفرنسي على القرية عام 1925 وذلك في ردّ فعل على نشاط بعض مجاهدي الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. فقد تعقبت القوات الفرنسية المجاهدين من ابناء القرية للإقتصاص منهم بسبب مساندتهم الثوار فعاثوا في القرية تنكيلاً وفساداً وحرقوا المنازل وشردوا السكان مما دفعهم إلى مغادرة القرية، فمنهم من غادر الى سوريا وما زالوا يرتبطون بالقرية الأم ومنهم من غادر الى فلسطين وما زالوا مدرجين على قيود القرية والأوفر حظاً منهم من انتقل مؤقتاً الى القرى المجاورة لإتقاء الاضطهاد لكنه عاد الى منزله بعد خروج المحتل.

النشاط البلدي
على صعيد الإدارة المحلية، قامت البلدية بتأهيل شبكة المياه في القرية مع العمل على إيجاد مصادر جديدة من مياه الشفة التي يتم توفيرها حالياً من بئر إرتوازية تمّ حفرها في العام 2013، كما قامت البلدية بزيادة غطاء الثروة الحرجية في القرية من خلال القيام بعمليات تشجير وغرس ما يزيد على 5000 شجرة صنوبر .
ويوضح رئيس البلدية السيد وليد مغامس أن اهتمام البلدية يتركز الآن على تشييد مبنى لثانوية كوكبا ليصبح قادراً على استيعاب ما يزيد على 300 طالب في بيئة تعليمية وتقنية تواكب متطلبات التربية الحديثة. وأضاف مغامس أن البلدية تعمل على توفير الموارد اللازمة لتأهيل الطرقات وإقامة جدران دعم لرفع هامش الأمان على الطرقات الداخلية وأنها مهتمة بإقامة ملعب لكرة القدم من أجل توفير متنفس لأبناء القرية “نأمل إنجازه قريباً”.

تأثير الفلسفة

تأثير الحكمة الهرمسية المصرية
في تطور الفكر الفلسفي اليوناني

بِتاح فكَّرَ بالكون ونطَقَ به فكان الوجـــود

محاورات أفلاطون أظهرت مدى تأثر الفكر اليوناني
بتعاليم هرمس المثلث العظمة وعلومه المختلفة

فيثاغوراس قرأ الرسوم على جدران المعابد المصرية
فذهل كهنتها وأدخلوه معابدهم وأصبحوا هم من مُريديه

“ألا تَعْلَم يا أشقلبيوس، أنّ مصرَ هي صورةٌ للسموات، بل في مصرَ، كلُّ القِوَى التي تحكمُ وتُدبِّرُ في السماء قد نُقلت إلى الأرض».
(أشقلبيوس III – الفقرة 24b، من النصوص الهرمسية)

هَمَسَ الكاهنُ الأكبر بمدينة ممفيس في أُذن المُشرِّع والحكيم الإغريقي الكبير صولون (Solon)، “إنّكم أطفالٌ أيُّها الإغريق»، (عبارة هزّت أعماق صولون)، والمقصود بها أنكم أطفالٌ في معرفة الحقيقة والعقل وسرّ الوجود، سوى الذين منكم جاءوا إلى مصر يلتمسون أذيالَ ثوبِ الحقيقة فيها، مصر خزّان العلوم السرّية والحِكَميّ، محجة الحكمة والأسرار الروحانية منذ أقدم الأزمان.
بين صولون ولقائه بكاهن الحكمة المصرية وزيارة فيثاغوراس الغامضة إلى مصر ومكوثه فيها ردحاً طويلاً من الزمن ثم زيارات كبار مثل أفلاطون والقائد الاسكندر وكذلك معاهد الحكمة التي كان المصريون يقبلون فيها الطلبة الإغريق نشأت قصة أكبر عملية نقل للحضارة الحكمية القديمة من الشمال الشرقي الأفريقي في مصر الفرعونية إلى بلاد الإغريق التي كانت قد خرجت لتوها من عصر ظلمات مديد وبدأت تبحث عن وسائل لتكتب فيها فكرها وإرثها الشفهي. إنها قصة رحلة حضارة وفكر عادت فطبعت العالم بأسره عبر امتداد الحضارة الإريقية في ما بعد إلى مختلف أنحاء العالم بما في ذلك بلاد الشرق والمجتمع الإسلامي الذي كان في عزّ تعطشه إلى مختلف أشكال المعرفة ليجد ضالته في أصولها ومصادرها اليونانية الغنية. فما هي حكاية هذا التفاعل العميق والشامل بين أقدم حضارتين سبقتا الحضارتين الإسلامية والمسيحية لتؤثرا فيهما بعد ذلك أيما تأثير؟ وكيف تمكن المصريون من تشكيل الوعي الفلسفي المعاصر عبر القناة الإغريقية وكيف تمكن كهان غامضون لم يعرف أحد عنهم ولم يسمع بأسمائهم من ممارسة هذا التأثير الهائل عبر السنين على الحضارة الإنسانية في مجملها؟

فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه
فيثاغوراس أدهش المصريين باطلاعه على أسرار حكمتهم فأدخلوه معابدهم وأصبحوا من مريديه

لقد بات واضحاً أن المصريين عرفوا التوحيد بصورته الجلية وغير الملتبسة على الإطلاق – كما يتضح من التعاليم الهرمسية نفسها من التأثير الحاسم الذي مارسته تلك التعاليم والشخصية الغامضة للحكيم هرمس في الفكر المصري القديم ولاسيما منه التفكير الروحي والخلاصي. وقد حفظ المصريون هذا التعليم وأسراره في معابدهم ومعاهدهم وحلقاتهم السرية وعلموها بشروط للمستحقين فقط، وبعد التأكد من أهلية المريد، لكنهم ربما بسبب ما كانت تتعرض له عقيدتهم الصوفية من عداء من قبل التفكير «الأصولي» الخاضع لنفوذ الملوك وكهنتهم فإنهم قرروا في وقت معين التحول إلى أسلوب التعليم السري وإلى الرمزية الكثيفة في نصوصهم، وفي تعبيراتهم وكتاباتهم الفلسفية. لكن المدهش هو أن الإغريق فهموا أبعادَ تلك اللغة الأسطورية وقاموا بتأويل معانيها إلى لغة يفهمها الإغريق ونقلوها بالتالي من مصر إلى بلادهم وقد لعب العقلُ الإغريقي البارع دوراً تاريخياً في جمع حلقات الحقيقة وصياغتها بصورة منطقية وفلسفية، كما قام بصياغتها بلغة شفافة وعقلانية وعمد عند الضرورة إلى استعارة مفيدة للتعبيرات الأسطورية لحضارة الإغريق.

الحجُ إلى مصر والتلاقُحُ الفلسفي
إن أهم ما ثبت من دلائل وبراهين على التأثير الحاسم لمصر القديمة في الفكر الفلسفي اليوناني هو «قوافل الحَجَّ” التي تشكلت من الإغريق التائقين إلى اكتساب المعرفة الصوفية نحو مصر ليكونوا مُريدين في تعلُّم نظام الأسرار وسُبُلِ الخلاص الرُّوحي ومبدأ الخير الأسمى ومعرفةِ النفس والتحلِّي بالفضائل، وجاءت شهادات دور مصر في تعليم اليونان تلك المعارف على ألسنة فلاسفة يونانيين، أبرزهم أفلاطون في محاورات «كريتياس” و”تيماوس” و”القوانين”، وهو ما يُثبته أيضاً الفيلسوف طاليس، أب الفلسفة اليونانية من الناحية التاريخية، والفيثاغوريون، وفلاسفة المدرسة الأيونية الأولى، وفلاسفة المدرسة الإيلية اللاحقة. وقد نقلوا هؤلاء «الأمانة الحِكمية» من مصر إلى بلادهم ولاسيّما روّاد المدرسة الفيثاغورية والأورفية الذين كان لهم الفضل الأكبر في نشر الفكرَ الرُّوحاني الصوفي في بلاد الإغريق. وقد تحدثت المصادر التاريخية عن تمكُّن الحكيم فيثاغوراس، خلال زيارته إلى مصر ومكوثه هناك لسنين عدّة، من قراءة الرسوم والنقوش الهيروغليفية على جدران المعابد، وهو ما أذهل الكهنة المصريين، ففتحوا له أبوابَ معابدهم، بل وأصبحوا هم من مُريديه يستقون منه التعاليم الرُّوحيّة على نحو مشترك. فهو كان يشرح لهم بواطن أسرارهم المصرية ويدهشهم بمدى عمقه الفلسفي والرُّوحي.
وهناك أيضاً رواية عن زيارة أفلاطون لحاكم صقلية ديونسيس، حيث التقى هناك بالفيلسوف الفيثاغوري فيلولاوس ودفعَ له المال السخي ليستحصل منه على كتابٍ ضمَّ في حناياه تلك التعاليم الرُّوحانيّة التي تكاملت فيها أسرار العلوم الرُّوحانية المصرية والفلسفة الفيثاغورسية.

أهمية الفكر الفيثاغورسي
من هذا التلاقُحِ الفلسفي الرُّوحاني، تعرَّف اليونانيون على الفكر الفيثاغورسي الصوفي وبعض أهم مفاهميه: الأضداد (نور وظلمة، خير وشر)، والتناغم، والنار الكونية، وكذلك المبادئ الأساسية: العقل الكوني، وخلود الأرواح، والخير الأسمى وغاية الفلسفة. وقد بنى على هذه الركائزِ العقلية الرُّوحانية كبارُ فلاسفة اليونان، من طاليس إلى فلاسفة المدرسة الأيونية الأولى: أنكسماندر وأنكسيمانس، ومن ثم فلاسفة المدرسة الإيلية (بانتقال الفلسفة مع فيثاغوراس إلى إيطاليا) وهم إكزينوفان وبارمنيدس وزينون، ومن ثم الفلاسفة الكبار هيرقليطس وإمبيدوقليس وأنكساغوراس (أول مَنْ تكلّم عن “العقل الكوني” Nous) وصولاً إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو.

” الدارسون وطلاب الحكمة الإغريق توافدوا دوماً إلى مصر ومعابدها لتعلّم أسرار الوجود وسبل الخلاص الروحي ومعرفة النفس  “

التهيُّؤ الرُّوحي والخلاص
في مصر، تعلّمَ الإغريقُ نظريةَ الخلاص الرُّوحي، عبر تشبُّه الإنسانِ بالعوالم الرُّوحانيّة العقلية تحرُّراً من قيود الجسد بلوغاً للتحقُّق الصوفي والكشف الرُّوحي واستنارة البصيرة. فقد كان المُريدون في مدارس التهيُّؤ الرُّوحي المصرية يخضعون لمنهاجٍ معرفيّ شامل. يبدأون بتعلُّم اللغة والخطابة، ومن ثمّ الهندسة والرياضيات وعلم العدد والمنطق وصولاً إلى تعلُّم الفضائل والرُّوحانيات لتحقيق السعادة الخالدة، وبذلك يصبح المُريد شاهداً حيّاً للعقل الكوني «اللوغوس. لكن وقبل أن يدخل المُريدُ مرحلة التهيُّؤ الرُّوحي، كان يتعيّن عليه أن يُظهِر تحلِّيه بصفاتٍ تُحاكي الفضيلة: استقامة الفكر والعمل، بتحكُّمه بفكره وسلوكه، والمثابرة لتحقيق الهدف السامي المنشود، والأخلاق الرُّوحيّة، والتزام تعاليم المرشد الرُّوحي والثقة به، وكذلك الثقة بالقدرة على التعلُّم، وعدم الغضب عند التعرُّض لاضطهاد، وكلّ ما تنطوي عليه هذه السجايا الخُلُقية من فضائل، تغنَّى بها فلاسفة الإغريق في تعاليمهم هم أيضاً.
ولاحظ الباحثون مدى تشابه “آلهيات” الفكر اليوناني مع مثيلاتها لدى مصر وبابل، وأبرز ما دلَّ على هذا التأثُّر هو التشابه بين فلسفتَي أفلاطون وأرسطو ومَنْ جاء بعدهما من الفلاسفة الرُّوحانيين (كأفلوطين)، وبين فلسفة الحكيم المصري «بِتاح حتب» الذي يُعتقَد أنّه عاش حوالي سنة 2700 قبل الميلاد، وربّما قبل ذلك، في مدينة ممفيس. وجوهر هذه الفلسفات هو تفسير الكثرة في الكون وردّها إلى منشأ واحد. ولو أنّ انطلاقة الفلسفة اليونانية كانت تبدو للبعض ماديّة، بيدَ أنّها انتهت إلى ما ورائيات ميتافيزيقية جليّة.

الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر
الفيلسوف تاليس نصح فيثاغوراس بالتوجه لتعلم الحكمة في مصر

مصر المُلهِمَة عند أفلاطون
ممّا يُدلِّلُ على تأثُّرِ أفلاطون بمصر، وهو الذي أمضى فيها ثلاث سنوات( وفي رواية أخرى 13 عاماً) حديثُه المباشر عنها في إحدى عشرة محاورة من محاوراته، وعلى الأخص «كريتياس» و«تيماوس» و«فايدروس» (Phaedrus) و«القوانين» و«السياسي»، في نحو ثلاثة وعشرين موضعاً مختلفاً من تلك المحاورات، حيث أكّد فيها أنّ مصر هي منبع الحكمة وأصل الحضارة.
وفي نهاية محاورة «فايدروس»، وهي من المحاورات المتأخّرة التي كتبها الفيلسوف بعد محاورتَي «الجمهورية» و«المأدبة»، يقصُّ أفلاطون في الحوار، الذي تناول المحبّة والنفس والخطابة، قصةً توارثتها الأجيالُ عن أصل الكتابة تؤكّد أنّ الشخصية الأسطورية المُبجَّلة لدى المصريين «تحوت» (Theuth)، الكاتب الأعظم عند المصريين، هو مُكتشِف علوم الرياضيات والعدد والهندسة والفلك وحروف الأبجدية، وعلم الحروف الصوتية. إنّه الشخصية التي أصُبِغَت عليها في عصور لاحقة صفة إله الحكمة والمعرفة، وبالتالي اعتبرت هذه الشخصية مصدراً للإلهام والحكمة. وقد أطلق الإغريق على هذه الشخصية «هرمس مثلث العظمة» (Hermes Trismegistos).
لقد شكّلت مصر «تحوت/هرمس المثلث العظمة» وعلومه المختلفة مصدراً للإلهام الفلسفي، وتبدَّى ذلك واضحاً في محاورات أفلاطون التي تناول فيها أصلَ العالم وكوزمولوجيا الخلق وظهور الكائنات العلويّة والإنسان والطبيعة والنفس البشرية.
وتحدّث أفلاطون في محاورتَيه «تيماوس» و«كريتياس» عن تلقّيه التقليد الدقيق للنظام الكوني والعقول العشرة استناداً إلى علم العدد من مصر عبر سلفه صولون، ووصْفه بلغة فيثاغورية للكائن الأول «الموناد» (Monad) الذي وُجِدَ منه الكائن العلوي الثاني «دياد» (Dyad)، ومن ثمّ الكائن الثالث “ترياد” (Triad)، ومن ثمّ العناصر الأخرى والأفلاك، ووجود العالَم الأصغر كإنعكاس للعالَم الأكبر. فالعالَمُ الأصغر يعكس «بالعدد» حقائقَ العوالم السماوية من الأفلاك والكواكب إلى الأرض ومَنْ عليها، ولاسيّما الإنسان.

ما الذي نقله صولون؟
في مقارنة بين ما أورده المؤرّخ الإغريقي هيرودوت عن مصر، من حيث الاهتمام التاريخي والمقارنة بين معتقدات وعادات الشعبين في مجالات الحياة والسياسة، وما تحدث عنه أفلاطون فهو التأكيد على أوجه الشبه الفكري بين المصريين والإغريق القدامى، ولا سيّما في عصر صولون، بما يُوحِي بوجود تلاحمٍ قديم بين الشعبين، ولاسيّما في تناقل الحكمة القديمة السرّية.
فالإغريقي بدا للكهنة المصريين توّاقاً مُغامِراً يتميّز بروح الشباب الدائم والأفكار المتجدّدة التي لا تركن إلى التقليد والنقل بل تسعى إلى الإستزادة بالمعرفة العقليّة والتحقُّق الرُّوحي. ومصر هي مُلهِمةُ الفلاسفة الإغريق، ومهدُ التاريخ والحضارة الإنسانية. لقد ورثت مصر «ما قبلها» وأورثته لمَنْ بعدها في سلسلة متصلة من العلم الصوفي الحِكمي الرُّوحاني.
وفي مطلع محاورة «كريتياس» قوله: «إذا ما تذكّرنا تماماً وأوردنا أقوال الكهنة المصريين وقد نقلها صولون إلى بلادنا، فأكاد أعلم أنّنا سنبدو للقوم بمظهر مَنْ أنْجَزَ لهُ ما يليق به…». لكن ما الذي نقله صولون إلى بلاد الإغريق عدا روايته عن قارة أتلانتس الغارقة، وترك ذلك الأثرَ الكبير في الفلسفة الإغريقية وعلم الإلهيات تحديداً؟

بتاح قال للكون كن .. فكان
ثمة باحثون يربطون بين الرؤية الفلسفية لنشأة العالم لدى أفلاطون، ومن ثم أرسطو، وفكرة العقل الكوني الأول «اللوغوس» ونظرية الخلق «الممفيسيّة» (نسبةً إلى ممفيس)، وكذلك ما جاء في نصوصٍ داخل الأهرامات، التي تتحدّث عن الكائن الأعلى «بِتاح» (ويبدو بهيئة بشرية دون أن يصبغ عليه صفات إلهية، وهو ما حدث في وقت متقدم لاحق)، الذي أوجده الإله الأول «آتوم” (Atum)، ووضعَ في فكرِه بالفعل كلّ ما هو كائنٌ. لقد فكَّرَ “بِتاح” بالخلق ثم “نطَقَ” به فكان الوجود، وأوجدَ منه كائناتٌ علويّة أخرى، فأرسى النظام في ثُمانيّة من «الأزواج المتضادة” أو تاسوعيّة (Ennead) تضمّه، وهي ما تُذكِّرنا بالعقول العشرة عند أفلاطون والعقول التسعة لدى أرسطو. فما هي «إلهيّات» ممفيس التي تعود بنا أربعة آلاف سنة قبل الميلاد؟

بتاح نطق بكلمة فوجد المكون
بتاح نطق بكلمة فوجد المكون

حجر «شاباكا» و «إنجيل» ممفيس
في المتحف البريطاني، يُحفَظ حجرٌ يعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد يُفسِّر نشأة الكون عند المصريين القدامى، كوزمولوجياً وفلسفياً ودينياً. وهو نقشٌ منقولٌ عن “مخطوطة” تعود إلى أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، إلى الحقبة الأولى المبكرة من التاريخ المصري، وُجِدَ في العاصمة الحاضرة آنذاك مدينة ممفيس (قبالة القاهرة اليوم)، “استنسخه” عن مخطوطة قديمة جداً ملكُ مصري اسمه شاباكا (من السلالة الخامسة والعشرين قرابة 712-698 قبل الميلاد)، ودُهِشَ علماءُ الحضارة المصرية لمدى التشابه بين الفلسفة اليونانية، ولاسيّما فلسفة أفلاطون وأرسطو وبعدهما أفلوطين، وما كُتِبَ في هذا الحجر، ومن ثم وجِدَ في نصوص داخل الأهرامات، حول النظام الكوني وعلاقته بـ “موجِدِه الواحد”، ولو بلغة “أسطورية”، أو بالأحرى رمزية كأنما أراد كاتبها أن يخفي مقاصده إلا عن الراسخون في العلم.
وقد اعتبر بعضُ الباحثين المختصّين في مصر القديمة وأبرزهم العالمُ والفيلسوف البلجيكي ويم فان دين دونغن
(Wim van den Dungen)، والعالمُ والفيلسوف الهولندي هنري فرانكفورت (Henri Frankfort) حجر شاباكا كأساسٍ أوّليّ للفلسفة الإغريقية بأكملها. فلم تتردّد فيه فحسب العبارةُ الفلسفية الشهيرة التي تُنسَب إلى سقراط: «اعرَفْ نفسك»، والتي وجدها هؤلاء العلماء منقوشة أيضاً على جدران المعابد المصرية، ولا الفضائل والسجايا «الأفلاطونية» الإنسانية كالشجاعة والاعتدال والحكمة والعدالة، بل أيضاً أشار ت إلى “المُحرِّكَ الأولَ غير المُتحرِّك» لدى أرسطو، و”الفيض” الذي اشتُهِرَ في فلسفة أفلوطين.
وكذلك وجِدَ في النقش ما يشبه “الأضداد الفيثاغورية”، والصانع الوسيط العلوي بين الإله والخلق وأصل النظام الكوني، و”الصوادِر الأُوَل”، التي وُجِدَت بـ “كلمةٍ نطقَ” بها الكائن الأعلى الأول «بِتاح” الذي يحمل في قلبه كلّ موجود، الذي “أوجده الإله الأول آتوم ليكون صانعاً للإبداع والخلق”. فكَّرَ “بِتاح” في عقله بكلّ الموجودات ونطقَ بها كلمةً أوجدَت الخلق بعد أن صدرَت عنه ثمانية كائنات علوية أخرى وهي أزواج متضادّة، ليصبح وإيّاها أشبه بالعقول التسعة عند أرسطو.
يُفكِّر «بِتاح” بعناصر الكون في عقله («القلب») ويُوجدها بأمره، وبذلك نجد في بدء التاريخ المصري مقاربةً لعقيدة “اللوغوس” كوسيط للخلق. فالعقل الإلهي الأوّل، وبالتالي الكلمة الإلهية الأولى، أوجدَت الحقيقة انبثاقاً عبر الكائنات العلوية الثمانية تحت «بِتاح”، وهو ما قد يُشكِّل خاتمة القصة التي لم يُكمِلها صولون، وأشار كريتياس إلى أنّها قد تكون لا تزال محفوظة في مخطوطاتٍ ورثها عن جدّه صولون. ولفتَ بريتشهارد إلى أوجه التشابه مع العِلّة الوسيطة للخلق لدى أفلاطون، وكذلك مع “العِلّة الأولى” للفكر المَحْض لدى أرسطو.
وفي هذا المعنى، يقول الكاتبُ دايفيد فيديلير (David Fideler)، المختص بالأديان والفلسفات والكونيات القديمة، في كتابه حول الكوزمولوجيا القديمة والرمزيّة المسيحية الأولى1(**): “يُمثِّل اللوغوس صميمَ النظام الكوني ومصدرَ الوجود، وممثوله الشمس، مصدر الحياة والنور”. وحول تعاليم اللوغوس في المدرستَين الفيثاغورية والأفلاطونية، يقول فيديلير: “يُمثِّل اللوغوس المستوى الأول من التبدِّي أو الكينونة، إذ إنّه يضم في ذاته جميعَ القوانين والعلاقات التي تحكم الكون الظواهري»، ويخلُص إلى القول: «اللوغوس هو مصدر كلّ وجود وهو مرتبطٌ بمبدأ العقل الكوني Nous، الذي تكمن فيه جميع الصور والمبادئ الكونية الذي يستند إليها الخلق».

صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية
صولون-المشرع-الحكيم-لأثينا-تأثر-بالحكمة-الهرمسية-المصرية

ما كمِنَ في حَجَر “شاباكا” من «وحدانيّة مَشُوبة» لفِقه “الإلهيّات” الممفيسيّة تلوح منه أفكارٌ انجلت في سياق مبدأ اللوغوس الأفلاطوني ومن ثمّ فكرة اللوغوس لدى المسيحيين الأوائل. وفي هذا يقول الباحث جيمس هنري بريستد (James Henry Breasted) في مقالة له عن “الإلهيات” الممفيسية تحت عنوان «فلسفة كاهن من ممفيس” إنّ ما جاء في “إلهيات” نقش حجر «شاباكا” عن “العقل” الذي ولَّد العوالم
بـ “كلمته” يُشكِّل أساساً كافياً للإقتراح بأنّ مبدأَي العقل الأول Nous والكلمة الإلهية Logos “قد جاءا أيضاً إلى مصر في وقتٍ مبكر من التاريخ نقلاً عن إلهيات وكونيات حضاراتٍ مُوغِلَة في القِدَم”، وكما يؤكّد التقليد الإغريقي عودة أصول فلسفته إلى مصر، ثمة هيروغليفياتٍ تُلمِّح إلى أنّ ثمة مَنْ “همَسَ” أيضاً في آذان الكهنة المصريين حقائقَ توارثتها الأجيالُ من الحكماء عبر تعاقب الحضارات. ويشير بريستد إلى أنّ كلمة Nous اليونانية التي تُشير إلى العقل الكوني، قد تكون مشتقة من الكلمة المصرية «نو» (Nu)، وتشير إلى الرؤية البصرية والعقلية.
يتضح إذاً أنّ المصريين القدامى أخذوا مِشْعَلَ هذا الفكر الوضّاء عمَنْ سبقهم من شعوب، وقدّموه إلى الإغريق الذين بعقلهم المُبدِع أناروا العالم. ومن ثمّ توارت هذه الحقائقُ المصرية تحت رمالِ الآثار وسراديبِ الأهرامات من الأزمان السحيقة. لكنّ السطرين الـ 56
و 57 من نقش حجر “شاباكا” الممفيسي أبَيَا إلَّا الخروج من تلك الرمال والسراديب لينطقا بالحقيقة التي تلقّفها الفلاسفة الإغريق: «انظروا، كلُّ كلمةٍ من الإله أصبحت كائنةً في الوجود عبر أفكار العقل (القلب) والكلمة الآمرة (اللسان)”.

الكتابات الهرمسية
ومبدأ حفظ الأسرار

الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي
الحكيم هرمس المثلث العظمة في رسم تخيّلي

ظهرت الكتابات المسماة (المجموعة الهرمسية) في القرن الميلادي الأول، وكان ظهورها المكثّف في الإسكندرية، وإن كانت الهرمسية لم تكن محدودة بالإسكندرية، فقد كان للهرمسيين تجمعات (سرية) في عديد من المدن القديمة، ومنها ما هو في صعيد مصر.
وقد احتوت مجموعة (مخطوطات نجع حمادي) الشهيرة، التي اكتشفت بالصدفة سنة 1945، على عدد من الرسائل والكتابات الهرمسية، وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، يظهر امتزاج النـزعة الصوفية للهرامسة، مع العناية بعلم الكيمياء الذي كان في الزمن القديم مرتبطاً بالسحر، مع الاهتمام بعلم الفلك الذي كان آنذاك مرتبطاً بالتنجيم ..
وفي الكتابات الهرمسية المبكرة، تظهر بقوة النـزعة التوحيدية. وفي كتاب «زجر النفس» المنسوب لهرمس، تأكيدٌ لا لبس فيه على «التوحيد» وعلى أنه السبيل الوحيد للمعرفة والعلم والتحقيق الروحي. وترى الهرمسية أن تعدُد الآلهة سخافةٌ، وإنكار التوحيد هو أكبر مرض يصيب النفس الإنسانية مع أن إدراك الإله الواحد، صعبٌ، وفهمه والكلام عنه مستحيل.
والله عند الهرامسة منـزهٌ عن العالم المادي/ الجسماني، وهو يتجلى في كل الموجودات من دون أن يحتويه شيء، مع أنه يحتوي الأشياء كلها. وقد صنع الله العالم، في المذهب الهرمسي، عن طريق الكلمة (اللوغوس) ليكون الله مرئياً في مخلوقاته.
والإنسان حسب الهرمسية هو مقياسُ الكون وأبدعُ المخلوقات، وهو قسمان أساسيان: الجسم والنفس.. ونفس الإنسان هي «فيض من الله» لكنها أسيرة الجسم المادي المحسوس، مع أنها ليست مادية ولا محسوسة. وهي جوهرٌ روحاني شريف، يستطيع بالتجرُّد عن شهوات الجسد، وبالطقوس التطهيرية أن يستطلع العالم العلوي (الإلهي) ويستشرف الأفق السرمدي، فيصير كالملائكة .
وتؤمن الهرمسية بتقمص الأرواح، فالأشخاص الذين عاشوا حياتهم بشكل رديء، تعود أرواحهم في أبدان المواليد، لتحيا من جديد وتتطهَّر من المساوئ السابقة، وتظل الروح تنتقل في الأبدان، حتى تخلص في نهاية الأمر من خطيئتها.
فقرات من كتاب «سر الخليقة وصنعة الطبيعة» وهو نصٌ توجد منه بعض النسخ الخطية القليلة. منها المخطوطة التي كُتبت قبل ألف سنة، بالعربية، وتوجد اليوم في مكتبة جامعة (أوبسالا) بالسويد !

“الآن أبيِّن لكم اسمي، لترغبوا في حكمتي وتتفكروا في كلامي.. أنا بلنيوس الحكيم، صاحب الطلسمات والعجائب، أنا الذي أوتيت الحكمة من مدبِّر العالم.. كنتُ يتيماً من أهل طوانة (تيانا) لا شيء لي، وكان في بلدي تمثالٌ متلوِّن بألوان شتى، وقد أُقيم على عمود من زجاج، مكتوب عليه بالكتاب الأول (اللغة القديمة): «أنا هرمس المثلَّث بالحكمة، عملت هذه الآية جهاراً، وحجبتها بحكمتي، لئلا يصل إليها إلا حكيم مثلي. ومكتوب على صدر ذلك العمود، باللسان الأول: من أراد أن يعلم سرائر الخليقة وصنعة الطبيعة، فلينظر تحت رجليّ.. فلم يأبه الناسُ لما يقول، وكانوا ينظرون تحت قدميه فلا يرون شيئاً”.
“وكنتُ ضعيف الطبيعة لصغري، فلما قويتْ طبيعتي، وقرأتُ ما كان مكتوباً على صدر ذلك التمثال، فطنتُ لما يقول، فجئت فحفرت تحت العمود. فإذا أنا بَسَربٍ (سرداب) مملوء ظُلمة، لا يدخله نورُ الشمس. دخلتُ السَّرَداب، فإذا أنا بشيخٍ قاعد على كرسيٍّ من ذهب، وفي يده لوحٌ من زبرجد أخضر مكتوب فيه: هذا سرُ الخليقة وعلم علل الأشياء. فأخذت الكتاب واللوح مطمئناً، ثم خرجتُ من السَّرَداب، فتعلَّمت من الكتاب علم سرائر الخليقة، وأدركتُ من اللوح صنعة الطبيعة وعزمتُ على شرح جميع العلل في جميع الخلْق. وأخبركم أيضاً أنِّني إنما وضعت هذا الكتاب وأجهدت نفسي فيه، لأحبائي وخاصتي من نَسْلي”.
“فالآن أقسم وأُحلِّف من سقط إليه هذا الكتاب (وصل إليه) من ولدي وقرابتي، أو ذوي جنسي من أولاد الحكماء، أن يحفظوه مثل حفظ أنفسهم، ولا يدفعوه إلى غريب أبداً. والحلف واليمين بالله الذي لا إله إلا هو.. ألا تغيرِّوا كتابي هذا، ولا تدفعوه يا وُلدي إلى غيركم، ولا تُخرجوه من أيديكم. فإنني لم أدع علماً قلَّ أو كثر، مما علَّمني ربي؛ إلا وضعته في هذا الكتاب، ولا يقرأ كتابي هذا أحدٌ من الناس، إلا ازداد علماً واستغنى عما في أيدي الناس.. والله الشاهدُ على مَنْ خالف وصيتي، وضيّع أمري”.

حجر شاباكا
حجر شاباكا

ماذا في حجر “شاباكا”؟

قُبالة القاهرة، حيث وضعَ جوهرُ الصقلّي الأساسَ الأوّل للعاصمة الفاطمية سنة 970 ميلادي، وعلى بعد يقل عن 18 كيلومتراً، تكمن آثارُ مدينة ممفيس عاصمة الممالك المصرية منذ السلالات الأولى، وبين تلك الآثار، عَثرَ علماءُ الآثار على أرشيفٍ في مكتبة معبد بِتاح وُجِدَ فيه حجرٌ منقوش أسود مائل إلى الأخضر (يبلغ قياس الحجر 138,5 سنتيمتر× 93 سنتيمتراً، أمّا مساحة النقش فهي 134 سنتيمتراً × 69 سنتيمتراً، وثُقِبَ في وسطه كحجر الرحى) يحمل اسمَ الملك المصري شاباكا (حوالي 698- 712 قبل الميلاد) من الأسرة الخامسة والعشرين، وهو الملك الذي تمكّن مجدّداً، ولو لفترةٍ قصيرة، من إعادة مصر إلى التوحيد وجعل ممفيس مقرّاً لحكمه مع نهاية «الفترة الوسطية الثالثة» (664 -1075 قبل الميلاد) التي أعقبت فترة «المملكة الجديدة» (1075 – 1539 قبل الميلاد). وقد نقلَ اللورد جورج جون سبنسر، الملقّب بآرل سبنسر، هذا الحجرَ إلى المتحف البريطاني في العام 1905.
وفي الأسطر الأولى للنص المنقوش باللغة الهيروغليفية، يؤكّد الملك شاباكا أنّه “أنقذ” ما وردَ في مخطوطة قديمة «أخذ يأكلها الدود» تعود إلى التاريخ الأول لتأسيس ممفيس والسلالات الأولى الحاكمة في مصر ما بين 4000
و 3500 قبل الميلاد، وحفظها في نقشٍ يصمد مع الزمن ويمنعه من الضياع.
ويتألف النصُ المنقوش من ستة أقسام تبدأ بمقدّمة تمهيدية عامة حول الملك شاباكا وإنقاذ «مخطوطة أسلافه» التي أخذ يأكلها الدود بنقشٍ دائم، ومن ثم تمجيد لـ «بِتاح» الصانع، والكائنات العليا التي “أوجدها الإلهُ آتوم” انبثاقاً من بِتاح. وتتحدّث الأسطر بين الـ 53 و الـ 61 عن إلهيات ممفيس وكيف “فكّر” بِتاح (Ptah) في عقله و”نطق” بكلماته فأوجدَ الكائنات العليا الثمانية، المؤلّفة من أربعة أزواج متضادة، ومن ثم الخلق. ويرد فيها أيضاً أنّ بِتاح هو في الأعلى (في السماء) كما هو في الأسفل (على الأرض).

سهل عيحا

سهل الخيرات في عيحا

مهدّد بضعف الموارد وزحف الإسمنت

سهل عيحا التاريخي يفيض بالخيرات ويوفّر مصادر العيش لمئات العائلات من المزارعين، لكنه يكافح الآن للبقاء في مواجهة أكثر من خطر وأكثر من تحدٍ. هناك بالطبع تحدي الطبيعة التي تغرق السهل من حين إلى آخر فتأتي على المحاصيل وعلى جهد المزارعين، لكن ما يقلق السهل وأهله اليوم هو ضعف الموارد وتأجير الأرض بأسعار زهيدة، وأخيراً زحف الإسمنت على الرقعة الزراعية. فما الذي يجري في سهل عيحا وما هي آفاق تطوره كمنطقة زراعية رائدة ومن أخصب الأراضي في لبنان؟

الموقع
ينبسط سهل عيحا عند تخوم السفوح الغربية لجبل الشيخ، بين بلدتيّ عيحا وكفرقوق، حيث تبلغ مساحته الكلية 11 ألف دونم، تستغل منها مساحة تصل إلى 8 آلاف دونم في زراعة الحبوب خلال فصل الشتاء، كما يتم استغلال أراضيه صيفاً في زراعة الخضار والفواكهه. وتشكل إنتاجية السهل من المواسم الزراعية، مردوداً يعيل حوالي مئتي عائلة من أبناء قرى عيحا وراشيا وكفرقوق، إلى جانب عشرات العائلات التي تعمل في القطاع الزراعي، فضلاً عن أصحاب المشاريع الزراعية الذين يتولون ضمان الأراضي من مالكيها.

«المغراق» ظاهرة فريدة
يتسم سهل عيحا بظاهرة قلّ نظيرها في أي منبسط زراعي في مكان آخر وتتمثل بالفياضانات التي يتعرض لها خلال فصل الشتاء، إذ تغمر المياه هذا السهل فيتحول من منبسط زراعي الى بحيرة موسمية، وهذه الظاهرة تصيب السهل في معظم السنوات ولكن عمق مياه الفيضان واتساع رقعته يتوقفان على كمية المتساقطات ولاسيما الثلوج التي تغطي الجبال المجاورة به، وهذه الثلوج تعتبر مصدراً مباشراً لتفجرعشرات الينابيع المحيطة بالسهل والتي تصبّ فيه كما إنها مصدر أساسي للسيول الشتوية التي تنجم عن ذوبان الثلوج أو عن الأمطار التي تتدفق من المرتفعات المحيطة لتشكل بحيرة موسمية تغرق السهل لعدة أشهر ولاسيما شهري آذار ونيسان فتصيب المحاصيل الزراعية الشتوية بالهلاك حيث تتلف أطناناً من القمح والشعير، كما يمتد تأثير «المغراق» حتى فصل الصيف فتتأخر زراعة المواسم الصيفية أيضاً.
ويروي بعض المعمرين في البلدة أن المغراق كان يستمر من عام الى آخر وأن السمك ظهر في السهل عند جفاف البحيرة ربما بعد أن تسرب من بعض الأنهر المجاورة التي فاضت وأرسلت أسماكها في فترة الذروة، وقد شكّل استمرار المنسوب المرتفع للمياه في السهل لأكثر من سنة متوالية تأمين الظروف الملائمة لتكاثر تلك الأسماك إلى أن ظهرت بأعدادها عند انحسار المياه.
تجدر الإشارة إلى كميات المياه الهائلة التي تتجمع في السهل وتغرقه لأشهر تعود فتتسرب أو «تغور» في الأرض عندما يشارف فصل الربيع على نهايته في هوة عند طرفه الغربي حيث يروي الأهالي ان هذه المياه تصل الى نهر الحاصباني وربما تغذي الخزانات الجوفية الطبيعية التي تعود بدورها ينابيع المنخفضات الواقعة خارج نطاق القرى المحيطة بالسهل.

خصائص سهل عيحا
تشير الإحصاءات المتداولة في بلديات المنطقة الى أن ما يقارب المئتي عائلة تعتمد في عيشها على هذا السهل بشكل مباشر أو غير مباشر وهي تتوزع في معظمها على القرى والبلدات المتاخمة للسهل مثل قرى عيحا وكفرقوق وراشيا اضافة الى مزارعين من المنطقة يدخلون في عقود ضمان أو «استثمار» بعض هذه الاراضي من أصحابها. وتتوزّع ملكيات السهل بشكل متفاوت بين مزارعين صغار تتراوح حيازتهم بين دونمين أو ثلاثة للمزارع الواحد وبين مزارعين كبار قد تصل حيازة الواحد منهم إلى مئتي دونم (أي ما يعادل 200,000م2). ويحتوي السهل على ما يزيد على 15 بئراً ارتوازية، لكن عدداً من تلك الآبار قد يتعرض للجفاف خلال فصل الصيف بينما يستمر الباقي منها في ري المزروعات خلال فصل الجفاف ، لكن السهل رغم ذلك وبسبب موقعه يتميز بوفرة المياه، إذ ينتشر على تخومه وفي محيطه الجغرافي نحو 300 نبع للمياه منها ما هو موسمي (يجف في الصيف) ومنها ما يستمر على مدار العام، وهذه الينابيع تساهم بدورها في ري المزروعات مؤمنة بالتالي مورداً هاماً لاستمرار الدورة الزراعية في أشهر الصيف وبالتالي تعويض ما قد يكون وقع من أضرار بسبب فيضانات الشتاء.
وأبرز ما يميّز المزروعات في هذا السهل انها تروى بمياه نقية لا تقل شأناً عن مياه الشرب وهذا يعود الى غياب الصرف الصحي العشوائي في الجوار.

أنواع المزروعات في السهل
سهل عيحا شأنه شأن معظم السهول اللبنانية حيث يحاول المزارعون الإستفادة منه على مدار السنة من خلال اعتماد الروزنامة الزراعية حيث تتم زراعة السهل مرات عدة خلال العام الواحد ومن هذه المزروعات :
زراعة الحبوب المختلفة كالقمح والشعير والحمص والعدس والعديد من المزروعات الأخرى.
وكذلك هناك المزروعات الصيفية المتمثلة بالخضار على انواعها وبعض الفواكه التي يتم انتاجها بكميات محدودة لكنها تساهم الى حد ٍما في تلبية حاجات السوق المحلية، واللافت ان هذا الإنتاج يتفوق على غيره من خلال الجودة التي يتمتع بها حيث تعتبر المزروعات نصف بعلية والمياه التي يتم ريها هي مياه نقية وغير ملوثة.

هجوم الإسمنت
نتيجة غياب التخطيط المُدني الذي ينظم البناء ويمنع العشوائية من العبث في البيئة الطبيعية والأراضي الزراعية فقد كان لسهل عيحا نصيبه من هذه الظاهرة، إذ زحفت العديد من الأبنية على الرقعة المزروعة وبدأ ذلك يؤثر بصورة سلبية على اقتصاد السهل بسبب التشويه البيئي وتقطيع الملكيات الزراعية وتفتيتها، الأمر الذي يضعف إمكانية قيام زراعات اقتصادية وحديثة أو استثمارات تابعة في عمليات المعالجة وغيرها. على العكس من ذلك، فإن زحف الإسمنت سيؤدي إلى تقلص المساحات الزراعية وتزايد الكثافة السكانية وبالتالي إلى تلوث قد يذهب بسمعة السهل وطبيعته. المفارقة مع ذلك أن المنازل التي بنيت عشوائياً مهددة خلال الأشهر التي تغمر المياه السهل لأن غرق أسفلها أو أساساتها بالمياه لأشهر طويلة قد يؤثر على سلامة البنيان وقد ينتهي إلى زعزعته في نهاية المطاف، علماً أن العديد من الأشخاص قضوا غرقاً في السهل بسبب صعوبة التحرك في مواجهة الوحل من الإنزلاقات والسيول المختلطة بالأتربة والتي تشكل «بحيرات من الوحول» تغرق من يقع فيها.

من أجل المزيد من المعلومات عن تاريخ السهل وما يتعرّض له في زمننا الحاضر إلتقت «الضحى» الشيخ الثمانيني سليم ابو لطيف الذي عاصر اقتصاد السهل وشهد نعمه ونقمه منذ شبابه فكان هذا الحوار:

ما هي أبرز المحطات التي في ذاكرتكم حول سهل عيحا ؟
كان ارتباط الناس بالسهل قديماً ارتباطاً عضوياً، إذ كنا نمضي معظم ايام السنة في ربوعه بدءاً بموسم الحرث ثم الزرع وكان يمتد اشهراً وانتهاء بمتابعة المزروعات خلال فصل الشتاء إلى أن يحين موعد الحصاد. وكانت الأجواء الدائمة في السهل أشبه بأجواء عرس حتى شهر ايلول، عندما يتم حصاد المزروعات من دون مساعدة آلية أو تقنية، إذ كنا نقوم بذلك بأيدينا مستخدمين منجل الحصاد والشاعوب وكانت النخوة ركيزة العمل حيث كان جميع ابناء البلدة يجتمعون في السهل لمساعدة بعضهم بعضاً وكان الجميع يعملون مثل عائلة واحدة في جمع القمح و«رجيدته » والرجيدة هي تحميل القمح على ظهر الحيوانات بواسطة الشبك الخاص بنقل الغلال ليتم نقلها وتكديسها في مكان ٍ واحد يعرف بالبيدر ليصار الى درسها.

أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل
أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل

كيف كانت تتم عملية درس الحبوب في القديم ؟

بإبتسامة بسيطة يتابع الشيخ حديثه، عملية دراسة الحبوب كانت متقنة ومسلية في ذات الوقت حيث كان تتم بوضع «المورج « على جانب عرمة القمح ويتم ربط المورج بعنق احد الحيوانات الذي يبدأ بالدوران حول العرمة ويقف عليه أحد الرجال الذي يقود الحيوان ويوجهه وكان الأولاد يركبون على المورج بهدف التسلية ، كما كان هناك شخص يقف على عرمة القمح ويضع السبل تحت المورج بواسطة الشاعوب .
ويضيف: «كان الناس يمضون جل وقتهم في السهل حيث يتم الإحتفاظ بالمياه في «الكرزونة» ويتم سلق القمح وأكله أو طهي مشتقاته بأشكال مختلفة يقتات بها العمال في السهل .

كيف كانت الأراضي مقسمة قبل حصول المساحة ؟
كانت الأراضي مقسمة بطريقة عشائرية والملكيات موزّعة على الأفراد لكن الحصص الكبيرة يحظى بها النافذون في البلد والأراضي كانت توزع على الأرباع وكل ربع مقسم الى ست عشرة (16) مجرة والمجرة تساوي تقريباً الخمسة دونومات، اما الأماكن القصيرة والضيقة فكانت تقاس بالخرزة والتي تساوي ما يقارب الـ 1000 متر (أي دونم واحد) أو بالتراويس والتي تعتبر إحدى وحدات القياس القديمة للأراضي الزراعية أيضاً .

ما هي أبرز الذكريات التي ما زالت حية في وجدانكم؟
عندما تنحبس الأمطار فترة طويلة كان الناس يخشون على الموسم وعلى نتيجة تعبهم، وبالتالي عيشهم، في تلك الظروف كان الناس يجتمعون ويجوبون أرجاء البلدة والمناطق القريبة من السهل مرددين الإبتهالات متضرعين إلى الله ان يمنّ عليهم بالمياه ومن هذه العبارات التي كانوا يرددونها :
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أم الــــــــــــــــــــــــــــــــغيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــث غــــــــــــــــــــــــــــــــيثيـنــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــــــــــــــــــــــلــــــــــــــــــــــــــــــــِّــــي الســـــــــــــــــــــــــهــــــــــــــــــــــــــــــــل وروينــــــــــــــــــــــــــــــــا
واسقــــــــــــــــــــــــــــــــي زرعنــــــــــــــــــــــــــــــــا العــــــــــــطشــــــــــــــــــــــــــــــــان ومــــــــــــــــــــــــــــــــن فيــــــــــــــــــــــض نعمـــــــــــــــــــــــــــــــــه تحيينــــــــــــــــــــــــــــــــا
المهندس الزراعي عماد محمود أمضى زمناً طويلاً في إرشاد المزارعين وتوجيههم وهو يختزن بالتالي خبرة واسعة في شؤون سهل عيحا وشؤون الزراعة في منطقة راشيا والبقاع، يقول:
دخول الأسمدة والأدوية الزراعية كان لها التأثير السلبي من خلال تفكيك المواد العضوية والحدّ من خصوبة التربة، والجدير بالذكر هنا أن سهل عيحا بسبب خصوبته وما يترسب به سنوياً من الطمي الغني بالعناصر الغذائية يتميز بالزراعة «المحيّرة» وبالمحاصيل الجيدة والتي كانت تفيض بالخيرات بعيداً عن استعمال الأدوية الزراعية .

ما هي الزراعة «المحيرة»؟
هي الزراعة التي كانت تزرع ما بين المرحلة المبكرة لزراعة الحبوب وتدعى «العفير» وهي قبل أن تروى الأرض جيداً بالمياه والزراعة المتأخرة والتي تدعى «اللقيس» وهذه الزراعة كانت تعطي مواسم جيدة وكانت تشكل عامل جذب لكبار المزارعين نظراً إلى المردود الوفير الذي تعطيه، لكن دخول المزارعين عالم التجارة والركض وراء محاولة زيادة الإنتاج بوسائل كيميائية وبصورة غير مدروسة غالباً قضى على هذه الزراعة .

كيف تتم عملية استثمار السهل حالياً ؟
تقلص الموارد المالية المتاحة للمزارعين في السهل حال دون استثمار الأرض مما حدا بهم الى تضمين أملاكهم لمزارعين من خارج المنطقة، لكن المفارقة هي أن الأرض يتم تضمينها بأسعار زهيدة حيث لا تتجاوز الـ 25 دولاراً للدونم بينما في سهل البقاع يصل تضمين الدونم الواحد الى ما يقارب الـ 180 دولاراً والغلال في سهل عيحا تفوق الغلال في سهل البقاع في الدونم الواحد كماً ونوعاً.
ومن الأسباب التي دفعت بالمزارعين الى تضمين الأرض، ارتفاع فاتورة الري في الفترة الأخيرة، حيث إن الآبار الإرتوازية هي مشاريع خاصة يملكها أشخاص أخذوا يتحكمون بأسعار المياه والمزارع غير قادر أحياناً على تأمين البديل.

سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة
سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة

ما هي الأماكن الأكثر خصوبة في السهل ؟
التربة في السهل متقاربة بالإجمال ولا توجد منطقة تفوق الأخرى لكن الأماكن التي تكون أكثر تأثراً بالمغراق تتجدّد التربة فيها بإستمرار بسبب ما يترسب فيها من طمي وتعتبر لذلك من المناطق الأكثر خصوبة، لذلك يتسابق المستثمرون في السهل للحصول عليها .

ما هو مستقبل الزراعة في السهل ؟
في الفترة الأخيرة أخذ الناس بالإبتعاد عن الزراعات التقليدية في السهل وعدم الإعتماد على الروزنامة الزراعية أو ما شابه ذلك وتحولوا الى زراعة الكرمة وهذا ما بدأ يظهر على اطراف السهل حيث اخذت بساتين التفاح بالإتساع، أضف الى ذلك أن بعض المزارعين بدأ يزرع مساحات واسعة بأشجار الحور التي تنمو بسرعة ويتم الإستفادة منها في الحطب حيث تحضى ولهذه التجارة سوق مربحة والحور سريع النموّ ويمكن ان يستفاد منه على فترات طويلة .

سد القرعون

ماذا تعرف عن سدّ القرعون

أكبر مشاريع لبنان المائية والكهرمائية؟

«لبنان هبة الليطاني» هذا ما قاله المهندس ابراهيم عبد العال في مقدمة دراسته لنهر الليطاني التي أجراها في العام 1948 متمثلاً بمقولة المؤرخ اليوناني هيرودوتس « مصر هبة النيل» .
عبّرت هذه الكلمات عن أهمية الموارد المائية لمستقبل الاقتصاد والتنمية في لبنان وعن الأهمية الكبرى لنهر الليطاني باعتباره النهر الأطول والأغزر بين الأنهر اللبنانية الداخلية والليطاني نهر «داخلي» بمعنى أن منبعه ومصبَّه يقعان في الأراضي اللبنانية وأن كل مياهه تعود إلى لبنان ولا يتشارك فيها مع أي بلد آخر.
مع ذلك، فإن لدى لبنان هواجس دائمة إزاء مطامع إسرائيل في مياهه ولا سيما الليطاني خصوصاً وأن إسرائيل اجتاحت أراضيه عدة مرات وكانت غالباً ما تصل إلى الليطاني أو تتجاوزه، وقد ترافقت حرب تموز 2006 مثلاً بإشاعات كثيرة عن خطط إسرائيلية لسرقة مياه النهر لكن الاحتلال يومها لم يدم طويلاً وتنفس اللبنانيون الصعداء تجاه سلامة مياه النهر وأمنهم المائي.
بالنظر إلى أهمية الليطاني فقد كان منذ الثلاثينات، وفي ظل الانتداب الفرنسي، مركز اهتمام الدولة اللبنانية التي اعتبرت أن من أولى واجباتها أن تحقق الاستغلال الكامل لهذه الثروة المائية االفريدة بحيث لا تذهب هدراً إلى البحر خصوصاً في فصل الشتاء عندما تؤدي متساقطات الأمطار والثلوج على السلسلتين الشرقية والغربية إلى زيادة كبيرة في تدفقات الأنهر وكميات المياه التي تحملها .
لكن الفكرة بدأت بالتحول إلى مشاريع جدية في خمسينات القرن العشرين، إذ لعبت قيادات فنية واقتصادية بارزة مثل المهندس ابراهيم عبد العال وألبير نقاش وسليم لحود دوراً أساسياً في بلورة المخططات والخيارات بشأن نهر الليطاني وأثمرت تلك الجهود بقيام المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في العام 1954 والتي عهد إليها الإشراف على بناء سد الليطاني الذي سمي في ما بعد «سد القرعون» وتمكّنت المصلحة في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب من إنجاز الأعمال في السدّ وتشغيله بالكامل في العام 1962.
فما هي قصة هذا السدّ المهم جداً لاقتصاد لبنان الزراعي وقطاعه الكهربائي؟ وما هي الفوائد التي يجنيها لبنان من استثمار مياهه على الوجه الصحيح؟ وما هي مشاريع مصلحة مياه الليطاني للمستقبل المنظور؟

نهر الليطاني
ينبع نهر الليطاني من نبع العليق الواقع غرب بعلبك ويخترق سهل البقاع من الشمال الى الجنوب حيث يبقى مستعلى ارتفاع عن سطح البحر يتراوح ما بين 800 – 1,000 متر ويزداد حجم تدفقاته المائية تدريجياً نتيجة الروافد التي تغذيه. ومن هذه الروافد نهر البردوني ونهر شتورا ونهر قب الياس ونبع الخريزات ونبع مشغرة اضافة الى نهر يحفوفا ونهر الغزيل الذي يعتبر أهم روافده على الإطلاق لأنه يضم نبع رأس العين ونبع الفاعور ونبع شمسين ونبع عنجر اضافة الى عين البيضا، وجميع هذه الروافد تصب في الليطاني ضمن مسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات، وفي اقصى الجنوب يتلقى الليطاني مياه عين الزرقاء ومياه نبع الغلة .
وعندما يخرج الليطاني من البقاع ويدخل في القسم المنخفض من مجراه فإنه يهبط من علو 800 متر الى مصبِّه عند سطح البحر بعد اجتياز مسافة 100 كلم تقريباً، وفي القسم المنخفض يتلقى النهر مياه نهر زريقون ونهر وادي السلوقي .
وينحرف مجرى النهر باتجاه الغرب عند جسر الخردلي بالقرب من قلعة الشقيف تجاه دير ميماس حيث يتحول إسمه إلى «نهر القاسمية» ويتدفق إلى البحر المتوسط على بعد ثمانية كيلومترات شمال مدينة صور .
تبلغ مساحة حوض النهر (أي الأراضي الواقعة على ضفتيه ويمكن أن تستفيد من مياهه) 2,168 كيلومتر مربع (أو ما يعادل 21% من مساحة لبنان الإجمالية البالغة 10,452 كلم2) وتقع 80% من أراضي حوض الليطاني في سهل البقاع والباقي في المناطق الجنوبية من لبنان، فهو يبلغ 170 كلم وتصريفه السنوي يزيد على سبعمائة وسبعين مليون متر مكعب.

سد القرعون
تعود تسمية بحيرة القرعون أو سدّ القرعون إلى المكان الذي تمّ اختياره من قبل المهندس ابراهيم عبد العال مع الجيولوجي دوبرتريه بين بلدة القرعون وبلدة سحمر عند مستوى او منسوب 800 م والذي يعتبر من افضل المواقع الجغرافية لبناء السد وهذا الأمر كان بإجماع الخبراء الذين تعاقبوا على دراسة المشروع، لذلك تم اعتماد الموقع لبناء السد.

مواصفات السدّ
أجريت عدة دراسات لتحديد نوعية السدّ قبل الوصول الى القرار النهائي الذي سوف يعتمد في بنائه. البعثة الأميركية أو ما عُرف بالنقطة الرابعة قدّمت دراسة لبناء سدّ من الركام الصخري مع نواة من المواد الصلصالية المتوفرة في المكان، كما قدمت البعثة الفرنسية المعروفة بمجموعة الليطاني نموذجين للسدّ مراعية عدداً من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السدّ كالهزات الأرضية ، الفيضانات وغيرها فتم اختيار السد الخرساني وتلزيمه لإحدى الشركات اليوغوسلافية التي باشرت العمل في 30\9\ 1958 .
يبلغ ارتفاع السد 60 متراً وطوله حوالي 1090 متراً بعرض اقصى 162 متراً، ويبلغ حجم السدّ الاجمالي مليوني متر مكعب تقريباً، وهو من أنواع السدّ الركامي المبني من الردميات الصخرية مع طبقة امامية من الصخور المرصوفة .
بلاطات منع التسرب: هي من الخرسانة المسلحة على الواجهة الأمامية للسد تتراوح سماكتها ما بين 50 سنتمتراً في القسم الأسفل للسد و30 سنتمتراً في القسم الأعلى منه ، تبلغ مساحتها 47,000 متر مربع، ترتبط هذه البلاطات في ما بينها بفاصل مطاطي وتتم تعبئة الفراغات بمواد من الزفت العازل تسمى (water stop).

المنشآت التابعة للسدّ
1. منشأة تصريف الفيضان او المفيض Evacuateur des crues
يعتبر المفيض أهم المنشآت التابعة للسدّ، إذ إنه يحميه في حال الفيضانات ويؤمن مرور المياه بشكل سليم دون الإضرار بجسم السد، أما خصائص هذه المنشأة فهي :
– نوعية المفيض: برج من الخرسانة المسلحة في البحيرة متصل بنفق يمر تحت جسم السد حتى النهر .
– منسوب اعلى المفيض 858 م فوق سطح البحر .
– قطر اعلى المفيض 26 متراً
– قطر بئر التهوئة 3 أمتار ويصل الى منسوب 861.5 متر
– قطر نفق التصريف تحت السد 6.8 أمتار
2. منشأة تفريغ البحيرة
يتم تفريغ البحيرة في بعض الأحيان لأعمال الصيانة عندما تكون المياه في ادنى مستوياتها في فصل الخريف .
صممت منشأت التفريغ لتؤمن تصريف حوالي 100 متر مكعب في الثانية بواسطة برجين بالقرب من الضفة اليسرى للنهر متصلين بنفقين يمران تحت جسم السد وينتهيان عند غرفة السكورة المجهزة بمنشآت التحكم في فتح او قطع تفريغ المياه .
استعمال مياه السد
تستعمل المياه التي يختزنها في توليد الطاقة الكهربائية في المعامل الكهربائية الثلاثة (معمل مركبا، معمل الأولي، ومعمل جون ) التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني وفي ري ما يزيد على 1400 هكتار من اراضي سهل البقاع الزراعية وحوالي 36 الف هكتار من الأراضي الزراعية في الجنوب اللبناني .

معامل الطاقة الكهربائية
1. معمل إبراهيم عبد العال أو ما يُعرف بمعمل مركبا
يقع هذا المعمل على بعد 6,400 متر من سدّ القرعون وهو يأخذ المياه من بحيرة القرعون عبر نفق تحت الأرض على الضفة اليمنى من المجرى ، يتصل بالمجرى بواسطة انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه الاقصى 22 متراً مكعباً بالثانية ، ويبلغ علو مسقطه 200 متر تتكون منظومة الانتاج في معمل عبد العال من وحدتين بقدرة تجهيزية إفرادية تساوي 17 ميغاواط مزودة بعنفة مائية ، حيث يبلغ مجموع الانتاج في المعمل 34 ميغاواط .
تمّ انجاز هذا المعمل بكامله ووضعه قيد الإستثمار في العام 1962 عندما كان سدّ القرعون في المرحلة الاولى من بنائه لكنه في حالة تسمح بتأمين المياه اللازمة لتشغيله .
2. معمل بولس ارقش أو ما يعرف بمعمل الأولي
يقع هذا المعمل في حوض نهر بسري على الضفة اليسرى للنهر، حيث يبلغ علو مسقطه 400 متر ويستمد المعمل المياه اللازمة لتوليد الطاقة من بحيرة القرعون بعد خروجها معنفة من معمل عبد العال لتتحد مع مياه نبع عين الزرقاء ومياه الأمطار وعدد من الينابيع الأخرى لتصل الى المعمل عبر نفق يخترق جبل نيحا بطول 17 كلم لتصل الى بركة انان فوق المعمل مباشرة حيث يتزود المعمل بالمياه مباشرة عبر انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة إنتاج المعمل من ثلاث وحدات بقدرة تجهيزية تصل الى 36 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية حيث تبلغ القدرة الإجمالية للمعمل 108 ميغاواط .
تمّ انجاز بناء المعمل ووضعه قيد الإنتاج في تموز من العام 1965 بمجموعتين فقط قبل ان تتم اضافة مجموعة ثالثة في العام 1977 لزيادة قدرته الإنتاجية خلال ساعات الذروة ولم تدخل حيز العمل إلا في العام 1981 نتيجة الاوضاع الأمنية المتردية .
يعتبر معمل بولس أرقش اهم معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية من مصدر مائي في لبنان من حيث القدرة الإفرادية لكل مجموعة من مجموعاته الثلاث، كما يعتبر هذا المعمل محطة مركزية لتجميع الطاقة المنتجة من المعامل الثلاثة .

قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية
قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية

3. معمل شارل حلو أو معمل جون
يقع هذا المعمل على الضفة اليسرى من مجرى نهر الأولي حيث يبلغ علو مسقطه 194 م وهو يعتمد القسم الأكبر من المياه اللازمة لتوليد الطاقة من تصريف معمل بولس ارقش ، والقسم الآخر من مياه نهر بسري عن طريق تحويلها الى بركة التجميع فوق المعمل حيث تتدفق عبر نفق طوله 6800 م ليتم نقلها الى المعمل بواسطة انبوب فولاذي مضغوط قدرة تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة الإنتاج في معمل جون من وحدتين بقدرة تجهيز افرادية تبلغ 24 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية لتصل القدرة الإجمالية للإنتاج الى 48 ميغاواط . واللافت في هذا المعمل انه مجهز بمحركات عكسية بإمكانها ضخ المياه المعنفة الى بركة التجمع في حال تمّ انشاء برك تجميع للمياه بعد خروجها من المعمل، وقد تم انجاز هذا المعمل في العام 1968 .

خطوط نقل الطاقة
تحتاج معامل الليطاني الى وجود خطوط توتر عال من اجل تصريف الطاقة المنتجة ووضعها على الشبكة العامة العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان، ولأجل ذلك قامت المصلحة بتمويل انشاء شبكة توتر (66 كيلوفولت ) لحسابها تربط معاملها الثلاثة ببعضها بعضاً من جهة كما تربط هذه المعامل بالشبكة العامة من جهة اخرى .
وكانت هذه الشبكة تتعرض للأضرار بشكل مستمر طيلة الحرب الأهلية ونتيجة الإعتداءات الإسرائيلية وفي كل مرة يتم اصلاح هذه الأعطال وإعادة التيار الى طبيعته .

مشاريع الري التي تستفيد من مياه السد
1. مشروع ري القاسمية ورأس العين (الجنوب)
يعتبر هذا المشروع من اهم المشاريع في لبنان تمّ تنفيذه في العام 1974 ، يتكون هذا المشروع من قسمين أساسيين:
القسم الأول : قناة القاسمية : تمتد من السد التحويلي في الزرارية حتى الموزع العام بطول 9 كلم حيث تتفرع الى فرعين : الفرع الشمالي أو فرع صيدا والفرع الجنوبي أو فرع صور .
يمتد الفرع الشمالي او فرع صيدا من الموزع العام حتى مجرى نهر سينيق جنوب صيدا بطول 25 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 3.5 م مكعب بالثانية .
أما الفرع الجنوبي أو فرع صور فيمتد من مخرج نفق القاسمية حتى مفرق المعشوق بطول 9 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 1.5 م مكعب بالثانية.
القسم الثاني : قناة رأس العين :
تتألف من فرعين أساسيين :
فرع رأس العين الشمالية ويمتد من برك رأس العين جنوباً حتى مفرق المعشوق شمالاً بطول 5 كلم .
فرع رأس العين الجنوبي ويمتد من برك رأس العين حتى بلدة المنصوري جنوباً بطول 7 كلم ويروي هذا القسم 3,200 هكتار بالطرق التالية : الجاذبية ، والضخ مع الري الحديث الذي يعتمد على التنقيط . وما بين العام 1996 والعام 1998 نفذت المصلحة اشغال التحديث وتأهيل المنشآت الرئيسية للمشروع .
2. مشروع ري البقاع الجنوبي
تم تنفيذ المرحلة الأولى بما فيه البنية التحتية الهيدروليكية خلال الفترة ما بين 1998 و2001 وفق أحدث تقنيات الري .
يروي حالياً 2,000 هكتار من بحيرة القرعون جنوباً الى جب جنين وكامد اللوز شمالاً، وسوف يروي مستقبلاً عند الإنتهاء من تنفيذه حوالي 21 الف هكتار من الأراضي الزراعية .

منشآت المشروع
يتكون المشروع من :
– قناة جر رئيسية (900) بطول 18.40 كلم
– محطات ضخ رئيسية في اسفل سدّ القرعون
– محطات ضخ ثانوية على شبكات الآبار
– خزانات التوزيع وشبكات الري المضغوطة
تأتي معظم كميات المياه التي تستعمل في الري في الضخ من بحيرة القرعون مع دعم من آبار كامد اللوز لقطاع جب جنين .

مشروع الري النموذجي
تبلغ مساحة مشروع الري النموذجي 1200 هكتار تقع بين مجرى نهر سينيق ونهر الاولي ومساحة المنطقة المستثمرة من هذا المشروع تبلغ 350 هكتاراً تروى بالمياه المتوفرة في بركة أنان، ويتألف المشروع من شبكة ري رئيسية وشبكات فرعية يبلغ طولها 42 كلم .

وحدة البيئة والمهام التي تلقى على عاتقها في مراقبة المياه وحماية حوض الليطاني من التلوث
نظراً إلى إرتفاع نسبة التلوث التي تطال الأنهر اللبنانية بشكل عام وغياب الرقابة والمحاسبة كان لا بدّ من خطوة ذاتية في هذا المجال لمتابعة واقع المياه في حوض الليطاني مما دفع بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني بإستحداث وحدة البيئة في العام 2005 التي تلقى على عاتقها مهمة المراقبة الدائمة لنوعية المياه السطحية .

نهر الليطاني
نهر الليطاني

تلوث مياه الليطاني
الثمن البيئي …والعلاج

تعتبر مصادر التلوث في الليطاني كثيرة ولعلّ أبرز مصدر لتلوث مياه الحوض الأعلى لليطاني قبل وصوله الى بحيرة القرعون نتيجة لتحويل مياه الصرف الصحي والمياه المبتذلة إلى النهر من المجمعات السكانية القريبة من المجرى من القرى والبلدات الواقعة على طول مجرى النهر وهذا ما يظهر بشكل واضح خلال فصل الصيف بعد توقف مياه الأمطار.
أضف الى ذلك النفايات الصناعية التي ترمى على مجرى النهر والنفايات المنزلية فضلاً عن مخلفات المستشفيات ومزارع الدواجن في ما تتمثل الملوثات الأخرى ببقايا الأسمدة والمبيدات الزراعية وما ينتج عن المقالع والكسارات اضافة الى مراكز غسل السيارات ومحلات تغيير الزيت وغيرها وغير ذلك من مصادر التلوث التي تشوه النهر الى حد بعيد وهذا ما ينعكس بصورة خطيرة على نوعية مياه الري وإمكانية الإفادة من مياه النهر لأغراض الاستهلاك المنزلي.
لا يبدو في الأفق أي أمل في إمكان معالجة ظاهرة التلوث اذا لم تواكب بخطوات جدية من قبل الدولة منها على سبيل المثال لا الحصر :
– إصدار قانون خاص بإجراءات حماية المياه في لبنان ومعاقبة جرائم تلويث المياه وإصدار غرامات كبيرة على جرائم تلويث أو إفساد المياه.
– إيجاد إدارة خاصة حكومية لمراقبة السلامة في حوض الليطاني وغيره من الأنهر، وتعطى صلاحيات واسعة وتدعم بجهاز رقابة مدعم بالقوى الأمنية بما يعطي للقانون هيبته وقوة التنفيذ اللازمة لردع المخالفين.
– معالجة مياه الصرف الصحي بإقامة محطات تكرير جماعية لمعالجة المياه المبتذلة عند مخارج المدن والتجمعات السكانية والمصانع.
– إنشاء محطات لمعالجة النفايات الصلبة.
– إلزام مصانع تحويل الإنتاج الزراعي ومعامل إنتاج الألبان والأجبان والمسالخ بتجهيز منشآتهم بمحطات تكرير للسوائل والفضلات الناتجة عن عملية التصنيع .
– فرض غرامات مالية قاسية على رمي شتى أنواع النفايات في مجرى النهر .
– متابعة المزارعين وإرشادهم إلى سبل التخلص من مخلفات الأسمدة والمبيدات الزراعية .

وحدة البيئة والمهام الأساسية وكيفية عملها
– تقوم هذه الوحدة بدراسة نوعية المياه وذلك من خلال جمع العينات وتحليلها في الحوض الأعلى والأسفل من نهر الليطاني ( يقصد بالحوض الأسفل المسافة الممتدة من أسفل بحيرة القرعون وصولاً الى البحر شمال مدينة صور ) لتحديد العناصر والمكونات الملوِّثة .
– يتوزع العمل بين فريقين ، الأول في الحوض الأعلى وهو متواجد بشكل دائم في مركز الأبحاث التابع لمصلحة مياه الليطاني في خربة قنفار، والثاني يتبع مكتب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في مدينة صيدا .
– قامت الوحدة بدراسة الخصائص الجغرافية للنهر واستطاعت من خلالها تحديد مصادر التلوث المتمثلة بالنفايات الصلبة ونفايات المستشفيات ونفايات المصانع .

أهداف وحدة المراقبة (وحدة البيئة )
تتضمن الأهداف الرئيسية لبرنامج مراقبة نوعية المياه :
1. تأسيس قاعدة بيانات طويلة الأمد متعلقة بنوعية المياه من أجل الحفاظ على المعلومات ورصد التغيرات الحاصلة في حوض الليطاني وللتأكد من سلامة المياه التي تستخدمها البلدات والوحدات الزراعية والصناعية .
2. إنشاء قاعدة جامعة للبيانات والتحليل لإدارة وترجمة المواضيع المتعلقة بنوعية المياه .
3. تبادل المعلومات مع المؤسسات المعنية من أجل تحسين نوعية المياه وتطوير إدارة هذا القطاع .
4. تطوير الإمكانيات من أجل الإكتشاف المبكر للملوثات ومصادرها من خلال إيجاد إطار قانوني لمراقبة نشاط المصانع والنشاط الزراعي ومراقبة النفايات الصلبة والسائلة .
5. الإعداد لدراسة جيو تقنية تُعنى بالإهتمام بمجمع القرعون المائي من خلال دراسة تغذيته الإصطناعية للمياه الجوفية عبر المشاركة في مشروع آراسيا عبر الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية .
6. مراقبة المياه الجوفية عبر الآبار المخصصة لذلك والتي تمّ حفرها بدعم من الـ USAID.
7. استخدام نفس التقنية المذكورة في البند الخامس لدراسة امكانية تسرب المياه من تحت جسم السد .

آثار المشروع الإقتصادية والإجتماعية
كان لمشروع الليطاني الأثر الأكبر في تغيير حياة الناس في القرى والبلدات المجاورة له حيث حول آلاف الهكتارات الزراعية من أرض بعلية الى أرض مروية يمكن الاستفادة منها على مدار السنة على الرغم من توزيع المياه بشكل غير متساو على المناطق المحيطة، وهذا ما أطلعنا عليه المزارع اسعد جابر رئيس تعاونية خربة قنفار الزراعية .
يقول المزارع جابر لقد أحدث المشروع ثورة هائلة في عالم الزراعة في البقاع الغربي من خلال تنوع المزروعات وتوزعها على مدار السنة فتحوّلت الزراعة من بعلية الى مروية مما ضاعف المردود وشجّع على الاستثمار في القطاع الزراعي لكن المشكلة تكمن في مشاريع الري المنفذة في البقاع حيث نرى أن المزارعين الذين يمتلكون حيازات زراعية على مجرى قناة الري الممتدة من منطقة السد وصولا الى بلدة كامد اللوز يعمدون الى ري مزروعاتهم بكلفة زهيدة على مدار العام لا تتجاوز السبعين الف ليرة لبنانية .
وفي المقابل، القرى والبلدات الواقعة في سفوح السلسلة الغربية لا تستفيد من هذا المشروع فهي تعتمد على مياه الينابيع المنسابة من الجبل وهذا ما يسبب في تراجع الزراعة وفي اهمال بعض المزارعين لأراضيهم ولاسيما في سنوات الجفاف .

بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية
بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية

توزّع الملكيات الزراعية
هناك تفاوت كبير في توزيع الاراضي الزراعية لكن أغلبية هذه الملكيات هي ملكيات فردية تتوزع على معظم سكان القرى المحاذية لمشروع الليطاني، لكن هناك نسبة قليلة من المزارعين اصحاب الحيازات الكبيرة التي تستثمر في الزراعة بشكل كبير ويعتبر المردود الزراعي الركيزة الأساسية في عيشهم في حين ان الشريحة الكبرى ممن يمتهنون الزراعة لا يعتمدون عليها بشكل كلي .
اللافت في بعض المزارعين الذين يمتلكون اراضي زراعية في القرى غير المشمولة بري المشروع يهملون اراضيهم ويذهبون لاستثمار الأراضي في المنطقة التي يشملها الري نظراً إلى الكلفة الزهيدة التي يدفعها المزارع .
ما هي المعوقات التي تعيق العمل الزراعي ؟
جابر: المشكلة الاساسية التي تعيق عمل المزارعين هي مشكلة التصريف والمنافسة من الخارج التي تدخل الاسواق المحلية بشكل عشوائي مما يدفع المزارعين الى بيع منتجاتهم الزراعية بسعر الكلفة في معظم الأحيان .
والمشكلة المستجدة اليوم هي مشكلة التصدير الى الدول العربية واغلاق المعابر مما يسبب في تلف بعض المحاصيل التي تأتي دفعة واحدة في زمنٍ قياسي ، كما رفعت من كلفة التبريد في البرادات الزراعية، اضافة الى ذلك هناك، ظاهرة التلوث التي أصبحت واقعاً لا مفرّ منه نتيجة العديد من مصادر التلوث التي تدخل مياه البحيرة وغياب اي رقابة من الدولة على ذلك مما يسبب في تلف المزروعات نتيجة الادوية والمبيدات السامة التي ترمى في مجرى النهر .
هل تستعمل هذه المياه في الاستعمال المنزلي او في الشفة ؟
جابر: إطلاقاً لا يمكن ان تستخدم هذه المياه للأغراض المنزلية وهي غير صالحة للشرب نظراً إلى ارتفاع نسبة التلوث وهذه الملوثات تسبب امراضاً خطيرة تؤدي الى الوفاة.
وفي النهاية لا يسعني القول إلا أن من يرنو الى البحيرة من بعيد يذهله منظرها الجذاب ومن يقترب منها ويطلع على المشاكل الصحية التي تعتريها يصبه الذهول .

مركز الخدمة والارشاد الزراعي في خربة قنفار
تمّ بناء هذا المشروع ضمن اطار مشروع IRWA الممول من الاتحاد الأوروبي ما بين العام 2003 والعام 2006 وهو يهدف الى توفير الإرشاد والدعم الفني للمزارعين في مشروع ري القاع الجنوبي .
يتضمن المشروع :
– حقل تجارب بمساحة 160 هكتاراً للقيام بتجارب الزراعة والري .
مختبر للتربة والمياه كامل التجهيز .
– محطة ارصاد جوية .
– حقل تجارب دون مستوى السد بمساحة 37 دونماً تتضمن 25 دونماً لزراعة الزيتون و12 دونماً لعنب المائدة الذي يتضمن 12 صنفاً.

الأهداف التي يتوخى المركز تحقيقها
أولاً: ترشيد المزارعين على استعمال التقنيات الحديثة في الزراعة والري عبر ندوات دورية وإنشاء حقول تجارب زراعية .
ثانياً: استقبال الباحثين والطلاب لإجراء الأبحاث العلمية.
ثالثاً: إجراء تجارب لإدخال زراعات جديدة .
يشهد المركز تعاوناً مثمراً مع المؤسسات والبرامج التابعة للقطاعين العام والخاص والأهلي بينها برنامج دعم إدارة حوض الليطاني وزارة الزراعة ، مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية والمعهد الزراعي العالي لدول حوض المتوسط ، كليات الزراعة في الجامعتين اللبنانية والعربية .

المزارع اسعد جابر
المزارع اسعد جابر

الواقع السياحي
على الرغم من جمال البحيرة ومن المنظر الأخاذ الذي تتمتع به إلا ان واقع التلوث الذي اصاب مياهها حرم أهل المنطقة من مورد مهم وهو مورد السياحة وإن وجد فهو بسيط وموسمي يقتصر على بعض الزوار الذين يأتون الى البحيرة لمشاهدتها فقط وهذا الدور تقوم به بعض المراكز السياحية الصغيرة التي تؤمن نقل من يرغب للقيام بجولة داخل البحيرة، اما المشاريع السياحية القريبة والمباشرة للبحيرة فهي شبه معدومة وهذه الظاهرة لا تقتصر على محيط بحيرة القرعون فقط لكنها تنعدم على طول مجرى الليطاني ولاسيما في منطقة المجرى الأعلى حيث تنتشر روائح النفايات الكريهة وتؤثر على الوضع الصحي لسكان المناطق المجاورة .

مراجعات و إصدارات جديدة