الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 2, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر
هل جميعكم بهذا الإيمان؟!
أنا أضعفهــــــــم

هل-جميعكم-بهذا-الإيمان
هل-جميعكم-بهذا-الإيمان

 

السؤال طرحه إبراهيم باشا المصري الذي كانت قواته تخوض قتالاً مريراً ضد الموحدين الدروز وتحاول إخضاعهم، والجواب هو ردّ به المرحوم المجاهد الشيخ حسن البيطار على قائد الحملة المصرية وابن محمد علي باشا. وقد حصلت المقابلة بين الرجلين بعد معركة وادي جنعم وموقعة البيرة بين الثوار الدروز بقيادة شبلي باشا العريان والقائد المصري. قبل ذلك كان الدروز قد تعرضوا لهزيمة مؤلمة على يد القوات المصرية في معركة وادي بكّا عام 1838 بقيادة الشيخين حسن جنبلاط ونصر الدين العماد الذي استشهد في المعركة. وقد هزم الموحدون الدروز بسبب خديعة مدبّرة ووشاية عن مكان تواجدهم من قبل أحد القرويين المتعاطفين مع المصريين، وكان ثمن تلك النكسة غالياً، إذ قتل في تلك المعركة نحو 640 ثائراً من بينهم 41 جوز أخوة ستة منهم من بلدة شوفية واحدة.
هذه المعركة الفاصلة كانت السبب في تراجع الثوار إلى منحدرات جبل الشيخ الوعرة، ومنها وادي جنعم السحيق والذي تحدّ به من الشرق قمم جبل الشيخ الشاهقة، ومن الغرب الجبل الوسطاني، وعند آخره لجهة الجنوب تقوم بلدة شبعا المختلطة آنذاك بسكانها من المذاهب السنية والدرزية والمسيحية الأورثوذوكسية وفي البلدة كما هو معروف بقايا من الجنود الصليبيين الذين فروا من الخدمة بعد معركة حطين واعتنقوا الدين الإسلامي ثم استقروا واندمجوا وتزاوجوا وخصوصاً مع العائلات السنية، ومنهم من لم يزل يحمل الإسم الأجنبي الغربي كآل مركيز وسواهم..
القائد إبراهيم باشا لم يكتف بانتصاره في معركة وادي بكّا، بل أراد أن يلحق بالثوار إلى أماكن تواجدهم في منطقة جنعم الحصينة. وكان الثوار الدروز يواجهون وضعاً صعباً بسبب تناقص أعداد المقاتلين وتضعضع الباقين منهم وانسحاب قادتهم إلى الجولان. لكن مع ذلك، فإنهم انتصروا على القوة الشهابية الآتية من حاصبيا المساندة لجيش إبراهيم باشا بأمر من الطاغية الحاقد الأمير بشير الشهابي الثاني وعلى رأسهم حفيده الأمير مسعود ابن الأمير خليل، فكان أن فاجأهم الثوار بمكمن صخري في منطقة في خراج بلدة شويا تُدعى البيرة، فقتل أحد قادتهم الشيخ فضل الخازن وسبعة عشر رجلاً وهرب الباقون وعادوا من حيث أتوا. وغنم الثوار أسلحتهم وأمتعتهم، كما يشير بذلك المؤرخان طانيوس الشدياق والدكتور أسد رستم 1.
بعد ذلك، وصلت قوات إبراهيم باشا بقيادة الضابط الأرناؤوطي مصطفى باشا لنجدة الشهابيين، ولما كان عدد الثوار قليلاً بالمقارنة مع الجيش المصري الجرّار، فقد انسحبوا إلى بلدة شبعا التي تقع جنوب وادي جنعم وهناك وقع قتال ضار طوال النهار والليل حتى انبلاج فجر اليوم التالي قبل أن يتمكن إبراهيم باشا وجنوده من دخول البلدة المذكورة في ما انسحب الثوار المقاتلون إلى إقليم البلّان بينما اختار آخرون الالتحاق بالثوار السوريين في جبل اللجاة من أعمال جبل الدروز.
ويروي المؤرخ فيليب عن هذه الموقعة في كتابه “ لبنان في التاريخ” قائلاً : “ هاجم إبراهيم باشا قرية شبعا التي تقع جنوب شرقي حاصبيا ونهب خلواتها والتي تعدّ من أقدم خلوات الدروز وأعظمها احتراماً وتكريماً، وحمل مخطوطاتها التي استقر بعضها في مكاتب مصر والبعض الآخر وصل إلى أوروبا على يد الجنرال الملقب سليمان باشا وهو جنرال فرنسي كان يقود الحملة المذكورة ويعرف بإسم الجنرال سيف الفرنسي” 2…
بعد دخول بلدة شبعا من قبل القائد إبراهيم باشا طلب مستشاره الشيخ جرجس الدبس الاتصال بالثوار ومفاوضتهم على الاستسلام مقابل السلام والأمان وذلك بقصد تصحيح الأخطاء التي ارتكبت من قبل ولاته في السابق وتحسين صورة الحكم المصري وغايته أن تبقى بلاد الشام جزءاً من مملكة والده محمد علي باشا بعد فصلها عن الإمبراطورية العثمانية. وفي هذا الصدد يقول الشيخ الدبس أنه بينما كان سائراً إلى الثوار شاهد في خراج بلدة شبعا اثنين من عساكر الأرناؤوطي ممسكين بإمرأة فرجع مسرعاً وأخبر الباشا الذي طلب من اليورجي أن يردعهما عنها فلم يمتثلا، فما كان من إبراهيم باشا أن قاد بغلته بنفسه نحوهما، وما إن وصل إليهما حتى أمر بقتلهما3.
أثناء إقامة العسكر في بلدة شبعا ، وبعد أن غادرها القائد ابراهيم باشا، أمر الضابط المسؤول عن الفرقة المتواجدة مختار البلدة السيد ابراهيم الخطيب والوجيه الأورثوذوكسي الشريف شاهين هدلا أن يجلبا إليه النساء القاطنات في البلدة كونهن في نظره سبايا حرب لأنهن من أتباع الثوار، غير أن السيدين المذكورين ردّا عليه قائلين: “يهون علينا تسليم نسائنا وبناتنا على أن نسلم من هم للشرف آياته وللعرض حماته”4.
وفي هذا الصدد أيضاً يقول المؤرخ ميخائيل مشاقة5 إن الدروز أرسلوا الشيخ حسن البيطار من بلدة راشيا، وهو من المقربين من شبلي باشا العريان، ليتفاوض مع القائد إبراهيم باشا حول التقارب وإنهاء النزاع، فذهب الشيخ المذكور وقابل الباشا، وبعد أن جلس وإيّاه طويلاً حيث استلطفه وانشرح لحديثه ولباقته. ويضيف مشاقة القول إن عباءة الشيخ حسن البيطار كانت بها خروق من البارود والرصاص فقال له إبراهيم باشا : هل كنت تشارك في الحرب؟؟” أجابه الشيخ :
– نعم..
– وهذه الخروق؟؟
– إنها بارود ورصاص جنودك
– ومع هذا لم تزل حياً !!
– إذا الله تعالى لم يأمر بالموت فلا قوة في الأرض تقدر على ذلك، وإذا شئت موتي فأنا بين يديك.
هزّ القائد إبراهيم باشا برأسه مطولاً ثم سأل الشيخ وقد امتلأ بالإعجاب لهؤلاء القوم الذين دوّخوا عسكره:
– هل جماعتك كلهم بهذا الإيمان؟
– ربما كنت أضعفهم يا سيدي القائد..
بعد هذا الحوار قال القائد للشيخ: أنا لا أريد الموت لأحد، ولكن جماعتك يسعون إلى قتل أنفسهم.
أجاب البيطار: هم الآن يلتمسون من جانبكم السلام والأمان.
قال الباشا: شرط تقديم السلاح..
قال الشيخ: إنهم ملتزمون بما تأمرون به، فليصدر أمرك بالسلام ووقف القتال وليذهب معي بعض جنودك كي يجمعوا السلاح وتسليمكم إياه. وهكذا حصل وسلّم الدروز أربعمائة بندقية فكرّم القائد إبراهيم باشا قائد الثوار شبلي باشا العريان الذي وُلّي على إمارة الرُّها في العراق.
بعد تلك المعارك لباس أضعفت قوى الموحدين الدروز وخصوصاً في بلدة شبعا، كان أن رحل معظمهم والتحقوا بأقاربهم وأنسبائهم في قرى وادي التيم، ومنهم من انتقل إلى بلاد الجولان وإقليم البلان وضواحي الشام وسواها من أماكن تواجد الموحدين الدروز.
ولتاريخه لم تزل تعرف ثلاث عائلات في حاصبيا بـ “دروز شبعا” وفي هذا الصدد لا نعلم طبيعة الصلة بين كثير من العائلات في بلدة شبعا حالياً والتي تحمل على سبيل المثال اسم آل ماضي وآل الخطيب وآل سرحان وآل حمدان وآل السعدي وآل وهبه وآل نصر الله وآل غانم وآل زهيري وآل برغشه وسواها.. ومع هذا نجد العديد من الصداقات والمودة التي تجمعهم، وهم ينادون بعضهم بعضاً بأبناء العم والله أعلم .

يللــــي بيخِفّــــو رجليــــه بيتعــــب راســــو

إحفــــظ لسانـــك
فهـــو حصانــــك

أيام الترام الكهربائي ركب أحدهم من ساحة البرج إلى الحرج لزيارة بعض الأصدقاء.في وطى المصيطبة، جاء عامل قطع التذاكر، وكانت قيمة تذكرة الركوب يومها خمسة غروش سورية حجر. أدخل الراكب يده في جيبه وأخرج ما اعتقد أنه قطعة الخمسة غروش المطلوبة، لكنه في الحقيقة أعطى الجابي خطأ ليرة ذهبية وكانت هذه تشبه بحجمها قطعة الخمسة غروش السورية بالشكل واللون. وبعد عودته إلى منزله تفقد دراهمه فإذا به يكتشف أنه قد أخطأ ودفع ليرة ذهبية لجابي التذاكر بدلاً من الخمسة غروش.
إحتار في أمره وبدأ يفكر بوسيلة تساعده على استرجاع القطعة الذهبية الثمينة، ولم يجد في نهاية الأمر سوى التوجه إلى مدير الترام وكان آنذاك السيد فيليب رزق الله ومركزه ساحة البرج. أخبره بما حدث معه. فأجابه المدير: هل تعلم رقم الترام والساعة التي ركبت بها؟ أجابه بلا حتى وأنني لا أعرف الرجل الذي قبض مني الأجرة.
إستمهله المدير وطلب منه أن يأتي بعد ساعتين إذ “ربما نكون قد اهتدينا إلى الموظف المذكور ونعيد الليرة”.
في نهاية الوقت المحدد رجع الرجل إلى المدير فنقده الليرة عينها فتعجب الرجل لهذه السرعة والتوقيت ثم تجرأ وسأل المدير : كيف وجدتم الليرة؟
أجاب المدير: الذي قبضها منك افتقد الدراهم المجموعة معه بعد انتهاء نوبته من العمل فرأى الليرة فأرجعها لي قائلاً إنها ليست له فهي بذمة الشركة إلى أن يظهر صاحبها.
سرّ الرجل بالطبع لأمانة الموظف ولهمة إدارة الترام لكنه سأل المدير قائلاً: عندما أتيت إليكم وقصصت عليكم الأمر طلبتم مني أن أغيب ساعتين ثم أرجع إليكم، فما الداعي إلى غيابي هذه المدة والليرة كانت بحوزتكم؟
أجاب المدير لربما لسانكم قد خانكم وسبب لكم ما أقلقكم. قال الرجل : بالله عليكم أخبروني كي أتعلم من أخطائي.
قال المدير: يبدو أنكم أخبرتم سواكم بما حصل معكم فأتى أحدهم فوراً إلينا وطالب بما طالبتم فأمهلناه الوقت ذاته لاعتقادنا أنه ربما لها صاحب آخر أحق منه فيأتي فيطالب بها. وكوننا اقتنعنا بإجابتكم وبأنكم صاحب الغرض المفقود لهذا أعطيناكم الليرة وإن كان بعد تأخير ساعتين من الزمن.
كان درساً ثميناً من المدير يذكّر بالحديث النبوي الشريف:”استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. وكم من مرة ينزلق لساننا بأخبار أو أمور ثم نعود ونندم على ما قلناه. وفي أمور المال والتجارة فإن هذا المبدأ أساسي ومعروف وأكثر التجار الحصيفين يلتزمون به فأنت لا يمكنك أن تأخذ منهم لا حقاً ولا باطلاً في كل ما خص تجارتهم وهذه الحكمة يتوارثونها أبا عن جد.
أثناء الحرب الأهلية اللبنانية المشؤومة ما بين العامين 1976 – 1989 زار الدكتور هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية آنذاك بيروت عدة مرات، وكان معروفاً بخبثه ودهائه وطول باعه في السياسة الدولية كما أنه كان باعتباره يهودي الأصل متعاطفاً مع إسرائيل.
في إحدى زياراته إلى لبنان استقبله في مطار رياق العسكري رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك سليمان فرنجية، وبينما كان الرجلان يتباحثان في الوضع اللبناني وأوضاع المنطقة تشعب الحديث وإذا بالدكتور كيسنجر يطرح على الرئيس فرنجية سؤالاً مفاجئاً. قال له: “فخامة الرئيس، في رأيكم من أولى بحماية الأماكن المقدسة في إسرائيل: اليهود أم المسيحيون أم المسلمون؟”
أجاب الرئيس فرنجية دون تردد: المسلمون. تعجب كيسنجر وسأل عن السبب: فردّ الرئيس فرنجية بجواب مفحم فاجأ وزير الخارجية الأميركي إذ قال: السبب واضح وبسيط. اليهود لا يعترفون بالمسيحية ولا بالإسلام، والمسيحيون لا يعترفون بالإسلام، بينما المسلمون يعترفون بالديانتين الكريمتين ويقدسون أنبياءهما معاً فهم وليس غيرهم المؤهلون للحفاظ على القدس والمعالم التاريخية للأديان السماوية الثلاثة.

حوارات افلاطون

محــــــاورة كــــــارميـــــديس

حُسْـــنُ الخُلُــــق

مَجْمَــــعُ الفضائــل وسَجِيَّــــةُ الحكمـــاء

سقراط: «كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول مداواة العين من دون الرأس أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسـد من دون الـرُّوح”

تدور محاورةُ “كارميديس” (Charmides) حول مفهوم حُسْن الخُلُق، والتعقُّل، والإتزان العقلي والنفسي، والتناغم الداخلي، والحكمة العمليّة، أو كما عرّفها أفلاطون في “الجمهورية” بأنّها “التناغم بين العناصر العليا والدنيا في الطبيعة البشرية” الذي يجعل الإنسان سيّداً لنفسه، قبل أن تتركّز هذه الكلمة حول معنى الفضيلة الأخلاقية في مراحل لاحقة من تطوُّر علم الأخلاقيات ولا سيّما عند أرسطو.
تُصنَّف محاورة “كارميديس” بكونها من بين المحاورات الأولى لأفلاطون التي وضعها في وقتٍ مبكر من حياته وذلك بإعتمادها نسبياً على الأسلوب السقراطي في التساؤل الفلسفي الإستقرائي والإنتهاء من دون نتيجة حتميّة، حيث انتقل أفلاطون في سلسلة محاوراته اللاحقة من هذا النهج إلى نظام فلسفي أكثر تعقيداً. إنّها نصّ فلسفي يتحدّ فيه صوتا سقراط وأفلاطون روايةً وتأليفاً، نهجاً وتعليماً.
واللافت أنّ محاورة “كارميديس” هي من بين المحاورات الأفلاطونية التي قلَّ تناولها بالدرس والتحليل. وهي تستعرض، كشأن باقي المحاورات، عدداً من الفرضيات الجدلية التي تستهدف الحث على التفكر وإعمال العقل ولا تهتم بإصدار أحكام قاطعة أو توكيدات جليّة قليلة في النهاية، وهذا ما يعطي المحاولات هذا الإثراء الفلسفي، إذ تبدو كل محاورة بمثابة عملية تطور في طرح الأسئلة ومحاولة الجواب عليها من أكثر من زاوية، لكن المحاورة ليست مع ذلك مجرد نقاش نظري عقيم بل هي عملية بناء حاذقة للوعي تستثير ملكة الإدراك والتمييز في المشاركين تحت إشراف المعلم الذي غالباً ما يكون سقراط وهو يقود النقاش بصورة بناءة حتى بلوغ درجة أعلى من الحقيقة أو الإقتراب منها على الأقل. ولا ننسى أن التعليم اليوناني مثله مثل التعليم الحكمي عموماً يأخذ في الاعتبار طبيعة المشاركين وظروف كل منهم وطاقته، وهناك درجة كبيرة من “خاطبوا الناس على قدر أفهامهم” وهذه إحدى أهم ميزات التعليم السقراطي الذي لا يكترث بمدى علم الشخص أو سعة إطلاعه بقدر ما يعتمد على الفطرة والكشف التدريجي لمعنى الحقائق عبر دور المعلم نفسه وقدرته على أخذ الحوار في سياق تدرجي بحيث لا يبقى التباين في مكانه. وفي محاورة كارميديس ينطلق سقراط من موضوع حسن الخلق لينتقل به بصورة تدريجية إلى المسألة الاهم في الفلسفة الإغريقية وهي “معرفة الذات” (Self Knowledge) وهو موضوع يبدو عند طرحه أكثر صعوبة من التعريفات الابتدائية لمفهوم بسيط مثل حسن الخلق.
يلاحظ مع ذلك أن محاورة كارميديس تحتوي على مقطع مهم حول تكامل الجسد والروح وهو مقطع يتحول خلال الحوار إلى بحث مهمة الطبيب وكيف أن عليه أن يعالج الجسد والروح وكيف أن علاج الروح يكاد يكون هو الأًولى والمنطلق. وفي هذا التحديد المدهش لتكامل وظائف الجسد والروح درس مهم لعلم الطب الحديث الذي انحرف إلى فصل مصطنع وجعل عمله التركيز على الجسد وأمراضه وهذه المثل الإغريقية تضرب جذورها عميقاً في التعاليم الفيثاغورسية، كالخير والجمال، ومثال الروح الجميلة في الجسم الجميل، التي يُجسِّدها كارميديس، والمفهوم الحقيقي للطب بكونه عِلماً للكل كما للأجزاء، وعلماً للعقل والنفس كما للجسد. ومن المدهش فعلاً أن نرى النظرة المتقدمة والريادية إلى الإنسان عند الإغريق وفي الحقيقة هي نفسها التي نراها في الحكمة الأيورفيدية الهندوسية وفي مختلف الفلسفات القديمة، وهذه النظرة هي التي بدأنا نرى انبعاثها الآن واتساع نطاقها على أثر إخفاق الطب الحديث المُجزئ للإنسان في تأمين صحة حقيقية للفرد وللجماعة.

معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح
معلم-الطب-الإغريقي-أبوقراط،-أفلاطون-دعا-لعدم-الفصل-بين-معالجة-الجسد-ومعالجة-الروح

تعريف الفضيلة
يتدرّج تعريف هذه الفضيلة في المحاورة سواء كانت حُسْنَ خُلُقٍ، أم تعقُّلاً، أم اتّزاناً وحكمةً عملية في ترتيبٍ منتظم يبدأ من المفهوم الشائع وصولاً إلى التفسير الفلسفي. فالتعريفان الأولان، “الهدوء” و”الاعتدال”، بسيطان بما يكفي وهما حقيقيان إلى حدٍّ ما، ولا سيّما من وجهة نظر شاب في مغامرته الفكرية الأولى. أمّا التعريف الثالث، أي “قيام المرء بأعماله الخاصة”، فيُمثِّل إسهاماً فعلياً في الفلسفة الأخلاقية. في المقابل، ترنو التعريفات المتبقّية إلى هدفٍ أعلى يتمثَّل في طرح مفهوم المعرفة و”معرفة الذات”، أو توحيد الخير والمعرفة في علم واحد.
وهنا تكمن صعوبة محاورة “كارميديس” في المعنيين المتضمّنين في هذه السجيّة. فمن المنظور الأخلاقي، يتعدّى تعريفها من الهدوء إلى الاعتدال، إلى قيام المرء بعمله الخاص، والقيام بالأفعال الخيِّرة، ارتقاءً إلى المفهوم الفكري حول علم معرفة الذات، ومعرفة ما نعلمه وما لا نعلمه، ومعرفة الخير والشر، وحتى “معرفة المعرفة”.
رغم أن جميع التعريفات التي طرحت في سياق المحاورة رُفِضَت بشكل ما إلا أنها ألقت في النهاية ضوءاً يمكّننا من فهم حُسْن الخُلُق كفضيلة تقترن بالحكمة وسجيّة يتحلّى بها الحكماء.
يحتفظ سقراط بالحبكة الدرامية حتى النهاية، حيث يُقارب العديد من الحقائق الكبرى، التي سلّط الضوء عليها في محاورته من زوايا مختلفة، وهو إمّا أخضعها لاختبار الحس السليم، أو تطلّب الأمر منه دقة كبيرة في استخدام الكلمات، ليعود ويُنهي المحاورة من دون نتيجة حتميّة، تاركاً للمُريد والباحث والقارئ التوصُّل إليها بحسب مبلغه من الفهم الفلسفي، لكن بدا واضحاً التأكيد على كون هذه السجية تجمع بطريقة ما كل الفضائل التي اقترحت وأنها والحكمة صنوان.
المشهد: سقراط عائدٌ إلى أثينا بعد مشاركته مع الجيش الأثيني في معركة بوتيديا (Potidaea) في بداية “حرب البيلوبونيز”، يتّجه نحو “مدرسة المصارعة في تورياس” (Palaestra of Taureas) قبالة الهيكل قرب “رُواق الملك أركون” توقاً للأيام الخوالي مع الصحب ولاستطلاع مآل الحكمة بين مواطنيه بعد غيابه لمدة طويلة في خدمة الجيش.
فاجأ الجميع بحضوره فرحَّبوا به وسارع كايريفون (Chaerephon) الساذج إلى تقصِّي أخبار المعركة وأنباء سقوط بعض الأصحاب هناك. أخذ سقراط مكاناً إلى جانب كريتياس، ابن كالايسخروس (Callaeschrus) وأجاب على أسئلتهم وأنبأهم بما كانوا يتوقون لمعرفته عن معارك جيش أثينا. وبعد ذلك، شرَعَ سقراط بدوره يسأل الجميع عن الوضع الحالي للفلسفة في أثينا وعن حال الشباب فيها، وإذا ما تميّز وسطهم أحدٌ حكمةً أو جمالاً، أو في كلاهما.
تولّى كريتياس الإجابة على شق الجمال، وهو يتطلّع نحو بوّابة المدرسة حيث كان يدخل بعض الفتية، مُخبِراً سقراط بأنّه سيرى الآن مثالاً عنه. فأطلّ كارميديس المتمتع بجمال الهيئة محاطاً بصحبه، وأخذ مكانه، واسرّ كريتياس لسقراط بأنّ كارميديس يشكو صداعاً فلعلّ حجَّة استدعائه تكون أن يعالجه سقراط، الطبيبُ المُفترض، من صداعه. فسمِعَ كارميديس من ابن عمه وقدِمَ إلى سقراط ظناً منه أنّه طبيبُ أجسام ولم يعلم بعد أنّه طبيبُ أرواح.

جمال الرُّوح
وافقَ سقراطُ الجميعَ على مدى حُسْنِ مُحيَّا هذا الفتى وإطلالته، إلا أنّه استدرك إنبهارهم بجماله الخارجي متمنيّاً لو كان يتمتّع أيضاً بجمال الرُّوح، أي أنّ يكون جميلاً في الداخل كما هو في الخارج، آمِلاً لو يتبدّى الحُسْنُ في روحه كما يبدو الحُسْنُ في ظاهره، وكأنّ لسانَ حاله يُردّده قول الشاعرٌ العربي:
وما الحُسْنُ في وَجْهِ الفَتى شَرَفاً لهُ إذا لَمْ يَكُنْ في فِعْلهِ والخَلائقِ
وطمأن سقراط كريتياس بأنّه قد يكون كذلك، لأنّه يتحدّر من نسل صولون، وهذا ما سارع كريتياس إلى تأكيده، منوّهاً بأنّه يتمتّع بالحكمة أيضاً، وأشياء أخرى كالمقدرة على نظم الشعر.
لكن كيف يمكن علاج كارميديس من صداعه؟ إنّه دواءٌ أو “رُقْية”. الدواءُ لعلاج العلّة في الجسد والرُقْية لعلاج منشأها في الروح! ولا حاجة للرُقْية إذا كان المرء متحلياً بحُسْن الخُلُق والإتزان النفسي.
قال سقراط لكارميديس:
بمثل هؤلاء الأسلاف (يا كارميديس) حُقَّ لك أن تكون أولاً في كل شيء، ومظهرك يا نجل غلاكون ليُكرِمَهم أيضاً، لو أنّك أضفتَ إلى الجمال حُسْنَ خُلُقٍ، وإذا كنتَ كما أفصحَ كريتياس، يا عزيزي كارميديس، فمباركٌ أنتَ بكونك من هذا النسل. وهنا يكمن المغزى؛ فإذا كنتَ كما أفصَحَ تملك نعمة حُسْنِ الخُلُق بالفعل، وبالقدر الكافي، فعندها لا حاجة لكَ لأي رُقْية، لذا رجاءً أبلغني ما إذا كنتَ تعترف بحقيقة ما قاله كريتياس؛ هل تتحلَّى بسَجِيّة حُسْن الخُلُق أم لا؟
وهنا يُقنِع سقراط الفتى كارميديس بأنّ العلاج الناجح إنّما لا يُشفي الجسد فحسب بل الرُّوح أيضاً.
يحُدِّث سقراط الفتى عن الأطباء الألمعيين الذين يعالجون الجسم ككل قبل أن يعالجوا أي جزء منه. ويستشهد بالأطباء الترياقيين الذين يعالجون الرُّوح كما يعالجون الجسد. وينقل عن أحدهم قوله “كما يتعيّن عليك ألَّا تحاول أن تُداوي العين من دون الرأس، أو الرأس من دون الجسد، وجبَ ألا تسعى لمعالجة الجسد من دون الرُّوح”. فبالنسبة إليه لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبع من النفس ويتدفّق منها إلى الخارج لذا، ينبغي البدء بمعالجة النفس أو الرُّوح بهذه “الرُقْية” لبَثّ الاعتدال والتوازن وحُسْن الخُلُق فيها، وحيث كانت هذه الفضائل تكون الصحة في كامل الجسد، فوجبَ ألَّا نُشفي الرأس قبل شفاء الرُّوح. والخطأ الأكبر الذي يقوم به أطباء عصره هو فصلهم علاج الجسد عن الرُّوح. وهنا يقول سقراط مجدداً لـ كارميديس إنّه إذا كان كما يؤكد كريتياس متحلّياً بحُسْن الخُلُق والإتزان فلا حاجة له
لـ “الرُقْية”، وطلب منه أن يُخبره ما إذا كان كريتياس صادقاً في اعتباره متحلّياً بهذه المزيّة.

سقراط: مرّةً أخرى يا كارميديس، تنبَّه جيداً، وانظرْ في داخلك، وتحر تأثير حُسْن الخُلُق فيك وطبيعة هذا التأثير. فكِّرْ في كل ذلك، وكشابٍ شُجاع أخبرني – ما هو حُسْن الخُلُق.

إرتسمت على مُحيّا كارميديس علاماتُ الخجل وقال إنّه إذا أنكر ثناء ابن عمه كريتياس فهذا تصرُّف غريب بحق نفسه وتكذيب لـ كريتياس والآخرين الذين يوافقونه الرأي، وإذا أقرَّ بذلك، فيكون قد أثنى على نفسه وهذا تصرُّف فيه غرور، لذا عجز عن الإجابة.
طمأنه سقراط بأنّ موقفه هذا طبيعي، وبالتالي يتعيّن عليهما أن يتقصّيا معاً ما إذا كان يتحلّى بحُسْن الخُلُق، والأفضل بدايةً أن يطرح عليه سؤال حول حُسْن الخُلُق، فإذا كانت سجيّة فيه، فلا بُدَّ أن تكون لديه وجهة نظر عن طبيعتها وفضائلها ولو ببساطة كلية.
كان السؤال الأول: ما هو حُسْن الخُلُق برأيك؟

” ما هو حسن الخلق؟ هل هو الهدوءأو الإعتدال أو حب الخير أو معرفة الذات؟  “

معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة---أعرف-نفسك
معبد-أبولو-في-دلفي-حيث-نقشت-العبارة-الشهيرة—أعرف-نفسك

حُسْن الخُلُق هدوء؟
عند هذه اللحظة يبدأ النقاشُ الفعلي في المحاورة لمفهوم حُسْن الخُلُق، حيث يحاول كارميديس تعريف هذه السجيّة. بدا عليه التردُّد والإحجام عن الإجابة بداية، لكنّه بادر إلى اعتبار حُسْن الخُلُق هو نوع من الهدوء، إلا أنّ سقراط سرعان ما فنَّدَ هذا التعريف: فأيُّهما أفضل في الكتابة والقراءة وعزف القيثارة والتعلُّم والاستيعاب والتذكُّر والمصارعة والتمارين الرياضية، السرعة أم التباطؤ ؟ فوافق كارميديس مع سقراط بأنّ السرعة هي أفضل نشاطاً وحذاقةً وتعلُّماً وشحذاً للنفس، ولا سيّما في تقصّي النفس عن الحقائق والمعارف والإستكشاف. إذاً، حُسْن الخُلُق ليس هدوءاً.

حُسْن الخُلُق اعتدال؟
إلا أنّ سقراط لم يجعل كارميديس يُحبَط بل بثّ فيه الشجاعة على التأمُّل والخروج بإجابة أخرى، أطرق كارميديس هنيهةً باذلاً الجهد في تفكيره وجاء بإجابة أخرى: حُسْن الخُلُق هو اعتدال. وهنا يستشهد سقراط ببيت شعرٍ لـ هوميروس:
“الاعتدالُ ليس فضيلة لإنسانٍ محتاج”
وعنِيَ بذلك أنّ ثمة مواقفَ لا تتطلّب اعتدالاً كالدفاع عن النفس والمطالبة بالحقوق وما شابه ذلك ممّا يخشى فيه وقوع تفريط بحَقّ.
فوافَقه كارميديس أنّ للإعتدال وجهاً جيداً وآخر غير ذلك على عكس حُسْن الخُلُق.

حُسْن الخُلُق قيام المرء بأعماله الخاصة؟
هنا يلجأ كارميديس إلى تعريفٍ سَمِعَهُ من “أحدهم”، مُلمِّحاً إلى كريتياس، ومفاده أنّ “حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة”، فهل كان ذلك الشخصُ مُحِقّاً؟ وعمِلَ سقراط على دحض هذه الفكرة أيضاً، فالحِرَفي على سبيل المثال يحافظ على حُسْن خُلُقه حتى ولو كان يقوم بأعمال الآخرين، أو لأجلهم.
سقراط: إذاً، حُسْن الخُلُق ليس بقيام المرء بأعماله الخاصة؛ أو أقلّه القيام بأشياء من هذا القبيل.
كارميديس: حتماً لا.
إذاً، كما كنتُ أقول للتو، ذلك الذي جهَرَ بأنّ حُسْن الخُلُق هو قيام المرء بأعماله الخاصة إنّما يُخفي معنى آخر؛ إذ إنّني لا أعتقد أنّه على هذا القدر من الحماقة ليعني ذلك. هل كان مغفّلاً مَنْ أخبركَ بذلك يا كارميديس؟
كلا، (أجاب كارميديس)، أخاله بالتأكيد رجلاً حكيماً.
إذاً، أنا على يقين من أنّه وضع هذا التعريف كأُحجية، ظاناً أنّ أحداً لن يعلم معنى كلمات “قيام المرء بأعماله الخاصة”.
وتبيّن عندئذ أنّ كريتياس هو وراء هذا التعريف وسُرعان ما استُفِزّ هذا الأخير وانبرى يدافع عن مقولته، وليتولّى محاورة سقراط من هنا وحتى قبيل نهاية المحاورة بقليل. ودفاعُ كريتياس عن تعريفه هذا استند إلى تمييز بين “القيام بالأشياء”، و”صنعها”، و”العمل”. وحُسْن الخُلُق يكمن في عمل الخير. هنا يتوسّع سقراط في هذه المقولة لتشمل القيام بما هو خير للآخرين وللنفس، لكنّ الناس غالباً ما لا يعلمون أنّ أعمالهم ستكون ذات نفعٍ بهذا الشكل، وبالتالي من الممكن أن يكون المرء متمتّعاً بحُسْن الخُلُق من دون معرفة ذاتية بذلك.

حُسْن الخُلُق معرفة الذات؟
كريتياس يرفض بقوة افتراض أنّ يكون المرءُ حَسَنَ الخُلُقِ من دون أن يعرف ماهية حُسْنِ الخُلق، ويُعيد صياغة النقاش بأكمله ويجعل “معرفة الذات” التعريفَ الجديد لحُسْن الخُلُق، مستشهداً بذلك القول الشهير المنقوش على مدخل معبد “دلفي”: “اعرَفْ نفسَك” (باليونانية “غنوثي سيوتون”.
يقول كريتياس:
أكادُ أقول إنّ معرفة الذات هي جوهر حُسْن الخُلُق، وبذلك أوافق مع ذاك الذي كرّس نقش” إعرفْ نفسك” في دلفي.
يُعتبر اقتراحُ كريتياس هنا النقاشَ المحوري في محاورة كارميديس، لكن كيف لنا أن نفهم “معرفة الذات” كأساسٍ لحُسْن الخُلُق؟ بدأ هذا النقاشُ بوصيّة “نقش دلفي” المعتبرة لدى الإغريق ليتطوّر إلى فكرة فلسفية أكثر تعقيداً بكثير هي “معرفة الذات”. وهنا يستخدم أفلاطون النهج السقراطي في التساؤل الإستقرائي لإعادة صوغ أو دحض المفاهيم الإغريقية المُسلَّم بها والتي تعلّمها الإغريق من السوفسطائيين. واللافت أنّ نقاش “إعرفْ نفسك” ذو دلالة عميقة في المحاورة، إذ إنّ سقراط لا يحاول هنا إثبات خطأ هذه المقولة بل بالعكس يسعى إلى الحث على فهمها بنهجٍ عقلاني، وإلقاء الضوء على الحكمة الفيثاغورسية القديمة بصياغةٍ جديدة.
ووافق الاثنان على أنّ حُسْن الخُلُق إذا كان نوعاً من المعرفة فهو إذاً نوعٌ من العلوم. وكان اقتراح كريتياس الأوّلي أنّ حُسْن الخُلُق هو “علمُ ذات المرء” ولو لم يتّضح ما هو تأثير هذا “العلم”.

جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف---اليونان
جملة-أعرف-نفسك-المنقوشة-على-مدخل-معبد-أبولو-في-دلف—اليونان

حُسْن الخُلُق معرفة المعرفة وعلم العلوم؟
التأكيد بأنّ حُسْن الخُلُق هو نوعٌ من علم معرفة الذات تطوّر إلى فرضية بأنّ حُسْن الخُلُق يتعيّن أن يكون علماً بحد ذاته وعلماً لجميع العلوم، بل “علم العلوم”. وذهب سقراط إلى حدّ القول إنّ مثل هذه المعرفة، لكي تكون معرفةً حقّة للذات، وجبَ أن “تعرف أيضاً ما لا تعرفه”. وبدا “علم” حُسْن الخُلُق عندئذ فكرة عصيّة على الفهم، بل لربّما مفارقة ، حيث أنّ سقراط غير متأكد من وجود مثل هذه المعرفة من حيث المبدأ وبالتالي غير متأكد ما إذا كانت مصدرَ خيرٍ في الأساس.
قال سقراط:
لستُ متأكداً ما إذا كان ثمة ما هو “علم العلوم”؛ وحتى لو كان موجوداً، فلا أعترفُ به بكونه حكمةً أو حُسْنَ خُلُقٍ، حتى يتسنّى لي رؤية ما إذا كان مثل هذا العلم قادراً أم لا على أن يؤتِينا بأيّ خيرٍ؛ إذ لديّ انطباعٌ بأنّ حُسْنَ الخُلُق هو منفعة وخير.
فثمة سؤال يطرح نفسه: لكلّ علمٍ موضوع، فالعددُ مثلاً هو موضوع الحساب، والصحة موضوع الطب، فما هو موضوع “حُسْن الخُلُق”؟ يأتي الجواب بأنّ حُسْن الخُلُق هو معرفة الإنسان لِمَا يعرفه ولِمَا لا يعرفه, لكن ثمة تناقضاً في هذا الكلام، فعلى سبيل المثال ما من رؤيةٍ للرؤية بل فقط أشياء مرئية، وهكذا دواليك من الأمثلة المشابِهة ليصلا إلى أنّ ليس هناك “معرفة للمعرفة” بحد ذاتها. فما هو أكبر أو أثقل أو أخف إنّما هو أكبر أو أثقل أو أخف من شيء آخر، لا من نفسه. فموضوع النسبية هو خارج الشيء لا متضمناً فيه.
والمعرفة هذه تجريد (abstraction) ولا تُنبئ عن موضوع متعيّن ملموس (concrete)، مثل الطب أو البناء أو ما شابه. وبالاعتراف أنّ هناك معرفة لِمَا نعرف ولِمَا نجهل، يبقى السؤال، أين الخير في ذلك؟ فلا بُدّ من أن تكون المعرفة التي يوفّرها حُسْن الخُلُق من النوع الذي يمنحنا الخير، فحُسْن الخُلُق هو خير، إلا أنّ هذه المعرفة الكلّية لا علاقة لها بالسعادة والخير، والنوع الوحيد من المعرفة الذي يجلب السعادة هو معرفة الخير والشر.
كريتياس يُجيب بأنّ علم أو معرفة الخير والشر، وجميع العلوم، إنّما تنتظم تحت العلم الأرقى أو “معرفة المعرفة”. لكنّ سقراط يُجيبه بالفصل مجدداً بين المجرّد والملموس، ويسأل كيف تبعث هذه المعرفة على السعادة بالطريقة ذاتها التي يبعث فيها الطبُّ على الصحة.
حينما يلجأ سقراط إلى التحدُّث عن “حُلُمه” حول الدولة المثالية التي تحكمها الحكمة (معرفة المعرفة)، تتبدّى الإشكالية في أنّه غير متأكد من أنّه حتى في مثل هذه الدولة المثالية، في حال وجودها، سيكون الجميع سعداء. هنا تكون الإشكالية في الربط بين حُسْن الخُلُق المثالي المحض، أو الحكمة المثالية المحض، والسعادة “المتعيّنة” في عالم الواقع. فما هي “معرفة المعرفة” التي تجعلنا سعداء فعلياً؟ هل هي معرفة الخير؟
الآن أوافق تماماً، بمقتضى ذلك، أنّ البشرية ستحيا وتعمل وفقاً للمعرفة، إذ إنّ الحكمة ستترقّب الجهل وتمنعه من اختراقنا. أمّا إذا ما كان العمل وفقاً للمعرفة ستترتّب عليه سعادة، فهذا يا عزيزي كريتياس ما ليس بمقدورنا بعد تحديده.
أجاب: أعتقدُ مع ذلك أنّنا إذا أهملنا المعرفة، فسيصعب علينا الظفر بتاج السعادة في أي شيء آخر.

” لا يمكن أن يتعافى الجزء ما لم يكن الكلُّ متعافياً، وكل خير وشر، سواء في الجسد أو الطبيعة البشرية، إنّما ينبــــــع
من النفس ويتدفــّق منها إلى الخـارج  “

جانب-من-أثينا-القديمة
جانب-من-أثينا-القديمة

تلميذٌ حَسُن الخِلْقة والخُلُق
عدم الخروج بجواب نهائي لتعريف حُسُن الخُلُق لم يُثبِّط عزيمة كارميديس، إذ بدا في الختام أنّ سقراط فازَ بتلميذٍ جديدٍ متعطِّشٍ للفلسفة، وتوّاقٍ “للإفتتان” يومياً بحكمته وتعاليمه. وبذلك أثبت كارميديس أنّه لا يتمتّع بحُسْنِ الخِلْقة فحسب بل أيضاً بحُسْنِ الخُلُق. فقد قرر مواصلة التعلُّم منه ومعرفة المعنى الحقيقي لحُسْن الخُلُق. لقد اكتشف بالفعل أنّه أكثر ما يكون مًتحلِّياً بحُسْن الخُلُق أشدّ ما يكون متمتّعاً بالسعادةً، بغض النظر عن الجدل الدائر حول هذه السجيّة والتعريفات الفلسفية لإستكشاف كُنهها.
وهذه التعريفات تمثّل النهج السقراطي وهو شكلٌ من أشكال البحث المعرفي لإستجلاء الحقائق، فعبر طرح الفرضيات ودحضها ورفضها يرتقي المُحاوِران إلى معرفة إيجابية، أو أقلّه إلى فهمٍ أفضل لما يعرفانه حقاً وما كانا يظنّان أنّهما يعرفانه. وتكشف هذه التعريفات إصرار سقراط على التثقيف الأخلاقي بالرُّوحيّة الفيثاغورسية، داعياً إلى التحلِّي بالفضائل الأخلاقية ومعرفة الذات والسعي وراء السعادة في المعرفة العقليّة والتأمُّل النفسي.
المغزى الرئيسي من وراء “محاورة كارميديس” هو أنّ آداب النفس البشرية تأتي أولاً حتى قبل الفلسفة وتعريفاتها، وكأنّ حُسْن الخُلُق هو كل تلك الصفات والمزايا الحميدة معاً بل هو مَجْمَعٌ لتلك الفضائل والسَجِيَّة الأولى لكلّ حكيمٍ مُحِبٍّ للحكمة والفلسفة.

محاورة مينون

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكّنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

“سقراط: حيازة الأشياء ليست فضيلة ما لم تتــــم وفق مبدأ العـــدل والحـقّ والتقوى”

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة بإعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة»، كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون
غورجياس-كان-أحد-أساطين-السوفسطائة-ومعلم-مينون

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بأعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

” سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان “

الأكروبوليس في أثينا
الأكروبوليس في أثينا

ختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً
a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام «بـتخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حلّ المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث، إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

مربع سقراط
مربع سقراط

“هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟”

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين «المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة
مسرح-تخيلي-لمسرح-ديونيسيوس-في-أثينا-حيث-كانت-تعرض-المسرحيات-وكذلك-الاحتفالات-العامة

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.
وتتبدّى أيضاً رسالةٌ أخلاقيةٌ في الحبكةِ النهائيةِ، فثمة إلهامٌ عِلويٌّ أيضاً للفضيلة في الحُكْمِ لا تتأتَّى لأمثالِ أنيتوس، الذي سيظهر في محاورةٍ أخرى كأحد المُدَّعِين على سقراط في محاكمته.

مآثر وعبر

الأهرامات سرّ مغلق
يحيِّر عقـول البشــر

بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته الأولى زيارة الأهرامات قبل سواها، ليقف أمامها مستعظماً ومندهشاً وحتى مستغرباً قائلاً في ذاته: هل هي حقاً من بناء البشر العاديين أم من بناء الجن أو مخلوقات خارقة من خارج الأرض!!
يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير “شامبليون”، الذي رافق نابليون في رحلته إلى مصر واكتشف “حجر رشيد”، الذي مهّد لفك رموز الكتابة الهيروغلوفية: “إن الأهرامات لم تكن من صنع كائنات بشرية مثلنا، بل من صنع طوائف حاملي الأسرار التي ما خلا منهم زمان ولا مكان، لقد تمكّنت هذه الطوائف المتفوقة أن تمتلك تكنولوجيات متقدمة اختفت مع الطوفان أو صينت وحفظت في أحرام خفية في مكان ما من العالم، وهذه الحضارة الخفية ما زالت ترشد المؤمنين وتقوي عزيمتهم وتشرق من عليائها بأنوار اليقين”.
ظهرت عظمة الأهرامات عبر التاريخ في ما تجسّده من أحجامها الهائلة، ودقة هندستها، وعجائب ما في جوفها وغموض رموزها، وصمودها وثباتها أمام عواتي الدهر كالزلازل والفيضانات والرياح وأطماع البشر بما في ذلك تخريب الفاتحين وعبث العابثين واللصوص المحترفين ليصح فيها قول الشاعر القديم:
بناءٌ يخاف الدهرُ منه وكل مـا علـى ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

داخل هرم خوفو
داخل هرم خوفو

قصة باني الأهرام
أجمع العديد من العلماء والمؤخرين الأقدمين أن هرمس الهرامسة هو باني أهرامات الجيزة، من ضواحي مصر، أي القاهرة حالياً، وقد عرف هرمس في اللغة اليونانية بـ”أرميس”، ومعنى أرميس عطارد. وآخرون قالوا إنه اسم سرياني واشتقاقه عن الهرمسة أي علم النجوم. وعُرف عند العرب بالنبي ادريس وأسموه بذلك لكثرة دراسته. وعند العبرانيين عرف بـ “أخنوخ أو أخناتون” التوحيدي، وقد وُلد بمدينة مناف في مصر القديمة، وعندما بلغ الأربعين من عمره أُنزل عليه ثلاثون صحيفة وورث صحف شئت وتابوت آدم. والصابئة الحاليون، وهم فرقة قديمة في التاريخ، لم تزل تقطن منطقة الأهواز في جنوب العراق يزعمون أنهم من أتباعه ومتمسكون بكتب النبي هرمس ويقدسونه ويعبدونه. كذلك تماثلهم فرق باطنية أخرى تقول عن بناء الأهرامات أنها بُنيت لأجل الحفاظ في داخلها على أسرار الكون ومواثيق البشر، وأن لكل فرد سجلاً في داخلها.
ومما يلفت النظر أن جماعة “الروز كروشن” أو الهالة الوردية، والتي يبلغ عدد أفرادها في العالم نحو 14 مليوناً، منتشرين في أوروبا وأميركا وآسيا، تؤمن بأن الأهرامات هي كعبة المؤمنين والموحدين عبر الأجيال.
كذلك ما أوردته حديثاً إحدى الدراسات الأميركية الصادرة عن جمعية “فيدرالية الأخوة العالمية ” IFB، إذ تقول عن الحضارة المصرية إنها حضارة روحانية تؤمن باليوم الآخر وجوهرها تقديس الحياة الآخرة للإنسان، لهذا كان أعظم رموزها هي الأهرامات وما تحويه من أسرار الكون وقبور الملوك، وكتابها المقدس هو “كتاب الموتى” وفحواه كيفية اجتياز يوم الحساب وبلوغ الآخرة.
وما يماثل هذا القول ما أورده العالم الإنكليزي الشهير “بول برنتون” PAUL BRUNTON، الذي أمضى بمفرده ليلة كاملة داخل حجرة الملك في الهرم الأكبر إذ أتاه الوحي قائلاً: “اعلموا يا أولادي أنه في هذا الأثر القديم تكمن الحقائق والمعارف المفقودة للأجيال السابقة من البشر، إذ تكمن أسرار المواثيق التي عقدها الانسان القديم مع الخالق من خلال الأنبياء والسابقين، واعلموا أيضاً أنه لم يطّـلع على هذه المواثيق سوى المختارين من أبناء البشر”.
والحقيقة أن الأهرامات هي من غرائب العبر، إذ أن لها آلافاً من السنين والحقب لم يعرف ما في داخلها أي مخلوق من البشر، كذلك عجز الملوك والجبابرة عن هدمها واستخراج ما في باطنها، ورجعوا عنها بعد بذل الأموال الطائلة خائبين، ومنهم الخليفة المأمون العباسي، والذي حشد لها أعداداً كبيرة من الفعلة والحجارين، وضاعف لهم النفقات حتى قيل أنه قدّم لذلك نحو ألف أوقية من الذهب الخالص ولم يحصل على طائل، وكفّ عنها خائباً، “حسب بعض المخطوطات القديمة”، وتكمل تلك المخطوطات فتقول: ” أمّا الهرمان في الجانب الغربي من فسطاط مصر وهما من عجائب برهان العالم مبنيّان بالحجم العظيم على الرياح الأربع، وما على وجه الأرض أعظم وأجل بناء، ولا أحسن هندسة ولا أطول بقاء ولا أرفع سناء من هذه الأهرامات، إذ بعضها مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة والقسوة. ومن عجائب بنائها وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل أبرة، ولا خلل شعرة، ووجد مكتوب عليها كتابة غريبة ترجمتها هي: “إن بين هذين الهرمين والنسر الواقع في السرطان” فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية فبلغ إثنين وسبعين ألف سنة شمسية (لا نعلم ما هو هذا الحساب).

باسم الله
وقيل أن هرمس الهرامسة لما عزم على بنائها أمر باستخراج الرصاص من بلاد المغرب، وقطع الأحجار الضخمة الهائلة من أماكن بعيدة جداً عنها، وكان عندهم صحائف مكتوب عليها إسم الله العظيم فيضعون الصحيفة على الحجر ويسمّون بإسم الله تعالى ويدفعونه بتلك الدفعة مقدار مائة سهم، ثم يعيدون عليها الصحائف ويدفعونها ثانيةًَ حتى تصل إلى الهرم بغير حملٍ ولا مشقة، فإذا وصل الحجر إلى الهرم يثقبونه ويجعلون في وسطه قطباً من حديد قائماً ثم يركّبون عليه حجراً آخر مثقوباً ويُدخلون القطب فيهما جميعاً ثم يُذاب الرصاص ويُصب في القطب وحول الحجر بهندام وإتقان.
وتناسباً مع هذا القول القديم ما أورده في دراسته المؤرخ الأوروبي في القرن التاسع عشر (Kings Land ) كنجزلاند، إذ ذكر أن قطع أحجار الغرانيت (الصوان)، والتي تزن الواحدة منها (70) طناً، والموجودة في مخدع الملك، قد أعدّت في مقالع تبعد (600) ميل قبل نقلها فوق النيل، ثم تابع يقول: “لا بدّ أن قوة غامضة قد استخدمت في نقل هذه الأحجار لا يعلمها سوى الله”.

شهادة نابليون
والقائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1789، وبعد أن وقف مندهشاً أمام عظمة الأهرامات قال إن ما تحويه من حجارة ومواد بناء يكفي لإحاطة فرنسا بجدار تبلغ سماكته 92 سم، وارتفاعه نحو 3 أمتار. وكلام روحي آخر يقول: “إن في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب وتكوينها وما يحدث في أدوارها وقتاً وقتاً، وما تحمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأحداث التي ينتظر حدوثها في مصر، وما يليها من أقطار العالم إلى آخر الزمان”.
“وكذلك زُبر على حيطانها أصناف العلوم العظيمة كعلم السيما وعلم الكيمياء والهيئة والحساب والأحكام الهندسية والمنطق والطب والفلسفة، ولم يترك علم من العلوم حتى تمّ زبره ورسمه”. ويضيف بعض المؤرخين القدماء إنه لا يوجد على وجه الأرض قاطبة بناء أعظم منها أو يضاهيها، وهي مع طول الأمد والدهور لم ترث ولم تبل، وهي العجيبة الوحيدة الباقية سالمة من عجائب الدنيا السبع القديمة.
إلى هنا انتهى ما ذكرته تلك المخطوطات القديمة، ونحن بدورنا لا يمكننا أن نذكر كل ما كتب عنها من المؤرخين والجغرافيين الحديثين من علماء ومفكرين ورحّالين، وقد أسهبوا في بيان أوصافها ومميزاتها وأهميتها التاريخية، وحتى تقديسها، ومنهم من أصابته لعنة الفراعنة والمعروفة عند الجميع إذ حلّت بهم بعد أن تطاولوا من قطع أو حفر أو إخفاء بعض حجارتها أو معالمها، ثم نقلها إلى بلدانهم أو بيوتهم فكان نصيبهم أن حلّت المصائب والأحزان في ديارهم، ومنهم العاِلم الاسكتلندي “Winston” ونستون، إذ فقد أولاً أولاده ولداً تلوَ الآخر، ثم فقد زوجته، كذلك أصابه الوسواس ولم يعد إلى صوابه إلا بعد أن أعاد إلى الأهرامات ما سرقه من أفيائها، وقصص كثيرة تُروى بين العامة من المصريين وسواهم ما جعل الجميع يهابون لمسها أو أخذ أي شيء منها بعد أن دفع العديد منهم الأثمان غالية.
خاتمة: ليس بالكثير أن يكون عدد الزائرين لتلك الأهرامات، وحسب إحصاء وزارة السياحة المصرية في أيام السلام والأمان، نحو (20) عشرين مليون زائر كل عام، وأن عدد زائريها من الأحياء على وجه الأرض ربما يزيد على نصف مليار زائر من البشر.

الأخوت اللّي بدو يقتل أمو
ويحتمي عند خالتو

لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوّة ولكل جوادٍ كبـوة
( عمر بن الخطاب)

بعد أن تدفقت مياه نبع الصفا في أجران أحواض قصر بيت الدين، لتزيده روعة وجمالاً وتبعث الحياة في حدائقه، ازداد الجميع إحتراماً وتقديراً لأخوت شناي (حسن) صاحب فكرة إيصال المياه، وإن تكن تسميته بالمجنون فهو بالحقيقة ذو عقل أميز من عقول العديد من العقلاء، ورأيه كما تبيّن كان أصوب بكثير من آراء حاشية الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل بنصيحة “الأخوت” وجلب المياه إلى قصره العامر.
وحيث إن صفة الجنون كانت تلازمه، لذا كان يدلي بدلوه، وأينما وجد، من دون خوف أو حذر، بل باعثاً في محدثيه حس الطرافة وقوة الرأي العفوي الذي لا يخالطه أي رياء. فبعد أن وجد الأمير بشير الشهابي في حيرة من أمره، مرتبكاً متردداً كيف ستصل المياه إلى القصر، وكيف سيتمكن من جرها والمسافة بعيدة وتتخللها أودية ومنحدرات.
وبينما هو في هذه الحيرة تقدم منه أخوت شناي وحادثه قائلاً: لماذا هذا الإرتباك يا سيدي المير ورجالك إذا مددتهم على الأرض من الصفا إلى القصر، وأمرتهم أن يحفرَ كل واحد منهم على قدر طوله، فخلال يومين أو أكثر تصل المياه إلى بيت الدين.
وهكذا كان، فبعد أن أخذ الأمير برأي الأخوت، عظم شأن الأخير وازداد احترامه، وأصبح رأيه قبل رأي العديد من المقربين والمستشارين، يُلازم المير في حلّه وترحاله في قصره وشتى أحواله، متندراً وراوياً، متعرفاً ومصادقاً معظم زواره. يعلم بكل شاردة أو واردة ترد إلى القصر أو تخرج منه، وما أكثرها تلك الأيام، وخاصة الدسائس والمكائد، والتي كان صاحب القصر سيدها لإيجاد التفرقة والبغضاء بين الزعماء والوجهاء، الذين يأتون لزيارته، وقصده من خلالها إذلال الجميع وتفرقتهم عن بعضهم بعضاً، وإخلاء أي إعتراض من قبلهم، وهذا ما عرف به تاريخ ذلك المتسلط خبثاً ودهاء.
وأخطر تلك المكائد كانت على ولي نعمته، والعامل الأول لإيصاله إلى مكانته، الشيخ بشير جنيلاط، وكيف أوقع الفتنة بينه وبين أنسبائه من المشايخ النكدية أصحاب إقطاعية المناصف ودير القمر، ثم كيف استدار نحوه وتمكن من خلال والي عكا من قتله خنقاً ورمي جثته مع مرافقه على رمالها، إلى أن سمح لمشايخ آل معدي في بلدة يركا من الجليل الأعلى، بجلبهما ودفنهما في مدافنهم، ولتاريخه لم تزل في تلك الديار.

قصر بيت الدين
قصر بيت الدين

لكن ما سنرويه كيف أراد أن يوقع بين الشيخ علي العماد زعيم منطقة الباروك، وما يعرف بالعرقوب، وبين ربيبه ومستشاره الخواجة جرجس باز، بعد أن توجس الخوف والحذر من جانبه لما له من مكانة عالية وتقدير كبير بين أتباعه. لهذا حقد في ذاته ثم أخذ يتحين الفرص للتخلص من الإثنين معاً.
استدعى يوماً الشيخ علي العماد ثم أسرّ له في أذنه، أن جرجس باز يضمر لكم الحقد والإحتقار، ويعمل خفية على إبعادكم والإقتصاص منكم، وهذا ما ردّده مراراً وتكراراً.
في المقابل أيضاً كان المثل مع جرجس باز إذ أسر له الأمير الداهية بكلام استهدف منه أن يوغر صدره على الشيخ علي العماد، بحيث تكتمل أسباب العداوة بين الرجلين، وعندها فإن التخلص منهما معاً يصبح أسهل.
وفي يوم، كان علي العماد في طريقه عائداً من كفرحيم إلى بلدته كفرنبرخ، وقد توقف أمام دارة جرجس باز في دير القمر، ثم ناداه: يا خواجة جرجس “أنا شايف لازم نعيّر الرطل بيننا وعليك بملاقاتي إلى ميدان بتاتر، كي نقيم نزالاً ثم نعلم بعده لمن ستكون الوجاهة”.
استغرب جرجس باز ونفر لهذا التصرف من قبل الشيخ، ولاسيما أن عهده به أنهما صديقان، إلا أنه ورغم ذلك أجابه: “على رأيك يا شيخ علي ونحن لها”.
شاع الخبر وسرى بين القرى والبلدات كما تسري النار في الهشيم، وغدا الناس منقسمين بين الإثنين وكل يتبع وجيه طائفته.
أخوت شناي بحكم تواجده الدائم في القصر علم أن الأمير بشير، هو مدبر هذه المكيدة وقصده إيقاع الفتنة والخلاف بين النصارى والدروز على مبدأ فرّق تسد.
في اليوم المحدد للمبارزة توجه جرجس باز وبرفقته أنصاره إلى ميدان بتاتر، كذلك فعل الشيخ علي لكنه عرّج في طريقه على نبع الصفا فوجد أخوت شناي ينتظره هناك. وحال وصوله هاجمه شاهراً بيده سيفاً من الخشب قائلاً: “إنزل عن فرسك يا شيخ وإلا قتلتك بسيفي”، أجابه الشيخ: “حل عنا ولك يا أخوت”.
هزّ أخوت شناي برأسه، وقال: “أنا أخوت ولاّ إنت؟؟ أخوت إللي بده يقتل أمو ويروح يحتمي عند خالتو”!
وتابع: “شو بدك فيه لإبن باز تا تقتلو وساعتها بيغضبوا النصارى ويحملوك دمّو؟ بتعرفش العاقبة بعدها شو بتكون؟ غاية الأمير أنو يتخلص منك ومنو”.
أمعن الشيخ التفكير بعد سماعه قول الأخوت، ثم هزّ برأسه موافقاً، وقال لمن حوله: “فعلاً خذوا الحكمة من أفواه المجانين، والظاهر إنو أخوت شناي أعقل وأخبر منا”، ثم تابع طريقه وهو في حالة تأمل وحذر متذكراً مكائد الأمير وخبثه. وعند وصوله إلى ميدان بتاتر ترجل عن فرسه، ثم ربط لجامه برجل الكرسي الذي جلس عليه ووضع سيفه على ركبتيه ينتظر قدوم جرجس باز ورجاله.

الأمير بشير الثاني
الأمير بشير الثاني

أطل جرجس باز على الميدان فوجد الشيخ علي بوضع عادي أقله أنه بعيد عن المبارزة.
أومأ الشيخ إلى غريمه كي يترجل لوحده، ثمّ أسرّ في أذنه ما سمعه من أخوت شناي. وبعد تحقق الإثنين من نوايا الأمير وغدره، اتفقا على أن يجريا المبارزة باستحقاقها وبأن يسدد الشيخ علي ضربة لجرجس باز فيصرخ عندها مستغيثاً بالقول: العفو عند المقدرة يا شيخ علي!
وهكذا تمّت المبارزة كما رُسم لها، ثم عاد الفريقان كل إلى بلدته من دون أن يعلم أحد من الحاضرين بحقية ما اتفقا عليه.
في اليوم التالي، ذهب جرجس باز لزيارة الأمير، وكان من عادته أن يدخل عليه من دون إستئذان.. حملق الأمير في وجه زائره كأنه غير مصدق ما يشاهده، لاعتقاده أن جرجس أصبح في عداد الأموات وينتظر نعيه.
رحّب به بعد أن تمالك نفسه متجاهلاً ومتناسياً ما كان حضّر له لضيفه.
بعد مغادرة جرجس باز مجلس الأمير أرسل هذا وراء الشيخ علي يستخبره عمّا حدث. فأخبره الشيخ بما حدث قائلاً: “وأنت بتعرف يا مير ياللي بيستجيرنا منجيره”.
لكن رغم أن جرجس باز اكتفى شر الأمير وكظم على جرحه وابتعد عنه، إلا أن الأمير بقي حاقداً عليه متوجساً من وجاهته ومكانته، وقد تمكن أخيراً من أن يوقع به فقتله مع شقيقه عبدالأحد.

حكايات منطق الطير

حكايات منطق الطير

إياك والسعي لعشق المحبوب
إن لم تكن قادراً على بذل الروح

لماذا اشتكى النبي سليمان من خاتمه
واشترى إبراهيم بن أدهم الفقر بملك العالمين

إن ترغب في رؤية جمال الحبيب
فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته

إن تقدم عبد لسلوك الطريق بلا حرمة
فسيبعده السلطان فوراً عن بساطه

ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين
فلتبحث ذات مرة عن عيوبك

تقدم مجلة “الضحى” في هذا العدد مجموعة من الحكايات الرمزية التي أوردها الشاعر الصوفي فريد الدين العطار في كتابه الشهير “منطق الطير”، وهذه الحكايات تعتبر مساراً موازياً للحوارات التي تدور بين الهدهد المرشد وبين مجموعة الطيور الباحثة عن سر الخلق والتدرج في مسالك التصوف ومقاماته حتى مقام الشهود.
يستخدم فريد الدين العطار أسلوب الحكاية لأجل أن يشرح، وإن بصورة رمزية، رائعة أداب الطريق إلى الله والصفات المطلوبة من السالك، ولا سيما هجر الدنيا وما فيها، بل والزهد بالآخرة أيضاً، وقد جعل من المعشوق الإلهي غايته الوحيدة. ويستخدم العطار أسلوب الحكايات كمحطات تقطع الحوارات المثيرة بين الهدهد الذي يرمز إلى المرشد أو دليل الطريق وبين جماعة الطير (المريدون أو السالكون في طريق الحق)، وبينما تتخذ حوارات الهدهد طابعاً رمزياً فيه الكثير من الايحاء العميق لأسرار الوجود وأسرار الطريق والتحقق الروحي في الله، فإن الحكايات تهتم بالبناء الروحي وآداب الطريق إلى الحق وشروطها وتستهدف تقديم المثال والحافز للسالكين للاقتداء وتجميع الهمة ونبذ الدنيا وقواطع الطريق الكثيرة. ولا يتردد العطار في التشديد على صعوبة الطريق ووعورتها محذراً المريدين من سلوكها من دون زاد، ضارباً الأمثال بأنواع من الرجال يمثلون مختلف الخصال التي يسعى لاستعراضها والتشديد عليها، وهو يستعرض في الكثير من الحكايات الخصال السيئة التي يسقط معها أي أمل ببلوغ الغاية من السفر، مثل الحرص وطلب الدنيا والنفاق وعدم الوفاء والمعصية، لكنه يورد في المقابل الحكايات عن الزهد والتضحية بالروح واستصغار الدنيا، لكن أكثر ما يهتم به العطار هو الحديث عن العشق الإلهي وترك الكل في سبيل المعشوق مقدماً الأمثلة بعد الأمثلة عن العاشقين الذين يبذلون المهج والارواح من أجل أن يحظوا ولو بلفتة من المعشوق الأعظم.
وفي ما يلي بعض الحكايات والأمثال التي أوردها العطار في كتابه “منطق الطير”.

كيف كان خاتم سليمان عائقاً له
ليس لأي جوهرة في الدنيا السحر والندرة التي كانت لجوهرة خاتم سليمان، إذ أن فصها ذو شهرة وصيت ذائعين، مع إنه من حجر لا يتعدى في الوزن نصف دانق. وما أن أتم سليمان صنع هذا الجوهر فصاً لخاتمه حتى أصبح وجه الأرض كله تحت إمرته. وحينما رأى سليمان ملكه هكذا، وقد أصبحت جميع الآفاق طوع بنانه وامتد قصره أربعين فرسخاً، كما خضعت الريح لسلطانه، قال إذا كانت هذه المملكة وتلك المكانة وليدة ذلك الحجر القيِّم فأنا لا أريد أن يحظى إنسان قط في كلا العالمين بمثل هذا الملك، حيث رأيت يا إلهي بعين الاعتبار آفة هذا الملك واضحة للأبصار. إن الحياة قصيرة إذا قيست بالحياة الآخرة، فلا تعطِ – يا إلهي- بعد ذلك لأي إنسان فصاً آخر، فلا صلة لي بالمال والعسكر وإنما أختار حياكة الزنابيل.
مع إن سليمان أصبح بهذا الجوهر ملكاً إلا أن هذا الجوهر كان في طريقه عائقاً، وإن كان الجوهر يفعل هذا مع سليمان فكيف يكون عوناً لك أيها الضال؟ ولما كان الجوهر حجراً فلا تبحث عنه ولا تعش إلا من أجل الأحبة ولتخلص قلبك من “الجوهر” يا طالب الجوهر، وكن جوهرياً دائماً في الطلب.

السلطنة لله وحده
كان هناك رجل طاهر الرأي يسلك طريق الصواب، ذات يوم رأى محموداً (السلطان الشهير محمود الغزنوي) في نومه فقال: يا سلطان الزمان المعظم، كيف حالك في دار القرار؟ قال: صه ولا تسفك دم روحي، ولا تنطق بحرف، وأي مكان للسلطان هنا؟ فاستيقظ! لقد كان السلطان خيالاً ووهماً، إذ كيف تكون السلطة لحفنة من السقط؟ الحق وحده هو السلطان مالك الدنيا، وهو الجدير بهذه السلطنة، وما إن رأيت عجزي وحيرتي، حتى شعرت بالعار من سلطنتي. وإن ترغب في مناداتي فإن اسمي هو «العاجر». لأنه هو السلطان الأوحد، فلا تدعني سلطاناً. السلطنة لله، وأنا المنتفع من ورائه حتى ولو كنت شحاذاً، وليت طريقي اعترضته مئات المشاكل وليس به هذا الجاه. وليتني كنت أجمع السنابل ولم أكن ملكاً، فليضمر ريش تلك النعامات وجناحها حيث أظلتني بظلها.

المحبة والعقل
ما إن افترق يوسف عن ابيه حتى ابيضت عينا يعقوب لفراقه، وتلاطمت أمواج الدماء في عينيه، وظل اسم يوسف يتردد على لسانه، فجاءه جبريل قائلاً: إن يرد إسم يوسف على لسانك مرة أخرى فسنمحو اسمك من قائمة الرسل والأنبياء. وما إن جاءه الأمر من الحق في ذلك الزمان حتى كف عن ترديد إسم يوسف على اللسان، ولكن على الرغم من امتناعه عن ترديد الإسم لما به من خشية، إلا أن الاسم ظل في الروح مقيماً.
وذات ليلة رأى يوسف في منامه، فرغب في أن يدعوه إليه، ولكن سرعان ما تذكر أمر الحق، فلزم الصمت في لهفة واضطراب، لكن على الرغم منه انطلقت زفرة تنم عن جزعه. وما إن نهض من رقاده الهنيء حتى جاءه جبريل قائلاً: إن الله يقول – ما معناه- مع أنك لم تورد إسم يوسف على اللسان فإنك أطلقت زفرة في ذاك الوقت، وأنت تعرف ما تنطوي عليه الزفرة، لذا فقد نقضت في الحقيقة توبتك، فأي جدوى؟
هكذا تقضي المحبة على العقل بهذا التصرف. فانظر ماذا يفعل العشق بنا.

سلطان الوجود وثمن العشق الإلهي
كان هناك ملك وسيم غاية في الجمال، وحسنه لا مثيل له في الدنيا ولا مثال، وما الصبح الصادق إلا إشراقة وجهه، وما الروح القدسية إلا نفحة من طيب مسكه، ومُلكُ العالم مصحف أسراره، وغاية الحسن آية طلعته، ولا أعلم هل تمكن شخص قط أن يجد نصيباً من جماله، وبسببه غص العالم بالاضطراب، وحبه فاق كل حد لدى الخلق.
كل من رأى جماله عياناً أسلم الروح ومات متأوهاً، فالموت في سبيل عشق ذلك الوجه الآسر أفضل من مائة عمر مديد. لقد مات خلق عديدون على الدوام من هذا الطلب، إذ لا يمكن الصبر معه ولا الصبر من دونه. ويا للعجب! لو قدر وتوفرت لشخص القدرة لحظة لظهر وجه السلطان له عياناً، ولكن فقط إذا تخلى الشخص الراغب في رؤيته عن وجوده، لذلك ما استطاع أحد محادثته ومرافقته.
في ذلك الوقت أمر السلطان بإحضار مرآة كبيرة تمكن الناس من النظر إليه من خلالها. فشيدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة الضخمة في مواجهته، ثم صعد هو على سطح ذلك القصر ونظر في التو إلى المرآة، حتى أدرك كل شخص منه علامة.
إن ترغب في رؤية جمال الحبيب فاعلم أن القلب هو مرآة طلعته. ليكن قلبك على كفك ثم انظر جماله، ولتكن روحك مرآة له، ثم انظر جلاله، إنه مليكك في قصر الجلال، والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال، وللمليك طريق صوب كل قلب، ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه.

أبو يزيد في الصحراء
خرج ابو يزيد (البسطامي) ذات ليلة خارج المدينة، وكان كل شيء خالياً من ضوضاء البشر كما كان ضوء القمر ينير العالم حتى أوشك أن يحيل الليل نهاراً من شدة ضيائه. وبدت السماء مزدانة بالنجوم وكان كل نجم منها في شأن مختلف. لقد جال الشيخ في الصحراء فما وجد شخصاً يتجول بالفيافي والبوادي. فسيطر عليه الاضطراب بشدة فقال: يا رب لقد سيطر الاضطراب على قلبي بقوة، إن أعتابك ذات مكانة رفيعة، فكيف تبدو من المشتاقين خالية؟
جاءه هاتف يقول: أيها الحائر في الطريق، إن الله لا يهب لكل شخص الطريق. فقد اقتضت العزة الربانية أن تبعد عن بابنا كل مسكين، فما أن أضاء حريم عزنا حتى أبعد الغافلين عن بابنا، وقد ظل الخلق منتظرين سنوات وسنوات حتى يسمح لواحد من ألف أن يحظى بالرفقة.

الذهب-قاطع-طريق
الذهب-قاطع-طريق

الطريق والمرشد
قتل أحد الملوك مجرماً عقاباً له، وفي نفس الليلة رآه صوفي في المنام، يتجول باسماً في جنة عدن. كان يتجول مسروراً أحياناً ومتبختراً أحياناً أخرى. فقال الصوفي: لقد كنت للدماء سفاكاً وكنت بيننا ذليلاً أفّاقاً فمن أين أحرزت هذه المنزلة؟ إن ما فعلته لا يمكن أن يصل بك إلى هذه المرتبة!
قال: عندما سال على الأديم دمي، مرّ في تلك الآونة حبيب العجمي (أحد كبار الصوفية)، وفي الخفاء رمقني الشيخ بنظرة من طرف عينيه فأصبت هذا الشرف ومائة مثله بعزة تلك النظرة منه. وكل من أصابته نظرة حظ وقفت روحه في لحظة واحدة على مائة سرّ. وإن لم يشملك أحد بنظرة فكيف ينكشف لك خبر يقين عن وجودك؟ وإن كنت تكثر الجلوس وحيداً فلن تستطيع قطع الطريق بلا مرشد. فالطريق يلزمه مرشد فلا تسلكه بمفردك. ولا تسلك هذا البحر عن طريق التخبط والعمى، بل لا بدّ لك من شيخ في المسير حتى يكون ملاذاً لك من كل أمر عسير، وإن كنت لا تعرف الطريق من البشر فكيف يمكنك قطع الطريق بلا دليل؟ وليست لك عين بصيرة، كما أن الطريق ليست قصيرة والشيخ في طريقك هو هادي مسيرك، وكل من يكون في ظل صاحب الحظ لا يمكن أن يصيبه مكروه في الطريق، وكل من يسير على الدوام في ركاب الحظ يصبح الشوك في يده باقة ورد.

السلطان والحطاب
خرج السلطان محمود إلى الصيد وفجأة انتحى جانباً عن الجند، وكان هناك حطاب مسن يسوق حماره، فسقط الحطب منه ووقف حزيناً يحك رأسه، فرآه محمود في هذه الحال وقد سقط حطبه، ووقف ذليلاً كالحمار. فتوجه إليه محمود وقال: أتريد المساعدة أيها الكسير البال؟ قال: أريدها أيها الفارس فإن تساعدني فأي شيء في ذلك؟ أفيد أنا ولن تصاب بضرّ أنت. إنني أرى التوفيق في وجهك المشرق وليس اللطف قريباً عن كل ذي وجه مشرق.
ترجل السلطان من كرمه ومد يداً كالورد نحو الحطب، ووضع صاحب الجلالة الكومة فوق الحمار. وعاد بعد ذلك إلى جنده مرة أخرى. وقال للجند: إن حطاباً مسناً موجود هنا ومعه حمار محمل بالأحمال، فاقطعوا الطريق عليه حتى يقع وجهه على وجهنا. فقطع الجند الطريق على الشيخ حتى لم يعد أمامه من طريق سوى طريق السلطان. فقال الشيخ لنفسه: كيف أقطع الطريق حمار هزيل وأمامي جيش عظيم؟ ومع أنه كان يخشى رؤية السلطان إلا أنه اضطر أن يسير صوبه.
أخيرا قاد حماره النحيل حتى قرب من السلطان، وما أن رآه حتى اعتراه الخجل، إذ رأى تحت الخيمة وجهاً يعرفه، فوقف في ذلة وضراعة وقال: إلهي، لمن أشرح حالي وقد جعلت من السلطان محمود حمّالي؟
فقال السلطان: أيها الشيخ المهموم، ما قصتك؟ أسردها أمامي.
قال: أنت تعلمها، فدع هذه المواربة، ولا تبدو كأنك أعجمي وكفّ عن المداعبة. إنني شيخ فقير أعمل حطاباً، أقضي نهاري وليلي في الصحارى أجمع الأشواك والحطب، فأبيع الحطب وأشتري الخبز القفار: ألا تستطيع أن تكفل لي الرزق؟
قال السلطان: أيها الشيخ الكسير، ما ثمن حطبك لأنقدك إياه ذهباً؟
فقال: ايها السلطان لا تشتري مني بثمن بخس، فلن أبيعه رخيصاً، فاعطِني غرارة مليئة بالذهب.
فنهره الجند: اصمت أيها الأحمق! إن هذا (الحمل) يساوي حبتي شعير (من الذهب) فبعه بأتفه ثمن.
فقال الشيخ: إنه يساوي حبتي شعير، ولكن الثمن يختلف لعظم المشتري. فحينما وضع السلطان يده على حطبي أحال أشواكي إلى مائة روضة، فمن يرد شراء هذه الأشواك فليشترِ اقل شوكة منها بدينار. لقد شاكني اليوم بالعديد من إبره حتى جاء الملك بعظَمَتِه ووضع يده على شوكي، ومع أن هذه الأشواك بخسة الثمن، ولكن بفضل يده فهي تساوي مائة روح.

لا تعيب مرتكب الذنوب
قال الحق تعالي: لقد استغاث قارون متلهفاً، حيث قال:”إن لك يا موسى سبعين حملا”، فأجابه موسى: ” لن تعطى حملاً واحداً إلا إذا خاطبتني لحظة بذِلّة”.
كل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية
يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة
فاستأصِلت شأفة الشك من روحه، وخلعت على صدره خلعة الدين، أما أنت يا موسى فقد أهلكته بالعديد من الآلام، وجعلته ذليلاً، ووضعت رأسه في التراب فلو كنت خالقه لاستمرأت تعذيبه.
إن من يرحم عديمي الرحمة يجعل أهل الرحمة أولياء نعمته، فبحار فضله لا تنضب، وهو من يصفح عن المسيء إذا أبدى الندم والتوبة، وكل من يملك هذا العفو والصفح كيف يتغيّر من ارتكاب معصية؟ وكل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة.

أبو يزيد في الصحراء
أبو يزيد في الصحراء

العاشق الذي خسر رأسه
كان في مصر حاكم شهير فأغرم بهذا الحاكم رجل فقير، وما أن وصل خبر عشقه إلى الحاكم حتى استدعى العاشق الهائم، وقال له: إذا كنت قد أصبحت عاشقاً للسلطان فعليك الاختيار بين أمرين: إما أن تغادر هذه البلدة وهذا الإقليم، وإما أن تتخلى عن رأسك فداء لعشقي. هذا هو أمري الواضح وقد أبلغتك إياه بإيجاز: إما قطع الرأس وإما الرحيل!
لم يكن ذاك الرجل خليقاً بالأعمال، لذا اختار الرحيل عن الديار، وما أن همَّ ذلك الفقير بالذهاب متخلياً عن عشقه حتى قال السلطان: اقطعوا رأسه عن جسده.
فقال الحاجب: إنه لم يرتكب أي جريرة، فلمَ يأمر السلطان بقطع رأسه؟
فقال السلطان: «إنه ليس بعاشق، إذا لم يكن صادقاً معي في طريق العشق، فإذا كان يتصرف كالرجال، لاختار قطع الرأس في هذا المجال.
كل من كانت رأسه أعز لديه من الحبيب، فإن مزاولة العشق بالنسبة له أكبر ذنب. وإذا كان اختار قطع الرأس لأصبح أميراً في تلك المملكة ولصار ملك العالم تابعه، ولبادرت أنت إلى خدمته، ولكن لما كان مدعياً في عشقه فقد كان قطع الرأس علاجه، وكل من يتشدق بعشقي فهو مدعٍ وغاية في النفاق، وقد أمرت بذلك حتى يقلل كل مدّعٍ في عشقنا من التفاخر كذباً بذلك العشق».

” للمليك طريق صوب كل قلب
ولكن لا طريق للقلب الضال صوبه  “

مالك بن دينار
قال ذلك العزيز لمالك بن دينار: إنني لا أدرك حالي فهل أنت كذلك؟ إنني أطعم الخبز على خوان الحق ثم أنفذ جميع أوامر الشيطان.
قال مالك بن دينار: أيها البرّ الكريم، لقد صاد الشيطان الكثيرين مثلك، كما انتزعك الشيطان من الطريق، فعدِمْت الحول ولم يبقَ لك من الإسلام إلا القول. وقد أصبحت أسير الدنيا الدنيّة، وعلا الغبار مفرقك وكأنك جيفة، ربما أردت نصيحتك بالقول: تخلَّ عن الدنيا، إلا أنني في هذا الزمان أقول لك، إحرص عليها، لقد أسلمتها كل حظ كان لك، فكيف تستطيع التخلي عنها بسهولة من يدك؟
يا من غرق في بحر الطمع مما به من غفلة، إنك لا تعلم من أجل أي شيء تستمر في الوجود. لقد لبس العالمان رداء المأتم، وهما يذرفان الدمع، وأنت ما زلت تتردى في معصيتك. لقد سلب حب الدنيا ذوق إيمانك، كما سلب الطمع في هذا الشيء وذاك روحك.
ما الدنيا إلا وكر للحرص والطمع، وقد صدق الحق تعالى إذ أسماها «الفانية»؟ وكل من يصيبه الضياع في ذرة من هذه الفانية متى يستطيع أن يكون خليقاً بالرجولة؟
ما عمل الدنيا إلا بطالة، وما البطالة إلا أسر الجميع، وما الدنيا إلا نار موقدة، تحرق العديد من الخلق في كل لحظة، وعندما يزداد لهيب هذه النار فمهما كان الرجل شجاعاً فإنه يولي منها الإدبار. وكل من عبد النار كالفراشة فجدير بذلك المغرور الثمل أن يحترق فيها، وهذه النار تحيط بك من كل جهة، وستحرق بها في أي لحظة، فتبصر حتى تعرف أين مكانك وحتى لا تحرق هذه النار روحك.

 

“لا تسلك هذا البحر بالتخبط والعمى
بل لا بدّ لك من شيخ في المسير”

دعاء المغرور
قال أحد السادة وقت الصلاة: إلهي، امنحني التوفيق والرحمة. فسمع والِهٌ هذا القول منه وقال: إنك تأمل في الرحمة على عجل منه، إن الدنيا لا تتسع لك من فرط دلالك، لقد شيّدت قصراً يناطح الفلك، وزينّت جدرانه الأربعة بالذهب واتخذت عشرة غلمان وعشر جوارٍ، فكيف تكون الرحمة بين هذه الحجب الكثيفة؟ لكن انتبه، فعلى الرغم من كل هذه الأعمال فلك حق في طلب الرحمة، لكن ليتملكك الخجل، وإذا كان نصيبك مثلي رغيفاً واحداً فلك حق في طلب الرحمة، وإن لم تحوّل وجهك عن الملك والمال فلن تبقى لك زفرة واحدة بأي حال. فأشح بوجهك هذه الساعة عن الكل، حتى تفرغ كالرجال من الكل!

توبة الإحتضار
قال رجل متدين: إن جماعة من السفلة قد حولوا وجه أحدهم أثناء احتضاره إلى القبلة. قبل ذلك كان يجب أن يحول ذلك الجاهل وجهه إلى القبلة على الدوام. فما جدوى أن تزرع الغصن في الخريف؟ وكذلك ما جدوى أن يُحوَّل الوجه الآن إلى القبلة؟ لأن من يُحوَّل وجهه في تلك الساعة فحسب يمت جنباً فلا تبحث له عن سبيل للطهر.

بلاء الذهب
ملك أحد المريدين الجدد قليلاً من الذهب، وكان يخفي عن شيخه هذا الذهب، لكن الشيخ كان يعرف ذلك، ولم يقل شيئاً طالما ظل الذهب في الخفاء. ثم ذهب المريد وشيخ الطريق معاً في سفر. فبدا واديهما أمامهما جد مظلم، ثم وضح في ذلك الوادي طريقان. فتملك الخوف من يملك الذهب حيث جعله المعدن الثمين يبدو كذليل مضطرب، فسأل الشيخ: لم وضع أمامنا طريقان؟ وأي طريق نسلك في هذا المكان؟
فقال الشيخ: تخلّ عن كل معلوم لديك، لأنه خطأ؟ وأي طريق تسلكه بعد ذلك فهو مقبول جائز. فإذا قُدِر لإنسان أن يعادي الفضة فسرعان ما سيفِرّ الشيطان خوفاً منه، ولكي تتبين ما لخردلة من الذهب الحرام يوم الحساب يلزمك أن تكون دقيقاً دقة من يقِدّ الشعرة. لقد عدت ثانية إلى الدين كحمار أعرج، ووضعت يدك تحت الأحجار بلا جدوى، وإن تقبل على السرقة فأنت شيطان، وإن تقبل على الدين فأنت سلطان. وكل من قطع الذهب الطريق عليه ضاع في الطريق.

مكاره الطريق كنــز
كان يوجد ملك حسن الطوية، وقد أنعم ذات يوم على غلام بفاكهة. فكان الغلام يأكل فاكهته بنهم ويقول: لم آكل ما هو أفضل منها وألذ طعماً. ولفرط ما وصف الغلام ما كان يأكله بأحسن الأوصاف فقد تولّدت لدى الملك رغبة في تناولها. قال الملك: أيها الغلام أعطِني نصفها. فما أطيب ما تأكله من طعام.
أعطى الغلام الفاكهة للملك، وعندما تذوقها ذلك الملك وجدها مرة المذاق، فقطب الجبين وقال: إن ما فعلته لا يُتصَوَّر حدوثه مطلقاً. كيف يصبح هذا الشيء المرّ حلواً فيؤكل؟
قال الغلام: «يا ملك الملوك، لقد أتحفتني بآلاف التحف من يدك. فإذا كانت الفاكهة جاءتني من يدك مرّة فلا أستطيع ردّها إليك. إن كنت تنعم عليّ بالكنوز في كل لحظة فكيف يصيبني شيء واحد مرّ منك بأي غصّة؟ وإن كنت أعيش في كنفك فكيف أشعر بالمرارة من يدك؟
إن أصابَتْك مكاره كثيرة في طريقه فاعلم يقيناً بأن ذلك كنز وكفى! وأَمرُهُ نافذ من البداية إلى النهاية، فماذا أنت صانع إذا نَفَذ أمره؟ ومنذ أن عزم المحنكون على المسير فإنهم لم يطعموا لقمة دون غصّة أو ألم. وكلما جلسوا ليطعموا خبزاً أو ملحاً فما كسروا خبز قفار بلا حزن أو ألم.

حرمة السلطان
أنعم أحد الملوك بخلعة على أحد غلمانه، فخرج الغلام بالخلعة إلى الطريق، واستقر غبار الطريق على وجهه، فأسرع بإزالته بكم خلعته.
فقال أحد الوشاة للملك: أيها السلطان، لقد نظف الغلام غبار الطريق بخلعتك.
استنكر الملك منه تلك القحة، وفي الحال علّق ذلك المضطرب على المقصلة.
ألا تعلم أن من لا حرمة له في بساط السلطان لا قيمة له.

إبراهيم بن أدهم
كان هناك رجل غائب عن نفسه، وكان دائم الشكوى من فقره. فقال له ابراهيم بن أدهم: أي بني، لعلك اشتريت فقرك بثمن بخس! فقال الرجل: إن هذا لقول هزل، فهل يشتري إنسان الفقر؟ لتلزم حد الخجل.
قال إبراهيم بن أدهم: إنني أقبلت على الفقر ذات مرة بالروح، ثم اشتريته بعد ذلك بملك العالم، والآن أشتري منه لحظة واحدة بمائة من العوالم. وبهذا الثمن أقيِّم أي لحظة منه الآن. فما أن وجدت متعة الدنيا رخيصة حتى ودّعت السلطنة كليّة، فلا جرم أنني أدركت قدر الفقر، أما أنت فلا. ولذا ألهج في شكرِه أما أنت فلا.
جازف أهل الهمة بالروح والجسد، وقضوا سنوات عديدة في حرقة ونكد، وأصبح طائر همتهم للحضرة قرينا. وطرحوا عنهم الدنيا والدين، وإن لم تكن خليقاً بهذه الهمّة، فابتعد أيها الكسول، فلست ولياً للنعمة.

“كل من يعيب مرتكبي الذنوب والمعصية
يجعل نفسه في مقدمة خيل الجبابرة”

لماذا يبكي ملك الهنود
كان للهنود ملك مسن وقع أسيراً في يد جند محمود (السلطان محمود الغزنوي)، وما أن حمله الجند إلى السلطان حتى سارع ذلك الملك بقبول الإسلام، ثم حصل كل أسباب المعرفة، كما تحرر من جميع العالمين. بعد ذلك جلس وحيداً في الخيمة، وتخلّى عن قلبه، واستقر في محراب المحبة، حيث كان يقضي ليله ونهاره في بكاء وعويل، وكان نهاره أسوأ من ليله، وليله أسوأ من نهاره. وما أن زاد عويله ونحيبه حتى أُخبر محمود بأمره، فاستدعاه السلطان للمثول أمامه ثم خاطبه بالقول:
يمكنني أن أمنحك مائة مملكة اكثر مما كان لك، وأنت ما زلت ملكاً، فلا تنعِ حالك بسبب هذا الأمر، ولا تنخرط في البكاء أكثر مما أنت فيه!
قال ملك الهند: أيها السلطان العظيم، إني لا أبكي من أجل الملك والجاه، ولكنني أبكي خشية أن يسألني الله عز وجلّ يوم القيامة سؤالاً فيقول: أيها الجاهل سيئ العهد عديم الوفاء ، لماذا زرعت مع من مثلي بذور الجفاء؟ إذا لم يأتِك محمود بعالم غاصٌ بالفرسان والجنود ما تذكرتني، فكيف كان هذا؟ إن هذا بعيد عن الوفاء. لذا أوجبت تحرك الجيش من أجلك ومن أجل الآخرين، ومن دون هذا الجيش ما جاءتك منى تذكرة، فهل أدعوك صديقاً أم عدواً، وإلى متى يكون الوفاء مني ومنك الجفاء؟ فهذا الصنيع منك لا يجمل في الوفاء.
إن يأتي هذا الخطاب من الحق تعالى فكيف أجيب على ما بدر مني من عدم الوفاء؟ وكيف أواجه هذا الخجل وذلك الاضطراب؟ ولهذا يبكي الشيخ أيها الشاب، فاسمع كل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء، واسمع جيداً لما يلقى في محيط الدرس، وإذا كنت وفياً فاعزم على سلوك الطريق، وإلا فارضَ بالقعود، وكفَّ يدك عن هذا الطريق، وكل من يخرج عن حيِّز الوفاء لا يليق بباب المروءة.

الغازي والكافر
طلب أحد الغزاة مهلة من كافر ذي همة، طلب مهلة ليؤدي صلاة، وما أن وافق الكافر حتى أدى الغازي الصلاة، ثم عادت الحرب بين الرجلين إلى مجراها. وكانت للكافر صلاته كذلك، فطلب مهلة هو الآخر، وانسحب من المجابهة، واختار الكافر ركناً أطهر، ثم وضع رأسه على التراب أمام الصنم. وما أن رآه الغازي واضعاً رأسه على الأرض، حتى قال: لقد واتتني الفرصة في ذلك الوقت، فأراد أن يضربه بسيفه، فجاءه هاتف من السماء صائحاً:
يا من تتسم بسوء العهد، عليك بالتمسك بالوفاء والعهد، إنه لم يضربك بالسيف وقد أعطاك المهلة أولاً، فإن تضربه بالسيف فكم تكون جاهلاً! فيا من لم تقرأ «وأوفوا بالعهود» لقد أصبحت خائناً للعهد، إذا كان الكافر قد أحسن صنعاً قبل هذا، فلا تكن عديم المروءة أكثر من هذا. لقد فعل الخير وأنت تفعل السوء، فافعل مع الخلق ما تريده لنفسك. كان لك الوفاء والأمن من الكافر، فأين وفاؤك إذا كنت مؤمناً؟ فيا أيها المسلم لقد جئت بعيداً عن التسليم، حيث كنت أقل وفاء من الكافر.
تحرك الغازي من مكانه بعد سماع هذا الحديث، وقد تملكه الخجل وأصبح يتصبب عرقاً من الرأس إلى القدمين. وما أن رآه الكافر منتحباً هكذا حتى وقف حائراً والسيف في يده، وقال لماذا تبكي؟ فلتقل حقيقة ما حدث؟
قال الغازي: لقد عوتبت في هذه اللحظة بسببك، ووصفت بعدم الوفاء من أجلك، لذا فأنا حائر هكذا بسبب قهرك.
ما إن سمع الكافر هذا القول الصريح، حتى أطلق صيحة عالية واسترسل في البكاء وقال: أهكذا يعاتب الله الجبار محبوبه من أجل عدوٍّه البغيض؟ فإن يعاتب هكذا في الوفاء فماذا أصنع يوم الحساب، وقد عدمت الوفاء؟ لتعرض عليّ الإسلام حتى أسارع بالدخول فيه، وأحرق الشرك، وأتبع شريعة اليقين، واأسفاه أن كُبِّل قلبي، وأصبحت عديم المعرفة بربي إلى هذا الحد.

كيف يموت من قلبه متعلق بالله
كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته، فسئل: لِم هذا البكاء؟
قال: إنني ابكي بكاء سحابة الربيع، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة كما يجوز لي النواح الآن، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به؟
قال أحد جلسائه: إذا كان قلبك متعلقاً به، فإن تمت، كان الموت فضلاً وخيراً.
فقال العاشق: كيف يموت كل من تعلق قلبه بالله؟ وكيف يكون الموت من نصيبه؟ وإذا كان قلبي في وصال دائم معه فإن موتي يكون غاية في المحال.
إذا سررت بهذا السر لحظة، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة. كل من تَملَّكه السرور من وجوده، انمحى من الوجود وتحرر منه، لذا فليتملكك السرور من حبيبك على الدوام، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك.

غشاوة العشق
كان هناك رجل شجاع القلب شديد البأس عشق امرأة طوال خمس سنوات، وكانت على عين تلك المرأة الفاتنة الشبيهة بالصنم غشاوة بيضاء، ومع أن الرجل كان يكثر النظر إليها، إلا أنه لم يرَ تلك الغشاوة على عينها، إذ كيف يتأتى للعاشق، إذا كان ولهاً في عشقه، أن يدرك عيب معشوقه؟
وبعد فترة، أصاب الرجل في عشقه الفتور، ووجد الدواء، وضعف عشق تلك المرأة في قلبه، وهان أمرها على نفسه، عندها بان للرجل عيب عين المعشوقة، قال لها: متى أصابتك هذه الغشاوة؟
قالت له: في تلك الساعة التي قل فيها عشقك، أصاب العيب عيني في التو والحال، وما أن أصاب النقصان عشقك، حتى بدا العيب في عيني، ولقد فعلت ذلك لَمَّا سيطر على قلبك الاضطراب، فلتنظر إلى عيب واحد لك يا أعمى القلب!
ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين، فلتبحث ذات مرة عن عيوبك أولا، وما دام عيبك عليك ثقيلاً، فليس لك أن تهتم بعيوب الآخرين.

خطاب إلى داود النبي
وجه خالق الآفاق من فوق الحجاب إلى داود النبي هذا الخطاب، قال: كل شيء في هذه الدنيا، سواء كان حسناً أم قبيحاً أو كان ظاهراً أو باطناً، له عِوض إلا أنا. فلن تجد لي عِوضاً ولا قريناً. ولما كنتُ بلا عِوض فلا تكن من دوني، ويكفيني روحك، فكن روحاً ولا تكن جسداً، وأنت أيها الأسير لا غنى لك عني مطلقاً، فلا تكن غافلاً عن من هو واجب الوجود، ولا تطالب بالبقاء لروحك ولو للحظة من دوني، وكل ما يعرض أمامك غيري، لا تطلبه.
يا من أقبلت طالباً الدنيا، ستظل مشغولاً بآلام هذا العمل ليلاً ونهاراً، أنه مقصودك في كلا العالمين، كما أنه معبودك من قبل الإمتحان. واجبك أن تبيع الدنيا الفانية، لا أن تبيعه مقابل أي شيء في هذه الفانية، وصنمٌ كلُّ ما تفضله عليه، وكافر أنت إن تفضل الروح عليه.

ولياً للنعمة.
لماذا يبكي ملك الهنود
كان للهنود ملك مسن وقع أسيراً في يد جند محمود (السلطان محمود الغزنوي)، وما أن حمله الجند إلى السلطان حتى سارع ذلك الملك بقبول الإسلام، ثم حصل كل أسباب المعرفة، كما تحرر من جميع العالمين. بعد ذلك جلس وحيداً في الخيمة، وتخلّى عن قلبه، واستقر في محراب المحبة، حيث كان يقضي ليله ونهاره في بكاء وعويل، وكان نهاره أسوأ من ليله، وليله أسوأ من نهاره. وما أن زاد عويله ونحيبه حتى أُخبر محمود بأمره، فاستدعاه السلطان للمثول أمامه ثم خاطبه بالقول:
يمكنني أن أمنحك مائة مملكة اكثر مما كان لك، وأنت ما زلت ملكاً، فلا تنعِ حالك بسبب هذا الأمر، ولا تنخرط في البكاء أكثر مما أنت فيه!
قال ملك الهند: أيها السلطان العظيم، إني لا أبكي من أجل الملك والجاه، ولكنني أبكي خشية أن يسألني الله عز وجلّ يوم القيامة سؤالاً فيقول: أيها الجاهل سيئ العهد عديم الوفاء ، لماذا زرعت مع من مثلي بذور الجفاء؟ إذا لم يأتِك محمود بعالم غاصٌ بالفرسان والجنود ما تذكرتني، فكيف كان هذا؟ إن هذا بعيد عن الوفاء. لذا أوجبت تحرك الجيش من أجلك ومن أجل الآخرين، ومن دون هذا الجيش ما جاءتك منى تذكرة، فهل أدعوك صديقاً أم عدواً، وإلى متى يكون الوفاء مني ومنك الجفاء؟ فهذا الصنيع منك لا يجمل في الوفاء.
إن يأتي هذا الخطاب من الحق تعالى فكيف أجيب على ما بدر مني من عدم الوفاء؟ وكيف أواجه هذا الخجل وذلك الاضطراب؟ ولهذا يبكي الشيخ أيها الشاب، فاسمع كل حرف يقال عن الإنصاف والوفاء، واسمع جيداً لما يلقى في محيط الدرس، وإذا كنت وفياً فاعزم على سلوك الطريق، وإلا فارضَ بالقعود، وكفَّ يدك عن هذا الطريق، وكل من يخرج عن حيِّز الوفاء لا يليق بباب المروءة.

الغازي والكافر
طلب أحد الغزاة مهلة من كافر ذي همة، طلب مهلة ليؤدي صلاة، وما أن وافق الكافر حتى أدى الغازي الصلاة، ثم عادت الحرب بين الرجلين إلى مجراها. وكانت للكافر صلاته كذلك، فطلب مهلة هو الآخر، وانسحب من المجابهة، واختار الكافر ركناً أطهر، ثم وضع رأسه على التراب أمام الصنم. وما أن رآه الغازي واضعاً رأسه على الأرض، حتى قال: لقد واتتني الفرصة في ذلك الوقت، فأراد أن يضربه بسيفه، فجاءه هاتف من السماء صائحاً:
يا من تتسم بسوء العهد، عليك بالتمسك بالوفاء والعهد، إنه لم يضربك بالسيف وقد أعطاك المهلة أولاً، فإن تضربه بالسيف فكم تكون جاهلاً! فيا من لم تقرأ «وأوفوا بالعهود» لقد أصبحت خائناً للعهد، إذا كان الكافر قد أحسن صنعاً قبل هذا، فلا تكن عديم المروءة أكثر من هذا. لقد فعل الخير وأنت تفعل السوء، فافعل مع الخلق ما تريده لنفسك. كان لك الوفاء والأمن من الكافر، فأين وفاؤك إذا كنت مؤمناً؟ فيا أيها المسلم لقد جئت بعيداً عن التسليم، حيث كنت أقل وفاء من الكافر.
تحرك الغازي من مكانه بعد سماع هذا الحديث، وقد تملكه الخجل وأصبح يتصبب عرقاً من الرأس إلى القدمين. وما أن رآه الكافر منتحباً هكذا حتى وقف حائراً والسيف في يده، وقال لماذا تبكي؟ فلتقل حقيقة ما حدث؟
قال الغازي: لقد عوتبت في هذه اللحظة بسببك، ووصفت بعدم الوفاء من أجلك، لذا فأنا حائر هكذا بسبب قهرك.
ما إن سمع الكافر هذا القول الصريح، حتى أطلق صيحة عالية واسترسل في البكاء وقال: أهكذا يعاتب الله الجبار محبوبه من أجل عدوٍّه البغيض؟ فإن يعاتب هكذا في الوفاء فماذا أصنع يوم الحساب، وقد عدمت الوفاء؟ لتعرض عليّ الإسلام حتى أسارع بالدخول فيه، وأحرق الشرك، وأتبع شريعة اليقين، واأسفاه أن كُبِّل قلبي، وأصبحت عديم المعرفة بربي إلى هذا الحد.

كيف يموت من قلبه متعلق بالله
كان أحد العاشقين يبكي ساعة موته، فسئل: لِم هذا البكاء؟
قال: إنني ابكي بكاء سحابة الربيع، إذ يجب الإحساس بالألم في هذه اللحظة كما يجوز لي النواح الآن، إذ كيف يموت قلبي وهو متعلق به؟
قال أحد جلسائه: إذا كان قلبك متعلقاً به، فإن تمت، كان الموت فضلاً وخيراً.
فقال العاشق: كيف يموت كل من تعلق قلبه بالله؟ وكيف يكون الموت من نصيبه؟ وإذا كان قلبي في وصال دائم معه فإن موتي يكون غاية في المحال.
إذا سررت بهذا السر لحظة، فليس لهذا الكنز مثيل في هذه الحياة. كل من تَملَّكه السرور من وجوده، انمحى من الوجود وتحرر منه، لذا فليتملكك السرور من حبيبك على الدوام، حتى لا تتساوى مع الطين في داخلك.

غشاوة العشق
كان هناك رجل شجاع القلب شديد البأس عشق امرأة طوال خمس سنوات، وكانت على عين تلك المرأة الفاتنة الشبيهة بالصنم غشاوة بيضاء، ومع أن الرجل كان يكثر النظر إليها، إلا أنه لم يرَ تلك الغشاوة على عينها، إذ كيف يتأتى للعاشق، إذا كان ولهاً في عشقه، أن يدرك عيب معشوقه؟
وبعد فترة، أصاب الرجل في عشقه الفتور، ووجد الدواء، وضعف عشق تلك المرأة في قلبه، وهان أمرها على نفسه، عندها بان للرجل عيب عين المعشوقة، قال لها: متى أصابتك هذه الغشاوة؟
قالت له: في تلك الساعة التي قل فيها عشقك، أصاب العيب عيني في التو والحال، وما أن أصاب النقصان عشقك، حتى بدا العيب في عيني، ولقد فعلت ذلك لَمَّا سيطر على قلبك الاضطراب، فلتنظر إلى عيب واحد لك يا أعمى القلب!
ما أكثر ما بحثتَ عن عيوب الآخرين، فلتبحث ذات مرة عن عيوبك أولا، وما دام عيبك عليك ثقيلاً، فليس لك أن تهتم بعيوب الآخرين.

خطاب إلى داود النبي
وجه خالق الآفاق من فوق الحجاب إلى داود النبي هذا الخطاب، قال: كل شيء في هذه الدنيا، سواء كان حسناً أم قبيحاً أو كان ظاهراً أو باطناً، له عِوض إلا أنا. فلن تجد لي عِوضاً ولا قريناً. ولما كنتُ بلا عِوض فلا تكن من دوني، ويكفيني روحك، فكن روحاً ولا تكن جسداً، وأنت أيها الأسير لا غنى لك عني مطلقاً، فلا تكن غافلاً عن من هو واجب الوجود، ولا تطالب بالبقاء لروحك ولو للحظة من دوني، وكل ما يعرض أمامك غيري، لا تطلبه.
يا من أقبلت طالباً الدنيا، ستظل مشغولاً بآلام هذا العمل ليلاً ونهاراً، أنه مقصودك في كلا العالمين، كما أنه معبودك من قبل الإمتحان. واجبك أن تبيع الدنيا الفانية، لا أن تبيعه مقابل أي شيء في هذه الفانية، وصنمٌ كلُّ ما تفضله عليه، وكافر أنت إن تفضل الروح عليه.

“إن كنت تنعم عليّ بالكنوز في كل لحظة
فكيف يصيبني شيء مرّ منك بأي غصّة؟”

ما في قلبي إلا الله
ما في قلبي إلا الله

” لا تقل “أنا” يا من وقعت بسبب الأنانية
في مئات البلايا، حتى لا تصبح مبتلياً بإبليس “

 

عاقبة الغرور
خرج الشيخ أبو بكر النيسابوري مع أصحابه من الخانقاه إلى الطريق، وكان الشيخ يمتطي حماراً، ومن خلفه الأصحاب، وفجأة أصدر الحمار صوتاً مزعجاً، فأصيب الشيخ من ذلك بحالة هياج شديد، وصاح بأعلى صوت، ومزّق الاردية. أما المريدون الذين رأوه على هذه الحال، فلم يتقبلوا منه هذا العمل، ثم وجَّه أحدهم إليه هذا السؤال: أيها الشيخ، لِم فعلت ذلك؟
قال: كثيراً ما تحرزت وتمنعت، ثم سلكت الطريق بمفردي بعيداً عن الأصحاب؟ وقبل أن أكون مريداً، وبعد ذلك، كنت أقول في نفسي : حقاً إنني لست أقل من بايزيد. إنني اليوم أخرج إلى الطريق متبوعاً بالمريدين، وقد بدوت في أبهى زينة، أما في الغد فسأكون بلا قريب، متمتعاً بالسعادة والعز، إذ سأمضي في صحراء الحشر مرفوع الرأس. وفي هذه اللحظة وما أن خطر لي هذا التفكير حتى اتفق أن أصدر الحمار هذا الصوت ويعني ما حدث أن كل من يتشدق بهذه الطريقة، سيجيبه الحمار هكذا على الهواء. وقد اضطرمت النار في روحي حيث كان الوقت وقت حالي، واستغرقت في الحال.
طالما كنت في عُجُبِك وغرورك، فستظل جِدّ بعيد عن الحقيقة، فتخلَّص من عجبك واحرق غرورك، وإذا كان حضورك وليد نفسك، فاحرق حضورك، يا من تتلون بلون مغاير في كل لحظة، إن في داخل كل شعرة منك فرعوناً آخر، وطالما بقيت منك ذرة واحدة، فألوان النفاق العديدة فيك باقية، وإذا كان لك أن تجد الأمن من الأنانية، فلك أن تعادي كلا العالمين، وإن تفنَ نفسك ذات يوم، فستصبح ذا بريق وضياء مهما أظلمت الليالي، فلا تقل «أنا» يا من وقعت بسبب الأنانية في مئات البلايا، حتى لا تصبح بإبليس مبتلياً.

ابقراط في لحظة الموت
عندما كان أبقراط في النزع الأخير، كان معه تلميذه، فقال: أستاذي الكبير، كيف نكفنك ونطهر جسدك؟ وفي أي مكان من الأرض نضمك؟
قال: إن كنت ترغب في العثور عليّ مرة أخرى، فادفني في أي مكان ترغب. ولكني عشت عمراً مديداً، ولم أجد نفسي، فكيف تجدني أنت بعد موتي؟ فإذا رحلت، فهذا وقت الفناء، حيث لن تعرف شعرة واحدة من شعر رأسي أي خبر عني!

كن عبداً ذا حرمة
قال الخرقاني ساعة خروج الروح إلى الشفة في نزعها الأخير: يا للعجب، ليتهم شقوا روحي وفتحوا قلبي المشبوب، ثم أطلعوا العالم على قلبي، وشرحوا سبب اضطرابي، حتى يعلموا أن عبادة الصنم لا تليق مع معرفة السر، فلا تكن معوجّ السير.
هكذا تكون العبودية، وغيرها جنون، فالعبودية تعني التخلي عن الكلّ، يا عديم المروءة، فإن كنت نازعاً إلى الألوهية لا إلى العبودية، فكيف تكون لله خاضعاً؟ فتخلَّ عن نفسك وكن عبداً، بل كن عبداً متخلياً عن الكلّ، وعش هكذا. فإذا أصبحت عبداً، فكن ذا حرمة، بل وكن ذا همة في طريق الحرمة، فإن يتقدم أي عبد لسلوك الطريق بلا حرمة، فسرعان ما يبعده السلطان عن بساطه، ولقد أصبح الحرم حراماً على من لا حرمة له، فإن تتصف بالحرمة فهذه هي النعمة التامة.

الأهرامات سر مغلق

بناء يخاف الدهر منه وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

ما من زائر أو سائح قصد مصر إلا وكانت بغيته الأولى زيارة الأهرامات قبل سواها، ليقف أمامها مستعظماً ومندهشاً وحتى مستغرباً قائلاً في ذاته: هل هي حقاً من بناء البشر العاديين أم من بناء الجن أو مخلوقات خارقة من خارج الأرض!!
يقول عالم الآثار الفرنسي الشهير “شامبليون”، الذي رافق نابليون في رحلته إلى مصر واكتشف “حجر رشيد”، الذي مهد لفك رموز الكتابة الهيروغلوفية: “إن الأهرامات لم تكن من صنع كائنات بشرية مثلنا، بل من صنع طوائف حاملي الأسرار التي ما خلا منهم زمان ولا مكان، لقد تمكنت هذه الطوائف المتفوقة أن تمتلك تكنولوجيات متقدمة اختفت مع الطوفان أو صينت وحفظت في أحرام خفية في مكان ما من العالم، وهذه الحضارة الخفية ما زالت ترشد المؤمنين وتقوي عزيمتهم وتشرق من عليائها بأنوار اليقين”.
ظهرت عظمة الأهرامات عبر التاريخ في ما تجسده من أحجامها الهائلة، ودقة هندستها، وعجائب ما في جوفها وغموض رموزها، وصمودها وثباتها أمام عواتي الدهر كالزلازل والفيضانات والرياح وأطماع البشر بما في ذلك تخريب الفاتحين وعبث العابثين واللصوص المحترفين ليصح فيها قول الشاعر القديم:
بناءٌ يخاف الدهرُ منه وكل مـا علـى ظاهر الدنيا يخاف من الدهر

قصة باني الأهرام
أجمع العديد من العلماء والمؤخرين الأقدمين أن هرمس الهرامسة هو باني أهرامات الجيزة، من ضواحي مصر، أي القاهرة حالياً، وقد عرف هرمس في اللغة اليونانية بـ”أرميس”، ومعنى أرميس عطارد. وآخرون قالوا إنه اسم سرياني واشتقاقه عن الهرمسة أي علم النجوم. وعُرف عند العرب بالنبي ادريس وأسموه بذلك لكثرة دراسته. وعند العبرانيين عرف بـ “أخنوخ أو أخناتون” التوحيدي، وقد وُلد بمدينة مناف في مصر القديمة، وعندما بلغ الأربعين من عمره أُنزل عليه ثلاثون صحيفة وورث صحف شئت وتابوت آدم. والصابئة الحاليون، وهم فرقة قديمة في التاريخ، لم تزل تقطن منطقة الأهواز في جنوب العراق يزعمون أنهم من أتباعه ومتمسكون بكتب النبي هرمس ويقدسونه ويعبدونه. كذلك تماثلهم فرق باطنية أخرى تقول عن بناء الأهرامات أنها بُنيت لأجل الحفاظ في داخلها على أسرار الكون ومواثيق البشر، وأن لكل فرد سجلاً في داخلها.
ومما يلفت النظر أن جماعة “الروز كروشن” أو الهالة الوردية، والتي يبلغ عدد أفرادها في العالم نحو 14 مليوناً، منتشرين في أوروبا وأميركا وآسيا، تؤمن بأن الأهرامات هي كعبة المؤمنين والموحدين عبر الأجيال.
كذلك ما أوردته حديثاً إحدى الدراسات الأميركية الصادرة عن جمعية “فيدرالية الأخوة العالمية ” IFB، إذ تقول عن الحضارة المصرية إنها حضارة روحانية تؤمن باليوم الآخر وجوهرها تقديس الحياة الآخرة للإنسان، لهذا كان أعظم رموزها هي الأهرامات وما تحويه من أسرار الكون وقبور الملوك، وكتابها المقدس هو “كتاب الموتى” وفحواه كيفية اجتياز يوم الحساب وبلوغ الآخرة.
وما يماثل هذا القول ما أورده العالم الإنكليزي الشهير “بول برنتون” PAUL BRUNTON، الذي أمضى بمفرده ليلة كاملة داخل حجرة الملك في الهرم الأكبر إذ أتاه الوحي قائلاً: “اعلموا يا أولادي أنه في هذا الأثر القديم تكمن الحقائق والمعارف المفقودة للأجيال السابقة من البشر، إذ تكمن أسرار المواثيق التي عقدها الانسان القديم مع الخالق من خلال الأنبياء والسابقين، واعلموا أيضاً أنه لم يطّـلع على هذه المواثيق سوى المختارين من أبناء البشر”.
والحقيقة أن الأهرامات هي من غرائب العبر إذ أن لها آلافاً من السنين والحقب لم يعرف ما في داخلها أي مخلوق من البشر، كذلك عجز الملوك والجبابرة عن هدمها واستخراج ما في باطنها، ورجعوا عنها بعد بذل الأموال الطائلة خائبين، ومنهم الخليفة المأمون العباسي، والذي حشد لها أعداداً كبيرة من الفعلة والحجارين، وضاعف لهم النفقات حتى قيل أنه قدّم لذلك نحو ألف أوقية من الذهب الخالص ولم يحصل على طائل، وكفّ عنها خائباً، “حسب بعض المخطوطات القديمة”، وتكمل تلك المخطوطات فتقول: ” أمّا الهرمان في الجانب الغربي من فسطاط مصر وهما من عجائب برهان العالم مبنيّان بالحجم العظيم على الرياح الأربع، وما على وجه الأرض أعظم وأجل بناء، ولا أحسن هندسة ولا أطول بقاء ولا أرفع سناء من هذه الأهرامات، إذ بعضها مبني بحجارة الصوان الأحمر المنقط الشديد الصلابة والقسوة. ومن عجائب بنائها وضع الحجر على الحجر بهندام ليس في الإمكان أصح منه بحيث لا تجد بينهما مدخل أبرة، ولا خلل شعرة، ووجد مكتوب عليها كتابة غريبة ترجمتها هي: “إن بين هذين الهرمين والنسر الواقع في السرطان” فحسبوا من ذلك الوقت إلى الهجرة النبوية فبلغ إثنين وسبعين ألف سنة شمسية (لا نعلم ما هو هذا الحساب).

باسم الله
وقيل أن هرمس الهرامسة لما عزم على بنائها أمر باستخراج الرصاص من بلاد المغرب، وقطع الأحجار الضخمة الهائلة من أماكن بعيدة جداً عنها، وكان عندهم صحائف مكتوب عليها اسم الله العظيم فيضعون الصحيفة على الحجر ويسمّون باسم الله تعالى ويدفعونه بتلك الدفعة مقدار مائة سهم، ثم يعيدون عليها الصحائف والدفع حتى تصل إلى الهرم بغير حملٍ ولا مشقة، فإذا وصل الحجر إلى الهرم يثقبونه ويجعلون في وسطه قطباً من حديد قائماً ثم يركّبون عليه حجراً آخر مثقوباً ويُدخلون القطب فيهما جميعاً ثم يُذاب الرصاص ويُصب في القطب وحول الحجر بهندام وإتقان.
وتناسباً مع هذا القول القديم ما أورده في دراسته المؤرخ الأوروبي في القرن التاسع عشر (Kings Land ) كنجزلاند، إذ ذكر أن قطع أحجار الجرانيت (الصوان)، والتي تزن الواحدة منها سبعين (70) طناً، والموجودة في مخدع الملك، قد أعدّت في مقالع تبعد ستمائة (600) ميل قبل نقلها فوق النيل، ثم تابع يقول: “لا بد أن قوة غامضة قد استخدمت في نقل هذه الأحجار لا يعلمها سوى الله”.

شهادة نابليون
والقائد الفرنسي نابليون عندما احتل مصر سنة 1789، وبعد أن وقف مندهشاً أمام عظمة الأهرامات قال إن ما تحويه من حجارة ومواد بناء يكفي لإحاطة فرنسا بجدار تبلغ سماكته 92 سم، وارتفاعه نحو 3 أمتار. وكلام روحي آخر يقول: “إن في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب وتكوينها وما يحدث في أدوارها وقتاً وقتاً، وما تحمل لها من التواريخ والحوادث التي مضت والأحداث التي ينتظر حدوثها في مصر، وما يليها من أقطار العالم إلى آخر الزمان”.
“وكذلك زُبر على حيطانها أصناف العلوم العظيمة كعلم السيما وعلم الكيمياء والهيئة والحساب والأحكام الهندسية والمنطق والطب والفلسفة، ولم يترك علم من العلوم حتى تمّ زبره ورسمه”. ويضيف بعض المؤرخين القدماء القول إنه لا يوجد على وجه الأرض قاطبة بناء أعظم منها أو يضاهيها، وهي مع طول الأمد والدهور لم ترث ولم تبل، وهي العجيبة الوحيدة الباقية سالمة من عجائب الدنيا السبع القديمة.
إلى هنا انتهى ما ذكرته تلك المخطوطات القديمة، ونحن بدورنا لا يمكننا أن نذكر كل ما كتب عنها من المؤرخين والجغرافيين الحديثين من علماء ومفكرين ورحّالين، وقد أسهبوا في بيان أوصافها ومميزاتها وأهميتها التاريخية، وحتى تقديسها، ومنهم من أصابته لعنة الفراعنة والمعروفة عند الجميع إذ حلّت بهم بعد أن تطاولوا من قطع أو حفر أو إخفاء بعض حجارتها أو معالمها، ثم نقلها إلى بلدانهم أو بيوتهم فكان نصيبهم أن حلّت المصائب والأحزان في ديارهم، ومنهم العالم الاسكتلندي “Winston” ونستون، إذ فقد أولاً أولاده ولداً تلو الآخر، ثم فقد زوجته. كذلك أصابه الوسواس ولم يعد إلى صوابه إلا بعد أن أعاد إلى الأهرامات ما سرقه من أفيائها، وقصص كثيرة تُروى بين العامة من المصريين وسواهم ما جعل الجميع يهابون لمسها أو أخذ أي شيء منها بعد أن دفع العديد منهم الأثمان غالية.
خاتمة: ليس بالكثير أن يكون عدد الزائرين لتلك الأهرامات، وحسب إحصاء وزارة السياحة المصرية في أيام السلام والأمان، نحو (20) عشرين مليون زائر كل عام، وأن عدد زائريها من الأحياء على وجه الأرض ربما يزيد عن نصف مليار زائر من البشر.

الأخوت اللّي بدو يقتل أمو
ويحتمي عند خالتو

لكل عالم هفوة ولكل صارم نبوّة ولكل جوادٍ كبـوة
( عمر بن الخطاب)

بعد أن تدفقت مياه نبع الصفا في أجران أحواض قصر بيت الدين، لتزيده روعة وجمالاً وتبعث الحياة في حدائقه، ازداد الجميع إحتراماً وتقديراً لأخوت شناي (حسن) صاحب فكرة إيصال المياه، وإن تكن تسميته بالمجنون فهو بالحقيقة ذو عقل أميز من عقول العديد من العقلاء، ورأيه كما تبين كان أصوب بكثير من آراء حاشية الأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل بنصيحة “الأخوت” وجلب المياه إلى قصره العامر.
وحيث إن صفة الجنون كانت تلازمه، لذا كان يدلي بدلوه، وأينما وجد، من دون خوف أو حذر، بل باعثاً في محدثيه حس الطرافة وقوة الرأي العفوي الذي لا يخالطه أي رياء. فبعد أن وجد الأمير بشير الشهابي في حيرة من أمره، مرتبكاً متردداً كيف ستصل المياه إلى القصر، وكيف سيتمكن من جرها والمسافة بعيدة وتتخللها أودية ومنحدرات.
وبينما هو في هذه الحيرة تقدم منه أخوت شناي وحادثه قائلاً: لماذا هذا الإرتباك يا سيدي المير ورجالك إذا مددتهم على الأرض من الصفا إلى القصر، وأمرتهم أن يحفرَ كل واحد منهم على قدر طوله، فخلال يومين أو أكثر تصل المياه إلى بيت الدين.
وهكذا كان، فبعد أن أخذ الأمير برأي الأخوت، عظم شأن الأخير وازداد احترامه، وأصبح رأيه قبل رأي العديد من المقربين والمستشارين، يُلازم المير في حلّه وترحاله في قصره وشتى أحواله، متندراً وراوياً، متعرفاً ومصادقاً معظم زواره. يعلم بكل شاردة أو واردة ترد إلى القصر أو تخرج منه، وما أكثرها تلك الأيام، وخاصة الدسائس والمكائد، والتي كان صاحب القصر سيدها لإيجاد التفرقة والبغضاء بين الزعماء والوجهاء، الذين يأتون لزيارته، وقصده من خلالها إذلال الجميع وتفرقتهم عن بعضهم البعض، وإخلاء أي إعتراض من قبلهم، وهذا ما عرف به تاريخ ذلك المتسلط خبثاً ودهاء.
وأخطر تلك المكائد كانت على ولي نعمته، والعامل الأول لإيصاله إلى مكانته، الشيخ بشير جنيلاط، وكيف أوقع الفتنة بينه وبين أنسبائه من المشايخ النكدية أصحاب إقطاعية المناصف ودير القمر، ثم كيف استدار نحوه وتمكن من خلال والي عكا من قتله خنقاً ورمي جثته مع مرافقه على رمالها، إلى أن سمح لمشايخ آل معدي في بلدة يركا من الجليل الأعلى، بجلبهما ودفنهما في مدافنهم، ولتاريخه لم تزل في تلك الديار.
لكن ما سنرويه كيف أراد أن يوقع بين الشيخ علي العماد زعيم منطقة الباروك، وما يعرف بالعرقوب، وبين ربيبه ومستشاره الخواجه جرجس باز، بعد أن توجس الخوف والحذر من جانبه لما له من مكانة عالية وتقدير كبير بين أتباعه. لهذا حقد في ذاته ثم أخذ يتحين الفرص للتخلص من الإثنين معاً.
استدعى يوماً الشيخ علي العماد ثم أسرّ له في أذنه، أن جرجس باز يضمر لكم الحقد والإحتقار، ويعمل خفية على إبعادكم والإقتصاص منكم، وهذا ما ردده مراراً وتكراراً.
في المقابل أيضاً كان المثل مع جرجس باز إذ أسر له الأمير الداهية بكلام استهدف منه أن يوغر صدره على الشيخ علي العماد، بحيث تكتمل أسباب العداوة بين الرجلين، وعندها فإن التخلص منهما معاً يصبح أسهل.
وفي يوم، كان علي العماد في طريقه عائداً من كفرحيم إلى بلدته كفرنبرخ، وقد توقف أمام دارة  جرجس باز في دير القمر، ثم ناداه: يا خواجه جرجس “أنا شايف لازم نعيّر الرطل بيننا وعليك بملاقاتي إلى ميدان بتاتر، كي نقيم نزالاً ثم نعلم بعده لمن ستكون الوجاهة”
استغرب جرجس باز ونفر لهذا التصرف من قبل الشيخ، ولاسيما أن عهده به أنهما صديقان. إلا أنه ورغم ذلك أجابه: “على رأيك يا شيخ علي ونحن لها”.
شاع الخبر وسرى بين القرى والبلدات كما تسري النار في الهشيم، وغدا الناس منقسمين بين الإثنين وكل يتبع وجيه طائفته.
أخوت شناي بحكم تواجده الدائم في القصر علم أن الأمير بشير، هو مدبر هذه المكيدة وقصده إيقاع الفتنة والخلاف بين النصارى والدروز على مبدأ فرّق تسد.
في اليوم المحدد للمبارزة توجه جرجس باز وبرفقته أنصاره إلى ميدان بتاتر، كذلك فعل الشيخ علي لكنه عرّج في طريقه على نبع الصفا فوجد أخوت شناي ينتظره هناك. وحال وصوله هاجمه شاهراً بيده سيفاً من الخشب قائلاً: “إنزل عن فرسك يا شيخ وإلا قتلتك بسيفي”، أجابه الشيخ: “حل عنا ولك يا أخوت”
هز أخوت شناي برأسه، وقال: “أنا أخوت ولاّ إنت؟؟ أخوت إللي بده يقتل أمو ويروح يحتمي عند خالتو”!
وتابع: “شو بدك فيه لإبن باز تا تقتلو وساعتها بيغضبوا النصارى ويحملوك دمّو؟ بتعرفش العاقبة بعدها شو بتكون؟ غاية الأمير أنو يتخلص منك ومنو”.
أمعن الشيخ التفكير بعد سماعه قول الأخوت، ثم هزّ برأسه موافقاً، وقال لمن حوله: فعلاً خذوا الحكمة من أفواه المجانين، والظاهر إنو أخوت شناي أعقل وأخبر منا”، ثم تابع طريقه وهو في حالة تأمل وحذر متذكراً مكائد الأمير وخبثه. وعند وصوله إلى ميدان بتاتر ترجل عن فرسه، ثم ربط لجامه برجل الكرسي الذي جلس عليه ووضع سيفه على ركبتيه ينتظر قدوم جرجس باز ورجاله.
أطل جرجس باز على الميدان فوجد الشيخ علي بوضع عادي أقله أنه بعيد عن المبارزة.
أومأ الشيخ إلى غريمه كي يترجل لوحده، ثمّ أسرّ في أذنه ما سمعه من أخوت شناي. وبعد تحقق الإثنين من نوايا الأمير وغدره، اتفقا على أن يجريا المبارزة باستحقاقها وبأن يسدد الشيخ علي ضربة لجرجس باز فيصرخ عندها مستغيثاً بالقول: العفو عند المقدرة يا شيخ علي!
وهكذا تمّت المبارزة كما رُسم لها، ثم عاد الفريقان كل إلى بلدته من دون أن يعلم أحد من الحاضرين بحقية ما اتفقا عليه.
في اليوم التالي، ذهب جرجس باز لزيارة الأمير، وكان من عادته أن يدخل عليه من دون إستئذان.. حملق الأمير في وجه زائره كأنه غير مصدق ما يشاهده، لاعتقاده أن جرجس أصبح في عداد الأموات وينتظر نعيه.
رحب به بعد أن تمالك نفسه متجاهلاً ومتناسياً ما كان حضّر له لضيفه.
بعد مغادرة جرجس باز مجلس الأمير أرسل هذا وراء الشيخ علي يستخبره عمّا حدث. فأخبره الشيخ بما حدث قائلاً: “وأنت بتعرف يا مير ياللي بيستجيرنا منجيره”
لكن رغم أن جرجس باز اكتفى شر الأمير وكظم على جرحه وابتعد عنه، إلا أن الأمير بقي حاقداً عليه متوجساً من وجاهته ومكانته، وقد تمكن أخيراً من أن يوقع به فقتله مع شقيقه عبدالأحد.

أفلاطون

الحلقة الثانية

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة باعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة». كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بإعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم
الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم

سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان

اختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام بـ»تخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حل المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث. إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين»المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.

المــــلك والقاضـــــي

القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة وإثنان في النار، وتفسير ذلك:
الأول عرف الحق وقضى بموجبه فدخل الجنة.
أما الثاني فعرف الحق وقضى ضده.
أما الثالث فقضى من دون معرفة الحق فكان الأخيران في النار. (حديث شريف)

قصص القضاة كثيرة ومثيرة أحياناً وقلما خلا الأدب الشعبي في أي بلد من حكايات وعبر عن أعمال القضاة لأن العدل مسألة تتعلق بها قلوب الناس ويهتمون بأخبارها كما يهتمون ويتابعون أخبار الجور والإفتئات على الحقوق والكرامات. تحضرني هنا مأثرة لأحد الملوك في غابر الزمان، إذ كان ما إن يعيّن قاضياً حتى يطالب الشعب بعزله، غير أن قاضياً جديداً انتدبه للنظر في قضايا وشؤون الناس في إحدى المدن بقي الشعب يطالب ببقائه عاماً بعد عام. تعجب الملك من هذه الظاهرة وثار فضوله فقرر أن يذهب بنفسه ويستطلع سبب تعلق الناس بذاك القاضي، تدروش بزي رجل بسيط وركب فرسه قاصداً تلك المدينة.
في الطريق شاهد رجلاً منبطحاً إلى جانب حائط يستغيث بذي المروءة، ليحمله كونه مريضاً. أشفق الملك عليه ثم نزل عن فرسه وأركبه مكانه. وبعد وصولهما إلى المدينة المقصودة، طلب الملك الفرس فأبى المدّعي أن يعيدها قائلاً إنها ملكه، آنذاك ما كان أمامهما سوى الإحتكام إلى القاضي، والذي كان يحاول الملك أن يعرف سبب محبة واحترام الناس لقضائه وأحكامه.
كان القاضي المذكور يقضي بدعويين غير دعوى الملك على الرجل، الأولى بين لحّام وزيّات على صرة دراهم، والثانية بين كاتب ومكاري على إمرأة يدّعي كل منهما أنها زوجته، وهي لا تنبس ببنت شفة. ولما وصل الملك المتدروش والرجل المتخاصمان على الفرس، كان الوقت قد صار مساء، فقال القاضي للمتداعين: اتركوا عندي الصرة والمرأة والفرس وتعالوا غداً فأسلم كل ذي حق حقه.
في الوقت المحدّد، رجع المتداعون إلى المحكمة، فقال القاضي للشرطي: سلّم صرة المال إلى اللحام، واصرف الزيّات بعد أن تجلده أربعين جلدة، ثم سلّم المرأة للكاتب واجلد المكاري أربعين جلدة، ففعل الشرطي، ولما أتى دور المتداعيين على الفرس نهض القاضي، وأنزل المتدروش (أي الملك) إلى الإسطبل، حيث الفرس المربوطة بين عدد من رؤوس الخيل، ثم طلب إليه أن يدله عليها ففعل على الفور، ثم أتى بالرجل وطلب إليه أن يعرفها فعرفها أيضاً.
قال القاضي للشرطي: سلّم الفرس للمتدروش واجلد الرجل أربعين جلدة.
دهش الملك المتنكر لأحكام القاضي القاطعة، فقصده ليلاً إلى منزله وكشف له أنه الملك وأنه يريد أن يعرف على أي أسس بنى أحكامه.
أجاب القاضي: أما الدراهم التي اختلف عليها اللحام والزيّات، فإنني وضعتها في الماء المغلي فطافت الأزهام والأدهان العالقة بها، فعرفتها أنها دراهم اللحام.
أما المرأة التي اختلف عليها المكاري والكاتب، فقد أمرتها أن تضع علفاً للفرس، فلم تستطع أن تميّز نسبة كمية الشعير في العلف إلى نسبة التبن، فعرفت أنها زوجة الكاتب وليس المكاري.
قال الملك: يبقى أن تخبرني كيف علمت أن الفرس هي فرسي، مع أن المدّعي عرفها كما عرفتها أنا!
أجاب القاضي: لكن ظهر لي فرق كبير بين معرفتك ومعرفته، فهي عرفتك بهمهمتها ونظرتها إليك وعطفها نحوك.

فأين قضاة اليوم من قضاة الأمس.
وأين زعماء اليوم من زعماء الأمس.
وهل أن اليوم أفضل من الأمس؟!

 

 

حكاية «أم الصبي» في آداب الشعوب

العدل في التراث الصيني والهندي
وصولاً إلى قضاء النبي سليمان (ع)

قال بعض الحكماء:
لا شيء أحسن من عقل زانه حلـمٌ
ومن عمل زانه علـــمٌ
ومن حلم زانه صدقٌ

البلد مليء بأخبار ونوادر السياسيين وصفقاتهم والأعمال المشينة لبعضهم (ولا نريد التعميم). ومن هؤلاء من يرفعون شعارات العفة والطهارة وحتى الشفافية، حتى إذا تجرّأ أحدهم وسألهم عن سبب التناقض بين أقوالهم وأفعالهم اعتلوا سروج خيولهم وسطوح أبراجهم وملأوا الدنيا بصياحهم مرددين بكل ثقة وفخر: نحن من سلالة “أم الصبي” وهم يعنون بذلك أن لا أحد يمكن أن يضاهيهم في الغيرة على مصلحة البلاد والعباد. وكي لا يبقى استخدام الكلام في غير محله ومن أجل تحرير هذا المثل من الاستخدام الباطل أحببت أن أسرد ثلاث حكايات مما أوردته الكتب المقدسة وآداب الشعوب توضح أصل هذا التعبير وسبب تحوله إلى تعبير شهير في أكثر الثقافات العالمة.
لنبدأ بقصة مثيرة في الأدب الشعبي الصيني وردت في كتاب “الشمعة والغرفة المظلمة” لأحد الكتّاب الصينيين، وقد دارت فصول تلك الرواية في بيت أحد الأمراء في الصين، إذ لعبت دور البطولة فيها زوجة من جهة وعشيقة من جهة ثانية. وتقول الرواية إن الأمير تزوج إبنة عمه فلم يرزق منها بولد رغم مرور ست سنوات على الزواج، فراح يُفكر بوليّ للعهد. وارتأى أن يتخذ له عشيقة لتقوم بالمهمة، ثم فاتح إبنة عمه بالأمر فوافقت بعد ممانعة، كون التعاليم الدينية لا تسمح بتعدد الزوجات عند الصينيين.
استجابت السماء لدعاء الزوجة الطاهرة فحملت في الوقت نفسه الذي حملت فيه المرأة التي اتخذها الأمير عشيقة طمعاً في أن يرزق منها بوليّ للعهد، بل شاءت الأقدار أن تضعا معاً في ليلة واحدة، فولدت الزوجة صبياً وولدت العشيقة بنتاً.
أصيبت العشيقة بصدمة كبيرة وهي ترى غريمتها قد رزقت بوليّ للعهد بينما لم تجلب هي للأمير سوى بنت والبنت في المجتمع الصيني القديم لا يمكن أن تعتلي عرشاً. وسوس الشيطان للعشيقة فعمدت إلى أخذ الصبي خلسة وفي غفلة عن والدته ووضعت البنت مكانه على أمل أن يقوم الأمير بتطليق زوجته وإحلال العشيقة مكانها، كونها هي التي ولدت له ولي العهد. لكن عندما انتبهت الزوجة لجناية العشيقة رفعت الصوت عالياً وأوصلت الأمر إلى قاضي القضاة، فعيّن موعداً للمحاكمة واستمع إلى مرافعات العشيقة والزوجة، وكانت الحجج متقاربة في المرافعتين. عندها قرر إحضار الطفل إلى بيته وأوصى زوجته كي تعتني به.
في الموعد المحدد للإستماع إلى الحكم وضع ثياب الطفل فوق جسد لعبة بحجم الطفل كانت صنعتها زوجته من القماش والقطن، ثم قال للزوجة والعشيقة إنكما لا تستحقان هذا الطفل، وعليه قررت أن أضعه في هذه الجرة، وأن ألقيه في النهر، ثم عمد مسرعاً إلى وضع اللعبة في الجرة ورمى بها في النهر المجاور للمحكمة.
الأم الحقيقية ما كان منها إلا أن ألقت بنفسها في النهر وراء الجرة، أملاً منها بإنقاذ الطفل، رغم أنها لا تحسن السباحة، بينما العشيقة بقيت في محلها.
عرف القاضي آنذاك من هي الأم الحقيقية، ثم أرسل السباحين لإنقاذها، ومن بعدها أصدر أمراً بتسليم الطفل إليها.
وفي الأدب الشعبي الهندي في ( كتاب تاريخ النفق) رواية تأسر الأنفاس تقول: كانت إحدى السيدات اللواتي حُرمن نعمة الأمومة تمر قرب أحد الأنهار فشاهدت شابة خارقة الجمال تستحم في غدير، تاركة ثيابها وطفلها على مقربة منها، فغافلتها واستولت على الطفل وولت هاربة ثم زعمت أنه ابنها.
الأم الحقيقية لحقت بها وهي عارية، محاولة إسترجاع فلذة كبدها فلم تفلح.. لكن القدر كان بالمرصاد إذ وصل إلى مكان النزاع أحد وجهاء القرية المجاورة، وبعد مشاهدة المرأتين تتخاصمان ألقى فوراً بعباءته فوق جسد المرأة العارية، ثم أمرهما بتسليم الطفل إليه والذهاب معه إلى رجل حكيم كان مشهوراً في الناحية.
ما إن وصل الرجل والإمرأتان إلى مقر الحكيم، حتى عقد جلسة محاكمة استمع خلالها إلى الرجل الشاهد أولاً فقال هذا: كنت قاصداً على ظهر فرسي صديقاً في البلدة الواقعة خلف النهر، فشاهدت سيدتين تتنازعان أمومة الطفل الذي أحضرته إلى هنا.. وقد راعني أن تكون إحدى المتنازعتين عارية، من ثيابها فغضضت طرفي ثم ألقيت عليها عباءتي، ولما عرفت سبب النزاع عرضت عليهما أن تحتكما إلى عدلكم أيها الحكيم وأحضرتهما مع الطفل إلى مجلسكم الموقّر.
بعد الشهادة هذه استمع الحكيم إلى المرأة التي كانت متدثرة بالعباءة فقال: قبل شهرين رزقت بهذا الطفل من زوجي المدعو فلان، لكن القدر سرق زوجي مني قبل أن يبصر ولدنا النور بثلاثة أشهر، وبعد فك الحداد قصدت النهر مع طفلي لأستحمّ، فوضعته فوق ثيابي على مقربة من حافة الغدير ولم يكن ببالي أن تتجرّأ إحدى النساء من الإنس أو الجن على التفكير بخطفه مني والإدعاء أنها أمه.
غير أن المرأة الثانية قالت: لقد جنى عليّ الدهر فحرمني العيش في أحضان عائلة كريمة، إذ إنني أبصرت النور عند أم غير مستقيمة وعندما كبرت وقعت في غرام رجل فتزوجته وحملت منه، لكنه لم يكن وفياً فتركني وكنت بعد في الشهر السابع من حملي. وأثناء قيامي اليوم بنزهة مع طفلي على شاطىء النهر تصدّت لي هذه المرأة فخفت منها، لكنها لحقت بي وحاولت أن تنزع فلذة كبدي عن صدري، فتعاركنا إلى أن وصل هذا الرجل في غمرة شجارنا. وطلب منا الاحتكام إلى حضرتك.
تعجب الحكيم بحجة كل من المتداعيتين لكنه لم يصل إلى تكوين القناعة التامة بتحديد الأم الحقيقية، فقرر إخضاعهما لإختبار يقضي بأن تشد كل إمرأة بالطفل شداً قوياً صوبها ومهما تكن النتيجة وبعدها يكون الطفل لمن تشده نحوها. المرأة الباغية قبلت على الفور. لكن لابسة العباءة رفضت قائلة: أفضل أن تأخذه هذه المرأة على أن أسمعه يصرخ من الألم. آنذاك علم الحكيم أن الأخيرة هي الأم الحقيقية للصبي وفهم لماذا ركضت عارية من ثيابها خلف سارقة الطفل لاستعادته فحكم بتسليمها إياه.
أما من هي أم الصبي الحقيقية عند النبي سليمان عليه السلام، فالعديد من المثقفين يعرفونها إذ يتناقلها الأحفاد عن الآباء والأجداد وعبر الزمان. غير أنني أردت أن أوردها كما هي في سفر الملوك من التوراة وليس عن غيرها.
تقول الرواية أن إمرأتين من أهل البغاء كانتا تسكنان كوخاً واحداً، وشاء القدر أن تحمل هاتان البغيتان في وقت متقارب، وبعد تسعة أشهر وضعت كل منهما طفلاً ذكراً بفارق ثلاثة أيام، لكن مشيئة الله قضت أن تكون إحداهما ثقيلة النوم فقلبت أثناء نومها على طفلها وتسببت في إخماد أنفاسه.
استيقظت صباحاً واكتشفت هول ما حدث لطفلها، فعمدت إلى نقل طفلها الميت من فراشها، واستبدلته بطفل صديقتها التي كانت تتحضر خارج الكوخ لإرضاع طفلها. وكان من جراء ذلك أن اشتعل الخلاف بينهما، ولم تستطع أي منهما الإحتفاظ بالصبي الحي. بعد أن هدأت العاصفة لبعض الوقت قالت إحداهما للثانية ما رأيك لو ذهبنا إلى الملك سليمان بصفته وعرضنا عليه خلافنا، فوافقتا وتعاهدتا على أن ترضيا بحكمه العادل.
حضرت المرأتان مجلس النبي سليمان عليه السلام، وعرضت كل منهما القضية عليه فقالت الأولى، إن هذا الطفل هو إبني، أنظر إليه أنه يبز القمر جمالاً مثل أبيه، وعندما سألها عن سبب عدم مجيء والد الطفل قالت إنها بغية.. عندها نظر إلى رفيقتها كي تجيب عن إدعائها فقالت: أنا مثل رفيقتي وهذا الطفل هو طفلي وفلذة كبدي ولا أعرف من هو أبوه.. لكنني أعرف بأن صديقتي ثقيلة النوم كثيراً وقد طلبت منها عندما وضعت طفلها أن لا تدعه ينام في حضنها خوفاً عليه فلم تقبل النصيحة. ومن هنا كانت الوقيعة. وحيث قتلت طفلها بعد أن انقلبت عليه ولكنها استغلت وجودي خارج الكوخ فاستبدلت طفلها الميت بطفلي الحي.
بعد التدقيق بالأمر وتقليبه من جميع الوجوه، وفي ظل عدم وجود شاهد حي على ما جرى، قال النبي سليمان (ع): إما أن أحلّف كل منكما اليمين على صحة ما تدّعي وإما اللجوء إلى الحكم الإلهي.
وبما أنني أخشى أن تحلف كل منكما اليمين الكاذب، كما أخشى أن تنتصر الأم الزائفة على الأم الحقيقية لهذا استلهمت من رب العالمين أن يمدني من لدنه بالقدرة على كشف الحقيقة وإعطاء الحكم العادل.
وبما أنكما لا تستحقان أمومة هذا الطفل قررت أن أقطعه بالسيف نصفين متساويين فأعطي لكل منكما نصفاً محدداً.
ما إن سمعت الأم الحقيقية هذا الحكم حتى صرخت بأعلى صوتها: أرجو صاحب العدالة أن يترك هذا الصبي على قيد الحياة حتى لو أخذته هذه القاتلة. أما الأم الزائفة فلم تعترض على الحكم رغم صعوبته، كما قالت .
على الإثر أدرك النبي سليمان وهو الملك العالم العادل من هي الأم الحقيقية وأصدر أمراً بتسليمها الطفل.

يلي ما عندو كبير يشتري كبير
الشاب الذي أدهش تيمورلنك

حقاً للعمر الطويل والعقل النيّـر المستنير والآخذ معرفة الدال والدليل أن يصبح مدرسة ومرجعاً في الإرشاد والتوجيه لخير السبيل.
الحياة بأكملها مدرسة من المهد إلى اللحد فكيف بالذي يعيش العمر المديد بين الكتب والمعارف والمعاشرة والمؤازرة والتنقل بين شتى المشارب والتجمعات، فمن المدرسة طفلاً حتى الجامعة شاباً إلى الحياة العملية رجلاً، والحياة الإجتماعية كهلاً وشيخاً ليتزود ويزداد علماً ومعرفة بالكثير الكثير من العبر والمآثر والقيم، ومن خلال التجارب والتجاوب مع العديد من العادات والتقاليد والأمثال والمثل ليختبر من ذاك أو يختمر مع ذاك، وفي النهاية يستخلص وليختزن مع ما يكتنز ويغني الفكر والذات.
من هنا الحري بنا أن نأخذ برأي وتدبير من هم أكبر منّا سناً وأكثر تفاعلاً وتجاربَ، إذ أن آراءهم وأحكامهم هي ثمرة تجربة ومعاناة يقدمونها لنا خبزاً ناضجاً من مخابزهم إلى موائدنا نقتات بها بأقل المتاعب والمصاعب، وهذا مغزى القول المأثور الشهير “يلي ما عندو كبير يشتري كبير”.
أما ما أحوجني إلى كتابة هذه المأثرة ما سمعته من شاب كان يتعاون معنا في طرش منزلنا وطلاء أبوابه ونوافذه وهو من بلدة تل الأبيض قرب الرقة في الجمهورية العربية السورية.
قال: ياعم، سمعت أنّكم حافظو ومدونو التراث وتاريخه، فهل تسمع مني هذه العبرة عن لسان جدتي، والتي جاوزت التسعين من العمر وكانت لم تزل تردد على مسامعنا ربما كي نتمثل بها ونقتدي بمدلولها.
قال: إن تيمورلنك ذاك القائد المغولي البطاش، حينما غزا بلادنا وصل أحد قادته المتجبرين إلى مدينة احتلتها جيوشهم فطلب من سكانها أن يخرجوا إليه جميع معمريها من الكهول حتى العجزة، وحيال مثولهم بين يديه أمر بقطع رؤوسهم. أحد الشباب كان يحب والده كثيراً ويعتمد عليه كثيراً، رأياً ومشورةً، وهو تمكن من إخفائه عن نظر الواشين والمخبرين طمعاً في حفظ حياته والعودة إلى رأيه وتدبيره في كل صغيرة وكبيرة.
في تلك الأثناء كان القائد المغولي أمر السكان الباقين بالذهاب إلى حقولهم وكان يعتزم تسخيرهم بعمل مضنٍّ تحت أشعة الشمس وحرّها اللافح، ولكن عمل لا طائلة منه وهو طلب منهم أن يتخيلوا أنفسهم يحصدون الريح.
الشاب أخبر والده بما طلب القائد المتعسف وكيف سيمضون أوقاتهم في لهيب الشمس وما الفائدة من حصاد الريح. أجابه والده إفعل يا بني ما يطلب منك لكن عندما تشاهد القائد قادماً نحوك أفرك يديك وتظاهر أنك تأكل ما بينهما. وهكذا، عندما شاهد الشاب القائد المغولي قادماً صوبه فعل كما نصحه والده. اندهش القائد وسأل الشاب: ماذا تمضغ أيها الشاب؟ أجاب: مولاي ما أمرتنا به، فالذي نحصده نأكله. دهش القائد لتصرف الشاب وبداهته فهزّ برأسه وقال: لا شك من رجل كبير يرشدك.
أحنى الشاب برأسه وقال: مولاي، هل بقي من كبير في مدينتنا كي تسأله وقد أمرت بقتلهم جميعاً، ومنهم أبي وأمي.
لم يقتنع القائد المستبد بإجابته، وأراد أن يمتحنه من جديد فقال له:غداً تأتيني منتعلاً وحافياً.
أخبر الشاب والده بما أمر القائد من جديد فأجابه: هذا سهل يا بني، إخلع نعل حذائك السفلي واجعل الباقي منه فوق رجليك بعد أن تربطهما مع سروالك.
في اليوم التالي نظر القائد نحوه وقال: كيف أنت حافٍ والحذاء فوق رجليك؟ رفع الشاب إحدى رجليه عن الأرض فإذا هي من الأسفل حافية وتلامس الأرض.
هزّ القائد برأسه متعجباً ثم أعاد القول من جديد: لا شك أن والدك حيٌّ أو أحد أقاربك يرشدك برأيه. ثم نظر إليه بمكرٍ وقال: غداً تأتيني راكباً وماشياً.
أعلم الشاب والده بذلك فأجابه: لا تقلق يا بني وهذا أمر سهل، وما عليك إلاّ أن تركب مهراً صغيراً وترخي قدميك بحيث تلامسا الأرض.
عندما وصل الشاب على جحشه الصغير شقل القائد حاجبيه تعجباً ثم استلقى على ظهره ضاحكاً وقال: مهما تخفي ومهما تتظاهر أنك بريء فهذا لا يحملني على تصديقك، وأنك عبقري زمانك، وأن هذا الذكاء لا يصدر عن شاب بعمرك، ومع هذا سأطلب إليك من جديد أن تأتي في اليوم التالي بصديق وعدو من بيتك.
عرض الأمر على والده المحنك فأجابه: الأمر سهل، غداً صباحاً يا بني اصطحب كلبك وزوجتك معاً وعند وصولك بين يديه تضرب الكلب بخيزرانة تحملها بيدك فينبح الكلب ويعوي، وبعد أن يبتعد عنك تناديه من جديد فيعود مسرعاً إليك وهو يهز بذيله، ثم يمرغ برأسه في جانبيك وكأنّ شيئاً لم يكن.
بعدها تضرب زوجتك بذاك القضيب وعندها تسمع الجواب النجيب والغريب، وما يدلك على عدوانيتها وغضبها القريب.
وهكذا حصل أمام القائد فبعد أن ضرب الكلب وعوى، إلا أنه أسرع بالعودة إليه بعد مناداته وهو يشمشمه من جديد. لكنه ما إن ضرب زوجته بالقضيب ذاته حتى انتفضت غاضبة وخاطبت القائد بالقول: مولاي زوجي كذّاب ومحتال وخائن، ووالده لم يزل حياً وقد أخفاه في أحد الأقبية ويعود إليه في جميع ما طلبته منه.
ضحك القائد كثيراً متعجباً أيما إعجاب لهذا الذكاء الخارق للأب الكهل وللشاب الذي يعرف كيف يطلب المشورة من الكبار أصحاب التجارب. فقال: لقد عفوت عنك وعن والدك والواجب كان علينا عكس ما فعلنا أن نحترم الكبار ونجل المقام قبل الصغار كي نأخذ بآرائهم وبركاتهم وتجاربهم فلهم حق المشورة وإليهم نلجأ عندما يعوزنا التدبير.

من مروءات التآزر الدرزي المسيحي

الأمير شكيب أرسلان في استنبول
الأمير شكيب أرسلان في استنبول
معلوم أن أحداث الثورة السورية الكبرى سنة 1925 امتدت بتأثيراتها إلى لبنان وخصوصاً جنوبه، وذلك نتيجة لجملة أسباب منها قرب الجنوب من جبل العرب وتأثر أبنائه بما كان يحدث هناك. كما أن الوجود الفرنسي في قرى الجنوب وخصوصاً حاصبيا وراشيا خاف من امتداد الثورة إلى لبنان فبدأ بتحريك العصبيات الطائفية وإثارة مخاوف المسيحيين بهدف اجتذابهم للتعاون مع الدولة الفرنسية ضد الوطنيين، وذلك باعتبار فرنسا الحامية الوحيدة للوجود المسيحي في لبنان وسوريا. نتيجة لهذا الاستقطاب حصلت مواجهات محدودة وفتن مدبرة سقط فيها مصابون وضحايا من الطرفين. وقد بلغ الامر أمير البيان شكيب أرسلان في منفاه الاختياري في أوروبا فاعتراه قلق شديد وسارع إلى إعداد رسالة بعث بها إلى الموحدين الدروز والمسيحيين في الشوف ومناطق التعايش المشترك بينهم من ضمنها حث الفريقين على الحفاظ على أواصر المودة، كما نوّه في رسالته برجالات المسيحيين والموحدين الدروز ملقياً على عاتقهم أمانة الحفاظ على التعايش وأواصر المحبة والصلات التاريخية بين الطائفتين العريقتين. ومما قاله الأمير شكيب أرسلان في رسالته ما يلي:
“وأنا وإن كنت بعيداً عن الوطن، غير أنني أعلم بكل ما يحدث فيه، ومن هو المصلح وغير المصلح، وذلك لأن الناس تكتب لي؛ ونظراً لخبرتي بأحوال الوطن إذا جاءني القليل فهمت منه الكثير، وأخص بالذكر مآثر سيادة المطران أغسطين بستاني (مطران الطائفة المارونية في بيت الدين) ، هذا الرئيس الروحي والذي ينبغي أن يوجد في مثل تلك الأوقات العصيبة.
وهنا نحمد الله على أن مياه الصفاء بين الطائفتين رجعت إلى مجاريها بحسن مساعي سيادته ومساعي العقلاء والأفاضل. وإنني وإن كنت غائباً أو حاضراً ليس لي من وصية عند أبناء وطني سوى الإتحاد والتّحاب، لأن الطوائف المتنوعة في الوطن الواحد ينبغي أن تكون بعضها لبعض ركناً، وكل واحد من هذه الفئة أو تلك يُسدي معروفاً إلى أبناء الفئة الأخرى. ويجب أن يعلم أنه يخدم جماعته بذلك قبل الجماعة الذين أسدى إليهم المعروف.
وأثناء الحرب الكبرى، معلوم أنني كنت أعظ الجميع بالوئام والإنضمام ولاسيما الدروز الذين كانوا يسمعون مني أولاً لاعتقادهم بإخلاصي لهم، وثانياً لنفوذي يومئذ عند الدولة فكنت أقول لهم من كان منكم له صديق مسيحي يزوره في الشهر مرة صار يلزمه في هذه الظروف أن يشاهده في كل جمعة، وأي إنسانية تقدرون عليها نحو أبناء وطنكم النصارى فهذا وقتها، لأن الإتحاد على كل الأحوال هو العماد والراحة، ولأن القبيح يُقابل بمثله، وأنتم تعرفون المستقبل. فالأجدر أن يأتي المستقبل وصحيفتكم بيضاء عند هؤلاء الجماعة ولا يقدرون أن يمسكوا عليكم ممسكاً.
ثم يختم وصيته بلفتة تقدير واحترام لوجهاء دير القمر والشوف معاً إذ يقول:
”اسألوا لي عن خاطر سيادة المطران أوغسطين بستاني جزيل الإحترام في بيت الدين. وإن زرتم دير القمر قبّلوا لي عوارض الأخ عبدالله أفندي أفرام، والأخ نمر أفندي شمعون الذي كنت قديماً مغتاظاً منه ولكنني نسيت ذلك وعادت إلى قلبي محبته المتينة، ثم أهدوا سلامي وأشواقي إلى جناب الوجيه سليمان أفندي شمعون، وإن كان الأستاذ العلامة جرجس أفندي صفا في الدير فاسألوا لي خاطره واهدوه مزيداً من أشواقي لأنه صديق قديم ورجل كبير بعلمه وعقله”.
هذا، واسألوا لنا خاطر سيادة شيخنا الشيخ حسين طليع (شيخ عقل الدروز في حينه)، والتمسوا لنا دعاءه، وقبلوا لنا عوارض الأخ أمين بك طليع، واهدوا وافر التحيات إلى حضرات الأجلاء المشايخ أبي محمد قاسم أبو شقرا، ومحمود أفندي نجم أبو شقرا، ومحمود أفندي رافع ومحفوظ أفندي حميه، وإلى أنس المجالس الشيخ أبي علي الفطايري، وسلامي وأشواقي إلى حضرة أخيكم محمد أفندي طليع”. 1

المخلص شكيب أرسلان

 

كيس ذهب من دير القمر
ينقذ حياة زعيم آل أبو شقرا

مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام
مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام

كان أجدادنا يتناقلون لعشرات العقود من الزمن حادثة مؤثرة حصلت قبل نحو 200 عام وحملت الكثير من العبر عن أهمية التآزر الدرزي المسيحي، وعن الفوائد العظيمة التي يجنيها الطرفان من جراء علاقات الوئام الدائم بينهما. موجز تلك الحادثة أنه وعلى أثر شر السمقانية سنة 1825 بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط أخذ الأمير بعد انتصاره على خصمه الشيخ الجنبلاطي بالإنتقام من أنصاره وأتباعه ومنهم الشيخ بشير حسن أبو شقرا، والذي توارى عن بلدته عماطور إلى إقليم الشومر في الجنوب واختبأ في قرية تخص وجيهاً من بيت علي الصغير اسمه أحمد بك. وعبثاً فتش عنه رجال الأمير في مختلف أنحاء الجبل فلم يقفوا له على أثر. واتفق ذات يوم وهو يتجول في صيدا أن عرفه أحد جواسيس الأمير بشير ووشى به فقُبض عليه واقتيد مكبلاً إلى بيت الدين.
كان لهذا الحادث الوقع الأليم في نفوس أقاربه آل أبو شقرا، وخوفاً على حياته من بطش الأمير وتعسّفه استنجدوا بالشيخين النبيلين ناصيف وحمود النكديين أنصار الأمير. وتقول الرواية إن النكديـِّـيْن دخلا على الحاكم الرهيب في الساعة التي كانت الشرطة تستعد لتنفيذ حكم الإعدام بالشيخ أبو شقرا، فلاحظ الأمير على وجهيهما علامات الإضطراب والحاجة فسألهما:
-”خيراً إن شاء الله ، هذه الزيارة في هذا الوقت مش بلا ؟”
أجاباه : رجاء نعرضه على سعادتك.
دهاؤه حدثه برغبتهما، فقال: كل شيء إلا العفو عن بشير أبو شقرا.
أجاباه: العهد بيننا أننا حلفاؤك حتى الموت، وأنك لا تخيبنا ولا تكسر خاطرنا.
تأثر الأمير وأجاب: لكم ما تريدون فاطلبوا..
-العفو من شيم الكرام، ونحن نرجو أن تعفوَ عن ابن أبو شقرا.
قال الراوي: أسقط في يد الطاغية، ولبى رجاء الشيخين النكديين على مضض وكره، ولكنه اشترط أن لا يطلق سراحه إلا إذا أدّى خمسة وثلاثين كيساً وكان المبلغ باهظاً وعظيماً في ذلك الزمان، فسعى بنو أبوشقرا إلى تدبيره بشق النفس، وباعوا حُلي ومصاغ نسائهم والعديد من أرضهم، ثم ساعدهم أصدقاؤهم من عائلة أبو حسن في بعذران، وعائلة جودية في حارة جندل حتى تجمّع لديهم، بعد العناء الشديد، أربعة وثلاثين كيساً، وبقي عليهم كيس واحد، ولكن الأبواب سدّت في وجوههم فحرّكت المروءة الشيخ نادر بو عكر كبير أسرة آل نعمة في دير القمر، وهي أسرة صديقة لآل أبو شقرا منذ القدم وتربط بينهما أواصر المحبة ووحدة الفرضية، فجمع هذا الشهم الكيس من عائلته الكريمة وقدمها إلى أبو شقرا وأنقذ بعمله هذا حياة كبيرهم من الموت المحتم.
ومما يرويه المؤرخ حسين غضبان في كتابه “ الحركات في لبنان، ص 22 “ أن الشيخ قاسم معضاد أبو شقرا، شيخ قرية عماطور في حينه، نزل إلى بيروت سنة 1880 لشؤون خاصة، وعندما همّ بالعودة شعر أنه متوعك المزاج، فمرّ بالشويفات ليبيت عند صديقه فارس محمود أبو حسن، ولم تمضِ بضع ساعات على وصوله حتى حضرته الوفاة.
في الصباح حُمّل الفقيد بموكب نحو بلدته عماطور، وقبل أن يبلغ الموكب دير القمر، كان النعي قد وصل إليها فتداعى رجال آل نعمة لملاقاة الموكب في ظاهر البلدة، ومن هناك انضموا إلى الموكب وساروا إلى جانب آل أبي شقرا يساهمون في حمل الجثمان حتى وصلوا عماطور، فوقفوا يستقبلون المعزين مع آل أبوشقرا وكأنه فقيدهم.

جميل ردّ الجميل لكن البادىء أفضل

الرجال سيفها ليس للعدوان
الرجال سيفها ليس للعدوان
مخطىء من خالج فكره يوماً أن الشعب المسالم في قراه ومدنه، كان السبب في تغيير مجرى الثورات من وطنية إلى فتن طائفية، فقد كان العامل الأهم هو الأيادي الخفية لعملاء السلطة المحتلة أو لعناصر الشر والمكائد من مخابرات محلية أو خارجية وجميعهم ممن ينطبق عليهم القول:”يفسدون في الأرض ولا يصلحون”.
هذا ما حدث يوم فتنة بلدة كوكبا في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1925، بعد أن تناهى لسمع زوجة الشيخ أبو محمد أسعد الزغير، أزيز الرصاص وضجيج الغوغاء وارتفاع الأصوات والعياط، قرب بلدة كوكبا، وكانت لم تزل تصطاف مع عائلتها في بستانها القريب من البلدة المذكورة، صرخت قائلة: “يا أبا محمد ولدنا مهنا ذهب للصيد هناك، إذهب وابحث عنه وعسى أن لا يكون قد أصابه مكروه”.
اعتلى أبو محمد ظهر دابته وانطلق نحو العين غير آبهٍ بالخطر المحدق به، كونه لا علم له بما حدث أو لم يزل يحدث. لدى وصوله إلى مبتغاه، وجد مهنا يبحث عن طرائده رغم أن طرائد غيره كانت من الأبرياء الضعفاء. عند اقترابه من العين المذكورة، إذ بنسوة مع أولادهن وأطفالهن ويربو عددهن على الثلاثين، يركضن نحوه صارخات مولولات يلتمسن النجدة والخلاص.
تحركت النخوة والعزة والكرامة التي انفطر عليها هذا الشيخ وأمثاله، خصوصاً وأن العديد من أؤلئك النسوة كنَّ ممن يعرفهن أو يعرف أزواجهن. ورغم استغرابه لهذا المشهد انتفض قائلاً: “ويحكن، ماذا يحدث هنا، ولماذا هذا الهلع؟ فأنتن بإذنه تعالى سالمات ولن يصيبكن أي مكروه وأنا حيٌّ ولي عرق ينبض”.
إنطلق أمامهن عائداً من حيث أتى بعد أن أودع العديد من الحوائج المهمة كالمصاغات وسواها في خرج دابته ووضع أمامه وخلفه أربعة أطفال وسار أمام النسوة وابنه مهنا يرافقهن.
مع وصوله إلى بستان الحرفاني القريب من بستانه، وجد العديد من الثوار وبينهم من يمتّ إليه بصلة فاستوضحهم عن السبب، ثم طلب من بعض أصحابه وأقاربه أن يعودوا معه لمساعدته وحماية مرافقيه حتى وصوله إلى بيته في حاصبيا، وذلك تحسباً لأي إنتقام ممن فقدوا أولادهم أو أحد أقاربهم.
في منزله، رحّب أبو محمد بالنسوة ثم دعاهن إلى الدخول آمنات مطمئنات غير أنه فوجىء بإحداهن والدموع تملأ مقلتيها وهي تولول وتلطم خديها وتقول: “ولدي حبيب لم يزل في السرير”.
ذُهل واستغرب من هذا الكلام، ثم سألها: لماذا لم تقولي قبل مجيئنا؟  وقبل أن تستجمع قواها للجواب سارع إلى طمأنتها بالقول:لا تقلقي سأعود وأجلبه فأين بيتك، وزوجة من تكونين؟
-صحيح يا عمي أبو محمد؟ صحيح؟ وهل باستطاعتك أن تعود؟ فأنا زوجة شكري أبونقول وبيتنا في الجهة الشرقية من الكنيسة.
وصل إلى البلدة والنيران لم تزل تلتهم ما تبقى من المنازل وما يحيط بها لكن المنزل المقصود كان لم يزل سالماً. فاندس إلى داخله وأخرج الطفل من سريره ثم عاد به إلى والدته.
هنا مشهد يرويه حفيد الشيخ عن لسان والده فارس قائلاً: “ بقي ذلك المشهد طيلة حياته لا يبرح فكره، كيف أن الوالدة تلقفت الطفل، وكيف ركضت ثم ركعت أمام والده شكراً وامتناناً، لكن الجد استغفر الله وأجاب: “هذا واجبنا تجاه ضميرنا وتجاه الجميع وكيف وأنتم جيراننا وأحباؤنا”.
بقيت النسوة في المنزل مكرّمات فترة من الزمن، غير أن خوف مضيفهن من الأيام المقبلة وعاقبتها جعله يذهب إلى الشيخ حسين قيس قاضي المذهب الدرزي آنذاك، طالباً منه النصيحة في ما يجب أن يكون موقفه تجاه النسوة.
أيقن الشيخ خطورة الأمر، لذا أشار إليه أن يوصلهن إلى سهل إبل السقي على أن يكملن طريقهن من هناك إلى مرجعيون، حيث أن البلدة عادت إلى يد السلطة المستعمرة ولربما أزواجهن وأولادهن يتواجدون هناك.
هذا ما حدث بالفعل، إذ قام بإيصالهن مع بعض أقاربه إلى السهل المقصود، ومن هناك توجهن إلى مرجعيون، وكان اللقاء المؤثر بين الفاقد والمفقود.
رد الجميل لم يطل كثيراً لأبي محمد أسعد الزغير، من قبل آل أبو نقول، إذ بعد اندحار الثوار وتركهم لبلدتهم حاصبيا ودخولها وحرقها من قبل الجيش الفرنسي وبعض المتعاونين معه، كان أن سلم بيت الشيخ أبو محمد من الحريق وذلك بإيعاز وحضور من والد ذلك الطفل، وكان من جرّاء ذلك أن تعمّقت الصداقة وتجذّرت بين آل الزغير وآل أبونقول حتى اليوم الراهن. ويكمل الراوي فيقول إن السيدين شكري وميشال أبونقول بقيا يناديان والده فارس حتى وفاتهما بأخي فارس.
هذه المأثرة حدت بي إلى إعادة ما رواه أمامي الطيب الذكر الأديب سلام الراسي عن مأساة بلدة كوكبا فقال: “أقسم اليمين عما سأرويه حيث كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أتى إلى بلدتنا إبل السقي، وفد حكومة حاصبيا برئاسة نسيب أفندي غبريل، وعضوية كل من السادة نزيه مؤيد العظم، وشكيب وهاب وفي جعبتهم المنشور الموقع من القائد زيد الأطرش وفحواه: “إن قدوم الثوار الدروز إلى هذه البلاد هو لإنقاذها من السيطرة الأجنبية، وإن ثورتهم هذه باسم الوطن لا بإسم الطائفية، وإن جميع أبناء الوطن، إخواننا في النفس والمال والحرية الشخصية. وعلى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، راجين التفّهم والتعاون والله من وراء القصد”. ثم أخبروهم أن الثوار سيمرون غداً قرب بلدتهم متلمسين منهم عدم التحرش أو إطلاق النار عليهم.
أثناء تواجد الوفد في منزل الوجيه يوسف أبو سمرا علمت المخابرات الفرنسية المتواجدة في مرجعيون بقدومهم، لذا أرسلت ثلاثة من عملائها لاعتقال الوفد المذكور، لكن حالما عرف أبو سمرا بالأمر حتى أرسل رجاله لمقابلتهم وأمرهم بالعودة من حيث أتوا.
في اليوم التالي، قَدِم الثوار من حاصبيا إلى مرجعيون وقصدهم طرد الحامية الفرنسية المتواجدة فيها سلماً، كما حصل في بلدة حاصبيا ذاتها، حيث طردت الحامية من موقعها في تلة زغلة من دون سفك أي نقطة دم وتمّ إيصال الجنود الفرنسيين إلى مصنع الحمّر، مع تزويدهم بالطعام والماء، كما سُمح لهم بنقل جميع معداتهم وأسلحتهم”، غير أن المخابرات المذكورة سابقاً ما كان منها إلا أن أرسلت العملاء الثلاثة ذاتهم إلى زيتون المغاريق المتواجدة أمام بلدة كوكبا، وحيال وصول الثوار إلى هناك فاجأوهم بإطلاق النار عليهم فقتل منهم على الفور ثلاثة هم: أسعد شرف وقاسم ومحمود أبودهن.
صادف أن حصل هذا الاعتداء الغادر على الثوار بينما كان قائد الحملة حمزة درويش يشرب القهوة عند خوري البلدة، ونظراً إلى أن القائد المحنط لم يكن موجوداً في الوقت المناسب فقد عمت الفوضة بين الثوار و”فلت الملقّ”، كما يقال بعد أن اعتقد الثوار أن أهالي كوكبا هم الذين هاجموهم لذا توجهوا نحو البلدة وحدث ما حدث، وقتل نحو ثلاثين من الذين قاوموا وكانوا يحملون السلاح.

ليردد بعد ذلك الأمير عادل أرسلان، أحد قادة تلك الثورة، جملته الشهيرة: “هكذا أرادتها فرنسا: من ثورة وطنية إلى فتنة طائفية”.

يا محترم حياتكم غالية جداً علينا

حدّثني الأديب سلام الراسي عن أريحية ومروءة الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين، فقال: “بعد اندحار الجيش الفرنسي التابع لحكومة فيشي سنة 1940، أمام الجيش الفرنسي التابع لحكومة الجنرال ديغول في الجزائر في منطقتي مرجعيون وحاصبيا حدث فراغ أمني في بلدة حاصبيا من جرّاء ذلك.
القسيس إبراهيم داغر، راعي الكنيسة الإنجيلية، ومدير المدرسة التابعة لها في تلك البلدة، وكان لم يزل يقطن فيها.
إحدى الليالي، نظر من نافذته، فوجد ثلاثة مسلحين يتجوّلون قرب منزله، لكنهم لم يطرقوا الباب، ومع هذا بقي طوال الليل يترقب حدوث عمل مشين.
بعد طلوع الفجر بقليل، أسرع القسيس إلى صديقه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين وحادثه قائلاً :
“شيخنا الكريم، إذا كان وجودي في بلدتكم غير مرغوب فيه، فأرجو من حضرتكم إعلامي بذلك، وإنني على استعداد للرحيل ساعة تشاؤون، والسبب أن ثلاثة مسلحين بقوا طوال الليل أمام منزلي”.
تبسّم الشيخ بعد أن استراحت تقاسيم وجهه، وأدار بيده فوق لحيته وقال:
“يا محترم، لا يغرُب عن بالكم أن حياتكم غالية جداً علينا، وأن وجودكم بيننا لا يقدّر بثمن. فأنتم المرشد الروحي والفكري لأولادنا وللجميع، وخوفاً من حدوث مكروه لحياتكم في هذه الأوقات العصيبة، قمنا بإرسال الشباب لحراستكم، والسهر على راحتكم”.
تبسّم القسيس بعد أن سمع ذلك، وبعد أن استراح فكره، نظر نحو الشيخ من جديد وقال: “حييتم وبييّتم أيها النبيل الشريف، وحقيقة أنكم خلقتم للمعروف يا بني معروف”.

 

 

من مروءات التآزر الدرزي المسيحي

[su_accordion]

[su_spoiler title=” من مروءات التآزر الدرزي المسيحي وصية عاجلة من الأمير شكيب أرسلان” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الأمير شكيب أرسلان في استنبول
الأمير شكيب أرسلان في استنبول

معلوم أن أحداث الثورة السورية الكبرى سنة 1925 امتدت بتأثيراتها إلى لبنان وخصوصاً جنوبه، وذلك نتيجة لجملة أسباب منها قرب الجنوب من جبل العرب وتأثر أبنائه بما كان يحدث هناك. كما أن الوجود الفرنسي في قرى الجنوب وخصوصاً حاصبيا وراشيا خاف من امتداد الثورة إلى لبنان فبدأ بتحريك العصبيات الطائفية وإثارة مخاوف المسيحيين بهدف اجتذابهم للتعاون مع الدولة الفرنسية ضد الوطنيين، وذلك باعتبار فرنسا الحامية الوحيدة للوجود المسيحي في لبنان وسوريا. نتيجة لهذا الاستقطاب حصلت مواجهات محدودة وفتن مدبرة سقط فيها مصابون وضحايا من الطرفين. وقد بلغ الامر أمير البيان شكيب أرسلان في منفاه الاختياري في أوروبا فاعتراه قلق شديد وسارع إلى إعداد رسالة بعث بها إلى الموحدين الدروز والمسيحيين في الشوف ومناطق التعايش المشترك بينهم من ضمنها حث الفريقين على الحفاظ على أواصر المودة، كما نوّه في رسالته برجالات المسيحيين والموحدين الدروز ملقياً على عاتقهم أمانة الحفاظ على التعايش وأواصر المحبة والصلات التاريخية بين الطائفتين العريقتين. ومما قاله الأمير شكيب أرسلان في رسالته ما يلي:
“وأنا وإن كنت بعيداً عن الوطن، غير أنني أعلم بكل ما يحدث فيه، ومن هو المصلح وغير المصلح، وذلك لأن الناس تكتب لي؛ ونظراً لخبرتي بأحوال الوطن إذا جاءني القليل فهمت منه الكثير، وأخص بالذكر مآثر سيادة المطران أغسطين بستاني (مطران الطائفة المارونية في بيت الدين) ، هذا الرئيس الروحي والذي ينبغي أن يوجد في مثل تلك الأوقات العصيبة.
وهنا نحمد الله على أن مياه الصفاء بين الطائفتين رجعت إلى مجاريها بحسن مساعي سيادته ومساعي العقلاء والأفاضل. وإنني وإن كنت غائباً أو حاضراً ليس لي من وصية عند أبناء وطني سوى الإتحاد والتّحاب، لأن الطوائف المتنوعة في الوطن الواحد ينبغي أن تكون بعضها لبعض ركناً، وكل واحد من هذه الفئة أو تلك يُسدي معروفاً إلى أبناء الفئة الأخرى. ويجب أن يعلم أنه يخدم جماعته بذلك قبل الجماعة الذين أسدى إليهم المعروف.
وأثناء الحرب الكبرى، معلوم أنني كنت أعظ الجميع بالوئام والإنضمام ولاسيما الدروز الذين كانوا يسمعون مني أولاً لاعتقادهم بإخلاصي لهم، وثانياً لنفوذي يومئذ عند الدولة فكنت أقول لهم من كان منكم له صديق مسيحي يزوره في الشهر مرة صار يلزمه في هذه الظروف أن يشاهده في كل جمعة، وأي إنسانية تقدرون عليها نحو أبناء وطنكم النصارى فهذا وقتها، لأن الإتحاد على كل الأحوال هو العماد والراحة، ولأن القبيح يُقابل بمثله، وأنتم تعرفون المستقبل. فالأجدر أن يأتي المستقبل وصحيفتكم بيضاء عند هؤلاء الجماعة ولا يقدرون أن يمسكوا عليكم ممسكاً.
ثم يختم وصيته بلفتة تقدير واحترام لوجهاء دير القمر والشوف معاً إذ يقول:
”اسألوا لي عن خاطر سيادة المطران أوغسطين بستاني جزيل الإحترام في بيت الدين. وإن زرتم دير القمر قبّلوا لي عوارض الأخ عبدالله أفندي أفرام، والأخ نمر أفندي شمعون الذي كنت قديماً مغتاظاً منه ولكنني نسيت ذلك وعادت إلى قلبي محبته المتينة، ثم أهدوا سلامي وأشواقي إلى جناب الوجيه سليمان أفندي شمعون، وإن كان الأستاذ العلامة جرجس أفندي صفا في الدير فاسألوا لي خاطره واهدوه مزيداً من أشواقي لأنه صديق قديم ورجل كبير بعلمه وعقله”.
هذا، واسألوا لنا خاطر سيادة شيخنا الشيخ حسين طليع (شيخ عقل الدروز في حينه)، والتمسوا لنا دعاءه، وقبلوا لنا عوارض الأخ أمين بك طليع، واهدوا وافر التحيات إلى حضرات الأجلاء المشايخ أبي محمد قاسم أبو شقرا، ومحمود أفندي نجم أبو شقرا، ومحمود أفندي رافع ومحفوظ أفندي حميه، وإلى أنس المجالس الشيخ أبي علي الفطايري، وسلامي وأشواقي إلى حضرة أخيكم محمد أفندي طليع”. 1

المخلص شكيب أرسلان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”كيس ذهب من دير القمر ينقذ حياة زعيم آل أبو شقرا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

دير-القمر-في-سبعينات-القرن-التاسع-عشر
دير-القمر-في-سبعينات-القرن-التاسع-عشر

كان أجدادنا يتناقلون لعشرات العقود من الزمن حادثة مؤثرة حصلت قبل نحو 200 عام وحملت الكثير من العبر عن أهمية التآزر الدرزي المسيحي، وعن الفوائد العظيمة التي يجنيها الطرفان من جراء علاقات الوئام الدائم بينهما. موجز تلك الحادثة أنه وعلى أثر شر السمقانية سنة 1825 بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط أخذ الأمير بعد انتصاره على خصمه الشيخ الجنبلاطي بالإنتقام من أنصاره وأتباعه ومنهم الشيخ بشير حسن أبو شقرا، والذي توارى عن بلدته عماطور إلى إقليم الشومر في الجنوب واختبأ في قرية تخص وجيهاً من بيت علي الصغير اسمه أحمد بك. وعبثاً فتش عنه رجال الأمير في مختلف أنحاء الجبل فلم يقفوا له على أثر. واتفق ذات يوم وهو يتجول في صيدا أن عرفه أحد جواسيس الأمير بشير ووشى به فقُبض عليه واقتيد مكبلاً إلى بيت الدين.
كان لهذا الحادث الوقع الأليم في نفوس أقاربه آل أبو شقرا، وخوفاً على حياته من بطش الأمير وتعسّفه استنجدوا بالشيخين النبيلين ناصيف وحمود النكديين أنصار الأمير. وتقول الرواية إن النكديـِّـيْن دخلا على الحاكم الرهيب في الساعة التي كانت الشرطة تستعد لتنفيذ حكم الإعدام بالشيخ أبو شقرا، فلاحظ الأمير على وجهيهما علامات الإضطراب والحاجة فسألهما:
-”خيراً إن شاء الله ، هذه الزيارة في هذا الوقت مش بلا ؟”
أجاباه : رجاء نعرضه على سعادتك.
دهاؤه حدثه برغبتهما، فقال: كل شيء إلا العفو عن بشير أبو شقرا.
أجاباه: العهد بيننا أننا حلفاؤك حتى الموت، وأنك لا تخيبنا ولا تكسر خاطرنا.
تأثر الأمير وأجاب: لكم ما تريدون فاطلبوا..
-العفو من شيم الكرام، ونحن نرجو أن تعفوَ عن ابن أبو شقرا.
قال الراوي: أسقط في يد الطاغية، ولبى رجاء الشيخين النكديين على مضض وكره، ولكنه اشترط أن لا يطلق سراحه إلا إذا أدّى خمسة وثلاثين كيساً وكان المبلغ باهظاً وعظيماً في ذلك الزمان، فسعى بنو أبوشقرا إلى تدبيره بشق النفس، وباعوا حُلي ومصاغ نسائهم والعديد من أرضهم، ثم ساعدهم أصدقاؤهم من عائلة أبو حسن في بعذران، وعائلة جودية في حارة جندل حتى تجمّع لديهم، بعد العناء الشديد، أربعة وثلاثين كيساً، وبقي عليهم كيس واحد، ولكن الأبواب سدّت في وجوههم فحرّكت المروءة الشيخ نادر بو عكر كبير أسرة آل نعمة في دير القمر، وهي أسرة صديقة لآل أبو شقرا منذ القدم وتربط بينهما أواصر المحبة ووحدة الفرضية، فجمع هذا الشهم الكيس من عائلته الكريمة وقدمها إلى أبو شقرا وأنقذ بعمله هذا حياة كبيرهم من الموت المحتم.
ومما يرويه المؤرخ حسين غضبان في كتابه “ الحركات في لبنان، ص 22 “ أن الشيخ قاسم معضاد أبو شقرا، شيخ قرية عماطور في حينه، نزل إلى بيروت سنة 1880 لشؤون خاصة، وعندما همّ بالعودة شعر أنه متوعك المزاج، فمرّ بالشويفات ليبيت عند صديقه فارس محمود أبو حسن، ولم تمضِ بضع ساعات على وصوله حتى حضرته الوفاة.
في الصباح حُمّل الفقيد بموكب نحو بلدته عماطور، وقبل أن يبلغ الموكب دير القمر، كان النعي قد وصل إليها فتداعى رجال آل نعمة لملاقاة الموكب في ظاهر البلدة، ومن هناك انضموا إلى الموكب وساروا إلى جانب آل أبي شقرا يساهمون في حمل الجثمان حتى وصلوا عماطور، فوقفوا يستقبلون المعزين مع آل أبوشقرا وكأنه فقيدهم.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” جميل ردّ الجميل لكن البادىء أفضل” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الرجال سيفها ليس للعدوان
الرجال سيفها ليس للعدوان

مخطىء من خالج فكره يوماً أن الشعب المسالم في قراه ومدنه، كان السبب في تغيير مجرى الثورات من وطنية إلى فتن طائفية، فقد كان العامل الأهم هو الأيادي الخفية لعملاء السلطة المحتلة أو لعناصر الشر والمكائد من مخابرات محلية أو خارجية وجميعهم ممن ينطبق عليهم القول:”يفسدون في الأرض ولا يصلحون”.
هذا ما حدث يوم فتنة بلدة كوكبا في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1925، بعد أن تناهى لسمع زوجة الشيخ أبو محمد أسعد الزغير، أزيز الرصاص وضجيج الغوغاء وارتفاع الأصوات والعياط، قرب بلدة كوكبا، وكانت لم تزل تصطاف مع عائلتها في بستانها القريب من البلدة المذكورة، صرخت قائلة: “يا أبا محمد ولدنا مهنا ذهب للصيد هناك، إذهب وابحث عنه وعسى أن لا يكون قد أصابه مكروه”.
اعتلى أبو محمد ظهر دابته وانطلق نحو العين غير آبهٍ بالخطر المحدق به، كونه لا علم له بما حدث أو لم يزل يحدث. لدى وصوله إلى مبتغاه، وجد مهنا يبحث عن طرائده رغم أن طرائد غيره كانت من الأبرياء الضعفاء. عند اقترابه من العين المذكورة، إذ بنسوة مع أولادهن وأطفالهن ويربو عددهن على الثلاثين، يركضن نحوه صارخات مولولات يلتمسن النجدة والخلاص.
تحركت النخوة والعزة والكرامة التي انفطر عليها هذا الشيخ وأمثاله، خصوصاً وأن العديد من أؤلئك النسوة كنَّ ممن يعرفهن أو يعرف أزواجهن. ورغم استغرابه لهذا المشهد انتفض قائلاً: “ويحكن، ماذا يحدث هنا، ولماذا هذا الهلع؟ فأنتن بإذنه تعالى سالمات ولن يصيبكن أي مكروه وأنا حيٌّ ولي عرق ينبض”.
إنطلق أمامهن عائداً من حيث أتى بعد أن أودع العديد من الحوائج المهمة كالمصاغات وسواها في خرج دابته ووضع أمامه وخلفه أربعة أطفال وسار أمام النسوة وابنه مهنا يرافقهن.
مع وصوله إلى بستان الحرفاني القريب من بستانه، وجد العديد من الثوار وبينهم من يمتّ إليه بصلة فاستوضحهم عن السبب، ثم طلب من بعض أصحابه وأقاربه أن يعودوا معه لمساعدته وحماية مرافقيه حتى وصوله إلى بيته في حاصبيا، وذلك تحسباً لأي إنتقام ممن فقدوا أولادهم أو أحد أقاربهم.
في منزله، رحّب أبو محمد بالنسوة ثم دعاهن إلى الدخول آمنات مطمئنات غير أنه فوجىء بإحداهن والدموع تملأ مقلتيها وهي تولول وتلطم خديها وتقول: “ولدي حبيب لم يزل في السرير”.
ذُهل واستغرب من هذا الكلام، ثم سألها: لماذا لم تقولي قبل مجيئنا؟ وقبل أن تستجمع قواها للجواب سارع إلى طمأنتها بالقول:لا تقلقي سأعود وأجلبه فأين بيتك، وزوجة من تكونين؟
-صحيح يا عمي أبو محمد؟ صحيح؟ وهل باستطاعتك أن تعود؟ فأنا زوجة شكري أبونقول وبيتنا في الجهة الشرقية من الكنيسة.
وصل إلى البلدة والنيران لم تزل تلتهم ما تبقى من المنازل وما يحيط بها لكن المنزل المقصود كان لم يزل سالماً. فاندس إلى داخله وأخرج الطفل من سريره ثم عاد به إلى والدته.
هنا مشهد يرويه حفيد الشيخ عن لسان والده فارس قائلاً: “ بقي ذلك المشهد طيلة حياته لا يبرح فكره، كيف أن الوالدة تلقفت الطفل، وكيف ركضت ثم ركعت أمام والده شكراً وامتناناً، لكن الجد استغفر الله وأجاب: “هذا واجبنا تجاه ضميرنا وتجاه الجميع وكيف وأنتم جيراننا وأحباؤنا”.
بقيت النسوة في المنزل مكرّمات فترة من الزمن، غير أن خوف مضيفهن من الأيام المقبلة وعاقبتها جعله يذهب إلى الشيخ حسين قيس قاضي المذهب الدرزي آنذاك، طالباً منه النصيحة في ما يجب أن يكون موقفه تجاه النسوة.
أيقن الشيخ خطورة الأمر، لذا أشار إليه أن يوصلهن إلى سهل إبل السقي على أن يكملن طريقهن من هناك إلى مرجعيون، حيث أن البلدة عادت إلى يد السلطة المستعمرة ولربما أزواجهن وأولادهن يتواجدون هناك.
هذا ما حدث بالفعل، إذ قام بإيصالهن مع بعض أقاربه إلى السهل المقصود، ومن هناك توجهن إلى مرجعيون، وكان اللقاء المؤثر بين الفاقد والمفقود.
رد الجميل لم يطل كثيراً لأبي محمد أسعد الزغير، من قبل آل أبو نقول، إذ بعد اندحار الثوار وتركهم لبلدتهم حاصبيا ودخولها وحرقها من قبل الجيش الفرنسي وبعض المتعاونين معه، كان أن سلم بيت الشيخ أبو محمد من الحريق وذلك بإيعاز وحضور من والد ذلك الطفل، وكان من جرّاء ذلك أن تعمّقت الصداقة وتجذّرت بين آل الزغير وآل أبونقول حتى اليوم الراهن. ويكمل الراوي فيقول إن السيدين شكري وميشال أبونقول بقيا يناديان والده فارس حتى وفاتهما بأخي فارس.
هذه المأثرة حدت بي إلى إعادة ما رواه أمامي الطيب الذكر الأديب سلام الراسي عن مأساة بلدة كوكبا فقال: “أقسم اليمين عما سأرويه حيث كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أتى إلى بلدتنا إبل السقي، وفد حكومة حاصبيا برئاسة نسيب أفندي غبريل، وعضوية كل من السادة نزيه مؤيد العظم، وشكيب وهاب وفي جعبتهم المنشور الموقع من القائد زيد الأطرش وفحواه: “إن قدوم الثوار الدروز إلى هذه البلاد هو لإنقاذها من السيطرة الأجنبية، وإن ثورتهم هذه باسم الوطن لا بإسم الطائفية، وإن جميع أبناء الوطن، إخواننا في النفس والمال والحرية الشخصية. وعلى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، راجين التفّهم والتعاون والله من وراء القصد”. ثم أخبروهم أن الثوار سيمرون غداً قرب بلدتهم متلمسين منهم عدم التحرش أو إطلاق النار عليهم.
أثناء تواجد الوفد في منزل الوجيه يوسف أبو سمرا علمت المخابرات الفرنسية المتواجدة في مرجعيون بقدومهم، لذا أرسلت ثلاثة من عملائها لاعتقال الوفد المذكور، لكن حالما عرف أبو سمرا بالأمر حتى أرسل رجاله لمقابلتهم وأمرهم بالعودة من حيث أتوا.
في اليوم التالي، قَدِم الثوار من حاصبيا إلى مرجعيون وقصدهم طرد الحامية الفرنسية المتواجدة فيها سلماً، كما حصل في بلدة حاصبيا ذاتها، حيث طردت الحامية من موقعها في تلة زغلة من دون سفك أي نقطة دم وتمّ إيصال الجنود الفرنسيين إلى مصنع الحمّر، مع تزويدهم بالطعام والماء، كما سُمح لهم بنقل جميع معداتهم وأسلحتهم”، غير أن المخابرات المذكورة سابقاً ما كان منها إلا أن أرسلت العملاء الثلاثة ذاتهم إلى زيتون المغاريق المتواجدة أمام بلدة كوكبا، وحيال وصول الثوار إلى هناك فاجأوهم بإطلاق النار عليهم فقتل منهم على الفور ثلاثة هم: أسعد شرف وقاسم ومحمود أبودهن.
صادف أن حصل هذا الاعتداء الغادر على الثوار بينما كان قائد الحملة حمزة درويش يشرب القهوة عند خوري البلدة، ونظراً إلى أن القائد المحنط لم يكن موجوداً في الوقت المناسب فقد عمت الفوضة بين الثوار و”فلت الملقّ”، كما يقال بعد أن اعتقد الثوار أن أهالي كوكبا هم الذين هاجموهم لذا توجهوا نحو البلدة وحدث ما حدث، وقتل نحو ثلاثين من الذين قاوموا وكانوا يحملون السلاح.
ليردد بعد ذلك الأمير عادل أرسلان، أحد قادة تلك الثورة، جملته الشهيرة: “هكذا أرادتها فرنسا: من ثورة وطنية إلى فتنة طائفية”.

 

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”يا محترم حياتكم غالية جداً علينا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

حدّثني الأديب سلام الراسي عن أريحية ومروءة الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين، فقال: “بعد اندحار الجيش الفرنسي التابع لحكومة فيشي سنة 1940، أمام الجيش الفرنسي التابع لحكومة الجنرال ديغول في الجزائر في منطقتي مرجعيون وحاصبيا حدث فراغ أمني في بلدة حاصبيا من جرّاء ذلك.
القسيس إبراهيم داغر، راعي الكنيسة الإنجيلية، ومدير المدرسة التابعة لها في تلك البلدة، وكان لم يزل يقطن فيها.
إحدى الليالي، نظر من نافذته، فوجد ثلاثة مسلحين يتجوّلون قرب منزله، لكنهم لم يطرقوا الباب، ومع هذا بقي طوال الليل يترقب حدوث عمل مشين.
بعد طلوع الفجر بقليل، أسرع القسيس إلى صديقه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين وحادثه قائلاً :
“شيخنا الكريم، إذا كان وجودي في بلدتكم غير مرغوب فيه، فأرجو من حضرتكم إعلامي بذلك، وإنني على استعداد للرحيل ساعة تشاؤون، والسبب أن ثلاثة مسلحين بقوا طوال الليل أمام منزلي”.
تبسّم الشيخ بعد أن استراحت تقاسيم وجهه، وأدار بيده فوق لحيته وقال:
“يا محترم، لا يغرُب عن بالكم أن حياتكم غالية جداً علينا، وأن وجودكم بيننا لا يقدّر بثمن. فأنتم المرشد الروحي والفكري لأولادنا وللجميع، وخوفاً من حدوث مكروه لحياتكم في هذه الأوقات العصيبة، قمنا بإرسال الشباب لحراستكم، والسهر على راحتكم”.
تبسّم القسيس بعد أن سمع ذلك، وبعد أن استراح فكره، نظر نحو الشيخ من جديد وقال: “حييتم وبييّتم أيها النبيل الشريف، وحقيقة أنكم خلقتم للمعروف يا بني معروف”.

[/su_spoiler]
[/su_accordion]

حكايات الأمثال في جبل العرب

حكايات الأمثال في جبل العرب

تنشر مجلة الضحى بدءاً مع هذا العدد مقتطفات من كتاب الأديب السوري فوزات رزق الذي تناول فيه حكايات الأمثال في الأدب الشعبي في جبل العرب وفي بلاد الشام بصورة أعم. وقام المؤلف بجمع قصص الكتاب بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر المكتوبة والروايات الشفهية التي حققها في قرى جبل العرب بصورة خاصة. ومن المصادر التي يعترف المؤلف بفضلها كتاب”أمثال وتعابير شعبية من السويداء” لمؤلفه سلامة عبيد، وكذلك معجم أحمد أبو سعد، ومعجم أحمد تيمور باشا، ومؤلفات الكاتب التراثي اللبناني سلامة الراسي.
ويوضح المؤلف في المقدمة التي وضعها لكتابه أن العديد من أمثال الجبل وحكايات الأمثال لها جذور لبنانية، والسبب في ذلك يعود “إلى العلاقة الوشيجة بين جبل العرب وجبل لبنان؛ فغالبية سكان جبل العرب إنما أتوا من لبنان، ولا تزال عائلات عديدة في الجبل تحمل أسماء القرى اللبنانية التي أتوا منها مثل: الريشاني والحاصباني والعماطوري والباروكي والشوفي والعنداري والبكفاني والمتني، وغير ذلك كثير، فحينما نزحوا من جبل لبنان إلى جبل حوران، حملوا في ما حملوا عباراتهم، وأمثالهم التي جرت حكاياتها في لبنان”.
ويوضح الكاتب الأستاذ فوزات رزق في مقدمة الكتاب السبب الذي جعله يعتمد في لغة السرد أسلوبي الفصحى حيناً واللهجة المحكية حيناً آخر، وهو “اعتقدنا أن بعض الحكايات، وبخاصة الخيالية منها، إنما تفقد بهاءها ورونقها إذا غادرت الثوب الذي ولدت فيه وهو اللهجة المحكية. أما الأمثولات، والحكايات الواقعية، فإن نقلها بالمحكية يضعف من قيمتها، بيد أننا حافظنا أحياناً على المحكية في الحوار القائم في هذه الحكايات فقط”.
ويلفت الكاتب إلى التعارض الذي قد يجده القارئ بين روايته لبعض الحكايات مع ما يعرفه البعض من أبناء المنطقة، “وهذا أمر طبيعي ما دامت المصادر متعددة وشفهية إذ قد تطرأ على الرواية زيادات وتفاصيل تلائم اكثر البيئة التي تروى فيها، وقد تستعير من تلك البيئة موادا،ً ومعطيات تكون أكثر واقعية وتساعد أكثر على فهم المثل أو الرواية. ويلاحظ رزق “أن المصادر المكتوبة التي كنّا نرجع إليها كانت تختلف أحياناً في رواية بعض هذه الحكايات”.

تغرق ولا يردها الأبلق

الأبلق هو الأبيض من البغال وغيرها من الحيوانات وقد خالطه سواد.
وقد سمعت هذا المثل بصيغتين، ولكل رواية غرض مختلف في التمثيل، فمن قائل: “ يا بتغرق , يا بردها الأبلق “. ويضرب هذا المثل عند المغامرة غير المضمونة النتائج. ومن قائل آخر: “ تغرق، ولا يردها الأبلق “. ويضرب هذا المثل في الأنفة ورفض المساعدة من نذل.
غير أن حكاية المثل التي رواها لي السيد تركي رزق من قرية خازمة وعمره ستون عاماً ترجح أن الصيغة الثانية هي الأصل بحسب مضمون الحكاية.
وتقول الحكاية إن فرساً أصيلة جمحت، نحو مستنقع لو دخلت فيه لغرقت، فحار القوم في الأمر من دون أن يستطيعوا إدراكها، وحين وصلت إلى بداية المستنقع أبطأت في عدوها، فأدركها بغل أبلق كاد صاحبه أن يحرفها عن المستنقع، فاستعظم صاحب الفرس الأمر، واعتبرها إهانة لفرسه أن يدركها بغل، فصاح “ تغرق ولا يردها الأبلق “ فذهبت مثلاً في الأنفة من مساعدة الضعيف.
وهناك رواية ثانية لهذا المثل عند الأستاذ سلامة عبيد يقول فيها إن المثل هو شطر من بيت شعر شعبي، يقول: “ تهفى الأصيلة ولا بليق يردها”. وحكاية المثل كما رواها سلامة عبيد هي أن لصاً سرق فرساً أصيلة من خيول أحد أمراء البدو وفرّ بها. فلحقه الأمير وفرسانه لاسترداد الفرس. ولكن الخيل عجزت عن اللحاق بتلك الفرس السبوق، وعندما وصلت الفرس إلى أرض وعرة، كثيرة الحجارة والصخور، بدأت سرعتها تخف. وبدأت سرعة البغل بليق الذي يركبه أحد أتباع الأمير تتزايد حتى كاد يدرك الفرس، عندئذِ أمر الأمير تابعه أن يتوقف قائلاً: “ تهفى الأصيلة ولا بليق يردها “ أي لتذهب هباء. ويقال هذا المثل في رفض المساعدة المهينة.
ويذكر سلام الراسي حكاية هذا المثل تحت عنوان “ تهفى ولا بليق يردها “. وروايته قريبة من رواية سلامة عبيد.

أهل المجيمر عرّسوا والدف يرقع في وِطْر

المجيمر قرية في محافظة السويداء، تقع فوق تل على مسافة 15 كم جنوبي السويداء، وهي التي مرّ بها امرؤ القيس في رحلته الشهيرة إلى قيصر الروم، وقال فيها:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة من السيل والغثّاء فلكة مغزل
والمثل يضرب في القوم الذين يبتهجون في مكان على حين الفرح الذي يبتهجون به في مكان آخر. وحكاية المثل رواها لي السيد معذى الجباعي من قرية المجيمر نقلاً عن أم غازي هنية الجباعي من قرية المجيمر وعمرها ثمانون عاماً، وقد كانت عمتها ياسمين بنت سليم الجباعي بطلة الحكاية.
والحكاية كما روتها هنية أن عمتها ياسمين تزوجت من شحاذة الجباعي. وكان بيت شحاذة العريس متطرفاً عن القرية على طريق “خربة وَطْر” التي تبعد أكثر من كيلومتر عن المجيمر وقد قاد الشبين فرس العروس إلى بيت زوجها، ومن حوله الفاردة. وحينما ابتعدت الفاردة عن بيوت القرية استهجنوا الأمر وكأنهم يزفون العروس إلى قرية أخرى، عندئذ أخذت الفاردة تغني:
أهل المجيمر عرسوا والدف يرقع في وطر 1
كناية عن أن العرس في مكان والفرح في مكان آخر. فصارت الأغنية مثلاً 2.
غير أنني وقعت في كتاب الأستاذ سلامة عبيد على رواية أخرى، لم يسمِ أبطالها واكتفى بالقول إن إحدى بنات القرية قد هربت مع حبيبها الأول في ليلة عرسها إلى خربة وطر”.
وتبدو رواية الأستاذ عبيد أقرب إلى مآل المثل الذي ابتعد عن التصريح، لكنه كنَّى عن التئام شمل الزوجين بالدف الذي يرقع في مكان اختفائهما.
وفي هذا المعنى يقولون في مصر: “ العروسة في صندفا، وأهل المحلة متحففة “. وصندفا والمحلة مدينتان متباعدتان في مصر. والتحفيف نتف الشعر استعداداً للعرس، فمن مظاهر زينة النساء أن يتحففن عند كل عرس.

بدي إدحلها دحل

تطلق هذه العبارة في معرض التهكم حينما يسرف أحدهم في المبالغة عند سرد وقائع جرت معه، والعبارة منتشرة ومعروفة في أنحاء الجبل، وأصل هذه العبارة أن رجلاً معروفاً بمبالغته أثناء حديثه عن مغامراته ومعاركه الوهمية، أخذ ذات يوم يسرد ما جرى له في إحدى المعارك والغزوات، فقال إنه أثناء هجومه في إحدى المعارك أصابت رصاصة إحدى قوائم فرسه، لكن الفرس لم تخذله، وتابعت الإغارة، لكن رصاصة ثانية أصابت قائمة أخرى من قوائم الفرس، واستمرت الفرس بالهجوم، ولم تخطء الرصاصة الثالثة قائمة الفرس الثالثة، لكن الفرس ظلت تقتحم المعركة كأنّ شيئاً لم يكن. وهنا تدخل أحد الحاضرين مستنكراً أن تستطيع الفرس بعد إصابة قوائمها الثلاث الاستمرار في السير، فكيف بها تعدو؟! . . وهنا قال الرجل لمحدثه:
“ أنا حر … بدي إدحلها دحل “ .
وقد ذكر سلامة عبيد هذه العبارة، وأورد حكايتها على نحو لا يختلف عن روايتنا.
وقد وقعت على حكاية مشابهة رواها لي أحد الصيادين. والصيادون معروفون بتزيدهم في الأخبار. قال الصياد:
إن أحد الصيادين حدّث جلساءه عن نشاطه في الصيد، إذ عُرض له في إحدى المرات رف من الحجل، ومعه بارودة خلع، فصوب نحو ديك حجل فرماه. فما لبث أن عُرض له ديك آخر، فبادر إلى رميه، فعرض له ثالث، وهكذا حتى اصطاد أربع أو خمس طرائد متتابعة. فصاح به أحد الجلساء:
ـ دِكّها يارجال … دِكّها. أي ضع بالبارودة طلقات؛ فهي بارودة خلع وليست رشاشاً .

تفضلوا على دار خيي
تفضلوا على دار خيي

 

تفضلوا على دار خيِّي

هذا المثل يضرب للرجل الذي يدعو الضيوف إلى بيوت الآخرين، بدلاً من دعوتهم إلى بيته. وقد ترجموا هذا الفعل بقولهم: “يا ضربة من كيس غيري”.
وحكاية هذا المثل معروفة في أنحاء الجبل، غير أنهم يتناقلونها بغير إسم أحمد أحياناً.
ومن السائد في الجبل أنه إذا حلّ ضيوف على أحد رجال القرية، فمن واجب هذا المُضيف أن يدعو رجال القرية للسلام على الضيوف بقوله: “شرفوا اشربوا قهوة، عندنا ضيوف”، فيتقاطر الرجال إلى المضافة للسلام على الضيوف، ومن ثم يدعونهم للزيارة، ومن واجب الضيوف تلبية دعوة كل من جاء للسلام عليهم.
وخلاصة الحكاية أن أحمد كان إذا أراد دعوة ضيوف في القرية، لا يدعوهم إلى مضافته، وإنما إلى مضافة أخيه.
وقد سمعت أكثر من شخص مدعياً أن هذه الحادثة قد وقعت في قريته، ولا يتورعون عن ذكر اسم الرجل الذي كان يدعو الضيوف إلى مضافة أخيه باسم آخر.
وقد أورد سلامة عبيد هذا المثل بصيغة أخرى واسم آخر، إذ جاء عنده: “كرم خير بدار بَيُّو”، أو بدار خَيُّو، أي بدار أبيه أو أخيه. وقال في حكاية المثل إن خير هذا اشتهر بأنه يدعو الضيوف إلى دار أخيه أو دار أبيه، وقلما يدعوهم إلى بيته.

توبة نصوحة

أنقل هذه الحكاية من الذاكرة البعيدة. وقد سمعتها مراراً حديثاً دينياً وعظياً، في معرض قبول توبة التائب إلى الله توبة خالصة، وأن باب الله لا يقفل في وجه من طرقه صادقاً، مهما بلغت ذنوبه. تاريخ التدوين صيف 2004 .
والحكاية أنه كان هناك رجل تاب بعد ارتكاب العديد من الجرائم فكانت توبته حقيقية خالصة لله، ولوجه الله، فصاروا يطلقون على كل توبة حقيقية خالصة، توبة نصوحة.
المهم أن الرجل كان كسّاراً، قتل في حياته تسعةً وتسعين قتيلاً، وفيما كان يتابع مسيرته الشقية، إذ مر ليلاً الى جانب مقبرة، وحينما حاذاها، تناهى له من الداخل صوت يقول:
ـ “ إن ما وصلت لك طيّبة، بوصلك وإنتِ ميّتة”.
فاستوقفه الصوت، ودخل المقبرة، فشاهد رجلاً ينبش قبراً، وينتشل جثة امرأة ماتت ليومها، يريد أن يطأها. وكان الرجل يحمل بيده مذروباً “عصا غليظة “. فضرب الرجل المعتدي على رأسه، فطرحه ميتاً، ثم تابع طريقه. وعلى الطريق هداه الله بعد هذه الحادثة، وأرشده إلى الطريق القويم. فخطر له أن يستغفر ربه، ويعلن توبته على ملأ من رجال الدين في المجلس “ بيت العبادة “. ومن ساعته اتخذ طريق المجلس، ودق بابه بمذروبه، ففتحوا له، ودهشوا لقدومه إلى المجلس وبيده المذروب. فقال لهم:
ـ “ يا حضرات المشايخ ! أنا تايب لله ولوجه الله، سامحوني عن الماضي، وعاملوني على المستقبل “ .
فضحكوا سخراً، لعلمهم أن هذا الذي قتل تسعة وتسعين قتيلاً لن يكون له مكان إلا في النار.
لكنهم من جهة أخرى لم يستطيعوا أن يقفلوا في وجهه باب التوبة، فقال له الشيخ سائس المجلس:
ـ اذهب وازرع مذروبك هذا في المزبلة، فإن أورقَ تكون توبتك ناصحة.
ولم يكذّب الرجل الخبر، فانصرف من ساعته إلى المزبلة، وغرس مذروبه الخشبي فيها، وانصرف.
في اليوم التالي عاد إلى المزبلة، فوجد مذروبه قد أورق، فحمله، واتجه إلى المجلس. فأيقن الجميع أن توبته خالصة، وسألوه عن سر ذلك، فأخبرهم بحكاية الرجل الذي صادفه في المقبرة، فقالوا له:
“ هذي توبة نصوحة . والله يا عمي شكارتك غلبت بيادرنا .

-2 جبر من بطن أمه للقبر

جبر من بطن أمه للقبر

يضرب هذا المثل للرجل إذا لازمته التعاسة منذ ولادته حتى نهاية حياته.
والمثل معروف في غير محافظة السويداء. وقد ورد في “معجم الأمثال الشعبية الفلسطينية “ لمؤلفيه فؤاد إبراهيم عباس وأحمد عمر شاهين.
وحكاية المثل أنقلها من الذاكرة البعيدة. تاريخ التدوين شتاء 2006.
والحكاية أن رجلاً يدعى جبر كان يعمل في إحدى المدن عاملاً، يشتغل يوماً ويقعد عاطلاً عن العمل أياماً، وصادف أن مر بمقبرة المدينة، فلفت نظره أنه قد ارتفعت فوق كل قبر شاهدة دوّن عليها اسم المتوفى وعمره، وقد استغرب أن هؤلاء المتوفين قد قضوا في سن مبكرة؛ هذا عمره سنة، هذا سنة وستة أشهر، هذا عمره سنتان وهكذا. فاستغرب ذلك وذهب إلى حارس المقبرة يسأله عن سر وفاة هؤلاء في سن مبكرة. فأفاده الحارس أنهم في هذه المقبرة لا يسجلون إلا أيام السعادة التي عاشها الإنسان.
فقال له جبر :
إذا مت في مدينتكم فسجل على شاهدة قبري: “ جبر من بطن أمه للقبر “
وقد عثرت على حكاية هذا المثل في الموسوعة الحورانية وأضاف صاحبا الموسوعة أن جبر هذا إنما هو طنوس الجبر من لبنان سافر إلى الأميركيتين، وهناك حدث له ما حدث . 3

جازة حمزي براس الإمّان 4

والمثل معروف في أنحاء الجبل كافة، وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد في أمثاله على نحو مختلف “ جازة حمزي براس المعناي . 5
ويضرب المثل في الرجل إذا ألح في طلب الشيء دون مراعاة الوقت المناسب . وحكاية المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الأستاذ عبيد. ولم أقع على المكان الذي جرت فيه واقعة الحكاية غير أنهم يذكرون أن حمزة هذا خطر له أن يتزوج في موسم الحصاد، لأمر ما بينه وبين عروسه. ولما أنه لم يكن من المنطق أن يتوقف عن الحصيدة ليتزوج، فقد طلب منه أهله التريث ريثما ينتهون من عملية الحصاد، لكنه أبَى، وأصرّ على الزواج قبل إتمام الحصاد، فذهبت زيجته مثلاً في الأمر إذا أُلحّ في طلبه في وقت غير ملائم فقالوا: “ جازة حمزي براس الإمّان “

تجارة المجدلاني

هذا المثل معروف في بلدة عرمان وما حولها. ويضرب في الرجل إذا اتَجر فخسرت تجارته. وحكاية المثل ما زلت أسمعها عند كل خسارة تلحق أحد الناس جراء غفلة أو خطأ في الحساب. تاريخ التدوين صيف 2007.
والمجدلاني رجل من مجدلبعنا في لبنان، فقير الحال، وفد إلى الجبل وكان يتعاطى تجارة العنب على حماره مقايضة، فحدث أن اشترى حمل العنب بمدِ من القمح، لكنه بعد بيع العنب تجمّع لديه ثلاث أرباعِ المدّ من القمح لكنه لم يدرك خسارته، وذهب يستعين بمن هو أكثر خبرة منه قائلاً له: “ احسب لي هالحسبة؛ إذا قلنا: اشترينا حمل العنب بمد قمح، وبعناه بثلاث أرباع. قديش بنكون ربحنا؟.

جراب الكردي

مثل يطلقونه على الشيء، يدعي صاحبه أنه نفيس، وهو في حقيقة الأمر لا يساوي شيئاً.
وأصل المثل كما رواه سلام الراسي أن كردياً أراد أن يذهب إلى الحج، فاستودع جاره جراباً، ريثما يعود من حجته. وعندما عاد افتقد جاره الجراب فلم يجده، فأعلن استعداده لدفع ثمن محتوياته. لكن الكردي أبَى، إلا أن يرفع قضيته إلى القاضي.
فسأله القاضي عن محتويات الجراب فقال:
“ فيه جواهر ونقود، وخلاخل وعقود، وعباءات وملاءات، وصوانٍ وأوانٍ؛ وفيه سيوف مرصعة، ودروع مدرّعة، وخناجر وطناجر؛ وفيه أربعة رماح مشرفية، وخمس سجاجيد أعجمية “.
فقاطعه القاضي وصاح به: كفى ! أنت استودعته جراباً ؟ أم بناية بخمسة أبواب؟! . 6

الشاعر الفارسي سنائي

سنـــائي

كـــان حجـابـــاً مـــن نـــور
وكـــل حجـابٍ كـــان حجـــاباً لِحِجابْ

كــلام بليــغ مـن مجنون في حديقـة
بـدل مجرى حياته نحو الزهـد والخلوة

تلفظت بقول هو بمثابة أثر كامل ونطقت ببيت شعر هو بحجم ديوان
(سنائي)

يعتبر الشاعر الفارسي الكبير سنائي أحد أبرز عمالقة الشعر الصوفي في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن غريب المصادفات أنه عاصر كلاً من فريد الدين العطار وجلال الدين الرومي اللذين تربعا إلى جانب سنائي في أعلى مقامات الشعر والحكمة، وقد كان الثلاثة أكثر من شعراء لأنهم كانوا متحققين ومرشدين كاملين جلسوا للإرشاد وقبلوا المريدين وكان لكل منهم أثره الذي لا يمحى، بل أن السنين لم تزد هؤلاء الثلاثة إلا شهرة وتعظيماً بحيث ما زال شعرهم يتردّد على كل شفة ولسان وعشرات اللغات حول العالم.

فضل سنائي
لكن من الممكن القول إن سنائي الذي سبق في الزمان كلاً من الرومي والعطار كان السبّاق بين الثلاثة إلى بلورة الأسلوب الشعري الزاخر بالقصص والصور والأمثلة من القرآن والسيرة النبوية وسير الصالحين، وقد كان شاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي أول معترف بفضل سنائي وبسبقه في ميدان العشق ولغة القلوب. وها هو يقول شعراً في ذلك:
تركت طريق الصبابة ولم أكن قد نضجت بعد
فلتستمع الآن إلى القصة الكاملة لحكيم غزنة

كما أنشد في مكان آخر يقول:
كان العطار هو الروح، وكان سنائي العينان
أما نحن فنسير على أثر سنائي والعطار

ولد الشاعر الحكيم سنائي (واسمه الكامل أبو المجد بن مجدود بن آدم سنائي) في “غزنة“ التي تقع اليوم في ما يعرف بأفغانستان، وذلك في أواسط القرن الخامس الهجري، وعاش في ظل حكم الملك بهرمشاه. وقد حظيّ سنائي منذ يفاعه بمكانة رفيعة، إذ اشتهر باعتباره أحد أبرز العلماء والصالحين في زمانه، كما حظيّ بأسمى عبارات التقدير والتعظيم على ألسنة الخلق، إذ أنه جمع إلى مسلكه الصوفي وحكمته قلباً رقيقاً وأدباً رفيعاً وموهبة فريدة في نظم الشعر والتعبير الشعري عن أعقد المسائل الروحية والدينية.
اعتزل الدنيا وانقطع عن مشاغلها ومتعها وهو بعد في عز الشباب، ويقال إنه اتخذ قراره بصورة مفاجئة وعلى أثر حادثة عجيبة تروى كالتالي:
كان الحكيم سنائي ضيفاً دائماً على بلاط الملوك والأمراء، حيث كان ينظم الشعر في مدح خصالهم وإسهامهم وما ينجزونه من عمارة وعدل في الملك وازدهار. وحدث أن قرر السلطان إبراهيم الغزنوي شن هجوم على “عَبَدة الأصنام” في الهند المجاورة، فنظم سنائي قصيدة في مدح السلطان إبراهيم وأخذ طريقه نحو القصر ليلقيها بين يديه قبل انطلاقه بالحملة على شمال الهند.

قصته مع مجنون غزنة
وكان في غزنة في ذلك الوقت رجل غامض “مجنون” يلقب بـ “لاي كور” (أي آكل الثيران)، وكان معروفاً عنه أنه كان ينطق وأسلوبه الخاص بأقوال فيها القدر الكبير من الحكمة وغالباً ما كان لكلامه وهو المجنون في الظاهر وقعٌ عميقٌ على الناس لأنه يلامس لا وعيهم ويشير إلى حقائق كبرى ومواقف لا يجرؤ الناس العاديون على اتخاذها. وكان “لاي كور” يعاقر الخمرة ويتردد كثيراً على الحمام العام . وحصل في ذلك اليوم أن مر ّسنائي في طريقه إلى قصر السلطان بحديقة فتناهى إلى سمعه شعر وغناء فتوقف قليلاً وأصغى لما يقال. وبعد قليل كان المغني – الذي كان في الواقع المجنونة “لاي كور“- يخاطب الساقي بالقول: أيّها الساقي املأ لي كأساً ولنشرب على نية أن يحل العمى بالسلطان إبراهيم. وسمع سنائي الساقي يوبخ المجنون بالقول: “حرام عليك أن تدعو بالعمى على ملك عادل مثل السلطان إبراهيم، فأجاب المجنون بأن السلطان يستحق العمى بسبب حماقته وتركه لمدينة رائعة مثل “غزنة“ التي تحتاج لوجوده ورعايته في سبيل مغامرة حمقاء في أرض بعيدة وفي عز الشتاء القارس.“ وتابع المجنون فطلب من الساقي أن يترع له كأساً ليشرب هذه المرة على نية أن يصاب الحكيم سنائي بالعمى أيضاً. وعندها وبخه الساقي بعبارات أقوى، إذ كيف يعقل أن تتمنى العمى لرجل لا يكن الناس له سوى المحبة والتعظيم؟ وعلى هذا أجاب المجنون بالقول: أما سنائي يستحق اللعن حتى أكثر من الملك لأنه ومع كل علمه ورجاحة عقله لا يبدو أنه يعلم لأي هدف خلقه الله، ولأنه عندما سيواجه الخالق ويسأل عمّا حمل معه من الأعمال الصالحات لن يكون لديه ما يعرضه سوى قصائد المديح للملوك والأمراء وهم من عبيد الفناء مثلهم مثل الشاعر.
ويبدو أن هذه الكلمات كان لها وقع الصاعقة على سنائي وشخصيته الرقيقة والورعة، وقد قرر الشاعر على الفور اعتزال الدنيا والتخلي عن كل مباهج الحياة ومخالطة البلاط وجاهه الفارغ.

سلوكه طريق التصوف
وتبع سنائي اعتزاله بالسعي لأخذ مرشد روحي كامل وجده في شخص الشيخ القطب يوسف الحمداني، والذي كانت زاويته الصوفية قد اشتهرت باسم “كعبة خراسان”.
ويبدو أن أهل البلاط صدموا بهذا الانقلاب الكبير في حياة الشاعر وافتقدوا حضوره، الأمر الذي دفع السلطان برهم شاه بعرض تزويج الشاعر سنائي من شقيقته، وهو شرف لم يتردد سنائي في شكر السلطان عليه لكن مع الاعتذار في الوقت نفسه عن عدم قبوله، وقرأ سنائي في ذلك العرض أن عليه أخذ خطوة حاسمة تبعده عن غزنة فحث السير بهدف الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويشير سنائي في ديوانه الشهير “الحديقة” الذي كتبه بعد العودة من مكة المكرمة إلى هذه الحادثة مكرراً بالصيغة الشعرية اعتذاره من الملك بالقول:
لست من أولئك الذين يهمم الذهب
أو الحصول على زوجة،
أو على مكانة رفيعة بين الناس.
بالله العظيم أحلف لك،
بأني لا أسعى وراء تلك الأشياء
ولا أرغب فيها.
بل أنك لو قررت بوافر فضلك وإنعامك
أن تقدم لي تاج الملك
فإني أقسم برأسك أنني لن أقبل به.

مذهبه
هوجم سنائي أثناء حياته في أكثر من مرة بتهمة الخروج عن الشريعة لكن بلاط الخليفة في بغداد ردّ على هذه التهم بإصدار فتوى تؤكد الإيمان الصحيح لسنائي والتزامه الدين الحنيف.
لكن من المرجح أن تكون تلك التهم قد صدرت بسبب المنحى الخاص الذي اتبعه سنائي، والذي تميّز برفض التفريق بين المذاهب، فهو أخذ مسلك العرفان على يد أحد أقطاب الصوفية المسلمين السنة لكنه أظهر في الوقت نفسه حبه للإمام علي (ر) وآل البيت.
ومن الصعب في الواقع تشخيص مذهب سنائي إذا ما قرأنا شعره في “حديقة الحقيقة”، وهي مجموعته الشهيرة والرئيسية والتي توازي في أهميتها “مثنوي” جلال الدين الرومي، فقد عبّر في ذلك الديوان عن نزعة واضحة إلى الوحدة فاستهل ديوانه بمدح رسول اللّه (ص) ثم ثنّى بأبي بكر وثـلّث بعمر ثم عرج على عثمان وخـلـص أخـيراً إلى مدح الإمام علي (ر) وتساوي الصفحات المخصوصة بـبـيـان مـنـاقـب الإمـام الـصـفـحات التي تتحدث عن الخلفاء الثلاثة، وحين فرغ الشاعر من مدح أمـير المؤمنين، انتقل إلى مدح الإمام الحسن، فالإمام الحسين وأخيراً أبي حنيفة والشافعي. لكن سنائي يحرص في كلماته على إظهار المحبة للإمام علي (ر) والذي كتب عنه بهذه الأبيات في “الحديقة”:
نصب اللّه خليفة المصطفى أميراً يوم الغدير
و لأجله دعـا الـمـصـطـفـى ربـه قـائلاً:
“الـلـهـم والِ مـن والاه”.
هو للنبي وصي و صهر
وسُرَّت روح النبي لجماله”
ولهذا السبب ربما فإن الملا محمد طاهر القُـمِّي المناهض للصوفية ينكر عدّ سنائي من شعراء الـصـوفية، كما ينكر تشيّعه ومن أدلته على ذلك أن أحداً من العلماء المتقدمين لم ينص على تشيعه.
يبقى القول إن الفصل حول معتقد سنائي نجده في شعره العرفاني الذي يستوعب الإنسانية كلها وليس مذاهب الإسلام فحسب، في رؤيته التوحيدية التي تستصغر كل ما في الدنيا وتنشد التقرب من الله وحده ولا ترى مكاناً لإضاعة الوقت في الاختلاف، وهذا شعر سنائي يدعونا تكراراً أن نأخذ طريق المحو والتجرد التام من كل التعلقات أملاً في القرب من الله تعالى والانكشاف على نوره وحقيقته. فكيف يمكن لشاعر كهذا أن يبقي في صدره ولو خاطراً صغيراً يجعله في صف هذا أو ذاك ومخاصماً لهذا أو ذاك من الناس أو المذاهب.

آثاره الشعرية
تشتمل آثار سنائي باللغة الفارسية على سبع مثنويات وديوان. أما المثنويات فهي:
حديقة الحقيقة: وهي الديوان الأشهر ويبلغ عدد أبياته أحد عشر ألف بيت – طريق التحقيق – غريب ‌نامه – سير العباد – كارنامه – عشق نامه – عقل نامه
أما الديوان: فهو صدر بعنوان “ديوان” ويشتمل على اثني عشر ألف بيت من الشعر، موزّعة بين القصائد والترجيعات والتركيبات والغزليات والرباعيات.
وفي ما يلي نعرض لباقة رائعة من شعر سنائي، وكما يلاحظ فإن مضمون كافة الأبيات التي كتبها سنائي يتعلق بترك الدنيا والتقرّب من الله والاقتداء بالصالحين.

مختارات من شعر الحكيم سنائي

التصديق
تصديقي بك يقربني إليك
لكن فقط حتى الباب
فقط عندما أغيب في سرك
سيمكنني الدخول

مثل وردة
نارك المحرقة
جعلتني أتفتح مثل وردة
متُّ على قدميك
وعدت بسرعة إلى الحياة
حريتي الوليدة
لم تحمل لي أي مغنم
لكنني الآن حرّ
بعد أن أصبحت عبداً لك

تفكر ساعة
اجمع فتات الفكر
واملأ نفسك
شيئا فشيئاً بالمعاني
إن العبد الذي يتفكر
ستين دقيقة
في أسرار الخلق
يحصل من الشرف والمقامات
قدر ما يحصله الناس
في ستين عاماً من الصلاة والصوم
التفكر يجعل باز الفكر المحلق عالياً
يهبط أخيراً على فرع مزهر
ينبثق من القلب

حديث في الألغاز
يا عزيزي
لا أعتقد أن رجليك
تقويان على هذا الطريق
فلم هذا الجهد المضني
ليست لك فكرة أين توجد الأصنام
فلم هذا الحديث الروحي الطويل؟
ما الذي يمكن عمله مع رفاق الطريق
الذين يجادلون باستمرار
الممتلئون زهواً مثل تجار البازار
أنت روح صافية
لكنك تظن نفسك جثماناً
أنت ماء قراح لكنك تظن نفسك الوعاء
كل ما تريده عليك البحث عنه
..إلا الصديق
لأنك إن لم تجده
فإنه لن يكون بإمكانك حتى أن ترى أي شيء
نعم يمكن القول دوماً بأنك لست هو
إلا إن أمكنك أن ترفع حجاب نفسك
من بين وجودك ووجوده
لأنك في هذه الحال سترى أنك أنت هو

لسان وأذن
لا يوجد في الدنيا لسان يمكنه أن يفصح عن سرك
لأن قياس الكلام يغشى على حقيقتك
لكن موهبة الأذن أنها تسمع
ما لا يمكن للسان أن يشرحه

حب الوحدانية
عندما يضيء قلب رجل على الطريق
لا يبقى أحد في مكانه
القدم تطأ الأرض لكن ليس لوقت طويل
ولأنه حيث يبدأ القلب البوح بأسراه
لا يوجد هناك “أنت” ولا يوجد فكر
الفارس يحث حصانه على الانطلاق
لكنه بذلك يلقي بنفسه تحت الحوافر الطائرة
في حب الوحدانية لا يوجد قديم أو جديد
كل شيء هناك لا شيء
الله وحده هو الموجود

كن عارياً مثل حبة القمح
في أعين الأحبة فإن حجاب الظاهر
لا يخفي شيئاً
يداك وقدماك يجب أن يتحركا
كما يتحرك الينبوع في مساره الحثيث نحو المحيط
عندها لن يبقى هناك من يتحدث عن البحث
أن تكون شهيراً أو منبوذاً،
أن تكون في المقدمة أو في الخلف،
تلك اعتبارات أشبه بالحجارة التي تؤخرك عن السير
فكن عارياً مثل حبة القمح الخارجة من غلافها
كن مضيئاً مثل آدم
لا تسأل عن أي شيء سوى الحضرة
لا تتحدث عن “أنت” يكون منفصلاً عن “ذاك”
الوعاء الممتلئ لا يمكنه أن يكون أكثر امتلاءً
فكن كل شيء ولا شيء


عالم بلا أرض ولا زمان
عندما تواجه الطريق لأول وهلة، تشعر بأنها مظلمة.
ترى فيها جبالاً شاهقة شامخة،
وترى فيها جماعات من السباع والوحوش الضارية.
اصعد إلى الدرجة التي ترى فيها العالم كله، فسترى مُلكاً بدون أحزان
وسترى عالماً بلا أرض أو زمان، وملكاً دون مكين أو مكان
فارتفع واتجه إلى العلا، حتى ترفع رأسك شرفاً وعزة
وعندما تصل إلى العلا، فسوف نبعد عنك الدنايا
حتى نفتح عيون قلبك، وننظر إليك بدون حجاب
وعندما تنظر إلينا بعين العقل، سوف تدرك ضآلة نفسك وعجزك
وتتجرد من التخيل والتخمين، ولن تستطيع أن تعد نفسك شيئا
فهدئ من غلوّ كبريائك، واستعد
لترى في قلبك برهاننا، لترى التاج والعرش وملكنا.
إن الجاهل يسمع كلامه فحسب، ولا يلقي بالاً إلى كلام الآخرين
خطاب إلى النفس
عندما حل العشق في قلبي، نزع قيد العبودية عني
ورفع عني جميع القيود، فصرت مولى بعد أن كنت عبداً
فتحولت جميع أحوالنا، وتبدلت جميع صفاتنا
فرفع القيد عني ووضعه عليك، فأنت الآن عبد، وأنا حر
أنت أسيري وأنا أميرك، فكيف يقترب الأسير من الأمير؟

إذا استيقظ القلب
العارفون طيور هذا البستان
والعاشقون صيادو هذه الغابة
بصرهم حاد في ظلمة الليل
في هذا الزمن الأعمى والعالم الغادر
يرون النار وجنة الخلد عيانا
نار العشق في قلوبهم، والدموع في أعينهم
إذا استيقظ القلب فالكلام ذِكر
وإلا فهو مجرد صوت

مأساة حمار
مر حمار ذات يوم على دكان حداد
شاء القدر أن تنبعث شرارة من الكير فتصيب حزمة الحطب
انبعثت النار في الحطب فاحترق، وفي النهاية احترق الحمار بين ذلك
ومن العجب أن تمر على نار وأنت تحمل الحطب ثم تنجو بنفسك !!
لأنك لن تمر وتتجاوز النار بسبب ثقل الحمل
فأنت رهينة ذلك الحمل
والأكل والنوم عادتك،
وهذا كل نصيبك من السعادة.

عصر الظلم
لقد خرب الظلم أساس بنيان العالم
واختفى وجه شمس العدل تحت السحاب
الظلم أياً كان فاعله خطب عظيم، والظالم قبيح لعين
أينما توجه العدل بوجهه، حلّت النعمة وفاضت
وكل مكان تُزرع فيه شجرة الظلم، تُقتلع منه جذور المُلك
العدل شمعة تضيء الدنيا، وظلم الملِك نار تحرق الممالك
فأنا كالشمع أنير المجلس، ودائماً ما احرق خيوط روحي
هذه الأشعار من لب روحي، فان خرجت طيبة أو سيئة فمن لساني
فلست في الشعر عالة على أحد، ولا أطير بأجنحة أحد أو قوادمه.

آلام الطريق
كان اثر خدي على الطريق، كأثر خف الإبل
كنت كالطفل الذي فرض عليه صعود الجبل
فكانت دموعي تجري مثل اللؤلؤ
وكان السيف من كثرة سقوط البرد عليه مثل الماس
صار قلبي كالحجر، وعيني دامعة كالبدر
ووجهي مصفراً من دموعي، وظهرت فيه نقاط مثل جلد الفهد
وعندما كان الفهد يرى هذا المنظر،
كان يفرّ خوفاً على نفسه وليس من الغضب
لم يمكث أحد على تلك الجبال، إلا وكسرت عظامه
أصبحت دموعي كالياقوت، برغم انعدام قوُتي، وانتهاء قوَّتي
و كان مؤنسي في هذه الطريق، صوت السباع والحمير
حجاب النور
جلت سنوات طويلة في تلك المقامات
للعبرة والنظر والتدبر في الكون
فحيناً كنت في بغداد للعلم
وحيناً كنت في بيداء الوهم
وحيناً كنت في الفردوس وآخر كنت في الهاوية
حيناً كان قلبي شمع طريق الغيرة،
وحيناً كانت نفسي غريقة في بحر الحيرة
حيناً كنت في الكشف والمكاشفة، وآخر كنت تحت الحجب والستور
حيناً كان لطف البسط يسكرني، وحيناً كان عنف القبض يرهقني
وحينما مزقت هذه الحجب، وصلت إلى حجاب آخر
حجاب ذاته الذي كان من النور،
كان حجباً، وكل حجاب كان حجابا لحجاب.

لا تبحث عنه
لا تحكي عن عذابك لأنه هو يحكي
لا تبحث عنه في كل مكان، لأنه هو يبحث عنك
لو أن رجل النملة لامست ورقة الشجر فسيشعر بها
لو أن حصى النهر تحرك من مكانه فإنه سيعلمه
لو أن دودة من ديدان الأرض اختبأت في صخرة
فإنه سيعرف عن جسدها حتى ولو كان أدق من الذرة
كما أنه سيسمع همهمة تسبيحها ونشوتها في السرّ
كل ذلك يعلمه هو بالعلم الرباني
وهو الذي أعطى أصغر الديدان قوتها
وهو الذي فتح لك الطريق إلى أهل الله

الطريق إليك
الطريق إليك
تشق مسارها كالنهار في قلبي
لكن لا يمكن للفكر أن يراها أو يعرفها
وعندما تتحول كلماتي نحو الصمت
فإن حلاوتك تحيط بكل كياني

وردة التسبيح البرية
أولئك الذين لا يعرفون كيف يحزنون
أو كيف يتحدثون عن حبهم
أو كيف يشكرون،
أولئك الذين ليس في مقدورهم
أن يتذكروا الله
باعتباره منبع كل شيء
هؤلاء يمكن وصفهم بأنهم مثل الريح الأجوف
أو مثل السدان البارد للحداد
أو مثل جماعة من الكهول المذعورين
ألا فلتنطق باسمه واجعل لسانك رطباً بذكره
وكن مثل بساط الربيع
وعندما تبدأ الامتلاء بالحكمة
وعندما يمتلئ قلبك حباً
فلن تظمأ بعدها أبداً
كل ما يبقى هو الاصطبار
وأنت واقف على عتبة الباب
غير مبالٍ بما تسمعه
من نصيحة المارة في الطريق

مآثر و حكم