الأحد, نيسان 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, نيسان 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المؤرخ حسن البعيني

غلاف الكتاب

غلاف كتاب الدكتور البعيني

ندوة تناقش كتاب المؤرخ حسن البعيني
حول مشيخة عقل الموحدين الدروز

د. رياض غنام: هل يمكن الإستغناء عن تسمية «الدروز»؟
د. محمد شيا: عالم مؤرخ مدقق وقد نجح في مهمته
رامي الريس: عمل بحثي شامل أول من نوعه

كتاب الدكتور المؤرخ حسن أمين البعيني «مشيخة عقل الموحّدين (الدروز) في لبنان وسوريا وفلسطين» يدخل المكتبة العربية كأول بحث موضوعي شامل موسّع عن الرئاسة الروحية للموحّدين (الدروز) منذ نشوئها وحتى اليوم. وقد بذل الدكتور البعيني في وضع كتابه الجديد جهوداً بحثية ومستفيداً من اطلاعه الواسع على المراجع التاريخية ومن خبرته المباشرة في تاريخ الموحدين الدروز ليضع توثيقاً كاملاً لتطور فكرة الرئاسة الروحية والأدوار المهمة التي لعبها كبار مشاريخ الموحدين الدروز عبر الزمن. وقد عالج الدكتور البعيني موضوعه بتفصيل شمل تطور المشيخة في كل من لبنان وسوريا وفلسطين والحقبات التاريخية المختلفة التي مرت بها وتطور تسمياتها وأدوارها وعلاقاتها وتأثرها بالتطورات السياسية وأحياناً بالإنقسامات داخل مجتمع الموحدين الدروز.
من أجل تسليط الضوء على الكتاب وتثمين الإضافة التي يقدمها في توثيق تاريخ الموحدين الدروز أقيمت في المكتبة الوطنية – بعقلين بتاريخ 20 حزيران 2015، ندوة حوارية شارك فيها إلى جانب المؤلف كل من الدكتور رياض حسين غنّام، والدكتور محمد شيّا، والأستاذ رامي الريّس، وقدمها الأستاذ غازي صعب، وغصّت القاعة العامة في المكتبة الوطنية بحضور غفير من الدارسين والمهتمين.
بعد تقديم مدير المكتبة الوطنية الأستاذ غازي صعب للمؤلف والمتحدثين بدأ الدكتور رياض حسن غنّام الحديث بالقول إن:«كتاب الدكتور حسن البعيني جاء ليلقي الضوء على موضوع تجنّب الغوص فيه الكثير من الباحثين في العقيدة وأسس المذهب، وهو لم يقدم على ولوج هذا المسلك العسر لولا تمكّنه المعمّق وقدرته على التحليل والإستنتاج، فتطرّق ولو إقتضاباً لناحية نشوء المذهب، والخصوصية التي يتسم بها». وأضاف الدكتور غنام القول: «إن كتاب الدكتور حسن البعيني لا شك يسد ثلمة في تاريخ مشيخة عقل الطائفة الدرزية، خصوصاً وأنه جاء نتيجة جهد مؤرخ تمرّس في كتابة تاريخ تلك الطائفة فدوّن بطولاتها وأيامها وملاحمها ومواقفها الوطنية، من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، مروراً بدروز جبل العرب في خلال فترة الإنتداب الفرنسي كما دوّن عادات الدروز وتقاليدهم في أكثر من كتاب.
لكن الدكتور غنام توقّف عند موضوع تسمية الموحدين الدروز واقتراح البعض التخلص من تسمية الدروز فقال:«لست أدري إن كان التخلي عن إسم الدروز سيتم بتلك البساطة، وإن تاريخ أمة وتراث شعب سنغير إسمه بتلك السهولة والبساطة، فالدروز عبر تاريخهم ليسوا مصطلحاً يمكن تبديله أو مواقف يمكن تسطيحها، وما الفائدة من الحاضر والمستقبل إذا غيّرنا الماضي وقطعنا كل صلة به، فماذا نعمل بتراث الدروز والمؤلفات التي دونوها والشهادات التي قيلت فيهم شعراً ونثراً، والبطولات التي سطّروها واقترنت بتاريخهم وتراثهم المجيد».
وختم بالقول: إن كتاب الدكتور حسن البعيني هو بمثابة الحجر الأساس في تاريخ مشيخة العقل وتطورها، وهو إنجاز فريد تناوله المؤلف جامعاً شاملاً، لم أجد في قراءته ثغرة تتعلق بالكاتب، وإن وجدت إشكالات تتعلق بالمسؤولين عن الطائفة، كونهم عمادها وأصحاب الحل والربط فيها. وسيبقى كتاب الدكتور حسن البعيني مرجعاً متميزاً بدقته وحرفية بنائه وصياغة افكاره التي قرن بها سلوكية إجتماعية وصدقية إنسانية، آملاً أن أناديه في القريب العاجل الشيخ الدكتور حسن البعيني، وهو لا ينقصه من كل ذلك إلا الجبة والعمة.
الدكتور محمد شيّا
الدكتور محمد شيّا بدأ مداخلته بالثناء على الكاتب وتأكيد أهمية الكتاب فقال: «بصراحة، ومن دون إطراء مبالغ فيه، قبل كتاب الدكتور حسن البعيني لم تكن عندي فكرة شاملة كافية وافية عن تاريخ مشيخة العقل في لبنان، فكيف بسوريا وفلسطين! هذا يكفي للدلالة على الجهد الإستثنائي الذي بذله المؤلف في تقميش مادة هذا الكتاب الغني. وأضاف:« سهل الكلام منا عن هذا الكتاب، لكن الصعوبة هي في إعداد مادة هذا الكتاب والتدقيق فيها ومقارنتها وتحمّل مسؤوليتها، وهو مطلب قصر عنه الكثيرون، في حدود علمي على الأقل».
وأضاف الدكتور شيّا القول: «يلفتك في الكتاب إتساع الحقبة الزمنية، شمول المادة، التفاصيل، التصنيف، الوضوح، التدقيق، ثم الجذور التي حاول المؤلف الوصول اليها: الجذور المؤسسة لمقام مشيخة العقل، بل وبحثه في الأزمات التي انتابت المشيخة في أحيان عدة».
ولفت إلى أن «هذا كتاب يغلب عليه التّاريخ، وليس التحليل، بل لا يتسع للتحليل. لذا كان جل إهتمام المؤلف القيام بوظيفة المؤرخ العالم المدقق، وقد نجح في مهمته تلك أيما نجاح».
وختم الدكتور شيّا بالقول: «لا حاجة لأن أختم بالقول إن الدكتور حسن البعيني في كتابه الجديد «مشيخة عقل الموحدين» كما في كتبه العلمية السابقة، كما في مقالاته في غير دورية ومكان، كان يقدّم دائماً المطلوب تقديمه، الذي لا يستغنى عنه، في أفضل صيغة علميّة موضوعيّة وبأعلى حس من الإلتزام الوطني والعروبي والإسلامي. مبروك مبروك للدكتور حسن البعيني كتابه الذي سيملأ بالتأكيد فراغاً في مكتباتنا. أمدّه الله بالصحة والقوة ليستمر معيناً لا ينضب في المعرفة والعلم والبحث والتنقيب على حس وإلتزام أخلاقيين من مستوى رفيع».
رامي الريس
ثم تحدّث الأستاذ رامي الريِّس مفوض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي فقال: «تشاء الصدف أن نناقش اليوم هذا الكتاب القيم حول مشيخة العقل للموحدين الدروز في لحظة يعيش فيها أبناء هذه الطائفة المعروفية العربية منعطفات هامة تتصل بالأرض والوجود والهوية وتتطلب أكثر من أي وقتٍ مضى ما يتطلب التحلي بروح المسؤولية العالية درءاً للفتنة».
وأشار الريِّس إلى ارتباط موقع مشيخة العقل لدى الموحدين الدروز بأهمية العقل نفسه مستعيناً بتعريف المعلم الشهيد كمال جنبلاط للتوحيد باعتباره «نهج العقل والقلب» لأن الشعور (أي القلب) يطلب التوحيد والوحدة، والعقل يطلب أيضاً التوحيد والوحدة: وحدة التفسير، ووحدة عقل جميع مظاهر الكون».
ونوّه الريِّس بحجم الجهد الذي بذله المؤلف بالقول:« كرّس الدكتور حسن البعيني الكثير من وقته وجهده لإتمام هذا العمل البحثي الأول من نوعه في ما يتعلق بمشيخة العقل وتاريخها وتطورها ودورها في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، وهو يتنقّل، أي الكاتب، بالقارىء في عددٍ واسع من المواضيع مستهلاً كتابه بالمراحل الأولى للدعوة ثم أفرد فصلاً كاملاً للمشيخة في لبنان حتى أواسط القرن الثامن عشر معدداً حقبات الشيوخ الذين تولوا زمام الأمر ومن ثم انتقل إلى المراحل التي كانت فيها مشيخة العقل ثنائية وثلاثية وصوﻻً إلى المشيخة في سوريا وفلسطين».
وختم الريِّس بالقول: «إذا كان من عبرة نستخلصها من هذا الكتاب، فهي أنه آن الأوان لتتوحد الكلمة وترصّ الصفوف مع الحفاظ على التنوع والتعددية، فهذا لا يتناقض مع ذاك. إن تغليب الفكر المؤسساتي هو أكثر ما تحتاجه هذه الطائفة التي قد يرى البعض أنها تملك فائضاً من العنفوان، وهذا صحيح، ولكنها تملك أيضاً فائضاً من العقلانية والفلسفة التوحيدية وتكرّس إهتماماً كبيراً بالعقل».
الدكتور حسن البعيني شكر المساهمين في الندوة مؤكداً أنه لم يكتب عن الموحِّدين من منطلقٍ فئوي، بل من منطلق أكاديمي، لأن تاريخهم جزء من التاريخ العام ومكمّل له، ولأنه جزءٌ من التاريخ العربي والإسلامي في بلاد الشام ، ولأن هناك ما لا يُحصى من المواضيع عنهم، تستأهل البحث، ومنها مشيخة العقل أو رئاستهم الدينية وهي لم تُبحث من قبل إلا على نطاق جزئي ومحدود لحساسية بعض نواحيها، ولقلة مراجعها، ولضبابية الأزمنة القديمة، لذا عمدت إلى الكتابة عنها في بحثٍ شامل ومستفيض.

محطات في ذاكرة وطن1

العميد عصام أبو زكي ينشر مذكرات حساسة وأسراراً

تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية ومراحــلها من منظار ضابط أمن واســـع الإطلاع

كتب كثيرون عن الحرب اللبنانية التي امتدت بين جولات وهدنات ما بين العامين 1975 و1989، وقد تخلل ذلك عدوان إسرائيلي غاشم وموجات اغتيال لقيادات البلد وشخصياته السياسية والدينية والإعلامية، لكن رغم ما تعرّض له البلد من أهوال فقد اتسمت الكتابات التي حاولت التأريخ لتلك المرحلة السوداء غالباً بالهوى السياسي وبغلبة الكلام السياسي ولغة الإتهام للآخر، لذلك، فإن القليل من تلك المؤلفات يساعد على تكوين فكرة حقيقية عما حدث وعن خفايا اللعبة وأهداف وأساليب اللاعبين.
على العكس من ذلك، فإن العميد عصام أبو زكي يقدّم في كتابه «محطات في ذاكرة وطن» رواية مختلفة لأنها رواية رجل أمن لما كان يشهده يومياً أو يحقق فيه من حوادث وتمردات وأعمال إجرامية، وهذه الوقائع كما يرويها هي أحداث ناطقة لا تحتاج إلى الكثير من التحليل ويكفي الإطلاع عليها كما هي لفهم الكثير مما كان يجري. لهذا السبب، فإن كتاب «محطات في ذاكرة وطن» يمكن اعتباره أول تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية أو على الأقل بداياتها وإرهاصاتها من منظار ضابط أمن واسع الاطلاع واتيح له بسبب موقعه وحصافته أن يربط الكثير من الخيوط وأن يتأكد بنفسه من أن الكثير من الأحداث التي ظهرت معزولة أو عفوية إنما كانت في الحقيقة فصولاً متلاحقة في سيناريو محكم.
الكتاب يعرض بأسلوب مشوق لمشاهدات وأحداث مصيرية رافقت خدمة العميد أبو زكي الطويلة في السلك الأمني في مرحلة زمنية تمتد من مطلع الستينات حتى نهاية التسعينات من القرن المنصرم، لكن العميد أبو زكي كما يقرّ لم ينشر كل ما يعرفه وهو ربما من أكثر الناس إطلاعاً لكنه آثر أن يبقي الكثير من الأمور والوقائع في خزانة معتمة مبرراً ذلك بالحرص على عدم نكء الجراح والإعتراف بأن الكثير مما مضى قد مضى، وهو يقول إن همّه في الكتاب ليست الروايات المثيرة بل مساعدة الأجيال التي لم تعش تلك الفترة المصيرية على فهم خلفيات ما حصل، ولأنه عندما يفهم اللبنانيون ما حصل سيجدون الأعذار لبعضهم بعضاً ويدركون أن الجميع كانوا دون علم منهم لاعبين صغاراً في «لعبة أمم» أكبر من الجميع.
شاء القدر أن تتزامن خدمة العميد أبو زكي ومسؤولياته الأمنية مع جميع مراحل الحرب الأهلية حتى ما بعد انتهائها وحلول السلم الأهلي وقيام حكومة مركزية بموجب وثيقة الوفاق الوطني – «اتفاق الطائف»، وقد وضعته تلك الأحداث في مواقع أتاحت له الإطلاع على خفايا ما يجري كما تسببت بتكليفه بأدوار أمنية وسياسية سواء خلال عمله مع المعلم كمال جنبلاط أم في مرحلة العمل مع وليد بك جنبلاط أم في قيادته للشرطة القضائية. ومن أهم علامات نجاح العميد أبو زكي الثقة الكبيرة التي تمتع بها لدى أوساط الإنتربول والقيادات الأمنية الدولية وأدت إلى تزويده بمعلومات ثمينة عزّزت فعالية القوى الأمنية اللبنانية في مجال مكافحة الجريمة المنظمة وكانت وراء تحقيق الأجهزة الأمنية لنجاحات غير مسبوقة في هذا المجال، وكما نعلم فإن القوى الأمنية الدولية قليلاً ما تضع ثقتها في أجهزة حفظ الأمن في بعض الدول النامية بسبب ما يعرف عن فساد تلك الأجهزة وبالتالي احتمال تسريب المعلومات أو تفاصيل العمليات الحساسة التي قد تكون قيد التحضير من قبل الإنتربول إلى المجرمين أنفسهم. وكان عصام أبو زكي أحد الضباط القلائل الذين طلب منهم المشاركة في اجتماعات دولية في قبرص أو في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية هدفها تبادل المعلومات السرية والتعاون في مكافحة الجريمة على أنواعها.
شكّل نجاحه الشهير في القضاء على «دولة المطلوبين» في طرابلس، ثم اقتياده لأحد زعماء ميليشيات المدينة مكبلاً عنواناً لجسارة تصل غالباً إلى حد المخاطرة ودهاء أمنياً تميّز به على الدوام، وقد كان عصام أبو زكي بسبب حدسه الأمني أحد أنجح المحققين الأمنيين وتمكن من كشف قضايا وخفايا كثيرة يصعب حصرها منها قضية الجاسوس الإسرائيلي في طرابلس وقضايا الفساد في مرفأ بيروت كما تمكّن في أقل من أسبوعين من جمع كل خيوط اغتيال الزعيم كمال جنبلاط وقدم ملفاً كاملاً عنها بما في ذلك تسمية المرتكبين والمخططين، كما كان لنباهته دور كبير في كشف مدبري محاولة اغتيال وليد جنبلاط بسيارة مفخخة في العام 1983.
اشتهر العميد أبو زكي كقائد لسرية الطوارئ (الفرقة 16) التي تمكّنت من فرض الأمن في أنحاء بيروت، كما اشتهر بصورة خاصة بتصديه الشجاع وإحباطه لمحاولة الدبابات الإسرائيلية إبان اجتياح العام 1982 اقتحام مقر السرية في ثكنة الحلو، فكانت ثكنة الحلو هي الثكنة الوحيدة التي لم يدخلها المحتل الإسرائيلي. بعد ذلك وفي قيادة الشرطة القضائية لعب عصام أبو زكي دوراً في كشف عملية تفجير ملهى لابيل في ألمانيا، ومن المفارقات أنه تعاون يومها مع المحقق الألماني ديتليف مليس ونشأت بين الرجلين صداقة واحترام متبادلان. وشاءت الأقدار بعد سنوات أن يعيّن مليس قاضي تحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ويأتي بنفسه إلى لبنان. وكان العميد أبو زكي قد أحيل يومها على التقاعد المبكر بسبب توتر العلاقة بينه وبين أحد كبار المسؤولين في موضوع يتعلق بملاحقة بعض الشخصيات السياسية.
كتاب العميد عصام أبو زكي عن تجربته الامنية وبعض ما اكتنفها من أسرار مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بالإطلاع على جوانب خفية كثيرة لمرحلة مصيرية من تاريخ لبنان الحديث.

تقديم وليد بك جنبلاط

قدّم الزعيم وليد بك جنبلاط لكتاب العميد عصام أبو زكي بالكلمات التالية:
عرفت العميد عصام أبو زكي منذ سنوات طويلة وهو الذي تولى المهام الأمنية الصعبة في حقبة قاسية من تاريخ لبنان الحديث، وقد خدم الدولة بشرف ووفاء رغم ما شكّله ذلك من مخاطر ومصاعب في لحظات الإنقسام الوطني العميق وفي مراحل الإقتتال الداخلي بين اللبنانيين.
في مسيرة العميد أبو زكي محطات ومفاصل في غاية الأهمية عكست حرفيته ومهنيته في العمل العسكري والأمني، وحقق في المئات من الملفات الكبيرة والحساسة، قد يكون أهمها وأبرزها ملف اغتيال كمال جنبلاط الذي استطاع من خلال إصراره وعناده، رسم صورة الجريمة كاملة بالأسماء والتفاصيل كاشفاً جميع المخططين والمنفذين والمتورطين.
لقد دفع العميد أبو زكي في الكثير من المراحل ثمناً لمواقفه ولعمله المهني في وقت كانت تتحلل فيه الدولة بكل مؤسساتها ويتلاشى حضورها ويضمحل دورها. حرص ألا يتراجع عندما كانت هيبة الدولة في أدنى مستوياتها، بل بذل كل الجهد، ضمن نطاق عمله لترميم هذه الصورة المبعثرة وتطبيق القانون بحزم وقوة.
كل التحية للعميد أبو زكي على كل ما قام به، وكل الشكر له لبذله الجهد لتوثيق ملفات وحقبات مهمة من تاريخ لبنان المعاصر.

صورة من التراث

صورة من التراث

صورة من التراث
صورة من التراث

قرية الكفير

افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر: 32)

قــرية الكفـــير

موئل التآخي ومنبت النجباء

لبلدة الكفير مكانة خاصة في قلوب أهلها وفي قلوب اللبنانيين، فهي قرية التآخي الدرزي المسيحي وقرية التضامن وحنين الإغتراب وهي منبت التميّز والإبداع وهي فوق ذلك مسقط رأس أحد أبرز رجالات الإستقلال في سوريا رئيس وزرائها في ثلاث حكومات متتالية فارس بك الخوري. هذه القرية الوادعة على سفوح حرمون غنية أيضاً بالتاريخ والإرث الثقافي، غنية بالأدباء والمفكرين المبدعين والأهم أنها لا تعيش على ماضيها بل تنعم بحاضر زاهر يجعلها حالة لافتة بين البلدات الجبلية في لبنان.

منها انطلق فارس بك الخوري إلى رئاسة حكومة سورية
وفي ربوعها تفتح خيال أملي نصر الله وإبداعها الأدبي

سليم بك كيوان خدم الباب العالي وصادق جمال باشا
وتمكّن بذلك من فك شباب كثيرين من حبل المشنقة

مغتربو الكفير لم يطيقوا الحنين إلى الوطن
فأنشأوا جمعية وأتوا بالبريد والتلفون إلى القرية

تعود تسمية الكفير الى اللغة الآرامية وتعني ضيعة أو منطقة ومن المحتمل أن تكون تسمية الكفير تصغيراً عربياً للفظ «كفرا» وتعني القرية الصغيرة، أما التسمية التي شاعت هي «كفير الزيت» حيث كانت السلطات العثمانية ومن بعدها سلطات الإنتداب الفرنسي تطلب من المساحين وضع إسم كفير الزيت على الخرائط للإشارة الى بلدة الكفير والسبب في ذلك يعود الى غنى هذه البلدة بأشجار الزيتون ولشهرتها في معاصر الزيتون التي ما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا.

الموقع الجغرافي
ترقد قرية الكفير في أحضان جبل حرمون على ارتفاع يتراوح ما بين 800 و1050 متراً فوق سطح البحر وهي تقع في الجهة الشمالية لقضاء حاصبيا وتتبع إدارياً لقضاء حاصبيا ولمحافظة النبطية. وبسبب موقعها الوسيط تشكّل الكفير صلة الوصل الطبيعية بين البقاع والجنوب وتحيط بها وتجاورها عدة قرى منها بلدة عين عطا من الشرق ومن الشمال الشرقي وقرى لبايا وميمس من الغرب ومن الجنوب قرية الخلوات، ومن الشمال مزرعة السفينة وقرية مرج الزهور. تبعد الكفير عن حاصبيا مركز القضاء نحو 10 كلم، وعن النبطية مركز المحافظة نحو 55 كلم ، وعن العاصمة بيروت نحو 100 كلم.
تتميز القرية بوفرة موارد المياه والمتمثلة بعدد كبير من الينابيع الدائمة وبعض الأنهر والسواقي الموسمية، ومن الينابيع عين الطاسة وعين الزمروني وعين الزقاني في الجهة الجنوبية، أما في الجهة الغربية فهنالك نهر الفاتر وهو عبارة عن نهر موسمي يتلاشى خلال فصل الصيف ونبع السفينة في الشمال الشرقي وعين الخسف بالإضافة الى عين الضيعة وفوار الساحة في وسط البلدة .
السكان والعائلات
يبلغ عدد سكان قرية الكفير 3420 نسمة، لكن المقيمين منهم لا يزيد عددهم على 1570 نسمة بسبب إنتقال قسم كبير من أهل القرية للسكن والعمل في ضواحي العاصمة أو في المهاجر القريبة والبعيدة.
سكان البلدة، المقيمين والمغتربين، هم من الدروز والمسيحيين ويتوزعون على العائلات التالية :
موحدون دروز: نوفل، نجاد، غرز الدين، عواد، العيسمي، أبو العز، صقر، الحلبي، الدمشقي.
مسيحيون: أبو جمرا، أبو رحال، مخايل، كساب، أبو شلش، أبو رزق، أبو نصر، لاون، إندراوس، فاخوري، غنطوس، جليان، الخوري، البسيط ، أبو راشد، ثابت، حوراني، الخرباوي.

أحياء البلدة
تتألف بلدة الكفير من عدد من الأحياء والحارات التي يسكن كلا ً منها عدد من العائلات المذكورة سابقاً واللافت أن هذه الأحياء تتوزّع مناصفة تقريباً بين الدروز والمسيحيين .
وعلى الرغم من التمدّد العمراني الذي حصل في القرية واتساع مساحة الأبنية الحديثة، إلا انها ما زالت تحافظ على العمارة التقليدية القديمة في بعض احيائها، ولعلّ أبرز ما تكتنزه هو ذكرى باقة من الأعلام والنابغين الذين خلدوا إسم لبنان عالياً وفي طليعتهم فارس بك الخوري أول رئيس حكومة مسيحي في سوريا بعد الإستقلال، والكاتبة أملي نصر الله، وجيمس أبو رزق ونيك رحال وسليم بك نوفل .
كانت منازل الكفير القديمة تقام بالقرب من مناهل المياه في وسط البلدة والتي تتمثل بعين الضيعة وفوار الساحة، وكانت تلك الدور تتألف من طبقة واحدة مبنية من الطين وتحتوي على عدد من الغرف إضافة الى بيكة «أرضية» إلى جانب المنزل تأوي المواشي والحيوانات خلال فصل الشتاء وكان أصحاب اليسر يمتلكون منزلاً تعلو سطحه علّية وبجوارها مصطبة لقضاء فصل الصيف وأمامها مساحة فسيحة تعرف بالمشرقة، ومع مرور الزمن وتبدّل العادات تبدّلت أساليب العمارة واتخذت بدءاً من الأربعينات أو الخمسينات من القرن الماضي طابع البيت اللبناني التقليدي المشاد من الحجر مع الأسقف العالية والبلكونات الواسعة لكن تبدلت طبيعة البناء في ما بعد لتتخذ طابع الأبنية الحديثة المبنية من الإسمنت والمغطاة جدرانها الخارجية بالحجر الصخري والكثير من تلك الأبنية اتخذ شكل البناء المتعدد الطبقات.

الإغتراب وجمعية الإخاء الكفيري
لا تختلف الكفير عن غيرها من البلدات الجنوبية واللبنانية في توجه أبنائها نحو المغتربات البعيدة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد ارتبطت تلك الهجرات أولاً بتردي أوضاع الاقتصاد في معظم ولايات الدولة العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر ثم انتشار الفقر وأخيراً قيام الحرب العالمية الأولى مع ما جرّته من مصائب ومجاعات على اللبنانيين. وقد توجّهت الهجرات الأولى من الكفير نحو الأرجنتين وبعض دول اميركا الجنوبية ثم أميركا الشمالية، وفي النصف الثاني من القرن الماضي توجه بعض الرواد نحو استراليا وفتحوا بذلك بابا لهجرة أبناء القرية إليها، وفي وقت متأخر وخصوصاً ابتداءً من الستينات ثم السبعينات تزايدت حركة الهجرة نحو منطقة الخليج العربي لتصبح عملياً نمط الهجرة الأكثر هيمنة في يومنا الحاضر.
يجب القول هنا إن بلدة الكفير تميّزت بين البلدات الأخرى في قوة شعور التضامن بين أبنائها وعمق الرابطة العاطفية التي حافظ عليها المغتربون الكفيريون في المهاجر. وكان أبرز ثمار ثقافة التضامن تلك تأسيس جمعية الإخاء الكفيري في الولايات المتحدة الأميركية في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد أعلنت الجمعية آنذاك أن هدفها هو تحسين الوضع المعيشي لذوي المغتربين وكذلك ردّ الجميل للبلدة عبر جمع الأموال من الناجحين في الخارج لتقديم خدمات حيوية للكفير لم يكن سهلاً توفيرها في تلك الفترة من تاريخ لبنان في ظل الإنتداب الفرنسي. ومن أجل التواصل مع الوطن ومعرفة الحاجات التي يمكنها العناية بها أسست الجمعية فرعاً لها في البلدة للمتابعة وبدأت ثمار عمل الجمعية بالتوالي لتشمل بخيرها جميع ابناء القرية دروزاً ومسيحيين. ففي مطلع العام 1930 موّلت الجمعية جرّ مياه الشفة من ساحة القرية الى مختلف أحيائها، ثم قامت بإنشاء مبنى البلدية وبناء طابق في المدرسة القديمة ومن ثم وفي العام 1950 تأسيس مركز للبريد أتبعته بتدشين مقر خاص لتوزيع البريد في المنطقة، ومن المرجح أن موضوع البريد كانت له أهميته بالنسبة إلى المغتربين وذويهم فكان لمأثرة الجمعية صدى ترحيب واسع لأنها تمكنت بذلك من ربط القرى ببلدان الإغتراب وجعلت التواصل بالرسائل متاحاً وسريعاً نسبياً خصوصاً بعد إدخال البريد الجوي. . ولنفس الغرض أيضاً ساعدت الجمعية على تأمين مركز للإتصال الهاتفي في العام 1951 بجهود المغترب رامز الخواجا، فسهلت بذلك الإتصال الفوري عبر الهاتف الدولي بالمغتربات.

جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير
جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير

 

أحراج الزيتون
أحراج الزيتون

 

 

 

 

 

 

 

الحراك الشبابي والإجتماعي
أدى نجاح تجربة جمعية الإخاء الكفيري إلى تفعيل الحراك الاجتماعي والثقافي في الكفير فتأسست الرابطة الثقافية في منتصف الستينات من القرن الماضي على يدّ مجموعة من الطلاب الذين حددوا هدف الرابطة بتطوير المجالات الثقافية والتربوية والرياضية والصحية مما جعل المجتمع في تلك الحقبة متميزاً عن سواه من المجتمعات المجاورة، كما تأسس في القرية نادي الحرية الرياضي الذي لعب دوراً مهماً خلال الحرب الأهلية في جمع المجتمع المحلي تحت راية الرياضة كما قام عدد من الجمعيات التي تعنى بالشأن المحلي مثل «جمعية تمكين المرأة» و«الإتحاد النسائي» وفرع «لجمعية نور».

كنيسة البلدة
كنيسة البلدة

إقتصاد القرية وإغراءات النزوح
على الرغم من أهمية الموارد الزراعية للكفير ولاسيما الزيتون ومشتقاته، فإن الاقتصاد المحلي تميّز بإنتقال تدريجي من الزراعة إلى القطاعات الخدمية مثل التجارة والعقار والوظائف وأموال الاغتراب، وزادت خلال العقود الثلاثة الاخيرة بشكل خاص نسبة الموظفين في

القطاع العام ولاسيما القطاع العسكري والقطاع التربوي، ويعود تراجع أهمية الزراعة إلى تنامي عدد السكان وتزايد حاجات الأسر وعدم كفاية الاقتصاد المحلي للقيام بتلك الحاجات. ولحسن الحظ فإن لبنان بلد اغتراب وله في هذا المجال خبرات وتاريخ طويل والاغتراب يمثل أحياناً صمام الأمان والخيار الأخير أمام الأجيال الشابة، وكذلك يمثّل النزوح إلى العاصمة بيروت أو إلى أي من المراكز الحضرية حيث يمكن الحصول على عمل والقيام بعبء معيشة الأسرة وتعليم الأولاد.

زراعة الزيتون
يعود ازدهار زراعة الزيتون في بلدة الكفير الى النصف الأول من القرن الثامن عشر وقد استمر تنامي هذه الزراعة حتى باتت تغطي ما يقارب الـ 20 % من الأراضي الزراعية في القرية، وتلقت زراعة الزيتون ابتداءً من خمسينات القرن الماضي دفعة قوية جديدة بسبب ازدياد الطلب على الزيتون وارتفاع سعر الزيت فتم خلال العقود الخمسة الأخيرة زرع المزيد من أراضي البلدة بتلك الشجرة وبات الزيتون بالتالي يغطي نحو ثلثي الأراضي الزراعية في الكفير، وبسبب أهمية الزيتون فقد تطورت في الكفير أيضاً صناعة عصر الزيتون وإنتاج زيت الطعام وكذلك صناعة الصابون الذي تستخدم فيه الزيوت الناجمة عن جمع الزيتون المتساقط قبل القطاف ويسمى «زيتون الجوال».

الصنوبر والنحل
يشكّل انتاج الصنوبر مصدر دخل متنامياً لعدد من العائلات في الكفير ولاسيما بعد الارتفاع المتواصل في اسعار الصنوبر عاماً بعد عام حتى وصل سعر كيلوغرام الحب الابيض منه إلى 90,000 ل.ل. واللافت أن بلدة الكفير تحيط بها مساحات كبيرة من الصنوبر الحكومي الذي يقع تحت تصرف البلدية والتي تعمد الى تضمينه لمن يرغب من الأهالي.
كما تنامت تربية النحل في بلدة الكفير لتتحول إلى مصدر دخل ذي شأن للعديد من نحالة البلدة والعائلات التي تهتم بهذا النشاط المجزي.

التعليم في القرية
يعود التعليم في الكفير الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأ مع تأسيس مدرسة بروتستانتية عرفت بـ «مدرسة الإنكليز» ثم ومع نهاية القرن التاسع عشر أسس الروس مدرستين تابعتين للروم الأرثوذكس واحدة للصبيان والثانية للبنات لكن المدرستين كانتا مفتوحتين لجميع أبناء القرية مسيحيين ودروزاً، وبعد انتهاء الطلاب من دراستهم في المدرستين كان يتم ارسال المتفوقين منهم الى مدينة الناصرة في فلسطين لمتابعة تحصيلهم العلمي وقد ساهم بعض الخريجين لاحقاً في نشر التعليم في المنطقة من خلال ممارسة التدريس، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى توقف التعليم في هاتين المدرستين.
يذكر الأستاذ فيصل نوفل أن بعض المتفوقين في المدرستين كان لهم الأثر البارز في إحياء التعليم في القرية والقرى المجاورة بينما اشتهر من الساسة الذين تخرجوا من القرية فارس بك الخوري الذي شغل منصب رئيس الوزراء السوري في العام 1946 كما لمع إسم الاعلامية عبلة الخوري اضافة الى عدد من الذين برزوا في المجال التربوي .
اللافت أن «التعليم الرسمي» بدأ في ظل الإنتداب الفرنسي وذلك عندما قامت سلطات الانتداب عام 1920 بإنشاء مدرسة الكفير تحت اشراف نظارة المعارف العمومية، وبدأت المدرسة إعطاء الدروس للطلاب في مبنى وقف الروم الأرثوذكس ثم تمّ توسيع المبنى بدعم من قبل المغتربين بحيث أصبحت المدرسة قادرة على استيعاب عدد أكبر من الطلاب الوافدين اليها من قرى قضاءي راشيا وحاصبيا.
ويشير الأستاذ فيصل نوفل إلى أن مدرسة الكفير شهدت تطوراً لافتاً بعد الإستقلال مستفيدة من المساعدات التي يقدمها المغتربون ولاسيما جمعية الإخاء الكفيري التي ساهمت في توسيع المدرسة وتقديم كافة المستلزمات التربوية من مختبرات ومكتبة وقاعات جيدة للتدريس وتأمين مدرسين من ذوي الخبرة والكفاءة، وقد اشتهرت المدرسة بمستوى التعليم الذي كانت تقدمه وبالعديد من الخريجين الذين لمعوا في عدة ميادين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديبة أملي نصرالله والقاضي منيف حمدان والصحافي راجح الخوري والوزير عصام أبو جمرة وعدد كبير من الأطباء والمهندسين وأصحاب المهن، لكن مما يؤسف له أن مدرسة بهذه العراقة تراجع دورها مع الأيام لصالح المدارس الخاصة إلى أن أدى الأمر إلى إقفالها من قبل الدولة لعدم توافر الحد الأدنى من التلامذة المسجلين، وانتقل من بقي من الطلاب إلى مدارس أخرى وتمّ إلحاق المدرسين من أبناء البلدة بالمدارس الرسمية في البلدات المجاورة . فهل الذنب هنا ذنب الأهالي الذين يعتقدون أن المدارس الخاصة تؤمن تعليماً أفضل أم هو تراجع التعليم الحكومي بصورة عامة أمام الزحف المستمر للتعليم الخاص؟
المفارقة هي أنه بينما لم تستطع بلدة الكفير الحفاظ على مدرستها العريقة فإنها اليوم تضم ثانوية رسمية زاهرة تقدّم التعليم للمراحل التكميلية والثانوية لطلاب البلدة والبلدات المجاورة، وحققت الثانوية نجاحاً جعلها تستقطب الطلاب من البلدات المحيطة وذلك بسبب مستوى التعليم المميز والفريق التربوي الكفوء الذي يتولى التعليم فيها.
حلّت ثانوية الكفير لفترة كمركز للتعليم الثانوي للمنطقة محل ثانوية حاصبيا الرسمية خصوصاً بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، إذ بات من الصعوبة بمكان الانتقال الى حاصبيا بعد إقفال معبر زمارية فتم انشاء فرع لثانوية حاصبيا في القرية في العام 1984 وشغل فرع الثانوية جزءاً من مبنى الكنيسة قبل انتقال الثانوية إلى مبناها الحديث الحالي وإعطائها إسم «ثانوية الكفير الرسمية التي برز من خريجيها الوزير وائل أبو فاعور.
والجدير بالذكر أنه وبسبب عدم وجود جامعة أو فرع لجامعة رئيسية في المنطقة فإن خريجي الثانوية وخريجي الثانويات الأخرى يجدون أنفسهم مضطرين للانتقال إلى صيدا أو الى مدينة زحلة حيث توجد أقرب الجامعات الرسمية او الى كلية العلوم الإقتصادية في ضهر الأحمر والكثير من الطلاب ينتقلون الى الجامعة اللبنانية في الحدث أو لفروع أخرى في العاصمة لمتابعة تحصيلهم العلمي.

منزل-فارس-الخوري
منزل-فارس-الخوري

شخصيات وأعلام من الكفير
أملي نصر الله: ولدت عام 1931 وعاشت طفولتها الأولى في بلدة الكفير كانت تختلس السمع الى الأساتذة في المدرسة المجاورة لمنزلها قبل أن تدخلها بقدر كبير من الشغف بالمعرفة ثم لتنتقل الى الكلية الإنجيلية لتبدأ مسيرتها المهنية في التعليم ثم الصحافة لتغطي تكاليف الدراسة .
عاشت طفولتها كسواها من أطفال القرى، فعملت في جوال وقطاف الزيتون وفي حصاد القمح حيث أغنت هذه الحياة ذاكرتها، فاكتسبت الحرف الاول في مدرسة الضيعة وبعد سنوات قبل أن يكتشف خالها الكاتب ايوب نصر وهو أحد أصدقاء جبران في الرابطة القلمية الموهبة الأدبية لديها فأخذ يغذيها من خلال الطلب اليها كتابة مواضيع أدبية.
روايتها الأولى «طيور ايلول» باكورة تبعتها سلسلة من الأعمال الأدبية مثل : شجرة الدفلى، الإقلاع عكس الزمن، الجمر الغافي، خبزنا اليومي، يوميات هرّ وغيرها من الروايات التي وصلت بها الى العالمية، ومازال منزلها في القرية حتى اليوم يغمره الحنين والشوق الى سنوات خلت.
فارس بك الخوري : ولد فارس بك الخوري في الكفير في 20 تشرين الثاني 1873 وتابع دراسته الأولى في مدرسة البلدة قبل ان ينتقل الى المدرسة الاميركية في صيدا ونظراً إلى تفوقه تمّ تعينه مدرساً في احدى مدارس زحلة قبل ان يعود الى متابعة تحصيله الجامعي في الكلية الإنجيلية السورية التي عرفت في ما بعد بالجامعة الأميركية في بيروت. انتقل إلى سوريا حيث عين ترجماناً للقنصلية البريطانية (1902، 1908 ) درس الحقوق ومارس المحاماة ودخل العمل السياسي ليتم انتخابه نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني عام 1914، لكنه اتهم بعد سنتين بالتآمر على السلطنة العثمانية التي نفته الى اسطنبول. عاد إلى سوريا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب ثم عمل مع حكومة الملك فيصل الأول، أيضاً انتخب نقيباً للمحامين ونائباً لرئيس الكتلة الوطنية، تولّى رئاسة المجلس النيابي السوري عامي 1936 و1943 وتمّ تكليفه برئاسة الحكومة السورية وقد شكّل ثلاث حكومات متوالية في عهد الرئيس شكري القوتلي .
سليم بك نوفل : ولد سليم حمد نوفل في الكفير سنة 1865 في أسرة مؤلفة من ستة أشقاء وشقيقتين، منذ نعومة أظافره كان ثاقب البصيرة ينظر الى ما حوله نظرة تختلف عن أقرانه حيث كانت تربيته على حب العمل وتحمل المسؤولية تصنع منه رجلاً، إمتاز بحبه

فيصل نوفل
فيصل نوفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للآخرين ومساعدتهم حيث كان نصير المستضعفين في مجتمعه .
كان أبيّ النفس طاهر اليدين، محباً، قليل الكلام، حاد البصر والبصيرة معاً، عُرف بهيبته ووقاره وقامته الفارعة بين الناس، شعاره خدمة الأخيار من الناس ورفع الحيف عن المظلومين، عمل في الزراعة ثم عين وكيلاً عن دروز وادي التيم وفلسطين لدى الوالي التركي في دمشق حيث مكث فترة طويلة في الشام، وكان هدفه المحافظة على استقرار منطقته، كما إنه لعب دوراً بارزاً في إبعاد حبل المشنقة عن الكثير من أبناء منطقته مستفيداً من علاقته الجيدة بجمال باشا.
بسبب خدماته الطويلة والمكانة التي حققها منحته الحكومة العثمانية لقب بك والعديد من الأوسمة الرفيعة واهداه السلطان العثماني سيفاً قيماً ما زال محفوظاً في دارة الأمير مجيد ارسلان في خلدة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد الى قريته وهو لا يزال محافظاً على الهيبة والوقار اللذين كان يتمتع بهما وكان محط احترام ابناء الكفير من دروز ومسحيين، يستمعون الى حكمته ورأيه السديد، وأبرز ما قام به خلال تلك الفترة تعاونه مع وجهاء البلدة من دروز ومسيحيين لتجنيب القرية تداعيات الثورة السورية الكبرى عام 1925.

تاريخ من التآخي
تتميز بلدة الكفير بتاريخ طويل من التآخي بين الدروز والمسيحيين يتمثل بوجود حياة اجتماعية وثقافية مشتركة بين جميع أهل القرية وعدم وجود توترات من أي نوع وهذا ما نراه في مشاركة أبناء القرية بعضهم بعضاً في الأفراح والأتراح وتعاونهم في شؤون التنمية واحتواء المشكلات والحفاظ على السلم الأهلي، وهذا ما حصل في ثورة 1925 عندما قام سليم بك نوفل يرافقه اسبر مخايل بجولات في الليل طوال تلك المرحلة استهدفت تحييد القرية والحفاظ على الاستقرار وطمأنينة النفوس. وخلال ثورة 1958 أظهر ابناء القرية حرصهم الشديد على وحدة البلدة وقد حصل الأمر نفسه خلال الحرب الأهلية، إذ بقي المجتمع الكفيري موحداً متماسكاً وقد جعل هدفه الأول إبعاد شبح الفتنة والإقتتال عن البلدة والحفاظ على علاقات الود التاريخية بين الموحدين الدروز وأهل بلدتهم المسيحيين.

المقامات الدينية
يوجد في البلدة مقامان دينيان يأمهم الموحدون الدروز على مدار العام وهما مقام النبي شعيب في منطقة السفينة ومقام النبي شيت في منطقة شعيث. ويوجد الى جانب المقام ناووس حجري يعود الى العهد الروماني وعليه مجموعة من النقوش إضافة الى عدد من الآثار القديمة المحيطة والتي تعود الى حقبات تاريخية قديمة.
وتوجد في البلدة كنيستان: كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس وكنيسة أخرى للروم الكاثوليك.

الشيخ سعيد الدمشقي يتذكر
الشيخ سعيد الدمشقي رجل ثمانيني يعدّ من حكماء القرية بسبب سنه وذهنه المتوقد وذاكرته الغنية بالأحداث. «الضحى» إلتقته في حوار سألت فيه الشيخ سعيد عن كفير أيام زمان وما الذي يراه قد تغير الآن، هنا ملخص الحوار.

> هل من شيء خسرته الكفير وتتمنى لو يعود الآن؟
هذه القرية على الرغم من صغر مساحتها لكنها اكتنزت الكثير. عندما كنت طفلاً اكثر ما كان يدهشني النول الذي كان يحيك الأقمشة وكانت الكفير تضم أربعين نولاً تصنع الأقمشة على أنواعها وألوانها وكانت هذه تباع في المنطقة وفي خارجها لإستخدامها في خياطة الألبسة، لكن هذه الصناعة انهارت وكان آخر هذه الأنوال في العام 1936.
> ما هي أبرز محطات الذاكرة لديكم ؟
النخوة التي كانت تعتبر الصفة العامة لأبناء القرية والتي كانت تظهر في مختلف جوانب الحياة ولاسيما بناء المنازل والتي كانت تشاد من الطين وكان سقف المنزل يحتاج الى عدد من الجسور الخشبية والتي يزيد وزن كل جسر على 1000 كلغ يجتمع ما يقارب الاربعين شاباً وينتقلون الى الحرش المجاور للقرية ويتم وضع عدد من الأخشاب تحت الجسر الخشبي لرفعه وكان ذلك يحتاج إلى 16 شاباً يقومون برفع الجسر ويبدأ الشباب بالمناوبة على حمله وكل ذلك كان يتم على وقع الأهازيج والغناء، لكن أطرف شيء كان جلوس عازف المجوز على الجسر الذي يحمله الشبان بهدف العزف وإذارة حماس الشباب وشد أزرهم، أما نحن فكنا كأولاد نركض بجانبهم ونحن نصفق.

فقدنا العافية والطمأنينة
ويقول الشيخ سعيد ان ما فقدناه اليوم في الكفير هي الصحة ويتابع: كان الجميع تقريباً أصحاء وكانت الناس لا تحتاج الى أي دواء في حياتها ولم يكن هناك أطباء، بينما نجد اليوم أن الأمراض انتشرت والأطباء كثروا ونعمة الصحة زالت ربما لأن الناس لم تعد تعمل في الأرض وتتبع نظام حياة سليمة مثل الإستيقاظ الباكر والغذاء الطبيعي من الأرض وعدم استخدام الكيماويات وغيرها مما هو شائع في يومنا.

زمان المونة
ويضيف الشيخ سعيد: جميع منازل القرية كانت تعمد الى جمع مستلزمات المونة خلال فصل الصيف فيمتلئ البيت بالبرغل والقورما والكشك واللبنة «المكعزلة» والزيتون والطحين اضافة الى الحبوب المختلفة مثل القمح والحمص والعدس والفول وأيضاً الزبيب والدبس والتين والقضامة .
كل بيت كان يضع في المنزل خروفاً يعرف بـ «المقطوع» حيث يتم علفه والإهتمام به ليصار الى ذبحه على عيد الصليب ومن ثم تحويل لحمه ودهنه الى قورما والتي تعتبر من اساسيات المونة، وتكون الأسر قد جمعت القمح من البيادر وحوّلت بعضاً منه الى برغل من خلال سلقه لينضج ومن ثم تجفيفه ونقله الى المطحنة ليصار الى جرشه برغلاً.
أما تحويل القمح الى طحين فكان يتم من خلال عدد من المطاحن في وادي القرية التي كانت تعمل خلال فصلي الشتاء والربيع عندما تكون مياه النهر الموسمي جارية، فكانت تدير حجر المطحنة، أما خلال الأشهر المتبقية من السنة فكان السكان ينقلون قمحهم الى حاصبيا او الى بلدة شبعا المجاورة .

العرس أيام زمان
كان العرس، حسب الشيخ سعيد، من أبرز العادات التي اندثرت حيث كان يستمر اياماً عدة مع ما يرافقه من لهو وفرح على وقع المنجيرة والمجوز . كان الشبان يجتمعون في ساحة القرية، وعند حلول الظلام ينتقلون الى منزل العريس بالحدى والأهازيج . وخلال تلك السهرات كانت تجري تمثيليات تهدف الى تسلية الحضور وإضحاكهم وكان اختيار العروس يتم بواسطة الأم «فهي أخبر بالنسوان» وبمصلحة إبنها.

زمن الحشمة
يتابع الشيخ دمشقي حديثه، ويستذكر طريقة ارتداء الملابس التي كانت تلتزم الحشمة عند النساء من خلال الثياب الطويلة المحتشمة. حتى الشباب كانوا شديدي الحرص على ملابس تظهر رجولتهم وكانوا يتمتعون بالحياء والأدب والشجاعة، أما اليوم فلم تعد هناك قواعد واضحة للسلوك وأصبح كل واحد يقول إنه حر في نفسه، وعندما يتصرف كل شخص على كيفه لا يبقى هناك مجتمع ولا حتى أسرة..

الكفير والتكنولوجيا
كان الفونوغراف اول الآلات الداخلة الى القرية وقد دخل في أعقاب الثورة السورية في العام 1925، وقد أتى به أيوب الالتهخوري بعد زيارة لأخيه فارس في دمشق، وكان من يمتلك الجريدة مصدراً مهماً للمعلومات بين أبناء القرية، فجريدة القلم الصريح دخلت الى القرية مع الأستاذ شوقي الحاج وكان أبناء القرية يقصدونه لمعرفة أخبار العالم، وكذلك جريدة نيويورك تايمز الأميركية وجريدة «السمير» كانتا تصلان الى أيوب نصر وكان مغترباً في الولايات المتحدة ولو متأخرتين ومما قالته الأديبة أملي نصرالله «السمير مكتبتي حيث كنت اتفرج على الصور وعلى العالم من خلالها» كما دخلت جريدة «النهار» القرية منذ عددها الأول من خلال الأستاذ سمعان الحاج ومن ثم دخل الراديو وقد استقدمه أحد أبناء القرية بعد زيارة الى الولايات المتحدة وبعد ذلك دخل التلفاز، أما الهاتف فدخل القرية في أربعينات القرن الماضي وكذلك مركز البريد.

المصادر
• سامي الخوري: أمل لا يغيب .
• الأستاذة منى عواد مدرّسة مادة التاريخ في ثانوية الكفير .
• المؤرخ عارف الخوري الكتاب الذهبي .
• بعض الشخصيات التي وردت في التحقيق.

الجنيد البغدادي

تاج العارفين أبو القاسم الجنيد

قدوة العبادة والزهد والمعلم لأجيال من الصوفيين
دعا لكتم التوحيد عن غير أهله وحارب الشطح والغلوّ

طلب الحلاج صحبته فقال: أنا لا أصاحب المجانين
وإنني أرى في كلامك يا ابن منصور فضولاً كثيراً

أفتى في مجلس أبي ثور وهو في العشرين
وجلس في الثلاثين معلماً في أكبر جوامع بغداد

إعتبره الشيخ إبن تيمية من أئمة الهدى
ولقّبه إبن القيّم بـ «قطب العارفين بالله»

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات
من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

يحتل الجنيد البغدادي الذي لُقِّب بـ «تاج العارفين» مكانة خاصة في تاريخ التصوف بسبب ما اجتمع لديه من صفات الحكمة والبصيرة والوقار والزهد، وقد كان عارفاً بالله قطباً في التصوف عالماً مجاهداً من صغر سنه في طريق الترقي الروحي، وأهم ما تميّز به إعتداله ورجاحة عقله وحرصه الشديد على التوفيق بين التصوف وبين احترام عقائد العامة والتزام القرآن والسنة، وقد رفض الشطح وأهله وأدان كل أشكال الغلو بين الصوفية فحاز بذلك احترام الجميع واعترف له بالقطبية في عصره وامتد تأثيره من خلال أعلام التصوف الذين تخرجوا على يديه عدة قرون بعد وفاته.
قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي:«هو من أئمة القوم وسادتهم، مقبول على جميع الألسنة» وقال السبكي: «سيد الطائفة ومقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ طريقة التصوف وعَلَم الأولياء في زمانه».
وقال أبو القاسم الكعبي المعتزلي عنه : «رأيت لكم شيخاً في بغداد يقال له الجنيد بن محمد، ما رأت عيناي مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم» . وقَالَ ابنُ المُنَادِي عنه: «سَمِعَ الكَثِيْرَ، وَشَاهَدَ الصَّالِحِيْنَ وَأَهْلَ المَعْرِفَةِ، وَرُزِقَ الذَّكَاءَ وَصَوَابَ الجَوَابِ. لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ فِي عِفَّةٍ وَعُزُوفٍ عَنِ الدُّنْيَا». وقال الحافظ الذهبي عنه: «كان شيخ العارفين وقُدْوة السّائرين وعَلَم الأولياء في زمانه رحمة الله عليه» وقال الشيخ إبن تيمية فيه «الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» وقال أيضاً عنه «كَانَ الْجُنَيْد رحمه الله سَيِّدُ الطَّائِفَةِ ، إمَامَ هُدًى (..) وَكَانَ َمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيماً وَتَأْدِيباً وَتَقْوِيماً».(مجموع الفتاوى؛719/10).
وقال عنه الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»: «لقي العلماء ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، والسريّ السقطي، ثم اشتغل في العبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ وله أخبار مشهورة».
وقال الخلدي: «لم نر في شيوخنا من اجتمع له علمٌ وحال غير الجنيد. كانت له حالٌ خطيرة، وعلمٌ غزير، إذا رأيت حاله رجَّحته على عِلمه، وإذا تكّلم رجَّحت عِلمه على حاله».

وطفولته
يعود أصل أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري إلى نهاوند في همدان إلا أنه ولد في بغداد حوالي العام 215 هـ (830 م.) كما إنه ترعرع وعاش فيها طيلة حياته وتوفي فيها أيضاً في العام 297 هـ.
ولد في بغداد حوالي سنة 215هـ (830م) في زمن مضطرب تميز بمواجهات فكرية كثيرة بين الفرق وأهل الكلام والظاهرية والحركات الباطنية وأهل التصوف والمعتزلة، إلا أن أبرز ملامح تلك الفترة وبتأثير المذهب الظاهري كان بروز تيار قوي بين الفقهاء المعادين للتصوف الذين آل بعضهم على نفسه الحض على ملاحقتهم وإيقاع العقوبة بهم، وكان الحلاج إحدى ضحايا تلك الموجة التي كادت تطيح أيضاً بالشبلي بل هددت حياة الجنيد وآخرين ليس بسبب أفكارهم بل بسبب مكيدة ووشايات باطلة قدمت إلى القاضي وإلى الخليفة العباسي.

تقول المصادر إن والد الجنيد كان قواريريّاً، يمتهن بيع الزجاج، وأنه توفي والجنيد لايزال صغيراً، فتولى الاهتمام بالفتى الصغير خاله، المربي الصوفي الشهير السريّ السقطي، وقد لعب هذا الصوفي الكبير دوراً مهماً في تنشئة الجنيد الصغير على الزهد والتصوف وهو يعتبر ربما المرشد الأكثر تأثيراً في تطوره الروحي. وقد لمح السريّ كما يبدو علامات الولاية والنبوغ في ابن أخته الصغير فزاد من اهتمامه به والحرص عليه.
يلقي الجنيد ضوءاً على بدايات تلك العلاقة عندما يقول: «كنت بين يدي السريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: «يا غلام! ما الشكر» قلت: «الشكر ألا تعصي الله بنعمه». فقال لي: «أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!» قال الجنيد: «فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السريّ» وقد يكون السريّ تعمد إعطاء درس للغلام في التأني وامتحانه لكنه ولا شك لمح فيه علامات الرجال والتقوى فزاد اهتمامه به.

أساتذته
صحب الجنيد عدداً من أعلام التصوف في زمانه وكان أولهم خاله السريّ السقطي لكنه حضر أيضاً مجالس محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز وبشر بن الحارث، ثم صحب بعد وفاة السريّ السقطي الحارث المحاسبي وتأثر به .

سلوكه على يد السريّ السقطي
سلك الجنيد على يد خاله السريّ ووجد فيه صورة المحب لله، وهو القائل إن المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر«يا أنا» وقد أثر تفاني السريّ السقطي في حب الله واستغراقه الدائم في التهجد والصلاة والذكر على بدنه، فيبس منه الجلد على العظم وأصابه النحول الشديد, وسأل أحدهم يوماً عن معنى المحبة فأجاب الجنيد : قال قوم هي الموافقة، وقال قوم هي الإيثار، وقال قوم كذا وكذا، فأخذ السريّ جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثم قال : وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت.
اشتهر عن السقطي مقاومته الشديدة لرغبات النفس وهوالقائل «ما زالت نفسي تطالبني منذ أكثر من ثلاثين سنة بجزرة مغموسة في دبس فما أطعتها» اجتهد السريّ ان لا يستعمل من آنية بيته إلا الطين، وكان يقول لا حساب عليه، وهو ذهب في الزهد حداً كان فيه خلو اليدين من أي متاع أو شيء. وكان يقول: «أعرف طريقاً مختصراً إلى الجنة، هو ألا تسأل أحداً شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً».

صحبته للحارث المحاسبي
سأل السريّ السقطي الجنيد مرة « إذا فارقتني من تُجالس؟ فقال الجنيد : الحارث المحاسبي « ويدل جواب الجنيد على المكانة التي كانت للمحاسبي لديه، وقد صحبه خاصة بعد وفاة خاله السريّ ، وكان المحاسبي حتى في أيام السريّ يأتي منزل الجنيد ويقول له: اخرج معنا نصحر، والأرجح أن الجنيد كان لايزال دون العشرين من العمر، فيقول له الجنيد: تُخرجني من عُزلتي وأمني على نفسي إلى الطرق والآفات ورؤية الشهوات! فيقول الحارث: اخرج معي ولا خوف عليك . يتابع الجنيد الرواية فيخبر أنه كان يخرج معه فكأن الطريق فارغاً من كل شيء لا يرى شيئاً يكرهه، فإذا حصلوا المكان الذي يجلس فيه الحارث يقول للجنيد اسألني.
تفقه الجنيد على أبي ثور الكلبي، ابراهيم بن خالد بن اليمان، أحد الأئمة المجتهدين وهو صاحب الإمام الشافعي وراوي مذهبه القديم وأبو ثور معاصر لأحمد ابن حنبل الذي شهد له بالعلم والصلاح . ويقول ابن الملقن في طبقات الأولياء إن الجنيد كان يُفتي في حلقة أبي ثور وفي حضرته وهو ابن العشرين سنة.

حياؤه وتردده في الجلوس للتعليم
عندما بلغ الجنيد الثلاثين من العمر رأى السريّ السقطي أن الجنيد الشاب أصبح مؤهلاً للجلوس للتدريس وإدارة حلقة علم عامة، وقد كانت مجالس التدريس العامة حتى زمن الجنيد تُقام في المساجد، كما كان التدريس في المسجد وقفاً على الفقه والحديث وعلوم القرآن، أي لم تكن للصوفية مجالس في المساجد، بل كانت مجالسهم في حلقات خاصة أو يقصدهم طلابهم إلى منازلهم، لهذا فإن الجنيد قد يكون أول صوفي جلس للتدريس في حلقة عامة في مسجد يُعد من أهم مساجد بغداد وهو جامع المنصور .
قال السريّ السقطي للجنيد: «تكلم على الناس»، لكنه تردد في ذلك، بل تحشم ولم يجد في نفسه الأهلية. ثم يخبرنا أنه لم يتكلم على الناس حتى أشار إليه وعليه ثلاثون من البدلاء وأجمعوا أنه يصلح لأن يدعو إلى الله عز وجل، وعلى الرغم من حث الجميع له لأن يبدأ بالتعليم، إلا أنه ظل متحرجاً حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «تكلم على الناس» انتبه من نومه وأتى باب السريّ السقطي قبل أن يُصبح دق الباب فقال له السريّ من الداخل: لم تُصدقنا حتى قيل لك! فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع، وعندما انتشر في الناس أن الجنيد قعد للكلام، أمَّ مجلسه حشود غفيرة من أهل العلم وطلابه. وممن حضر مجالسه الفقيه الشافعي أبو العباس بن سريح الذي كان بعد ذلك يقول إن علمه يأتي من بركة الشيخ الجنيد.
أخبر الجنيد في ما بعد أنه «إنتشر في الناس إنني قعدت أتكلم، فوقف عليَّ غلام نصراني متنكر وقال: «أيها الشيخ! ما معنى قوله: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: «أسلم! فقد حان وقت إسلامك!» فأسلم».واعتبر الناس تلك الحادثة التي حصلت أمام الملأ من كرامات الشيخ الجنيد مثل اطلاعه على عقيدة الغلام واطلاعه على أنه سيسلم في الحال بمجرد سؤاله من الشيخ.
كان للجنيد تأثير كبير على أجيال الصوفية التي توالت من بعده وقيل إن العديد من أهل التحقيق الذين جاءوا بعده إنما يعودون بالخرقة إليه أي أنهم تسلموا السر من مشيخ يعود في تسلسله إلى الجنيد ودرسوا عليه وأخذوا حقائق الطريق عنه.
ومن الصوفية الذين صحبوا الجنيد وسلكوا على يده: أبو بكر الشبلي، وأبو محمد الجريري، وإبن الأعرابي أبو العباس أحمد بن محمد بن زياد، وإسماعيل بن نجيد وعلي بن بندار أبو الحسن الصيرفي، وعبد الله بن محمد الشعراني وأبو الحسين علي بن هند القرشي الفارسي وهو من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم وأبو بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم الكثير.

نبوغه
دخل الجنيد مرة على السريّ فوجد عنده رجلاً مغشياً عليه، سأل عن سبب غشيته، فأعلمه السريّ بأن الرجل سمع آية من كتاب الله تعالى، فقال الجنيد: تُقرأ عليه الآية مرة أخرى، وعندما قُرئت أفاق الرجل، عندها سأل السريّ الجنيد: من أين علمت هذا ؟ فقال الجنيد: «إن قميص يوسف -عليه السلام- ذهب بسببه بصر يعقوب -عليه السلام- ثم عاد بصره به» .
وفي حادثة ثانية دخل الجنيد يوماً على السريّ السقطي فرأى عليه هماً، فسأله عن سبب همّه، فقال: الساعة دقّ عليّ داقٌّ الباب، وسألني عن معنى التوبة وشروطها فأنبأته، فقال: هذا معنى التوبة وشروطها، فما حقيقتها ؟ فقلت: حقيقة التوبة ألا تنسى ما من أجله كانت التوبة (أي حقيقة التوبة ألا تنسى ذنبك)، فقال الرجل: حقيقة التوبة ألا تذكر ما من أجله كانت التوبة. وأنا أفكر في كلامه! فقال الجنيد: مؤيداً كلام السائل: ما أحسن ما قال . هنا سأل السريّ الجنيد: يا جنيد، وما عنى هذا الكلام؟ قال الجنيد: يا أستاذ، إذا كنتُ معك في حال الجفاء ونقلتني من حال الجفاء إلى حال الصفاء، فذكري للجفاء في حال الصفاء غفلة.

رسائله
وصل عدد رسائل الجنيد التي تمّ تحقيقها في السنوات الأخيرة إلى واحد وثلاثين رسالة منها كتاب «القصد إلى الله» و«كتاب الفناء» و«كتاب ادب المفتقر إلى الله» و«كتاب الميثاق»، و«كتاب السر في أنفاس الصوفية» ورسالة في المعرفة، ورسالة النظر الصحيح إلى الدنيا، ورسالة عن صفة الإيمان وأخرى عن صفة العاقل ورسالة في التوحيد ورسالة في الألوهية إضافة إلى عدد كبير من الرسائل التي كتبها إلى مريدين ومقربين.

قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد
قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد

أثر الجنيد في التصوف
كان الإمام الجنيد عارفاً حكيماً وكان حريصاً على الفصل بين تعليم الخاصة مبادئ التصوف والتحقق بالاختبار الروحي وبين علوم الشريعة وعقائد العامة وكان اعتقاده بعدم اجتماع الأمرين يجعله يحرص أشدّ الحرص على سترالتعليم الصوفي خوف أن يؤدي عدم فهمه من العامة إلى رميه بالإتهامات أو إلى زعزعة العقائد وبالتالي الفتنة. كان موقفه لذلك موقفاً عاقلاً مسؤولاً، بل نُقل في ما بعد أنه أمر مريديه أن يدفنوا الأوراق التي دوَّنوا فيها أقواله أو تعليمه، ولم ذلك لأنه كان يقول بأمور غير موافقة للشريعة أو للإيمان بل لأنه يعتقد أن حقائق التصوف لا تسعفها الكلمات والعبارات وأن اللغة مهما اتسمت بالبلاغة فإنها غير كافية لتوصيل الاختبارات اللدنية للعرفان الصوفي وتجربة التحقق الروحي.
ومما لا شك فيه أن العصر الذي عاش فيه أبو القاسم الجنيد أثر كثيراً على نهجه الحذر في كتم التعليم والحرص على أن يتم داخل الغرف المغلقة، إذ اتسمت تلك الفترة بانتشار المذهب الظاهري الذي كان يدين أي محاولة لتأوليل معاني التنزيل، وقوي نفوذ الفقهاء المعارضين للتصوف في بلاط الخلفاء، ونشأ عن ذلك جو من الحذر والتشكك في المتصوفة، وقد ساهمت الآراء الجريئة لبعض المتصوفة أو انحرافات بعض أدعياء التصوف في تعزيز المواقف السلبية من القوم، وكان الزمن أيضاً زمن الحلاج الذي أثار زوابع وعواصف لم تهدأ بسبب شطحاته ثم تصريحه بعقائد التصوف بل واستعراض كراماته في الأسواق وبين عامة الناس. كل ذلك أثار الكثير من النفوس تجاه المتصوفة، وكان ابو القاسم الجنيد ببصيرته الجليَّة مدركاً لتلك الظروف، وهو لجأ لذلك إلى أسلوب الكتم حتى اتهمه بعضهم بالتقية خصوصاً وأنه وقف بحزم ليدين أهل الشطح من المتصوفة، وليؤكد على أهمية التزام أهل الطريق لأحكام الدين ونواهيه مثل قوله:«الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول». وكذلك قوله «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
ودعا الجنيد إلى الفقر والجوع والسهر في الذكر وفطم النفس عن الاشتهاءات لكنه حرص في الوقت نفسه على نصح المريدين باجتناب التطرف ونقل عنه أبو محمد الجريري في هذا الشأن فقال: «سمعت الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات، ومراده تركُ فضول الدنيا وجوع بلا إفراط. أما من بالغ في الجوع ورفض سائر الدنيا، ومألوفات النفس، من الغذاء والنَّومِ والأهل، فقد عرّض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفيّة السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والسعادة في متابعة السنن، فزن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونم وقم، والزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير».
وبسبب اعتدال الجنيد في ما كان يدعو إليه وكذلك موقفه الحازم من أهل الشطح والبدع في التصوف فإنه استحق التقدير والاحترام الشديدين حتى من قبل شيخ الإسلام إبن تيمية الذي عرف عنه موقفه الحذر من المتصوفة الذين اعتبر أن بعضهم خرج على العقيدة وابتدع، لكن إبن تيمية وبسبب تقديره للجنيد وآخرين مثل السريّ السقطي وسهل التستري وعمر المكي قال بوجوب التمييز بين المتصوفة المقتصدين المراعين لأحكام القرآن والسنة وبين أهل الشطح والبدع وقال عن الفرقة الأولى «أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ» ملاحظاً «إن أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ أنكروا الحلاج وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي» (الفتاوى).
و قال إبن تيمية مادحاً الجنيد «وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ» (مجموع الفتاوى 5/126).
وقال إبن القيم عن الجنيد «وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق- (مدارج السالكين، الجزء الثاني، 259).
والواقع أن إبن تيمية يذكر الجنيد مراراً ويستشهد به ويعتبره من أئمة الهدى المتأخرين ويبجله ويرفق اسمه دوماً بعبارة «رضي الله عنه» بينما أطلق إبن القيم على الجنيد لقب «قطب العارفين بالله» وكان يستخدم عبارة «قدس الله روحه» في كل مرة كان يورد فيها اسمه.
هذا التكريم الشامل والإجماع على شخص الجنيد ومكانته ما هو في الحقيقة إلا ثمرة النهج السليم والعاقل الذي التزمه في التصوف والذي تعارض بقوة ليس فقط مع الحلاج، الذي اختلف معه وابتعد عنه، بل أيضاً مع تلميذه ومعاصره أبو بكر الشبلي الذي خاطبه الجنيد يوماً بالقول: «لا تُفش سرّ الله تعالى بين المحجوبين». ثم قال عنه في موضع آخر مؤاخذاً إياه على إشاعته علوم القوم بين عامة الناس:«نحن حَبَّرنا هذا العلم تحْبيراً، ثم خبّأناه في السّراديب، فجئتَ أنتَ فأظهرته على رؤوس الملأ». ووصف الجنيد شطح الشبلي أيضاً بالقول: «الشبلي سكران، ولو أفاق لجاء منه إمام ينتفع به».
وكان الكتم والستر عموماً نهجه في التعليم وكان يقول لمريديه: «لا ينبغي للفقير قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المُصدِّقين لأهل الطريق، أو المُسلِّمين لهم، وإلا يخاف حصول المقْت لمن كذّبهم».
وكان ينشد:
سأكتمُ من عِلمي به ما يصونـــــــــه وأبــــــــــــــــــــذلُ منه مــــــــــــــــا أَرى الحــــــــقَّ يُبـــــــذَلُ
وأُعطي عبادَ اللهِ منه حُقوقَهـم وأمنـــــــــــــــعُ منه ما أرى المـــــــــــــــــــــنـعَ أفضــــــــــــــلُ
أَلاَ إنَّ للرحـــــــــــــــــــــمـن ســـــــــــــــرّاً يَسُـــــــــــــــــــــــــرُّهُ إلى أهله في السِرِّ والسَــترُ أجمــــــــــــــلُ
وكان حسب ما جاء في الأثر لا يتكلم قط في علم التوحيد إلا في جوف بيته بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول للمريدين: «أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالزندقة والكفر؟»
بنفس المعنى يجب أن نورد انزعاج الجنيد من نهج الصخب والشطح الذي أخذه الحلاج مما أدى إلى ابعاد الجنيد له بل وتنبوئه بأنه سيقتل مصلوباً، وقد روى الهجويري في كشف المحجوب حادثة ذات دلالة حصلت بين الرجلين على الشكل التالي، قال: «قرأت في الحكايات أن الحسين بن منصور الحلاج في حال غلبته ترك صحبة عمرو بن عثمان المكي، وأتى إلى الجنيد، فسأله: ما الذي أتى بك إليّ؟ فقال الحسين: طمعاً في صحبة الشيخ، فقال له الجنيد: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، فإذا لم يتوفر ذلك تصرفت معي كما تصرفت مع سهل بن عبد الله التستري وعمرا، فقال له الحسين: يا شيخ، الصحو والسكر صفتان للعبد، وما دام العبد محجوباً عن ربه تفنى صفاته، فقال له الجنيد: يا ابن منصور، أخطأت في الصحو والسكر، لأن الصحو بلا خلاف عبارة عن صحة حال العبد في الحق، وذلك لا يدخل تحت صفة العبد واكتساب الخلق، وأنا أرى يا ابن منصور في كلامك فضولاً كثيراً، وعبارات لا طائل تحتها».
وذكر الشيخ إبن تيمية قصة عن الجنيد جاء فيها: «قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ -أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ- فَقَالَ:«الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».

وفاته
توفي الجنيد رضي الله عنه سنة 297 هـ . وقد أخبر تلميذه أبو محمد الجريري عن ذلك وقال: «كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: «أرفق بنفسك!» فقال: «ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هوذا تطوى صحيفتي». وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: «ما هذا يا أبا القاسم!»، قال: «هذه نِعم!. الله أكبر». فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: «لو اضطجعت!»، قال: «يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر». فلم يزل ذلك حاله حتى مات».
وقال أبو بكر العطوي: «كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار». وتذاكر بعض أهل المعرفة بين يديه وذكروا ما استهانوا به من الأوراد والعبادات، فقال لهم الجنيد: «العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك».
وقال ابن عطاء: «دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم ردّ بعد ساعة، وقال: «اعذرني! فإني كنت في وِردي»، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات».
وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، وجرى دفنه في يوم السبت وكان ذلك اليوم على ما يذكر المؤرخون مشهوداً، فقد خرجت بغداد عن بكرة أبيها علماؤها وأمراؤها وعامتها في وداعه حتى قدر عدد المشيعين لجنازته بستين الف شخص، ودفن في مقبرة الشونيزيه، في تربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، عند خاله السريّ السقطي.

ضريحه
يتكون ضريح الجنيد من بناء بسيط ويعلو قبره نسبياً القبور المحيطة به حيث يقوم في مقبرة تحمل إسمه وهي ملاصقة لمنطقة وقوف القطارات ضمن المحطة العالمية وهي حافلة بالأشجار وأشجار النخيل، وهناك مسجد أقيم في المكان بإسم «مسجد الجنيد» وهو قديم العهد وفيه مصلى لا يسع سوى عدد يسير من المصلين، وقد أصابه الوهن وتخلخلت أرجاؤه في وقت مضى فأعاد عمارته وأصلحه سنة 1269 هجرية محمد نامق باشا. ويتميز مرقد الجنيد في هذا المسجد بوجود قبة صغيرة فوقه، ويضم المسجد رفاة الكثير من الصلحاء والعلماء كما تضم المقبرة مرقد النبي يوشع.

ابوالقاسم الجنيد : صِفَةُ الأَوليَاء

قال الإمام أبي القاسم الجنيد (ر):

إن لله عباداً صحبوا الدنيا بأبدانهم، وفارقوها بعقود إيمانهم، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون، وفيه مقيمون، وإليه راجعون، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء، والداعية إلى المهالك، والمعينة للأعداء، والمتبعة للهوى، والمغموسة في البلاء، والمتمكنة بأكناف الأسواء، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل؛ إذ سمعوه يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ (الأنفال:24)، فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء في دار الغرور، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في معاملته، وأحسنوا الأدب في ما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، واغتنموا بالإجماع الأوقات وسلامة الجوارح، وأماتوا شهوات النفوس، وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة، وأقاموا عليها رقيباً من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر، أرواح أنيسها الخلوة، وحديثها الفكرة، وشعارها الذكر، غذاؤها الجوع والظمأ، وراحتها التوكل، وكنزها الثقة بالله، ومعولها الإعتماد، ودواؤها الصبر، وقرينها الرضا.

من أقوال الجنيد البغدادي (ر)

أدب السر طهارة القلب من العيوب
وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب

ترك أهل التوحيد مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمتــــه

قال رحمه الله: «اطِّراح هذه الأمة من المروءة، والاستئناس بهم حجاب عن الله تعالى، والطمع فيهم فقر الدنيا والآخرة».

التوبة
سئل الجنيد عن التوبة فقال:
التوبة على ثلاثة معان : أولها ندم . والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه . والثالث السعي في أداء المظالم .

في المحبة
وصف الجنيد المحبة فقال: «المحبة إفراط الميل بلا نيل» .

قال الجنيد : الناس في محبة الله عز وجل عام وخاص . فالعوام أحبوه لكثرة نعمه ودوام إحسانه، إلا أن محبتهم تقل وتكثر، وأما الخواص فأحبوه لما عرفوا من صفاته وأسمائه الحسنى، واستحق المحبة عندهم، لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم.

قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ماعندك يا عراقي . فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين .

علامة كمال الحب
سئل الجنيد عن علامة كمال الحب فأجاب: «دوام ذكره (أي ذكر المحبوب) في القلب بالفرح والسرور، والشوق إليه، والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع، وعلامة أنسه بالله استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها».
سُئل الجنيد رحمه الله تعالى عن« الأنس بالله» فقال : «ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة».

في الأخوّة
قال رجلٌ للجنيد : قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى. قال: فسكت عنه ثم أعاد ذلك، فقال له الجنيد : إذا أردت أخاً في الله عز وجل، يكفيك مؤنتك، ويتحمل أذاك، فهذا لعمري قليل . وإن أردت أخاً في الله، تتحمل أنت مؤنته، وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلّك عليهم إن أحببت.

الأدب
قال الجنيد : الأدب أدبان : أدب السر، وأدب العلانية. فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب.

التسليم
يقول الجنيد : من أشار إلى غير الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه بالمحن، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع إلى الله وحده كشف الله عنه المحن، وإن دام على السكون إلى غيره نزع الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزاً، وموته كمداً، وآخرته أسفاً ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله .

علامة الإيمان
سُئل الجنيد عن «علامة الإيمان» قال: الإيمان علامته طاعة من آمنت به، والعمل بما يحبه ويرضاه، وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده، حتى أكون عليه مقبلاً، ولموافقته مؤثراً، ولمرضاته متحرياً، لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئاً دونه، ولا أتشاغل عنه بسبب سواه، حتى يكون المالك لسرّي والحاثّ لجوارحي، بما أمرني من آمنت به وله عرفت، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء، ومخالفة كل الأهواء، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا، والإقبال على من هو أولى، وهذه بعض الشواهد والعلامات في ما سألت عنه، وصفة الكل يطول شرحه .
أهل التوحيد
وصفهم الجنيد بأنهم «تركوا مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمته».

مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي
مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي

الإدعاء في العلم
فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقَصَّر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت به الإشارة إليك وانبسطت به الألسن بالثناء عليك، فإن ذلك حتفاً لمن هذه الصفة صفته وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته».

فتوى الجنيد حول الذكر الخفي وفضل السر على العلانية
«الذكر الخفي هو الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره: فهو ما اعتقدته القلوب، وطويت عليه الضمائر، مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله، والتعظيم لله، والإجلال لله، واعتقاد الخوف من الله؛ وذلك كله في ما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب. والدليل على ذلك: قوله عز وجل: }يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {، وأشباه ذلك.
أما عن فضل عمل السر على عمل العلانية فلأن من عمل لله عملاً فأسره، فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه، ومعناه: أن يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه، أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقة من الثواب سبعين ضعفاً على ما عمل من لا يحل محله، والله أعلم.»

من مواعظه:
«اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، وأعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك».

جمال باشا

بمناسبة ذكرى شهداء 6 أيار

جمال باشا في سوريا ولبنان

.هزائم عسكرية وتهجير منظم ونهاية بائسة

كان أحمد جمال باشا (1873-1922) نموذجاً على العصبة التي استولت على السلطة في الدولة العثمانية بأساليب التآمر ثم الانقلاب العسكري على الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني. وقد كتب الكثيرون عن علاقة الماسونية الدولية بالإنقلاب وولع الإنقلابيين بنمط الحياة في الغرب وهم الذين حاولوا ردّ أزمة الدولة وإن بصورة غير علنية إلى وجود الخلافة وقوة الدين، وهذه النزعة الغربية المعادية في الجوهر للإسلام هي التي ستقود في ظل حكم كمال أتاتورك إلى إنهاء الخلافة وعلمنة تركيا وسلخها عن عالم الإسلام ثم عن اللغة العربية عبر تبني الحرف اللاتيني.
لقد أثبتت الأحداث أن الانقلاب على الخلافة أضعف موقف الدولة العثمانية كثيراً خلال الحرب العالمية الاولى لأنه وجّه ضربة قاصمة إلى شرعيتها ومعنويات الدولة وإلى علاقاتها بالعالم الإسلامي وأفقدها أهم عامل كان يعزز قوتها في الحروب وهو عامل الحمية الدينية والجهاد، أضف إلى ذلك أن قادة الانقلاب أظهروا أن موهبتهم في الاستيلاء على السلطة كانت أكبر من كفاءتهم في حكم ولايات الدولة أو شنّ الحروب ، كما يدل على ذلك الطريقة التي أدار بها أحمد جمال باشا حاكم سوريا ولبنان وفلسطين وقائد الجيش الرابع الحملة الفاشلة على مصر وقناة السويس. ارتأت «الضحى» ونحن على شفا الاحتفال بعيد الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا أن تعرض لصورة موجزة لفترة حكمه التي تميّزت بالتخبط والبطش والكراهية كما تميّزت بهزائم عسكرية أظهرت ضحالته كقائد ومخطط عسكري وفرضت على الحكومة التركية إقالته من مناصبه ومحاكمته. وقد رُوي عن طلعت بك زميل جمال باشا أنه خاطبه يوماً بقوله: «لو أنفقنا كل القروض التي أخذناها لستر شرورك وآثامك لما كفتنا».

بتاريـخ 6/12/1914، أوفـدت الـدولة العثمانيـة أحمد جمال باشـا وزير البحـرية، على رأس الجيـش الرابع إلى بـلادنا في مهـمّة عسكريـة.كان هدفها مهاجمة القـوات الإنكليزية المـرابطة على قنـاة السويس تمهيداً لطـرد الإنكليـز مـن مصـر وإعـادة مصر ولايـة عثمانيـة. كان الهدف عظيماً لكن الشخص الذي أوكل إليه الأمر كان أسوأ اختيار ممكن لتلك المهمة الخطيرة.
بدل التمهيد للحملة باستمالة الرأي العام في بلاد الشام والعراق، وباستثناء خطاب فارغ من المعاني ألقاه في دمشق عند وصوله، فقد أرسل جمال باشا، الكاره للعرب، فور وصوله إلى دمشق فـرقاً من الجيش العثماني، إجتاحت بيـروت وجـبـل لبنان، وتمركزت قيادتها في مدينة عاليه وألغى نـظام المتصرّفية، ووضع المتصرّف وموظفيه وعسكرييه بتصرف الجيش التركي، وأنشأ محكمة الديوان العـرفي، وكانت قـوات عثمانية قـد داهمت القنصليات الأوروبية في بيـروت،وأخرجت مـن القنصليـة الفرنسيـة لوائح بأسماء أشخاص من المـوظّفين الكبـار والوجهاء والأعيان والسياسيين، من اللبنانيين والسوريين الأكثـر نفـوذاً في بيـروت ودمشـق، كانـوا يترددون إلى هـذه القنصليات وخصوصاً قنصلية فـرنسـا، وسـلّمتها إلى جمال باشا. فبـدأ جمال باستدعائهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم، وقـام بشـنق عـدد منهـم في بيـروت ودمشـق، ونـفي عـدد كبير إلى داخـل سوريا والقـدس وبلاد الأناضول، بسبب علاقاتهم المزعومة بتلك القنصليات، وفرض التجنيد الإجباري، ومنع نقل الحبوب إلى الجبل بهدف توفيرها للجيش التركي. وزاد المأساة، إقـدام الأتراك على استبدال العملة الذهبية بالعملة الورقية، فهبطت قيمة النقـد العثماني وارتفعت الأسعار، والتهم الغلاء مداخيل الناس، وانتشرت المجاعـة.

حملـة السويس الأولى
بـدأ جمـال باشا بالتحضير لتعبئة حملة عسكرية للهجـوم على قناة السويس، وأمـر بأن يجمـع من لبنان كل مـا يحتاجـه الجيـش في تنقّـلاته، مـن الخيـل والبغـال والحميـر وأكياس الجنفيص وصفائـح التنـك واستئجار كل مـن يـريـد العمـل مع الجيش مـن العمّـال في مختلـف المهـن بأجـور سخية، وتبيـن في ما بعـد، أن مـن عـاد منهم سالماً لـم ينـل أي أجـر. 2 وكان بكـر سامي بـك والي بيـروت، قـد طلـب مـن البطريـرك المـاروني، مبلـغ عشـرين ألـف قـرش صـاغ، ثمـن سـتة آلاف وخمسمائة /6,500/ ورقــة يانصيـب لمساعـدة الجيـش العثماني، وزعـت الأوراق على الأديـار والكهنـة والمـدارس،3 ثـمّ انتقـل جمـال باشا إلى مـدينة معـان في الأردن، مكان تجمـع كتائب الجيش العثماني، القـادمة مـن تـركيا والحجاز وسوريـا ولبـنان وفلسطين، وفـرق المتطوعيـن مـن أتـراك وعـرب وجـركس وصـرب وأرناؤوط وغيرهـم. وكان مجموع هـذه الحملة يـقـدّر بـ 12.642 رجـل، و986 حصاناً، و 12,000 جمـل، و 328 ثـوراً بالإضافة إلى العتاد والأسلحة الثقيلة والخفيفـة. وانطلـق جمـال باشا على رأس تلك القـوات الى صحراء سـيناء، لمهاجمـة القوات البريطانية المرابطة على قناة السويس. فتقـدّمت كتيبـة من البـدو المتطوعين استولت على العـريش، وكتيبـة أخـرى اسـتولت على قلعـة النخل في سـيناء.
وبتـاريخ 2 شباط 1915، شـنّ الجيش العثماني هجـوماً على القـوات الانكليزية المـرابطة على قنـاة السويس بمساعـدة ضبّاط ألمان، واجـتاز سـتمائـة (600) جنـدي القناة إلى الضفّـة الغـربية، بـعـد أن وضعـوا جسـوراً عـائمـة، فشـعـر بهم الجنود الانكليز، وهجموا على الموقـع وأخـذوا الجنود العثمانييـن أسـرى. وبـدأت المعركـة بيـن الجيشـين بالتراشق بالمدفعيّة، وقصفت الطائرات الانكليزية مـركـز قيادة الجيش العثماني، الذي يبعـد مسافة ثلاثـة كيلومترات عـن ضفّـة القناة ، كمـا أمطرته البوارج الانكليزية بالقنابـل، فانهـزم الجيش العثماني وتراجعت قـواتـه الى سيناء، ومنها الى بئـر السبع في فلسطين. أمّـا الجنـود العثمانيون الأسـرى، فقـد قـام الجيش الإنكليزي بعـرضهم في شوارع القاهـرة، وخرجت الصحف الإنكليزية تشيدوا بالنصر وتكيل القـدح والشتائم للجيش العثمـاني.
وحسب المصادر التاريخية فقد بلغت خسائر الجيش العثماني ( 178) قتيـلاً، و( 381)جـريحاً، و( 727) مفقـوداً، بالاضافة الى عـدد الأسـرى.4
وكي لا تتـرك هـذه الهزيمة أثـراً سيـّئاً في نفـوس الجنود الأتراك، أصـدر جمال باشا بياناً عسكرياً قال فيـه إن الجـنود أدّوا واجبهم بوطنية، إنّمـا هـذا الهجوم كان استطلاعاً هجومياً «اختبار بالنيران» لمعرفة القوى التي يمتلكها العـدو، ومـا يحتاجه الجيش العثماني لعبـور القناة.5 في الهجوم الفعلي.
بـعـد هـذه الهـزيمة، وسقـوط هـذا العـدد مـن الضباط والجنـود، قتلى وجرحى ومفقـودين وأسـرى، تبيـن أنّـه لا قيمـة لحيـاة هـؤلاء، لـدى القـادة الأتراك جمال وطلعت وأنـور، وإن مـا ذكره جمال باشا عـن هـذا الإستطلاع لمعـرفة قـوى العـدو، مـا هـو إلاّ تبـرير لفشلـه في قيادة العمليات الحـربية.

جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا
جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا

تهجيــر منظم للنخبة السورية واللبنانية
بـعـد فشـل الهجـوم على قنـاة السويس وهـزيمة الجيـش العثماني، شـعر جمـال باشـا بنقمـة المنطقة عـلى الاتـراك، فبـدأ يحـاول التقـرّب مـن العـرب، ويلـحّ على النـاحية الـدينية الإسلامية لإسـتثارة العـرب في الحـرب. لكنّـه بعـد أن سمح للمنفيين بالعـودة الى أوطانهم، عـاد وألقى القبض على معظمهم مجـدّداً، وعلى آخرين من لبنان وسوريا وفلسطين، وبـدأ بنفيهـم مع عائلاتهم الى الأناضول. وعمل على تأليف لجنة في دمشـق دعيت «قومسيون التهجير»، كانت مهمّتها سـوق المنفييـن مع عائلاتهم الى الأناضول، وتسجيل أملاكهم لإعطائهم بـدلاً عنها في أمكنـة نفيهم. وقـد تـمّ نفي حوالي ألفي شخص الى مـدن : أزميـر، مغنيسيا، أردمير، بورصة، أسكي شهر، قـره شهر، يني شهر، طوقات، سيوس، أدرنة، قونير على ان يستمر النفي ليبلغ عـدد المنفيين عشرات الآلاف، وقـد أراد جمال باشا ورجال الاتحاد و«الترقّي» من هذا الاجراء، اقتلاع العائلات ذات الوجاهة من جـذورها، واحضار عائلات أتراك وأرمن وعرب مكانهم، مـن أجـل تتـريك بلاد الشام وانتـزاع الفكرة العربية منها.
كان جمـال باشا قـد وجّـه بـلاغاً إلى اللبنانييـن، بإعـلان الأحكام العـرفية. وكل شـخص يظهر أياً مـن مظاهـر العطـف، أو المحبّـة نحـو الفرنسيين أو الإنكليـز أو الـروس، يحاكـم فـوراً أمـام ديـوان الحـرب ليلقى جـزاءه مـن العقـاب، وقـد بلـغ عـدد الذين نفّـذت بحقّهـم أحـكام الاعدام بتعليقهم على المشانـق 52 شخصاً، وعـدد الذين صدر بحقهم أحكام اعـدام غيابية 80 شخصاً، ولـم ينفـع وجـود فيصل في دمشق، والتماسـه العـفـو عن المحكومين مـن جمـال باشـا، وتـدخّل الشريف حسين بالذات لمنـع تنفيـذ الإعـدام في 6 أيّـار 1916، بأشخاص وطنيين في دمشق وبيروت، بتهمـة العمـل على فصل سـوريا وفلسطين والعـراق عـن الـدولة العثمانيّة6. وكان الشريف حسين «شـريف مكّـة»، يسعى لإقامـة حكم عربي بـرعايـة بـريطانية.
عمّـت المجاعـة في لبنان خلال العامين 1915 و 1916، بسبب الغلاء وفقـدان المـواد الغذائية، وانتشار الجراد الذي قضى على كل مـا هـو أخضر مـن الأشجار والنبات، وقـد حوكم العشرات أمام محكمة الديوان العرفي في عاليه، وعلّـق العـديد على المشانق في بيروت ودمشق، كمـا نفـي المئات إلى فلسطين وبلاد الأناضول، وقضي على نظام المتصرّفية وأصبح لبنان يـدار كأيّـة ولاية عثمانيّة.

القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة
القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة

حـمـلة السويس الـثانية
عمـل جمال باشا على تجهيـز حملة عسكرية ثانية للهجوم على قنـاة السويس، ونقـل مقـرّه العـام إلى القـدس، ليكون قـريباً مـن الجبهة وعلى إتصال بالعمليات الحـربية. قامت الحملة بهجومها على القنـاة في شهر تمّـوز سنة 1916، بمساعـدة فـرقة طيران ألمانية، وصلت مـن برلين إلى بئـر السبع في فلسطين، وبطاريات مـدافع ميدان ألمانية ونمساوية، وقطعـت صحـراء سـيناء، وبوصولها الى محلّتي قاطية والروماني في سيناء، على بعـد أربعين كيلومتراً مـن القنـاة للجهـة الشرقيّة، كانت القوات الإنكليزية بانتظارهـم، وبـدأت بقصف القوات العثمانية بـرّاً وبحـراً وجـوّاً، وحصلت معركة بين الجيشين، انهـزم بنتيجتها الجيش العثماني، وانسحبت قواتـه الى العريش، ومنها الى خـان يونس وغـزّة في فلسطين.
كانت خسائر الجيش الانكليزي في هذه المعركة 1200 قتيل، أمّـا خسائر الجيش العثماني كانت 9400 قتيل مـن أصل قـوة عـددها 18000 جنـدي ومتطـوّع، والفرقـة التي تلقّت النيران الانكليزية، كانت مـن خيـرة الضباط والجنود العـرب.7
في أواخـر شهر كانون الأول 1916، إحتـلت القـوات البريطانية العـريش وتقـدّمت إلى فلسطين. لكن في شهر حزيران 1917، تمكّـن الجيش العثماني مـن صـدّ هجـوم للقـوات البريطانية في غـزّة، وأنـزل بهـا خسائـر فادحـة، فتابعت القوات البريطانية تجهيزاتها بقيادة الجنرال اللنبي، وأعادت هجومها على القوات العثمانية في شهر تشرين الثاني، اضطرتها للجلاء عـن غـّزة وبئـر السبـع ويـافا، ودخـل الجنرال اللنبي القـدس في 10 كانون الأول 1917. أمّـا الجيش العربي المؤلّـف من المتطوعين ومـن التحق بهم من أسرى الجيش العثماني، فقـد قام بأعمال حربية بقيادة أحـد أنجال الشريف حسين، ومساعدة البريطانيين، أجبـرت الجيش التركي على الإنسحاب من فلسطين والبلاد العربية.8
بـعـد تقهـقـر الجيش العثماني وهـزيمته في مصـر وفلسـطين، عـاد المنفيـون إلى بـلادهـم، وتـزعزعت مكانة جمال باشا في تركيا، فأقيل من منصبه واستدعي الى اسطنبول للمثول أمام اللجنة العسكرية العليا، بسبب فشله في حملـتي القـناة الأولى والثانية، وفشله أيضاً في قيادة القوات أمام الشريف حسين، وبسبب علاقته السيئة مع الضباط الألمان ومعـارضته لهـم، وإعـاقـة مخططاطهم، وانكشافه كجاهل في التخطيط العسكري، فجـرى كـفّ يـده ليتحوّل الى دور آخـر.

العدد الجيش العثماني الرابع حاول اختراق قناة السويس بمساعدة الألمان

نـهايـة جـمال بـاشا
بعـد هـزيمة الدولة العثمانية، هـرب معظم أركانها الذين كانوا متحكمين بمقـدّرات الدولة، ومنهم جمال باشا الذي غـادر الى افغانستان بـدعوة من ملكها لتنظيم الجيش الأفغاني. فأوفـده الملك الى فرنسا لشراء معـدّات للجيش الأفغاني، واستقبله الفرنسيون بحفاوة. وعنـدما علمت الصحف اللبنانية الصادرة في باريس، قامت بشـنّ حملة إعلامية ضـد جمال باشا، وذُكـر أن محكمة في بيروت، أصـدرت حكماً بـوجـوب اعتقالـه وتسليمه إلى القضاء اللبناني لمحاكمتـه9. لكـن جمال باشا عـاد الى كابول، فمـرّ في مدينة تبيليسّي، أو تفليس القديمة عاصمة جمهورية جورجيا، وفيما هو يخرج من المقهى في شارع نقولاوسكي، أطلق شاب أرمني النار عليه من مسدسه وصرعه في الحال. أمّا أنور باشا فقد قتله مرافقه في طريق تركستان، وكان المرافق يزعم أنه تركي مسلم، وتبين أنه أرمني، وطلعت باشا وعزمي بك قتلا في برلين، وعزمي بك هذا كان وزيراً، وهو غير عزمي بك والي بيروت.10
في سنة 1916، أوفـدت الـدولة العثمانية وفـداً من الأستانة إلى سوريا ولبنان، ضم بضعة عشر شخصاً من أعيان الأتراك وأعضاء مجلس الأمـة، لتطييب خاطر العـرب بسبب ما فعله جمال باشا من أعمال القتـل والنفي والسجـن، وذلك لتحسين العلاقة بين العرب والأتراك، وتـرميم مـا خـرّبته سياسة جمال باشا.11

الأمير شكيب ونداء الجهاد

كان الأمير شكيب أرسلان من أشد المؤمنين بأهمية الخلافة العثمانية والسلطنة في الحفاظ على عالم الإسلام والجزء الأثمن منه وهو العالم العربي. لذلك ابتأس الأمير كثيراً بسبب انقلاب حزب تركيا الفتاة على السلطان عبد الحميد ، لكنه بسبب اقتناعه بفكرة وحدة العالم الإسلامي حافظ على ولائه للدولة العثمانية خصوصاً وأنه كان يرى تكالب الدول الأوروبية على ممتلكاتها وأراضيها. لذلك عندما قررت الدولة إرسال جمال باشا على رأس الجيش العثماني الرابع في حملة لتحرير قناة السويس من البريطانيين ومن ثم استعادة مصر لم يتردد الأمير شكيب في اعتبار نفسه معنياً كما كان شأنه عندما سافر مع ثلة من المقاتلين للجهاد في ليبيا ضد الإيطاليين.
هذه المرّة قـرّر الأمير شكيب أرسلان أن يذهب بمجموعة مـن المتطوعين، لمساعـدة الجيش العثماني والإشتراك في القتال. فبعـث بـرسائل إلى بعـض الوجهاء والأعيان في قرى وبلدات جبل لبنان، لحـث الـرجال على التطـوّع وجمـع مئـة وعشرين شـاباً متطوعـاً، من مناطق الشوف والجـرد والمتن والعرقـوب والمناصف، وسار بهم إلى دمشق، فـقـرّر ضباط الجيش العثماني تـدريبهم لمـدة شهـر في ميدان المـزّة، كي يحـسنوا الرمي بالسلاح، لكن من أوّل يوم في التدريب تبين أن رماياتهم جيّـدة. فقال ضباط العسكـر، إنّ هؤلاء رمـاة بالفطرة ولا يلزمهم تدريب. في اليوم التالي إنتقلوا بالسكة الحديد إلى معان في الأردن، مكان تجمّع الجيش العثماني والمتطوعين، مكثـوا في معان مـدة خمسة عشر يوماً وانتقلوا بعـدها إلى قلعة النخل في صحراء سيناء، على بعـد ثلاث مراحل من قنـاة السويس وكانت المسافة بين بلـدة معان في الأردن، وقلعة النخل في صحراء سيناء، إحدى عشرة مرحلـة 12.
مكـث الأمير شكيب مع المتطوعين في قلعة النخل في صحـراء سيناء، وطابورين من الجنـد العثماني، مـدّة خمسة عشر يـوماً. وبسبب هزيمة الجيش العثماني (في الحملة الأولى) لـم يشترك الأمير ورجاله المتطوعون بالقتال، علماً بأن الجنود الانكليز لـم يعبـروا قناة السويس حينذاك الى الضّفة الشرقية. ولمّـا أصبحت الأرزاق قليلة لمـؤونة الرجال، عـاد الأمير شكيب مع المتطوعين إلى معان في الأردن، فأقاموا مـدّة شهر انتقلـوا بعدها إلى القـدس بناء على تعليمات جمال باشا، أقاموا فيها عشرين يوماً، وفي القدس وجـد الأمير شكيب نحـو عشرين رجلاً من الأعيان اللبنانيين الذين نفاهم جمال باشا، منهـم: جرجس صفا، ابراهيم عقل، خليل عقل شديد، جرجس تامر، نمـر شمعون، مصطفى العماد، رشيد نخله، خليل الخوري، سليم المعوشي وغيرهم. وذكـر الأمير شكيب أنّـه توسط لهم مـع جمال باشا ليعودوا الى وطنهم.
وبـعـد مضي عشرين يوماً في القـدس، عـاد الأميـر شكيب ومتطوعيه إلى دمشق، ثـم إلى بيروت، حيث تجمّعـوا في حـرش الصنوبر، واستعرض جمال باشا جميع فـرق الجيش العثماني والمتطوعين، في حضور عـدد غـفيـر من أهالي بيروت والمناطق، وألقى خطبة.

لبنان يودّع العلامة السيّد هاني فحص

شيّع لبنان العلامة السيد هاني فحص في حضور سياسي وثقافي وديني وشعبي كبير ومتنوع، وشارك في تشييعه في مسقط رأسه جبشيت (النبطية) كل من عزام الأحمد ممثلاً الرئيس الفلسطيني ابو مازن، إضافة إلى النائب أكرم شهيِّب ممثلاً النائب وليد جنبلاط، والشيخ غاندي مكارم ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، والشيخ علي زين الدين بإسم مؤسسة العرفان التوحيدية، والدكتور حسن منيمنة على رأس وفد بإسم تيار المستقبل، والسيد محسن إبراهيم ووفد يمثل المرجع السيد علي السيستاني، إضافة إلى رئيس كتلة الوفاء للمقاومة الحاج محمد رعد، والنواب السادة: علاء الدين ترو، عبد المجيد صالح، عبد اللطيف الزين، ياسين جابر وكل من الشيخ نبيل قاووق عن حزب الله، إضافة إلى وفد يمثل القوات اللبنانية برئاسة النائب جوزيف معلوف، ووفد تجمع لبنان المدني، ووفد حركة التجدد الديمقراطي، ووفد كبير من حركة فتح، مع حضور بارز للشعراء والأدباء والصحافيين والمفكرين، إضافة إلى حضور شعبي إسلامي ومسيحي لافتين. وقد نعته المرجعيات الروحية الثلاث المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، دار الفتوى ومشيخة العقل .

السيد هاني فحص في سطور
رجل دين وأديب وكاتب ومؤلف وناشط في المجتمع المدني، وداعية حوار بين الأديان، ومن أبرز المفكرين الذين كتبوا في قضايا مقاربة الإسلام لتحديات الحداثة.
ولد في بلدة جبشيت (النبطية) عام 1946، وتلقى الدراسة الابتدائية في القرية والمتوسطة في مدينة النبطية. أنهى دراسته الثانوية ثم هاجر عام 1963 إلى النجف الأشرف في العراق ودرس في حوزته الدينية، ونال إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف. وعاد من النجف عام 1972 ليستقر في بلدته جبشيت، وكان قد تزوج في سن التاسع عشرة من السيدة نادية علوه وله ثلاثة أبناء وابنتان هم: حسن، زيد، مصطفى، بادية وريا عقيلة المدير العام السابق لوزارة الإعلام محمد عبيد.

نضاله السياسي
إنتسب إلى حركة فتح أيام وجودها في لبنان، وهو عضو في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، كذلك فهو عضو في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.
ترشّح للإنتخابات الفرعية عام 1974 متحالفاً مع كمال جنبلاط، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك. عاد وترشح للإنتخابات النيابية عام 1992 عن محافظة النبطية ولم يحالفه الحظ. شارك في قيادة انتفاضة مزارعي التبغ المطلبية عام 1972.

نشاطاته الثقافية
أشرف على مجلة النجف لمدة عام أيام إقامته فيها، ولدى عودته منها مارس عمله الديني إماماً وشارك في تأسيس وتفعيل منتدى أدباء جبل عامل مع عدد من الأدباء والشعراء الجنوبيين.
في العام 1982 سافر إلى إيران مع عائلته وأقام فيها حتى العام 1985، عمل خلالها مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة في قم، ومشرفاً على مجلة (الفجر)، كما أقام علاقات مع بعض المراجع فيها مثل الشيخ منتظري وغيرهم. وكان في لبنان مقرباً من المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
تفرغ بعد انتخابات 1992 لشؤون الحوار الإسلامي والإسلامي المسيحي والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسس مع النائب السابق سمير فرنجية (المؤتمر الدائم للحوار اللبناني)، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، وكذلك من المؤسسين (للقاء اللبناني للحوار) .
عضو في الهيئة الشرعية للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وعضو في أكاديمية أهل البيت في عمان في الأردن، وكذلك في منتدى الوسطية في عمان أيضاً، وعضو مجلس إدارة وعضو مجلس أمناء مؤسسة ياسر عرفات الخيرية الثقافية.

مؤلفاته
له ما يقارب من الثلاثة عشر كتاباً مطبوعاً منها: ماضي لا يمضي، ذكريات ومكونات عراقية، الإمامان الصدر وشمس الدين ذاكرة لغدنا، خطاب القلب، أوراق من دفتر الولد العاملي، في الوحدة والتجزئة، ملاحظات في المنهج، الشيعة والدولة في لبنان.

كفرقوق جارة جبل الشيخ

كفرقوق جارة جبل الشيخ
إزدهرت ولم يهجرها أبناؤها

الشيخ يوسف الكفرقوقي درس على علماء دمشق
وأصبح أبرز أعلام عصره في تقواه ومعارفه الدينية

أحراج كفرقوق تنحسر بفعل المناشير
والبلدية فرضت حراسة دائمة لحمايتها

المياه وفيرة بسبب تعدّد الينابيع والعيون
لكنها مهدورة لغياب مشاريع التخزين

ماذا يعني اسم كفرقوق؟
معظم أسماء القرى اللبنانية مشتقة من الآرامية، وقد إحتفظت القرى بهذه الأسماء في العهود التالية رغم أن معاني الكثير منها لم تعد معروفة بسبب اختفاء الآرامية من التداول منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.
إذا عدنا إلى اللغة الآرامية، فإن إسم البلدة يترجم بما معناه “قرية الخزف” أو “قرية الآجر” وهذا يعني أن البلدة عرفت في القدم بإنتاج الخزف وآنية الآجر (الفخار)، وهناك قرية قريبة من كفرقوق تعرف بإسم “راشيا الفخار”، وهذه إشارة إضافية إلى أن مهنة تصنيع الآجر كانت منتشرة في المنطقة في العصور القديمة، إضافة إلى هذا التفسير الأكثر قبولاً، اقترح آخرون أن الإسم منسوب إلى الملك “قوق” الذي حكم في عهود قديمة، وبما أن إسم “كفر” في الآرامية يعني القرية أو البلدة فقد أصبح اسم القرية “كفر قوق”. وأطلق على البلدة في تاريخ لاحق إسم “كفرقوق الدبس” لكثرة ما كانت تنتج من دبس العنب.

الموقع
تقع بلدة كفرقوق، وهي إحدى قرى قضاء راشيا، على ارتفاع 1200م عن سطح البحر، وتبعد عن مركز القضاء 5 كلم، وعن العاصمة بيروت 93 كلم، ويمكن الوصول اليها عبر طريق بيروت- شتورا- المصنع – ظهر الأحمر كفرقوق أو عن طريق صيدا- مرجعيون-حاصبيا- ظهر الاحمر.
تقدر مساحة البلدة بنحو 5800 هكتار، وهي مجاورة للحدود السورية على السفوح الغربية لجبل الشيخ أو جبل حرمون، كما أنها تجاور 8 بلدات لبنانية، هي عيحا- ظهرالاحمر- ينطا- بكا- دير العشاير- راشيا – كفر دينس وعين عرب. ويعتقد أن تسمية البلدة مشتقة من الصيغة الآرامية الكنعانية المركبة كفر- قوق.

نمو سكاني ملفت
تمتاز بلدة كفرقوق عن غيرها من البلدات بنمو سكاني يفوق المعدلات المعروفة في منطقة راشيا، وتعود هذه الظاهرة الى تمسك أبناء البلدة ببلدتهم والاقامة فيها، فظاهرة الهجرة بسيطة وعدد المهاجرين قليل، وكذلك الأمر بالنسبة الى النزوح، فهو قليل جداً مقارنةً بما يحصل في القرى والبلدات الأخرى، وهذا ما تثبته ظاهرة التمدّد العمراني للبلدة التي اتصلت بالقرى المجاورة لها، وكذلك نمو عدد الوحدات السكنية من 350 وحدة في سنة 2000 إلى 700 وحدة حالياً، أي أن العدد تضاعف خلال السنوات العشر الأخيرة، وأصبح يشار إلى كفرقوق كمثال بارز على النمو السكاني، علماً أن عدد سكان البلدة أصبح اليوم يزيد على 3500 نسمة.

الموارد الاقتصادية للبلدة
تعتبر الوظيفة المصدر الأول في اقتصاد ابناء البلدة، بالاضافة الى الاعمال الحرة والزراعة، فنلاحظ أن معظم ابناء البلدة ينخرطون في المجال الوظيفي، ومن لم يتسنَ له الحصول على وظيفة رسمية نراه يتجه للعمل في المؤسسات السياحية وخدمات المطاعم، حيث بات هذا القطاع يضم شريحة كبيرة من ابناء البلدة، نظراً لمردوده السريع، اضافة الى بعض الأعمال الأخرى كصناعة خبز الصاج أو ما يعرف بالخبز المرقوق ويتم تسويقه في البلدة والقرى المجاورة.
يتقن أبناء البلدة العديد من الحرف التي تسهم في تحريك العجلة الإقتصادية في البلدة كصناعة الألومنيوم أو الحديد، بينما أتقن بعض السكان تربية النحل فأصبحت تشكل مورداً اقتصادياً يُعتمد عليه، وذلك بسبب نوعية العسل الذي تصنعه جماعات النحل من رحيق الأزهار المنتشرة في ربوع جبل الشيخ. ويعمل النحالة في البلدة على تطوير هذا القطاع مستفيدين من المساحات الواسعة المحيطة بالبلدة، والتي تصل الى الأراضي السورية المحاذية، وكذلك من نقاوة المكان وغياب أي من الملوثات التي تعيق عمل النحل في المناطق الأخرى، وأبرزها المبيدات التي ترش بها الأراضي الزراعية أو الأثمار.

موقع كفرقوق في قضاء راشيا
موقع كفرقوق في قضاء راشيا

سهل عيحا
تشكّل وعورة الجبال وغياب الأراضي المنبسطة علامة فارقة في قرى راشيا، لكن كفرقوق تشذ عن هذه القاعدة إذ أنها تتصل بسهلين: السهل الشرقي الذي يُستغل جزء بسيط منه في بعض الزراعات البعلية والاشجار المثمرة والكرمة، والسهل الغربي الذي يتميز بمساحة شاسعة ويُعرف بإسم “سهل عيحا”. وتعود ملكية 33 في المئة من أراضي السهل لأبناء بلدة كفرقوق، أما المساحات المستغلة فيتم استثمارها في زراعة الحبوب والخضار، ولا سيما زراعة البطاطا، وتنتشر على أطراف السهل زراعة اللوزيات والكرمة والعديد من الأشجار المثمرة، وفي طليعتها اشجار التفاح التي أخذت تنتشر في الآونة الأخيرة بشكل ملفت. لكن رغم خصوبة السهل، فإن هناك نسبة من الأراضي لا يتم استغلالها بصورة فعالة، مما يفوت على المنطقة فرصاً اقتصادية وفرص عمل مهمة.

ثروة حرجية مندثرة
بعدما كانت تغطي ما يقارب الـ70 في المئة من مساحة البلدة، لم تعد الأحراج تمثل سوى مساحة بسيطة، وهذا التدهور في مساحة الغطاء النباتي يعود بالدرجة الأولى إلى القطع العشوائي الجائر للأحراج بهدف توفير حطب التدفئة، لكنّ هناك سبباً آخر لا يقل خطورة يتمثل بالحرائق التي تلتهم سنوياً مساحات ليست بالقليلة وعدم توافر الوسائل اللازمة لمكافحة الحرائق.

ومياه مهدورة
تنفرد كفرقوق بكثرة العيون والينابيع، لكن الصعوبة تكمن في غياب القدرة على الاحتفاظ بمياهها عبر تخزينها تمهيداً لاستخدامها في فترات الجفاف أو الشح، وذلك لأغراض ري المزروعات الصيفية أو الأشجار المثمرة. وأبرز هذه العيون والينابيع: عين الشحل، عين الصهريج، عين نيني، عين الزعني، عين الصفصافي، إضافة إلى عدد من الينابيع الموسمية التي تساهم في تلبية حاجات البلدة.

بلدة الورع
تتميز بلدة كفرقوق ومنذ القدم بميل أهلها الطبيعي إلى السلوك الديني القويم، وتحصيل المعارف، إذ تحوي البلدة ربما أعلى نسبة من الشبان والفتيات الذين يقبلون على السلوك والتزام أصول الدين في سن مبكرة، كما أن هناك في البلدة أكثر من خلوة ومجلس ذكر يجتمع فيه المؤمنون.
ولعلّ هذه الجذوة تعود الى سنوات وعقود مضت الى أيام العلامة الشيخ “جمال الدين يوسف بن سعيد الكفرقوقي، “الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي ( النصف الأخير من القرن العاشر للهجرة)، وكان رحمه الله عالماً علامة وواعظاً وشاعراً. تفقه في دمشق على أبرز علمائها، وكان من أبرز أعلام عصره في العلم والمعرفة والفقه الديني، قبل أن يلمع نجم الشيخ الفاضل. كان يتلو القرآن الكريم والعديد من كتب المواعظ عن ظهر قلب، واعتبر من أكابر الموحدين في عصره. توفي الشيخ في طريق عودته من دمشق، عند أقربائه في قرية ينطا الواقعة في( قضاء راشيا)، وقد دفن فيها حيث يقوم مقامه اليوم، إلا أن أهل كفرقوق أنشأوا تكريماً لذكراه مقاماً وخلوة بإسمه في القرية.
من مؤلفاته كتاب معشرات الحروف الذي سمّاه “درر النحور في التوبة إلى الملك الغفور”، يتضمن مقطوعات شعرية ومقدمات نثرية بليغة كلها في كيفية السلوك والتقرب إلى الله عزّ وجل. وله قصائد عدة جمعها المرحوم الشيخ نسيب مكارم منها مخمسة طويلة سلك بها سبيل الابتهال والاستغفار والتوسّل إلى الله تعالى.
ومن الأعلام الذين عاشوا في قرية كفرقوق، الشيخ “سليمان الداوس” الملقب بـ”أبو عبيد”، وفضيلة الشيخ أبو حسين محمد الحناوي أحد أبرز مشايخ طائفة الموحدين الدروز. وتجدر الإشارة الى أن معظم عائلات بلدة كفرقوق تنقسم الى قسمين، قسم يقيم في البلدة وقسم آخر ذهب الى جبل العرب أو ما يُعرف بجبل الدروز. وأكثر البلدات السورية المحاذية تقع في جبل العرب على مسافة لا تتعدى الساعة والنصف سيراً على الأقدام، ورغم أن الأسر الكفرقوقية تفرقت في الماضي بسبب موجات الهجرة إلى جبل العرب إلا أنها ما زالت على علاقات وثيقة جداً في ما بينها، وتتعامل مع بعضها كما لو أنها ما زالت عائلات واحدة.

كهوف ربما تعود إلى عصود سحيقة أو ربما لبعض النساك
كهوف ربما تعود إلى عصود سحيقة أو ربما لبعض النساك
اثار قديمة
اثار قديمة

الشيخ سليمان الداوس الملقب بـ “أبو عبيد”
عاش الشيخ التقي أبو عبيد في كنف عائلة نهل منها حنان الأم الورعة وعطف وتربية الأب الذي زوده بأسس الآداب وقوة الارادة وصلابة الايمان.
بعد وفاة والديه، عاش الشيخ في غرفة صغيرة عاكفاً على عبادة الله عزّ وجل من دون أن يعرف به أحد من الأشخاص الذين يسكنون بجواره، كان يكسب عيشه بكد يمينه من زراعة الأرض ومعاملتها، حتى أنه كان يتقن فن العمارة وأقدم على بناء مناهل المياه المحاذية للبلدة، وهذه ما زالت قائمة إلى يومنا هذا. واستمر على هذه الحالة حتى وافته المنية. وبعد وفاته، اكتشف اهل البلدة السر الدفين للرجل، وهذه الجوهرة النادرة من خلال المخطوطات التي وجدت محفوظة في الوسادة التي كان يغفو عليها، وبعد الاطلاع على تلك الكتابات الروحانية علم ابناء البلدة أن الشيخ أبو عبيد من المشايخ ذوي المكانة الرفيعة، نظراً لتلك التركة المعرفية الروحانية الملفتة والمميزة، وقد عمد ابناء البلدة الى جمع تلك الكتابات وحفظها ليصار في ما بعد الى حفظها في مجلد اطلق عليه إسم “المشوقات”، نظراً للمحتوى المميز الذي تنعم به، وهذه المشوقات موجودة في معظم الخلوات والمزارات، كما قام أبناء البلدة بتكريم الشيخ التقي عبر بناء ضريح نقلت إليه رفاته، وقد أقيمت بجانبه خلوة يأمها المشايخ بهدف الاستزادة الروحية وذكر الله تعالى.

مقام الشيخ يوسف الكفرقوقي
مقام الشيخ يوسف الكفرقوقي

عائلات بلدة كفرقوق

أبو درهمين – عبد الخالق- صوان- جمول- الحلبي – نعيم – الشعار – سرايا – عربي- خضر – الحسنية- حرب –النبواني – شموط – مسعود – السقعان – جديداني – خميس – البلاني – حمد – ريدان – العنداري – برو – عازار – الحداد – عون – شاهين – نجم – شوي – العريان .

المواقع الأثرية في البلدة
تجلس بلدة كفرقوق على آثار غنية لحضارات كثيرة بائدة، يدل على ذلك العديد من المواقع الأثرية في محيط البلدة، والتي تعود الى حقبات مختلفة منها رومانية ومنها كنعانية. لكن إهمال الدولة لتلك الآثار شجع على العبث بها، مما أتى على قسم كبير منها أو غيّر معالمها وطمس دلالاتها التاريخية. من الآثار الباقية داخل الحي الغربي من البلدة بقايا معبد روماني صغير قريب من الطريق، فيما تتواجد أطلال وبقايا معبد آخر وعدد من الأحواض الحجرية على مقربة من كنيسة البلدة. أما في خراجها فهناك بقايا الأعمدة التي يعود تاريخ معظمها إلى الحقبة الرومانية.
من الآثار المهمة تلك الواقعة شمال البلدة، وتعود الى ما يقارب من 800 سنة، وهي تدل على أن بلدة كفرقوق تجاور انقاض قرية قديمة بائدة تعرف بـ “الكنيسة”. وتدل الآثار الموجودة على أن البلدة المندثرة كانت مرجعاً لقرى وبلدات أخرى زالت بدورها ولم تعد موجودة، ولعل كفرقوق هي امتداد لتلك الحضارة الزائلة. ومن الآثار بقايا قصر ملكي ومحكمة ومكان هو عبارة عن مشنقة كانت تنفذ الأحكام فيها، بالإضافة الى العديد من النواويس وآبار المياه. ومازال شقيف المشنقة وقنطرة دار آل عربي ماثلين حتى اليوم مع البلاط الحجري المرصوف إضافة الى معصرة العنب القريبة منهما.
مدرسة تقاوم الدهر
على الرغم من تراجع التعليم الرسمي بشكل عام واقفال معظم المدارس الرسمية في منطقة راشيا، ما زالت مدرسة كفرقوق الرسمية توفّر فرص التعليم لنحو 400 طالب، وتجنب الأهالي، لاسيما ذوي الدخل المحدود منهم، مشقة الانتقال الى خارج البلدة أو إرسال اولادهم الى المدارس القريبة لمتابعة تحصيلهم العلمي. وتوفر المدرسة فرص عمل لأبناء البلدة من حملة الاجازات التعليمية فتجنبهم الغربة أو الانتقال الى أماكن أخرى بحثاً عن عمل، علماً أن عدداً كبيراً من الطلاب ينتقلون خارج البلدة لمتابعة تحصيلهم العلمي في مختلف الجامعات والمعاهد المنتشرة في البقاع أو في العاصمة بيروت.
وتضم كفرقوق أندية وجمعيات ثقافية منها نادي كفرقوق الذي تأسس في سنة 1973، ويلعب دوراً في النهضة التي تشهدها البلدة، إذ أشرف النادي على حملة أثمرت تشييد القاعة العامة بدعم من الزعيم وليد جنبلاط، كما تمّ في الفترة الأخيرة افتتاح المستوصف الاجتماعي بهمة معالي وزير الشؤون الاجتماعية الاستاذ وائل أبو فاعور، وقد بدأ المستوصف تقديم الخدمات الصحية المختلفة للأهالي، كما تمّ افتتاح عيادة طب الأسنان التي تقدم خدمات جيدة بأسعار تناسب الحالة الاجتماعية لأبناء البلدة.

قضايا العمل البلدي في كفرقوق
في حوار مع رئيس بلديتها

رئيس-البلدية-الاستاذ-رئيف-ابو-درهمين
رئيس-البلدية-الاستاذ-رئيف-ابو-درهمين

أبرز الإنجازات: الكهرباء والمستوصف وإعادة التشجير
وأبرز المشاريع تعميم مياه الشفة والطرق الزراعية

التقت “الضحى” رئيس بلدية كفرقوق السيد رئيف ابو درهمين، وسألته عن واقع العمل البلدي في القرية والتحديات التي تواجهها البلدية بسبب التوسع العمراني والنمو السكاني، فكان هذا الحوار:
كيف يتم التعامل مع ظاهرة النمو في البلدة؟
منذ سنوات أخذ العمل البلدي طابعاً مختلفاً، لأن عدد السكان في ازدياد والتمدد العمراني يزيد مساحة القرية سنة بعد سنة ويضاعف بالتالي الحاجة الى توفير الخدمات للأحياء والشوارع الجديدة، وقد واصبح ذلك بصراحة أكبر من الإمكانات المتوافرة للمجلس البلدي وموارده المالية. لذلك بدأنا نركز على التواصل مع وزارات الدولة المعنية لتأمين الخدمات اللازمة، وكذلك وثقنا العلاقات بعدد من الجهات المانحة من أجل تعويض نقص الموارد، وفي الوقت نفسه القيام بمسؤوليتنا في تلبية الحاجات المتنامية للبلدة ومواطنيها.
ما أبرز مبادرات المجلس البلدي؟
قامت البلدية في الفترة الأخيرة بشراء عدد من المولدات الكهربائية لتأمين الكهرباء في ظل انقطاع التيار الكهربائي عن البلدة لفتراتٍ طويلة خلال اليوم، إذ أن ساعات التغذية الفعلية لا تتجاوز الثماني ساعات يومياً، الأمر الذي يعطل الكثير من الأعمال ويكبد المواطنين تكاليف باهظة على شكل اشتراكات أو تكلفة الوقود اللازم للمولدات الخاصة. وقد ساعد تركيب المولدات على تأمين التغذية خلال فترات انقطاع التيار، وتمكنّا من تأمين الطاقة الكهربائية بتكلفة أقل. وتقوم البلدية في هذه الاثناء بتحديث الشبكة وتركيب عدادات لكافة أبناء البلدة، وبلغت تكلفة هذا المشروع 100 مليون ليرة لبنانية، وتم تنفيذه بمساعدة من اتحاد بلديات “جبل الشيخ”.
على صعيد آخر، تسعى البلدية بالتعاون مع لجنة مياه البلدة، الى تأمين مياه الشفة لكافة المواطنين وايصال شبكة المياه الى كافة الاحياء لاسيما الحديثة منها.
كما قامت البلدية بتأمين سيارة إسعاف للبلدة بمساعدة من وزارة الشؤون الاجتماعية، وهي تسعى بمساعدة من وزارة الزراعة والمشروع الاخضر إلى شق وتعبيد طريق زراعي بطول حوالي 2500م ويسمى “طريق سهل الفوقاني في الشحل”، كما تقوم البلدية في هذه الاثناء بإقامة حديقة عامة، تقدمة وزارة الشؤون الاجتماعية، وينتهي العمل في المرحلة الاولى منها خلال عشرة أيام.
تعمل البلدية ايضاً على ترميم عيون قديمة عدة، ومنها عين الشحل والصهريج وعين القلّي وعين الكنيسة التي تم مؤخراً مساعدة أصحاب المواشي على حفرها وتأمين المياه اللازمة لمواشيهم .
لا بدّ هنا من التنويه بما قام به المجلس البلدي السابق قبل اِستلامنا رئاسة البلدية من توسيع لمدخل البلدة وإقامة جدران الدعم للعديد من الطرقات وتقديم المساعدات العينية للمزارعين، والمساهمة في زيادة الغطاء الأخضر للقرية من خلال عمليات التشجير.
هل تتلقون مساعدات لترميم منابع المياه الأثرية أو العيون القديمة؟
لا توجد أي مساعدة من أي جهة رسمية أو غير ذلك، لكن نطلب من وزارة الطاقة والمياه مساعدتنا في الاهتمام بهذه العيون والمحافظة على تاريخها لكي تبقى ولو أن ينابيعها غير غزيرة.
ما هي مشاريع المجلس البلدي المستقبلية؟
تمّ تقديم طلب الى قيادة الجيش لشق بعض الطرق الزراعية، وأتت الموافقة على شق طرقات بطول حوالي 10 كلم من الطرقات الزراعية، وهنا لا بدّ من توجيه الشكر الى قيادة الجيش، وهناك مشروع تحريج حوالي 10 دونمات تقدمة من UNDP، ويتم ذلك بالتعاون مع اتحاد بلديات “جبل الشيخ”.
إن الهدف الأول للبلدية هو المحافظة على ما تبقّى من أحراج البلدة مع العمل في الوقت نفسه على استعادة المساحات الواسعة من الأحراج التي كانت تنعم بها منذ القدم، لكنها زالت بسبب التعديات والقطع الجائر. وتقوم البلدية بحماية الأحراج من خلال الحراسة التي يقوم بها ناطور البلدة، وذلك لمنع قطع الاشجار ومراقبة الحرائق التي قد تندلع خلال فصل الصيف ومواسم الجفاف.
وتعد البلدية لتأمين شبكة مياه للأحياء الجديدة التي لم تصلها مياه الشفة، علماً أن كمية المياه المتوافرة، وهي حوالي 3 آلاف متر تعتبر كافية بعد التوسع العمراني الكبير الذي نشهده.
ما هي المعوقات التي تواجه المجلس البلدي؟
أبرز العوائق امام عمل البلدية هي الشح في الموارد المالية وغياب دعم الدولة وصعوبة جباية الرسوم البلدية أو المسقفات من المواطنين، إضافة إلى عدم دفع مستحقات البلديات لدى الدولة في أوقات منتظمة، مما يراكم الأعباء على البلدية، كما أن هناك ظروفاً طارئة أو مستجدة تفرض على البلدية أعباء اضافية لم تكن في الحسبان. كما أن هناك عوائق تواجه المزارعين لا سيما الصعوبة في تصريف الانتاج مما يزيد من مساحة الأراضي المهملة وتزداد الأراضي البور ويتراجع عدد العاملين بالزراعة سنة بعد سنة.

شجـرة القَطْلَب‏‎

شجـرة القَطْلَب ‏‎المنسية
ثمارها الطيبة متروكة للسمن والعصفور

زهرها ربيعي وثمارها الغزيرة خريفية
لكن موسمها لا يتجاوز الثلاثة أسابيع

أبحاث علمية جادة أكدت خصائصها العلاجية
لا سيما في حالات الإسهال وارتفاع ضغط الدم

في البراري الجبلية ربما بين السنديان والملول وأشجار الأرز الصنوبري، تنتصب شجرة سرعان ما تلفت النظر بشكلها واللون الأحمر للحاء جذعها وأغصانها، هذه الشجرة الدائمة الخضرة تنمو لتصبح شجرة كبيرة غالباً ذات شكل مستدير وأغصان كثيفة وأوراق تجمع بين الأخضر الفاتح والأصفر والأحمر. إنها فعلاً منحوتة رائعة من منحوتات الطبيعة وآية بينة على عظمة الخلق وتنوعه اللانهائي.
مثل الأشجار البرية تنبت شجرة القطلب من دون مساعدة من الإنسان، إذ أن زارعها المباشر هو الطير الذي يأكل من ثمارها الحمراء القانية الشهية، ثم ينشر بذورها التي تبقى في برازه في الطبيعة عبر أسفاره. وبالطبع، قليل من هذه البذور قد يلقى التربة المناسبة له، فإن حدث ذلك فإننا سنرى في غضون سنوات قليلة شجرة قطلب صغيرة ترتفع بين الصخور أو في التربة المعشوشبة في أحراج السنديان والملول.

قليلاً ما نهتم بها
لا يعرف الكثيرون منّا عن هذه الشجرة الفريدة التي تزين جبالنا أو عن خصائصها الغذائية والعلاجية، أو فاكهتها الشهية التي شبهها اليونان بالفريز، وسميت أحياناً بالفريز اليوناني. وفي الحقيقة يوجد شبه كبير بين ثمرة القطلب وبين الفريز البري ذي الحبات الصغيرة، الذي يتكاثر بطريقة تكاثر الفريز المعروف، وهذا الاخير نقبل عليه لطعمه الشهي، وإن كان الكثيرون بدأوا يجتنبونه لكثرة ما يستخدم في إنباته وتكبير ثماره من كيميائيات وهرمونات خطرة.

ثمار من الطبيعة
في شجرة القطلب لا مشكلة من هذا النوع، فثمارها طبيعية عضوية تعطينا من سخاء الطبيعة ما يلذ ويفيد صحتنا. لذلك في المرة التالية التي تجولون فيها في برية الجبل، وكنتم في شهر تشرين الأول أو الثاني ابحثوا عنها وتمتعوا بثمارها التي تنضج في أواخر فصل الخريف، لكنها غالباً ما تبقى مهملة فتقبل عليها كل أنواع الطيور ولا سيما السمن والشحرور اللذين يبدآن بالوفود إلينا قبل موسم قطاف الزيتون.
‎الإسم العلمي لشجرة القطلب التي تنبت في بلادنا، لمن يريد المزيد من المعلومات عنها عبر الإنترنت، هو ‎‏‎Arbutus andrachne‎، ولها أسماء مختلفة، فهي بالإنكليزية GreekStrawberry Tree‎، أي شجرة الفريز اليوناني‎‎ والشجرة من ‎العائلة الخلنجية ‏‎Ericaceae‎، وهي في الأصل من منطقة البحر الأبيض المتوسط واليونان وتركيا وسوريا ولبنان،‏ كما تنمو في المغرب وتونس واسبانيا والبرتغال ومالطة وقبرص والقسم الجنوبي من ايطاليا.‏
وتوجد الشجرة بكثرة في شمال سوريا، وخصوصاً في مناطق جبل النبي يونس وكسب ومنطقة جبلة، وبسبب انتشارها فقد سميت بعض القرى التي تكثر فيها الشجرة بإسمها (قرية القطيلبية)، وهي إحدى أكبر قرى المنطقة، كما توجد الشجرة في طرطوس وحماه ومصياف وادلب. وفي لبنان توجد في بعذران، الخلوة المعروفة بإسم “خلوة القطالب”، ربما لوجودها في الماضي وسط حرش من القطلب.
وهناك نوع مختلف من القطلب ينبت في غرب أوروبا وأميركا الشمالية، ويعطي ذلك النوع ثماراً مشابهة إلا أنها تتميز بقشرتها الخشنة نسبياً والمغطاة برؤوس أو انتفاخات صغيرة مدببة. أضف إلى ذلك أن الصنف الآخر معروف بكثرة أزهاره مما يجعل من شجرة القطلب في تلك البلدان شجرة زينة بامتياز للحدائق المنزلية، ولا سيما أنها دائمة الاخضرار.

الجذوع الحمراء الجميلة لشجرة قطلب معمرة
الجذوع الحمراء الجميلة لشجرة قطلب معمرة
ثمار-قطلب-في-مرحلة-النضج
ثمار-قطلب-في-مرحلة-النضج

قطعوها لخشبها الصلب
شجرة القطلب قوية، سريعة النمو مقاومة لتقلبات الطبيعة وأنوائها، لذلك نجدها ترتفع حتى ستة أمتار وربما أكثر، لكنها تحتاج إلى سنوات طويلة لتبلغ هذا الطول، وهذا بالطبع إذا لم تمتد إليها يد قاطعي الأشجار البرية قبل ذلك. إنها أيضاً شجرة دائمة الخضرة إذ لا تتساقط أوراقها في الخريف والشتاء. خشبها صلب جداً، ومن أقوى أنواع الأخشاب، لذلك استخدمها السابقون لصنع القطع الخشبية المنزلية، وقد كانت قوة الشجرة أحد أسباب الطلب عليها، فقطع الكثير منها في الماضي فلم تعد تُشاهد بكثرة في البراري، وعندما نشاهد بعضها فهي في الغالب شجيرات فتية مضى على نشوئها ربما خمس أو عشر سنوات، وهذه يمكن أن تنمو وتعلو مثل سابقاتها إذا تمتعت بحماية (كما في المحميات الطبيعية)، أو إذا عُرفت قيمتها فاحتفظ بها وتجنّب الحطابون قطعها مع ما يقطعون.
ويمكن زراعة شجرة القطلب عبر استنبات البذور أو بالفسائل ابتداءً من الخريف وحتى بداية الربيع، وهي تحب الأرض الصخرية والتربة الخصبة ولا تهتم بالري، إذ يمكنها النمو بشكل بعلي.
تزهر شجرة القطلب في الربيع وتبدأ أزهارها على شكل عناقيد زهرية اللون، إلا أنها تتحول إلى لون أبيض مع اخضرار. وتعقد هذه الأزهار حبيبات تكون في البداية خضراء أقرب إلى الزرقة، إلا أنها تبدل ألوانها في مراحل النضج من الأخضر إلى الأخضر الفاتح ثم إلى الأصفر الفاتح، فالأصفر الغامق فالأحمر، لتأخذ لون الأحمر القرمزي عند النضج، وعندها تصبح جاهزة للأكل.
ثمار شجرة القطلب كرزية الشكل لكنها أصغر من الكرز وأقرب في حجمها ولون الناضج منها إلى الزعرور البري. ومع أنها تكون قاسية قبل النضج وغير سائغة المذاق، إلا أنها عندما تنضج تصبح طرية وحلوة المذاق وذات طعم خاص لذيذ، أما البذور فصغيرة جداً ولا تشعر بها أثناء الأكل. وفي بعض مناطق إسبانيا واليونان والمغرب تباع الثمار الطازجة في الاسواق أو تصنع منها مربيات لذيذة تباع أو تضاف إلى الحلويات مثل الكاتو.
وتنضج ثمار القطلب المعروفة في أواخر فصل الخريف وبداية الشتاء، لكن موسمها قصير ولا يتجاوز الثلاثة أسابيع، على خلاف باقي الفواكه الأخرى التي يستمر موسمها لمدة أطول مثل العنب والتين والتفاح. وبسبب هشاشتها عند النضج فإن ثمرة القطلب لا يمكن الاحتفاظ بها بعد الجني أكثر من أسبوع، لاسيما إذا تم قطفها في مرحلة نضج متقدمة.
ورق شجر القطلب قاسٍ نسبياً ومتوسط الحجم، وهو أشبه بورق شجرة الكاوتشوك المعروفة في سواحل بلادنا لكن أقل ثخانة وحجماً، أما لونه فهو أخضر زاهٍ كما أنه مثل الأزهار والثمار يبدل لونه حسب المواسم، وهو سبب آخر يجعل من الشجرة مرغوبة جداً لأغراض زينة الحدائق.
من خصائص شجرة القطلب التي تعطيها جمالها وشهرتها بين علماء النبات جذعها الأملس والمتلون أيضاً حسب مراحل نمو الشجرة، فهو قد يبدأ أخضر مع ميل خفيف إلى الحمرة ليصبح برتقالياً أو بلون القرميد عند نضج الشجرة وفي المُعمِّر منها.. ومن خصائص القطلب الفريدة أنه ومع نمو الجذوع تقوم الشجرة، في أول الصيف، بطرح القشرة الخارجية من اللحاء في ظاهرة تشبه ظاهرة تبديل الحية أو الأفعى لجلدها، أذ نرى القشرة الرقيقة من اللحاء تتفسخ وتلتف على نفسها أو تتشكل على شكل غطاء صدفي متشقق قبل أن تنفصل عن الجذع وتسقط تاركة الجذع ليعود إلى لونه الأحمر القرميدي ومظهره الأملس.

أزهار القطلب
أزهار القطلب

فوائدها الصحية
مثل جميع النباتات البرية، فإن لشجرة القطلب عند دراسة خصائص ثمارها وأوراقها فوائد مهمة أكدتها البحوث العلمية الحديثة. وقد اهتم بدراسة الشجرة بصورة خاصة علماء برتغاليون واسبان ومغاربة، بسبب انتشار الشجرة في بلادهم مما حدا بهم للتدقيق في خصائصها الكيميائية وأثرها المحتمل كعلاج. ففي دراسة أجرتها جامعة نوفا دو ليسبوا في البرتغال، أظهرت الأبحاث الأولية أن ثمار وأوراق الشجرة تحتوي على فلافونيدات مضادة للأكسدة تساعد في كبح النمو السرطاني، وأنها في هذا المجال أقوى فعالية من الشاي الأخضر وبعض أنواع التوت البري. وأظهرت دراسة قام بها باحث إسباني أن الثمار والأوراق تحتوي على البكتين والتانين، وأنها بالتالي مفيدة في وقف الإسهال عبر صنع شراب ساخن من تلك الأوراق والثمار، علماً أن الدراسة الإسبانية أظهرت أن الأوراق تحتوي على خصائص مضادة للأكسدة بدرجة أقوى من الثمار. وقام الباحث المغربي حسان نخل بإجراء بحوث علمية على شجرة القطلب نشرت في دوريات متخصصة، وقد أثبتت الدراسة أن مستخلص أوراق القطلب يساعد في خفض ضغط الدم.

ذاكرة الوطن

حول كتاب «التاريخ المعاصر للموحدين الدروز» للدكتور عباس أبو صالح
ذاكرة الوطن في كل مكوناته

«لبنان أكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون أكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه»
(كمال جنبلاط: في كتاب «من أجل لبنان»)

د. أنطوان مسرّة
عضو المجلس الدستوري

ما معنى الإنتماء اذا كان التلميذ في الكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت لا يرى أين هو موقعه في تاريخ كـــل لبنان؟

لا يجب أن نخاف من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية
لأنها تساهم في إدراك الإنجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات اللبنانيين

تتجاهل غالباً المقاربة التقليدية والسائدة للبناء القومي، من خلال مركز يمتد بالقوة الى كل الاطراف، إشكالية التواريخ المحلية وتواريخ المكونات الدينية والثقافية، أملاً من هذه المقاربة السائدة بتحقيق الاندماج الوطني. أما البناء القومي بالمواثيق على نمط الديموقراطيات الأوروبية الصغرى (سويسرا، بلجيكا، النمسا، البلاد المنخفضة) ولبنان وايرلندا الشمالية وأفريقيا الجنوبية وجزر فيدجي… فهو يتطلب شمول التاريخ كل مكونات المجتمع المحلية والمناطقية والدينية في سبيل تنمية الإدراك النفسي، وبالعمق لإشكالية تكوّن الوحدة المشتركة والجامعة.
تتحوّل في هذا السياق الوحدة من مجرد شعار الى واقع حياتي معيشي، فلا نختزل تالياً تاريخ لبنان بجزء من جبل لبنان، بل نجعله يشمل تاريخ جغرافيا لبنان الكاملة، كما هي محدّدة في الدستور اللبناني وكامل مكوناته الانسانية. ما معنى إنتماء اذا كان التلميذ في الفرزل والكورة وبعقلين وكسروان ومرجعيون وبيروت… لا يرى أين هو في تاريخ كل لبنان؟
في لبنان ذاكرات طوائف ليست بالضرورة نزاعية، بل قد تكون متكاملة ونابعة من علم النفس التاريخي المتراكم بسبب موقع كل طائفة جغرافياً وخبراتها التاريخية. أدرك ذلك من خلال خبرتي البيروتية وانتمائي الى مذهب الروم الملكيين الكاثوليك وجذوري الارثوذكسية، وربما أيضاً الاسلامية في بعض فروع العائلة. التواصل الاسلامي المسيحي هو الخبز اليومي “لبيارتة” الروم الملكيين الكاثوليك والارثوذكس… الذين عاشوا غالباً في المدن وتعاطوا التجارة وتفاعلوا مع محيطهم اللبناني عامة والعربي. قد يكون الوضع مختلفاً – وليس دونياً – بالنسبة الى طوائف أخرى. فهل نأخذ في الاعتبار كل تواريخنا ونتصالح معها في تناغم مشترك وخلاّق؟
إن تجاهل الذاكرات التاريخية المتنوعة وحساسيات الذهنيات في عمق اللاوعي لدى نقل التاريخ لا يخدم علم التاريخ ولا يخدم الوحدة الوطنية. الخبراء في إثارة الفتنة، داخلياً واقليمياً، يستغلون الذاكرات الفئوية المكبوتة التي لم يتم إخراجها من اللاوعي لمعالجتها وتنقيتها. قد تتكامل عندئذ لبنانية البعض الاطلاقية وعروبة البعض الآخر الاطلاقية في عروبة لبنانية حضارية وليس عروبة السجون.
يتكلم عباس ابو صالح عن “حروب” في لبنان في “ظروف اقليمية ودولية”، وعن “معاناة اللبنانيين الكثير من ويلاتها ومآسيها”. يصدر كتابه، وبفضل جهود رفيقة عمره وامانتها ووفائها، في ظروف تحولات في المنطقة، اذ يوفّر جواباً على تكهنات تستهدف النسيج العربي التعددي فيبرز لنا تالياً “دور الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين ومواقفهم البطولية الى جانب مقاومتهم لمخطط التقسيم الذي ما زالت تسعى اسرائيل لتطبيقه من خلال الحروب الاهلية”.
يطرح الكتاب “آفاقاً جديدة للبحث”، مُركّزاً على “نضال الدروز المستمر في سبيل وحدة الاراضي في لبنان وسوريا”، ودورهم في تحقيق الاستقلال والدفاع عن الحرية الفردية واحترام حقوق المواطن، والعمل على الاصلاح السياسي والاجتماعي، وتمسكهم بـ”كيان لبنان المستقل دون دمجه كلياً أو جزئياً “، ومشاركة الدروز، بخاصة في معارك المالكية التي أسفرت عن نصر عسكري على الدولة الصهيونية “رغم امكانات الجيش المتواضعة”، واهمية تمسك دروز فلسطين بأرضهم.
يعتمد الكاتب على مصادر موثقة وغالباً اولية. أما غايته فيذكرها كالتالي: “بناء لبنان جديد، لبنان عربي ديموقراطي علماني موحد (…) والتقدير للأعلام والرموز الذين خدموا التاريخ“.
تبرز من خلال الوثائق والأحداث الممتدة أن “علاقة الدروز بالطائفة اليهودية لم تكن دائماً ودية وسلمية”. ولم يكن الدروز “أقل وعياً للخطر الاستيطاني الصهيوني”، وساهم تالياً “دروز سوريا ولبنان في دعم ثورة القسّام التي لا تقل شأناً عن مساهمة سائر القوى الوطنية في المشرق العربي”.

الأمير مجيد أرسلان لعب دوراً مهماً في حرب فلسطين ثم استقلال لبنان والزعيم كمال جنبلاط كان رائداً للإصلاح السياســي وفكرة العدالة الاجتماعية

مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958
مجاهدون دروز في المختارة اثناء انتفاضة 1958

تعبّر الوثائق الصهيونية بوضوح عن “الجهود التي بذلها قادة الصهاينة في فلسطين لوقف ومنع المجاهدين الدروز من الالتحاق بالثورة الفلسطينية 1936 – 1937”. وتجاه مساعي التجزئة وتقسيم الكيانات العربية، اتخذ الدروز “الموقف الوطني الصارم”. ويذهب الكاتب الى أبعد من ذلك فيقول: “تقضي الامانة أن من اختار البقاء في فلسطين قد فعل خيراً للوطن، لأن من مصلحة اسرائيل هدم الكيان اللبناني”. هل تتباين بين المذاهب هذه العلاقة العدائية مع الصهيونية؟ تظهر الوثائق الصهيونية “عدم ثقة الصهاينة بأية طائفة عربية في فلسطين بما فيهم الدروز”.
ويورد المؤرخ تقريراً جاء فيه: “إننا لا نستطيع تجاهل ولو للحظة واحدة تجربتنا ومعرفتنا للدروز والمسيحيين، إنهم بهذا لا يختلفون عن المسلمين بل ربما كانوا أسوأ منهم”. شارك الدروز في ثورة فلسطين (1939-1935) وقاوموا مخطط التهجير من منطقة الجليل وقاوموا شراء ما امكن من الاراضي في القرى والبلدات الدرزية في جوار حيفا والجليل. وطالب سلطان الاطرش أن يكون في عداد جيش الانقاذ عدد اكبر من المتطوعين الدروز. وفي آذار 1948 دخلت مجموعة شكيب وهاب الى منطقة الجليل في فلسطين ونزلت في بلدة شفاعمرو.
ما هو واقع الدروز في سوريا؟ شغلت زعامات درزية لبنانية، كالامير عادل ارسلان وعارف النكدي وغيرهما، مراكز مهمة في حكومة العهد الاستقلالي الاول في سوريا. يقول عباس ابو صالح: “إن موقع الدروز في سوريا ورغم اسهامهم الكبير في العمل الوطني بقي ثانوياً، والى الحد الذي خابت معه آمال الوحدويين ولاسيما وهم الذين سبق أن ناضلوا من اجل وحدة الوطن السوري خلال عهد الانتداب”. تاريخ الدروز في سوريا حافل بالتضامن الانساني. خلال 1943-1939 قام الامير مجيد ارسلان بزيارة لجبل الدروز في حوران في هذه الفترة الحرجة بهدف ارسال مزيد من القمح. وبادر بدوره كمال جنبلاط الى “توزيع محصول املاكه من القمح على المحتاجين خلال الحرب مساهمة منه بتخفيف هذه الازمة التموينية”.
لا يخفي المؤرخ صمت البعض خلال مرحلة 1942-1939: “البعض الآخر ظل صامتاً وكأنّ لا موقف له”. ويقول في مجال آخر: “إن حياد جبل الدروز كما حياد سائر الوطنيين في سوريا ولبنان لم يكن على ما يبدو مضموناً في نظر الحلفاء من دون رشوة سياسية أو ثمن ما يجب تقديمه للقوى الوطنية”. ويذكر ايضاً: “أن تعاون هؤلاء الافراد الدروز مع الصهاينة وانشاء وحدة عسكرية خاصة بهم في ما بعد لم يلقَ أي يوم قبولاً اجماعياً من دروز فلسطين”. أما عن عزوف قسم آخر من شباب القرى الدرزية في الجليل الاعلى عن الانضمام الى جيش الانقاذ يومذاك فيعزو ذلك الى فقدان هؤلاء للشعور القومي العربي”.
ما يستوقف في الكتاب الكلام عن شخصيات درزية مرموقة بخاصة كمال جنبلاط الذي “أخذ يمثل دوره الرائد في الاصلاح السياسي خلال عهد بشارة الخوري (…) متجاوزاً أي دور طائفي لخدمة مصلحة الدروز دون غيرهم (…) كان الشاغل الاساسي لكمال جنبلاط، في مرحلة الاستقلال وخلال عهد بشارة الخوري بالذات، الاصلاح السياسي وبالتالي الاهتمام بشؤون طبقة العمال والفقراء في المجتمع اللبناني بأسره، والتي لا تنحصر بالطبع بالموحدين الدروز أو بطائفة معينة في لبنان”. وللأمير مجيد ارسلان دور رائد في معركة المالكية.
ومن الشخصيات الدرزية البارزة التي يذكرها المؤلف فريد زين الدين ومحمد علي حماده وفؤاد ورشيد ارسلان وسلطان الاطرش… الدروز في فلسطين وسوريا ولبنان استقلاليون ومدافعون عن السيادة والاستقلال. يقول عباس ابو صالح: “كانت غالبية درزية في جبل لبنان تميل ايضاً الى معارضة مشروع سوريا الكبرى، وكذلك مشروع الهلال الخصيب”.
ما هو موقع الدروز في التوازن اللبناني؟ يذكر المؤلف أن مسألة تأليف حكومة احمد الداعوق في نيسان 1941، والتي لم يتمثل الدروز فيها كعادتهم، أثارت نقمة الرأي العام في مختلف المناطق الدرزية، وقدم وفد درزي برئاسة الامير مجيد ارسلان وحكمت جنبلاط – ممثل الست نظيرة جنبلاط على الصعيد السياسي – احتجاجاً بشأن حرمان الدروز في لبنان من هذا التمثيل للمندوب الفرنسي الجنرال دانتز. واذ عمد المندوب الفرنسي لتبرير الحرمان بتعيين أحد وجهاء الدروز، شفيق الحلبي، محافظاً على مدينة بيروت فإن زعماء الطائفة لم يقبلوا بهذا التبرير. وسبق أن اثار الامير مجيد ارسلان موضوع مشاركة الدروز في مجلس النواب في نيسان 1937.

غلاف-الكتاب
غلاف-الكتاب

ويذكر نشاط السفير سبيرز بعد اجتماعه بالبطريرك الماروني، ومن ثم بمفتي الجمهورية اللبنانية، وصولاً الى التسوية المقبولة، وهي المعروفة بصيغة ستة نواب مسيحيين لكل خمسة نواب من المسلمين أي ما يُعرف بالقاعدة الإحدى عشرية.
عن مشاركة الطوائف في الحكم ومشاركة الدروز بشكل خاص، يذكر الكاتب عدم معارضة النائب جميل تلحوق عند مناقشة الدستور تضمينه المادة 95 التي تنص على تمثيل الطوائف اللبنانية بصورة عادلة في الوظائف العامة، وذلك – كما يذكر عباس ابو صالح – “من باب الواقعية السياسية ايضاً”، وبسبب “خشية النائب جميل تلحوق من هيمنة الطوائف اللبنانية الكبيرة على الاقل عدداً كالطائفة الدرزية”.
ماذا يقول الكاتب عن ولادة الاستقلال اللبناني والميثاق الوطني؟ إنه يصف الميثاق اللبناني كالتالي: “الميثاق الوطني هو عبارة عن اتفاق عملي للعيش المشترك بين مختلف الطوائف اللبنانية في وطن واحد”.
رفض الدروز دائماً التدخل الاجنبي: “إن تعطيل بناء الدولة الحديثة والمجتمع اللبناني الموحد في ولائه للوطن، لم يكن بعد قيام الميثاق الوطني فحسب، بل بسبب اسرائيل وضربها للصيغة الوطنية اللبنانية الناقضة لأسسِها مما جعل البلد يسقط في مستنقعات الحرب الاهلية ومضاعفات الاحداث الاقليمية التي كانت تنفخها الدول الكبرى واسرائيل”.

رفض الدروز دائماً التدخل الأجنبي وقاوموا مشاريع الدويلات كما قاوموا تذويب لبنان في مشروع الهلال الخصيب وسوريا الكبرى

كتاب عباس ابو صالح هو مساهمة ضرورية ومفيدة كي يعرف اللبنانيون الدروز واللبنانيون عامة أنفسهم حسب تعبير كمال جنبلاط في كتابه: “من اجل لبنان”، اذ يقول كمال جنبلاط: “لبنان اكثر من دولة، إنه بلد أعظم تنوع ثقافي، وكان يمكن أن يكون اكثر غنى، وبما لا يقاس، لو أنه عرف نفسه. كان بوسعه حقاً أن يعطي العالم أمثولة، وأن يكون وطن التوفيق بين الثقافات، ورمزاً ضرورياً اكثر من مفيد، لأنه إنساني حقاً ، ولكُنّا أعطينا معنى جديداً للمساكنة الإنسانية، وقدمنا للمجتمع الحديث مثلاً عن جماعة مختلفة، ليست مجرد حشد من الأفراد على الطريقة الغربية، بل تجمع من الثقافات، أو قل “عصبة أمم” صغيرة”.
إن التواريخ المحلية وتواريخ الطوائف والمذاهب في لبنان، اذا ما قوربت بأمانة، تُظهر بوضوح أن تاريخ كل طائفة في لبنان – الا في الشؤون الفقهية واللاهوتية – هو اولاً تاريخ مساهمة مُميزة في البناء الوطني العام، وهو ثانياً تاريخ تواصل وتفاعل. لا نخشى تالياً من تنمية التواريخ العائلية والمحلية والمناطقية والمذهبية… في لبنان لأنها تساهم في ادراك الانجازات المشتركة وفي مصالحة ذاكرات فئوية مكبوتة في اللاوعي، في حين أن ذاكراتنا في لبنان، البلد الصغير ذي الدور الكبير، هي غالباً وواقعياً متناغمة ومتواصلة ومتفاعلة.

استفتاء الضحى الشبابية حول الزواج المختلط

استفتاء «الضحى الشبابية» حول الـزواج المختلط

79% لا يفكرون به و 84% لا يقبلون الخروج من الأهل

أبرز الموانع في تفكير الشباب الدرزي
العقيدة ورضا الأهل ومشكلة الأولاد

أهم مشاكل الزواج المختلط هي الندم على ترك الأهل
وتراجع الحب واختلاف الزوجين بشأن دين الأولاد

أجرت “الضحى الشبابية” استفتاء رأي ميدانياً للشباب الدروز حول موضوع الزواج المختلط، وتناول البحث عينة من 154 شخصاً وكان تركيبها كالتالي:

ذكور:45% إناث 55% أما التمثيل المناطقي فجاء كالتالي: الشوف: 38% عاليه: 23% راشيا-حاصبيا: 22% المتن: 12% وبيروت: 5%، وهو تمثيل يعكس إلى حدٍّ كبير الثقل النسبي لكل من مناطق تواجد الشباب الدروز. 93% من حجم العينة كانوا من الجامعيين أو طلاب الدراسات العليا و75% اعتبروا أنفسهم من أصحاب الدخل المتوسط، في مقابل 20% اعتبروا أنفسهم “فوق المعدل” أو من أصحاب المداخيل المرتفعة. 58% من الذين أجابوا على أسئلة الضحى الشبابية كانوا ما بين الـ 20 و24 عاماً و38% أقل من 20 عاماً، أما الفئة التي يزد عمرها على 25 سنة فلم تمثل سوى 4%.
وبهذا المعنى، فإن العينة رجحت التمثيل الشبابي والجامعي والطبقة الوسطى أو ما فوقها، وهو تمثيل يعكس إلى حد كبير الفئة المعنية بالزواج، كما أن النسبة المرتفعة للجامعيين استهدفت دراسة تأثير البيئة الجديدة على موقف الشباب الدروز من الموضوع.
نلفت النظر إلى نسب الإجابات على بعض الأسئلة تفوق الـ 100% نظراً لأن الاستفتاء سمح في بعض الأسئلة باختيار أكثر من إجابة على السؤال نفسه.

لكن، ماذا عن النتائج؟
بصورة عامة لم تكن الصورة العامة للإجابات مفاجئة، إذ عكست آراء الذين تمت مقابلتهم الرأي العام المحافظ تجاه الزواج المختلط لدى الشباب الدروز، كما هو لدى شباب الطوائف اللبنانية الباقية، مع العلم أنه لا تتوافر لدينا إحصاءات تظهر النتائج المقارنة حول الموضوع نفسه التي يمكن أن يعطيها أفراد الجماعات اللبنانية الباقية المسيحية والإسلامية.
الموقف العام من موضوع الزواج المختلط ظهر في إعلان 79% من المجيبين أنهم لن يتزوجوا من خارج البيئة الدرزية، في مقابل 11% قالوا إنهم مستعدون للزواج من طوائف أخرى و10% قالوا أنه ليس لديهم موقف من الموضوع. يلاحظ أن نسبة المعارضين للزواج ارتفعت إلى 86% عندما طرح السؤال: هل أنت مستعدٌّ للزواج من خارج الطائفة على الرغم من معارضة الوالدين. مما يعني أن عامل قبول الأهل ما زال مهماً في حياة الشباب الدروز. وقد انخفضت بسبب هذا السؤال نسبة الذين قد يفكرون بالزواج المختلط إلى 8%، كما تراجعت إلى 7% فئة الذين ليس لديهم موقف من الموضوع.
وأوضح الاستفتاء أهمية الاعتبار الاجتماعي في موقف الشباب الدرزي من الزواج المختلط، إذ اعتبر 63% من المجيبين أن المركز الاجتماعي للشريك عامل مهم في الزواج في مقابل 26% لم
يعتبروه مهماً.

الموقف من الأهل
وكشف الاستفتاء في هذا السياق عن وجود اختلاف في مفاهيم الشباب الدرزي تجاه موضوع الوالدين وأهمية أن يكونا موافقين على الزواج، إذ أن الأشخاص أنفسهم الذين اعتبروا رضا الأهل مهماً للزواج تبدلت إجاباتهم عندما سئلوا إذا كانوا يعتبرون الزواج ارتباطاً يخص الشريكين فقط، أم يخصهما مع الوالدين أو مع الأهل بالمعنى الواسع. فقد أجاب 36% أن الزواج يخص الشريكين فقط، بينما اعتبر 22% أن الزواج يخص الشريكين مع الوالدين، و31% أنه يخص الشريكين مع العائلة الأكبر بمعناها الواسع. والواقع أن هذه النسبة يمكن تفسيرها في حرص الشباب ولا سيما الفتيات منهن على تأكيد حقهن في اختيار الشريك من دون تدخل من الأهل لكن دون أن يعني ذلك الموافقة على الزواج من خارج الطائفة، إذ أن كلاً من الموضوعين يمكن اعتباره مستقلاً عن الآخر نسبياً، فقد تصر الفتاة على حقها في اختيار الزوج من دون ضغط الأهل لكن دون أن يعني ذلك التفكير بالزواج من خارج الطائفة.

الانضباط بالأسرة
بكلام آخر، فإن الشباب الدرزي يقول إن اختيار الشريك يعود إليه لكنّه يؤكد في الوقت نفسه على أن رضا الأهل عامل أساسي لإتمام الزواج، إذ وافق 85% على أن رضا الوالدين عامل أساسي لإتمام الزواج، بينما اعتبر 8% فقط أن رضا الأهل ليس ضرورياً لإتمامه. وهذه النسبة قابلة للمقارنة بالأجوبة التي حصلنا عليها على السؤال السابق وهو استعداد الشاب أو الشابة للزواج من خارج الطائفة.
وانعكست النظرة المتشككة إزاء الزواج من خارج الطائفة في مؤشر آخر مهم، إذ اعتبر 6% فقط من المجيبين بأن فرص نجاح الزواج المختلط “مرتفعة” في مقابل 46% اعتبروا فرصة النجاح منخفضة و 26% اعتبروا فرصة النجاح “متوسطة”، بينما أجاب الباقي أو نسبة 19% بأنهم لا يملكون موقفاً.


الانضباط بالعقيدة
أظهر الاستفتاء أن المعتقد أو الانتماء المذهبي يلعب دوراً مهماً في تحديد موقف الشباب من الزواج المختلط. إذ أن 70% من المجيبين قالوا إن تمسكهم بعقيدة التوحيد هي السبب الأول لرفضهم الزواج من خارج الطائفة ورد 68% السبب التعلق بالوالدين والأسرة وعدم طاقتهم على احتمال الخروج عن المنزل الأبوي. وبهذا المعنى نفسه فلقد قال 85% من المجيبين على الاستفتاء بأنهم يرفضون تبديل مذهبهم أو دينهم لتسهيل الزواج من خارج الطائفة، بينما أعلن 7% أنهم مستعدون لتبديل انتمائهم الديني أو المذهبي في سبيل الزواج بمن يختارون.

لماذا يحصل الزواج المختلط؟
كيف ينظر الشباب الدرزي إلى الزواج المختلط، وما هي في نظرهم الدوافع التي قد تجعل البعض يتجه إليه؟
الرأي العام الغالب (نحو 75%) يعطي للحب الدور الأهم في قيام علاقات تنتهي بالزواج المختلط، بينما يرد 44% ذلك الزواج إلى أفكار مثالية ترفض التمييز على أساس اجتماعي أو طائفي أو غيره. في المقابل، فإن نسبة أقل اعتبرت الزواج المختلط نتيجة لعدم الخبرة (16%) أو للنقص العاطفي (22%) أو الجهل بالنتائج (35%) أو عدم الاكتراث برضا الأهل (20%) أو عدم الاكتراث بشعور المجتمع الدرزي عموماً (24%).

لماذا يتعثر؟
إذا كان 6% من الشباب الدرزي فقط يعتقدون بنجاح الزواج المختلط، فما هو رأي الذين يعتقدون خلاف ذلك؟ وما هي أبرز الأسباب التي يعتقد المشككون أنها تؤدي إلى تعثر الزواج المختلط؟
النسبة الأهم (74%) ترد تعثر الزواج المختلط إلى اختلاف الزوجين بشأن أي دين يتعين على الأطفال إتباعه، بينما يرى51% السبب في “شعور العزلة والندم على الخروج على الوالدين” و50% في “اختفاء الحب وبدء الخلافات”، أو في ظهور الهوة على حقيقتها في القيم الثقافية والمجتمعية لكل من الشريكين.

الأهمية الخاصة لموضوع الأولاد
أظهر استفتاء “الضحى الشبابية” أن موضوع الأولاد وهويتهم الدينية ومشكلة تربيتهم ووفق أي منهج يعتبر عاملاً محورياً في تعثر الزواج المختلط. وأجاب 75% أنهم يعتبرون الهوية الدينية للأولاد موضوعاً جسيماً ومهماً (في مقابل 17% اعتبروا الأمر غير أساسي) و8% قالوا إنهم لا يملكون جواباً. وبالمعنى نفسه، فقد اعتبر 76% من المجيبين أن اختلاف الدين بين الزوجين يسبّب مشكلات للأولاد في المستقبل في مقابل 14% لم يوافقوا على ذلك.

مراجعات و إصدارات جديدة