الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الراهب ريوكان

“جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجــــر وحتى وقت الغـــــــــــــــــروب
وحدي أنا أجد نفســـــــي حرّا ودون عمـــل
ملتصقا بقوة بالمصــــــدر الذي جئت منـــه”
«الريح يعطيني
من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»

من شعر الناسك الياباني

ريـــوكان

عندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

مثل سحابة في الفضاء لا يقيِّدها شيء
أترك نفسي لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار

قليل من قراء العربية لديه الإلمام بهذه الشخصية الفريدة في تاريخ التصوف البوذي، وتاريخ الشعر الصوفي النادر في شاعريته وجماليته، لذلك عندما اطلعنا منذ سنوات على ديوان الشاعر الياباني الأصل ريوكان وقعنا فيه على حديقة وارفة من أشعار الزهد والتأمل الروحي تثير المشاعر وتهز الأحاسيس، وهي تحدث هذا الأثر في النفوس ليس بسبب بلاغة في الصياغة أو بسبب موسيقاها بل بسبب ما تعكسه من روح الشاعر الناسك ورقته وعقيدة الحب والسلام التي تلهم كل لحظة من لحظات حياته. فريوكان يبدو لنا نموذجا نادرا للروح الحرة التاركة للعالم الملتصقة بالطبيعة والأزاهير والغابات والقمر والجبال والأنهار. وهذا الشاعر الناسك السائح في الأرض لا يؤلف شعرا من الخيال بل يصف حياته الحقيقية، حتى لتكاد قصائده تكون نوعا من اليوميات الشعرية لحياة النسك والتجوال. وبسبب انغماسه في الطبيعة وحبه لها وللعزلة في كوخه البعيد عن العمران فإن الكثير من شعر ريوكان يدور حول الطبيعة اليابانية الأخّاذة وحول تفاعله اليومي مع فصولها ورياحها وبردها وسكونها وأشجارها وينابيعها .. ولننتبه إلى أن شعر ريوكان يتعدى وصف الطبيعة إلى وصف حالتة الداخلية في التفاعل معها فهنا نجد ناسكا يشرح لنا معنى السلام الداخلي والتحرر من الحاجة ومن الخوف ومن كل ما تسببه الدنيا والتعلق بها من هموم وكدر وتعاسة. ولهذا ربما فإن القارئ لشعر ريوكان سيشعر بصورة عفوية براحة كبيرة وربما تمنى لو أن في إمكانه أن يعيش ولو على سبيل الاختبار تلك التجربة الفريدة للنسك وتأمل الوجود وسط الطبيعة وبعيدا عن الناس وقد كانت سلوى ريوكان الأولى هي اللعب مع الأطفال، وهو الذي يقول في شعره أنه يبحث عن رجل واحد يكون شبيها له لكي يشاركه الحديث في كوخه (لكنه لا يجد) وفي هذا القول ما يفيد عن عمق المسافة التي فصلت الشاعر عن الناس وعن زمانه وجعلته يقول في أحد أشعاره أن خير أصحابه هي الجبال والأنهار !! أي الطبيعة النقية الصافية. فمن هو هذا الشاعر وما الذي يمكننا أن نتعلم منه؟

ولد ريوكان الناسك في العام 1758 في منطقة أشيجو النائية في شمال اليابان والتي تتميز بطبيعة جبلية ساحرة وطقس ثلجي خلال أشهر الشتاء. وقد درس ريوكان الشاب الآثار الكلاسيكية للفكر الصيني والياباني، وكان والده رئيس البلدة كما أنه كان شاعراُ معروفاً في فن الهايكو وهو فن خاص من الشعر الياباني الذي يهتم بالطبيعة ويستخدم أسلوب الأبيات القصيرة والإيحائية للتعبير عن تجربة داخلية ذات عمق وجودي أو روحي.
وكان ريوكان الشاب وسيما ومحط أنظار فتيات القرية، لكنه على أثر أزمة قلق وجودي وبحث عن معنى الحياة نذر الفقر وقرر ترك كل أملاكه ومكانة العائلة والالتحاق بدير للرهبان البوذيين وكان يومها في العشرين من عمره.
في العام 1780 أصبح ريوكان مريدا للمعلم البوذي كوكوسن وكان أشهر معلمي بوذية التشان Zen Budhism وهي الفرع النُّسُكي والصوفي للبوذية. وقد سلك ريوكان بثبات في ذلك المعتكف الجميل في قلب الجبال إلى أن مات معلمه في العام 1791، ورغم أن ريوكان كان قد أصبح المريد المُفضَّل لكوكوسن الذي اختاره كخليفة له لرئاسة المعبد والطريقة التي كان يتبعها، إلا أنَّه رفض القيام بتلك المهمة وقرر بدلا من ذلك التحول إلى ناسك جوال وأمضى السنوات العشر التالية من حياته متجولا في أنحاء اليابان. ومع بلوغه مطلع الأربعينات من عمره عاد إلى مسقط رأسه حيث أمضى البقية الباقية من أيامه يعيش حياة بسيطة وهادئة في معتكف جبلي بعيد عن الناس. وكان يحصل على قوته بالتسول وطلب الطعام من الناس وكان بعد ذلك يشارك في طعامه العصافير وحيوانات الغاب. وكما توحي أشعاره فإن ريوكان كان يمضي أيامه في التأمل الروحي في كوخه أو في النظر إلى القمر أو اللعب مع أطفال القرية أو يزور الأصدقاء ويحتسي معهم نبيذ الأرز أو يرقص في الاحتفالات ويخط أبياته الشعرية بريشته ومحبرته مخلفا بذلك مخطوطات رائعة الجمال وذات قيمة فنية نادرة.
كتب أحد أصدقائه يصفه بهذه الكلمات:
“عندما يأتي ريوكان لزيارة أحد فكأنما حل الربيع فجأة في يوم شتائي قاتم. لقد كان يتميز بشخصية شفافة ونقية لا تشوبها شائبة من تصنع أو ازدواجية. وكان يشبه كثيرا أولئك الخالدين من أعلام العبادة والزهد الذين بلغتنا أخبارهم ومآثرهم في الآداب والسير القديمة كان يشع حرارة ومحبة ولم يظهر في حياته أي غضب ولم يكن يستمع لأي نقد يوجه إلى آخرين، وكان مجرد اللقاء به يبرز في الناس أفضل ما في شخصهم وأطباعهم”.
في إحدى المرات طلب منه أحد أقاربه أن يساعده في إرشاد ابنه المنحرف، وقد أجاب ريوكان الطلب بأن قام بزيارة الأسرة وأمضى ليلته مع أفرادها، لكنه لم يتحدث إلى الشاب أو يسعى إلى وعظه، وفي الصباح وعندما كان يستعد للمغادرة كان الشاب يساعده في ربط صندله عندما أحس بنقطة ماء حارة تسقط عليه وعندما رفع نظره وجد ريوكان يبكي بحرارة لحاله. وكانت الحادثة المنعطف الذي ساعد الشاب على إصلاح نفسه.
روي أيضا أن أحد أمراء الساموراي بلغه أنباء ريوكان فأراد أن يكرمه وجاءه يوما يعرض عليه أن يبني له معبدا واسعا يسكنه. استمع الراهب إلى الأمير لكنه بقي صامتا ثم أخذ ورقة وخط عليها الأبيات التالية وسلمها إلى الأمير وقد كتب فيها:
«الريح يعطيني من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»
أدرك الأمير مغزى الرسالة فانسحب وودع ريوكان باحترام وتوقير شديدين
مع تقدمه بالسن ظهرت علامات العجز على ريوكان فأقلع عن حياة التجوال والعزلة في البرية وقبل ضيافة أحد أصدقائه في منزل سكنه حتى وفاته عن عمر بلغ الثالثة والسبعين في سنة 1831.
خلال حياته الصوفية كتب ريوكان ألاف الأشعار بخط رائع جعل منه أحد أبرز وأشهر خطاطي الأسلوبين الصيني والياباني الكلاسيكيين واحتفظ الناس بآثاره وحرصوا عليها، ثم قام الشاعر تي تشن بجمع تلك الأشعار فصدرت كمختارات تحت عنوان “نقاط من الندى على ورقة اللوتس” سنة 1835 أي بعد أربع سنوات من وفاة الشاعر
ويعتبر ريوكان أعظم شعراء مدرسة التصوف البوذي Zen Budhism على الإطلاق كما أنه لغاية اليوم أعظم خطاطي اللغة اليابانية الكلاسيكية.
في الجزء التالي أشعار مختارة قمنا بترجمتها عن النسخة الإنكليزية للديوان الذي ترجمه عن اليابانية جون ستيفنس وصدر عن دار شامبالا في العام 1993.

شعري ليس من الشعر!

من قال أن شعري هو من الشعر؟
إن شعري ليس من الشعر
لذلك، وعندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

إلى مرشدي

قبر قديم بعيد عن الأنظار في أسفل تلّه مهجورة
تغطي جوانبه أعشاب تنمو وترتفع عاماً بعد عام
لم يعد هناك من يعتني بالقبر
وربما مر أحد الحطابين بالمكان من حين لآخر
كنت يوما مريده وكنت شابّاً أشعث الشعر
ونهلت العلم منه على ضفة النهر.
وفي أحد الأيام غادرته مسافراً لوحدي
ومرت الأيام والسنين على افتراقنا بصمت
وهاأنذا أعود، لأجده راقدا في المكان
كيف أكرم ذكرى روحه؟
أسكب إبريقا من الماء فوق شاهد قبره
وأتبع ذلك بصلاة صامتة
فجأة، تختفي الشمس خلف التلال
ويلفُّني هدير ريح يعصف بين أشجار الصنوبر
أحاول أن أنتشل نفسي بعيدا لكنني لا أستطيع
سيل من الدمع يبلل أطراف أكمامي
كوخي الجميل

في شبابي وضعت جانبا هم الدرس
وأخذني طموح بأن أكون قديسا
أن أحيا كراهب متجول يعيش على الصدقات
وقد جلت الفيافي في كل اتجاه لأكثر من ربيع
أخيرا عدت من حيث انطلقت لأقيم تحت قمة وعرة
وهاأنا الآن أعيش بسلام داخل كوخ من القش
أصغي إلى العصافير وموسيقاها الجميلة
والسحب في السماء أفضل جيران لي
وفي أسفل التلّه ينبوع رقراق حيث أطهر الجسد والروح
وفي أعلاها أشجار سنديان وصنوبر باسقة تمدني بالظل وبالحطب
ها هنا أتنفس الحرية في النهار وفي الليل
ليست لي رغبة بترك هذا المكان أبدا
إن سأل أحد عن مسكني
فإنني سأجيب:
مسكني على الحافة الشرقية
من مجرّة درب التبانة
مثل سحابة في الفضاء
لا يقيِّدها شيء
فإنني أترك نفسي
لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الحياة!

ممزقة ومهلهلة، ممزقة ومهلهلة
ممزقة ومهلهلة هذه الحياة
تسألني عن الطعام؟ إنني أجمعه من الطريق
والشجيرات والعليّق استولت على كوخي منذ زمن
غالبا أجلس أنا والقمر كل الليل
وكم من مرة نسيت نفسي وسط الأزهار البرية
فغاب عن ذهني أمر العودة إلى البيت
لا تعجب إذن لم تركت الحياة مع الناس
كيف يمكن لراهب مجذوب مثلي أن يعيش في معبد؟

قصيدتان إلى الصديق بوزاي

حقا أنني رجل محدود الفهم
أعيش بين الشجر والنباتات
لا تسألني عن مسائل مثل وهم الوجود والتجليات
فهذا الرجل البسيط كل همه أن يبتسم لنفسه
أشق طريقي وسط الجداول برجلين نحيلتين
أحمل كيسا عندما يكون الطقس ربيعيا
تلك هي حياتي
ولست مدينا بشيء لهذا العالم
هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار
السحب تبتلع ظلي عندما أسير
وعندما أجلس على قمة الجرف تحلق فوقي الطيور
مرتديا صندلا من القش، يعلوه الثلج، أزور قرى باردة
حاول كل جهدك أن تتعمق في معنى الحياة
وسيمكنك عندها أن تدير ظهرك حتى للأزهار الجميلة

لم يأت الخريف بعد

طريق فريد بين عشرة آلاف شجرة
وادٍ غارق في الضباب، محتجب بين آلاف القمم
لم يأت الخريف بعد، لكن أوراق الشجر بدأت تتساقط
لم يهطل المطر بغزارة، لكن الصخور اتخذت لونا قاتما
مع سلتي الصغيرة أقطف الفطر
وبهذا الطاس الصغير أغترف مياه الينابيع النقية
وما لم تلق بنفسك –عمداً- في حالة من الضياع التام
فإنك لن تصل -بعيدا- إلى حيث وصلت

الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغابة
الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغاب

مرآة الماء

أرتقي إلى قاعة الحب الكبرى
وأسرح بنظري نحو الغيوم ووهج الغروب
أشجار موغلة في القدم تمتد إلى حدود السماء
ونسيم عليل يُحدِّث عن عشرة آلاف جيل من البشر
وفي الأسفل نبع التنين الملك
وهو من الصفاء بحيث يمكنك أن ترى أول منبعه
لذا فإنني أن صادفت أحد المارة أناديه:
تعال وشاهد نفسك في مرآة الماء

ليل لا ينتهي

في حلكة الليل وعمق الجبال
أجلس متربعا للتأمّل
شؤون الدنيا لا طريق لها إلى هذا المكان
كل شيء هنا هدوء تام وفراغ
كل البخور ابتلعه ليلٌ لا ينتهي
وقفطاني أصبح ثوب من ندى
لم أستطع النوم، لذلك خرجت أتمشى في الغابة
فجأة، من خلف أعلى قمة، ظهر البدر التمام

قصائد جبل الصقيع

في كوخي وجدت نسخة من كتاب “قصائد جبل الصقيع”
أجده خيراً من كتب الأصول الفلسفية
لذلك أقوم بنسخ أبياته الجميلة
وأعلقها حولي على الجدران
متذوقا كل منها مرارا وتكرارا

هرّة ..وفأر

في صومعتي يعيش معي هرة وفأر
كلاهما من الحيوانات ذات الفراء
الهِرّة سمينة وتغط في النوم في عز النهار
أما الفأر فنحيل ويتحرك في الظلمة
الهِرّة أنعمت عليها الطبيعية بمواهب ومهارات
مثل قدرتها على اصطياد الكائنات الغبية واتخاذها طعاما
أما الفأر فتلاحقه اللعنات
وهو يسرق الفتات من هنا أو هناك لسد رمقه
الفأر أحيانا يصيب بالتلف مؤونة البيت
لكن المؤونة يمكن أن نأتي ببديل لها
بينما الكائن الحي، إن مات، لا يمكن أن تجد له بديلا
لذلك فإنك إن سألتني أي الاثنين يحمل وزراً أكبر
فإنني سأقول: الهِرّة

تسليتي اليومية

تسليتي اليومية هي اللعب مع أولاد القرية
وأنا، من أجل ذلك، أخبئ في كم ثوبي دوما كرة من قماش
لا فائدة منها لغير اللعب
كذلك، فإنني أعرف كيف أتمتع بهدوء الربيع
كرة القماش التي في كم ثوبي بالنسبة لي
أثمن من ألف قطعة من الذهب
وأنا ماهر جداً في اللعب بكرة القماش
لذلك إن سألني أحدهم عن سرِّي فإنني سأجيبه:
هذا هو سرّي: “واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة…..”

لا أحد هنا لأحدّثه

أي حياة هذه التي أعيشها؟
سائحا في الأرض فإني أسلم نفسي للقدر
ضاحكا أحيانا، وأحيانا أمسح الدموع
لست برجل دنيا ولا أنا براهب
مطر ربيعي مبكر ينهمر وينهمر
لكن أزهار الخوخ لم تلق بعد بأنوارها على الأشياء
طيلة الصباح، أجالس المدفأة
لا أحد هنا لأحدثه
أبحث عن كراستي
ثم أخط بريشتي بعض الأشعار

عندما فارقت الأهل

وجود البشر على هذه الأرض
مثل زغب طير في تيار جارف
من أين إذن سيأتي الشعور بالأمان؟
لهذا السبب
أخذت عِدَّة النُسَّاك وفارقت أهلي
وودعت الأصدقاء
كل ما أملك الآن ثوب وحيد
وطاس قام بأودي كل تلك السنين

أنا وكوخي

أحب كثيرا هذا الكوخ الصغير
وغالبا ما أمضي وقتي في أحضانه
فنحن روحان متلازمان
لا يهم من منا هو الضيف ومن هو المضيف
ريح عاصفة تهب عبر أشجار الصنوبر
والصقيع يجمد ما تبقى من أزهار الأقحوان
يدا بيد –أنا وكوخي- نقف معا فوق الغيوم
متحدين كجسد واحد نجول في ما يتعدى الوجود

حُرّا .. ودون عمل

ريح شرقية جلبت معها غيثا يروي الأرض
في كوخي البسيط
مطر ينهمر فوق سقف من الأغصان والقش
بينما الناسك يغطُّ في نوم عميق
غير عابئ بما يجري خارج الجدران
الجبال الخضراء تستحم في ضوء الصباح
وطيور الربيع تُغرِّد فوق الأغصان
أمّا أنا فأخرج لأمشي ولا أعرف إلى أين!
جداول رقراقة تنساب نحو القرى البعيدة
وبساط من أزهار رائعة يكسو المنحدرات
فجأة تقع عيناي على فلاح يقود ثورا
وولد يافع يحمل معولا..
جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجر وحتى الغروب
وحدي أنا أجد نفسي حرّا ودون عمل
ملتصقا بقوة بالمصدر الذي جئت منه

بدر الخريف

يظهر القمر في جميع الفصول، هذا صحيح،
لكن أفضل بدر في السنة هو بدر الخريف
في الخريف تضاء الجبال بالألوان وتصفو الينابيع
ويسبح قرص من الضوء في السماء اللانهائية
تنمحي الفوارق بين الضوء والعتمة
وكل الأشياء تغدو مشبعة بحضوره
الفضاء اللامحدود فوقي وهواء بارد يلفح وجهي
آخذ متاعي العزيز وأنطلق هائما بين التلال
لا يوجد هنا أثر حتى لغبرة واحدة من غبار العالم
لا يوجد إلا الضوء المتوهج للقمر
أرجو أن يكون هناك آخرين كثر ينظرون هذا البدر الليلة
هذا البدر الذي يسطع نوره على جميع أصناف البشر
خريف بعد خريف يأتي القمر ثم يمضي
وسيبقى البشر يتأملونه في السماء إلى الأبد
تعليم البوذا أو مواعظ إينو
لابدَّ أنها أيضا حصلت تحت ضوء هذا القمر
لذلك أجلس متأملا القمر طوال الليل وأتساءل
أي مسافر سينظر هذه الليلة إلى القمر ؟
وأي بيت سينهل الليلة أكثر من ضيائه؟

هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار
هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار

شهر شباط

الثلج يتساقط
مختلطا بالريح
والريح تزأر
مختلطة بالثلج
وأنا، مستلقٍ جنب الموقد
أمد رِجليّ
مسترخيا غير عابئ بالوقت
منعزلاً في هذا الكوخ
أعدُّ الأيام
وإنني لأجد
أن شهر شباط أيضا
أتى ثم ذهب
مثل حلم

دعاء للطبيعة

أمطار الربيع
زخّات الصيف
والخريف الجاف
دعائي أن تبتسم الطبيعة لنا
وأن نأخذ جميعا من نعمها الوفيرة

ماذا فعلت؟

أرجوك لا تظنني عصفورا
إن رأيتني أدخل الحديقة
لآكل من ثمار التفاح
لقد جئت إلى هنا
طلبا لحفنة من الأرُزّ
لكن مروج النفل
المتفتحة بين الصخور
جعلتني أنسى السبب
الذي من أجله قدمت إلى المكان

يوم جوع

لا حظَّ لي اليوم
في تسوّل الطعام
من قرية إلى قر%

سعيد بك جنبلاط

سعيد جنبلاط
سعيد جنبلاط

هذا القول الشريف، والذي ينمّ عن أخلاق متعالية وهمم متفانية في نكران للذات، وفي أحلك الملمات وخصوصاً إذا كانت الشدائد تهدّد مصير الجماعة فلا ضير إذا دفع الفرد حياته ثمناً للعشيرة.
بعد انتهاء أحداث عام 1860 المؤلمة كان زعيم الدروز الأول سعيد بك جنبلاط منشغلاً في جمع محاصيل أملاكه وأثمانها من شركائه وكان السبب خشيته من نتائج الحرب الأهلية واحتمال اتهامه ببعض حوادثها، ولفت يومها أنه أرسل بكميات كبيرة من محاصيله وأمواله إلى بلدات له تقع عند أطراف جنوب جبل الشيخ مثل بلدات مجدل شمس وقراها في الجولان، وذلك كمقدمة لنقلها إلى جبل حوران إذ كان سائداً آنذاك أن الدروز سيتعرضون للإضطهاد من قبل الدول الأوروبية وقد استعد الكثيرون منهم للجوء إلى جبل حوران (جبل الدروز) في ما بعد والبقاء فيه إلى أن تهدأ العاصفة..
لم يكن سعيد بك جنبلاط مرتاحاً إلى الموقف العثماني، وهو الذي خبر حقيقته وما يكنّه العمّال الأتراك من نوايا مسبقة للشر والتفرقة ولتغطية ما ارتكبوه من جنايات قتلٍ وتشريد ومجازر كانوا يلصقونها بالدروز وأعيانهم، وحصلت تحديات واستفزازات كثيرة من عناصر متعصبة بتحريض من بعض الزعماء ورجال الأكليروس كالمطران طوبيا عون وسواه من النافخين في النار، وزدّ على ذلك الدسائس والتحريض من قبل الجواسيس بأثواب مختلفة آتين من الغرب بناء على رغبات دولهم في اقتسام الإمبراطورية التركية المريضة، وتقاسم ممتلكاتها واستعمارها. وليس أسهل من إشعال النار في الهشيم الطائفي، بالإضافة الى ذلك ما قام به الولاة والعمال الأتراك في محاولة التصدي للمؤامرة الغربية بأن زادوا الطين بلّة في إضرام النار والأوار بين الطائفتين المذكورتين في الحوادث الأهلية المشؤومة وما نتج عنها من خراب ودمار وقتل وتشريد ونزوح جماعي للناس عن بعض قراها كما حصل لدروز دير القمر من النكدية وأنصارهم وما حصل في المقابل في حاصبيا التي هجرها قسم كبير من المسيحيين، والعديد العديد من هذه الأمثلة ينطبق على باقي القرى والبلدات.
لهذا، أسرع العمال الأتراك لقطع الطريق على النفوذ الغربي فأتى وزير خارجيتها فؤاد باشا إلى سوريا ولبنان لإصلاح ذات البين بين الفريقين وإعادة المياه إلى مجاريها متعمداً رفع الغبن عن كل مظلوم ومقهور فعمد إلى استدعاء زعماء الدروز أولاً كونهم في نظره المنتصرين والمعتدين وفي طليعة من استدعاهم الزعيم الجنبلاطي سعيد بك جنبلاط. من هنا كان توقع سعيد جنيلاط في محله إذ فور وصول الوزير التركي إلى بيروت عمد إلى استدعاء الزعماء الدروز، والبعض القليل من الزعماء المسيحيين، إكراماً لعيون الغرب.
حاول الشيخ سعيد جنبلاط، عدم الإستجابة الى طلب فؤاد باشا بالذهاب إلى بيروت وقرّر الذهاب إلى جبل الدروز فرافقه نحو ثمانين فارساً من الأقارب والوجهاء والأعيان، وبوصولهم إلى محلة عين ياقوب قرب قرية مرستي استوقف الركب عدد من المشايخ والأعيان وناشدوهم عدم ترك البلاد وقد خاطبوا سعيد بك جنبلاط قائلين “سعيد بك إذا سلّمت نفسك إلى فؤاد باشا ربما هو خطر عليك، لكن إذا تركتنا وغادرت إلى حوران فمن يفاوض اللجنة الدولية للمحاكمة بإسم الطائفة الدرزية، ومن يظهر مركزها ويحافظ على حقوقها، وهل يوجد من هو أجدر منكم لهذه المهام؟”
أثارت مناشدة الناس مشاعر الزعيم الجنبلاطي فراجع أفكاره وأجاب بعد طول آناة :“فيّي ولا في الدروز”، وهكذا وكما توقع سابقاً فقد تمّ استخدامه “كبش محرقة” من قبل العثمانيين لأغراض إرضاء الدول الغربية وامتصاص الحملة التي كانت قائمة ضدها تحملها مسؤولية ما حصل، فبمجرد أن عرض سعيد بك نفسه على الوزير التركي حتى أمر هذا بحجزه في قشلة بيروت والتي تعرف حالياً بالسرايا الكبير ليدفع الثمن غالياً ويموت شهيداً أو مريضاً ويدفن في محلة الأوزاعي في بيروت.

صراع اليوسفين
“المزروك يزحط”

هذه العبارة تردّدها العامة من قبيل الإعتداد بالنفس والإعتزاز بالعشيرة، أما مصدرها فهو الخلاف الذي حدث بين الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان وشيخ العقل في حينه الشيخ يوسف أبوشقرا في حدود عام 1778 تقريباً وإن يكن البعض يلطّفها فيقول
“ المتضايق يرحل” غير أن العديد من الكتّاب تداولوا العبارة السابقة وقد اعتمدناها لاعتقادنا بدقتها وقد أوردها المؤرخ يوسف خطار أبوشقرا في كتاب “الحركات في لبنان”.
قصة تلك الحادثة أنه لما آل عهد الولاية الشهابية إلى الأمير يوسف الشهابي طغى هذا الأخير وبغى وأكثر من الضرائب غير المحقة فعمّت النوائب والمصائب، ومن جملة ما شرّع وسنّ وضع رسمٍ على الشاشية التي كانت عميلا ضرئيبة على اعتمار “العمامة” وذلك انتقاماً من الدروز أولاً لشدة كرهه لهم وقصده أن هذه الضريبة تصيب معظمهم إذ كان على جميع الموحدين لبس العمامة اعتباراً من سن الخامس عشرة وما فوق. وهذا الكره عند الأمير المذكور عائد للدسائس والتآليب التي كان يبثها من يحيط به ومن انتسب إليهم في ما بعد.
إمتعض الدروز وكذلك شيخ عقّالهم الشيخ يوسف أبو شقرا الذي أغاظه هذا الأمر جداً فحضر من بلدته عماطور إلى سرايا دير القمر، مركز الإمارة، لمقابلة الأمير يوسف وثنيه عن تصرفه الشائن هذا، فكان الجدال وكان النقاش ومما قاله الشيخ يوسف: “وليكن بعلمكم يا سعادة الأمير أن هذه العادات من صلب الدين، فلماذا هذا التدخل بشيء لا يعنيكم إلا إذا كان مقصدكم التحدي للمذهب التوحيدي وتقاليده المتبعة”؟؟
الأمير لم يكترث لحديث الشيخ ولم يعر الأمر اهتماماً بل بقي على عناده وإصراره حتى أنه تواقح مهدداً وقائلاً: “إذا لم تعجبكم هذه الضريبة فلربما نفرض سواها، فالواقع يا شيخ يوسف أن البلاد لا تتسع ليوسفين”. الشيخ بعد سماعه هذه العبارة وما تضمنته من تهديد وقف مغتاظاً ومردداً بأعلى صوته “المزروك يزحط”.
الجمهور المجتمع عند الأمير يوسف فاجأته جرأة الشيخ يوسف أبو شقرا واعتبرها البعض صفعة وتهديداً أقوى في مقابل تهديد الأمير، لذلك وعند خروجه مع مرافقيه إلى ساحة الدير أمام السرايا لحق به الكتخدار غندور الخوري (وهو الجد الأول للشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية في ما بعد)، وقال: يا شيخ يوسف أبلغت بكم الجسارة هكذا لتخاطب سيدنا الأمير بالمزروك يزحط، والله والله إذا لم يعمل الأمير على ردعكم فإنني لأحمّي فرن دير القمر من شاشاتكم”..ردّ الشيخ يوسف بصوت جهوري “والله والله لكسر رأسك ورأس سيدك الأمير بهذه العصا أسهل بكثير من تحمية فرن دير القمر بشاشات العمائم..” ثم مضى وبات ليلته في بلدة بعقلين، وقبل أن يأوي إلى فراشه كان قد كتب إلى جميع الإنحاء وصرف الرسل كل إلى ناحيته وفحوى كتابه:” أخواننا أبناء الطاعة، يقتضي حضوركم في النهار الفلاني إلى مرج بعقلين بالأسلحة الكاملة والمؤونة والذخائر الوافرة لأمر يحبه الله تعالى”.
وفي اليوم المضروب طفقت الجماهير تفد من كل حدب وصوب حتى تآلب في المرج نحو سبعة آلاف مقاتل من رجال الدين بأسلحتهم ومؤنهم وأكثرهم لا يدري لما كانت دعوتهم سوى أنه “أمر يحبه الله”. وبعد التداول بالقضية وما حدث بين الأمير والشيخ من تهديد ووعيد رفعت البيارق واستلّت السيوف والخناجر وغدا الجميع مصممين على إشعال الحرب على الأمير وأعوانه حتى خلعه من منصبه واستبداله بمن يناسب.
قرر الشيخ يوسف، حقناً للدماء، إعطاء الأمير فرصة أخيرة للتراجع فأرسل إليه مبعوثاً ينذره بأن الأمور تسير باتجاه المواجهة وأن الدروز اجتمعوا للحرب. توجّس الأمير يوسف من تلك الأنباء فأمر على الفور إرسال إثنين من رجاله ليذهبا إلى مكان تواجد الشيخ والمقاتلين الدروز ويقفا على حقيقة الأمر وما يطلبه الشيخ، غير أن رسول الشيخ وصل قبل وصول رسل الأمير، ثم أخبره بأن الأمير لم يزل على عناده وغطرسته. آنذاك امتطى الشيخ بغلته وسار نحو دير القمر والرجال سارت في إثره وهم يرفعون عقيرتهم بالحداء “ صلوا على المصطفى على المصطفى زيد الصلاة”.
عند سماع الحداء والأهازيج والنخوات ارتعدت فرائص أتباع الأمير وأعوانه فهبوا إليه قائلين: أنظر يا سعادة الأمير ها قد أتى الدروز فماذا تريدنا أن نفعل فنحن لا قبل لنا بمواجهتهم وعليك لذلك أن تحسم أمرك قبل فوات الأوان.

قصة عن بناء مدينة القاهرة

المعروف أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي هو باني مدينة القاهرة لكن قليلين يعرفون الأسلوب الذي اتبع في بنائها وكيف ساهمت صدفة غير محسوبة في إطلاق إشارة البدء بأعمال البناء؟
فقد كان المعز لدين الله الفاطمي يعلم عن تردي الحكم الإخشيدي في ظل كافور وتدهور مقومات الدولة بسبب حماقته وجهله فاعتبرها فرصة سانحة لفتح مصر، فأرسل قائده العسكري جوهر الصقلي مع جيش مؤلف من مائة ألف جندي وتمّ لجوهر الفتح المنشود من دون قتال يذكر وذلك يوم 6 تموز عام 969م. وفي مساء ذلك اليوم، عسكرت الجيوش في الأرض الواسعة والتي يُشرف عليها جبل المقطم من الشرق ويحدها من الغرب مجرى ماء متفرع من نهر النيل، ثم أمر القائد جوهر بأن تُقام لمصر عاصمة جديدة تليق بخلفاء الدولة الفاطمية الذين خططوا ليحكموا العالم الإسلامي بأسره باعتبارهم خلفاء الرسول نسباً وحسباً، وأولى الناس بحكم المسلمين.
جمع القائد جوهر الحشود من الجنود والعمال وأمرهم بحفر مخطط المدينة بشكل مربع ثم وضع على كل زاوية قائماً كبيراً من الخشب وأوصل على هذه القوائم بحبالٍ تتدلى منها أجراس، بعدها طلب إلى المنجمين الذين يرافقونه أنهم في حال تم الوقت المبشّر بالخير أن يحركوا الحبال المعلقة بها الأجراس فتقرع ويبدأ عندها العمل من قبل الجميع في حفر الأساسات وبناء المنازل والقصور وكذلك الأسوار.
وبينما الجميع في انتظار إشارة المنجمين إذا بغراب ينفر من وكره ويطير ليحطّ عشوائياً على أحد الحبال الممتدة بين الأعمدة فدقت على الفور نواقيس تلك الأجراس وفي لمح البصر بدأ الجميع الحفر والبناء. المنجمون أخذتهم المفاجأة فهرعوا فوراً قائلين إنّ القاهر قد ظهر ومقصدهم كوكب المريخ الذي يُسميه العرب “ قاهر الفلك”، ومن هنا جاء إسم القاهرة في ما بعد.

قصة أدم خنجر
في زيارة للرئيس برّي

المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور
المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور

هكذا بادرنا القول دولة الرئيس نبيه بري عند استقباله لنا في قاعة أدهم خنجر بدارته في المصيلح، وقد كنّا برفقة وفدٍ كبير من مشايخ ثقات مجلّلي الرؤوس بعمائمهم البيضاء.
بعد الترحيب والتأهيل قال: “ هل قرأتم حضرات المشايخ ما كُتب على مدخل هذه القاعة؟“ ثم أجاب قبل أن نجيب“ إنها قاعة أدهم خنجر، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فنحن مدينون لسلطان باشا الأطرش، صلاح الدين الثاني في تاريخنا المعاصر، كونه فجّر الثورة السورية الكبرى، وكان لنا من تلك الثورة استقلال بلدينا سوريا ولبنان من نير المستعمر الفرنسي.. لكن قبل كل شيء تجلّ به أصالته العربية الفذّة وشهامته العائلية السمحة حيث إن الشرارة الأولى لتلك الثورة المباركة، وذاك القسم العظيم الذي أطلقته والدته على نفسها عند عودته إلى منزله قائلة: “سأقطع الثدي الذي أرضعتك منه إذا لم تُعد نزيلك أدهم خنجر وتخلصه من براثن المستعمر الفرنسي الذي اختطفه من حماك“. ثم إجابته الشهيرة لوالدته بعد أن زغردت بارودته قائلاً: “ لعيونك يا أم سلطان فإما حياة ملؤها الكرامة والعز وإما ممات أشرف وأجلّ من الإهانة والذل“.
هذا ما رواه أمامنا دولة الرئيس بري صيف عام 2002، أمّا ما يرويه سلطان باشا في مذكراته التي نشرتها جريدة “بيروت المساء“ بقلم الصحافي يوسف دبيسي أوائل السبعينات من القرن الماضي فيقول: “بينما كنت أقوم ببعض الإتصالات في قرى الجنوب من جبل الدروز حضر شكيب وهّاب ليلاً بأمرٍ من والدتي إلى بيت صديقي حمد البربور في بلدة أم الرمان ليخبرني أن أدهم خنجر، ذاك البطل العاملي النبيل، قد وصل إلى بلدتنا لاجئاً إلى حِمانا غير أن مخفر الدرك المتواجد عند مدخل البلدة اعتقله.“ ثم يكمل سلطان باشا فيقول: “بعد أن وصلت إلى البيت وما سمعته من والدتي وما يلحقنا من إهانة بعدم تخليص نزيلنا، لهذا انتقلت فوراً إلى مخفر الدرك في البلدة فوجدته خالياً وقد تركه حراسه رهبة وخوفاً، عندها أرسلت شقيقي إلى السويداء ليطلب من الفرنسيين إخلاء سبيل نزيلنا وكان هناك المستشار (ترنكا)، فرفض وأجاب مستهزءاً :“إن أدهم خنجر في القلعة وليأت آخوك بنفسه ويأخذه، وإذا كانت عندكم المحافظة على النزيل واجباً مقدساً فيلفعل سلطان ما باستطاعته، ونحن بدورنا نعتبر أدهم خنجر مخرباً وعابثاً بالأمن“. ومع هذا التسلط والتحدي من قبل المستشار الفرنسي إستلم سلطان كتاباً من أدهم خنجر يستجير به، وقد نقله النائب حمد البعيني يقول فيه: “ دخلت لدياركم العامرة مستجيراً وأنا آمن على نفسي لأني أعرف شهامتكم ونخوتكم ولا أزال دخيل حريمكم وأولادكم وحتى الطرشان بأكملهم لأن حياتي صارت بقبضة العدو الفرنسي وفهمكم كفاية. وأختم رسالتي بتقبيل يدكم وأنني مشهّد على ضيافتكم“.
ومع هذا فضّل سلطان باشا التريث أولاً على التهور وإشعال الحرب، لذا أبرق إلى المسؤولين في بيروت ودمشق وفي مقدمهم الجنرال غورو راجياً ترك نزيله .. ولما لم يوفق بذلك جمع أشقاءه وأقاربه وأنصاره في المقرن القبلي ثم اتخذ من منزل نجم عزالدين في بلدة الثعلة مقراً لمراقبة طريق دمشق – السويداء ليقينه أنّ نزيله سينقل عبر هذه الطريق.
وفي صباح يوم 21 تموز 1922 شاهد سلطان باشا ورفاقه القافلة التي تنقل نزيلهم وهي مؤلفة من ثلاث مصفحات، فهبّوا لمهاجمتها عند تل الحديد حيث إن سلطان بنفسه قفز عن ظهر جواده إلى سطح المصفحة الوسطى ظناً منه أن أدهم خنجر في داخلها، فقتل قائدها ومعاونه قبل أن يتمكنا من الحراك إلا أن الجندي الثالث أمسك بخناق سلطان لكنه انقض عليه بالسيف الذي لم يزل مغمساً بدماء رفاقه فتلاشى وسقط فوق رفيقيه، ثم تركهم لينتقل إلى المصفحة الثالثة وإذا بشقيقيه ورفاقهما قد قضوا أيضاً على كل من في داخلها وأسروا الباقين، وكانت الحصيلة أربعة قتلى بينهم ضابط واربعة أسرى أحياء وجرح بليغ أصاب شقيقه مصطفى دفع حياته ثمناً له في ما بعد. أمّا المصفحة التي كان بداخلها الأسير فقد فرّت عائدة نحو السويداء.
هذا أيضاً ما رواه عن تلك الواقعة أحد أبطالها ورفيق سلطان حمد البربور شهيد موقعة المسيفرة في ما بعد.
لكن الأقدار ستتم والشهادة سينعم بها أدهم خنجر ليدخل التاريخ اللبناني من بابه الواسع. ومهما تكن الرجولة والشجاعة، حتى اعتبر العديد من المؤرخين أن إقدام سلطان بنفسه على اقتحام المصفحة في تلك المعركة تهوّر ما بعده تهور ولربما هذه الرجولة نادرة في تاريخ قادة الحروب والثورات.
غير إنه بعد أن أصبحت الطرق غير آمنة اضطر العدو الفرنسي إلى نقل سجينهم بالطائرة إلى بيروت ليُعدم في عاصمة بلده من دون أن يحرك أحد ساكناً.
لكن سلطان لم يكتفِ بذلك بل هاجم مع جماعته جميع المخافر والمراكز العسكرية التي تحيط بمنطقته وكانت بذلك بداية الشرارة الأولى لأجلّ وأشرف ثورة عربية في مطلع القرن العشرين، وبعد أن تيقّن له أنه قد تمّ نقل ضيفه المغدور بالطائرة إلى بيروت وقف وقال:“لا حيلة لنا في السماء وأمّا على الأرض فنحن مستعدون لبذل أرواحنا في سبيل كرامتنا وعزتنا“. وليس بالكثير الكثير إذا تفضل دولة الرئيس بري وقال إن استقلال بلدينا سوريا ولبنان والتنعم بهذا الإستقلال كان الفضل الأول فيه لسلطان باشا الأطرش وثورته المجيدة، وهذا ما ألهم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري بقصيدته العصماء هذه:
ولما صـــــــــــــــرت مــــــن مُهـــــج الأعــــــادي بحــيث تذيقها السّـم النقيــــعــــــــــا
وَثبْــــــتَ عــــلى ســــنام التنــــــك وثبـــــــــــــــــــاً عجيبــاً علّم النسـر الوقوعـــــــــــــا
أغـــــــــــــــرت عليــــــــــه تلقـــــــــــــــي النـــــار بــرداً ويرميـهــــا الذي يرمي هلوعـــــــــــــــــاً
فطاشـت عنـــك جازعــــة ولــو لــــــــم تهمهـــم لهـــا لحـاولـت الرجوعـــــا
فخرّ الجنـــد فـــوق التنـــــــك صرعى وخــــرّ التنـــك تحتـــهــــــم صريعـــــــــــــــاً
فيـــــــــــــــا لك غـــــــــــــــــــارة لو لـــــــــــــــــم تذعــــــــهـــــــــــــــا أعـــادينـــــــــــــــا لكـــــــــــذّبنــــــــــــــــــا المذيعـــــــــــــــــــا
ويـــــــــــــــــالــــــــــــــك أطرشـــــــــــــــــاً لمــــــــــــــــّـا دُعينـــــــــــــــــــــــــا لثـــأر كــنت أســـمعنا جميعـــــــــــــــاً

غزوة الخندق

غزوة الخندق

يوم بلغت القلوب الحناجر

آخر محاولة من قريش لوأد الدولة الإسلامية
أفشلها سلمان وخدعة نُعَيم والعاصفة العاتية

فوجئ المسلمون بضخامة جيش الأحزاب المهاجمة
فاقترح سلمان على الرسول حفر خندق حول المدينة

القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد
القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد

خسائر المسلمين في غزوة «أحد» أضعفت المعنويات
فحرّض اليهود قريش على تسديد الضربة القاضية

في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة الموافق 627 للميلاد تعرّضت الدولة الإسلامية في المدينة لخطر وجودي بكل معنى الكلمة كاد لولا تأييد الله أن يتحول إلى كارثة على المسلمين، ففي تلك الموقعة حشد ما سمي تحالف الأحزاب بقيادة قريش أكثر من 10،000 مقاتل كاملي التجهيز والعتاد لهدف واحد هو شنّ هجوم كاسح على الدولة الناشئة في المدينة والقضاء عليها قضاء تاماً والتخلص بالتالي من التهديد الذي باتت تمثله لسلطان قريش وإمتيازاتها ونظام الجاهلية وقيمه وشرائعه وعلى رأسها عبادة الأصنام. في مقابل هذا الجيش اللجب المتحمس للقضاء على المسلمين تجمع داخل المدينة 3،000 مقاتل من المسلمين كانوا ينظرون بمزيج من الخوف والرجاء إلى جيش الكفار وهم يتساءلون كيف يا ترى سيمكنهم ردّ الهجوم وإنقاذ الدين وأهله من ذلك الخطر العظيم؟ لكن }كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ { (البقرة: 249). وبالفعل فقد قيض الله أن تتحول غزوة باغية هدفها القضاء على المسلمين إلى نصر غير متوقع لأن المشركين الذين خسروا الرهان على تلك الغزوة لم يتمكنوا بعدها من شن أي غزوة على المسلمين بل المسلمون هم الذين سيأخذون المبادرة بعدها وسيزدادون قوة على قوة إلى أن ييسّر الله تعالى لهم القضاء على الشرك وفتح مكة ورفع لواء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية.
بهذا المعنى فإن معركة الخندق التي صمد فيها المسلمون أمام جحافل المشركين والقبائل التي تحالفت معهم يمكن اعتبارها معركة فاصلة بين مرحلتين : مرحلة ضعف المسلمين وتشريدهم من مكة ولجوئهم إلى المدينة والتزامهم سياسة الدفاع والمهادنة وبين مرحلة ضعف المشركين وإدراك الرسول (ص) مع الوقت أن الموازين قد انقلبت ضد قريش وحلفائها الأمر الذي سيزيد المسلمين تصميماً وإقداماً في التعامل مع المشركين وسيدفع بهم في الوقت المناسب من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم وحسم الموقف مع أهل الكفر.
فما هي خلفيات معركة الخندق ما الأسباب التي قادت إليها؟ وكيف مكّن الله تعالى للمسلمين المستضعفين يومها الصمود ثم النصر في وجه عدو يفوقهم بأكثر من ثلاثة أضعاف؟

أسباب معركة الخندق
في السنة الخامسة للهجرة، وهي السنة التي حصلت فيها غزوة الخندق كان المسلمون قد تمكنوا منذ خروجهم من مكة من بناء دولة صغيرة في المدينة بالاستناد إلى حلف المهاجرين الذين قدموا من مكة هرباً من اضطهاد قريش والأنصار الذين كانوا من سكان المدينة والذين استقبلوا الرسول ومهاجري المسلمين بالتأييد والنصرة وكانوا يتألفون بصورة أساسية من قبيلتي الأوس والخزرج. ورغم انحصار الوجود السياسي للمسلمين في المدينة دون امتداده إلى نواح أوسع من الجزيرة، فإن المسلمين استخدموا المدينة كقاعدة لشن هجمات على المشركين ومناوشتهم باستمرار، وكانت أول موقعة مهمة لهم مع قريش وحلفائها هي غزوة بدر التي انتصر فيها نفر قليل من المسلمين على جيش كبير من المشركين وقتلوا خلالها أكثر من 70 من كبرائهم وصناديدهم.
بعد غزوة “بدر” وهزيمة قريش بات المسلمون يشكلون خطراً حقيقياً على اقتصاد مكة عن طريق السرايا التي كانت تقطع طريق قوافل قريش التجارية وعن طريق الإغارة على القبائل لإجبارها على قطع موالاتها لمكة. وقد شن الرسول (ص) بعد “بدر” غزوتين مهمتين الأولى استهدفت بني سليم والثانية غطفان وهي من القبائل القوية المتحالفة مع قريش. في هذه الأثناء خشي اليهود وكانوا قوة يحسب حسابها في المدينة ونواحيها أن تقوى شوكة الإسلام فأخذوا بتحريض قريش على الثأر لهزيمة “بدر” كما إن أعيان قريش كانوا يصرون على أبي سفيان أن يجهز حملة كبيرة على المسلمين من أجل الثأر لقتلى القبيلة العزيزة واستعادة هيبتها. وبالفعل قررت قريش شنّ حملة كبيرة أسفرت عما سمي بغزوة “أحُد” (و”أحُد” هو جبل يقع على مقربة من المدينة) وقد مني خلالها المسلمون بخسائر كبيرة وتعرض فيها الرسول نفسه إلى هجمات مباشرة من المشركين الذين أحاطوا به وحاولوا قتله وأصابوا منه جروحاً أسالت دمه وكادوا أن ينالوا منه لولا استماتة بعض الصحابة في الدفاع عنه وصدّ السهام التي كانت تطلق عليه بصدورهم وظهورهم.
ورغم أن غزوة “أحُد” انتهت دون نصر حاسم لقريش إلا أنها أصابت المسلمين بخسائر كبيرة اعتبرتها قريشا ثأراً لقتلاها في “بدر”. ومن هنا فإن معركة “أحُد” لعبت دوراً كبيراً في وقوع غزوة “الخندق” لأنها أثرت على هيبة المسلمين، كما إنها جعلت اليهود الذين كان الرسول (ص) قد عقد معهم مواثيق شرف بعدم الاعتداء والتضامن في وجه أي عدوان خارجي يكشفون أوراقهم ويبدأون بالتطاول على المسلمين واستفزازهم. كما إنهم في الوقت نفسه بدأوا مع منافقي المدينة وزعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول بتحريض قريش على استكمال غزوة “أحُد” بغزوة حاسمة يجمعون لها قبائل العرب ويوجهون خلالها ضربة تقضي على المسلمين وعلى الرسول (ص) وتخلص قريش وحلفاءها من هذا الخطر المتعاظم.
قبل غزوة “الخندق” حصلت أحداث مهمة تمثلت في اصطدام المسلمين بقبيلة بني النضير اليهودية بسبب ما بدأ يظهر من أفرادها من مظاهر تحدٍ للمسلمين بعد الخسائر التي منيوا بها في «أحُد». وظهرت نوايا القبيلة جلية عندما جاءها الرسول (ص) طالباً المساعدة في دية قتيلين فرفضوا المساعدة بل وحاولوا خلال زيارة الرسول لحيِّهم أن يستدرجوه إلى مكان يمكنهم فيه أن يرموه بحجر كبير من السطح بهدف اغتياله. وبالفعل حاول يهودي من بني النضير تنفيذ الجريمة فصعد إلى سطج يعلو المكان الذي جلس فيه النبي وأصحابه مسنداً ظهره إلى جدار تمهيداً لإلقاء الحجر لكن الملاك جبريل أنبأ الرسول فنهض مع أصحابه فجأة وغادروا المكان.
بعدها أنذر الرسول قبيلة بني النضير بالخروج من المدينة ولما رفضوا حاصر قواتهم التي كانت تضمّ 1500 مقاتل ست ليال أذعنوا بعدها عندما لم يأتهم التأييد الموعود من المنافقين وقبلوا الخروج دون أي سلاح وأن يأخذوا من متاعهم فقط ما يمكن لإبلهم أن تحمله.
بعد خروجهم من المدينة نزل أشراف بني النضير أولاً في خيبر التي كان يسكنها اليهود أيضاً وبدأوا يفكرون في الثأر من المسلمين وفي الوسائل التي توصلهم إلى تحقيق غرضهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب، وأجمع قرار زعماء اليهود على أن السبيل الأفضل للثأر هو بذل جهود منسقة بهدف تحريض قريش والقبائل العربية الكبيرة على شن حرب كاسحة على الدولة الإسلامية في المدينة والقضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها. ومن أجل ذلك سار جمع من كبرائهم ومنهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق إلى مكة بهدف دعوة قريش لمحاربة رسول الله (ص). وكانت خطتهم أن يلفتوا قريش إلى أن المسلمين أصبحوا الآن ضعفاء بعد غزوة «أحد» وأن الفرصة متاحة للتخلص من الدولة الإسلامية في ما لو نشأ حلف كبير من القبائل لتولي تلك المهمة.
كان لقريش بالطبع أسبابه الخاصة للتفكير بشنّ حملة كبرى على المسلمين، فقد كانت دولة المدينة قد تحوّلت إلى خطر محدق بقوافل قريش التجارية وكان المسلمون يزدادون ثقة وجرأة في مضايقة المشركين وشنّ الغزوات على قوافلهم وعلى قوافل القبائل الحليفة لقريش. لكن رغم ذلك تعجب زعماء قريش لعداء اليهود الشديد للمسلمين وارتابوا في نواياهم، لذلك خاطبهم زعماء قريش بالقول: “يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأنتم تعلمون بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ وكان قصد قريش فهم الغاية من قدوم ممثلي اليهود وطلبهم التحالف لأن المنطق هو أن المسلمين واليهود أهل كتاب ووحي.
هنا لم يتردد زعماء اليهود في القول: “بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه” وهو ما سر المشركين وأقنعهم بإعداد العدة للغزوة الكبرى التي سميت في ما بعد بـ “غزوة الأحزاب” وقد تابع زعماء اليهود سيرهم إلى قبيلة غطفان القوية ودعوها إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لزعمائها استعداد قريش فأجابوهم إلى ما رغبوا فيه.
سلمان يقترح حفر الخندق
وصلت إلى الرسول (ص) من عيونه في مكة أخبار الحشد العسكري الذي كانت قُريش تحضر له لمهاجمة المسلمين. عندها جمع النبي (ص) أصحابه للتشاور في استراتيجية مناسبة لصد العدوان المحتمل على المدينة. صدر عن هذا الاجتماع قرار بالبقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل على عكس ما حصل في معركة “أُحُد”. أثناء عملية التشاور اقترح الصحابي سلمان الفارسي (ر) على الرسول (ص) حفر خندق عميق حول المدينة لتعزيز دفاعاتها والتعويض عن أي تفوق عددي محتمل في صفوف حلف الأحزاب. وقال سلمان: يا رسول الله كنا في فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. ثم شرح سلمان للرسول (ص) وللصحابة تقنية الخندق وطريقة حفره، وكان المسلمون يملكون وقتاً محدوداً قبل وصول طلائع الجيوش المهاجمة فقرروا العمل بسرعة وكسب الوقت. الجدير بالذكر هنا أن كلمة “خندق” هي كلمة فارسية في الأصل.
أذن الرسول بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم، واشتغل بنفسه على حفر الخندق ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون من دون إذن رسول الله (ص) ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجالهم في العمل وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

” أرادت قريش القضاء على الدولة الإسلامية لأن الدعوة كانت تنتشر بسرعة ولأن دولة المدينة تحولت إلى تهديد خطير لقوافل المشـركين التجارية “

غزوة الخندق
غزوة الخندق

سلمان منا أهل البيت
خط رسول الله (ص) الخندق ثم قسمه إلى قطع الواحدة منها تعادل أربعين ذراعاً وأوكل لكل عشرة من المسلمين أمر حفر تلك القطعة، وعندما همّ بـتخصيص سلمان الفارسي ومجموعة بقطعة من الخندق بهدف إنجاز حفرها مع بقية الصحابة، اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً ومهاباً فقالت الأنصار: سلمان منا (يريدون أن يكون في فرقتهم) وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (ص) “سلمان منا أهل البيت” فأخرج سلمان بذلك من شبكة الانتماءات والولاءات القبلية ليضمه معنوياً إلى أهل بيته الشريف، وقد كان وبقي بعد ذلك من أقرب المقربين إليه ومن أهل شورته.

الصخرة ومعجزة الرسول
بينما كان فريق من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي، إذ ظهرت صخرة بيضاء شديدة الصلابة فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فطلبوا من سلمان أن “أبلغ رسول الله بأمر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها وإما أن يأمر فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه”، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله فأخبره برأي الجماعة، فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول من سلمان (ر) فقال: “بسم الله” ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين جانبي المدينة، فقال: “الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني”، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت كالأولى فقال: “الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر”، فسُرَّ المسلمون، ثم ضرب الثالثة وقال: “بسم الله” فقطع بقية الحجر وخرج نور من صوب اليَمَن فأضاء جانبي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة”.

” أراد بنو النضير اليهود من تحريض بني قريظة على القتال الإستفادة من موقعهم المتميّز في جنوب المدينـة وإحداث تحول يؤدي إلى هزيمة المســلمين “

تنظيم الدفاع
استمر بعد ذلك العمل في حفر الخندق كما تقرر إقامة أبراج لمراقبة الخندق منها. ثم جعل النبي (ص) النساء والصبيان في أحد حصون بني حارثة لحمايتهم، ثم أمر بتنظيم دوريّاتٍ لحراسة المدينة من جميع الجهات ، وعيّن سلمة بن أسلم الدوسي (ر) لتولّي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة (ر) مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية وبذلك يصعب على الأعداء مفاجأة المدافعين أو استغلال نقطة ضعف معينة لاختراق الخندق ودخول المدينة. وبذلك تمكن المسلمون من إنهاء الخندق قبل وصول العدو بستة أيام!
وعند وصول حلف الأحزاب ونيتهم القضاء على دعوة الإسلام وعلى النبي (ص) قدر عدد مقاتليهم بنحو 10،000 مقاتل كانت بينهم فرقة من الفرسان وقد زحفوا جميعاً بقيادة أبي سفيان إلى المدينة، لكن الجيوش التي قدمت وفي ظنها أن حسم المعركة لصالحها لن يأخذ وقتاً طويلاً فوجئت عند وصولها بالخندق الذي يلف الحدود المفتوحة للمدينة فوقفت عاجزة عن عبوره لمهاجمة المسلمين بعد أن حاولت موجات مقاتليها اختراقه أكثر من مرة، وكانت إحدى محاولات الاختراق بقيادة خالد بن الوليد كما شارك عمر بن العاص في الهجوم وكان هذان البطلان الإسلاميان لا يزالان في صفوف المشركين. وبعد أن فشل حلف الأحزاب بقيادة أبي سفيان في اقتحام المدينة بفضل حفر الخندق قرر الجيش المهاجم نصب الخيام وفرض حصار على المدينة إلى أن تستسلم، لكن خطة الدفاع كانت محكمة والمدينة تختزن مؤونة تكفي سكانها أشهراً طويلة بينما الجيش المهاجم لم يكن مستعداً لحصار طويل ولم يكن قد جلب معه مؤونات تكفيه أكثر من شهر. وقد طال الحصار فعلاً نحو شهر وكانت الحرب عبارة عن كرّ وفرّ. المدافعون المسلمون يرمون المهاجمين بالنبال لمنع خيولهم من اجتياز الخندق، وقد قتل للمشركين خيل كثيرة في محاولاتهم اجتياز تلك العقبة وبدأ التعب يحل في صفوفهم رغم كثرة عددهم. أحد العوامل التي أضعفت معنويات المهاجمين كان البرد القارس خصوصاً في الليل وكان الوقت شتاء إذ بدأت الحملة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة١ وكان ذلك يوافق شهر كانون الثاني/يناير البارد جداً من سنة 627 ميلادية.

خيانة بني قريظة
مع صمود المسلمين داخل حصون المدينة وخلف الخندق الذي أصبح عنصر حماية أساسياً بدأ يهود بني النضير الذين شاركوا في التحضير لهذا الهجوم بالتفكير في خطة جديدة أملوا أن تقلب الموازين وتعيد المبادرة إلى حلف المهاجمين، وقرروا تحريض بني قومهم يهود بني قريظة الذين مازالوا يعيشون في المدينة ويربطهم عهد مع المسلمين على نقض العهد مع رسول الله (ص) .
كان المسلمون يعتبرون حي بني قريظة في المدينة منطقة محايدة تحمي ظهرهم، لذلك فإن انحياز تلك القبيلة اليهودية إلى المهاجمين وتحولها إلى قتالهم من داخل المدينة ومن خلفهم كان سيضعضع صفوف المدافعين، إذ يجعلهم بين نارين، ويسهل بالتالي على المهاجمين تحقيق الاختراق المنشود وكسب المعركة. فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب إلى سيد بني قريظة وكان كعب بن أسد القرظي، فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب يطرق الباب أغلق دونه باب حصنه ولم يرد أن يستقبله لأنه علم أنه جاء يطلب منه نقض عهده مع المسلمين. لكن حيي ألحّ عليه حتى فتح له وما زال يستميله ويغريه بكثرة الأحزاب وقوّتها، ووعدهم بالحماية بعد انتهاء الحرب ورحيل الجيوش وكان هدف حيي بن أخطب من بني النضير أن يستفيد المهاجمون من الموقع المتميّز لبني قريظة في جنوب المدينة وهو ما أمل أن يحدث تحولاً كبيراً في مجرى القتال.
ولما وصلت الأخبار إلى النبي (ص) بنقض بني قريظة للعهد حزن كثيراً وأرسل سعد بن معاذ و سعد بن عبادة وآخرين للوقوف على حقيقة الأمر والتأكّد من صحّة الخبر، ولما دنا الرجال منهم محاولين تذكيرهم بالعهد وجدوا أنّ اليهود قد نقضوا العهد فعلاً ومزّقوا الوثيقة وكانوا يجاهرونهم بالسوء، وبلغوا حد سب الرسول قائلين: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

امتحان شديد للمسلمين
رجع الصحابة بسرعة إلى رسول الله (ص) وأخبروه بغدر بني قريظة، فحزن الرسول (ص) حزناً شديداً لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وهو يفكر فيما سيحدث. ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: “اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ” .
وانتشر خبر خيانة بني قريظة بين المسلمين فعظم عليهم البلاء، وأصابهم الكرب الشديد، فقد كانت المدينة مكشوفةً من الجنوب على بني قريظة، وزاد من خوفهم وجود بعض النساء والأولاد في حصون اليهود، وقد وصف الله تعالى تلك اللحظات العصيبة في قرآنه الكريم بقوله:}إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا{ ( الأحزاب : 10و11).
وكان للمنافقين دورٌ في زيادة المحنة، وذلك بالسخرية من المؤمنين وبثّ روح الهزيمة والانهزامية فيهم ، كما قال تعالى }وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا{ (الأحزاب:12)، واستأذن كثير منهم النبيَّ في العودة إلى ديارهم بحجّة أنها مكشوفة للأعداء، وغرضهم في الحقيقة إنما هو الفرار من أرض المعركة وسمع البعض منهم يتهكم تعليقاً على بشارات الرسول (ص) بالفتوحات القادمة، ويقول: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط”.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف أي الفرار } وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا{(الأحزاب: 13).
مع تزايد الضغوط على المدافعين وفي محاولة استباقية عاد النبي (ص) إلى سلاح الدبلوماسية والمهادنة الذي طبقه في أكثر من مناسبة يكون فيها صف المؤمنين ضعيفاً، وتمثلت خطته في محاولة استمالة قبيلة غطفان الكبيرة والقوية وفصلها عن التحالف. وكان اقتراحه أن يعقد مصالحة مع غطفان للعدول عن الحرب مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. لكن لما كانت ثمار المدينة ملك الأنصار فقد وجد لزاماً عليه أن يستشير في الأمر لذلك استدعى زعيمي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (ر) وعرض عليهما ما يجول في فكره فقالا: “لقد كنا نحن وهؤلاء القوم (أي غطفان)على الشرك بالله وعبادة الأوثان،أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف” “ فاستحسن النبي (ص) قولهما، وتراجع عن الفكرة. وكان رأي الصحابيين الجليلين في محله لأنه لو أعطيت غطفان وهي قبيلة مجاورة للمدينة ثلث الثمار لكان ذلك بمثابة إشارة ضعف من معسكر المسلمين وكان سيزيد في هبوط معنوياتهم، ولكانت هذه التسوية أسست لعادة تقوم فيها القبائل بإبتزاز المسلمين عبر التهديد بالحرب.

“نفذ نعيم بن مسعود خدعة بارعة أدت إلى انهيار الثقة بين اليهـــود وبين الأحزاب وكانت هذه من أهم أســباب وقف قريش للحملة على المدينـــة”

أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها
أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها

خدعة…في الوقت المناسب
بينما كانت الضغوط تتصاعد على المسلمين المحاصرين في مدينتهم جاء رسول الله (ص) رجل يدعى نُعيم بن مسعود بن عامر فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي وعرض أن يستخدم هذا الأمر لينفذ خدعة تضعضع صفوف المهاجمين. وبالفعل جاء نعيم بن مسعود بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فذكرهم بأنهم يظاهرون قريشاً وحلفاءها ويخاطرون لأن قريشاً والقبائل جاءت لكسب المغانم فإن لم توفق لذلك فستتركهم وتعود أدراجها وعندها سينتقم منهم المسلمون، ونصح نعيم اليهود بأن يطلبوا من قريش رهائن من رجالهم يكونون بمثابة ضمانة بأن قريش ستقاتل المسلمين حتى حسم الموقف. ثم مضى نعين إلى قريش وقال لهم إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن طلب إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج وقال لغطفان ما قاله لقريش وحذّرهم ما حذرهم.
وبالفعل لما حثت قريش اليهود على مقاتلة النبي (ص) محمد ردّ اليهود عليهم بأن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً كما إننا لن نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون في أيدينا برهاناً لنا أنكم ستقاتلون محمداً لأننا نخشى إن تعبتم من الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانوا غير ذلك عادوا إلى بلادهم وتركوكم لتواجهوا محمداً وقومه في بلادكم، فأرسل اليهود مجدداً يطلبون رهائن من قريش ليقاتلوا ورفضت قريش ودب الخلاف بين الفريقين.

تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب
تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب

الطقس …يدخل الحرب
نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش، لكن لم يكد يتم لنعيم الأمر حتى حدث أمر لم يحسب المشركون حسابه إذ هبت عليهم ريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تطفئ نيرانهم وتقلب قدورهم وتقتلع خيامهم وأدت الرياح الشديدة البرودة إلى شل حركة الجند الذين باتوا مهتمين بسلامتهم ومات للمشركين الكثير من مواشيهم.. قال تعالى: } يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا{ (الأحزاب:9). فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وبالفعل تسلل حذيفة إلى صفوف القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً. فإذا بقائد الحملة أبي سفيان يخطب في الأحزاب التي بدأت تتشتت ويصيبها الذعر فيقول:
“يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل” ثم قام إلى جمله فجلس عليه ثم ضربه فوثب به ووجه رحله في طريق العودة إلى مكّة.
حطمت خطبة أبي سفيان ما بقي من معنويات أو إرادة قتال لدى المشركين، لأنه كان قائد الحملة وماذا سيفعل بقية الجمع بعد أن عاد قائدهم القهقرى إلى بلده تاركاً الجمع المشتت والمذعور ليدبر أمره بنفسه. لقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يأملون دخول المدينة وكسب المغانم من حربهم على المسلمين لكن الخندق الذي أشار سلمان الفارسي بحفره منعهم وأحبط خطتهم على الرغم من كثرة عددهم. ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش رفعوا مضاربهم أيضاً وجمعوا خيلهم وإبلهم وقفلوا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً (وفي رواية شهراً كاملاً). وكان أول ما قاله الرسول (ص) لأهل المدينة أن بشرهم بأن قريش “لن تغزوكم ثانية بعد عامكم هذا”وقد كان كما أخبر (ص) فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام.
بعد انسحاب جيش الأحزاب يجر أذيال الخيبة استفاق بنو قريظة على خطورة ما ارتكبوا من خيانة للمسلمين في أصعب أوقاتهم، وتوجه المسلمون فور انتهاء غزوة الخندق إلى حي بني قريظة لتصفية الحساب معهم فحاصروهم حتى استسلامهم فأخرجوهم من المدينة ولم يسمحوا لهم بأخذ أي شيء من أملاكهم معهم كما كان الحال مع بني النضير، كما إنهم أوقعوا القصاص بحد السيف في عدد من كبرائهم ومقاتليهم.

الحسن بن يسار البصري

الإمام الحسن البصري

إمام الزهد وسيّد التابعين

قوّام صوّام كثير الحزن والبكاء
شجاع في الحق عظيم الهيبة

لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار

خطابه للذين يجعلون علمهم الشرعي وسيلة لإستجداء الأمراء

والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم

ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم

أرضعته زوجة الرسول طفلاً وعاش بين الصحابة
وأصبح أعظم أهل زمانه معرفة وخوفاً وتقوى

كان الحجاج بن يوسف الثقفي، جزار العراق في أوجّ سطوته وجبروته عندما سمع عن اللهجة الشديدة التي يتكلم بها الإمام الحسن البصري عن ظلمه واضطهاده للناس مذنبهم وبريئهم على السواء، فقرر بكل بساطة قطع رأسه وطلب إحضاره إلى مجلسه وهيّأ السياف لتنفيذ المهمة فور وصول الحسن إلى مجلسه. وبالفعل جاء الإمام ذو الطلعة البهية والمهابة العظيمة ودخل مجلس الحجاج بطمأنينة تامة وتوجه نحوه والطاغية يرغي ويزيد حتى إذا اقترب الحسن البصري منه دون أي خشية أو خوف، ونظر الحجاج في وجهه حتى راعه المنظر وتغيّرت حاله وهدأت غضبته فإذا به بدلاً من أن يأمر السيَّاف بقطع رأس الإمام العالم فريد عصره يدعوه للجلوس إلى جانبه ويبدأ بسؤاله مسائل في الدين وفي غير ذلك من الأمور، وانتهى الأمر بأن ودّع الحجاج الحسن البصري بإحترام شديد وانصرف العالم المطمئن في وجه الموت المحقق كما أتى ولم يتغير في قلبه شيء من قوة المؤمن وثقته بربه، مما أذهل من كان حاضراً في مجلس الحجاج وقدَّم الدليل على أن الرجل يختزن أسراراً وقوة غير عادية جعلت الحجاج البطّاش يرضخ ويظهر الطاعة من دون أن يعلم ربما ما دهاه.

هذه القصة هي ربما خير ما يمكن أن نبدأ به سيرة إمام الزهد والورع الفقيه العارف الجليل الأمين الناصح الأسد الهصور في الحق الإمام الحسن البصري رضي الله عنه. وقد كان فريد عصره في كل تلك الصفات ومدرسة ومنهاجاً لا يضارى في خوف الله والعبادة الحق والتقوى وترك الدنيا والإعراض عن زخرفها كما كان بطلاً في القتال والفتوحات وشيخاً مرشداً يجلس للإستماع إليه المئات بل والآلاف سواء في مجلسه الخاص أو في مجلسه العام في جامع البصرة في مدينة البصرة حيث أقام الشطر الأكبر من حياته إلى أن توفاه الله. فمن هو الإمام الحسن البصري؟ وما هي أهميته الكبيرة في الإسلام ولماذا أصبح له هذا التأثير الكبير والمكانة الجليلة في صفوف العلماء والأئمة العارفين وهو تأثير لا يزال ماثلاً وكبيراً حتى يومنا هذا؟

نسبه ونشأته
هو الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد، كان أبوه مولى جميل بن قطبة وهو من سبيميسان، سكن المدينة وأُعتِق وتزوج بها في خلافة عمر بن الخطاب فولد له بها الحسن رضي الله عنه، أما أمه فإسمها خيرة وكانت مولاة لأم سلمة أم المؤمنين وكانت تخدمها، وربما أرسلتها في الحاجة فتشتغل عن ولدها الحسن وهو رضيع فتشاغله أم سلمة وترضعه، فكانوا يرون أن تلك الحكمة والعلوم التي أوتيها الحسن إنما هي من بركة بيت الرسول (ص) إذ إن أم المؤمنين أم سلمة أصبحت أمّه بالرضاعة فأصبح عن هذا الطريق منسوباً إلى بيت النبيّ (ص)، ثم كان وهو صغير تخرجه أمه إلى الصحابة فيدعون له وكان في جملة من دعوا له عمر بن الخطاب (ر) بقوله: اللهم فقّهه في الدين وحبّبه إلى الناس.

عيشه وسط الصحابة
بسبب ولادته وإقامته في المدينة فقد نشأ الحسن البصري منذ يفاعه بين صحابة رسول الله (ص) وقد رأى الحسن عدداً من كبار الصحابة وكان قد بلغ الحلم عندما رافق العديد منهم وتعلّم منهم وسمع منهم مباشرة وروى بعد ذلك الحديث عنهم. ومن الذين روى الحسن البصري عنهم عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وسمرة بن جندب وأبي بكرة الثقفي والنعمان بن بشير وجابر وجندب البجلي وابن عباس وعمرو بن تغلب ومعقل بن يسار والأسود ابن سريع وأنس بن مالك. وحضر الحسن الجمعة مع عثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهد يوم اغتياله وكان عمره أربع عشرة سنة. وفي سنة 37 هـ انتقل إلى البصرة للتلقي والتعلم، حيث استمع إلى الصحابة الذين استقروا بها، وفي سنة 43هـ عمل كاتباً في غزوة لأمير خراسان الربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وبعد رجوعه من الغزو إستقر في البصرة حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها حتى وفاته.

” دخل أصحابه عليه لعيادته في مرض فلم يجدوا عنده فراشاً ولا بساطاً ولا وسادة ولا حصيراً إلا سرير من طين  “

فرح
فرح

صفاته وشمائله
كان الحسن البصري حسن الصورة، بهي الطلعة، وكان عظيم الزند قال محمد بن سعد: “كان الحسن فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، وسيماً”. وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكان المهلب بن أبي صفرة يقدمهم إلى القتال، واشترك الحسن في فتح كابول مع عبد الرحمن بن سمرة.
قال أبو عمرو بن العلاء: “ ما رأيت أفصح من الحسن البصري”.
وقال الغزالي : “وكان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم، هدياً من الصحابة، وكان غايةً في الفصاحة، تتصبب الحكمة من فيه”( أي من فمه).
وقال علي بن زيد: “أدركت عروة بن الزبير ويحيى بن جعدة والقاسم فلم أر فيهم مثل الحسن ولو أن الحسن أدرك أصحاب النبي وهو رجل لاحتاجوا إلى رأيه”.
وقال الأعمش: “ما زال الحسن يعي الحكمة حتى نطق بها، وكان إذا ذكر عند أبي جعفر يعني الباقر قال: ذاك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء”.

حزنه وخوفه
كان الحسن البصري صواماً قواماً، فكان يصوم الأشهر الحرم والاثنين والخميس وكان كثير الحزن، عظيم الهيبة، قال أحد أصحابه: «ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة».
وقال حمزة الأعمى: “كنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه”، فقلت له يوماً: “إنك تكثر البكاء”، فقال: “يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكياً فافعل، لعله تعالى أن يرحمك”.
أما عن سبب حزنه فيقول الحسن رحمه الله: “يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه”.
وروى حوشب عن الحسن، قائلاً : يا ابن آدم، والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به، ليطولنّ في الدنيا حزنك، وليشتدنّ في الدنيا خوفك، وليكثرنّ في الدنيا بكاؤك
وروى الطبراني عنه أنه قال: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إنني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بـالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك.
ومن شدة خوفه وحرصه على الحلال وفراره من كل حرام، قد رفض تزويج ابنته لرجل عرف عنه أنه جنى مالاً كثيراً، وفي الرواية عن حميد الطويل أن رجلا قدم نيابة عن شاب يطلب خطبة بنت الحسن البصري، وأعرب الحسن في البداية عن قبوله، ثم عاد الوسيط إلى الشيخ وأراد أن يزيد الثناء على الخطيب فقال: يا أبا سعيد، وأزيدك أن له خمسين ألف درهم. قال الحسن على الفور: له خمسون ألفاً ما اجتمعت من حلال، وإن كان جمعها من حلال فقد ضنّ بها على الخلق، لا والله لا يجري بيننا وبينه صهر أبداً”!!

مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله
مدينة البصرة في جنوب العراق حيث عاش الإمام الحسن البصري رحمه الله

واصل بن عطاء

كان العالم واصل بن عطاء من تلاميذ الحسن البصري لكنه قرر في مرحلة معينة ترك مجلس الإمام الحسن وتكوين مذهب أو جماعة سميت في ما بعد بيت “المعتزلة”. وكان سبب ذلك حسب الرواة أن واصلاً ابن عطاء سأل الحسن البصري عن عصاة الموحدين فقال الحسن: “هم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم”، فقال واصل: “بل هم في منزلة بين المنزلتين”، ثم اعتزل حلقته، فقال الحسن البصري: «اعتزلنا واصل»، فسميت فرقته منذ ذلك الحين بـ «المعتزلة».

زهده واستغناؤه عن الناس
كان الحسن البصري من الزاهدين حقاً فهو الذي زهد في ما عند الملوك فرغبوا فيه واستغنى عن الناس وما في أيديهم فأحبوه، فعن يونس بن عبيد وقال: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء أما أنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا.
وقال له رجل: إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً (أي يتصيدون الأخطاء) فقال: هون عليك يا هذا، فإنني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟
وعن خالد بن صفوان قال: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قلبي به أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضلّ قوم هذا فيهم؟! وعن مطر قال: دخلنا على الحسن نعينه فما كان في البيت شيء لا فراش ولا بساط ولا وسادة ولا حصير إلا سرير مرمول هو عليه.

مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري
مصحف شريف يعود إلى القرن الخامس الهجري

“كان جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً مهيباً وجميـــــــــــلاً”

علمه
كان الحسن أعلم أهل عصره، يقول قتادة: “ما جمعت علمه إلى أحد العلماء إلا وجدت له فضلاً عليه، غير أنه إذا أشكل عليه كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيهاً قط إلا رأيت فضل الحسن”.
رأى الحسن عدداً كبيراً من الصحابة وروى عنهم مثل النعمان بن بشير، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس رضوان الله عليهم، ونتيجة لما سبق فقد لقّبه عمر بن عبد العزيز بسيد التابعين حيث يقول:” قد وليت قضاء البصرة سيد التابعين”.
ويقول ابن سعد عن علمه: “كان الحسن جامعاً عالماً عالياً رفيعاً ثقة مأموناً عابداً ناسكاً كبير العلم فصيحاً جميلاً وسيماً وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه فحسن حجة، وقدم مكة فأجلسوه على سرير واجتمع الناس إليه فحدثهم، وكان في من أتاه مجاهد وعطاء وطاووس وعمرو بن شعيب فقالوا أو قال بعضهم: لم نر مثل هذا قط. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: “من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن”. وقال قتادة: «كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام».

علم للخاصة وعلم للعامة
وقال أبو سعيد بن الأعرابي في طبقات النساك: «كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ويسمعون كلامه ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن، فإن سأله إنسان عن غيرها تبرم به وقال: إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر، فأما حلقته في المسجد فكان يمرّ فيها الحديث والفقه وعلم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، وكان منهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص وكل من هؤلاء اشتهر بحال تعنى في العبادة».

حذره من السياسة والفتن
عاش الحسن الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظاً على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت بإسم الإسلام، وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والإضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء في المسلمين، ولأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شقّ إصلاح الحاكم فما زال إصلاح المحكومين يسيراً. أما إن كان الحاكم ورعاً مطبقاً لأحكام الله مثل عُمر بن عبد العزيز، فإن الحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته.
ولقد عنّف الحسن البصري طلبة العلم الشرعي الذين يجعلون علمهم وسيلة للإستجداء فقال لهم: “ والله لو زهدتم في ما عندهم، لرغبوا في ما عندكم، ولكنكم رغبتم في ما عندهم، فزهدوا في ما عندكم”.
وكان يخاف الفتن وانزلاق الغوغاء إليها. فلما كانت فتنة بن الأشعث وقتاله الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن البصري وقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة وفعل وفعل؟ فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادِّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاءً فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. لكن الثلاثة خرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟ وانضموا إلى فتنة بن الأشعث وقتلوا جميعاً.

وفاته
يقول أبو طارق السعدي: “شهدت الحسن عند موته يوصي فقال لكاتب: اكتب هذا ما يشهد به الحسن بن أبي الحسن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من شهد بها صادقاً عند موته دخل الجنة. ويُروى أنه قبل أن تفارق الروح الجسد دخل في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

” كان يحذر من الفتن وسفك الدماء ويرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى ويقول فوضى ساعة يرتكب فيها من المظـــــالم ما لا يرتكب في اســـــتبداد ســــنين  “

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن

في غيبوبة ثم أفاق إفاقة فقال لمن حوله لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم.
ومات الحسن ليلة الجمعة، وأخرج حين انصرف الناس وازدحموا عليه، حتى فاتت الناس صلاة العصر، لم تصلّ في جامع البصرة. وكان مماته سنة عشر ومائة (هجرية)، وعمره تسع وثمانون سنة، وقال عبد الله بن الحسن إن أباه عاش نحواً من ثماني وثمانين سنة، وقد مات في أول رجب، وكانت جنازته مشهودة صلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة فشيّعه الخلق وازدحموا عليه حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وقال هشام بن حسان: “كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر” فقال: مات الحسن فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه، وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مئة يوم.

قالوا في الحسن البصري
سئل أنس بن مالك عن مسألة فقال: سلوا مولانا الحسن، قالوا: يا أبا حمزة نسألك، تقول: سلوا الحسن؟ قال: سلوا مولانا الحسن، إنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا.
وقال قتادة: ما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً يهابه العلماء قبل العامة.
وقال ضمرة بن ربيعة نقلاً عن الأصبغ بن زيد إنه سمع العوام بن حوشب يقول: ما أشبه الحسن إلا بنبي .
وعن أبي بردة، قال : ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليـه وسلَّم منه
وقال مطر الوراق، لما ظهر الحسن جاء كأنما كان في الآخرة، فهو يخبر عما عاين.
وقال معاذ بن معاذ قلت للأشعث: قد لقيت عطاء وعندك مسائل، أفلا سألته ؟ ! قال: ما لقيت أحداً بعد الحسن إلا صغر في عيني.
قال قتادة: ما كان أحد أكمل مروءة من الحسن.
وعن علي بن زيد، قال : سمعت من إبن المسيب، وعروة، والقاسم وغيرهم، ما رأيت مثل الحسن، ولو أدرك الصحابة وله مثل أسنانهم (أعمارهم) ما تقدموه.
وقال يونس بن عبيد: أما أنا فإنني لم أرَ أحداً أقرب قولاً من فعل من الحسن.

أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال : اختلفت إلى الحسن عشر سنين أو ما شاء الله، فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبل ذلك.
وقال هشام بن حسان : سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله .

مختصر مفيد

جاء شاب إلى الحسن البصري فقال: “إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء“ .
فقال له الحسن:“ هل تقوم الليل“؟ فقال: “لا“، فقال: “كفاك أن حرمك الله مناجاته.

من أقوال الحسن البصري

الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن
وطلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب

• من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا
• فضح الموت الدنيا فلم يترك فيها لذي لب فرحاً.
• ضحك المؤمن غفلة من قلبه.
• لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الدرهم والدينار.
• بئس الرفيقين: الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك.
• من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
• ما نظرت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية ؟ فإن كانت طاعته تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت.
• من ساء خلقه عَذَّبَ نفسه.
• الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن.
• إن المؤمن في الدنيا غريب لا يَجزع من ذلها ولا يُنافس أهلها في عزها.
• قال الحسن البصري: “أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا وإن كان عليهم أمسكوا“. قال: “وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا، أخذوها من غير محاسبة، فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر وقرأ “مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها “.
• إحذر ممن نقل إليك حديث غيرك، فإنه سينقل إلى غيرك حديثك.
• عظ الناس بفعلك، ولا تعظهم بقولك.
• ما رأيت شيئاً من العبادة أشدّ من الصلاة في جوف الليل.
• إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك.
• لولا العلماء لكان الناس كالبهائم.
• ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
• أيها الناس ! احذروا التسويف، فإنني سمعت بعض الصالحين يقول : نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ثم لا نتوب حتى نموت.
• إذا نظر إليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله، فبغاك وبغاك- أي طلبك مرة بعد مرة – فإذا رآك مداوماً ملـَّكَ ورفضك، وإذا كنت مرة هكـذا ومرة هكذا طمع فيك.
• تفـقـَّـد الحلاوة في ثلاثة أشياء : في الصلاة والقرآن والذكر، فإن وجدت ذلك فأمض وأبشر، وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه.
• إن الله جعل الصوم مضماراً لعباده ليستبقوا إلى طاعته.
• استوى الناس في العافية فاذا نزل البلاء تباينوا.
• قرأت في تسعين موضعاً من القرآن أن الله قدّر الأرزاق وضمنها لخلقه، وقرأت في موضع واحد : الشيطان يعدكم الفقر… فشككنا في قول الصادق في تسعين موضعاً وصدقنا قول الكاذب في موضع واحد.• أنا دون ما تقول وفوق ما في نفسك (قالها لرجل مدحه نفاقاً).
• طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب.
• من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء.
• جاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم استطعه)، فقال: قيدتك خطاياك.

الحسن البصري
في مواقف مشهودة

1- وعظه للخليفة عمر بن عبد العزيز
ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبد العزيز:
أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين، فإن الزادَ منها تركُها والغنى فيها فقرُها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزَّها وتُفقِر من جَمَعها، هي كالسُّمِّ يأكله من لا يعرفه وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرَّارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوَّة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى، ونسى المعاد فشغل بها لبُّه حتى زلَّت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت، وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدِم على غير مِهاد، ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء، وجعل البقاء فيها إلى فناء. سرورها مشوب بالحزن، أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر، فمالها عند الله قدر ولا وزن، ولا نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه فزوَّاها عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائهِ اغتراراً، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أًكرِم بها ونسي ما صنع الله عزّ وجل برسوله حين شدّ الحجر على بطنه.
وقال الحسن أيضاً : إن قوماً أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها.

2- الحجاج يأمر بقطع رأسه ..ثم يخضع له
لما وليَ الحجَّاجُ بن يوسف الثقفي العراقَ، وطغى في ولايته وتجبَّر، كان الحسنُ البصري أحدَ الرجال القلائل الذين تصدَّوا لطغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وصدعوا بكلمة الحق في وجهه، فعَلِمَ الحجَّاجُ أن الحسن البصري يتهجَّم عليه في مجلس عام، فماذا فعل؟ دخل الحجَّاجُ إلى مجلسه، وهو يتميَّز من الغيظ، وقال لجلاَّسه : تبّاً لكم، سُحقاً، يقوم عبدٌ من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يردُّه، أو ينكر عليه، واللهٍ لأسقينَّكم من دمه يا معشر الجبناء، ثم أمر بالسيف والنطع – إذا كان يُريد قطعَ رأس إنسان بمكان فيه أثاث فاخر حتى لا يلوِّث الدمُ الأثاثَ يأتون بالنطع، والنطع قطعة قماش كبيرة، أو قطعة جلد، إذا قُطع رأسُ من يُقطع رأسُه، لا يلوِّث الدمُ الأثاث، ثم أمر بالسيف والنطع فأُحضِر، ودعا بالجلاد فمَثُل واقفاً بين يديه، ثم وجَّه إلى الحسن بعضَ جنده، وأمرهم أن يأتوا به، ويقطعوا رأسه، وانتهى الأمرُ، وما هو إلا قليل حتى جاء الحسنُ، فشخصتْ نحوه الأبصارُ، ووجفت عليه القلوبُ، فلما رأى الحسنُ السيفَ والنطع والجلادَ حرَّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج، وعليه جلالُ المؤمن، وعزة المسلم، ووقارُ الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاجُ على حاله هذه هابه أشدَّ الهيبة، وقال له: ها هنا يا أبا سعيد، تعالَ اجلس هنا، فما زال يوسع له و يقول: ها هنا، والناس لا يصدَّقون ما يرون، طبعا طُلب ليقتل، والنطع جاهز، والسيَّاف جاهز، وكلُّ شيء جاهز لقطع رأسه، فكيف يستقبله الحجَّاج، ويقول له : تعال إلى هنا يا أبا سعيد، حتى أجلسَه على فراشه، ووضَعَه جنبه، ولما أخذ الحسنُ مجلسه التفت إليه الحجَّاجُ، وجعل يسأله عن بعض أمور الدين، والحسنُ يجيبه عن كلِّ مسألة بجنان ثابت، وبيان ساحر، وعلم واسع، فقال له الحجاج : أنت سيدُ العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بغالية – نوع من أنواع الطيب – وطيَّب له بها لحيته، وودَّعه، ولما خرج الحسنُ من عنده تبعه حاجبُ الحجاج، وقال له : يا أبا سعيد، لقد دعاك الحجاجُ لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، وإنني رأيتك عندما أقبلت، ورأيتَ السيفَ والنطعَ قد حرَّكتَ شفتيك، فماذا قلت ؟ فقال الحسن: لقد قلت : يا وليَ نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته برداً
وسلاما عليَّ، كما جعلت النارَ برداً وسلاماً على إبراهيم.

المؤمن في الدنيا غريب

3- كيف يَضِلُّ قوم فيهم الحسن البصري؟
حدَّث خالد بن صفوان فقال: لقيتُ مَسلمةَ بنَ عبد الملك في الحيرة فقال لي: أخبرني يا خالدُ عن حسن البصرة، فإنني أظنُّ أنك تعرف من أمره ما لا يعرف سواك ؟ فقال : أصلح اللهُ الأمير؛ أنا خيرُ مَن يخبِرُك عنه بعلم، قال : أنا جارُه في بيته، وجليسه في مجلسه، و أعلم أهل البصرة به، قال: هاتِ ما عندك .
قال له : إنه امرؤ سريرته كعلانيته – واحدة – و قوله كفعله، إذا أمر بمعروف كان أَعْمَلَ الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أَتْرَكَ الناس له، ولقد رأيتُه مستغنياً عن الناس، زاهداً بما في أيديهم، ورأيت الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده “ فقال مسلمةُ : حسبُك يا خالد كيف يضلُّ قومٌ فيهم مثلُ هذا؟”

4- شجاعته في مواجهة الملوك
لما وليّ عمر بن هبيرة الفزاري العراق وأضيفت إليه خراسان وذلك في أيام يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ومحمد بن سيرين والشعبي وذلك في سنة ثلاث ومائة فقال لهم إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده وأخذ عليهم الميثاق بطاعته وأخذ عهدنا بالسمع والطاعة وقد ولاني ما ترون فيكتب إلي بالأمر من أمره فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟! فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تقية فقال:” ابن هبيرة ما تقول يا حسن فقال يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله إن الله يمنعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وأوشك أن يبعث إليك ملكاً فيزيلك عن سريرك، ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ثم لا ينجيك إلا عملك يا ابن هبيرة إن تعص الله فإنما جعل الله هذا السلطان ناصراً لدين الله وعباده فلا تركبن دين الله وعباده بسلطان الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأجازهم ابن هبيرة وأضعف جائزة الحسن” فقال الشعبي لابن سيرين:” سفسفنا له فسفسف لنا”.

“الفتنة عقوبة الله عز وجل يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته”

5- سراب الدنيا وفتنتها
قال فرقد: دخلنا على الحسن فقلنا: يا أبا سعيد ألا يعجبك مثل محمد بن الأهتم؟ فقال: ماله؟ فقلنا: دخلنا عليه آنفاً وهو يجود بنفسه فقال: انظروا إلى ذاك الصندوق – وأومأ إلى صندوق في جانب بيته – فقال: هذا الصندوق فيه ثمانون ألف دينار لم أؤد منها زكاة ولم أصل منها رحماً ولم يأكل منها محتاج فقلنا: يا أبا عبد الله فلمن كنت تجمعها؟ قال: لروعة الزمان ومكاثرة الأقران وجفوة السلطان فقال الحسن: انظروا من أين أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه ومكاثرة أقرانه وجفوة سلطانه !؟ ثم قال أيها الوارث لا تُخدعن كما خُدع صويحبك بالأمس جاءك هذا المال لم تتعب لك فيه يمين، ولم يعرق لك فيه جبين، جاءك ممن كان له جموعاً منوعاً من باطل جمعه ومن حق منعه، ثم قال الحسن إن يوم القيامة لذو حسرات، الرجل يجمع المال ثم يموت ويدعه لغيره فيرزقه الله فيه الصلاح والإنفاق في وجوه البر فيجد ماله في ميزان غيره.
جاءه آخر فقال له: إنِّي أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح علي من الدنيا، ولا أجد أنني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته وسأله رجل عن الفتنة ما هي وما يوجبها؟ فقال: هي والله عقوبة الله عزّ وجل؟ يحلها بالعباد إذا عصوه. وتأخروا عن طاعته. وقيل له: يا أبا سعيد من أين أتى على الخلق؟ فقال: من قلة الرضا عن الله ـ عزّ وجل ـ قيل له: فمن أين دخل عليهم قلة الرضا عن الله ،عزّ وجل ؟ فقال: من جهلهم بالله. وقلة المعرفة به. وكان يقول: هجران الأحمق قربة إلى الله، ومواصلة العاقل إقامة لدين الله، وإكرام المؤمن خدمة لله، ومصارمة الفاسق عون من الله. وكان يقول: لا تكن شاة الراعي أعقل منك. تزجرها الصيحة، وتطردها الإشارة.

لا تبيعن آخرتك بدنياك
قال الحسن: “ يا ابن آدم عملك فإنما هو لحمك ودمك، فانظر على أي حال تلقى عملك، إن لأهل التقوى علامات يعرفون بها، صدق الحديث، والوفاء بالعهد ـ وصلة الرحم، ورحمة الضعفاء، وقلة الفخر والخيلاء، وبذل المعروف، وقلة المباهاة للناس، وحسن الخلق وسعة الخلق مما يقرب إلى الله ـ عز وجل ـ يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك، يوزن خيره وشره، فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر، فإنك إذا رأيته سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلاً كسب وأنفقه قصداً، وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته، هيهات هيهات ذهبت الدنيا، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، وأنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون؟ إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم، يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً “.

بكاء الورع وخشية الله
عن عمرو ابن ميمون بن مهران قال بعد أن كبر أبي وذهب بصره .. قال لي: هلم بنا إلى الحسن البصري. فخرجت به أقوده إلى بيت الحسن البصري، فلما دخلنا على الحسن قال له أبي : يا أبا سعيد .. قد أنست من قلبي غلظة، فاستلن لي منه!
فقرأ الحسن من سورة الشعراء}أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون(207){.. فبكى أبي حتى سقط، وأخذ يضرب برجله الأرض كما تضرب الشاة المذبوحة، وأخذ الحسن البصري يبكي معه وينتحب فجاءت الجارية فقالت: قد أتعبتم الشيخ، قوموا تفرقوا فأخذتُ بيد أبي فخرجت به .. فلما صرنا في الطريق .. وكزني أبي في صدري وكزة ثم قال : يا بني، لقد قرأ علينا آيات لو فهمتها بقلبك لأبقت فيه كلوماً أي جروحاً. نعم، لا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة يناجيك أو يسليك أو يتوجع.

لا تعيب الناس بعيب هو فيك
روى أبو عبيدة الناجي أنه سمع الحسن يقول: يا ابن آدم إنك لا تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب من نفسك فتصلحه، فإذا فعلت ذلك لم تصلح عيباً إلا وجدت عيباً آخر لم تصلحه، فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله تعالى من كان كذلك. وعن يحيى بن المختار عن الحسن قال : إن المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله عز وجل، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .
وقال أيضاً :إن المؤمن يفاجئه الشيء يعجبه فيقول: والله إنّي لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، مالي ولهذا ؟ والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله . إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم و بين هلكتهمم. إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى إلى فكاك رقبته لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه و بصره ولسانه وجوارحه.
المصادر
سير أعلام النبلاء – البداية والنهاية – الطبقات الكبرى – تهذيب الكمال – تهذيب التهذيب – وفيات الأعيان – عجائب الآثار – إحياء علوم الدين – ذم الدنيا – صفة الصفوة – مكارم الأخلاق – الوافي بالوفيات.

محاورات أفلاطون

محاورة لاكيس
عن الشجاعة العاقلة

سقــــراط:
الشّجاعــة ليســت عنــد الفرســان بل هــي مجالــدة الفقــر
والألم والخوف ومجاهــدة شهوات النّفــس وأهوائهــا

الشجاعــــة يجــــب أن تقتـــرن بالحكمــــة
وإلا تحوّلــــت إلى طيــــش يــــورّد المهــــالك

تدور محاورة لاكيس حول تعريف الشجاعة ويطرح الموضوع بسبب اهتمام اثنين من قواد الجيش السابقين بتدريب ولديهما على المهارة في الحرب والإثنان يشعران بالتقصير لأن كليهما ابنين لمحاربين معروفين في الجيش ولهما إسم وشهرة، وهما بالتالي يريدان أن يستمر الإرث العسكري المرموق في الأسرة ويخشيان من أن يندفع الشابان ولديهما إلى اللهو وما لا طائلة تحته في حال عدم دفعهما إلى تعلم مهنة المبارزة والقتال بالدروع، وقد كانت هذه سمة الجيوش الإغريقية في تلك الفترة.
يقرر الرجلان الصديقان التوجّه إلى إثنين من معارفهما من الذين لهم خبرة في الأمر وهما لاكيس ونيسياس لاستشارتهما في الأمر لكن الأخيرين ينصحانهما على الفور بالتوجّه إلى سقراط الذي كان قريباً منهما باعتباره الشخص الأفضل ليقدم النصحية ولاسيما وأن سقراط كان قد أبلى البلاء الحسن في الحروب التي شارك فيها مع مواطني مدينته.
يبدأ سقراط بالإعتذار عن الخوض في الموضوع مباشرة فهو يريد أن يسمع رأي لاكيس ونيسياس وهو يعتبر انه من اللائق أن يعطيا الكلام أولاً، وهذا هو دوماً أسلوب سقراط أي الإصغاء باهتمام أولاً وترك المحاورة تأخذ مجراها وتكشف عن الثغرات في منطق المتحاورين، وهو لذلك يبقى خلال المحاورة في موقع الحكم أو الناصح الذي يساعد على استخلاص الأسئلة اللازمة للتقدّم بالحوار، وهو قد يدخل لمساعدة المتحاورين على تصويب نقطة أو فكرة ولا يتدخل إلا بعد أن يكون تدخله أصبح مفيداً لبلورة النتائج وبعد أن يكون المتحاورون قد حققوا فعلاً تقدماً وباتوا قاب قوسين أو أدنى من بلوغ النتيجة.
يترك سقراط السؤال المباشر لوالدي الشابين وهما ليسيماكوس ومليسياس حول الفائدة من الخدمة العسكرية والتدريب على الحرب ويقرر طرح سؤال حول الهدف المقصود من الاهتمام بالتدريب العسكري في أولاد الصديقين، لأنه يجب أن نعرف أولاً الغاية من اي شيء.
سقراط: إنّي، يا ليسيماكوس سوف أعطيك رأيي في الموضوع الذي سألتني فيه، ولكن أرى أنّ الأدب يلزمني أن أسمع أوّلاً لهؤلاء الرّجال وأن أتعلّم منهم، فهم أكبر منّي سنّاً، وأكمل خبرة بالأمور. فإن بدا لي أنّ هناك ما يُزَادُ على ما قالوا، فسوف أبسطه لكم.
يفتح نيسياس حواراً غير موفق مع لاكيس، إذ سيتبين أن لكل منهما وجهة نظر متعارضة تماماً مع الآخر: نيسياس يرى من جهته أن الخدمة العسكرية تربي قيم الجدية وتوفّر للشاب القوة البدنية ومهارة القتال كما إن الزي المدرع للمقاتلين الأشداء يعطي الشاب قيافة ومظهراً جميلاً ومهيباً على الجبهة، كما إنه يعطيه فرصة الدفاع عن نفسه في حال تضعضع الجيش. ويعتقد نيسياس أنه يجب أن يلام مع غيره من الآباء لتركهم أولادهم في حال من الفراغ الذي يقودهم إلى حياة وادعة وربما إلى ضعف التربية والقيم النبيلة.
بعد هذه المرافعة ينبري لاكيس ليدحض وجهة نظر نيسياس مقدماً أمثلة عديدة على أن التدريب العسكري والعدة الكافية ليسا هما من يقرر النتيجة بل المواهب الشخصة وهو يعطي أمثلة على قواد أو عسكريين كانوا يبدون بمظهر مهيب في الحياة العادية لكنهم عندما جد الجد خيبوا الآمال بسبب ما ظهر منهم من انعدام المهارة في استخدام السلاح أو حتى الفرار من وجه الخصوم عند اشتداد وطيس المعركة.

” «كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث سيجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأســرار حياته اليوم، وحياته الماضية»!! “

نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع
نموذج للجندي الإغريقي من المتطوعين وهو مسلج برمج ودروع

من أجل الهدف التعليمي المنهجي في محاورات أفلاطون والجدلية السقراطية يبدأ الموضوع بوجهتي نظر متعارضتين تماماً، وبذلك يكون المسرح قد هيّئ لدراما الحوار التي يلعب فيها سقراط دوماً دور الحكم الذي يقود المحاورة بالصبر والتسلسل المنطقي إلى نهاية إيجابية. أفلاطون يظهر هنا أمراً أساسياً في محاوراته بانياً على الدور السقراطي وهو أن الحكمة ضرورية لتوضيح الحقيقة وأن الناس إذا تركوا لأنفسهم فإنهم سيبقون في حالة انقسام لأنهم لا يمتلكون الحكمة ولأنهم غالباً ما ينطلقون من حقائق ذهنية جزئية تتأثر بأهواء كل منهم، وبهذا نكون غالباً أمام مشهد من الأفكار المتصارعة والتي لا توجد وسيلة للفصل بينها وإحلال التوافق إلا عبر نهج الحكمة لأن الحكيم يرى ما لا يراه عامة الناس فهو يعلم بحقيقة نفوسهم كما إنه يرى الصورة العامة للمسألة بحدسه وبما أوتي من بصيرة.
بعد ظهور الخلاف بين « نيسياس» و«لاكيس» يتوجه والد أحد الشابين وهو «ليسيماكوس» بالطلب بحرارة من سقراط أن يشارك الجميع في الفصل في الخلاف، موحياً أنه لو كان لاكيس ونيسياس قد اتفقا فإن الحاجة كانت أقل ربما إلى التحكيم. هنا يتدخل سقراط رامياً أول سهم له في ميدان النقاش مستغرباً كيف يعول ليسيماكوس على أكثرية الأصوات لتبين ما هو الخيار الأفضل لإبنه، فالأكثرية ليست ضمانة بل لا بدّ من أن يكون الخيار في حد ذاته عاقلاً.
سقراط: واعجبي يا ليسيماكوس، أفأنت تريد اتباع الرّأي الّذي يكون عليه أكثر النّاس!؟ فلو أنّ الكلام كان يدور مثلاً في الرّياضة وفي أمر تعليمها لابنك، أفكنت ستستفتي أكثر النّاس أم أنّك ستطلب النصيحة ممن كان قد تعلّم الرّياضة على يد معلّم بارع؟
لم يكن سقراط بريئاً لأنه عن هذا الطريق سيسأل الجميع البحث عن من هو أهل لتدريب الفتيين وما ينبغي أن تكون مؤهلاته ، وهو سيتوصل ببراعة إلى إعادة الكرة إلى ملعب نيسياس ولاكيس لأنه لا يريد أن يعطي جواباً بل يريد للمحاورة أن تسير في طريقها .

“سقـــــراط: عجباً يا ليسيماكوس! أتريد اتبــاع الــرّأي الّــذي يكــون عليه أكثر النّاس أم عليــــك طلــــب النصيحــــة ممــــن تعلّم علــى يد معلّم بارع؟”

مشهد للحرب في أيام الأغريق - هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب
مشهد للحرب في أيام الأغريق – هل الشجاعة في الإقدام أم هي أحيالنا بالاتسحاب

سقراط: قبل قليل يا ليسيماكوس كان لاكيس قد حضّك على ألاّ تدعني حتّى تحصل مني على الجواب الشافي بشأن موضوعنا، أمّا الآن فأنا من يحضّك على ألاّ تدع أبداً لاكيس ولا نيسياس حتّى تسألهما، وقل لهما بأن سقراط يقسم بأنّه لا دراية له البتّة بهذا الأمر، وأنّه لعاجز على أنّ يتبيّن أيّاً منهما كان محقاً في رأيه، لأنّه لا هو معلّم في هذا الفن، ولا كان تلميذاً لأحد من المعلّمين البارعين في هذه الأمور.
على أثر ذلك يقتنع ليسيماكوس برأي سقراط فيعود ليطلب من لاكيس ونيسياس أن يستلما الحوار مجدداً علهما يتوصلان معاً إلى النتيجة المرجوة. هنا يفطن نيسياس إلى مناورة سقراط ويأخذ على لاكيس سذاجته فهو لا يعرف سقراط على حقيقته ولا يعرف عن طريقته وأسلوبه البارعين واللذين يصفهما في هذه السطور:
نيسياس: أراك (يا لاكيس) كأنّك تجهل أنّ كلّ امرئ عرف سقراط واقترب منه لأجل الحديث في أيّ موضوع قد اختاره هو، فلا مناص من أن يجد نفسه وقد ساقه الكلام معه إلى أن يبوح إليه بأسرار نفسه، وبأسرار حياته الحاضرة وحياته الماضية!! ومتى بلغ به الحديث هذا المقام، فإن سقراط لن يطلقه أبداً حتّى يمحِّص كلّ ما كان سيقوله. وأنا اعتدت على طريقته تلك وأعلم حقّ العلم أنه لا مفرّ لأحد ولا لي أيضاً من أن يوقع به في سياق الحديث. فأنا أخشى الدنوّ من سقراط يا ليسيماكوس، وأنا لا أستغرب أن يبلوني، وإنّي لأعلم حق العلم بأنّه لن يجعل الحوار ينحصر بأمر الشابّين، بل هو سيحوله ليصبح حواراً عن أنفسنا نحن، لكنني لا أرى حرجاً البتّة في أن يسلك سقراط بحوارنا هذا كما يشاء.
يمثّل هذا المقطع على لسان نيسياس وصفاً رائعاً من قبل أفلاطون للأسلوب السقراطي الشهير في الحوار والذي يعتبر خاصية اشتهر بها الحكيم وبرز فيها جميع أقرانه السابقين واللاحقين.
بدوره، سيقبل لاكيس تحكيم سقراط خصوصاً وأنه عرف شجاعته عندما كانا معاً في الظروف الصعبة لمعركة ديليون.
لاكيس: أمّا سقراط، فلا أعلم ما سيقوله، لكنّه، كما قلت آنفاً، كان قد ظهر لي فضله من فعَاله وثبت عندي أنّه أهل للكلام الصادق.. وبسبب هذه الخصلة فيه فإنني سأسلّم نفسي له حتّى يمتحنني، ولن أجد غضاضة أبداً في أن أتعلّم منه (…) فهلا رضيت إذاً، يا سقراط في أن تعلّمني وأن تمحِّص أقوالي، وسأدلي لك بكل ما أعلمه. فلقد صرت معظَّماً في نفسي منذ ذلك اليوم الّذي ثبتّ فيه معي في ساحة الموت، حيث ظهر فضلك بأجلى صورة. فلتتكلّم كما يبدو لك، ولا تنحرج أبداً من تقدمنا في السن.
ستؤدي مناورة سقراط إلى أمر مهم وهو أن الحوار سيعود ليتركز بين نيسياس ولاكيس حيث يمثل سقراط دور المحرك الخفي فهو يقود الحوار بعد ذلك حتى نهايته من دون أن يكون عليه إبداء رأي قاطع إلا في الفقرات الأخيرة.
يقود سقراط الأطراف المتحاورة للإتفاق اولاً على أن الهدف مما ينشدونه من فكرة الخدمة العسكرية هو الفضيلة، لكن الفضيلة تعريف واسع جداً والمطلوب هو أن نعرف جانب الفضيلة الخاص بإستخدام السلاح وهو -كما اتفق الجميع: الشجاعة. هنا يعتقد المتحاورون أنهم اقتربوا من الهدف عندما يثير سقراط سؤالاً جوهرياً وهو: ما هي الشجاعة؟
يقترح لاكيس أن الشجاعة هي أن يثبت المحارب في موقعه في المعركة وأن لا يركن إلى الفرار. لكن سقراط يلاحظ أن تعريف لاكيس ينطبق على مشاة المحاربين بالتحديد بينما المطلوب إيجاد تعريف للشجاعة يمكن أن ينطبق على العمل العسكري عموماً بل على كافة نواحي الحياة وليس الحربية فقط، كما يلاحظ أن الشجاعة في المعركة قد تقتضي أحياناً عدم الثبات في الموقع وهناك قادة عسكريون يتقنون فن الانسحاب كتمهيد للهجوم، ثم يتابع باقتراح مفهوم أوسع للشجاعة:

أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي
أثينا والأكروبوليس ف الزمن الإغريقي

عند كلّ محارب، بل ليس فقط عند كلّ محارب، بل عند كلّ إنسان ركب خطر البحر، أو بقي رابط الجأش في الفقر، وفي مهالك السّياسة، ولي أن أزيد أيضاً، شجاعة الّذين يصبرون على الألم والخوف، أو الّذين يجاهدون شهوات النّفس وأهواءها، أفلا توافقني يا لاكيس أنّ هؤلاء هم أيضاً لَشجعان؟
لاكيس: بل هؤلاء هم غاية في الشّجاعة.
ثم يعترف لاكيس بأن تعريفه غير دقيق ويستدرك فيضيف تعريفاً آخر هو أن الشجاعة تقتضي الحزم، لكن سقراط يسارع إلى تحدي التعريف الجديد:
سقراط: لكن أفلا ترى أنّه ليس كلّ حزم شجاعة؟ وأنّ الحزم حين يقترن بالرّشد إنّما يكون محموداً وحسناً وإذا اقترن الحزم بالطيش، فسيكون ضارّاً ومهلكاً.
لاكيس: إنّه سيكون ضارّاً ومهلكاً.
سقراط: وإذا كانت الشّجاعة محمودة، وهذا الضّرب من الحزم مذموم، فأنت إذًا تنكر أن يكون الحزم تعريفاً صالحاً للشّجاعة.
لاكيس: نعم أنكر ذلك.
بعد هذه المحاولات غيرالموفقة لتعريف معنى الشجاعة يقدم نيسياس اقتراحاً جديداً. فقد تذكر أنه سمع من سقراط مراراً أن المرء إنما يكون جيّداً على الدوام في الأشياء الّتي له علم بها، وسيّئاً في الأشياء الّتي يكون جاهلاً بها.
نيسياس: حينئذ فإن صحّ أنّ الرّجل الشّجاع هو جيّد، فهذا الرّجل هو عالم لا محالة.
لكن لاكيس يظهر فوراً أنه لا ترابط حقيقياً بين الأمرين، ويزيد سقراط على ذلك ملاحظة مازحة مفادها أن الحيوانات مثل الأسود أو الغزلان أو القردة جيدة في ما تعمل فهل يعني ذلك أن لديها العلم؟
يستمر سقراط في محاولة رد الأمور إلى أصولها، وستسنح الفرصة عندما يأتي نيسياس باقتراح جديد يعتقد أنه يفي بالغرض:.
نيسياس: الرّأي عندي يا لاكيس أنّه لا يمكن وصف أيّ بهيمة بالشّجاعة، بل إنّ هذا الوصف لمرفوع عن كلّ إنسان يركب المهالك لسفاهته، بل هذا عندي لَرَجُلٌ مجنون وطائش، أو ربما حسبت أنني سوف أعدّ الأحداث الصّغار شجعانا لكونهم لا يرهبون شيئاً لجهلهم بعواقب الأمور؟ بل عندي أن يكون المرء غير هياب، وأن يكون شجاعاً لأمرين مختلفين. لذلك فإنني أرى بأنّ الشّجاعة والنّظر في العواقب خصلتان لا توجدان إلاّ في قلّة قليلة من البشر، أمّا التهوّر، والجسارة، وقلّة الخشية للجهل بعواقب الأمور، فإنّما هي من خصال أكثر المخلوقات، لذلك فإن الأفعال التي وصفتها أنت أو التي يشير إليها العامة على أنها أعمال شجاعة إنّما أسمّيها بالأفعال المتهوّرة، أمّا الأفعال المتروّيّة فتلك، لعمري، ما أسمّيها بالشّجاعة.
يستمر الجدل بين نيسياس ولاكيس الذي يتابع البحث عن تناقضات في منطق زميله لكن سقراط يشعر أن الجميع اقتربوا أكثر من محاولة تعريف «الشجاعة العاقلة» كما سمعا أي الشجاعة المقرونة بالحكمة والرشاد وليس الطيش. لكنه يعود فيسأل:

سقراط: لننظر ما هي الأشياء الّتي تُخْشَى، وما هي الّتي لا تُخْشَى، ولنبحث عنها معاً. من المعلوم أنّ الأشياء الّتي تُخْشَى إنّما هي الأشياء الّتي تبعث الخشية في النّفس، والأشياء الّتي لا تُخْشَى، فهي الأشياء الّتي لا تبعث الخوف في النّفس. وبلا ريب، فليست الشّرور الماضية، ولا الشّرور الحاضرة هي التّى تخشى، وإنّما الشّرور الّتي نترقّبها، إذ إن حدّ الخشية هو ترقّب شرّ نازل. فهل نسمي الشّجاعة العلم بهذه الأمور الّتي تُخْشَى والتي لا تُخْشَى؟
نيسياس: إنّ العلم بهذه الأمور هو الّذي أسمّيه شجاعة.
سقراط: الشّجاعة ليست علم ما يخشى ولا يخشى فحسب، فهي مثل سائر العلوم لا تشتمل فقط على المعرفة بالشرّ المتوقّع، بل وأيضاً على المعرفة بالشرّ القائم والشرّ المنصرم، أي على المعرفة بالشرّ في عمومه. حِينَئِذٍ، فإنّ كلّ رجل علم بالخير كلّه، وعلم كيف هو، وكيف كان، وكيف سيكون، وعلم بالشرّ أيضاً في جميع أحواله، سيكون الرّجل الّذي حوى الفضيلة كلّها. ولا جرم أنّ كلّ رجل أُوتِيَ الهمّة في أن يحتاط لنفسه ممّا يخشى ولا يخشى من الآلهة أو النّاس، وأوتي السّداد فسيكون هو الرّجل الوافر الحكمة، والعدل والتّقوى.
نيسياس: ليس لدي أي اعتراض على ما قلت ياسقراط.

خلاصة
ينتهي سقراط إلى خلاصة مهمة وهي أن السلوك القويم أو الفضيلة تحتاج إلى أمرين مختلفين: المعرفة، ومن ضمنها القدرة على تمييز الحق من الباطل (أي ما يخشى منه وما لا يخشى منه) أما الأمر الثاني فهو العزيمة والإرادة في عمل المرء بما يعلم من سبل الفضيلة وبالتالي مقاومة هوى النفس. هذه المقاومة بدأ سقراط الحوار بأن أدرجها ضمن قائمة أعمال الشجاعة مع أمور عديدة لا تتطلب بالضرورة القوة الجسدية أو المهارة في الحرب. وعدّ سقراط العزم أو الحزم في التزام جانب الصواب من مظاهر الشجاعة فأقام بذلك رابطاً بين المعرفة وبين العزيمة التي هي جانب من صفة الشجاعة. على العكس من ذلك، فإن من لا يتمتع بقوة الإرادة أو الذي تضعف عزيمته أمام المغريات أو الأهواء فإنه يفشل في التزام جانب الفضيلة أو التزام ما يعلم جيداً أنه جانب الحق أو الصواب. بهذا يكون قد فشل في امتحان الشجاعة كما يعرفها سقراط أي كجزء لا يتجزأ من المعرفة. من ناحية أخرى لفت سقراط إلى أهمية أن تقترن الشجاعة بالحكمة وتقدير عواقب الأمور وإلا تحولت إلى طيش مهلك فأعاد الشجاعة من طريق آخر إلى المعرفة أو البصيرة العاقلة.

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

سقراط الحكيم المحارب

في محاورة أفلاطون «لاكيس» يلعب سقراط دوراً مركزياً ويقود الحوار تقريباً من أوله إلى آخره. ولأن الموضوع يتعلق بأهمية الخدمة العسكرية وبمفهوم الشجاعة فقد كان سقراط مؤهلاً فعلاً ليس فقط لأنه كان حكيم أثينا المشهور، وكان مقصداً للشباب وكل من يرغب في طلب العلم، بل لأنه هو نفسه كان مقاتلاً شجاعاً وقد خاض مع الأثينيين على الأقل ثلاث حروب أظهر فيها قمة الجسارة ورباطة الجأش وهدوء الأعصاب الأمر الذي مكّنه من إنقاذ الألوف من الأثينيين أثناء هزيمتهم العسكرية الموجعة في معركة ديليون سنة 424 قبل الميلاد، إذ تعاون سقراط مع محارب آخر هو لاكيس (وهو الذي سيظهر في المحاورة التي أعطيت اسمه) لتجميع الأثينيين بعد الهزيمة وساعد بذلك على تأمين انسحاب منظم وفر المزيد من الضحايا على الحملة، واستحق سقراط تكريم الأثينيين وتعظيمهم بسبب دوره البارز في تلك المعركة. وبعد سنتين وفي العام 422 ق.م. شارك سقراط في معركة أنفيبوليس التي هُزِم فيها الأثينيون أيضاً وكان هدفهم مناجم الذهب الغنية في تراسيا، وقد شارك سقراط كمواطن مع القوات غير النظامية Hoplites التي كانت عادة أقل تدريباً من الجنود وكانت عدتها الرماح والدروع. وكان عمر سقراط يومها قارب الـ 50 عاماً مما يعطي فكرة عن قوة بنيته إذ يتطلب لبس الدروع الحديدية والقتال بالرماح وجهاً لوجه مهارة وشجاعة وفوق ذلك لياقة بدنية. ولا تتوافر معلومات عن دور سقراط في هذه المعركة لكن ما ذكرته كتب التاريخ هو أن المواجهة كانت شرسة وقد قتل فيها 600 مواطن أثيني منهم الديماغوجي الشهير كليون والاستراتيجي الأسبارطي براسيدس.
وكانت أول حملة عسكرية شارك فيها سقراط هي حصار مدينة يوتيدياس في شبه جزيرة كالسيديا وهي مستعمرة تابعة لكورنث وذلك في العام 432 عندما كان في سن الأربعين. وذكرالمؤرخون أن شجاعته ومهارته في المعركة الفاصلة التي جرت في حزيران 1932 لفتتا الأنظار وقد قاتل سقراط بلا كلل وأنقذ حياة صديقه ألسيبياديس واستمر حصار يوتيدياس أربع سنوات من سنة 432 ق.م. إلى سنة 429 ق.م. يذكر أن سقراط جرح مراراً في تلك المعارك.

الشيخ الفاضل عند أحمد كجك باشا

الشيخ الفاضل عند كجك أحمد
الشيخ الفاضل عند كجك أحمد

يروي مؤرخو الشيخ الفاضل محمد أبي هلال الذي عاصر الأمير فخر الدين الثاني ومنهم الشيخ أبو علي عبد الملك الشافعي الحلبي والمؤرخ عجاج نويهض في كتابه التنوخي هذه المأثرة عن هذا الشيخ الجليل الذي يحتل مكانة خاصة في ذاكرة الموحدين الدروز ومذكراتهم.
«عندما قَدِم كجك أحمد إلى بلادنا في حملته لمهاجمة الأمير فخر الدين المعني لم يفرّق هذا الطاغي بين الأمير وأتباعه المسالمين، بل عمد إلى إلحاق الضرر بالجميع ومن دون تفرقة. وبينما كان منشغلاً بحملة التنكيل بأبناء الجبل جاء من أخبره أنه يوجد شيخ ناسك متعبّد جليل الفضل والتقوى، يعيش في قرية شويا قرب حاصبيا ويُدعى الشيخ الفاضل وإذا اعتقلته فإن أتباعه يفدونه بالغالي والنفيس من مال وحلال فتحصل بذلك على المال الوفير.
كان الشيخ الفاضل في تلك الحقبة قد أصبح علماً روحياً وقدوة للأنام باعثاً لنهضة روحية حتى غدا المرجع الأول لشتى أبناء طائفة التوحيد، وأينما وجدوا من الجليل إلى الجولان إلى لبنان إلى جبل السماق مروراً بوادي التيم وصولاً إلى جبل لبنان كان توجههم إلى الشيخ الفاضل يعملون بوعظه وتعاليمه ويتناقلون الروايات والعبر عن زهده وتقواه ومسلكه الطاهر.
علم الشيخ الفاضل بنبأ الوشاية وبإحتمال القبض عليه من قبل قائد الحملة العثمانية فعمم حرماً على جميع أبناء التوحيد مفاده بالحرف الواحد «لو قدّر الله تعالى عليّ ووقعت بين يدي ذاك السفاح، فحرامٌ على من يدفع قرشاً أو مصريّة لأن الروح مقصّرٌ عنها أما الجسم فليفعل به ما يشاء وخلاصي بذلك».
أخذ كجك أحمد برأي الوشاة وأرسل عدداً من جنوده إلى قرية شويا لاعتقال الشيخ، وعند وصولهم إلى منزل شيخ القرية من عائلة انقرضت في ما بعد، أرسل هذا من أرشدهم إلى الكهف الذي يعيش فيه الشيخ وهو يقع جنوب البلدة لجهة بلدة الهبارية، ولتاريخه ما زال هذا الكهف مزاراً للموحدين.
وصل الجنود إلى الكهف الذي يقيم فيه الشيخ فوجدوه بمفرده مستغرقاً في صلاته وسكينته غير آبه بما يجري حوله، لم يبال هؤلاء الجنود بجلال الشيخ ولا بحرمة المكان وتوجهوا إليه بغطرسة القوي وأمروه أن يقدم لهم الطعام على اعتبار أنهم قادمون من مكان بعيد وقد بدأ الجوع ينهشهم. كان طلب الجنود على سبيل التعجيز لأن الشيخ كان وحيداً وقد افترضوا أنه لا يوجد لديه أي زاد يكفي لإطعام رهط من العساكر.
لكن الله عزّ وجل كان قد يسّر للشيخ الطاهر جماعة كبيرة من النحل اتخذت بيتها في سقف الكهف وكانت أقراص العسل التي بنتها كبيرة فعلاً وكانت تفيض عسلاً يقطر وينساب إلى أرض الكهف، وكان لدى الشيخ الفاضل قصعة يضعها على الأرض ليجمع فيها ما يتنزل من ذاك العسل وكان الشيخ يأكل منه أحياناً ويقول «لحلاله وليس للذته أو طيبه»، أي أن ما جعله يرغب في أكله هو أنه رزق حلال من الله تعالى وليس لإرضاء شهوة النفس بتناول العسل الشهي.
ردّ الشيخ على السلوك الفظ للجنود بأن وضع الصحن أمامهم وما تيسّر له من خبز كان يحتفظ به. استمر الجند في موقف الغطرسة وسخروا من ضيافة الشيخ وأمروه بأن يملأ الصحن بأكمله لأنهم كثر. لكن الشيخ أجابهم «كلوا يا أحبائي عندما يفرغ الصحن سنملؤه». بدأ الجند يأكلون من الصحن والصحن لا يفرغ من العسل كأن يداً لم تمتد إليه، بعد قليل تبدّلت حالهم وسيطر عليهم وجوم وأدركوا أنهم في حضرة أحد رجال الله فخاطبوه عندئذ قائلين: «يا شيخنا لا شك أنك ولي من أولياء الله، لكن الأوامر هي أن نأخذكم إلى الوالي في دمشق».
نهض الشيخ بتؤدة ومشى أمامهم من دون أن يبالي أو يعتريه أي وجل. أثناء الطريق طلب أحد الجنود من الشيخ أن يعظهم فاستجاب لطلبه وبدأ يشرح له «الفاتحة» ابتداءً بكلمة «الحمدُ» وبقي الشيخ الفاضل في شرح أول حرف من حروف سورة الفاتحة طيلة الطريق وكان لا يزال في شرح كلمة «الحمدُ» عند وصوله مع الجند إلى مجلس كجك أحمد في دمشق، علماً أن المسافة بين شويا ودمشق تستغرق أكثر من نصف نهار.
تقدّم أحد الجنود من الوالي ثم ركع وخفض رأسه وقال: «مولاي إقطع رأسي بدل رأس هذا الولي الطاهر لأنه في الحقيقة ليس رجلاً عادياً، فقد حصل معنا ما يشبه المعجزة فقد أكلنا جميعاً من صحن العسل ولم يفرغ من محتواه، كما إن الشيخ ابتدأ بشرح أول كلمة في سورة الفاتحة (الحمدُ) من بلدته شويا ولم يفرغ منها لتاريخ وصولنا إلى هنا».
إندهش الوالي أيّما اندهاش، ثم طلب من الشيخ الصفح والعفو عن سوقه بهذه الطريقة ثم أخلى سبيله وسمح له بالعودة إلى قريته.
ويكمّل المؤرخ عجاج نويهض سرده لتاريخ الشيخ فيقول: « إن الشيخ الفاضل ندم مرة في حياته، وذلك لبنائه مطحنة عند نهر الحاصباني، حيث اعتبر ذاك العمل تعلقاً بالدنيا وانشغالاً عن الآخرة. وهذه الطاحونة تقع في أرض قريتنا الفرديس عند مجرى نهر الحاصباني وتُعرف بإسم مطحنة الحسنة كون الشيخ الفاضل أوقف ريعها لخلوات وادي التيم، وقد روى أمامي صاحبها أنها كانت موقوفة من خلوة ينطا شمالاً إلى خلوة بلدة الماري جنوباً، وليس بزمن بعيد اشترى القسم الخاص بخلوات البياضة بعد أن كان والده قد اشترى الأقسام السابقة.
كما يروي عن لسان والده المرحوم الشيخ محمود سليقة أن القسم السفلي من البناء الداخلي للطاحونة حيث تصبّ المياه ليدار الدولاب الحديدي والذي بدوره يدير حجر الطاحونة أي ما يُعرف بلغة أصحاب المطاحن «بالبير» لم يزل لتاريخه من بناء ذلك الولي الطاهر.
ويكمل صاحب الطاحونة عن قدسيتها فيقول إن والده قد أوكل بها رجلاً من غير دينه كي يستغل مردودها ثم أوصاه أن لا يأكل لحم الخنزير أو يشرب الخمر أو يتعاطى المسكر في داخلها.
لكن الرجل المذكور وبعد مدة من الزمن خالف الوصية فذبح خنزيراً وتعاطى الخمر في المطحنة.
وذات يوم طلب الرجل إلى إبنه أن يصعد إلى أعلى المطحنة ويقطع الماء عن حجر الطاحونة كي يوقف دورانه، غير أن الصبي سقط في الماء من علو سبعة أمتار داخل الكوة التي يتساقط منها المياه على الدولاب الحديدي وعندما طافت المياه ودخلت إلى داخل المطحنة ركض البراك ونزل إلى داخل البير ليجد ولده متدلياً من الكوة، ثم أخرج الصبي وهو مغمى عليه. لكن بعد الاستغفار عادت الروح إلى الصبي وعاد الرجل إلى رشده ليرمي موبقاته في المياه متعظاً من كرامة صاحب المطحنة ثم أكمل توبته بوفاء النذر لخلوات البياضة وسواها من المزارات الروحية.

«أنت لا ظالم ولا عادل»

أنت لا ظالم ولا عادل
أنت لا ظالم ولا عادل

هذا ما أجاب به التقي النقي، العالم العابد، الناطق بالحق دفاعاً عن الكرامة والعرض والأرض صاحب السماحة شيخ عقل الموحدين في حينه الشيخ حسين ماضي الذي فاجأ جزار عكّا بإجاباته اليقينية وبصيرته وجرأته الفذّة. قبل تلك المواجهة بين الرجلين كان الأمير يوسف الشهابي قد تنصر سراً وهو أول من تنصر من أمراء السلالة الشهابية، وكان أن أراد الأمير إذلال الموحدين الدروز وعقالهم فقرر فرض ما سمي يومها «ضريبة الشاشية» على العقال الدروز. و«الشاشية» هي القماش الأبيض الذي يلفه العقال حول طربوش فينتج عن ذلك عمامة يتوجون بها رؤوسهم وهي العلامة المميزة للعقال الدروز عبر الأزمنة. وكان من خبث الأمير أو من أشار عليه بهذه المكيدة أنه لم يجرؤ على تسمية الضريبة بالضريبة على العمائم أو «اللفة» بلغة العقال فجعلها ضريبة على القماش الأبيض الذي يستخدم لإنتاج العمامة. وكان الأمير يعتقد أن الضريبة يمكن أن تحقق له أموالاً كثيرة لأن جميع الموحدين الرجال كانوا يعتمرونها ابتداءً من سن الخامس عشرة فكان يمكن أن تستحق بالتالي على معظم الرجال منهم.
ورداً على هذا السلوك الدنيء تداعى أعيان الدروز إلى اجتماع في نبع الصفا للبحث في كيفية مقاومة الضريبة وإسقاطها، وبعد التداول والتشاور قرّر المجتمعون رفع عريضة إلى الجزار وإرسالها مع وفد وفحواها يتضمن المطالبة بإلغاء تلك الضريبة المفروضة على المشايخ، وطرد الأمير يوسف من الإمارة لأسباب عديدة منها ارتداده عن الدين الحنيف وضعف شخصيته وقراراته أمام بعض أعوانه ومستشاريه والتلاعب بمصير البلاد والعباد.
وقبيل انفضاض ذاك الاجتماع حضر شيخ عقل الدروز آنذاك الشيخ حسين ماضي معتذراً عن التأخر لأسباب خارجة عن إرادته، وبعد أن عُرضت عليه مقررات الاجتماع، أبى إلا أن يكون هو الذي سيقابل الجزار ومهما تكون المحاذير.
عند وصوله إلى مقر الجزار في عكا، أذن له بالدخول على الوالي، فسلم عليه وقدّم له العريضة ثم أكمل شرح مضمونها بذاته مع تقديم الولاء والطاعة للباشا من قبل جميع الدروز وأعيانهم.
نظر الجزار مليّاً في العريضة ثم بادر الشيخ حسين ماضي قائلاً: طلباتكم مقضاة أيها الشيخ الجليل شرط أن تجيبني على سؤالي.
قال الشيخ: تفضل يا صاحب الأمر ما هو سؤالكم..؟
قال الجزار: ما رأيكم هل أنا ظالم أم عادل..؟ وهذا السؤال يُقال إنه كان يبادر به الداخلين عليه سواء كان احتجاجاً على بعض عمّاله أو لأي أسباب أخرى، وكان قراره المضمر التخلص منهم عبر إيجاد بعض الأسباب أو الحجج، بحيث يتم إيقاع القصاص بغض النظر عن جواب الرجل سلباً أم إيجاباً.
أجاب الشيخ حسين ماضي دون تردد وبكل رصانة ووقار: أيها الوالي الكريم. « أنت لا ظالم ولا عادل».
دُهش الجزار لهذه الإجابة ثم سأل الشيخ بعد إمعان طويل: كيف ذلك؟
قال الشيخ: حضرة الوالي، ما أنتم إلا عبدٌ بين يدي الخالق الديّان، وما هذه الجموع التي تأمرون بقتلها سوى أصحاب نفوس قد أشركت وكفرت بخالقها بعد أن ضلّت الطريق القويم وتعاليم الدين الحنيف، فاستحقت العقاب السماوي، وكان تنفيذ ذلك على أيديكم بأمر سريّ ذاتي من الخالق عزّ وجلّ.
زادت دهشة الجزار لبلاغة الجواب وحصافة الشيخ، ثم افترّ ثغره بعد أن هزّ برأسه مطولاً قائلاً:» يا شيخنا الجليل، لا شك أن إجابتكم هذه من عمق إيمانكم، فطلبكم مقضيّ ورغبتكم مطاعة… ثم أمر أحد غلمانه أن يقدّم هدية للشيخ عبارة عن كيس مليء بالنقود، أي ما يُعرف عند الملوك (بالسنيّة).
أجاب الشيخ بعد أن شكره على هذه الهدية القيّمة قائلاً: إنه لم يحمل المال طيلة حياته، وليس بحاجة إليه كونه لا يأكل إلا من كدّ ذراعه ومحصول رزقه وعرق جبينه. بعدها قدّم له عباءة صوفية.
شكر الشيخ البادرة الكريمة لكنه اعتذر عن قبولها بالقول: «لتاريخه لم أرتد فوق جسدي الفاني أي لباس إلا من حياكة نولي وربما أحد أتباعكم أحق بها منّي» .
ردّ الجزار بالقول: يا شيخنا لا أرضى إلا أن تقبل منّي هدية فهل تقبل هذا المصحف الكريم؟
سُرّ الشيخ لهذه الهدية الثمينة ثم قبّل المصحف ووضعه في صدره وقال: « ليس أثمن من هذه الهدية سوى العمل بموجبها» ثم انصرف حامداً شاكراً تصرف الجزار ومنته برفع ضريبة الشاشية، والشكر في قرارة نفسه لخالقه وعزّته. وقبل وصول الشيخ إلى الشوف عائداً عرف بخلع الأمير يوسف وتعيين الأمير بشير قاسم الشهابي مكانه مع إلغاء الضريبة وكأن شيئاً لم يكن من قبل.

الذهب امتحان الرّجال

الذهب امتحان الرجالa
الذهب امتحان الرجالa

ما دامت الأموال للتّرك جميعها فما بالُ متروكٍ به المرء يبخل
الإمام الحسين (ر)

الرجال ُ الرجال هم دُرر الزمان ومهما تعاقبت العقود والأعوام، باقون ماثلون قدوة بين الأنام.
هكذا كان مثل الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز بين مجتمعه وعشيرته، كرماً ورجولةً وإقداماً.
من بعض مآثره روى أمامنا الشيخ قاسم خير الدين، وكنّا نتجاذب الأحاديث في حانوته، قال: تشاءُ الصدف أن يزور الشيخ حسن جمّاز صديقه الحاج محمد أفندي العبد الله في بلدته الخيام أوائل الثلاثينات.
أثناء تواجده عند مضيفه طرق الباب مساءً شابٌ من آل أبو جبل من بلدة مجدل شمس وقصده الضيافة والمنامة.
بعد السهر والتسامر حديثاً وضيافة، فرش الحاج لضيفيه في غرفة الضيافة وتركهما يخلدان للنّوم.
مع الصباح نهض الشاب وقصده الخروج باكراً، لكنه عندما فتّش جيوبه لم يعثر على ثلاث ليرات ذهبية كان قد أحضرها لأمر خاص به.
تمتم وهمهم وقطّب الحواجب، وأخذ يغدو ويروح في أرض الغرفة، بعد أن تفوّه بكلامٍ مبطّن غير معهود، وكأنه يوجّه الاتهام للشيخ النائم شريكه في غرفة الضيافة.
استفاق الشيخ على همهمته مندهشاً مستغرباً لما سمعته أذناه، ثم استفسره بالقول، ماذا تقصد يا بنيّ؟
أقصد، أنه كان بحوزتي ثلاث ليرات ذهبية، فأين هي؟ لقد فتّشت ثيابي، وقلّبت الفراش الذي أنام عليه وحتى البساط المفروش ولم أجدها.
قال الشيخ: هل أنت متأكد أن الليرات كانت في جيبك عند مجيئك إلى هنا وإخلادك للنوم؟
نعم .وحتى انني تحسّست موضعهم في جيبي قبل النوم.
إذاً لربما تقصدني بالتهمة؟!
سكت الشاب بعد أن قلّب راحتيه وقال: لربما كان صاحب المنزل أو أحد أفراد عائلته.
كأن صاعقة سقطت على الشيخ الذي صرخ بالشاب: إلى هنا وصلت وقاحتك، فهل جُننت؟ وهذا جزاء الضيافة والمنامة؟؟ ثم سأل الشاب الأرعن:
كم فقدت .. أفصح .. كم فقدت ؟؟
أجاب: ثلاث ليرات عصملية «أي عثمانية».
انتظرني حتى آتيك بهم، فأنا السارق وكفى…
خرج الشيخ إلى صديقه الحاج الذي كان جالساً في الجناح الآخر من المنزل وانزوى به قائلاً : إنني بحاجة إلى ليرتين ذهبيتين لأمر مهم وقريباً سأعيدهم لك إذا قدّر الله.
غاب الحاج قليلاً ثم حمل إلى الشيخ عشر ليرات بدل اثنتين وقال: خذها فإنني بغنى عنها.
شكر الشيخ ضيفه وأجابه: إنني بحاجة إلى ليرتين لا غير ..
عاد إلى الشاب وناوله الليرتين الذهبيتين مع ليرة ذهبية كانت بحوزته وقال: أعتقد أن حقك قد وصلك ومع هذا إذا كنت عائداً لبلدتك فسلّم على صديقنا الشيخ كنج أبو صالح، ورجائي الوحيد أن لا تخبره بما حدث…
هذا السلام المستغرب أثار حيرة الشاب وأخذت الأفكار تتسارع في مخيلته بين التصديق والتكذيب لما حدث، وكيف تحدّث مع رجل بهذا القدر، لكنه بقي على شكوكه وكان يخاطب نفسه:: «إذا لم يكن الشيخ قد أخذ الليرات فمن أين جلبهم؟؟ المهم أنني استعدت مالي!!
في طريق عودته، تذكّر أنه بعد خروجه من منزل أقاربه في بلدة الماري استظل فيء إحدى الأشجار قرب نبع (القرشة) بعد ان رفع رجليه فوق صخرة متواجدة هناك قصد الاستراحة من عناء السير.
لذا، قرر المرور بالمكان الذي استرخى عنده لعلّه يكون قد أساء الظن فيجد هناك ما فقده. فكّر بذلك لـ «قطع الشك» كما يقال إذ إنه كان على يقين بأنه تحسس الليرات الذهبية في جيبه قبل أن يخلد إلى النوم في بيت مضيفه.
لكن حدث أن وجد الشاب ليراته الذهبية على الأرض في المكان الذي قصده للإسترخاء وبدا أن النقود انزلقت من جيبه عندما رفع رجليه ليريحهما.
صعق الشاب وتمنى عندها فعلاً لو أن الأرض تنشق وتبتلعه في ظلماتها.
أنّب نفسه كثيراً وأحس بالفضيحة تزلزله وأدرك حجم الإثم الذي ارتكبه بحق ذلك الشيخ الجليل وبحق ضيفه.
قرّ رأيه على أن يذهب فوراً إلى منزل الشيخ كنج أبو صالح قبل الوصول إلى بيته، ثم دخل عليه وحيّاه قائلاً : يا شيخنا، لا أعرف من أين تأتي المهابط.. وكيف يجلب الإنسان لنفسه الذلة والإهانة وقلة الكرامة …
خير إن شاء الله، ما بك يا بني ؟ أجاب الشيخ كنج أبو صالح.
تنهّد الشاب وقال:
أولاً أبلغك السلام من صديقك الشيخ أبو يوسف حسن جمّاز، وفي الحقيقة لا أعلم كيف سأقابله لأعتذر منه، وحتى إذا سمح لي بأن ألثم حذاءه.
قال الشيخ: أفصح يا بني ما الذي جرى لك؟؟
هزّ الشاب برأسه بأسى وأخبره بما حدث له من الألف حتى الياء كما يقولون.
هوّن عليك. قال الشيخ كنج وإن تكن فعلتك كبيرة ولا يماثلها في الحقيقة إثم حتى أنني لم أسمع بمثلها حتى هذه الساعة. إذ كيف سمحت لنفسك بتخوين شيخ وقور مؤمن صادق، كالشيخ أبو يوسف، وكيف قبلت النقود منه قبل أن تتحقق من أنك أضعتهم فعلاً؟؟ إنه سوء حظ وقلة توفيق حقاً.
صدقت .. صدقت .. يا شيخي الكريم، لكن ما العمل وكيف يمكنني أن أكفّر عن هذا الفعل الشنيع؟؟ كيف سأقابله وليس بإستطاعتي المثول أمامه أو النظر إليه، وطلب الصفح منه وردّ الدراهم؟؟
تفكر الشيخ كنج ثم قال: إذهب إلى بلدته شويا فستجده قد عاد ليأخذ ما استدانه كي يعيدهم إلى صديقه لاعتقادي الكامل أنه قد أخذهم منه. إذهب على الفور ولا تتأخر وبلّغه سلامنا، وأخبره مفصلاً بما حدث معك، وقُل الصدق ولو فيه المشقة، ثم اعتذر إليه وقبّل يديه وجبهته وقل له هكذا أوصاني صديقك أبو كمال.
واعلم يا بني أن الرجال الكبار أمثاله إنما كبر مقامهم في عشيرتهم بسبب رجاحة عقلهم وسعة حلمهم. ثم ذكر له أن الشيخ المظلوم تبرع يوماً بخمس ليرات ذهبية لنازحين من أبناء منطقته إلى بلاد الجليل بعد ثورة الـ 25 رغم كونه مهجّراً ووضعه المادي صعباً للغاية وأبلغه أيضاً أنه دفن ولده سليم وشقيقه قاسم بيديه في أرض المعركة قرب مرجعيون خلال ثورة الخمس والعشرين، وعندما عاد إلى بيته مع رفاقه الثوار طلب إلى زوجته إحضار الطعام كي يأكل الجميع، قبل أن يخبرها أنه فقد فلذة الكبد وعينه اليمين.
بعد سماع كل هذه الأنباء والمآثر عن الشيخ توجه الشاب إلى بلدة شويا وهو يضطرب خجلاً وعند وصوله رمى بنفسه على قدمي الرجل محاولا أن يقبّل رجليه لكن الشيخ أبو يوسف ردعه مستهجناً قائلاً له:
استغفر الله، استغفر الله، هذا لا يجوز.
ثم قصّ الشاب له ما حدث معه وكيف أوصاه صديقه الشيخ أبو صالح بالعودة فوراً وتقديم الإعتذار قبل الدراهم آنذاك.
تبسّم الشيخ أبو يوسف وقال: إجلس يا بني، إجلس. سامحك الله وأبرأ ذمتك. ولتكن فعلتك كما يقول المثل «لكل نفس غفلة، ولكل فرس كبوة.»

أقوال في المروءة
وعلو الهمّة

أربعة تؤدي إلى أربعة :
1. الصمت إلى السلامة.
2. البــــر إلى الكرامــة.
3. الجــود إلى الســـيادة.
4. الشـــكر إلى الزيــادة.
أربعة تعرف بأربعة:
1. الكاتب بكتابـــه.
2. العالم بجوابــــه.
3. الحكيم بأفعالـــه.
4. الحليم باحتمالـه.
أربعة لا يخلو منها جاهل:
1. قــــول بلا معنـــــى.
2. فعــــل بلا جــــدوى.
3. خصومة بلا طائــل.
4. مناظرة بلا حاصـل.
أربعة من علامات اللئيم:
1. إفشاء الســــر.
2. اعتقاد الغــدر.
3. غيبة الأحرار.
4. إساءة الجوار.

لغز الحلاج

لغــــز الحــــلّاج

هل كان متعجلاً في البوح بالأسرار
أم مشى بإرادته إلى التضحية الكبرى؟

كان مثالاً ساطعاً على ما يمكن للحب الإلهي أن يصنعه في العاشق
وقد ذاق من كشوفات العشق ما أحرق في قلبه كل تعلق بالحياة

دافع الغزالي عن شطحاته باعتبارها «سكراً صوفياً»
وحذره الجنيد من البوح بالأسرار وتنبأ بصلبه

من أقواله
ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة
وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشدّه

«بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنســـــر في طرفـــــة عيــن»

جلال الدين الرومي

دخل الحسين بن منصور الحلاج التاريخ الإسلامي كأشهر الصوفيين الذين قتلوا على يد الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية، وقد تعرّض الحلاج لميتة شنيعة إذ قطعت أطرافه وحزّ رأسه وأنزل جثمانه عن منصة الصلب وأحرق وألقي رماده في نهر دجلة. وكان لميتة الحلاج بهذه الطريقة وقع عظيم في التاريخ الإسلامي بل الإرث الروحي العالمي، ثم أدى اكتشاف مفكر فرنسي يدعى لويس ماسينيون لشخصية الحلاّج في مطلع القرن العشرين الماضي، من ضمن اهتمامه بدراسة الإسلام، إلى افتتان تام من قبله بهذه الشخصية الغامضة والعبقرية، مما جعله يكرّس معظم حياته الأكاديمية للتنقيب في آثار الحلاج ومحاولة تكوين رواية دقيقة عن حياته وزمانه وتعاليمه مستعيناً ببحث حثيث في الآثار والمدونات الإسلامية، وساهم كتاب ماسينيون الذي أصدره بالفرنسية عام 1922 بعنوان «آلام الحلّاج» في اشتهار أمر هذا الصوفي بصورة غير مسبوقة وتحوّله إلى مادة غنية تلهم الشعراء والكتاب ومفكري الصوفية المعاصرين.
أظهر ماسينيون أن الحلاّج مات مظلوماً ونتيجة لبيئة الدسائس والصراعات الحادة للعقائد الإسلامية المختلفة في زمن الخليفة المقتدر. وقد دهش ماسينيون لحياة الحلاّج المضطربة وتعاليمه الجريئة ولمح فيها شبهاً كبيراً بحياة المسيح، إذ كان الحلاّج وعلى غير عادة الصوفية يخرج إلى الأسواق ملقياً دروسه بين العامة كما أنه الوحيد بين كبار الصوفية الذي استخدم القوى الخارقة والكرامات وأظهرها على الملأ، فكان حسب إبن الأثير يخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمدّ يده في الهواء فيجتمع فيها دراهم ضرب عليها «لا إله إلا الله» فينثرها على الناس -وكان يسميها «دراهم القدرة»- أو كان ينبئ الناس بأسرارهم ويخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدخرون. وبنى ماسينيون هنا مقارنة أيضاً بين الحلاج وشخصية عيسى بن مريم وما كان يجري على يديه من خوارق بين الناس بإذن ربه.
لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن أوساط الصوفية في كل الثقافات تزخر بقصص الكرامات، لكن أحد أهم آداب الصوفية هو تحريم إظهار تلك الكرامات لأنها تورث العجب وتقطع الطريق، وقد ربط بعض خصوم الحلاّج بين القدرات التي كان يظهرها وبين رحلته الطويلة إلى الهند والتي اختلط خلالها بكهان الهندوس وفقرائهم.
لكن سواء جلب الحلاّج معه تلك القدرات من رحلته إلى الهند أم اكتسبها من باب المجاهدات فإنه اعتبر مخالفاً لقواعد الصوفية بعرض تلك القوى للعامة ولأنه هتك بذلك أستار الحقيقة وعرّضها لسوء الفهم، كما سبّب الحرج والضيق لمشايخ زمانه من اهل الكتم والرصانة والبعد عن فضول العامة والشهرة.
ثم زاد الحلاّج على تلك السابقة تركه لتقليد الصوفية بمراعاة عقائد العامة والكتم وعدم التصريح بحقائق الاختبار الصوفي وأحواله بما يتجاوز التلميح أو حتى تجاهل السؤال كما فعل أبو حامد الغزالي عندما سئل عن حقيقة اختباره الصوفي فأجاب باقتضاب: «ظن خيراً ولا تسأل عن الخبرِ».
أخيراً فإن صخب الحلاج وتحركه الواسع بين الناس وأسفاره وحتى دخوله في الاختلافات السياسية التي كانت تدور في كواليس الدولة وفي بعض أمصارها ساهمت في استثارة الحاكم وقيام تحالف واسع من الخصوم ضده وابتعاد حتى رفاق الصوفية المشهورين مثل الجنيد وأبو بكر الشبلي وعمر المكي عنه وتنصلهم من بعض أقواله.
السؤال الكبير في قصة الحلاّج هو لماذا قرّر هذا الصوفي الجليل ذو المواهب والرؤى العرفانية واللغة الساحرة في قوة تعبيرها ومشاعر الحب المتدفق، أن يخرج عن تقليد الصوفية بالكتم فيبوح بأسرار وأحوال كانت حتماً دون طاقة العامة أو حتى المؤسسة الدينية على الفهم أو الاحتمال؟ هل كان أخرق فعلاً بمعنى أنه لم يكن يدرك تبعات عمله (وهذا مستبعد من رجل برجاحة عقله ومكانته الروحية وذكائه) أم أنه سعى بعلمه وإرادته لأن يكون مشروع شهيد؟ وفي جميع الحالات كيف نفهم الحلاّج وكيف نفهم مأساته؟ وهل سعت تلك المأساة وما رافقها من عذابات إليه أم أنه على ما يرجح سعى إليها؟ وما هو السر الذي أخذه معه على خشبة الصلب؟
هناك لا شك في ذلك سرّ كبير في حياة هذا الصوفي، بل إن حياته كلها من بدايتها وحتى نهايتها لغز كبير، وقد أغرق الحلاّج الناس في حيرة كبيرة عندما كان حياً ودفع بهم إلى حيرة أكبر بل إلى اندهاش وذهول بموته، وأكبر دليل على حياته اللغز هو الانقسام الكبير الذي قام حوله بين تقديسه من قبل أتباعه والدفاع عنه بل تعظيمه من قبل أعلام كبار مثل الغزالي وجلال الدين الرومي وبين اعتباره زنديقاً مارقاً من الدين من قبل بعض أوساط المؤسسة الدينية وعلماء كبار مثل إبن تيمية.

بعض الإشارات التي قد تساعد في فهم لغز الحلاج:

لويس ماسينيون في مصر
لويس ماسينيون في مصر

• مجاهداته القاسية جداً
روى ابن الأثير أن الحجاج قدم من خراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام فيها سنة في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء أو صيف وكان يصوم الدهر فإذا جاء العشاء أحضر له الخادم كوز ماء وقرص خبز فيشرب الماء ويعض من القرص ثلاث عضات من جوانبه ويترك الباقي، ولا يأكل شيئاً آخر النهار. وكان شيخ الصوفيين في مكة عبد الله المغربي يأخذ أصحابه إلى زيارة الحلاّج فلم يجده في الحجر وقيل قد صعد إلى جبل أبي قبيس، فصعد إليه فرآه على صخرة حافياً مكشوف الرأس والعرق يجري منه إلى الأرض. فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلمه وقال: هذا يتصبر ويتقوى على قضاء الله وسوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته. بعد ذلك روى أحد تلامذته أنه كان أحياناً لا ينام مضطجعاً بل واقفاً أو كان ينام القرفصاء لساعة واحدة.

• خصومته الشهيرة للنفس
اشتهر الحلاّج بخصومته الحادة لنفسه، وهو تقليد صوفي يعتبر النفس الأمارة أكبر قاطع للترقي الروحي لكن الحلاج ذهب في تلك الخصومة إلى شوط لم يبلغه أي من الصوفية لا من قبل ولا من بعد. فمن أقواله «إن النفس أخبث من سبعيني شيطان» وقد دخل بعد حجته الثالثة والأخيرة إلى مكة في مرحلة مختلفة تماماً عن مسيرته السابقة، إذ وصل بعدائه لأهواء النفس إلى دعوة الناس لقتلها -أي عملياً لقتله، ففي جواب على سؤال أحد المقربين منه قال إنه يسعى لـ «قتل هذه الملعونة» وقصد بذلك النفس الأمارة ثم أضاف:« ولكنني أغريهم على الحق، لأن عندي قتل هذه من الواجبات، وهم إذا تعصبوا لدينهم يؤجرون». وهذه المقولة سيعود إليها الحلاّج في ما بعد في أكثر من مناسبة وهي أنه من واجب الناس أن يقتلوه «تعصباً لدينهم» وأنهم بذلك يؤجرون. وكان في أوجّ تمرده وقبل فترة من سجنه تمهيداً لمحاكمته يمشي في أسواق بغداد صائحاً بالناس: «أيهــــا الـنـاس ، اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي فاقتلوني، اقتلونــي تؤجروا وأسترح، اقتلوني تكتبوا عند الله مجاهدين وأكتب أنا شهيداً»
وتحدّث أحد تلامذته أنه جاء يوماً لرؤية الحلاّج في داره فرآه في حال من الغيبة يناجي الله، فلما فطن إلى وجوده اعتدل وجلس وقال له اقترب ولا تخف ثم قال: يا بني إن بعض الناس يشهدون عليَّ بالكفر وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون عليَّ بالكفر أحب إليَّ من الذين يقرون بالولاية.
سألته، كيف يكون ذلك؟ أجاب: لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون عليّ بالكفر يشهدون تعصُّباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحبُّ إلى الله ممن تعصب لأحد.
ثم قال لي: كيف أنت يا إبراهيم، حين تراني وقد صلبت وقتلت وأحرقت؟ وذلك أسعد يوم من عمري جميعه!

• استعداده وتقبله للبلاء
كان الحلاّج إذاً مطلعاً في سره على نهايته المرتقبة وكان مستعداً لها بل ومرتقباً لها كما لو كانت الخاتمة المحررة له من وهم وجوده. وبالطبع كثير من الدهريين يجدون صعوبة في فهم هذا القول لكن الحلاّج مثل الكثيرين من الصوفية كان يعتبر الموت خلاصاً من ربقة الجسد والنفس وبلوغ الأرب الأكمل، وفي أدبياته النثرية والشعرية أكثر من إشارة إلى أنه كان متألماً في بدنه وفي سجن الدنيا، وكان من شدة ولعه بالله تعالى يضيق صدره بأيامه ولا يقرّ له قرار فكان لذلك دائم الأسفار هائماً في الاقطار لا يكاد يحط رحاله في أرض حتى يعود فيوجه وجهه نحو أرض جديدة. أليس هو القائل:
«لو قطعتني بالبلاء إرباً إرباً ما ازددت إلا حباً حباً»
وفي إحدى مناجياته قوله:
«والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حِدث، ثم إذا نطقتُ عن القِدم ينكرون عليّ ويشهدون بكفري، ويسعون إلى قتلي، وهم بذلك معذورون، وبكل ما يفعلون بي مأجورون».

” لم يتردد في إظهار الخوارق العجيبة كأن يرفع يده في الهواء ويعيدها وقد امتلأت دراهم ينثرها في الأسواق أو يخبر الناس بأسرارهم وأدق خواطرهم “

• توسّله لربّه
بل إن الحلاّج كان حتى في مناجياته يتوسل إلى ربه أن «أسألك أن لا تردني إليّ بعد أن اختطفتني مني، ولا تريني نفسك بعد أن حجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك» فهنا الحلاج يبتهل لربه العزيز أن يكثر من أعدائه القائمين على قتله، وهذا كلام مدهش لأنه يعكس شعور رجل موله بالله تعالى ويستعجل اللقاء ورفع الغطاء والبلاء المنجي وسقوط الحجاب الجسماني.
فاعلموا أني شهيد ..
وفي مقطع شعري جميل يتنبأ الحلاّج بموته المرتقب شهيداً للحب الإلهي فهو يقول:
لا تـَلمنّــــــــــــي فاللـــــــــــــــوم منــــــــــّي بـــعيـــــــــــــــــــــــــــــــد وأَجِـــــــــــــــــــرْ ســــــــــــــــــــــيـّدي فإنـــــــــــــّي وحيــــــــــــــــــــــــد
إنّ فـــــــي الوعد وَعْـــدك الحقّ حقاً إنّ فــــــــي البدء بدء أمـــــــري شـــديــــــــــــــــد
مَـــــن أراد الكتـــــــاب هذا خطـــــــابــــــي فـــــــاقـــــــرأوا وأعلمـــــــــوا بأنّـــــــــــــــــي شـــهيـــــــــــــد
ثم وقبل يوم من تنفيذ الحكم بصلبه وقتله، بعث الحلاج برسالة بليغة إلى صديق له أعرب فيها عن فرح كبير وصفه بهذه الكلمات:
«دنا ميقات الانبعاث، وكوشف أبو الغيب بالغياث، فعلام الحزن والأمر هُيّىء وفيم القلق والصراط سويٌّ، فالله الله إخوان الصفاء مِن شكٍّ يتداخل الجوانح، ومن غشٍّ يتمالك الجوارح، الحبيب استزار حبيبه، والمريض أمّ طبيبَه، وفي غد يكون العرس فانتقبوا، تناولت صفات الصفات، ودنا الأجل للميقات، وفي غد تسفر سافرة المكتوم، وتبرز مخبّآت الصدور، وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبِّه لهم.»

• نبوءة الجنيد
ذكر أن الحلاج افترق أخيراً على خلاف مع الجنيد الذي حاول نصحه بالإعتكاف والإعتدال في تعبيراته الشعرية التي باتت تميل نحو الشطح حاملة دعاوى جريئة لا يقبلها الشرع. ويبدو أن الجنيد ختم الجلسة بسؤال غريب للحلاّج قال فيه: أتدري أي خشبة ستفسدها؟ في ما بدا أنه نبوءة من مرشده بنهايته المرتقبة على منصة الصلب. وقد أجاب الحلاّج على ذلك بالقول: «عندما سأكون أنا على الخشبة ستكون أنت بين مشايخ الرسوم» أي أن الحلاّج تنبأ أيضاً أن أستاذه الجنيد سيأخذ في النهاية جانب الشرع ويتركه يواجه مصيره لا من قبيل الإساءة بل من قبيل الغيرة على طريق الصوفية بعد أن قرر الحلاّج التفرد بمواقف لا سبيل للتصوفية بمجاراتها.
في كل ما سبق نستنتج أن الحلاّج كان يتبع مصيراً مرسوماً وقد أنبأ هو به كما أنبأه به أستاذه، لكن ما لا يمكن لأحد أن يعلمه -وهذا هو أحد جوانب اللغز الحلاجي- هو هل كان الحلاّج يسعى بنفسه إلى ما حصل أم أنه كان ببساطة ينبئ بما قد كتب ويقبل به كتضحية كبرى في طريق العشق الإلهي والفناء التام بالله.
وقد أجاب شاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي على هذا السؤال بأسلوب التورية الرائع الذي اشتهر به إذ قال:
«بلغ الحلاّج قمّة الكمال والبطولة كالنســـــر في طرفـــــة عيــن ».

• خطاب لا ينسى
أما الحلاج نفسه فقد أجاب على السؤال بمشهده الذي لا ينسى على خشبة الصلب في مناجاة فريدة طلب فيها الصفح لقاتليه بكلمات فيها من الجلال والعظمة بقدر ما حملت من جمال التعبير والطهارة ورقة الشعور. من ما قاله:
«وهَؤَلاءَ عِبَادُكَ قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى
تَعَصُّباً لدِينكَ وتَقَرُّباً إليْكَ فاغْفرْ لَهُمْ !
فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِي لما فَعَلُوا ما فَعلُوا
ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّي مَا سَترْتَ عَنْهُمْ لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ»
ثم وجه الحلاج كلامه إلى جلاديه وإلى الجمهور الذي اجتمع على مشهد الصلب وتلا عليهم فعل الفرح بنبذ الوجود الشحماني والفناء السعيد بالله. ومما جاء في شعره:
اقــــتــــــــــلــونـي يــــــــــــــــا ثـــقـــــــــــاتــــــــــــــــي إنّ فــــــي قتــــْلـــــــــي حياتــــــــــي
وممـــــــــــــــــــاتـي فــــــــــي حياتـــــــــــــــي وحيــــاتـــــــــــي فـــــــــي ممـــــــاتــــــــــــــي
أنّ عندي محْو ذاتــــي مــــــــــــن أجّـــــــــــل المكــــــرمـــــــــات
وبقائــــــــــــــي في صفــاتـــــــــــــــي مـــــــــــــــن قبيــــــــــــــح السيّئـــــــــــــــات
سَئِمَتْ نفسـي حياتــــي فــــــــي الــــــرســوم البـــــاليـــــــــات
فاقتلـــونـــــــــي واحــرقــونــــــــــــي بــــــعظـــــــامـــــــــــــــــــي الفـــــــــانيــــــــــــــــات
ثـــــــــــــم مــــــــــــــــــــــــــــرّوا بـــــــرفـــــــــــــــــاتـــــــــــي فــــي القبـــــــور الدارسـات
تجـــــــــــــــــدوا ســـــــــرّ حبيبـــــــــــــــــي فــــــي طـــوايـــــــــــــــــا البـــــــاقيـــــــات
إننـــــــــــــــــــــــي شيـــــــــــــــــــــــــخ كبيــــــــــــــــــــــــر فـــــــــــي علـــــــــــوّ الدارجـــــــــــات
ثــــــــــــــــم إنـّي صـــــــرتُ طفــــلا في حجور المرضعــات
كان الحسين إبن منصور الحلاج مثالاً ساطعاً على ما يمكن للحب الإلهي أن يصنعه في العاشق، وقد ذاق من كشوفات العشق، حسب ما عبّر في شعره، ما أحرق في قلبه كل ذرة تعلق بالحياة الفانية، بل أدى ما ذاقه من أنوار الكشف والغيبة في الحقيقة إلى حال بات معها متضايقاً من وجوده المادي، وقد بات يرى فيه سجناً وعذاباً هان عنده عذاب الخلاص العنيف من الأسر الشحماني. وكان الحلاج في ذلك ولا شك فريداً وغريباً بل وصادماً. لقد كان طريق التصوف على الدوام شاقاً لا قبل بالثبات عليه إلا لأولي العزم من الصفوة المختارين، وقد شرح الحلاج مدى وعورة هذا الطريق بالقول في رسالة كتبها إلى أحدهم قال:
«عزّ من يقصد هذا الطريق، وقلّ ثم عزّ من القاصدين من يسلكه، ثم عزّ من السالكين من يصل إلى المقصود، ويظفر بالمطلوب، وهم الذين اصطفاهم الله معرفة ومحبّة، ومدّهم بتوفيقه وعظمته، ثم أوصلهم بفضله ورضوانه إلى جنته».

جلس في الحرم لسنة كاملة لا يبرح مكانه إلا لحاجة صائما قائما في الشمس الحارقة أو في برد الليل القارس
جلس في الحرم لسنة كاملة لا يبرح مكانه إلا لحاجة صائما قائما في الشمس الحارقة أو في برد الليل القارس

لكن الحلاج ليس وحيداً في هذا الطريق، فقد سار عليه من قبله كثيرون من أهل الصفوة وبلغوا ما بلغوه من ذرى العرفان عبر صنوف المجاهدات والمكابدات، لكن ما انفرد به الحلاج هو ولا شك إندفاعه في معراج الفناء بالله إلى حد القبول بالتضحية الكبرى وهي قتل النفس. لكن لا يضعه ذلك بالضرورة في منزلة أعلى من الجنيد أوالشبلي أو الرومي أو البسطامي أو غيرهم، فهو افترق عن صفوة القوم ليس بأسرار العرفان أو كشوفات الحقيقة بل بمنزلة البلاء وبما نفذ فيه من أمر القدرة لحكمة خفية، وهذه الحكمة جاهد كثيرون في محاولة فك لغزها لكنها ستبقى أمراً خفياً وجزءاً من سر الحلاج الذي سيبقى عند ربه على مرّ الدهور.
يجب القول أيضاً أن الحلاج رغم كل ما أثاره بعض الغلاة والمتعصبين ضده من اتهامات لا يختلف في تعليمه واختباره الصوفي عن عموم مشايخ الصوفية من حيث ورعهم وتقواهم والتزامهم القرآن والسنة وقيامهم بالفرائض والسنن وهذا المبدأ مقر في جميع الطرق وفي كل تعاليم الشيوخ. وها هو الحلاج نفسه يخبر:
«ما تمذهبت بمذهب أحد من الأئمة جملة، وإنما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشدّه، وأنا الآن على ذلك، وما صلّيت صلاة فرض قط إلا اغتسلت أولاً، ثم توضأت لها، وها أنا ابن سبعين سنة وفي خمسين سنة صليت صلاة ألفي سنة كل صلاة قضاء لما قبلها»
أما الشطحات التي نطق بها في بعض تعابيره الشعرية أو بعض ما نقل عنه فإنها لم تكن مختلفة كثيراً عن بعض ما قاله أبو بكر الشبلي أو أبو يزيد البسطامي وغيرهما لكن الفارق أن الشبلي الذي تعرّض لخطر اتهامه بالزندقة تراجع عما نسب إليه وادعى الجنون بل إنه ذهب إلى المارستان (دارحفظ المجانين) لبعض الوقت للتأكيد على أنه قال ما قال في حال من فقدان الإدراك، بينما رفض الحلاج الاعتذار عن تلك الشطحات أو تبريرها. لهذا السبب قال الشبلي بعد مقتل الحلاج :أنا والحلاج أمر واحد لكن جنوني أنقذني وعقله قتله».
وقد دافع المتصوفة الذين جاءوا بعد الحلاج، بل وبعض علماء الدين عنه وعلى رأس هؤلاء الإمام أبو حامد الغزالي الذي لم يتردد في أخذ جانب الحلاج فكتب في كتابه «مشكاة الأنوار» أن شطحاته مثل قوله «أنا الحق» أو «ليس في الجبة إلا الله» وإن كانت تعابير ينبو السع عنها وعن ذكرها إلى أنها انبعثت من حال سكر سببه فرط الوجد والمحبة كمثل قول الحلاج:
أنا من أهوى ومن أهوى أنـــــا نحــــن روحان حللنــــا جسدا
فــــــــــــــــإذا أبصــــــــــــرتنــــــــــــي أبصــــــرتــــــــــــــــــــه وإذا ابصــــــــــــرتـــــــــــــــــــه أبصــــــــــرتنـــــــــــــــــــــــــــــا
وفي الحقيقة فإن أكثر الذين دافعوا عن شطحات الصوفية ردّوها غالباً إلى حال السكر التي قد تعتري الصوفي فينطق خلالها بأقوال هي من وارد عالم غيبي قد لا يمكن شرحها أو تفسيرها بعنصر المنطق أو العقل.
• الصحو والسكر
وقد شرح الحلاج بنفسه منابع تلك الشطحات عندما قال: «من أسكرته أنوار التوحيد حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التوحيد نطق عن حقائق التوحيد، لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتوم» لكن ما هو المكتوم؟ إنه أنوار الحقائق اللدنية التي تنجلي للصدور لكن لا يكون لأي تعبير أو لغة القدرة على وصفها أو شرحها. وهذا ما قصده الحديث القدسي الذي حمل وعد الله جل وعلا لعباده الصالحين بـ «ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» لأن الحقيقة ليس من صنف الخاطر البشري ولا يمكن تصورها أو وصفها، وهذا أصل ورطة الصوفي المنخطف بأنوار التحقيق والتوحيد عندما يسعى للتعبير عن اختبار لا ينتمي إلى عالم اللغة أو قاموس الأحاسيس البشرية.
لكن الحلاج كان شديد الوضوح في رفضه للحلولية إذ جاء في قول له:
«من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر، فإن الله تفرّد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجه من الوجوه، ولا يشـــبهونه بشـــــيء من الأشــــياء، وكيف يُتصور الشبه بين القديــــم والمحدث؟»
وليس هناك أوضح من هذا التأكيد على أنه لم يدع هذه الأمور وإن من الضروري بالتالي التفريق بين آرائه الصوفية في حال الصحو وبين بعض التعبيرات التي صدرت عنه في حال الغيبة عن نفسه والسكر الصوفي.
وهو في مكان آخر يصف التحقق الصوفي بأنه «الاستهلاك في حقائق الحق، والفناء عن جميع صفات الحق» وهذا الوصف يشترك فيه جميع الصوفية ومفاده أن العبد عبد والرب رب وأنه لا امتزاج ممكن بين القديم والمحدث. وللحلاج أدعية ومناجيات في غاية العذوبة يخاطب فيها ربه جل وعلا ويشكو تباريح الشوق التي تلهب كيانه فهو بكل بساطة عبد ثمل في الله.
وهناك عبارة جميلة يصف بها الفناء في الله (وليس الحلول المزعوم) يقول:
إذا اراد الله أن يوالي عبداً من عباده فتح عليه باب الذكر، ثم فتح عليه باب القرب، ثم أجلسه على كرسي التوحيد، ثم يرفعه عن الحجب، فيرى الفردانية بالمشاهدة، ثم أدخله دار الفردانية، ثم كشف عن الكبرياء والجمال، فإذ رفع بصره على الجمال بقي بلا هو، فحينئذٍ صار العبد فانياً، وبالحق باقياً، فوقع في حفظه سبحانه، وبُرِّئ من دعوى نفسه».
هذه مقدمة موجزة ليس الهدف منها تقديم تحليل شامل للشخصية الملغزة والفريدة للحسين بن منصور الحلاج، فهذا الأمر يتطلب الكثير وهو موضوع واسع، لكن الهدف هو تقديم صورة حقيقية عن شخصيته بما يساعد على تذوق الأقوال والتعبيرات الشعرية الرائعة -التي سنورد مقتطفات وأمثلة منها- وفهمها في إطارها وسياقها، وربما أيضاً محاولة التأمل في بحورها العميقة. وهذه المقتطفات نعرضها في الجزء التالي.

مقام الحلاج
مقام الحلاج

الحسين بن منصور الحلاّج

الحلاّج هو الحسين بن منصور المولود عام 858 م. في قرية طور في الشمال الشرقي لمدينة البيضاء من مدن مقاطعة فارس بإيران ومن أبنائها العلامة النحوي سيبويه.
بعد ولادته انتقل والده بالأسرة من بلدته وتوجه إلى واسط في العراق، وهي مدينة بناها الحجاج الثقفي، وكانت تلك الناحية من العراق مشهورة بزراعة القطن وتصنيعه، وعمل والده في حلج القطن فسمي الحلاج وانتقلت الكنية إلى الحسين.
وروى ابن خلكان في وفيات الأعيان ان الحسين ابن منصور ساعد رجلاً من واسط – وهو قطان- في حلج قطنه وغاب الرجل عن محله لبعض الوقت وعندما عاد وجد كل قطنه محلوجاً وكان 24 ألف رطل فذهل وأطلق على الحسين، لقب الحلاّج فلازمته الكنية بعد ذلك.
وروى ابن كثير أن أهل الأهواز أطلقوا عليه هذه التسمية لأنه كان يكاشفهم بما في قلوبهم فسموه «حلاج الأسرار».
لفت الحسين ابن منصور إليه الأنظار منذ طفولته بذكائه المتوثب وروحه المنطلقة وحبه للعلم والمعرفة وقد حفظ القرآن الكريم وهو في العاشرة من عمره وتعمّق في معانيه واشتهر بعزيمة هائلة في ممارسة الرياضات والمجاهدات الروحية ولم يعرف اللهو في حياته وكان كثير الصلاة والتأمل والخلوة.
أمضى الحلاّج صباه متنقلاً بين كتاتيب واسط في العراق، ثم انتقل إلى تستر حيث درس على يد سهل ابن عبد الله التستريّ، ثم إلى البصرة لينشئ علاقة طيبة مع عمرو بن عثمان المكّي الصوفي. ثم ترك البصرة قاصداً بغداد حيث طلب صحبة الشيخ الجنيد. تعرف أيضاً على أبي بكر الشبلي فيكون قد درس على يد أربعة من كبار متصوفة الإسلام.
كان ظاهرة غريبة لفتت الناس وأصبح اسمه على كل شفة ولسان بسبب هيبته وأقواله وكراماته وقد كان يعاشر الأمراء والقواد كما كان يلبس أحياناً لباس الفقراء وينزل داعياً في الأسواق. أرتحل الى خراسان ومعه العشرات من الاتباع يدعو الناس الى حب الله عز وجل وقضى خمس سنوات من التجوال قبل ان يعود الى الاحواز، ثم عاد الى مكة المكرمة مرة اخرى مع 400 من اتباعه وعاود الاختلاء بنفسه معتصماً بقمة جبل ابي قبيس. بعد حجته الثانية خرج الى رحلته الكبرى في سبيل الدعوة الى تركستان والهند واعتنق الاسلام على يديه خلق كبير جداً. وصل السند وكشمير الى طرفان وعظم امره في بلاد ما وراء النهر والهند والصين فكانوا يكاتبونه من الهند ويلقبونه «المغيث « أما أهل الصين فقد أطلقوا عليه لقب «المعين».
كان جريئاً في مواقفه ومقالاته فقد انتقد بطانة الخليفة كما انتقد المعتزلة وأيد الحنابلة وهم أشد خصوم المعتزلة وانتقد دور بعض كبار الموظفين النصارى في قصر الخليفة ومنهم ابن النوبخت الذي سيلعب دوراً مهماً في الكيد له وترتيب قتله.
لكن اللاعب الأهم في قتل الحلاج كان الوزير حامد الذي تمكّن من حبسه لسبع سنوات في دار المقتدر وأمضى تلك المدة في محاولة ترتيب محاكة له تؤدي إلى اتهامه بالزندقة وتبرر قتله وقد فشل حامد معظم تلك المدة لأن عدداً من القضاة لم يجدوا دليل إدانة أو تحرجوا من ظلم الحجاج كما ثارت الناس في الشارع وحصل هرج ومرج. أخيراً تمكن الوزير حامد من تشكيل محكمة جديدة جمع فيها بعض ألد خصوم الحجاج واستصدر حكماً بالقتل بالاستناد إلى فتوى منسوبة إلى مذهبه بإمكان الاستعاضة عن الحج بالصوم وبإطعام وكسوة ثلاثين يتيماً ومنحهم صدقة، وتفرّق الناس.وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله ، وأبطأ المقتدر الجواب يومين فكتب له «إن ما جرى في المجلس قد شاع وانتشر ومتى لم يتبعه قتل الحلاج افتتن الناس به». وتدخل القائد مؤنس بنفوذه العسكري الكبير لدى الخليفة الذي رضخ وأعطى أخيراً الإشارة بقتل الحلاج. فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة، فضربه ألف سوط فما تأوّه، ثمّ قطع يده، ثم رجله ثم يده، ثمّ رجله، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب.
وقتل الوزير حامد بن العباسي بعد ذلك أفظع قتلة وأوحشها بعد قتل الحلاج وقطعت يداه ورجلاه وأحرق داره .

التلبية
لبّيـــــــكَ لبّيـــــــــكَ يـــــــــــــا ســــــــــرّي و نجــــــــوائـــــــــــــــــــــــي لبّيــــك لبّيــــــك يــــــا قصــدي و معنائـــي
أدعــــــــــــوك بـــــلْ أنت تدعونـــي إليك فهـــــلْ نـــــــاديــــــــتُ إيّــــــــــاك أم ناجيــــــتَ إيّــــــــــــائـــــــــــــــي
يـــــا عين عين وجودي يـــا مدى هممي يــــــــــا منطقــــــــي و عباراتــــــي و إيمائــــــــــي
يـــا كـــــــــــلّ كـــلّي يــــا سمعــــــي و يـــــــا بصـــــــري يا جملتي و تباعيضي و أجزائي
يـــا كـــــــلّ كـلّـــــي و كـــــــــــلّ الكــــــــــــــــــــلّ مـــــــــلتبـــــــــــــــس و كــــــــــــــــل كـــــــلّــــــــك ملبـــــــوس بـمعنــــــــــــــائــــــــــــي
يـــا مــــــن به كـلفَــــتْ روحــــي فقد تلـــــفـــــت وجدا فصرتَ رهينا تحت أهوائـــــي
أبكي على شجني من فرقتي وطني طـــــوعاً و يسعدني بالنوح أعدائــــي
أدنــــــــــو فيبـــــعدنــــــــــــي خــــــــــــــوفــــــــي فــــــــيقـــلقــــــنــــــــــي شـــوق تمكّن في مكنون أحشائــي
فكيـــــــــــف أصنــــــع فـــــي حبّ كَــلِفْتُ بــــــــــــه مولاي قد ملّ من سقمي أطبّائـــــي
قـالـــــــــوا تـــــــــــــــداوَ بـــــــــــــــــــــــه منـــــــه فقــــلــــــــــت لـــــــــــهــــــــــــم يــــــــــا قوم هل يتداوى الداء بالداء؟!
حبّــــــــــــــي لمـــــــــــولاي أضنانـــــــي و أسقـمنـــــــي فكيف أشكــــــو إلى مولاي مولائـــــــــــــــــي

مجاهدة
إنــــــي ارتقيــــــــتُ إلــــــــى طودٍ بـــلا قـــــــــــــــــــــــــدمٍ له مــــــــــَراقٍ على غيري مصاعيــــــــــب
و خُضْتُ بحراً و لم يرسب به قدمي خاضَتْهُ روحي وقلبي منه مـــــرعـوب
حَصْبَــــــــــــاؤُه جـــــــوهرٌ لـــــــم تَدْنُ منـــــــــه يـــــدٌ لكـــــــــنــــــــــــه بِيَــــــــــدِ الأفــــهــــــــــام منهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــوب
شــــــــربـــــــــــــــــتُ مـــــــــــن مائــــــــــــه رَيــــــــــــاً بغيـــــــر فـــــــم و الماء قد كان بالأفواه مشـــــــــــروب
لأن روحي قديماً فيه قدْ عطشـــــتْ و الجسم ما مسّــــَهُ من قبل تركيـــــب
إنـــــــــــــــــــي يـــتــيــــــــــــــــــمٌ و لـــــــــــــــي أبٌ أَلــــــــــــــوُذ بــــــــــــــــــــــه قلبـي لِغيْبَتــه،ِ ما عشـْـتُ، مكروب
أعمــــــــــى بَصيــــــــــــرٌ و إنــــــــــي أبْلَــــــــــه فَـــطِـــــــــــــــــــــنٌ و لــي كـــلام -إذا ما شئتُ- مقلـــوب
وفتيــــة عرفــــوا مــــــــا قـــــــــد عــــرفــــــت فَهْــــــمُ صَحْبِيَ ومن يُحْظ بالخيرات مصحوب
تعارفَــــــتْ فــــــي قديـــــــــــم الـــــــــــذّر أَنْفُســـــهـــــم فأشرقَتْ شمســــهم و الدهــر غربيـب

منازل الطريق
سكـــــــــــوتٌ ثـــــــــــــم صمــــــــــــتٌ ثــــــم خَـــــــــــــــــرْسُ و عِــــــــــــــــلْــــــــــمٌ ثــــــم وَجــــــــْدٌ ثــــــم رَمْـــــــــــــــــــــــس
و طـــــــــــــــــــــــــــــــيــــــــــنٌ ثــــــــــــــــم نـــــــــــــــــــــــــارٌ ثـــــــــــــــــــــم نــــــــــــــــــــــــــــــــــــــورٌ و بــــــــــــــــــــــــــــــــردٌ ثــــــم ظــــــــــــــــــــــــلّ ثــــــم شمـــــــــــــــس
و حَــــــــــــــــــــــــــــــــزْنٌ ثـــــــــــــــــــم سهـــل ثـــــــــــــــــــــم قَـــــــــــــــفْــــــــــــــــــــــــٌـر و نــــــــــــهــــــــــــــــــــــر ثــــــم بَــــــــــــــــحْـــــرٌ ثــــــم يَـــــبْـــــــــــــــــــــــــــــــس
و ســــــــــــــــــكر ثــــــــــــــــــم صَحْـــــــوٌ ثـــــــــــم شـــــــــــــــــوقٌ و قـــــــــــــــــرب ثــــــم وفــــــــــــــــــــــــــــــــر ثــــــم أُنْـــــــــــــــــــــــــــــــس
و قَبْــــــــــــــــــــضٌ ثــــــــــــــــــــم بـــــــــــــســــط ثــــــــــــم مَــحْـــــــــــــــــــــوٌ و فـــــــــــــــــــــرق ثــــــم جـــــــــــمـــــــــع ثــــــم طَـــمْــــــــــس
و أَخـــــــــــــــــــــــــْذٌ ثـــــــــــــــــــــم ردّ ثـــــــــــــــــــــــــم جــــــــــــــــــــــــــــــــــــــذبٌ و وصـــــف ثــــــم كشـــــــف ثــــــم لبـــــــــس
عــــــــــــبـــــــــــــــارات لأقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوامٍ تـــــــــــــــــســــــــــــــــاوتْ لـــــــــــــديـــــــــــهـــم هــــــــــــــذه الــــــــــــــــدنـيـــــــا و فِـــــــلْــــــــس
آلام العاشقين
والــلــه لـــــــــــــو حـــــــــلــــــــف الـــــــعــــــــشـــــــــــاق أنـــــــهــــــــم موتى من الحب أو قتلى لما حنثوا
قوم إذا هُجــــروا من بعد ما وصلــوا ماتوا، وإن عاد وصل بعده بعِثـــــــوا
أسرى المحبين صرعى فــــي ديالرهــــــم كفتية الكهـــــف لا يدرون كم لبثــــوا

أهل الأسرار
مَـــــــــــــن ســــــــارروه فأبــــــدى كــــلّا ستـــــــــــروا و لــــم يـــــراع اتّصـالاً كـــان غَشَّاشـــــا
إذا النفوس أذاعت سرّ ما علمـت فكـــل مـــــا حملت مــــــن عقلـــها حـــــــــــــاشــــــــــا
مــــــــــن لـــــــــــــــــم يصــــــــن ســــرّ مولاه و سيّـــــده لـــــــــــــم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
و عــــــــــــــاقبـــــــــــوه على مـــــــا كــان مــــن زَلَـــــَل و أبدلــــــوه مـــــــن الإينـــــــــــاس إيـــــــــحاشــا
هم أهل السرِّ و للأسرار قــــد خُلقــــــــوا لا يصبرون على مــــــــــــــــا كـــــان فحَّاشا
لا يقبـــــــــــــــلــــــــــون مذيــعـــــــــــاً في مجـــــــالسهـــــــم و لا يـــــحبّون سِتْراً كـــــــــــان وَشْواشـــــا
لا يصـــــطفــــــــــــون مذيعـــــــــاً بعْــــض سـرّهـــم حـــــــاشا جلالهــــــــم مــــــن ذلِكم حاشـــــــا
فَكُـــــــــــــنْ لــــهـــــــم و بهــــــــم فــــــي كــــــــــــــلّ نــــــــــــائبــــــــــةٍ إليهم مــــــــــا بقيــــــت الدهـــر هشَّاشـــــــا

الحب المستور
أشـــــــــار لــــــــــــــــــــحـــــــــــــــــظــــــي بـــــــــعــــــــــــــــــيــــــــن عــــــــــــــــــــــــــلـــِــم بــــــــــــــــخـــــــــالـــصٍ مــــــــــــــن خِفّـــــــــي فــــــهـــــــم
و لائــــــــــــــــــــــحٌ لاح فــــــــــــــــــــــــــــــــــي ضــــــــــــــــــــمــيــــــــــــــــــــــــــــــــــري أدقّ مــــــــــــــــــــن فـــــــــهــــــــــم وهـــــم وهمـي
و خضــتُ فـــــــــــــــــي لــــــــــــــجّ بــــــــــــحر فكـــــــــري أمُـــــــــــــــــــــــــــــــــــرُّ فــــــــــــــــيــــــه كــــــــــــمـــــــرّ ســــهــــــــــــــم
و طــــــــــــار قــــــلبــــــــــي بـــــــــــــــريــــــــــــــــــــــــــش شــــــــــــــــــــــــــــوق مركّـــــــــــــــب فــــــــــــي ريــــــــــــــاح عـــزمــــــــــــــي
إلــــــــــــى الـــــــــــــــــــــــــذي إن سُــئــــــلــــــــــــــــــتُ عـــــــــــــــنــــــــــه رمــــــــــــــــــــــــزت رمـــــــــــــزاً و لــــــــــــم اســـــــــــــمّ
حــــتّــــــــــى إذا جُـــــــــــــــــــــــــــــــــــــزْتُ كــــــــــــــــــــــــــــل حــــــــــــــــــــــــــدّ فـــــــــــــــــــــــي فـــــــــلــــــوات الــدنّـــــــــو أَهْمِـــــــــــي
نــــــــظــــــــــــــــــــــرت إذ ذاك فــــــــــــــــــــــــي سَــــــــــــــــــــجَــــــــــــــــــالٍ فمــــــــا تجـــــــــــاوزتُ حــــــــــدّ رَسْمـــــــــــــي
أتــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــت مــســتـــســــــــــلـــمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلــــــــــيــــــــــه حبـــــــــــل قيــــــــادي بكــــــفّ ســـلْمــــــــي
قـــــــــــــــــــــــــــد وســـــــــــــــــــــــــــــم الحــــــــــــــــــــــــــــــــبّ فــــــــــــــــــــــــــــــــــؤادي بميــــــســـــــــــــم الشـــــــــــــــوق أي وشـــــــــــــــــــم
وغـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاب عنّــــــــــــي شـــهـــــــــــــــــود ذاتــــــــــــــــــــــــــــي بـــــالقــــــــرب حتّى نسيــتُ اسمــــــــي

الدليل
لـــــــــم يبــــق بينـــي و بـــين الحـــــقّ تِـبْــيَــانــــــــــــــــــي و لا دلــــيــــــــــــــــــــــــــــل بــــــــــآيـــــــــات وبــــــــــــــــــــــرهــــــــان
هـــــــــــــــــــــــذا تجـــــــــلّـــــــــــى طـــلـــــــــــــوع الحــــــقّ ِنـــائــــــــــــــــرةً قد أَزْهَـــرَتْ في تلاليــــــــها بســــــلطـان
لا يــعــــــرف الحــــــــــــــــــــــق إلا مــــــــــــــن يُـــــعــــرَّفــــــــــــــــــــــــــع لا يعرف القدمي المحدث الفانـــــــــي
لا يستـــــــدلُّ علـــــى الــــبـــــاري بصــــــنعــــتـــــــــــه رأيْتــــــــُمُُ حَدَثٌــــــــــــــاً يــــــُنْــــبـــــــــــِي بـــــــــــأزمـــــــان؟
كــــــــــــــان الــــــدلـــــــــــــيــل لـــــــــــــــــــــه مــنــــــــــــــــــــه إلــــــــيــــه بـــــــــــــه مِــــــــــــــن شــــــاهدِ الحـــــــــقّ تنزيــــــــــل فرقان
كـــــــــــــــان الـــــــــــــــدليـــــــل لــــــــــــــــــــــه مــــــــنــــــــــــــــــــه بـــــه ولــــــــــــــه حـــــــــــــقــًّا وجدنـــــــــــــا بـــــــــه علمــــــــــا بتبيان
هــــــذا وجودي و تصريحــــي و معتقدي هـــــــــــذا تــــــــــــــــــَوَحــــــــُّدُ تـــــــــوحـــــــيدي و إيمانــــــــــــي
هـــــــــــــــــــــذا عبـــــــــــــارة أهـــــــــــل الانـــــفـــــــــــــــراد بــــــــــــــــــــه ذوي المعـــــــارف في ســـرّ و إعلان
هــــــــذا وجـــــــــــودُ وجودِ الواجديــــــنَ لـــــــــه بني التجانـُـــــس ِأصحــــابي وخُلَّاني
غفلة
و أيّ أرض تـــــــــــــــــخـــلو مـنـــــــــــك حتّى تعــــــالــــــَوا يطــــــلبــــــونك فـــــــــــــي الســــــــمــــــاء
تــــــــــــراهم ينــــظــــــــرون إليـــــــــــــــك جـــــهـــــــــــراً وهـــــــــــــــم لا يـــــبصــــــرون مــــــــن العمــــــــــــــــــــاء

شوق
عــــــــــــــــــجبـــــــــــــــــــــتُ مــــــــــــــــنــــــــــــــــــــــك و منـّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مُــــــــــنــــــــْيـــــــــَةَ المــــــُتـَمَــــنّـِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
أدنـيــتـَنـــــــــــــــي مـــــــــــنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك حــــــــــــتـّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى ظــــــــنـــــــنـــــــــــــــتُ أنـــــــــــّــــــــــــــــك أنـــــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وغـــــــبــــــــــــــــــــــــــــــــتُ فــــــــــــــــــــــــــــــــــــي الــــــوجـــــــــــــــــــــد حتـّى أفــــــــنـــــــــــيــــتـــــــــنـَـــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــــــك عـــنــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا نعمتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فـــــــــــــــــــــــــــــــــي حيــاتــــــــــــــــــــــــي و راحـــــــــــتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــعـــــــــــــــــــــــــــــد دفــــــنــــــــــــــــــــــــــي
مــــــــــــــــــا لـــــــــــــــــــــــــــي بـــــغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرك أنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــسٌ إذا كــــــنــــــــــــت خــــــوفـــــي وأمنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
يــــــــــــــــــــــا مــــــــــــــــن ريـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاض مـــعــــانيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه قــــــــــــــــد حّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوت كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل فـــــــــــــــــــــــــــــنِّ
و إن تــــــــــــــمـــــــنــــــــــــــــــيــــــــــــــــــــــــــــْت شــــــــــــــــــــــــــيْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا فــــــــــــــــأنــــــــــــــــــــــــــــــت كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلُّ الــــــــتــــــــمــــــنـّـــــــــــــــــــــــــــــــي

توبة
إلــــــــــــى كـــــــــــــم أنـــــــــت فــــــي بــــــــحــر الخطـــايــــــــا تـــــــــــــبــــــــارز مـــــــــــن يـــــــــــــــــــــــــراك و لا تــــــــــــــــــــــــــــراه
وســـمتـــــــُك سمــــــــــت ذي ورع وديـــــــــــــــــن و فعْـــــــــلــــــــــــــك فــــــــعـــــــــــــل مـــتـّــــــبـــــــــع هــــــــــــــــــــــــــــواه
فـيــــــــــــــا مـــــــــــــن بــــــــــــــات يــــــخلـــــــــو بـــــالمعــاصــــي وعـــــــــــيــــــــــــــن الــــــــلــــــه شـــــــــــــــاهــــــــــــــــــدة تـــــــــــــــــــــــــــراه
أتـــــــــطمــــــــــــــع أن تــــنـــــــــــــــــال الـــــــــــعــفـــــــــو مــــــــمّــــــــــــــــــــــن عصيتَ و أنت لم تطلب رضا
أتـــــــــــفــــــــــرح بـــــــــــــــــالــــــــذنــــــــــــــــوب وبـــــــــــــــــــالخطــــــــايـــــــــــــــا و تــــــــــــــــــنـــســـــــــــــــاه و لا أحـــــــــــــــــــــد ســــــــــــــــــواه
فــــــَتـــــــُبْ قـــــبــــــــل المــــــمـــــــــــــات وقــــــــبــــــــل يـــــــــــــــــــــــــوم يـــــــــــلاقــــي الـــعبـــــد مــــــــا كسـبـــــــت يــــــداه

استغفار
إذا دهـــــــــمَــــتـْـــــــــــــك خـــــــــيــــــــــــــــــول الـــــــــــــبـــــــــعــــــــــــــــــــــاد ونـــــــــــــــــادى الايـــــــــــــــــــــــاس بــــــــقطــــــع الـــــرجـا
فـــخُـــــــذْ فــــــــي شمالــــــك تـــــرس الخضــوع و شـــــــــــــــــُدّ اليمــــــــــــين بســــــــــــيف البكـــــــــــا
و نَــــــــــفْـــسَــــــك نَــــــفْــــــسَـــــــك كُـــــــــــــــــــــنْ خــــــــــــائـــــــفـا علـــــــــــــى حـــــــــــــذر مـــــــــن كـــــــــــميـــن الجــــــــفـا
فـــــــــــــــــــــــإن جـــــــــــــــاء الــهـــجــــــــــــر فـــــــــــي ظـــــــــلــــــــمــــــــة فـــــــســـــِرْ فــــــــــي مـــشــاعــــــــــــــل نــور لصفا
وقــــــــــــُلْ لــــــــلــــحبـــــيــــــــــــــــــــب تــــــــــــــــــــــــــــرى ذلـّــــــــــــــــــــــــــــــــتي فـــــــــــجـــُدْ لــــــــــــــــي بعفـــــــــــــــوك قبـــــل الـــــلـــــــــــقـــــــا
فـــــــــــَوَ الـــــــحُــــــــــبِّ لا تـــــنثنِـــــــــــــــي راجــــــــــــــــــــــــــــــــعـــــــاً عــــــــــــــــــــــــــــــن الحِــــــــــــــبِّ إلّا بِعـــَوْض ِالمــــــــــــــــــنـــا

التجلي
ســــــبـــــــحـــــــــــــــــــــــــــان مــــــــــن اظهـــــــــــــــــــــــــــــــــر ناسوتـُـــــــــه ســــــّــــــــــــــــــــــــــــــــر سنــــــــــــــــــــــا لاهوتِه الثــــــاقـــــــــــب
ثـــــــــــم بــــــــــــــــــــــــــــــــــــدا في خـــلـقــــــــــــــــــــــــــه ظــــــــاهـــــــــــــــــــــــــــــراً فــــــــــــــــــــــــــــي صـــــورة الآكل و الشــــــــارب
حتــــــــــــــــــــــــــــــّى لــــقــــــــــــــــــــــــــد عَــــــــــــــايـَنَـــــــــــــــــــــــــــهُ خَـــلْقـــــــــــــــــــــــُه كــــــــلحْظِـــــة الحــــــــــــــــــــــــاجب بالحــــــاجـب
كتاب
كتبـــتُ ولـــــــم أكــــــــُتبْ إليـــــك و إنـّمـــــا كتبتُ إلى روحي بغــــير كـــــتــابِ
و ذلـــــــــــك أنّ الـــــــــروح لا فرق بينــــهــــا و بيــــن مُحِبـيِّهــــا بِفَصْلِ خطــــــابِ
و كــــــــلّ كتـــــابٍ صادر منـــــــــك وارد إلـيــــــــك بــــــلا ردّ الجـــــواب جــواب

رأيت ربي
رأَيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتُ ربّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــعـــــــــــــــــــــــــــين قــــلبـــــــــــــــــــِي فــــــقلـــتُ مـــــــن أنـــــــــــــــــــــــت؟ قال أنــــــــــــــــــــــــت
فــــــــليــــــــــــــــــــــــــس للأيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن مــنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك أيــــــــــــــــــــــن و لـيــــــــــــــــــــــــــــــــس أيــــــــــــــــــن بـــــــحيـــثُ أنــــــــــــــــــــــــــت
و لـــــــيــــــــــس لــــلوهـــــــــــــــــــــــــــــــم مـــنـــــــــــــــــــــــــــــك وهــــــــــــــــــــــمٌ فــــيعـــــــــــــــــــــــــــــــــــلـــــم الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوهــم أيـــن أنـــــــــــــــــــــــــــــت
أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــت الــــــــــــــــــــــذي حُــــــــــــــــــــــــزْتَ كـــــــــــــل أيـــــــن بــنـــــــــــــــــــــــــــــــحو لا أيـــــــــــــــــــنَ فـــــــــــــــــــــــــــأيـــــنَ أنــــــــــــــــــــــت
فــــــــــفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي بـــــقــــــــائــــــــــــــــــــــــــــــــــي ولا بـــــــــــــقائـــــــــــــــــــــــــــــي و فــــــــــي فــــــنــــــائي وجــــــــــــــــــــــــدت أنــــــــــــــــــــــت
أشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار ســــــــــرِّي إلــــيـــــــــــــــــــــــــــــك حتـــــــــــــــــــــــــــــى فنيـــــــــت عـنـــــــــــــــــي ودمـــــــــــــــــــــــــــــت أنــــــــــــــــــــــــت
أنـــــــــــــــــــــــــــــــت حيـــــــــــــاتي وسِـــــــــــــــــــــــــــــرُ قـــــلبــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فــــــحيثـــــمــــــــــــــــــــــــــــا كنــــــــــت كنـــــت أنــــــــــــــــــــــــــت
أحــطــــــــــــــــــــــــــت علمــــــــــــــا بكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــل شــــــــــــــــــــــــيء فــكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل شـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيء أراه أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
فـــمُــــــــــــــــــــــن بــــــــــــــالعفـــــــــــــــــــــــــــــــــو يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا إلـــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي فــــــليــــــــــــــــــــــــــــــــــس أرجــــــــو سواك أنــــــــــــــــــــــــــت

قريب بعيد
لـــــــــــــي حبيــــــــــــــــــــبٌ أزور فــــــــي الخـــــــــلـــــــــوات حــــــــاضر غائـــــــب عــــــن اللحــــــظــــات
مـــــــــــــــــــــــــــا تـــــــــــــــراني أصغــــــي إليه بسمــــــــــعــي كـــــي أعي مـــا يقــــول من كلمــات؟
كـــــلمــــــــــات مــــــــــــــــــن غــــــيـــــر شكـــــــــــل ولا نُـــــــقـ طٍ و لا مــــــــثـــــل نــــــــــغمــــــة الأصــــــــــــوات
فــــــــــكــــــــــــــأنّـــــــــي مــــــــــــــخاطــــــــــــــــب كنــــــت إيــــــــــــــــــــــــًّا ي علــــــــى خاطري بـــذاتي لــذاتــــــي
ظـــــــــــــــــــــــاهـــــــرٌ بـــــــاطــــــــــــــــنٌ قـــــــريـــــــــــــــــــب بــــــــــــعيـــــــــــــــــــــدٌ وهـــــــــو لـــــــــــم تحـــــــــوه رســــوم الصفـــــات
هــــــــــــــــو أدنـــــــــــــى مـــــــــن الضميــــر إلـــى الــوهـــــ ــــم ِو أخفى مـــــــن لائـــــــح الخطـــــــرات

سر السرائر
ســــــــــــــــرّ الســـــرائــــــــــــــــر مَطْـــــــــوِيٌّ بـــــــــــــــِاثـــــْبــــــــــــــــَات مـــــــن جـــــانب الأُفْق ِمن نور بـِطيَّات
فـــكيف والكــــيف معـــــــروف بظـــاهــره فـــــــالغيــــــب بـــــــاطنــــــه لـلذاتِ بـــالـــذات
تـــــَـــــــــــــاهَ الخــــــلائــــــــــــــقُ فــــي عميـــــاءَ مظـــــلمـــــة قصــــــــــــــــــــــدا و لـــــــــــــــــم يــــــــــــعرفـــــــــــــــــوا غيــــــــــــــــــــــر

الإشارات
بـــــــــالظنّ و الوهم نحـــــو الحقّ مطلبهــــم نــــــــحــــوَ الهــواء يناجون السمــاوات
و الــــــربّ بيـــنهــــــم فــــــــــي كـــــــــــــــــــــل منقـــــلـــــــــــــب مُحـــِلَّ حالاتهــــــم في كـــل ساعــات
و ما خلوا منه طرف عين لو علمـوا و مـــــــــــــــــا خــــــــلا منهــــم فــــــي كـــــــل أوقــــــــــات

شيخ النخوة والتواضع

إذا أردت شــــريـــــــــــــــــــف النــــــاس كلهـــــــــــــــــــم فانظر إلى عظيم في زي مسكين
ذاك الذي عظمت فـــــــــــــــــي الله نعمته وذاك يصــــلــــــــــــح للدنيـــــــــــــــــــــا وللـــديـــــــــــــــــــن
الشيخ حسين قيس، ذاك القاضي الشريف الذي امتدت ولايته القضائية المذهبية من عام 1911 إلى العام 1933 على المسلمين الموحدين من بلاد الجليل والكرمل جنوباً، إلى وادي التيم والجولان وغوطة الشام وإقليم البلان وحتى جبل السماق قرب حلب شمالاً .
كان الشيخ حسين قدوة في التواضع والمحبة والشفقة والرحمة وخصوصاً تجاه الفلاحين قاطني بلدته الماري، رغم علّو مكانته، والأدلة والأمثلة على ذلك عديدة. وإحدى الروايات عنه التي تبين سماحته وغيرته وتواضعه هي ما حصل عندما قرر أهل قريته الماري القيام بزيارة إلى مقام «السلطان إبراهيم» في الجولان، وكان قيام أهل القرية بهذا النوع من الزيارات الدينية مألوفاً في أواخر الصيف، بعد جني الغلال والمواسم، وكانت تتم عادة تلبية لدعوة من أحد أبناء القرية وذلك وفاءً لنذر، سواء كان عن مولود جديد، أم شفاء مريضٍ، أم وفرة محصول، وما أكثر المناسبات والأسباب التي كان الناس يتخذونها سبيلاً لشكر الله على نعمه التي لا تحصى. وكانت القرية تهب بكامل أبنائها إلى واجب الزيارة ولا يبقى فيها إلا من لا تسمح لهم ظروفهم بمجاراة الركب مثل الشيوخ العجز والمرضى والأطفال الصغار.
كان موكب الزيارة يمرّ في محلة «السبّان» يتقدمه الشباب والصبايا بالزغاريد والحداء والأغاني الحماسية، في تلك اللحظة تحمس بعض رعاة الماشية (وكانوا يسمون: «رعيان العجّال») للمشهد وكانوا مجتمعين في الحظائر المطلة على الموكب، وخطر في بالهم أن ينضموا إلى الموكب الاحتفالي، لذلك عمدوا عند غروب الشمس إلى إدخال الطروش (الماشية) إلى الزريبة، وإغلاق منافذها، ثم لحقوا بهم على وجه السرعة كي لا يفوتهم شيءٌ من بهجة الزيارة وروعتها (كالطرب والغناء، والدبكة، والطعام الشهي، وسوى ذلك).

كان من عادة الشيخ حسين قيس تفقّد قريته ليلاً، وقد بلغه من أحدهم أنّ «رعيان العجّال» قد تركوا الزريبة دون حراسة، ولحقوا بالزائرين.
إستهجن الشيخ تصرف الرعيان غير المسؤول لأن الماشية التي يهتمون بها كثيرة وتساوي مبالغ طائلة، والزرائب تقع في منطقة بعيدة ومعرضة للإعتداءات وعمليات السرقة، لذلك قرر أن يذهب بنفسه إلى موقع الزرائب وأن يتولى الحراسة الليلية بنفسه متأبطاً سلاحه، وقد خشي أن يؤدي ترك الماشية دون حراسة إلى تسلل اللصوص وأخذها كلها غنيمة سهلة.
بالطبع كان وقع المفاجأة صادماً على الرعيان عندما عادوا مع ساعات الفجر ليجدوا الشيح حسين ساهراً على سلاحه حماية للزرائب التي أهملوا حمايتها سعياً وراء بعض التسلية، وأدرك هؤلاء سوء تصرفهم وخجلوا كثيراً، إذ وجدوا أنهم حرموا الشيخ من الموكب ومن نوم الليل بسبب قرارهم الطائش وكان خجلهم لدرجة أنهم حاولوا أن يتواروا عن نظر الشيخ وهم في حيرة كيف سيشرحون له ويعتذرون منه. لكن الشيخ ناداهم وطيّب خاطرهم بكل حبور وسرور بالقول: «هل انبسطتم وسررتم يا أبنائي في سهرتكم، سامحكم الله، والشباب لا تُلام، وإن كان من واجبكم، على الأقل، إعلامنا بذلك».
عندما توفي الشيخ حسين قيس عام 1933، أقيم له أسبوع الأربعين في بلدته حاصبيا، وفي الباحة المعروفة بإسم آل قيس قرب منزله.
وقد حضرت الوفود الغفيرة من شتى المناطق، وخصوصاً من الشوف وجبل العرب والجولان والجليل ووادي التيم بأكمله. وكان في مقدم الحضور وزير الدفاع السوري آنذاك عبد الغفار باشا الأطرش، والمستشار الفرنسي في الجنوب يرافقه قائمقام مرجعيون وضباط الدرك.
أثناء الإحتفال قُلّد نجله الشيخ نجيب قيس عباءة القضاء المذهبي، إذ كانت العادة آنذاك توارث المناصب في العائلة .
وبناءً على طلب الشيخ توفيق غبار، رثاه الأديب والشاعر سلام الراسي بقصيدة عصماء أشاد بها بالمتوفي وبنضال بني معروف في الدفاع عن الحرية والكرامة ضد المستعمر، مما أغضب المستشار الفرنسي فأوعز إلى ضابط الدرك باعتقال الخطيب. ويبدو أن أحد المشايخ تناهى إلى سمعه كلام المستشار فسارع إلى مغادرة المكان مصطحباً سلام الراسي إلى منزله وأخفاه عن عيون السلطة.

ومما قاله الشاعر في قصيدته يومذاك:
أحاصبيــا والخطــب الأليـــــم مصــــــــــــــــــــــــــدعٌ أصـــــــــــــاب التقــى عمــداً فـــــــــــــــــــهـــو عمـــــوده
إذا جرحـــت بــــــــــــــــالحزن صـدرك طعنـــةُ فقـد مزّقـــــت في المرج حـــــــــــــــــــزنــاً كبــــــــــــــــــــــده
بكـيتم بنــي معـــــــــــــــــــروف رشــدكمُ كمـــــــــــــــــــــا بكــى التّيــــم بـــــــــــــــــــالدّمــع السّخـــي عمــــيده
بكيـتم وأحــرى أن تصونــوا دموعكــم فمـــــا مـــــــــــــــــــــات فـي ذلّ يســرُّ حســــــــــــــــــــــــــوده
فـــــــــــــــــــللســيف فـي كــــــــــــــــــــفّ الحســين تعهــــــد علـى الفتــك حاشـــا أن يخـــون عـهوده
وللــوطــــــــــــــــــــن المفـــــــــــــــــــــــدّى حــــــبّ بـــــــــــــــــــقلبـــــــــــــــه تمـــــــــــــــــــلّــكــه حــتــــــــــــــــــــــــــــــــــى استــــــفـــــــــــــــــــزّ قــــــــــــــــــــعــــــــــــوده
خــذيــــــــــــــــــه رثـــــــــــــــــــــاءً من فــــــــــــــــــــــؤادٍ مســــــــــعَّـــــــــــــــــــرٍ بنـــار الأســـى تُذكـــي الـــــــــــــــــــدمـوع وقـــوده

بئس الجد ونِعـمَ الأب

نعم الأب بئس الجد
نعم الأب بئس الجد

وأول مــــــــــــــــا ســــاق المودة بيننــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــــــــــوادي بغيـض يــــــــــــــــــا بثينـــة ســـبـــــــــــــــــــــــــــــــــــاب
وقالـت لـنا قولاً أجبنا بمثلـــــــــــــــــــــــــه لكـــــــــــــــــل مقــــــــــــــــــال يــــــــــــــــا بثينـــة جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواب

كان من عادة الخليفة أبو جعفر المنصور ووزيره البرمكي تفقد أحوال عاصمته بغداد من وقت إلى آخر. وأثناء إحدى تلك الجولات دخلا مطحنة في المدينة، فوجدا صاحبها البراك منهمكاً بعمله. رحّب بهما وأجلّ قدومهما عليه وكأنها نعمة سماوية قد حلّت به.
حان وقت الصلاة أثناء وجودهم هنالك فنهضوا جميعاً لتأديتها، وبعد الفراغ منها سأل الخليفة البرّاك :
هل أنت حافظٌ للقرآن الكريم؟
أجابه : لا يا سيدي ..!
حتى ولا قسماً منه؟
أيضاً لا، فأنا أميّ ولا أحسن القراءة..
غضب الخليفة لما اعتبره تقصيراً لا يغتفر فأمر باعتقال البرّاك وإيداعه السجن.
تابع جولته مع وزيره نحو المدينة، فمرّا بمدرسة صغيرة فوجدا أحد تلامذتها منزوياً إلى جانب الملعب وهو يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ وغير مبالٍ بلهو أترابه.
ناداه الخليفة وسأله: في أي سورة تقرأ يا بني؟
أجاب الولد بعد أن علم أن سائله هو الخليفة بذاته: أقرأً في سورة مولاي الأصغر.
قال الملك: لكن هذه السورة غير موجودة!
قال الولد: صحيح لكن النظر إلى صورتك الكريمة يا مولاي الأصغر يساعدنا على قراءة وفهم آية مولانا الأكبر ( الله تعالى). سُرّ الخليفة أيّما سرور لهذه الإجابة الذكية فأمر أن يُعطيه قسماً من المال الذي بحوزته وخاطب الصبي قائلاً: أعطِ هذا المال لوالديك..
تفحّص الولد المال فوجده قليلاً، رفع نظره نحو الخليفة وقال: مولاي، إن والدتي ستقول: هذا ليس عطاء الخلفاء فشكراً لك.
إندهش الخليفة لجسارة الولد فأمر الوزير بإعطائه كل ما يحمل من دراهم. آنذاك تبسّم الصبي لهذا العطاء وقال: حقاً هكذا تكون عطاءات الخلفاء، أدام الله عزكم وأطال عمركم..
إغتاظ الوزير مما اعتبره تساهلاً من الخليفة وإكراماً لا مبرر له للصبي، وضمر في ذاته استرجاع كل المال الذي انتهى إليه بسبب كرم الخليفة المنصور وإعجابه بكلامه. ثم أسرّ في أذن سيده الخليفة قائلاً : مولاي هذا الولد محتالٌ ويأخذ أموالنا وعمره لا يتجاوز الخمس عشرة سنة فهذا لا يجوز مطلقاً..
أجاب الخليفة : إنه ولد خارق الذكاء ويستحق هذا الإكرام.
قال الوزير: لا تغضب مولاي، سأحاول إسترجاعها كما احتال علينا. ثم نظر نحو الصبي وقال: هل صدّقت أن الخليفة قد أعطاك كل هذا المال؟
أجاب الولد: نعم قد صدّقت، ومتى كان الخلفاء يستردّون نعمة أنعموا بها؟؟ ثم ألا تعلم أن الصدقة لا يجوز لمن تلقاها أن يردّها أو يرفضها؟ ورغم ذلك إذا وجدتها كثيرة علينا فنحن على استعداد لإعادتها شرط أن تستجيب لطلب واحد منا لا غير.
هلّل الوزير في ذاته وقال : أطلب ما تريد أيها الولد.
قال الولد: أريد منك فقط أن تقلّد صوت الحمار ثلاث مرات حتى يسمعك رفاقي في الملعب، وكان في ظن الولد أن طلبه سيحرج الوزير فيرفض تنفيذه، لكن الوزير كان قد أحس بقدر كبير من الحسد للولد بحيث لم يمانع في تنفيذ طلبه طمعاً في استرداد المال الذي أنعم به الخليفة المنصور عليه. لذلك استجمع الوزير قواه ونفخ صدره ثم انطلق بصوت منكر يقلّد الحمار وكرر ذلك ثلاث مرات على مسمع من الخليفة ومن الجمهور الذي كان قد اجتمع لمتابعة المشهد.
ضحك الصبي ضحكاً حمل الكثير من الهزء بالوزير الأحمق ثم ناوله المال بعد أن حوّل بنظره نحو الخليفة وقال: نعم الخليفة من كان وزيره يتقن صوت الحمير!!
إستشاط الخليفة غضباً من تصرف وزيره ثم أمره بردّ المال قائلاً: تستحق هذه الإهانة من ولد بهذا العمر بسبب حسدك وطيشك.
أخذ الولد المال من جديد إلى بيته ثم ناوله لأمه، ولكنها رفضت أن تأخذ المال قائلة: عُد إلى الخليفة وقل له: نحن لسنا في حاجة إلى دراهمك بل في حاجة لإخراج والدنا من السجن وهو الذي يعيلنا ويجني لنا قوتنا وأنت سجنته من دون ذنب اقترفه..
ولما عاد الولد بالمال إلى الخليفة إستغرب الأخير، لكن الولد أخبره بقصة والده السجين في زنزانات المنصور دون ذنب اقترفه. سأل المنصور الولد: هل برّاك المطحنة حقاً والدك؟ أجاب الصبي: نعم إنه والدي وليس لنا من معيل سواه.
قال الخليفة : نعم الإبن وبئس الأب..
أجاب الصبي: نعم الأب وبئس الجد..
قال الخليفة : كيف هذا؟
قال الصبي : لأن جدّي لم يعلّم أبي، أما أبي فقد علّمني.
فرح الخليفة لهذه الإجابة الذكيّة مجدداً من قبل الصبي وأمر جنده بإخراج الوالد من السجن في الحال ثم عاد الولد مع والده ومع الدراهم إلى البيت.

آمن بالحجر تبرأ

كان الأقدمون يعظون دوماً بأن على المرء أن يسلّم أمره لله وحده. فهو الباري من كل زلّة، والشافي من كل علّة. وكانوا في الوقت نفسه يجيزون التقرب من المولى بشفاعات الأنبياء والأولياء ثم انتشرت عادة النذور يقطع المرء على نفسه القيام بعمل لوجه الله تعالى في ما لو أنعم عليه بمال أو رزق أو شفاء مريض أو إنجاب ولد بعد طول انقطاع الخ.. وأخيراً دخل في اعتقاد اناس أنه من الممكن الحصول على شيء أو دفع بلاء معين من خلال تعليق «حجاب» يكتبه أحد الشيوخ أو الروحانيون. وكلمة حجاب مستقاة من «حجب» أي «أخفى» فهي تحجب حامله عن الشر الذي ربما ألحق به من دون تلك التعويذة. وعادة كانت الحجابات تكتب في المزارات تبركاً بالمقيم في الحجرة، لكن توسّع العمل بها إلى أناس يعتبرون أن للكلمات المعينة التي قد تستقى من الآيات القرآنية أو الأدعية أحياناً قوة الشفاء والله أعلم. وفي الكثير من الحالات يبرأ الإنسان من المرض بفضل الله تعالى فيردّ الشفاء إلى حجاب من هنا أو هناك لكن في الكثير من الحالات يكون إيمان طالب الشفاعة وصدق نيته سبباً في الشفاء لأن الله يريد أن يقدم العبرة لعباده بأنه لا يخيب رجاء سائليه وأنه هو المبتلي بالمرض وهو من ينعم بالشفاء وكل ما على الإنسان هو أن يؤمن حقاً بذلك وأن يلجأ إلى الله بصفاء النية والقصد.
المعّاز علي حسين من بلدة قليا، إحدى قرى البقاع الغربي، أصاب قطيعه مرض الحمى القلاعية، فلم يبق إلا على القليل من ماعزه. وقد احتار هذا الرجل البسيط في الأمر لكنه قرر أن ينذر لبعض المقامات الدينية القريبة من بلدته، بالإضافة إلى مداواة القطيع أو ما تبقى منه بالأدوية النافعة لذلك. لكن رغم كل تلك الجهود بقيَ هذا المرض يفتك بقطيعه رأساً خلف رأس.
وفي يوم ناداه راعٍ آخر من القاطع المقابل له قائلاً : « يا أخي أبو حسين إذا لم يزل المرض يهاجم قطيعك، فما لك إلا أن تقصد الشيخ سلمان في بلدة السريرة كي يكتب لك حجاباً تعلّقه في رقبة الكرّاز، وقد شفى العديد من الحالات المشابهة لمرض عنزاتك».
حقيقة الأمر أن مقصد الراعي لم يكن بريئاً بل كان على سبيل الهزء والغش للراعي لأن «الشيخ» المقصود لم يكن شيخاً ولا كاتب حجابات بل رجلاً من العامة يدعى السيد سلمان الذي قضى القسم الأكبر من حياته في المهجر ولم يكن لتاريخه قد التزم بفروض الدين، لكنه كان في الحقيقة يتميز بالصفات الحميدة، أخلاقاً وكرماً، وقدوة في المعاملة بين أبناء قريته. وفوق هذا، حباه الله بروح النكتة، ودماثة الخلق. لذا طاب معشره، وكثر أصحابه.
لم يكن في علم المعّاز علي حسين أن «الشيخ سلمان» يكتب الحجابات لكنه قال في نفسه: ما الضرر في اللجوء إليه لعل الله يأتي بالشفاء على يده. بالفعل جاء إليه طالباً منه أن يكتب له حجاباً كي يعلّقه في رأس الكراز لعل ذلك يحمل الشفاء بإذن الله إلى القطيع.
تفرّس السيد سلمان بزائره، ثم سأله عن مرسله، وبعد أن تيقّن من هوية الرجل نهض إلى غرفة جانبية وكتب حجاباً، ثم طوى الورقة بشكل مثلث بعد أن صمّغ أطرافها بالشمع كي لا تفتح ثم ناولها للمعّاز قائلاً : « هذا طلبك، والله تعالى الشافي والمعافي من كل علّة».
تتعاقب الفصول حتى قدوم عيد الصليب، أواخر الصيف. فهذا الموعد هو الثابت والدائم عند القرويين لسداد الديون، ووفاء النذور، ونحر المعاليف وإلى ما هنالك من الأمور التي تتمم دورة الحياة الإجتماعية. وإذا بالمعّاز علي حسين يطرق باب «الشيخ سلمان» وهو يجرّ كرّاز ماعز كبيراً يقدمه له على سبيل الهدية موضحاً أنه وبفضل الحجاب الذي كتبه له قد شفي قطيعه بأكمله، وعوّض الله علينا بالعديد من تعداده».
ذُهل «الشيخ سلمان» من كلام المعّاز، وأفتر ثغره عن ابتسامة ماكرة. ولكن، وهو المشهود له بالصراحة والصدق، تجرأ وقال: «يا صاحبي، سأصارحك القول»:
هل تعلم ماذا كتبت في الحجاب الذي أعطيتك إياه؟
أجابه المعاز : لا، ولكن لي نيتي واتكالي على الله ولي أيضاً نيتك وليس أكثر.
قال السيد سلمان : لقد غلبتني وغلبت الذي أرسلك. والله تعالى استجاب لنيتك وإخلاصك في الطلب منه وليس لطهارتنا أو بركاتنا، كما قد تظن، لقد كتبت في الحجاب «ما زال باقي من عنزات علي في السيري فعزرائيل يقضي على الكبيري والزغيري».
ولكن كما قلت يا صاحبي، نيّتك الصافية وصدقك مع خالقك هو الذي جعل الله تعالى يمنّ بالشفاء على عنزاتك لأن الله أراد أن يجعل من المستهزئ بك ومني عبرة وأن يؤكد صحة القول الكريم: « إنما الأعمال بالنيّات».
أجاب المعّاز بالبساطة التي تميّز شخصيته: ما أعلمه أن الله من عليّ بشفاء ماعزي وكانت نيتي أن أوفيك نذري إذا حصل الشفاء وها أنذا أقدم لك هذا الكرّاز فهو حلال لك ولعائلتك.
«الشيخ سلمان» الذي راق له هذا اللقب في ذاته، وقف محتاراً شارد الفكر بعبرة المعاز علي حسين الذي «غلبه» بصفاء نيته لأن «الشيخ سلمان» غير مقتنع بالحجابات ولم يتخذها صنعة بل هو يهزأ ممنّ يعتقد بها وأراد لذلك أن يثبت اعتقاده بمزحة لم تكن لبقة بقدر ما كان فيها سماجة وقلة احترام. لكن الله تعالى سخر من هزء «الشيخ سلمان» وتقبـَّل نية المعاز الصادقة وأثابه عليها. وهذا مغزى القول المعروف: «آمن بالحجر تبرأ».

ابو الذر الغفاري

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

أبو ذرّ الغفاري

صاحــــب الرســــول أميــــر الفقــــراء

عاش وحيداً ومات وحيداً على قارعة الطريق

بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار،فردّها إليه
وقال: «أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني؟»

شكا معاوية إلى الخليفة «إفساد أبو ذرّ للناس»
فأًمره بترك الشام ونُفيَ إلى قرية قرب المدينة

بكت زوجته إذ لم تجد في البيت ما تكفنه به
فبشّرها أن رهطاً في الطريق إليه سيقوم بذلك

«ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقاً».
أبو ذرّ الغفاري

إذا كان عمر بن الخطاب نموذجاً للعدل في الإسلام فإن الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري هو نموذج النقاء والطهر الإيماني وقد قيض الله تعالى أن يكون أبو ذرّ العلامة الفارقة في صدرالإسلام لأنه بين جمهور الصحابة الذين قامت على عاتقهم الدعوة ثم الفتوحات وبناء الدولة، كان من الذين أدركوا ما خشيه الرسول وهو أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى دولة ذات مال وثراء قد يحمل معه خسارة الكثير من جوهر الدعوة ومبادئها الأصلية وينعكس بالتالي بالنكوص عن الكثير من مبادئ الإسلام ولاسيما في العدل بين الرعية والتقوى والتزام الأوامر والنواهي. وكان نقاء سريرة أبي ذرّ الغفاري أمراً مشهوراً وكانت شدته في الحق وصدقه في المنافحة عن الدين وإدانة المهادنة والتساهل في قبول مظاهر الفساد أو الظلم التي تولدت عن فتح الأمصار والإنتقال إلى مجتمع الرخاء والثروة. وقد كان الرسول (ص) مدركاً تماماً لهذه المفارقة وهي أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى ملك عظيم في الأرض سيحمل تحديات هائلة تقوم بصورة خاصة على كيفية التوفيق بين الإيمان والزهد بالدنيا الذي يدعو إليه الدين وبين الرخاء الاقتصادي وإغراءات الملك والإسراف في حب الدنيا. وقد جاء في الحديث قول النبي (ص) لجماعة من الناس جاءوا يرتقبون الحصول على مغانم بعد فتح أحد البلدان: «وَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وكان أبو ذرّ على تواصل مستمر مع الرسول (ص) ومن الذين أدركوا أهمية التحذير الذي وجّهه النبي لأهل زمانه، وقد أخذه أبو ذرّ فعلاً على محمل الجد، الأمر الذي حوّله إلى صوت مرتفع في انتقاد الانحراف والظلم والفساد لا يخشى في الله أو في الحق لومة لائم. وهذه الخاصية التي تميّز بها أبو ذرّ جعلته من أقرب المقربين للرسول (ص) الذي قدر فيه نقاء سريرته وصدقه وشجاعته في الحق، فقال فيه في حديث نقله أبي هريرة: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبو ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
كان أبو ذرّ من بين وزراء النبي (ص) ومن المقريبن إليه لكنه بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى أصبح صوت الحق الذي ارتفع مندداً بتحول كثير من المسلمين من الجهاد في الدين إلى طلب الدنيا والتنازع عليها. وقد نال أبو ذرّ من انتصاره لمبادئ الإسلام ومعارضته للفساد ما ناله من جفاء أهل الحكم والعديد من أهل زمانه، لكنه ثبت في مواقفه والتزم سلوك التقوى والفقر حتى مات فقيراً وليس في بيته شيء من متاع الدنيا.
فمن هو أبو ذرّ وكيف دخل في الإسلام وما هي مكانته بين الصحابة ولماذا تميّز بحياة الزهد والفقر واحتقار الدنيا وكيف جعلته جرأته في الحق وصدقه من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) وما هي الصفات التي تميّز بها وما هي أهم مواقفه في الإيمان والزهد في الدنيا والثبات في الحق وما هو أثره الخالد في الإسلام كمجاهد ثوري في سبيل الحق والإيمان الصحيح؟

من هو أبو ذرّ الغفاري
أبو ذرّ، وكان يدعى أبو الذرّ جندب بن جنادة الغفاري، وقد اختلف في إسمه لكن اتفق جميع النسابين على أن نسبه ينتهي إلى بني غفار من بني ضمرة من قبيلة كنانة. عرف منذ شبابه بالقوة وشدة البأس والشجاعة في الحرب لكن مع ميل إلى الخلوة والتأمل في أحوال الدنيا كما عرف بالصدق والمروءة، لكن أهم ما كان يميّزه أنه لم يعبد الأصنام في الجاهلية بل كان موحداً يقول «لا إله إلا الله» ويسخر من آلهة العرب ومن صغر عقول من يسجد للأصنام ويترك الخالق الديان. وقد جعلت تلك الصفات من أبي ذرّ من أول المصدقين بالرسول (ص) وقد سارع إلى سلوك طريق مكة بمجرد أن أخبره أحدهم أنه قد ظهر فيها نبي«يقول مثل قوله« أي لا إله إلا الله » وقد وصل أبو ذرّ إلى مكان الرسول وطلب منه أن يعرض عليه الإسلام وأسلم لتوه، وكان بعد ذلك من أشدّ المسلمين تمسكاً بأهداب الدين وقيمه مقتدياً بمثال النبي مخلصاً له حتى آخر يوم في حياته، وهذا يعني أن أبا ذرّ الغفاري كان من الذين جاءوا إلى الإسلام قبل أن يدعوا وهو فعل ذلك والإسلام ما زال سرياً ومضطهداً وقد كان حسب رواة الأثر رابع من أسلم أو خامس من أسلم للدين الجديد بعد السيدة خديجة بنت وهب زوجة الرسول (ص) وأبي بكر الصديق (ر) وعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وقد اشتهر بعد ذلك بالفقه ورواية الحديث وقال جمهرة المحدثين أنه كان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم.
وكان أبو ذرّ أول من حيا الرسول (ص) بتحية الإسلام بقوله عندما لقيه لأول مرة: «السلام عليك يا رسول الله» وكان أول من جهر بإسلامه وسط قريش غير مبالِ بالضرب المبرح الذي تعرض له وقد نزل عند رغبة رسول الله (ص) بمغادرة مكة إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام فعاد إلى غفار وأمضى فيها سنوات يدعوهم حتى أسلم معظمهم كما أسلمت قبائل حليفة لهم ولم يشارك أبو ذرّ لهذا السبب في غزوتي بدر وأحد ولا في غزوة الخندق لكنه شارك بعد ذلك في جميع غزوات الرسول وفي حروب المسلمين التي كانت إحداها «غزوة العسرة» في تبوك.

عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا
عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا

توحيده قبل الإسلام
كان أبو ذرّ حسب وصف معاصريه طويلًاً أسمر اللون نحيفاً وقال بعضهم إنه كان أبيض الرأس واللحية مما يدل على أنه كان قد تجاوز سن الشباب عندما لقي النبي (ص) وأسلم على يده. وكان أبو ذرّ شجاعاً يتفرّد وحيداً بالغزو فيُغير على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، لكن كان من أبرز فضائله أنه كان موحداً قبل الإسلام، وأنه بسبب ما تنامى إليه من ظهور الرسول في مكة سارع إلى استقصاء الخبر قبل أن يتوجه إليه بنفسه يسلم على يديه، وقد كانت قبيلة غفار التي ينتمي إليها أبو ذرّ تسكن البادية بين مكة والمدينة وكانت قبيلة فقيرة تعيش على قطع الطريق والغزو أو ما تحصل عليه من القوافل، ولهذا فقد كان إسلام أبي ذرّ ظاهرة ملفتة وقد تعجب الرسول (ص) لمرأى هذا الرجل الأسمر الأشعث القادم من الصحراء يعلن إسلامه وعدد المصدقين يومذاك لم يكد يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة.
ويبيّن حديث جرى بينه وبين أبي بكر الصديق (ر) كيف أنه كان موحداً قبل الإسلام، إذ أخذ أبو بكر يوماً بيد أبي ذرّ وقال: يا أبا ذرّ، هل كنت تُألِّه (أي تقول «لا إله إلا الله») في جاهليتك؟ أجاب أبو ذرّ: نعم، صليت ثلاث سنوات قبل الإسلام وكنت أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ وكنت أقوم عند الشمس (أي عند شروقها)، فلا أزال مصلياً حتى يؤذيني حرّها، فأخرّ كأني خفاء. فسأله أبو بكر الصديق (ر): فأين كنت توجَّه؟ فقال: لا أدري إلى حيث وجّهني الله، حتى أدخل الله عليَّ الإسلام».
وكما أن سلمان الفارسي (ر) قطع البراري والقفار من أعماق فارس إلى المدينة المنورة بهدف الاجتماع إلى الرسول (ص) وكان يعلم عن قرب ظهوره، كذلك فإن أبا ذرّ الغفاري لم يدع إلى الإسلام بل قدِم إلى الإسلام بنفسه قدوم المؤمن.

الوصايا السبع

قال أبو ذرّ: أوصاني خليلي بسبعٍ:
أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش».

مسارعته للجهر بإسلامه
قال أبو ذر، بعد وصوله الى مكة واسلامه: «أقمت مع رسول الله (ص) بمكة، فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئاً من القرآن، ثم قال لي: لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة، فإني أخاف عليك أن يقتلوك، فقلت: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش، فسكت رسول الله (ص).
قال: فجئت المسجد، وقريش جلوساً يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتي: «يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله». فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً، وهبوا من مجالسهم، وقالوا: عليكم بهذا الصابئ، وقاموا إليَّ، وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي (ص) وأكب عليَّ ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم، وقال: «ويلكم، ويلكم، أتقتلون رجلاً من غفار، وممر قوافلكم عليهم؟ انتبهوا».
قال: ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً، جئت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ما بي قال: يا أبا ذرّ، ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟ فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها، فقال: إلحقْ بقومك، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت، وادعُهم إلى الله، لعلّ الله ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فإذا بلغك أني ظهرت فتعالَ إلي».

جهاد المشركين ..على طريقته
لكن أبا ذرّ لم ينتظر الأمر بقتال المشركين، وقد كان في المسلمين آنذاك ضعف ولم يكونوا بعد قد هاجروا إلى المدينة وقويت شوكتهم هناك. لذلك ومن فرط حميته وحماسه للدين الجديد وبسبب قوته ودربته في القتال وفنون الغزو التي اشتهر بها الغفاريون فقد قرر أبو ذرّ أن يفتح حرباً على المشركين ضمن إمكاناته الخاصة، فكان يكمن لقوافل قريش وغيرها فيعترضها ويحجزها ويقول: « لا أردّ إليكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله»، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئاً. وبقي أبو ذرّ على تلك الحال حتى هاجر رسول الله (ص) ومضت غزوة بدر وغزوة أحد، ثمّ قدِم فأقام بالمدينة مع النبيّ (ص).

جانب آخر من بلدة الربذة
جانب آخر من بلدة الربذة

إسلام قومه بني غفار
أخبر أبو ذرّ عن إسلام قومه بني غفار فقال: لقيتُ رسول الله (ص) فقال: «إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟» فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أنيسا فقال: «ما صنعتَ؟» قلتُ: «صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ». قال أُنيس: «ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ». قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ. قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ وكانوا حلفاء غفار فقالوا: يا رسول الله، أخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم أخوتنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله».
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذرّ صبراً على الإقامة في المدينة، بعد أن خلت من سيدها، وأقفرت من هدي مجلسه، فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
لكن إقامته في الشام جعلت منه شاهداً على التغيرات السريعة التي كانت تطرأ على عالم الإسلام بعد فتح الأمصار واتساع رقعة الدولة وتدفق الثروات وإقبال الناس نتيجة لذلك على الدنيا ومباهجها، وقد استمر أبو ذرّ على اعتقاده بإسلام التآخي والمساواة والزهد في الدنيا وقد ساءه في تلك المرحلة تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الناس فحاول، وهو الصحابي المعتبر وصاحب الرسول (ص) وأحد وزرائه الذين كان يحبهم، أن يتابع الشهادة للحق ويحاول الإصلاح ويدعو لنهج أكثر مساواة بين الناس، إلا أنه وبسبب شخصيته غير المهادنة وثباته في الحق فقد وجد أبو ذرّ نفسه يواجه جفاء الحكام والعديد من الناس الذين انجرفوا وراء الثروة والحياة الرغدة الجديدة، لذلك فقد آثر في نهاية المطاف الابتعاد عن الشأن العام أو جرى كذلك إبعاده عندما استدعاه الخليفة عثمان بن عفان (ر) وطلب منه أن يغادر الشام وأن يقيم في بلدة نائية بين مكة والمدينة تدعى الربذة وهو ما فعله به قانعاً بعيش الإعتكاف في كوخ صغير وعيش الفقر حتى وافته المنية في سنة 32 هجرية.

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

تصوير بليغ للزهد

دخل على أبي ذر رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلب الطرف في بيته، فلم يجد فيه متاعاً، فقال:
«يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟ فقال: لنا بيت هناك، نرسل إليه صالح متاعنا.
فهم الرجل مراده، وهو أنّه يعني الدار الآخرة، وقال: ولكن لا بدّ لك من متاع ما دمت في هذه الدار، فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه»

شهادة الرسول (ص) به
من أشهر ما قاله فيه رسول الله (ص) ما أورده أبو هريرة إذ نقل عن النبي قوله: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وهذا الوصف من النبي (ص) يغني عن كل وصف لأبي ذرّ وسيظهر صدق ابي ذرّ في سيرته وجهاده ليس فقط في عصر النبي (ص) بل إنه سيظهر بأجلى معانيه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى وانطلاقة الدولة الإسلامية واتساع رقعة ملكها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرسول (ص) وقد كان أخبر الناس بأبي ذرّ ونقائه وجرأته في الحق كان يخشى عليه من مكائد السياسة ورياح الفتن التي تحدث عنها قبل وفاته، وقد حرص على أن يوصيه بالحيطة وطاعة الأمير حتى وإن حصل ما قد يرى فيه افتئاتاً على الشريعة أو ظلماً. وهناك حادثتان مهمتان تظهران مدى اهتمام الرسول (ص) بأبي ذرّ وحرصه عليه. الحادثة الأولى كانت عندما سأل الرسول (ص) أبا ذرّ: «يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كان عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» (أي يغصبون حقوق المسلمين في المال والغنائم) فقال أبو ذرّ: «إذا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به». فقال النبيّ: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني».
من منطلق الحرص نفسه نصح الرسول (ص) أبا ذرّ بعدم السعي للإمارة وقد سأل الصحابي الجليل الرسول يوماً: «يا رسول الله ألا تستعملني؟» أي الا تولني إمارة أو عملاً أخدم فيه الإسلام؟ وكان اقتراح أبي ذرّ من منطلق العمل للمجتمع الإسلامي وإحقاق الحق ولم يكن إطلاقاً طلباً لجاه أو مال، لكن الرسول (ص) كما جاء في الحديث الذي نقله الحارث بن يزيد الحضرميّ ردّ بأن وضع يده على كتف أبي ذرّ ثم قال له: «إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
رافق أبو ذرّ عهد أبي بكر الصديق وعمر وعايش مرحلة الخليفة عثمان وكان له رأي صريح في أحقية الإمام علي (كرم الله وجهه) بالخلافة لكنه حاذر مع ذلك الإنجرار إلى الفتن التي اندلعت بعد مقتل الخليفة عثمان، وقد كانت له قبل ذلك مواقف ناقدة لمعاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام، وقد أقام أبو ذرّ هناك لبعض الوقت وشهد التحولات الكبرى وصدم لما رآه من استئثار فئة بالثروات من دون الناس فذهب إلى معاوية يناقشه في الأمر. وقد روى زيد بن وهب تلك الواقعة وما حصل بعدها على الشكل التالي قال: مررتُ بالرّبَذةِ (وهي قرية صغيرة من قرى المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ فقلتُ: «ما أنزلك منزلك هذا؟» قال: «كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ قال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب»، قال: فقلتُ «نَزَلَتْ فينا وفيهم». قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك» وبالرغم من تفهم عثمان لموقف أبي ذرّ وشكواه من تبدل المجتمع الإسلامي بعد الرسول، فإنه لم يكن يرى ما رآه الصحابي الزاهد واعتبر أن الإسلام دخل عصراً جديداً قيضه الله بسبب الفتوحات وامتلاك الأمصار وأنه لا يمكن لهذه الإمبراطورية أن تدار كما كان يدار مجتمع المدينة البسيط أو كما كان المجتمع الإسلامي في أول عهده. لذلك أيدّ عثمان وجهة نظر معاوية وأمر أبا ذرّ أن يُهدِّئ من حملته، واستأذن أبا ذرّ الخليفة الإقامة في قرية الربذة وهي قرية في نواحي المدينة فأذن له.
نأتي هنا إلى حديث نبوي مهم تنبأ فيه الرسول بما سيعترض أبو ذرّ من صعوبات جراء التصادم الذي توقع أن يحصل بينه وبين المجتمع الإسلامي الصاعد، فقد حدّث محمّد بن سيرين أنّ رسول الله (ص)، قال لأبي ذرّ: «إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعاً فاخرج منها -ونحا بيده نحو الشام- ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!» قال: «يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟» قال: «لا»، قال: «فما تأمرني؟» قال: «اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشي».
يذكرأنه لما توجه أبو ذرّ إلى الربذة بعد أن أمره الخليفة عثمان (ر) بذلك وصلها وقد أقيمت الصلاةُ وعبدٌ حبشي لعثمان يؤم المصلين. ولما رأى الحبشي أبا ذرّ تأخّر ودعا الصحابي لأن يؤم المصلين مكانه، فقال أبو ذرّ له: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ».
وقال عبد الله بن سيدان السّلَميّ: «تَناجى أبو ذرّ وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّماً فقال له الناس: «ما لك ولأمير المؤمنين؟» قال: «سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صنعاء أو عدن ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ»، وقد أمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
يشير الحديث المنقول عن النبي (ص) مجدداً إلى أنه وقد كان يكنّ الحب لأبي ذرّ أراد أن ينصحه بالإبتعاد عن الشأن العام لأنه كان يتنبأ بحصول الخلافات وربما الفتن من بعده وكان يعتقد بأن الأفضل لأبي ذرّ الزاهد العابد أن لا يقترب من فتنة الدنيا سواء من طريق طلب الإمارة أو من طريق أخذ جانب أي من الفرقاء المتخاصمين، أو محاولة تبديل ما لم يعد ممكناً تبديله لأن مجتمع الإسلام تغيّر ولأن لله حكمته في كل شيء.

ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه
ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه

صدَّق أبو ذرّ رسول الله (ص) وقرر أن ينأى بنفسه عن الحياة العامة، لكن وبسبب شهرته بين صحابة رسول الله ومكانته الكبيرة في الإسلام وبسبب ما عرف عنه من صدق وتمسك بمبادئ الرسالة وتعاليم النبي (ص) فقد أيّده كثيرون بل جاءه يوماً نفر كبير من أهل العراق (قيل من أهل الكوفة) فقالوا: «يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل (يقصدون عثمان) وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟» وكان واضحاً أنهم يحرضونه على التمرد، فقال أبو ذرّ لهم: «يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له» وأضاف أبو ذرّ «والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي» وكان يستذكر بذلك تنبيه الرسول له لأن يبتعد عن الشام عندما تبدأ فيها المدنية وحركة العمران والإقبال على الدنيا. وكان هذا في الحقيقة موقف صحابي جليل آخر هو سلمان الفارسي عندما اشتد الخلاف بين المسلمين إذ آثر أن يبتعد وأن يقضي آخر أيامه في المدائن يعيش كعامة الناس بل كفقرائهم وهو الأمير عليها.
حدث أبو ذرّ عن رسول الله (ص) بأنه قال له: «يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفاً وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ» وعندما يقول الرسول عن أبي ذرّ بأنه ضعيف فإنه لا يقصد به ضعف الشخصية أو حتى البنية وهو الذي كان يعرف مدى صلابته في نصرة الدين ومشاركته في أكثر غزوات المسلمين بعد الخندق، بل كان يقصد أنه كان من الطهر وسلامة القلب بحيث لا يطيق مكائد السياسة والتنازع عليها بين أهل الدنيا وكان الرسول (ص) يريد أن لا يستدرج أبا ذرّ إلى ما لا طاقة له به. وهناك شبه ملفت بين نصح الرسول لأبي ذرّ باجتناب الدنيا والإمارة وبين قول لسلمان الفارسي (ر) جاء فيه: «إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميراً على اثنين فافعل».

حب الرسول (ص) له
كان أبو ذرّ من القلة المقربين إلى رسول الله (ص) بل كانت له مكانة خاصة لديه وقد ذكر أبو الدرداء أن الرسول (ص) «كان يبتدئ أبا ذرّ الكلام إذا حضر، ويتفقده إذا غاب».
وجاء في الأثر أن أبا ذرّ أقام في باديته يدعو قبيلته غفار إلى الإسلام حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ، ثم قدم إلى المدينة وقد أسلم أهل غفار وأقوام غيرهم وانقطع إلى رسول الله (ص)، واستأذنه أن يقوم في خدمته، فأذن له، ونَعِمَ بصحبته، وسَعِدَ بخدمته، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه، فما لقيه مرةً إلا صافحه، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
ومن علامات حب الرسول لأبي ذرّ حديث لشريك عن أبي ربيعة عن ابن بريدة عن أبيه قال: فقال رسول الله (ص) إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمِّهم لنا. قال عليٌّ منهم يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان الفارسي، أمرني بحبِّهم وأخبرني أنه يحبهم».
وجاء ذكر أبي ذرّ كأحد وزراء النبي أو حوارييه المقربين في حديث أثبته أحمد إبن حنبل في مسنده جاء فيه: إن رسول الله (ص) قال: «إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وحذيفة، وسلمان، وعمار، وبلال»
وقال مالك بن دينار أنّ النبيّ (ص) جلس يوماً مع أصحابه ثم قال: «أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟» فقال أبو ذرّ: «أنا»، فقال له النبيّ (ص) «صدقتَ» .وكان النبي يشير إلى علمه بأن الكثيرين من الصحابة الذين جاهدوا معهم ستتبدل أحوالهم مع دخول الرخاء والثراء إلى عالم الإسلام، وقد وُلِّي كثيرون منهم الأمصار أو النواحي وصار لأكثرهم شأن وحال من اليسر والاستقرار في الدور والحواضر والمدن. وكان أبو ذرّ يحب أن يذكر هذا الحديث لأصحاب رسول الله قائلاً لهم: «إني لأقْرَبَكُم مجلساً من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ فِيهَا».

نبوءة الرسول (ص)
حول أبي ذرّ

عن عبد الله بن مسعود (ر) قال: لما سار رسول الله إلى تبوك1 جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول :»دعوه، إن يكُ فيه خير فسيُلحقه الله بكم، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه»
حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله: «دعوه، إن يكً فيه خير فسيلحِقه الله بكم، وإن يكً غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
فتلوَّم أبو ذرّ (ر) على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله: «كن أبا ذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذرّ. فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
1-هي غزوة تبوك وسميت بـ «غزوة العسرة» بسبب ما اعترض المسلمين فيها من صعاب وخصم قوي عدة وعدداً

قبر أبي ذر اليوم
قبر أبي ذر اليوم

ورعه وشدته في الحق
كان أبو ذرّ ورعاً للغاية يحاسب نفسه أشد الحساب وكان بنفس المعنى يحاسب الآخرين ولاسيما صحابة النبي (ص) على ما يبدر منهم مما يعتبره ضعفاً في الإيمان أو العزيمة أو محاباة للقوي. لذلك ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه (يضمه إليه) مخاطباً إياه بالقول: «أنت أخي» فيجيبه أبو ذرّ مبتعداً: «إليك عني»، ويقول الأشعريّ مجدداً، «مَرْحَبًا بأخي»، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: «لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ» (أي قبل أن تصبح في خدمة سلطان) ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه (أي اراد أن يضمه إليه) وقال: «مرحبًا بأخي»، فقال أبو ذرّ: «إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟» قال: «نعم»، قال: «هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟» قال: لا»، قال: «أنت أخي أنت أخي».
وحدث سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِراً بها قائماً يصلّي فقال له: « يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟» قال:» لو كان لي لرأيتَه عليّ»، قال: «فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين»، فقال: «يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني»، قال: «والله إنّك لمحتاج إليهما»، قال أبو ذرّ: «اللهمّ غفراً، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟».
بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار، وقال له:»استعن بها على قضاء حاجتك». فردها إليه، وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني».
وقال عيسى بن عُميلة الفَزاريّ: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ عَصَرَه، وقرّب إليهم تمراً وهو يسير، ثمّ تعذرّ إليهم وقال: «لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به». قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئاً.
وقال خالد بن حيان: «كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق».
قيل لأبي ذرّ: ألا تتخذ أرضاً كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: «وما أصنع بأن أكون أميراً، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ (منقوع الزبيب) أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح».
وعن أبي ذرّ قال: «كان قوتي على عهد رسول الله صاعاً من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى».
وقال سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوساً بما بقي وقال: «إنّه ليس من وعى ذهباً أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه».

روايته للحديث
روى أبو ذرّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم وكان أحد أهم مراجع النقل عن رسول الله (ص). وقد روى عن أبي ذرّ الخليفة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس التميمي، وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخ أبي ذرّ، وخرشة بن الحر الفزاري، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد الأسدي، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن
أبو ذرّ الغفاري عن الرسول (ص).
في صحيح مسلم عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله: هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنَّى أراه». قال النووي: أي حجابه نور، فكيف أراه؟!
روى البخاري بسنده عن أبي ذرّ (ر) قال: سألت النبي، أي العمل أفضل؟ قال :»إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تعين ضَايِعاً أو تصنع لأخرق» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك».

مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر
مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر

من أقواله البليغة

ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟

لا تَغشَ أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب
من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه

إذا سافر الفقر إلى مكانٍ قال الكفر خذني معك.

• حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد الحر لطول يوم النشور، وصلوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور».
• انظروا إلى الدنيا نظرة الزاهدين فيها، فإنها عن قليل تزيل الساكن، وتفجع المترف فلا تغرنَّكم.
• عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
• والله لو تعلمون ما أعلم، ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني، يوم خلقني، شجرة تعضد، ويؤكل ثمرها.
• إني لأعرف بالناس من البيطار بالدواب، أما خيارهم فالزاهدون، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه.
• ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟
• أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه بمال إلى أبي ذرّ رضي الله عنه مع عبدٍ له، وقال له: إن قبله منك فأنت حر. فلما ذهب العبد بالمال، لم يقبله، فقال له العبد: يا سيدي إن قبولك له فيه عَتقي. فقال له أبو ذرّ: إن كان فيه عَتقُك فإن فيه رُقِّي.
• كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
• هل ترى الناس ما أكثرهم؟ ما فيهم خير، إلا تقي أو تائب.
• رأى رجل أبا ذرّ وهو يتبوأ مكاناً، فقال له: ما تريد يا أبا ذرّ؟ قال: أطلب موضعاً أنام فيه، نفسي هذه مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني.
• ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
• لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم، إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
• يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى، ويتركون ما يبقى، ألا حبذا المكروهان: الموت والفقر.
• الوحدة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة.

.

كيف يموت العبد الزاهد

أوصى بأن يُغسل جثمانه ويكفن ويوضع في الطريق
وأن يطلب من أول القادمين أن يعينوا أهله على دفنه

كان موت ابي ذر الغفاري خاتمة مناسبة لحياة الزهد والتقشف والفقر التي عاشها كما إنه كان عنواناً لاحتقاره الدنيا الفانية وتطلعه إلى الباقية بشغف المؤمن الثابت العقيدة والواثق من وعد الله، بل إن أبا ذر أراد ربما أن يعطي بموته درساً من أبلغ الدروس لأهل الدنيا حتى يعلموا أين سينتهي بهم المطاف فلا يتعلقون بمباهجها الخادعة ولا يكون لهم طول الأمل بها بل التفكر الدائم بأنهم ميتون وملاقو ربهم فيتقون ويعتبرون.
لقد كان موت أبي ذر عنواناً لنبوءتين قالهما الرسول (ص) الأولى عندما قال: رحم الله أبا ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث وحيداً. والثانية تنبأ فيها بظروف دفن أبي ذر إذ قال في جمع من أصحابه كان بينهم أبو ذر:» «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبالفعل فقد مات أبو ذر وليس لدى زوجته أو أهل بيته كفن يلفونه به وكانوا يعيشون في ناحية من الربذة الشبه مقفرة ، فلم يجدوا بالتالي من يهب إلى غسله ودفنه. وكان أبو ذر يعيش لحظاته الأخيرة وامرأته قلقة جداً كيف ستتصرف عندما تفارق الروح الجسد. وكانت لذلك تبكي بحرقة. قال لها أبو ذر: «ما يبْكيك؟» فقالت: «ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك». لكن أبا ذر المؤمن كان على يقين بأن ما أنبأ به الرسول (ص) لا بد حاصل فقال لها: «أبْشِري وَلَا تَبْكِي، فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: «لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وأردف أبو ذر قائلاً لزوجته: ليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذِّبت فأبْصِري الطريقَ». قالت زوجته: «وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ وكانت تقصد أن الحجيج كانوا قد عادوا إلى بلدانهم ولم يعد أمل بمرور قوافل أو راجلين يساعدونهم»، قال: « اذهبي فتبصَّري». قالت: «فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه. أي أعتني به وهو في نزاعه الأخير. وأخبرت زوجة أبي ذر بعدها فقالت: بينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ»، فقالوا: «يا أمَةَ الله، ما لك؟»، قلت: «امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟» قالوا: «ومَنْ هو؟» قلت لهم: «أبو ذرّ». قالوا: «صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ « قلت: «نعم». قالت: «فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السيّاط في نحورها (أي ألقوا اللجام على أعناق النوق) يتسابقون إليه حتى جاءوه»، فقال لهم: «أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً» وكان أبو ذر يقصد بذلك أنه لا يريد لأي كان في منصب إمارة أو وجاهة أو على علاقة بالدولة أن يكفنه أو أن يشترك في تكفينه. وكان معظم الذين وقفوا حوله للمساعدة ممن تنطبق عليهم تلك الصفات إلّا فتًى من الأنصار، فقال: «أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي». قال: «أنت تكفنني يا بني». قال: فكفّنه الأنصاريُّ وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك الأشتر. وقيل في رواية ثانية أو هي تكمل الرواية الأولى أنه لما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وحضره الموت ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فإنه أوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلاً ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط من أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام قال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، «تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك». .
توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ وقيل في آخر شهر ذي الحجة سنة 31 هـ بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان (ر) بالمدينة، فضم ابنة أبي ذر إلى عياله، وقال: «يرحم الله أبا ذر». وتقع الربذة اليوم 100 كم جنوب شرقي محافظة الحناكية و200 كم شرق المدينة المنورة.

عمر بن الخطاب

“كان عمر (ر) قبل إسلامه رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش ومفاخراً ومنافراً لها مع القبــــائل”

” توسعت الشورى في خلافة عمر لكثرة المستجدات ولامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم مختلفة  “

[su_accordion]

[su_spoiler title=”تاريخنا الذي أضعناه” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عندما فتح الإسلام الأمصار وكسب قلوب الشعوب
بدعوة التوحيد والعدل ومخافة الله في الحق

الخليفة عمر بن الخطاب نموذجاً

في زمن راجت فيه حركات التطرف والعنف الأعمى وماتت الرحمة في قلوب الكثيرين وساد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتفشى التعصب وتزاحمت الرايات وتناحرت وتفرقت الأمة جماعات يقاتل بعضها بعضاً واستوى الأعداء في مقاعدهم يتفرجون مغتبطين لمشهد هذه الفتن المرعبة التي تدمر يميناً وشمالاً وتحصد قيمنا وحضارتنا كما تأتي النار على اليباس الهشيم. في هذا الزمن البائس، زمن محنة الأمة في وجودها وقيمها وإنسانيتها نبحث جميعاً عن سبب لكل ما يجري فلا نجد في الحقيقة إلا جواباً واحداً وهو أننا ابتعدنا عن الإسلام الحق الذي بهر العالم بسماحته وشرف خصاله وعظمة رسالته إلى جاهلية جديدة بل إلى حالة من الإنحطاط والتوحش لو قيض لأهل الجاهلية أن يعودوا بيننا لكانوا أول من تبرأوا منها ورفضوا أي صلة بها، وقد كانت لعرب الجاهلية -يجب أن لا ننسى- خصال عظيمة وشيم وشرف، ولولا أنهم كانوا حتى قبل إسلامهم مجتمعين على قدر كبير من الرفعة والخصال الحميدة، ولولا أن كانت لهم قيم وأعراف يلتزمونها لما كانوا تقبلوا الإسلام وتحمل الأولون منهم ما تحملوه من أجل نصرته والجهاد في سبيله.
قد لا يكون في مقدورنا أو مقدور أي جماعة صغيرة أن تقف في وجه هذا الإعصار من الغضب النفسي والأحقاد والكراهية وشهوة القتل لكننا نمتلك مع ذلك في وجه هجمة الظلام سلاحاً ماضياً وجباراً هو أنوار عقيدتنا الإسلامية وتاريخنا وسير الأولين والسلف الصالح، نمتلك قيم الإسلام التي لا يمكن لأي قوة أن تبدّل فيها لأنها مصانة في كتاب الله العزيز وفي السنة النبوية الشريفة وفي سير الصالحين والإرث المجيد للأمة وهو أشبه ببحر عظيم لا حدود له ولا يمكن أن تنفد مكنوناته وجواهره. وإن العودة إلى تلك الأسس المتينة لصرح الإسلام هي في الواقع أفضل جواب على ما يجري من تلفيق وتآمر وهي أمضى سلاح يمكن أن نشرعه من أجل حماية عقيدتنا وقيمنا ومجتمعاتنا.
في هذا العدد نسلط الضوء على بعض الجوانب المضيئة لرسالة الإسلام في انطلاقتها المظفرة ونتخذ مثالاً على أهميتها حياة وجهاد وتعليم رجلين من كبار الصحابة هما الخليفة عمر بن الخطاب والصحابي الجليل المجاهد الذي مدحه الرسول كأصدق من وجد على وجه البسيطة أبو ذر الغفاري، وقد اخترنا من تلك الفترة نماذج حقيقية لأن هذا الأسلوب يترك التعميم والوصف التاريخي لينطلق من علم السيرة وما يحمله من فوائد لأنه ليس أقوى من أن تجد رسالة الإسلام الحق كما أنزلها الله تعالى وقد تمثلت في أشخاص حقيقيين يحيون مبادئها ويحكمون بشريعتها ويقدمون المثال على حجم التغيير الذي أمكن للإسلام الحق ومبادئه السمحاء أن يحدثه في العالم. وقد كان أشهر ما وصف به الله تعالى الرسول الهادي في القرآن الكريم الآية الكريمة }وإنك لعلى خلق عظيم{ (ن:4) وكذلك قوله تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{ (آل عمران: 159) فالله تعالى ينبئ رسوله أنه نصره باللين والخلق العظيم، وفي هذا القول من الحق ما يغني عن أي مزيد لأن الله يصف دينه بأنه دين الرحمة والأدب واللين والتخلق بأخلاق الله وليس دين الغلظة والشراسة. وسنرى في هذا الفصل الذي اخترنا فيه الخليفة عمر بن الخطاب كنموذج كيف كان فهم الصحابة الكرام -وهم أقرب الناس إلى الرسول (ص) وإلى فهم القرآن والسنة-الإسلام الحق، وكيف طبقوه وكيف نشروه في العالم بقوة المحبة والسماحة وخصال الإسلام الشريفة التي بهرت الشعوب فأقبلوا على هذا الدين بمحض الإعجاب بالرسالة والإعجاب والتقدير لممثليها كما كانوا يرونهم في حياتهم اليومية وتعاملاتهم، وصفاتهم. وسنتابع الموضوع إن شاء الله مع حلقات تالية نسلط فيها الضوء على جوانب مضيئة من تاريخ الإسلام ومسيرته الحضارية والإنسانية.
نشير هنا إلى أننا استفدنا في هذا المقال من النصوص والمراجع والمصنفات الإسلامية ولاسيما المؤلف النفيس للدكتور محمد الصلابي :«فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب» 1261.

تمكّن المسلمون في أقل من ثلاثة عقود من فتح معظم أمصارالمشرق والمغرب بما في ذلك بلاد الشام والعراق وفلسطين ومصر وليبيا وفارس لكن الأهم من فتح الأمصار أن المسلمين تمكنوا رغم حداثة عهدهم بحكم الممالك والإمبراطوريات من وضع الأسس لحكم إسلامي يقوم على أحد أنجح الأنظمة السياسية في التاريخ وأكثرها تقدماً في مجال التسامح واحترام الحريات والعقائد وإشاعة العدل الاجتماعي وبناء نظام الخلافة قبل أن ينتقل المسلمون إلى مرحلة الملكية الوراثية مع قيام الدولة الأموية ثم الدولة العباسية وما تلاها من ممالك في تاريخ الإسلام الطويل حتى نهاية مرحلة الدولة العثمانية.
لقد نجح الرسول (ص) والخلفاء من بعده في اجتراح الحلول لكافة القضايا والمشكلات التي استجدت بسبب خروج المسلمين إلى العالم وتولي قادتهم ورجالاتهم لحكم بلدان بعيدة وأحياناً غير عربية، وجاهد الخلفاء الراشدون أيما جهاد لكي لا يؤدي الثراء المفاجئ إلى شيوع الرخاء وتراجع القيم الإسلامية التي أينعت وازدهرت في زمن الدعوة وشظف العيش وخبز الشعير واضطهاد المسلمين. وقد اعتنى الخليفة عمر بصورة خاصة بتطوير نظام الحسبة، والأسواق والتجارة واهتم بالعلم وتتبع الرعية بالتوجيه والتعليم جاعلاً من المدينةَ المنورة داراً للفتوى والفقه ومدرسة لتخريج العلماء والدعاة والولاة والقضاة. ومع توسع حركة الفتوحات تمّ إرشاد القادة والأمراء إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة، لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الجديدة، وقد وصل عدد المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة في دولة عمر (ر) إلى اثني عشر ألف مسجد وتميّز عصر الفاروق (وقد أعطي هذا اللقب باعتبار أن إسلامه فَرّق بين الإسلام والكفر) بالتطور العمراني وبناء شبكات الطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وفي عهده نشأت المدن الكبرى كالبصرة والكوفة والفسطاط، وأشرف الفاروق على تطوير المؤسسة المالية والقضائية وقام بتأمين مصادر دخل الدولة من الزكاة والجزية والخراج والعشور والفيء والغنائم وتعزيز بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، ووضع السجلات بأراضي الخراج وأصدر النقود الإسلامية وقام بتطوير النظام القضائي فعيّن القضاة وحدد مرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، ومصادر الأحكام القضائية، والأدلّة التي يعتمد عليها القاضي، وبيّن القواعد في تعيين الولاة والصفات الواجبة فيهم والشروط التي تفرض عليهم، ثم تابعهم في حكمهم وتعامل مع شكاوى الرعية فيهم، وحاسبهم وأنزل أقسى أنواع العقوبات بالمتحاورين منهم.
رغم ما يشير إليه كل ما سبق من الأهمية الكبيرة لمرحلة ولادة المجتمع الإسلامي فإن الصحابة والخلفاء الراشدين كتبوا بأعمالهم سيرة حافلة بنصرة الحق والاستقامة والورع والتواضع والتزام حياة البساطة حتى بعد أن دانت لهم الأمصار وتدفقت أموال الخراج والمغانم إلى بيت مال المسلمين. وجسّدت تلك الحياة البسيطة الورعة صورة عن تربية الرسول (ص) لأصحابه وعن مدرسة التقوى والزهد بل الفقر التي أسس لها في حياته هو وفي كفاحه وسيرته كنبي وكفاتح، وهو الذي دخل مكة مطأطئ الرأس بروح الخضوع وكان أول فعل له كسلطان للدولة الإسلامية المنتصرة هو العفو عن مشركي مكة الذين ساموه وساموا المؤمنين أشد العذاب في مرحلة ما قبل الهجرة وحتى الفتح وإنهاء دولة الشرك. وكان لملازمة الخلفاء الأربع للرسول (ص) وصحبتهم الطويلة له ومجالستهم أو مرافقتهم إياه أثر عظيم في تماهيهم بصورة شبه تامة مع أخلاق الرسول واستيعابهم بقوة الحب والإتباع لسيرة النبي ولتعليمه ولنهجه.
وبسبب حكمه الذي امتد لعشر سنوات وتزامن مع أهم مرحلة تأسيسية في تاريخ الإسلام، وبسبب أن معظم الأوضاع التي واجهها المسلمون كانت جديدة عليهم ولم يسبق أن تناولها حكم أو اجتهاد، فقد كان على عمر بن الخطاب أن يسنّ السنن وأن يجتهد في كل ما يتعلق بالدولة الجديدة ومجتمع المسلمين مسنداً اجتهاده دوماً إلى القرآن وإلى السنة النبوية، وعند الحاجة إلى حس العدل والحق الذي كان بمثابة البوصلة التي تهديه دوماً إلى جادة الصواب، إضافة إلى ما سبق تحوّلت حياة عمر بن الخطاب منذ إسلامه وحتى استشهاده إلى سيرة زاخرة بالتعليم والمواقف المشهودة التي كانت وما زالت خير ما يمكن أن يقدّم للعالم من أمثلة على عظمة الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية.

عمر في الجاهلية
ولد عمر بن الخطاب، ويكنى أبا حفص، في مكّة بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، إلا أنه امتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة وحمل المسؤولية صغيراً واتصف لذلك بقوة التحمل والجلد وشدّة البأس، وقد تعلم أيضاً ألواناً من رياضة البدن، فبرع في المصارعة وركوب الخيل والفروسية وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، واحتل مكانةً بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه. يقول ابن سعد «إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام» .

إسلامه
كان عمر (ر) رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً ومنافراً لها مع القبائل، وكان بسبب إخلاصه وتفانيه في الدفاع عن ما يعتقده يدافع عن ما ألفته قريش من عادات وعبادات وقد وقف لذلك في وجه الدين الجديد قبل أن تسوقه الأقدار في أحد الأيام إلى بيت شقيقته فاطمة التي كانت قد أسلمت سرّاً مع زوجها وقد فاجأ عمر شقيقته وهي تقرأ القرآن الكريم مع زوجها فعنّفها وحاول ضرب زوجها قبل أن يهدأ ويطلب منها أن تقرأ عليه ما كانت تقرأ (وكانت سورة }طه{) فلما استمع إلى مطلعها رقّ قلبه كثيراً وقال: «ما ينبغي لمن يقول هذا الكلام أن يعبد إلهاً غيره» وطلب من اخته وصهره أن «دلّوني على محمد».

آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية
آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية

عمر بن الخطاب
الشاعر .. والناقد

كان عمر (ر) أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقييمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره، ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والإبانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان (ر) يمنع الشعراء من قول الهجاء أو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم.

إسلام عمر يبدّل الموازين
أسلم عمر وهو ابن سبعة وعشرين عاماً، وتحول فور إسلامه إلى أبرز منافح عنيد عن الدين الجديد، الأمر الذي بدّل الموازين ورفع معنويات المسلمين وكان عددهم يومها 37. وفي هذا قال عبد الله بن مسعود (ر) : «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا».

هجرته
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية إذ إنه تحدى المشركين عند الكعبة أن يتبعوه فلم يفعل أي منهم ومضى في سبيله.
أدت ملازمة عمر بن الخطاب للرسول (ص) وكثرة تحدثه معه، إلى طبعه على البلاغة والبيان وطلاقة اللسان، وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله (ص) لم يترك المجلس حتى ينفضّ وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله (ص) نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة في الشؤون الخاصة والعامة.
ولذلك فقد روى عن النبي (ص) خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً تناولت شتى أوجه العبادات والمعاملات، وقد اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين(1)، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى.
هيبة عمر
كان عمر بن الخطاب حاسماً وشديداً في الأمر والنهي وكان صاحب فراسة ومنطق وقوة بيان وكان لذلك مهاباً من الجميع بل كان الكثيرون يخشون غضبته في الحق، وكان الرسول معجباً بجرأة عمر مقدراً نصرته للدين حتى خاطبه يوماً بالقول: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً (أي طريقاً) قط إلا سلك فجاً آخر(2) هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الحق وخصومته للباطل لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه.

بعض أهم إنجازته
1. الحثّ على جمع القرآن الكريم: كان عمر بن الخطاب أول من أشار على الخليفة الصِدّيق بجمع القرآن الكريم وبخاصة بعد أن أدت الحروب ولاسيما حرب اليمامة إلى مقتل الكثير من حفظة القرآن.
2. التأريخ بالهجرة: كان الخليفة عمر أول من كتب التاريخ بالهجرة.
3. رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته ردّ سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء.
4. لقب أمير المؤمنين: كان عمر بن الخطاب أول من كتب بإسم «أمير المؤمنين» وقيل إن رجلين قدما من العراق يطلبانه وقد دخلا الجامع فسألا عمر ابن العاص أن يستأذن لهما لدى «أمير المؤمنين» وقد استحسن ابن العاص الإسم وألح على عمر أنه اللقب المناسب «لأننا نحن المؤمنون وانت أميرنا». فجرى استخدام اللقب من ذلك اليوم.
5. ضرب النقود الإسلامية : يقول المقريزي: «وأول من ضرب النقود في الإسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها: «الحمد لله». وفي بعضها: «لا إله إلا الله» وعلى جزء منها إسم «الخليفة عمر».
6. الشورى: اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.
ومن مأثور قول الخليفة عمر: «لا خير في أمر أبرم من غير شورى»، وقوله: «شاور في أمرك من يخاف الله عزّ وجل» ، وكان يحث قادة حربه على الشورى، ثم توسع نطاق الشورى في خلافة عمر (ر) لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع.

العدل والمساواة
فتح عمر بن الخطاب الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنع عنها أي ظلم قد يقع عليها كما تدل عليه الأمثلة التالية:
1- اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: «والله لقد قضيت بالحق» قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصُنِع له طعام جاء به خدام وضعوه أمام القوم وانصرفوا. سأل عمر ضيفه: أترغبونه عنهم؟ (أي ألا تطعمونهم من هذا الطعام) فقال الضيف: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكننا نستأثر عليهم (أي نأكل قبل أن يأكلوا) فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين(3).
2- لم يكن عمر رضي الله عنه ليأكل من طعام غير متيسر لجميع المسلمين، وكان يصوم الدهر، وكان طعامه في زمن الرمادة خبزاً بالزيت.
3- من الأمثلة على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم الذي وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحلَّه، فغضب الأمير الغساني لذلك فلطم الرجل لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حلّ به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه.
قال له عمر: إما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
اعترت جبلة بن الأيهم الدهشة لكلام عمر وقال له: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوّى بينكما.

صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2
صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2

حق الأمن والحريات الشخصية
تكفل الإسلام اولاً للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر الأمراء والولاة على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وقد كانت حرمة المسكن وحقوق الملكية مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين، كما إن الإسلام كفل حرية الرأي كفالة تامة فكانوا يتركون الناس يبدون آراءهم، وكان عمر (ر) يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي(4)، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردّني أحد منكم تهيباً مني(5)، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: إتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها(6)،

ورعه
كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع في ما يحق له ولا يحق، فإنه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن بالقول: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليّ حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.

تواضعه الشديد
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: «لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة (أي أعجاب بالنفس) فأردت أن أكسرها» .

نزاهته
قال عمر (ر): إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية ، ولذلك كان شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فكان إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أؤتي برجل وقع في ما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر. وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه خوف أن يحصلوا على منافع أو حظوة بسبب أواصر القربى التي تربطهم بخليفة المسلمين.

عمر يأمر بجلد ابنه علناً

يروي ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبر عمر غضب وكتب إلى بن العاص يعنفه بشدة لهذه المحاباة مؤكداً له أن « لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه» و«إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. وبناء على طلب عمر جيء بإبنه عبد الرحمن إلى المدينة فأقيم عليه حد الخمر جلداً وشهد ذلك جمهور العامة».

الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة
الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة

خاتمة
هذا غيض بسيط من فيض الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وكان نموذجاً على عصر بكامله وصحابياً عظيماً من أولئك الذين زخر الإسلام بهم في عصره الذهبي الأول، عصر الطهرالحقيقي والجهاد والزهد بالدنيا وما فيها؛ عصر التسامح وحرية الرأي والاعتقاد واحترام جميع من عاش في دار الإسلام من مذاهب وديانات سماوية. ولنتأمل كم أصبحت سحيقة هذه الهوة المستعرة التي تفصلنا اليوم كمسلمين عن الإسلام الذي عاشه عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدون والصحابة الكرام. كم نحن في حاجة لاستذكار ذلك الجانب المضيء من تاريخنا وإرثنا الروحي والأخلاقي والسلوكي لعل ذلك يسهم في إيقاظ الضمائر وشفاء البصيرة واستفاقة العقول وصلاح الناس والمجتمع.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الحرية الدينية في الإسلام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الإسلام ترك أهل الكتاب يمارسون شعائرهم بسلام
بل أعلن أن الدولة ستقاتل لحمايتهم من أي عدوان
الشيخ محمد الغزالي
لم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء، مثل ما صنع الإسلام

تشهد حركة الفتوحات الكبرى في مطلع الإسلام على احترام الرسالة الخاتمة للأديان الأخرى، وحرص أولي الأمر في تلك الفترة الذهبية على عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام. وقد جاءت عمر بن الخطاب ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: «أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق» فقالت: «أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب»، فقضى حاجتها، ولكنه وبعد أن انصرفت راودته خشية من أن يكون بدعوتها للإسلام كان كمن يستغل حاجتها لمحاولة إكراهها على ذلك، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكرِه.
لكن رغم أن عمر كان خليفة المسلمين ورغم أنه يعتبر الدعوة إلى سبيل الله أمراً واجباً فإنه شعر بالذنب إذ انتبه إلى أنه يدعو إلى إلإسلام صاحب حاجة الأمر الذي قد يشكل إكراهاً والله تعالى يقول في كتابه العزيز }لا إكراه في الدين{ (البقرة:256).
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه «أشق» حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: «أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم»، فأبيت فقال: }لا إكراه في الدين{. فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: «اذهب حيث شئت»، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونصّ فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم(7)، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم» وأكد ذلك العهد بقوله: «على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين»، وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد «إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام».
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: «وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم».
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل(8)، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: «انظر هذا وضرباءه (أمثاله) فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم»، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر، وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانة بأحكام التشريع الرباني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”قصص وعبــر
من سيرة الخليفة عُمَر” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مهمة في جوف الليل
خرج عمر بن الخطاب مرة في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنه، فراقبه، فذهب عمر فدخل بيتاً، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، نعم ينظف بيتها، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع هذا وعمر خليفة المسلمين.

عمر يطلي بعيراً
قدم الأحنف بن قيس رضي الله عنه مع وفد العراق في يوم صائف شديد الحر على عمر رضي الله عنه، وكان عمر يطلي بعيراً بالقطران من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه من إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم، ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.

أخبار من القادسية
ذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب كان يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق استطلاعاً للأخبار، وبينما هو ذات يوم من الأيام، إذا هو براكب يلوح من بعيد، فاستقبله عمر فسأله عن أخبار جيش المسلمين، فقال له الرجل: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدثه وهو لا يعرف عمر وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال لا حرج عليك يا أخي. ما ضرّ الناس أن لا يعرفوا عمر؟.

الخليفة تحت شجرة
جاء الهرمزان وزير كسرى يطلب الخليفة عمر وكان في أبهى حلل الملوك معتمراً تاجاً من ذهب وزبرجد، ومرتدياً ألبسة فاخرة من الحرير. دخل المدينة وسأل: أين قصر الخليفة؟ أجاب الناس: ليس له قصر. قال أين بيته؟ فذهبوا، فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال أين حرسه؟ قالوا ليس له حرس. طرق الهرمزان الباب، فخرج ولد الخليفة، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه، بحثوا عنه، فوجدوه نائماً تحت شجرة، وقد وضع درّته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع وقد توسد ذراعه، في إغفاءة هانئة. دهش الهرمزان وهو يرى الرجل الذي قهر الممالك وفتح الأمصار ينام بهذه الهيئة، تحت شجرة، وقال كلمته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

إمام العدل
جاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بإبنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟

مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل
مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل

عمر وأم كلثوم في مهمة ليلية
كان عمر يخرج ليلاً يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي

استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك أنه بينما كان يتجول ليلاً بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلاً قاعداً فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم وهي ابنة علي» هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد. قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجباً وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئاً من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل.

في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها
في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها

تأديب النفس
يروي محمد بن عمر المخزومي عن أبيه أنه قال: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه (ص).
ثم قال: أيها الناس. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر، أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟!
ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن سفّهت نفسك فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.

يؤنب نفسه سراً
وروى أنس بن مالك فقال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه، حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط: «عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك».

أصابت امرأة وأخطأ عمر
قال عبد الله بن مصعب خطب عمر (ر) فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي فضة، يعني يزيد بن الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقامت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس فقالت: ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: }وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{ (النساء: 20)
فقال عمر « أصابت امرأة وأخطأ عمر». دالاً بذلك على مقدار تواضعه.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من أقواله البليغة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قال عمر رضي الله عنه لرجل همّ بطلاق امرأته: «لِمَ تطلقها؟» قال الرجل :«لا أحبها». فقال عمر: «أو كلّ البيوت بنيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمّم؟» (أي حفظ الذمة).

مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته
مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته

كان عمر رضي الله عنه إذا رأى أحداً يطأطئ عنقه في الصلاة يضربه بالدرة (الدرّة عصا غليظة كان يحملها دائماً)، ويقول له «ويحك، إن الخشوع في القلب».
سئل عمر: لم لا تكسو الكعبة بالحرير؟ فرد قائلاً: بطون المسلمين أولى.
لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدى، وإذا أشفى -أى هم بالمعصية- تورع.
قال عمر: كونوا دعاة لله وأنتم صامتون. قيل: وكيف ذلك؟ قال : بأخلاقكم.
الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل ولكن الدين الورع.
اخشوشنوا، وإياكم وزي العجم: كسرى وقيصر
لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً، فإني لا أدري أيهما خير لي
إن الحكمة ليست من كبر السن، ولكنها عطاء الله يعطيه لمن يشاء
من قال أنا عالم فهو جاهل
عليك بالصدق وإن قتلك
ترك الخطيئة خير من معالجة التوبة
من كثر ضحكه قلت هيبته
لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب.
اعرف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين.
ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكر باللسان
لكل صارم نبوة، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
أفضل الزهد إخفاء الزهد
إذا أراد الله بقوم سوءاً منحهم الجدل ومنعهم العمل
أميتوا الباطل بعدم ذكره
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

الأمير شكيب ارسلان

لله أيامُ تُذكر ولا تعاد، فذكرها عند الأجداد ارتعاش في الأبدا، وغمّ وحزن في ذاكرة الأبناء والأحفاد.
أيامٌ سوداء من تاريخ لبنان نستعيد ذكرها لما تحمله من عبر وتاريخ مجيد، تاريخ الكفاح من أجل الحرية والكرامة والتضامن والمحبة في ما بيننا. أما الحكاية التي نحن في صددها هنا فقد جرت وقائعها كالتالي:
مطلع القرن العشرين، وخلال الحرب العالمية الأولى، مرّت على لبنان أيامٌ لا تُمحى من الذاكرة، لقد كانت أيام الجوع والجراد والتشريد والتنكيل والبؤس والشقاء، لكن أسوأ ما نكب به اللبنانيون في تلك الأيام كان التجنيد الإجباري، وهو ما كان يُعرف عند العامة وباللغة التركية بـ «سفر برلك». كانت الدولة العثمانية تخوض عدة حروب على أكثر من جبهة وتتراجع، وكانت في حاجة ماسة بالتالي إلى تعبئة الجنود من ولاياتها ، فصدرت أوامر من الباب العالي بأن على جميع الذين تتراوح أعمارهم ما بين ستة عشر عاماً وستين عاماً أن يلبوا نداء حمل السلاح والإلتحاق بالخدمة العسكرية، ولم تسمح الأوامر بإعفاء أحد حتى ولو كان الرجل وحيد أهله.
من هؤلاء الذين تمّ تجنيدهم من أرسل إلى جبهة البلقان، ومنهم من أرسل إلى جبهة الأناضول والحدود الإيرانية التركية ومنهم من أرسل إلى جبهة ترعة السويس، وتوزّع الباقون على الجبهات والمواقع العسكرية التي تحمي حدود السلطنة. وبسبب تقهقر أوضاع الجيش التركي ومهاراته وتسليحه بالمقارنة مع مهارة وتسليح الدول الأوروبية وروسيا وغيرها فقد اعتبر من جندوا وارسلوا في تلك الفترة كثيرون لكن الذين كانوا يعودون كانوا قلّة وكان الجبل خصوصاً ساحة أحزان وثكالى وأرامل.
عمّ الهلع والخوف الجميع، وتفرّق الناس أيدي سبأ كما يقال، واتجه قسم كبير من الرجال نحو جبل الدروز كونه كان معفى من الخدمة العسكرية بعد حروب الكرامة والدفاع عن الحرية بينه وبين السلطات وسواها. أما من كان معه سبع ليرات ذهبية، فقد دفعها ثمن تذكرة للسفر عبر البحار السبعة، كما كانوا يقولون، إلى ديار الإغتراب متحملاً السفر بحراً وعبر بواخر تعجّ عنابرها بالجرذان والفئران.
أما البقية الباقية من الناس الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم، فبقوا في قراهم، مسكنهم البراري نهاراً، ومأواهم الكهوف والأكواخ البعيدة عن أماكن السكن ليلاً.
كان من مصائب تلك الفترة أيضاً كثرة المخبرين والجواسيس الذين بثتهم السلطات من أجل جمع المعلومات عن الأشخاص القابلين للتجنيد وكان من بينهم بعض مخاتير القرى ورجال الجندرمة والمخافر، وقد وجد هؤلاء في نكبة التجنيد فرصة لإبتزاز الناس المشمولين بالأوامر وقد تمكنوا من جمع أموال كثيرة وجمعوا الأراضي أيضاً من جرّاء دورهم التعس في استغلال ظروف التجنيد والخوف في قلوب الناس. وكان هناك بصورة خاصة رئيس مخفر في بلدة حاصبيا، شركسي غريب الأطوار، جشع وفاسد متكالب على المال وكان يُدعى أبو هاشم. وقد اتفق هذا مع بعض المخاتير والمخبرين ممن هم على شاكلته من حيث الطمع والسفالة، فكانوا يأخذون ليرتي ذهب عن كل فرد يغضّون الطرف عنه كي لا يُساق إلى الجندية، ثم يتقاسمون المبلغ، ليرة للمختار، وأخرى لرجال الأمن، لكنهم غالباً ما كانوا يوقعون بالضحية أكثر من مرة ويطلبون الذهب ثانية مما أوقع كثيرين في الإفلاس والبؤس وشجع أكثر على الهجرة والفرار إلى أرض الله الواسعة.
بلغ السيل الزُبى عندما طلبت السلطات من أربعة عشر من المشايخ المقيمين في خلوات البياضة الإلتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية.
هنا ثارت حمية المشايخ والأعيان وأبناء المنطقة فكانت مبادرة من الشيخ أبو اسماعيل خير الدين الذي ترك أعماله وتجارته وانتقل إلى دمشق الشام للسّعي لدى الوالي التركي كي يعفيهم من الخدمة.
لدى وصوله، علم بوجود الأمير شكيب أرسلان هنالك، فأسرع لمقابلته في مكان وجوده، غير أنه لم يتمكّن من مقابلته في اليوم الأول بعد أن أخبره معاونه، نسيب بك الأطرش، بأن الأمير ذهب للغداء عند آل العظم، ولن يعود هذا اليوم.
في اليوم التالي، وعند محاولته مقابلة الأمير من جديد، أجابه معاونه أن الأمير يعتذر عن استقبال الزائرين لضيق الوقت عنده.
صعد الدم إلى وجه الشيخ أبو اسماعيل بعد سماعه الإعتذار، وصرخ في وجه مستقبله: «إنني آتٍ من وادي التيم من بلدة حاصبيا، ومن قبل مشايخ البياضة لأمر ضروري ومصيري يتعلق بهم ولا بدّ من أن أقابل الأمير شكيب. أفليس من حقنا قرع بابه والإستغاثة به؟
طرق الصوت والصياح مسامع الأمير، فهبّ من مكتبه مستطلعاً الخبر، وإذ به أمام شيخ متجهّم الوجه، غاضب النظرة، بحالةٍ لا توصف من الإنفعال وضيق الصدر.
طيّب خاطره، ثم وجّه اللوم إلى مرافقه لتصرفه على تلك الطريقة من دون علمه، ورحّب برسول المشايخ ودعاه للدخول وسأله عن حاجته مؤكداً أنه ي «أطلب ما تريد ونحن آذانٌ صاغية»
دخل الشيخ، وجلس بوقارٍ واحتشام، ثم تكلم برصانة قائلاً: «عطوفة الأمير، عاش السلطان، وعاشت الدولة العليّة. نحن عبيدها وجنودها، لكن لكل أمر حدّه. فهل يرضيكم أن يساق أئمة الدين في خلوات البياضة إلى الجبهات ويسلخوا سلخاً عن خلواتهم وعباداتهم ليحملوا السلاح والعتاد والذخيرة ويقاتلوا في بلادٍ وأصقاع لا يعرفونها».
إنفرجت أسارير الأمير الذي طمأن الشيخ خير الدين بأنه لن يُساق أي شيخ إلى الجبهات مؤكداً له بأنه سيبقى في دمشق حتى يتأكد من تحقيق طلبهم. وأضاف الأمير شكيب بأنه سيذكر المسؤولين بأن الأديرة المسيحية والمدارس الدينية الإسلامية وقاطنيها يطبق عليها مبدأ الإعفاء من الخدمة العسكرية، وبالتالي يجب تطبيق المبدأ نفسه على خلوات البياضة لأنها أوسع من دير، وأكبر بكثير من مدرسة دينية، بل هي مع قاطنيها جامعة روحية لها حرمتها».
وهكذا، عاد الشيخ أبو اسماعيل من دمشق مسرور الخاطر، منفرج الأسارير، وقصد فور عودته البياضة وأخبر مشايخها بما حدث معه، وبما تكفّل به الأمير شكيب وقد كان لهم ما أرادوا وما هم أهل له. .

أيام غرّاء من حياة أمير البيان شكيب أرسلان

الأمير شكيب أرسلان
الأمير شكيب أرسلان

• وُلد في بيروت عام 1870، نجل الأمير محمود أرسلان، ويتسلسل نسبه إلى 31 جدّاً في لبنان.
• درس في مدرسة الحكمة على يد العلامة الشيخ عبدالله البستان، وما بين العامين 1890 و 1892 على يد الشيخ محمد عبده بعد نفيه إلى بيروت.
• اتصل بالمصلح والفيلسوف جمال الدين الأفغاني، وكان مع رأيه بأن لا يحكم العرب إلا حاكمٌ مستبد وعادل في تلك الأيام.
• اشترك في الحرب العالمية الأولى، وزار طرابلس الغرب مجاهداً ضد الاستعمار الإيطالي.
• اشترك في المؤتمر السوري الفلسطيني لمعاضدة القضية الفلسطينية.
• انتُخب رئيساً لنادي الشرق في برلين عام 1925.
• ذهب إلى أميركا واشترك في المؤتمر الدولي 1928.
• أدّى فريضة الحج عام 1929.
• عام 1933، وفّق في إقناع الدولة المستعمرة الإيطالية بعودة نحو 80 ألف ليبي إلى مدينة برقة وطرابلس مع إعادة أراضيهم وأملاكهم لهم.
• انتُخب رئيساً للمجمّع العلمي العربي في دمشق.
• قضى سنوات الحرب العالمية في سويسرا.
• عاد إلى لبنان عام 1949، ومكث 40 يوماً بعد اغترابه الطويل حيث وافاه الأجل رحمه الله.
هذا صوت الأمير يخاطب روح شوقي بعد وفاته قائلاً:
« لو نسيَ عهدك الأولون والآخرون، لما خفرت لك عهداً، ولا مزّقت لك ودّاً، وإنك في الغيب عندي لكما في المشهد، وأنت تعلم أنها صداقة أربعين سنة، تساقينا كؤوسها صفواً من دون قذى، وتبادلنا رياحينها عفواً من دون أذى.
فإن أظمأ عهدك النسيان، فلي مدامع ترويه، وإن شطّت بشعرك النوى، فإن الدهر كلّه يرويه. وإنه وإن بكاك الناس حبّاً بالأدب، ورحمة للسان العرب، فإنني لأبكيك بصفتين: صفة الأديب البر بلغته، الغيور على صناعته، وصفة الأخ الضنين بأخوته، الحريص على مروءته. فأنا في مقدمة من لك من الأخوان والأتراب الذين يبكون فضلك، ويذكرون عهدك إلى أن يواروا التراب».
(من كتابه «شوقي أو صداقة أربعين سنة»)

قصة لأقوياء القلوب فقط
طبخة هريسة بالأفاعي!!

نأتي الآن إلى قصة غريبة لكنها حقيقية وهي ربما سترسل القشعريرة في أطراف كثريين.
بداية القصة هي موسم حصاد القمح في قرى الجنوب، وأجمل أيام الفلاح هي أيام الحصاد، رغم التعب الذي يورثه خصوصاً وأنه يجري في قيظ تموز .
الممتع في الحصاد أنه يتم لجني محصول الخير الذي انتظره الفلاح بعد أن ألقى بذاره لأشهر طويلة وغالباً ما يترقب الفلاح وضع الطقس وكميات المطر آملاً أن يسقط منه في أشهر الربيع خصوصاً ما يساعد الموسم ويزيد الجنى.
وكانت للقمح على الدوام هالة من التكريم إذ ذكره القرآن الكريم في أكثر من سورة وموضع وذكرته التوارات وذكر في الإنجيل وانتقل التكريم إلى الخبز فكان أول ما تعلمناه من أهلنا في سن الصغر تكريم الخبز فلا نترك ما قد يقع منه على الأرض او نرمي بما يبقى بعد الطعام، وإذا وقعت قطعة منه فعلينا أن نسرع للمّها ثم تقبيلها ووضعها فوق رؤوسنا على سبيل الشكر على النعمة والإستغفار.
ولحصاد القمح في وادي التيم أعراسٌ وأعيادٌ وإحدى القرى التي كان موسم الحصاد فيها موسم فرح وتعاون وتوتدد اجتماعي. قرية بكّيفا إحدى قرى وادي التيم الأعلى، وقد حدثني أحدهم من «آل دهام» عن قصة مثيرة حدثت أيام الحصاد أوائل القرن الماضي، وفيها أن شخصاً من آل بركة يملك حقلاً مزروعاً بالقمح كان قد تأخر عن غيره من أبناء بلدته في الحصاد وذلك لاتساع أملاكه ووفرة زرعه. والعادة المتبعة آنذاك عند أبناء القرى إذا ما تأخر أحدهم عن رفاقه في الفراغ من حصاده هي «الفزعة» بحيث يتنادى الجميع إلى مساعدة صاحب الأرض ويهبون هبة رجل واحد لإنجاز الحصاد الذي تأخر.
وكانت «الفزعة» تبدأ بأن ينادي أحدهم بالصوت ومن أعلى سطح يتوسط بيوت القرية أنه يوم كذا ستفزع البلدة لمساعدة فلان ابن فلان في حصاد الحقل من أبنائها وكأنهم اليوم جمعية تعاونية.وكان المنادي يذكر بأن الحاضر يجب أن يبلغ الغائب أي الذي لم يسمع النداء لسبب من الأسباب بحيث يعم النبأ ويُبلغ موعد الفزعة إلى الجميع. ومن تقاليد الفزعة أيضاً أن يولم صاحب الحقل بعد انتهاء الحصاد أو أثنائه للمشاركين في العونة وكان الطعام المفضل في تلك الحال هي طبخة الهريسة المؤلفة من القمح ولحم الضأن وعظامه وكانت توضع على النار لمدة طويلة حتى يمتزج القمح واللحم ونخاع العظم مكوناً مزيجاً لزجاً ورخواً يتهافت الناس على تناوله للذة طعمه وفائدته.
كانت الفزعة من نصيب الشيخ أبو محمد بركة، لهذا توجه المذكور إلى بلدة راشيا فجلب منها عظام ذبائح عدة ملآنة باللحم وطلب من زوجته تحضير «أكلة هريسة» تكفي لأكثر من خمسين شخصاً.
في زاوية من زوايا ذلك الحقل شجرة بطمٍ قديمة كقدم الدهر. وضعت تحتها الشيخة أم محمد دست الهريسة بعد أن ضمنتها القمح المقشور والعظام المكتنزة باللحم مضيفة إليها ما يناسبها من السمن والملح والبهارات ثم أشعلت النار تحتها، وبقيت أكثر من ساعتين وهي توقد الحطب وتحرك العظام والقمح كي لا يلتصق شيئ من الطعام في قعر الدست. وبعد أن اطمأنت إلى قرب النضوج خففت النار كي يكتمل نضوج الطبخة على مهل فيزداد بذلك الطعام طراوة وشهية. ثم خرجت نحو الحقل تحادث الحصادين وتشكرهم على نخوتهم وأريحيتهم.
بشرت أم محمد الحصادين أيضاً بأن الهريسة أصبحت جاهزة تقريباً متمنية أن تنال إعجابهم وتسر ذوقهم وكانت تتحدث وتسرف في وصف العناية التي بذلتها في إعداد الطبخة وما دخل فيها من لحم وعظم وسمن وبهارات إلى آخر ما هنالك.
بعد هذه المجاملات الدارجة في القرى وبعد أن اقترب موعد الغداء رجعت أم محمد إلى الدست مسرعة ثم تناولت ملعقة الخشب الكبيرة كي تحرك الطعام، وعندما أدارت بنظرها نحو الدست، جمد الدم في عروقها من هول ما شاهدت وفظاعة ما رأت. حية كبيرة عائمة على سطح الهريسة وقد غمر بعض جسدها الدهن والسمن.
إحتارت في أمرها وتسارعت الأفكار في رأسها، كانت تقلب يديها وهي في حيرة تقارب حدّ اليأس وهي تختلس النظر إلى الحصادين، استجمعت قواها وقررت ببساطة أن ترفع الأفعى العائمة من دست الهريسة وتلقيها جانباً عمدت إلى ملعقة الخشب لترفع الحية عن الطعام، لكن ما إن حرّكتها حتى تناثرت أجزاء الأفعى وامتزجت أقسامها مع الهريسة وكأنها جزء من ذلك اللحم المتساقط عن العظام لطراوتها وسرعة نضوج لحمها.
أم محمد وقفت جامدة متسمّرة مكانها محتارة في أمرها، ما العمل وما التدبير..؟ إذ لم يعد من وقت كافٍ أمامها لإعداد طبخة أخرى أو حتى الذهاب إلى البيت وإحضار البديل، وأيضاً إذا أعلمتهم بما حدث فطبعاً لن يقدم أحد على تناول الطعام لخوفهم على حياتهم من جهة والإشمئزاز وقرفهم من الجهة المقابلة، وأيضاً كان يخالجها الخوف وقلق المصير نفسه. لكن ما العمل وماذا سيأكل الفازعون؟
استقر رأيها أن تتناول هي وزوجها الطعام قبل الجميع فإن ظهرت أعراض تسمم مثل القيء فإنها ستمتنع عن تقديم الطعام وإن تمّ كل شيء من دون أية أعراض فإنها ستدعوهم إلى تناول الهريسة باعتبار أن الخطر يكون قد زال.
أكلت مقدار صحن كبير وكذلك زوجها، وانتظروا قليلاً ولم يشعرا بأية أعراض. في ذلك الوقت كان الحصادون قد اجتمعوا تحت الشجرة بل إن بعضهم بدأوا لشدة جوعهم بتناول الطعام قبل أن تدعوهم وبسبب صعوبة مقاومة تلك الأكلة الشهية. آنذاك دارت أم محمد بالصحون على الجميع مرحبة مؤكدة لهم أنها «طبخة لذيذة ستنال حتماً إعجابكم» راجية غضّ النظر عن التقصير «إذ كان واجبكم ذبح كبش هنا ويا ليت ذلك»، وفي قرارة نفسها ناذرة داعية إلى مقام النبي بهاء الديكل من خطر في بالها من أنبياء وأولياء من أن يساعدوها على أن يكون هذا الطعام هنيئاً مريئاً ولا ينتج عنه أي سوء.
أكل الجميع واستزادوا ومنهم من تناول صحوناً عدة والمرأة شاخصة بنظرها نحوهم متظاهرة بالفرح والسرور مرددة من وقت لآخر : هنيئاً مريئاً وأكثر من ألف أهلاً وسهلاً.
مضت الأيام وكذلك الأسابيع، والجميع عند التقائهم بالشيخة أم محمد كانوا يشكرونها ويثنون عليها وعلى شطارتها في الطبخ قائلين مرددين إنه «لتاريخه لم يتذوقوا أكلة أطيب وألذ من تلك الهريسة».
بقدوم موسم الحصاد الجديد أتى أحدهم دارة أبو محمد قائلاً لزوجته : لبيك يا أم محمد نحن حاضرون «لفزعة» جديدة وشرطنا الوحيد أكلة لذيذة كطبخة السنة الماضية.
المرأة آنذاك أصبح بإمكانها مصارحة صديق العائلة بما حدث معها فقالت: لا تفاجأ يا أخي ربما إن الشهية والطعم الزائدين لتلك الطبخة، عائدان للحم الحيّة التي وجدتها فوق الدست وعند محاولتي رفع جسدها تناثرت قطعاً صغيرة بين الطعام.
المفاجأة الكبرى وغير السارة مطلقاً، وأن القدر سينفّذ، وخوفاً من ذكر اسم الحية، رغم كونه مضى أكثر من عام على أكل لحمها وسمها ولم يمت، فبسماعه لما قالته المرأة شهق صديق العائلة شهقة غريبةً ثم أسلم الروح معها وكأن الحية قد لدغته للتوّ. ومن الممكن أن صاحبنا كان ممن لديهم رعب نفسي من الأفاعي وهو مرض نفسي موجود وبعض الناس يؤدي مجرد ذكر اسم الحية على مسمعهم (فكيف لو رأوها) لإطلاقهم صرخات جنونية وإلى ذعر وانهيار أعصاب، وقد تكون الصدمة أثارت في المسكين مشاعر رعب عارمة أثرت على قلبه وكل أعصابه فلم يقوَ جسده على الإحتمال.

الاسلام واخلاقيات الحرب

“بلغ الخليفة عمر أن بعض جنوده يؤمِّنون الفارسي حتى إذا سلّم إليهم قتلوه فغضب غضباً شديداً و أقسم ليقطــــعن عنق من يفـــعل ذلك من جنــود المســـلمين”
“كان الرسول (ص) يكره اسم «حرب» وهو بدَّل أسماء أبناء الإمام علي (ر) عندما كان يسميهم بذلك الاســـم فأصبحوا حسن وحسين ومحسن”
“غوستاف لوبون: الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم “

تفرّد الإسلام في أخلاقيات الحروب
إن نسي العالم فكيف ينسى المسلمون؟

القرآن الكريم ذكر السلم مائة وأربعين مرة
ولم يذكر كلمة الحرب سوى ست مرات

غوستاف لوبون
غوستاف لوبون

المفكِّر الفرنسي غوستاف لوبون
الإسلام انتشر بالدعوة وجاذبية مبادئه وليس بالسيف بدليل إسلام الشعوب التي قهرت العرب مثل الترك والمغول

بسبب حالة الجهل التي انتشرت في بعض أوساط المسلمين وانفلات الحبل على غاربه تفرقاً واقتتالاً وابتداعاً في الدين ما لم ينزل الله به سلطان كاد الأعداء يحققون أمراً سعوا إليه عبر الأزمان دون أن يفلحوا وهو تشويه صورة الدين الحنيف وطمس حقيقته كرسالة للحق والعدل والرحمة وقد جعلوا من بعض حالات التطرف والأعمال الغاشمة قميص عثمان يتوسلونها للتأليب على الدين القويم والافتئات عليه وعلى تاريخه المجيد الذي لا يضاهيه تاريخ في التسامح والرحمة والسلوك الإنساني.. في هذا العرض الموجز تذكير بحضارةالإسلام وعظمته في نظرته للحرب وأخلاقياتها وهو ما يعارض بالكلية الأعمال الوحشية التي يقوم بها اليوم بعض أدعياء الإسلام ومن تسلل بينهم من جهات يحركها أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر. ويتضمن المقال شرحاً لمفهوم الإسلام الصحيح للعلاقة مع الشعوب والأمم المخالفة، وهي نظرة مستوحاة من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال وأفعال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وفي كل ذلك تاريخ ناصع ما أحوجنا إلى قراءة فصوله والتعلم منه لعلنا نستذكر عظمة ديننا وحضارتنا الإسلامية السمحاء ونكشف القناع عن القوى الشيطانية التي تريد بالعرب والمسلمين وتمهد ربما لشن حرب شاملة على الإسلام لا تستهدف ثرواتهم وأوطانهم ومجتمعاتهم فحسب بل تستهدف في الوقت نفسه صورة الإسلام وثقة المسلمين بأنفسهم ونظرة العالم إليهم.
إنَّ حُسْنَ الخُلُق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كل أُمَّة في أوقات السّلْـمِ مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حُسْن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أُمَّة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتَّصِفَ به. إن رؤية الدم تُثِيرُ الدم، والعداء يؤجِّج نيرانَ الحقدِ والغضب، ونشوة النصر تُسْكِرُ الفاتحين فتوقعهم في حمى التشفِّي والإنتقام وانعدام الرحمة.
لقد شرع الدين الإسلامي الحنيف لكل شي ولم يترك وجهاً من وجوه الحياة إلا وحدد لها أحكامها وكانت للحرب وأصولها وللتعامل مع الخصوم في الحرب والسلم نصيب كبير من النصوص الشرعية، فاهتم القرآن الكريم والرسول (ص) وأصحابه بوضع قواعد وأخلاقيات لا سابق لها في حضارتيها ورقيّها للحرب، أي إن
الإسلام لم يترك الحرب دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحدُّ ممَّا يُصَاحبها من انفلات للغرائز الحيوانية في المقاتلين وجعل الحروب بذلك مضبوطة بالأخلاق ولا تُسَيِّرُهَا الشهوات، كما جعلها ضدَّ الطغاة والمعتدين لا ضدَّ البرآء والمسالمين.

اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعد
اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعدله

قواعد الحرب في الإسلام
وتتمثَّل أبرز هذه القيود الأخلاقية التي وضعها الإسلام على الحرب بما يلي:
1. عدم قتل النساء والشيوخ والأطفال فكان رسول الله (ص) يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه (ص) يأمرهم بتجنُّب قتل الولدان، فيروي بُرَيْدَةُ فيقول: كان رسول الله (ص) إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سريَّةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وكان مما يقوله.«وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا». وفي رواية أبي داود: يقول رسول الله (ص) «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَة.»
2. عدم قتال العُبَّاد فكان رسول الله (ص) إذا بعث جيوشه يقول لهم: «لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ» وكانت وصيته (ص) للجيش المتجه إلى مؤتة «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ ‏تَغُلُّوا، ‏وَلاَ ‏تَغْدِرُوا، ‏‏وَلاَ ‏تُـمَثِّلوا، ‏وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ».
3. عدم الغدر: فكان النبي يوَدِّع السرايا موصِياً إياهم«وَلاَ ‏تَغْدِرُوا» ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع أخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدوٍّ يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله أنه تبرَّأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافراً، فقد قال النبي (ص) «مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا» وقد ترسَّخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة حتى إن عمر بن الخطاب (ر) بلغه في ولايته أنَّ أحد المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ. ثم قتله، فكتب إلى قائد الجيش: «إنه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْـجَ (الكافر)، حتى إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع، يقول له: «لا تَخَف».فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغنِّي أن أحدًا فعل ذلك إلاَّ قطعتُ عنقه!»
4. عدم الإفساد في الأرض فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريبٍ كالحروب المعاصرة، التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشدَّ الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، ولو كان في بلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحاً في كلمات أبي بكر الصديق (ر) عندما وصَّى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، ومما جاء في تلك الوصية «وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ» . وهو شمول عظيم لكل أمر حميد، وجاء أيضاً في وصيته للجند «لا تُغْرِقُنَّ نَخْلاً وَلا تَحْرِقُنَّهَا، وَلا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً، وَلا شَجَرَةً تُثْمِرُ، وَلا تَهْدِمُوا بَيْعَةً». وهذه تفصيلات تُوَضِّح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض لكي لا يظن قائد الجيش أن عداوة القوم تُبيح الفساد.
5. الإنفاق على الأسير: إن الإنفاق على الأسير ومساعدته واجب يُثَاب عليه المسلمُ، وذلك بحكم ضَعْفِ الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشِدَّة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بِرَّهُ بِبِرِّ اليتامى والمساكين، فقال في وصف المؤمنين: }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا{ (الإنسان:8)
6. عدم التمثيل بالميت: فقد نهى رسول الله (ص) عن المُثْلَة (أي التمثيل في القتلى) فروى عبد الله بن زيد (ر) قال «نهَى النَّبِيُّ (ص)عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَة،. وقال عمران بن الحصين : «كَانَ النَّبِيُّ (ص) يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ» ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول، فإنه لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه (ص) هدَّد المسلمين تهديداً خطيراً إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال «َأشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ» ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله حادثةٌ واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأَحَدٍ من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تُلْغِي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال. وقد صرَّح (ص) بهذا الأمر حين قال: «‏إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق».

العلاقة مع غير المسلمين
يدل الخطاب القرآني دلالةً واضحةً على أنَّ القاعدة في التعامل مع غير المسلمين هي تقديم السلام على الحرب، واختيار التفاهم لا التصارع، ومن أدلة ذلك أنَّ القرآن الكريم أورد كلمة السلم بمشتقاتها مائة وأربعين مرة، في حين ذُكِرَت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط!!
ويرى الشيخ محمود شلتوت أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام أخوان في الإنسانية.
ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق -رحمه الله- أنه من الواجب على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأخوة الإنسانية، منطلقاً من الآية الكريمة }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{ (الحجرات: 13)، فتَعَدُد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم، وإنما هو دعوة من الله تعالى للتعارف والتوادّ والتحابّ.
ويشهد لهذه الآراء العديد من الآيات التي أمرت بالسَّلْم مع غير المسلمين إن أبدى هؤلاء الاستعداد والميل للصلح والسلام؛ فيقول الله تعالى: }وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{ (الأنفال: 61) وهذه الآية الكريمة من كتاب الله عز وجل تبرهن بشكل قاطع على حب المسلمين وإيثارهم لجانب السلم على الحرب.
قال السدي وابن زيد: «معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم» والآية التالية لهذه الآية تؤكد حرص الإسلام على تحقيق السلام، فلو أن الأعداء أظهروا السلم، وأبطنوا الخيانة، فلا عليك من نياتهم الفاسدة، واجنح للسلم قال الله تعالى: }وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين{( الأنفال: 62) أي أن الله يتولى كفايتك وحياطتك.
ولهذا كله كان رسول الله (ص) يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
كما كان (ص) يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه (ص) «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: ‏عَبْدُ اللَّهِ ‏وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، ‏وَأَصْدَقُهَا: ‏حَارِثٌ ‏وَهَمَّامٌ، ‏وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّة»
وكان الرسول (ص) يُغيّر اسم مَن اسمه «حرب» إلى اسم آخر أحسن وأجمل، وعلى سبيل المثال كان الإمام علي (ر) يسمي ولده «حرب» فيبدله الرسول بإسم آخر حتى صار لعلي (ر) ثلاثة بنين هم حسن وحسين ومحسن وقد اختار الرسول (ص) لهم أسماءهم لأنه لم يكن يحب أن يسمي علي (ر) أياً من أولاده «حرب».

صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب
صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب

الحرب.. آخر الدواء
كان الرسول (ص) يعلم أصحابه ويوجِّهَهُم فيقول لهم مربياً: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» فالمسلم بطبيعة تربيته الأخلاقية التي يتربى عليها من خلال القرآن الكريم وسنة النبي (ص) يكره القتل والدماء، ومن ثَمّ فهو لا يبدأ أحداً بقتال، بل إنه يسعى بصدق لتجنب القتال وسفك الدماء..
ومع أن أهداف القتال في الإسلام كلها نبيلة إلا أن رسول الله (ص) لم يكن متحمساً أبدًا لحرب الناس، ولا مشتاقاً لقتلهم، وذلك على الرغم من بدئهم للعدوان، وعداوتهم الظاهرة للمسلمين، وكان من أظهر الدلالات على ذلك أنه كان يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال، ولا ينبغي أن يفهم أحدٌ أنه يفعل ذلك ابتداءً، فيبدو وكأنه إكراه على اعتناق الإسلام، فقد كان رسول الله (ص) يفعل ذلك عند تعين القتال فعلاً، فإذا حضر الفريقان إلى أرض القتال جعل للفريق المعادي فرصة أخيرة لتجنب إراقة الدماء، وهذه من أبلغ صور الرحمة، لأن الفريق المعادي مستباح الدم في الميدان، والعفو عنه غير متوقع، كما إن الرسول (ص) كان يفعل ذلك والقوة في يد العدو هو تحت رحمته.
قال ابن القيم في «زاد المعاد» تحت عنوان: الدعوة قبل القتال: «وكان عليه الصلاة والسلام يأمر أمير سريته أن يدعو عدوَّه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وهذا الخُلق الرائع من إنشاء الإسلام الذي لم يستبح الغدر بأحد قبل إعلامه، فجعل الدعوة قبل القتال لازمةً، وتلك قمة لم تسمُ إليها أمة قبل الإسلام أو بعده. فما زال أهل الأمم الأخرى يعتبرون كل الوسائل في الحرب مشروعة لتحقيق النصر على العدو بما في ذلك الأسلحة الكيماوية والقنابل النووية التي قتلت الملايين في الحروب العالمية والغدر وتدمير الاقتصاد والمدن على أهلها واستحلال الحرمات، بينما لم يقاتل النبي (ص) قوماً قط إلا بعد أن دعاهم إلى الله تعالى.
وعندما أرسل النبي (ص) عليّاً بن أبي طالب (ر) إلى خيبر أوصاه قائلاً: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ‏حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ‏ ‏حُمْرُ النَّعَمِ»، فالرسول (ص) في هذا الموقف -وهو القائد المقبل على معركة كان من المفترض أن يلهب حماسة جنده، ولكنه راح على النقيض يهدّئ من حماسة علي (ر) ويأمره ومن معه بالهدوء والرويَّة، كما هو واضح في قوله (ص) «انْفُذْ عَلَى رِسْلِك» أي اذهب وكن متروياً.

عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر
عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر

علاقات الإسلام الدولية
إن الأصل في علاقة دولة الإسلام مع غيرها من الدول هو الدعوة أي عرض الإسلام عرضاً صحيحاً يقيم الحجة ويقطع العذر، هذا أصل العلاقة التي ينبني عليها السلم أو الحرب في الإسلام .
وقد كان «أهل الذمة» معصومي الدم والمال، وإن عقدوا عهد هدنة مدةً لا حرب فيها، كانوا «أهل عهد»، وإن أبوا إلا حرب الإسلام ورفضوا الانصياع لأمر الله تعالى وصدوا عن سبيله، فهم «أهل حرب» .
وليس غريباً على الإسلام أن تكون له أخلاقيات في الحرب وإن لم يعرفها أعداؤه … لإنه دين الله الذي جعل الأخلاق أصلاً من أصوله ومنهاج حياة. ولم تكن القوة هي العامل المهم في انتشار الإسلام إلى أقاصي الأرض كما زعم بعض المستشرقين، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلامَ واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل . فقد انتشر الإسلام في ربوع العالم واعتنقته الشعوب طواعية لا عن إكراه، شهد بذلك الموافق والمخالف، يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في مطلع عهده:
«لقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذاً بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليوناً فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وها هو عدد مسلميها يزيد اليوم على عشرين مليوناً. . ويقول الكاتب في موضع آخر :«فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم» ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير المسلمين فيقول : «وكان عرب إسبانيا – عدا تسامحهم العظيم – يتصفون بالفروسية المثالية، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى ذلك من الخصال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوروبا منهم في ما بعد.
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود – الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها – سمح لهم جميعاً دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح ؟ أين يروي التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهاد اليهود، إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب فيقول: إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة وهم لا يستخدمون معنا أي عنف »
فهذا هو الإسلام، وتلك حضارته في واقع التاريخ، وفي كلام مخالفيه
شهـــــــــــــد الأنــــــــام بفضله حتى العــــــــدا والفضــــــــل مـــــا شهــــــــدت بــــــــه الأعـــــــــداء
لقد نهى الإسلام بشدة عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن لا يقاتل من المدنيين، بل ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف وحمايته وإيصاله إلى بلده ومأمنه }وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ{(التوبة 6)
كما نهى عن الغدر بالأعداء حتى ولو كان المسلم يخشى خيانتهم }وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{ فلا يَأْخذ العدو على غرة قبل أن ينبذ إليه على سواء فلا يغدر بعهدٍ عقده مع المسلمين.
إن جميع الحروب في الإسلام لم تكن لإسالة الدماء أو لحب القتل أو للهدم أو الدمار، وفي تاريخ كل تلك الحروب المدونة تفاصيلها بدقة لم تغتصب امرأة ولا أهين رجل بغير وجه حق، ولا انتهكت حرمة فتاة ولا عبث بذوات الخدور، ولم تُدمر الديار ولم يُرتكب عار أو شنار، ولم تُزهق النفوس البريئة، ولا ضرب حجر في غير موضعه فأصاب آلاف الأبرياء ؛ ولم تكن للفاتحين المسلمين سجون يعذب فيها أحد بألوان العذاب ..وهذا صلاح الدين الأيوبي يوم فتح القدس وقد أمَّن أهلها على دورهم وأرواحهم، وأمر بالبحث عن طفل ضاع من أمه – فهي تبكي بكاء مراً – حتى أحضره إليها وطمأن قلبها.
ملكنــــــــــــا فكـــــــــان العفــــو منـــــــــا سجيــــــــــــة فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبـــــــــًا هـــــــــذا التفـــــــــاوت بيننــــــــــــــــــــــــــا فكــــــــــل إنـــــــــاء بـــــــــالذي فـيــــــــــــــــــه ينضــــــــــــــــــــــــــــــح

مآثر و حكم