الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الجبن يفسد الميل ويقطع الحيل

شـــــاور ســـــواك إذا نــابتك نائبة وإن كنـــت من أهل المشـــــورات
فالعـــــين تنـظر ما دنا وما نــــأى ولا ترى نفســـــــــها إلاّ بــــــــمرأة
(أحد الشعراء)

كلمة “أجير” شائعة عند القرويين للرجل الذي يخدم عند سيده طيلة حول كامل لينقده أجره آخر السنة بعد تقديم المأكل والمشرب والكساء وحتى الحذاء خلال خدمته.
أما الأجر السنوي للأجير، فيختلف من فلاح إلى آخر، أو من سيد الى سيد حسب الاتفاق، وحسب المحاصيل والمداخيل.
فمنهم من يأخذ أجره قمحاً أو حبوباً عند الذين يتعاطون زراعة المحاصيل، ومنهم من يأخذه زيتاً أو زيتوناً عند أصحاب كروم الزيتون، ومنهم من يأخذه ماعزاً أو غنماً أو عجولاً عند مالكي المواشي، وذلك كله حسب المتفق عليه.
أما ما نحن بصدده، فهو أجير يرعى الماعز عند أصحابها في إحدى قرى وادي التيم الأعلى. وكان الإتفاق بينه وبين المالك عند نهاية العام أن يقف الأجير وسط الزريبة، وكل رأس ماشية يتمكن من رفعه ورميه خارجها يكون من نصيبه، أي من أجره. صاحب الماعز عارف وعالم بنتيجة الاتفاق، حيث دأب على تزويد الراعي بالجبن كغذاء يومي حسب الاتفاق، إلى أن كانت نهاية العام (العام الزمني عند القرويين للأجراء يبدأ من عيد الصليب في أواخر أيلول وينتهي في التاريخ نفسه من السنة التالية).
عندما بدأ الأجير، محاولاً أن يرفع أحد الرؤوس الكبيرة (أي ما يسمى بالكراز) قصد رميه خارج الزريبة، وقف عاجزاً عن إتمام ذلك. ثم استصغر رأساً آخر، ولكن النتيجة كانت نفسها، بعدها تقدم جدي صغير، ولم تكن النتيجة أفضل من سابقاتها أيضاً اصفرَّ وجهه، ثم لوى برأسه وخرج كسير الخاطر الى والدته التي تنتظر أجره كي تعتاش منه وتفي دينها المتراكم طوال العام.
احتارت الأم في أمرها، وكيف يأكل تعب ابنها رجل غني محتال، وهي فقيرة معتلة الجسم والجيب أيضاً؟ ماذا تفعل؟ وكيف تتصرف؟ وما العمل لاسترجاع حق ابنها؟
راود فكرها مثل يقول: “شاور ألف، وخالف ألف، ثم ارجع لمشورة نفسك”. إذاً، عليها مشورة جارها أبو علي، ذلك الرجل الرصين العاقل علّه يرشدها إلى سبيل استرجاع حق ابنها، أو – وهذا هو الأهم- علّه يعرف ما السبب في تأخر قدرة جسم ابنها، مع العلم أنه كان كالحصان يسابق الريح والفرسان.
قصّت لجارها ما حدث مع ابنها، وكيف فشل في رفع حتى جدي صغير وخسر بالتالي الشرط وأجر العام.
هزّ أبو علي رأسه وقال: “ماذا كان يقدم صاحب الماعز لولدك من طعام؟ قالت: “أنه كان يكرمه بتقديم الجبن له يومياً، فيأكله وهو مسرور بطعمه اللذيذ الطيب”.
هنا تكمن الحيلة يا أختي عند صاحب الماعز، ألا تعلمين أن الجبن يقطع الحيل ويفشل الجسد. اذهبي لصاحب الماعز من جديد، وجددي الاتفاق معه شرط أن لا تعلميه بشيء، وعندما يتم الاتفاق أوصي ولدك بأكل الحليب الطازج يومياً ورمي الجبن جانباً، وأنا الكفيل بأنه سيرفع الكراز وليس الجدي آخر السنة.
وهكذا حدث. فعندما عاد الشاب يرعى الماعز، كان يضع الجبن في جوف (قرقارة) زيتونة رومانية قريبة من الزريبة، ثم يعمد إلى شاة فيحلبها ويأكل حليبها الطازج.
في نهاية العام، وعندما حان أخذ الأجر، وقف الشاب كالمارد وسط الزريبة يختار أفضل الماعز وأكبرها، ثم يرفعها ويرميها خارجها الى أن أتى على آخرها وصاحبها واقف ذاهل مندهش. كيف تغيّرت قوة الراعي؟ ثم صرخ به :”ألا تترك لي رأساً واحداً؟”.
ضحك الشاب بسخرية، وقال :”ألم يكن في إمكانك إعطائي رأساً واحداً بدل إيجار العام الماضي؟”.
تمتم صاحب الماعز، ثم قال: “لك ما تريد، لكن أخبرني ماذا كنت تفعل بالجبن الذي أزودك به يومياً؟”.
ضحك الراعي وأجاب:”أنظر الى تلك الزيتونة كيف يبست من جذورها، وقد حصل لها ذلك بفضل جبنك الذي يقطع الحيل ويقضي على الأخضر واليابس”.


المكاري الفطن
كذب المنجمون ولو صدقوا
(حديث شريف)

“للخط”، والشعوذة، والسحر مفعول خطير على البسطاء من الناس خصوصاً في العصور السابقة وربما عند البعض في عصرنا الحاضر.
روى أمامي أحد أبناء قريتنا، وكان قد قضى قسماًَ من حياته مغترباً في المهجر، عن رجل رافقه في غربته يدعى علي من بلدة نيحا الشوف. كان يعمل قبل سفره مكارياً في نقل الحبوب من جبل الدروز الى بلدته قصد التجارة وتأمين رزق عياله.
قال: “بينما كنت عائداً بتجارتي يوماً، مررت بإحدى قرى وادي التيم الأعلى، وكان الوقت ليلاً، والطقس ماطراً، والبرد والزمهرير يعضان كياني. طرقت عدداً من أبواب المنازل، فلم يرد على طرق الباب إلا القليل. وعندما كان البعض يفتحون الباب ويشاهدون دابّتي معي، يقولون ربما كان في ودنا استقبالك، غير أن دابتك ليس لها مكان عندنا. وقد بقيت حتى الهزيع الأخير من الليل، وأنا أتنقل من منزل إلى منزل، ومن حارة إلى حارة، والأجوبة نفسها تطرق سمعي”.
“بعدما أعياني الصبر وأنهكني البرد وانهمار المطر، شاهدت من بعيد بيتاً منعزلاً يلتمع ضوء في داخله. وعندما اقتربت منه، سمعت صوت هرج ومرج، وصراخ وتوجّع. لكنني تجاسرت وطرقت بابه، وإذا برجل يطل من النافذة ويقول :”يا أخي، كان أهلاً وسهلاً بك لولا أن المرأة جاءها المخاض، وهي بحالة صعبة من الضيق وعسر الولادة، ولا نعلم ما العمل، وكيف الخلاص؟”.”
ربما عسر المكاري يوازي تعسّر المرأة التي تلد. لهذا، فما أن حادثه زوجها، حتى أجابه قائلاً :”يا أخي، أعتقد أن خلاصها على يدي سهل بإذن الله”.
ما إن سمع الزوج هذه العبارة، حتى خرج من الباب مهللاً ومرحباً، قائلاً:”كيف ذلك؟”، أجاب المكاري:”إعتدت في قريتي ان أكتب بعض الحجابات لمثل هذه الأمور، وعندما تضعها النساء تحت رأس المولّدة، لا يمضي من الوقت إلا قليله حتى تكون المرأة قد انجبت وتخلصت من آلام المخاض”.
رحّب زوج المرأة أجمل ترحيب بالضيف، ثم ادخله منزله بسرعة كي يكتب الحجاب.
أخرج صاحبنا المكاري من جيبه ورقة وكتب عليها بعض العبارات، ثم طواها بشكل مثلث وربطها بقطعة قماش محكمة الربط وناولها لزوجها، قائلاً:”الفرج قريب بإذن الله، شرط أن لا يفتحها أحد كي لا يتغيّر فحوى مدلولها”.
وما أن وُضِع الحجاب تحت رأس المرأة بعض الوقت، حتى علا الهرج من غرفة النساء، ورنات الضحك والفرح والمرح والمنادات – صبي – صبي – صبي، لنا البشارة، منادين على زوجها، مهلّلات مزغردات .


لا تسل كم كان لصاحبنا المكاري من تكريم وتبجيل بعد الذي حصل. فالدجاج المحشي عشاؤه، والمغلي مع الجوز واللوز مشروبه، والشعير والتبن للحمار غذاؤه.
حدث هذا، والمكاري صاحب الحظ السعيد ذاهل بين الحقيقة والحلم. فبعد التهنئة والمباركة عمد الى طلب الحجاب كي لا يفضح أمره قائلاً:”لربما إحتاجته إمرأة أخرى”.
عند الصباح، ودّع من قبل مضيفه بكل إكرام واحترام، محموداً مشكوراً، مزوداً بالعديد من الهدايا.
فالمولود وحيد ومن بعد طول انتظار، لكنه في قرارة نفسه، وهو معتل ظهر الحمار راجعاً، كاد ينفلق من الضحك ويسقط أرضاً وهو يردد ما كتبه في حجابه:”ما زال تأوى علي والحمار، إن ما ولدت بالليل بتولد بالنهار”. لكن الولادة كانت ليلاً، والحظ جلب لهذا المكاري الفطن أكثر بكثير مما كان يحتسب ويطلب.

للتاريخ فقط عروس تُزَفّ من المختارة إلى حاصبيا فلا تمر إلاّ في أرض زوجها وبيّا
للذكرى، للتذكير، للرجوع إلى الماضي القريب. وإن يكن لا يروق للبعض سماعه، إلا أن الحقيقة والواقع يجب أن يقالا دوماً.
منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر، رغب زعيم وادي التيم الجنوبي آنذاك، الوجيه سليم بك شمس، في زفاف ولده طاهر من زاهيّة ابنة نجيب بك جنبلاط، زعيم الشوف وسيّد المختارة.
أعدّت العدّة لذلك الفرح الكبير، فالوقت صيف، والناس جنوا المواسم وملئت الكواير والجرار، وتلبية دعوة الكبار واجب وتقرِّب من هم أسياج الأرض وحماة الدار والجار.
الدعوة وجّهت للجميع، كباراً وصغاراً فرساناً ومشاةً، وجمهور المحتفين يزداد عدده كلما مرّ بقرية إذ ينضم إليه شيوخها وشبانها حتى بلغ الوفد المرافق للعريس المئات عند وصوله إلى قصر المختارة منزل والد العروس.
بقيت الأفراح عامرة نحو يومين كاملين، والكل ممتلئ فرحاً ومرحاً وغبطة وتكريماً، إذ غصّت الباحات الداخلية والخارجية بحلقات الرقص والدبكة ولعب السيف والترس، ونصب ميادين الخيل، والكر والفر من وقت لآخر.
حدثني عن هذا الفرح رجل غيبه الموت منذ أمد بعيد، من بلدة راشيا الفخار، بعدما عاش عمره كاملاً، قال:
“كان من جملة من دعي للذهاب الى جلب العروس، جدي لأمي، نقولا عبدالله الخوري، شاعر الفرديس والمنطقة آنذاك، لأنه بالحقيقة كانت لا تتم الأفراح إلا بحضوره فهو سيّدها وشاعرها، وللمناسبات الاجتماعية علَمُها وقيدومها.
المهم أن حلقات الرقص والدبكة، أقيمت يومها، وفقاً للتقاليد، لكل جنس بمفرده فالرجال تغص بهم باحات القصر الخارجية وجنائنه، والنساء ملأن القاعات الداخلية، والكل يتبارون رقصاً ودبكة وغناء وحداء، وسيّد ذلك كله، الزجل والشعر الشعبي والتباري بهما. سيّد الشعراء الموجودين هنالك، كان شاعر الفرديس ومختارها نقولا الخوري، من حيث بلاغة شعره وتنظيم فرقته المرافقة له. وفرقة الزجل مع الدف والشبّابة، آنذاك، لا يوازيها أو يشابهها في عصرنا الحاضر أي فرقة موسيقية مهما علا تنظيمها وكثرت آلاتها. وبالطبع، وبسبب ما كان لشاعر الفرديس وفرقته من شهرة ومكانة في طول الجبل وعرضه فقد بادرت والدة العروس وأنجالها، علي وفؤاد، والد الزعيم كمال جنبلاط الى استدعائه للغناء والقول أمامهما وأمام جمهور المحتفلين والمحتفلات. فكانت له قصيدة زجلية طويلة يفوق عدد أبياتها المئة بيت، توّج مطلعها بالأبيات التالية:


يــللـــي مـــــا شــــاف الجـنــة يقصــــد دار المخـــــــــــــتارة
الله يخليـــــــــــلك هِنــــّـــــــــي هالجوز مـثـــل القــــــــــمارة
أنا شاعــر من الفرديـــــــس هزّلي الشــــوق ســريــــــري
بقـدّس هالديري تقديــــس الِمثــــلا مـــا خلــــق ديــــــري
أسّســـــنا الإلفـــي تأسيــــس وعـنا لو سْألتــــو الجيــــري
عشنــــــا زنبــــق عمبيمــيس سنـــــّي ودروز ونـصـــــــارى
ويلـــــّي مـــا شـــاف الجــــنـة يقصـــــــد دار المخــــــتــــارة
بعد فراغ الشاعر من إنشاد قصيدته، قلّدته والدة العروس عباءة وضعها على كتفه نجلها فؤاد، بقيت بحوزته يفاخر بها أكثر من نصف قرن، بعد أن وضعها في خزانة زجاجية زين بها صدر منزله.
لكن، بعد وفاته، توجه أولاده نحو المهجر، فانتقلت العباءة إلى بيت حفيده في بلدة راشيا الفخار لتضيع أو تهمل في ما بعد.عند الانتهاء من مراسم الأفراح، نهض الموكب صباحاً إلى سهل بسري، فقرى وادي جزين، فإلى عين مجدلي، ثم كفرحونة، وصولاً إلى القطرانة.
وجميع هذه القرى التي مرّ بها المحتفلون وما يحيط بها من أملاك تخص آل جنبلاط والد العروس. بعدها إنتقل الوفد عبر طريق مزرعة حورتا، فإلى برغز، ثم كوكبا، فوصولاً إلى منزل زوجها في حاصبيا، وهذه أيضا أملاك تخص زوجها، مع العلم أن مزرعة حورتا كان قدّمها جدّها لأبيها، الشيخ بشير جنبلاط، إلى جدّي عريسها، الشيخ خليل شمس بعد اقترانه بإبنة الست إم علي نايفة جنبلاط شمس. وهكذا صح القول الذي تداوله الناس لفترة من الزمن:
“عروس تنتقل من المختارة إلى حاصبيا، فلا تمر إلا بأرض زوجها وبيّا”.

ليرات ذهب الشيخ أبو اسماعيل ..والملفوفة

“والإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك”
ابن عمر

ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل
ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل

كان الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين رجلاً صادق القول وثاقب الرأي، وكانت حياته جهاداً للنفس وإصلاحاً للمجتمع وعوناً لأهالي زمانه في أمورهم حتى غدا مرجعية ثقة وصلاح يقصدها الناس من مختلف الطوائف كما قال عنه الأديب سلام الراسي.
افتتح الشيخ أبو اسماعيل محلاً لتجارة المنسوجات في سوق حاصبيا في أواخر القرن التاسع عشر، فكان بعمله هذا من أوائل المتعاطين من الدروز بهذه المهنة وقد كانت هذه حتى ذلك التاريخ محصورة ببعض كبار التجار المسيحيين في البلدة. وبسبب ما تحلّى به من طيب الخلق وحسن المعاملة فقد ذاع صيت الشيخ واتسعت تجارته وثروته وغدا فوق ذلك مقصداً للجميع الذين كانوا يودعون الأموال لديه على سبيل الأمانة أو يقترضونها منه دون أي فوائد لسد حاجات أو أغراض معينة.
في أحد الأيام طرق باب الشيخ رجل قدم من إحدى قرى المنطقة، وبعد السلام والتحية، خاطبه قائلاً: ” لقد سمعت عن أعمال الخير التي تقوم بها، وأنا رجلٌ ضعيف الحال، كثير العيال، وأحتاج لأن أنشئ تجارة هي عبارة عن محل سمانة يؤمن أود أسرتي لكن يلزمني لذلك خمس ليرات ذهبية وأنا أعدكم بأنني سأعيدها لكم مع قسم من أرباحي إذا رغبتم”.
تفرّس الشيخ أبو اسماعيل في وجه الرجل مليّاً، ثم سأله إن كان يملك ما يقدمه كضمان للدين. وعلى ذلك أجاب السائل بأنه فقير الحال ولا يملك إلا الكوخ الذي يعيش فيه مع أسرته. وبعد تفكر برهة نهض الشيخ أبو اسماعيل إلى صندوق حديدي في زاوية الغرفة ففتحه وأخرج منه خمس ليرات ذهبية دفعها إلى الرجل طالباً منه أن يستخدمها في تأسيس عمله على أن يعيدها عندما تروج تجارته. وحرر الشيخ الدَّين في صك من نسختين وناوله الليرات الذهبية بعد أن لفّها بنسخة من الصك بينما احتفظ هو بنسخة الصك الثانية.
انكب الرجل على يد الشيخ يريد تقبيلها، لكن الشيخ استنهضه بعدما استغفر الله، ثم دعا له بالتوفيق والنجاح، وانصرف الرجل نحو بلدته شاكراً حامداً.
أسدل الليل ظلامه قرب مناجم الحمّر(*) المحاذية لنهر الحاصباني، والرجل في طريقه نحو بلدته، وقد كان السير ليلاً في تلك الأيام مجازفة حقيقية بسبب قطّاع الطرق ولصوص الليل الذين كانوا يتربصون بالمسافرين. لذلك فقد استبشر الرجل عندما لمح ضوءاً يشع من أحد البساتين المجاورة فاتجه إليه فإذا هو منزل لشيخ طاعن في السن من آل الحرفاني الذي سمح له بالمبيت عنده وقدم له العشاء وواجب الضيافة ثم ناوله غطاءً من الصوف، “وسلخ ” جلد خروف، وأبقاه في القسم الأرضي من العرزال الذي يصطاف به مع عائلته.
انقضى السواد الأعظم من الليل، والرجل يتقلب في فراشه لا يأتيه النوم خوفاً على المال الذي يحمله. وقد بلغ به الهاجس حداً جعله يقرر أن يخبئ ليراته الذهبية في إحدى ملفوفات البستان على أن يجمعها في الصباح لدى المغادرة. وبالفعل فقد تذرع الرجل بقضاء حاجة وجال في البستان حتى وجد ملفوفة ألقى بالليرات الذهبية داخل أوراقها وعاد نحو العرزال ملتحفاً غطاءهُ حتى الصباح.
لكن حدث أن الرجل استفاق ولم يستطع أن يتذكر في أي ملفوفة خبأ ليراته الذهبية. فبستان الملفوف كبير والملفوفات تتشابه كثيراً وقد شق عليه في الظلام أن يحدد فعلاً في أي منها وضع ثروته الصغيرة. حزن وتألم لما آل إليه مصير تلك الثروة التي فرح بها، واحتار في أمره، وعاب على نفسه أن يعلم مضيفه، بما فعل لأن في ذلك شيء من قلّة الثقة بمن استضافه وأكرمه. لذلك فقد قرر أن يكظم على نفسه وينام على جرحه، ثم شكر مضيفه وتابع طريقه نحو بلدته خالي الوفاض.
مضى يومان أو أكثر، عمد بعدها صاحب البستان إلى حقل الملفوف، فقطع منه حمل دابّة وأتى سوق حاصبيا، حيث باعه إلى التاجر أبو يوسف محمد الحلبي. في اليوم نفسه مرّ الشيخ أبو اسماعيل في سوق حاصبيا، وقد كان دكانه لا يبعد إلا قليلاً عن دكان بائع الخضار. استوقف الشيخ أبو اسماعيل منظر الملفوف المقطوف لتوّه، فطلب من البائع أن يزن له إحدى الملفوفات، ثم نقده ثمنها وأرسلها إلى منزله.
لكن ما أن فتحت زوجة الشيخ أبو اسماعيل الملفوفة قصد طبخها حتى ذهلت إذ وجدت خمس ليرات ذهبية ملفوفة بصك من الورق داخلها. احتارت في تفسير هذا الأمر المستغرب لكنها قررت أن تودع الليرات الذهبية خزانة البيت في انتظار عودة زوجها عند المساء.
أكل الشيخ أبو اسماعيل من طبخة الملفوف الشهية التي أعدّتها زوجته ثم شكرها على مهارتها مضيفاً القول: ” حقاً إن الملفوف لمن الأغذية اللذيذة والنافعة”.
هزّت الزوجة رأسها وأكملت قائلة : “وأكثر من ذلك، يجلب معه الذهب والدراهم. تفضّل ، هذا ما وجدته داخل تلك الملفوفة التي أرسلتها لي في الصباح “.
فتح الشيخ الصكّ، ثم قلّب الليرات بيده وأعاد قراءة الصك المرفق. ثم هزّ برأسه تعجباً واستغراباً، اتجه بنظره نحو زوجته وقال:” حقاً إن المال الحلال يعود لصاحبه. هل تعرفين يا أم اسماعيل لمن هذه الليرات؟ وهل تذكرين ذلك الرجل الذي كان عندنا من يومين؟”.
أجابت : “نعم، أذكر جيداً ذلك الرجل الذي كان بجانبك في “المقعد” (وكان يقصد به الصالون في تلك الأيام) لكنني لا أعلم ما الذي جرى بينكما آنذاك. عندها روى لها قصة الرجل واستدانته لليرات الذهبية لكنه بقي متعجباً جداً من هذه الحادثة الغريبة وهو يسأل نفسه: “كيف وصلت تلك الدراهم إلى داخل الملفوفة؟ .ومن أين اشترى تاجر الخضار تلك الملفوفة وغير ذلك من الأسئلة التي بقيت دون أجوبة.
مضى على تلك الحادثة نحو أسبوع من الزمن، وإذا بالرجل نفسه يطرق باب الشيخ مجدداً فيخاطبه قائلاً: ” حيّاك الله يا عم أبو اسماعيل وأبقاك وأمدّ بعمرك. ها قد تعودنا على فضلك الكريم وخيرك العميم. فهلاّ مننت علينا بخمس ليرات أخريات، وما لنا غير بابك نطرق”.
هزّ الشيخ رأسه متعجباً ثم أجاب بعد تفكير: ” وماذا فعلت بتلك الليرات التي أخذتها يا بني؟ وهل صرفتها على تجارتك جميعها؟”

قال :” نعم، صرفتها على تجارتي لكنني ما زلت في حاجة إلى مبلغ مماثل كي أكمل ما نحتاج إليه من بضاعة وحوائج”.
عرف الشيخ في سريرته إنه أمام رجل مخادع وحاول الحفاظ على هدوئه ثم قال له: “سأعطيك ما تريد، لكن شرط أن تجيبني بصدق عمّا أسألك”.
– ” تفضّل واسأل يا حضرة الشيخ”.
قال الشيخ: “هل تقسم بالله العظيم ماذا كان يدور في نفسك عندما قصدتني لاستدانة المال في المرة السابقة؟ قل ولا تخف إلاّ ذنبك، ولا ترجو إلاّ ربّك..”.
طأطأ الرجل رأسه خجلاً، ثم تمتم بعبارات غير مسموعة، بعدما شعر في قرارة نفسه أن الشيخ مطلع على شيء ما يتعلق بقصته.
وألح الشيخ مجدداً بالسؤال: ” أستحلفك مجدداً أن تقول الحقيقة ولا تخف إلاّ ربّك”.
قال الرجل عندها: “اغفر لي وسامحني يا شيخنا الكريم. فقد وسوس الشيطان في صدري حتى فكرت فعلاً بأنني إن حصلت على المال فإنني لم أكن لأرده أليك خلافاً لما وعدتك”.
أردف الشيخ : “وماذا كانت نيتك هذه المرّة وقد جئت تطلب المزيد من المال؟”.
ارتبك الرجل كثيراً واعتذر عن سوء فعله طالباً الصفح والعفو من الشيخ الذي أردف بالسؤال: “لكن أخبرني بما حدث معك في المرة السابقة، وأين وضعت ليراتك وكيف أضعتها واعلم يا بني أن الصدق طريق النجاة”.
صعق الرجل وقد أيقن عندها أن الشيخ أبو اسماعيل مطلع على قصة إضاعته للمال وأنه ربما تمكن من استرجاعه بطريقة ما فاحمّرت وجنتاه وتمنّى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه، لكنه قرر مع ذلك الإقرار بما حصل وروى للشيخ ما حدث معه عند صاحب البستان وكيف أضاع ليراته الذهبية التي كان قد اعتزم عدم ردها له. عندها أنبأه الشيخ بأن المال والصك عادا إليه مردداً القول المأثور “المال الحلال بيرجع لصاحبه ولو بعد حين”، مضيفاً “إنما الأعمال بالنيات. فأحسنوا سرائركم وأخلصوا نياتكم والله تعالى الرقيب العليم”.

رزق الله على زمن كانت الشعرة فيه صك رهن
أثناء الحرب العالمية الأولى، اجتاحت بلادنا موجات من الجراد الصحراوي أكلت الأخضر واليابس كما كانوا يقولون، فتفشّى الجوع في كل مكان، وعمّ الفقر معظم المناطق والبلدان، ولم ينجْ منه إلاّ من توفّرت لديه بعض الموارد المالية أو الاقتصادية، والتي ربما كان مصدرها بلاد الاغتراب، أو إرثاً من الآباء والأجداد. لذا عانى الفلاحون الأمرّين لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم، وقاسى الكثيرون منهم في سبيل ذلك.
شاع خبر في منطقة وادي التيم مفاده، أن رجلاً كريم النفس، ميسور الحالْ في بلدة حاصبيا، يُدعى أبو خليل إبراهيم رشيد حبيب. ذو أريحيّة فيّاضة، ونفس طيّبة، يمد يد العون إلى المحتاجين، ولا يرد طلب سائل مسكين. سريع البديهة، محدّث لبق، حاضر النكتة والخاطر، ومعظم أحكامه الاجتماعية كانت صائبة وتنم عن فراسة نافذة وحنكة.
علم بأمر هذا الرجل فلاّحٌ من بلدة عين عطا، فقير الحال لكن عزيز النفس، يملك ثوراً وحيداً للفلاحة، وهو ما لم يكن يكفي قبيل موسم الزرع وحراثة الكروم. لذا قرّر أن يقصد باب ذلك الرجل ويطلب منه مبلغاً من المال لشراء ثور آخر، وذلك بمثابة دين يردّه مع فائدته بعد جني المواسم.
حال قدومه دار الرجل المذكور، استقبله صاحبها استقبال المضيف لضيفه. وبعد قيامه بواجب الضيافة، سأله عن اسمه. أجابه الفلاح: “عبدك صالح عبد الحق، من بلدة عين عطا”.
” أنعم وأكرم يا بني، وما هو مطلبك؟”.
“مطلبي أيها العم الكريم، إنني بحاجة لمبلغ من المال، قصد شراء ثورٍ أربطه إلى جانب رفيق له عند الحراثة”.
هزّ الرجل برأسه، وقلب الأمر في سريرته وقرر امتحان السائل بطلب فيه شيء من التحدي والإحراج.
“أهلاً وسهلاً وعلى الرحب والسعة، أعطيك ما تريد شرط الإجابة لطلبي، خاصة يا بني أنني لم أعرفك من قبل، ولا أعرف من يمكنه أن يعرف عنك سواء كان قريباً أو بعيداً”.
” تفضل، ما هو طلبك يا حضرة الخواجة؟”.
“طلبي فقط شعرة من شاربيك، كرهنٍ بحيث أعيدها إليك عند الوفاء بالدين إذا رغبت”.
تفاجأ الفلاّح لهذا الطلب، واحمّرت وجنتاه، وارتبك، لكنه، بعد أن تمالك نفسه، قال: ” معاذ الله يا سيدي، فهذه إهانة لي ولأولادي أن أرهن شرفي وكرامتي. لكن، إذا رغبت بالعطاء، فما عليك إلاّ زيادة الفائدة كما تشاء، أو أي طلب غير هذا الطلب”.
رفض العم أبو خليل عرض الفلاح وكرّر الطلب ذاته، عندها حسم الفلاح أمره وهم بالخروج من منزل أبو خليل والإياب إلى بلدته.
استوقفه العم أبو خليل، ثم ربّت على كتفه بيده، وقال: ” نظرتي فيك يا بني تنبئني أنك صادق، وأمين، وأنّ للشّرف عندك مكانة وتقديساً، وأقسم لك، بأن الشعرة التي سآخذها منك، سأضعها في قلب الصك الذي سأكتبه عليك، ثم ألّفها وأودعهما خزائني لوقت إعادة المبلغ إذا أردت”.
ما العمل، وشبح الضيق المادي يلاحق الفلاح، ويهدد سعيه للرزق والعيش الكريم كما أن هذا الرجل الذي يعرض مساعدته يبدو كريماً ولا خوف من أن يعرض به، لذلك قرر أن يقبل الشرط المذكور على مضض بعدما أخذ منه عهداً بالمحافظة على الشعرة، رمز شرفه وكرامته. مدّ يده إلى شاربيه، ثم اقتلع شعرةً، وكان في ذلك كمن يقتلع قسماً من كيانه أو وجدانه، ثم سلّمها للرجل، واستلف المبلغ منه وعاد أدراجه من حيث أتى.
انتقل الخبر بالتواتر من فلاّح إلى آخر في منطقة وادي التيم، حتى علم به فلاّحٌ من قرية مجاورة فأسرع بالحضور إلى حاصبيا، ثم قصد بيت الرجل، طالباً منه ذات الطلب.
رحّب أبو خليل بضيفه الجديد، ثم سأله عن اسمه، فأجابه الفلاّح: ” ولدك متعب صعب”. تفرّس به جيّداً، ثم أعاد الطلب أو امتحان رهن شعرة من الشارب، كما طلب من الفلاّح السابق.
هنا، تهلّل وجه متعب فرحاً وأجاب بكل رضى وسرور: “خمس شعرات بدلاً من الواحدة يا عم أبو خليل، وإن يكن طلبك غالياً، فهو لما نعرفه عنك سهل ورخيص”.
هزّ أبو خليل رأسه، بعدما صدق حدسه. ثم رفع صوته بوجه ضيفه قائلاً: ” نظرتي فيك أنك لست من أهل الكرامة وأصحاب الوفاء، ويكفي أن اسمك متعب، وعائلتك صعب. وأكثر من ذلك، إن الذي يهون عليه شرفه وكرامته بهذه السهولة، يهون عليه أخذ أموال الناس، وعدم سدادها. فأبق شعر شاربيك في وجهك ونحن بدورنا، نبقي أموالنا لأصحاب الرجولة والشهامة.
انصرف صاحبنا حانقاً ومرتبكاً بعدما فشلت حيلته، وافتضح أمره. أما فلاحنا، صالح عبد الحق، فعندما حان وقت الوفاء للدين، أتى أبا خليل شاكراً، حامداً صنيعه ومعروفه. ثم نقده المال، واسترد أمانته بلهفة. وعندما همّ بالعودة استوقفه أبو خليل، قائلاً :” يا بني أطلب ما تريد، ووقت ما تريد، فإن لم تكف أمانتك وشرفك، فيكفي أن اسمك صالح، وعائلتك عبد الحق”.
وهكذا أصبحت قصة أبي خليل وصالح مضرباً للوفاء، وعنواناً للاستقامة وذاعت في عرض وادي التيم وطوله وحفظ الناس من يومها خبر تلك الأيام التي كانت فيها شعرة من شارب أهم ضمانة للوفاء بدين.

مآثر و حكم