الأحد, نيسان 20, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, نيسان 20, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محمود دلال

مجلّــــــةُ «الضُّحـــى» تفقـــــدُ أحـــدَ أمنائِهــــــا المؤسّسيــــن

رجلُ الأعمال والمُحسن
محمـــود سَلمـــان دَلال
صَرْح نجاحــات وريــــادة في العمل الاجتماعــيّ

كفاءته فـي التّنفيــذ والمواعيـــد قرّبــاه من الحكومــة السّعوديّــة
فصُنِّفت شَرِكتُه في الفئة الأولى ومُنِحت المشاريــــع

“الضُّحى”: راشيّا
فقدت بلدة راشيّا والوطن ومجلّة “الضّحى” ركناً من أركان العمل الاقتصاديّ والخّيْريّ في لبنان هو رجل الأعمال المهندس المرحوم محمود سلمان دلال أحد مؤسسي عمليّة إعادة إطلاق المجلّة في العام 2010 وعضو مجلس الأمناء فيها. كما أنه أحد أبرز المغتربين اللبنانيين في المملكة العربيّة السّعوديّة في حقل المقاولات وصناعة الألومنيوم وله مشاريع عقاريّة وأعمال واسعة في لبنان كما أنّه من أبرزالنّاشطين في العمل الخَيري والاجتماعي.
انتقل الفقيد إلى جوار ربّه بتاريخ 4 شباط من العام 2016 عن عمر ناهز 66 عاما مُخَلّفاً أسرة كريمة تضمّ زوجته السيدة ليلى مكارم وأولاده كريم وريّان ونادين وناتاشا وتانيا الذين يتابعون إدارة أعماله ورسالته الاجتماعيّة على أتمِّ وجه ليكونوا خيرَ خلفٍ لخيرِ سلف. وقد أقيم للفقيد مأتمٌ مهيب في بلدته راشيّا وتقاطرت الوفود والشّخصيّات للتّعزية بفَقْده في راشيّا وفي دار طائفة الموحّدين الدروز في بيروت.
والد الفقيد هو المرحوم سلمان دَلال، أحد المهاجرين الأوائل إلى فنزويلّا حيث تمكّن بجهاده وصيته الحسن من جمع ثروة عاد بها إلى لبنان ليستثمرها في شراء العقارات والأبنية في منطقة الحمرا بيروت خصوصا في شارع المكحول إضافة إلى منطقة مارمخايل حيث أُطلق على أحد الشّوارع اسم شارع دلال نسبة إلى المغترب سلمان دلال نظراً لما يمتلكه من عقارات وأبنية في تلك المنطقة. وبعد عودته من المهجر عمل سلمان دلال في مجال المقاولات وشراء العقارات وتشييد الأبنية التي كان يقوم بتأجيرها أو بيعها. وقد رُزِق سلمان دلال بعشرة أولاد هم محمود وتوفيق ومنير وزياد وبسام ورجا وسمير وأحلام وأميرة وسميرة التي توفّيت منذ زمن سَهِرَ على تعليمهم وحَرِص على متابعتهم حتى تخرّجوا من الجامعة الأمريكيّة كما توفّيَ أحدُ الأخوة وهو رجا في حادث أليم في بيروت قبل سنوات.
محمود هو الابن البكر لسلمان دلال وُلِد في بلدة راشيّا في 12 تشرين الثّاني من العام 1949 لتنتقل العائلة في ما بعد إلى بيروت. درس في مدرسة المنصف ثمّ في ثانوية الـ “ آي سي “ (IC) حيث تابع دراسته الثّانويّة لينهي هذه المرحلة بتفوّق، ولينتقل بعدها إلى الجامعة الأمريكيّة ليتخرّج منها مهندساً مَدنيّاً
بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية انتقل محمود الى المملكة العربية السعودية فعمل أولا في “شركة الحافظ للمقاولات” وارتقى سُلم النجاح ليحظى بمكانة مرموقة داخل الشّركة بسبب تفانيه في العمل وحسن تعامله مع الجميع. بعد ذلك انتقل محمود إلى العمل الخاصّ فأسّس أولى شركاته وكانت شركة المقاولات التخصّصية المحدودة في مجال البناء والتعهّدات في مدينة جدّة السّعودية إلّا أنّ أعمال الشّركة توسّعت في ما بعد لتشمل كافّة أنحاء المملكة.

طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية
طلاب كثيرون استفادوا من برنامج محمود دلال للمنح الجامعية

كفاءة عالية وأخلاق
وبسبب كفاءته والتزامه بأعلى مواصفات العمل والتّسليم على الوقت حظي محمود دلال باهتمام الحكومة السّعودية التي بدأت تكلّفه بتنفيذ المشاريع الحكوميّة مثل المستشفيات والمدارس والأبنية الحكوميّة فنالت شركته تصنيف الدّرجة الأولى بين شركات المقاولات وكان المرحوم يعمل على تشييد جامعة “ أبحُر “ عندما هاجمه المرض وأدّى إلى وفاته بعد فترة قصيرة. وأسس محمود أيضاً مصنعاً للألومنيوم في مدينة جدّة أصبح أحد أكبر المصانع في المملكة من حيث الطّاقة الإنتاجيّة.
في لبنان أسّس محمود دلال شركة “مجموعة دلال للاستثمار العقاريّ” التي تستثمر في تشييد الأبنية ومركزها بيروت وهي تمتلك فندق سكاي سويت “ sky suit“ إضافة إلى محفظة عقارات وأبنية في بيروت وضواحيها.
وكان لمحمود دلال دور كبير في الاهتمام بأخوته نظراً لأنّه كان كبيرهم وتسلّم أكثر الأعمال من والده وتدرّج في الأعمال الحرّة وأسّس أعمالا جديدة وتمكّن كلٌّ من أشقّائه بذلك من شقِّ طريقه وتأسيس أعماله. كما أنّه وفّر لشباب المنطقة والخرّيجين اللّبنانيين العديد من فرص العمل في شركاته في المملكة العربيّة السّعوديّة وفي لبنان.

رائد في رعاية الشباب
يُعتَبّرُ محمود دلال رائداً في رعاية الشّباب وتقديم المنح الدّراسيّة لأبناء منطقته راشيّا، وهو الذي تبنّى تعليم عدد كبير من الطّلبَة في الجامعة الأميركيّة وغيرها، كما أنّه من بين المتبرّعين الدّائمين للجامعة الأميركيّة وللعديد من المؤسّسات التّعليميّة في منطقة راشيّا، ومن أبرز أعماله تقديم مساعدات السّكن للطلّاب الذين لا تسمح ظروفهم بالسّكن في بيروت.
على الصّعيد الاجتماعيّ اضطلع محمود دلال بدور بارز في دعم جهود التّنمية في منطقة راشيّا بما في ذلك إنشاء عدد من القاعات العامّة في بعض قرى وبلدات القضاء كما اهتمّ بالمحتاجين خصوصاً في فصل الشّتاء وقدم المعونات الماليّة للكثير من العائلات.

توفيق عساف

تَوْفيق عّساف

قِصّةُ رجلِ أعمــــــالٍ أحــــبَّ النّــــاسَ
فأحبّـــــوه وحفــــــــظ ودَّ الوطــــــــن

غسّان عسّاف:

آمنَ باقتصادٍ حُرٍّ لكنْ ليس للأغنياءِ وحدَهم
وكان رائدًا في الاهتمام بالمؤسّسات الصّغيرة

ربطتهُ صداقةٌ فكريّةٌ بالشّهيد كمال جُنْبُلاط
وذات يوم سأله: لماذا لا تترشّحُ نائبًا عن عاليه؟

يُقدّم المرحوم الشّيخ تَوْفيق عسّاف في الكثير من جوانب مَسيرة حياته الحافلة نموذجًا لحياة الكفاح التي تميّزت بها حياة المهاجرين اللّبنانين في كلّ البلاد التي ذهبوا إليها، فهي حياة البدايات الصّعبة والتّرحال والكفاح والسّهر لكنّها في الوقت نفسه المهارة اللّبنانية في أخذ الفرص واقتناص اللّحظة، وقد نجح توفيق عسّاف بتوفيقٍ من الله في إنشاء مؤسّسة كبرى ماليّة صناعيّة لكنّ نجاحه لم يغيّر فيه على الإطلاق طبيعته الإنسانيّة وشخصيّته الدّمِثة المهتمّة بقضايا النّاس، وهو الذي اعتبر نفسه على الدّوام واحدًا منهم وتعلّم من تجربة كفاحه الصّعب احترام كفاحهم والسّعي بكلّ وسيله لمساعدة ضعفائهم. لكنّ توفيق عسّاف كان أيضًا رجل مواقف وصاحب شخصيّة طيّبة، لكن صريحة فكان بالتّالي صادقًا صدوقًا في مواقفه العامّة، وعلى هذه الصّداقة بُنِيَت في ما بعد صداقاته مع زعامات البلد مثل المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط والمغفور له الأمير مجيد أرسلان وغيرهم. ولقد أصبح الرّجل في وقت معيّن نقطة التّلاقي بين القطبين الدّرزيّين ورجل المواقف الذي يعتمد عليه في الدّفاع عن حقوق العشيرة والوطن في آن. كما قَيِّض القدر للشّيخ توفيق عسّاف أنْ يلعبَ دورًا مهمًّا في تمثيل الموحّدين الدّروز في اتّفاق الطّائف بتنسيق مع القيادة السّياسيّة للطّائفة، وقد لعب دوره كاملًا خصوصًا في الدّفع باتّجاه تأسيس مجلس للشّيوخ يكون برئاسة شخصيّة درزيّة. فماذا نعرف عن تَوفيق عسّاف وعن إنجازاته العمليّة والدّور المهمّ الذي لعبه في الاقتصاد الوطنيّ وفي الحقل العامّ؟

بيتُ فَضيلةٍ وكفاح
وُلِدَ تَوفيق عسّاف في العام 1915 في بلدة عَيتات قضاء عاليه لـ “عائلة أجاويد مُتَواضعة” كما يصفها ابنه الأستاذ غسّان الذي يَتولى منصب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية، افتقد منذ وقت مبكّر حنان الأب عندما اضطُرّ والده، وسط ظروف الضّنك والفَقر التي نجمت عن الحرب العالميّة الأولى وكوارث أخرى مثل الجراد للهجرة إلى أميركا الجنوبية، وكان توفيق الثّالث بين خمسة أطفال تحتّمَ على والدتهم أن تهتمّ بأمر تربيتهم ومعيشتهم. ويبدو أن تَوفيق الشّابّ تأثّر كثيرًا بأمّه التي ربّته على حُبّ النّاس والأخلاق الرّفيعة منذ نعومة أظفاره، إذ كان توفيق ما زال صغيرًا عندما توفّي والده فعاش فترةً من حياته يتيم الأب، لكنّه تلقّى رعاية تامّة من والدته القديرة والتي اعتبر دومًا أنّها لعبت أكبر دور في حياته. ومع دخوله مرحلة الشّباب استشعر توفيق القوة والبأس في جسده فمال إلى الرّياضة ولاسيّما لعبة الملاكمة وصعد في صفوف أبطالها ووصل به الأمر إلى منافسة بطل لبنان في الملاكمة في ذلك الوقت إدمون زعنّي.

“شنَّت «كوكا كولا» حربَ أسعارٍ على تَوفيق عسّاف فردّ بـ «حرب جوائزَ» فوريّة زادت شعبيّة الببسي ومكّنتها من أخذ نصــــف السّـــــوق في 15 عامًا”

الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية
الأستاذ غسان توفيق عساف رئيس مجلس الإدارة والمدير العام لبنك بيروت والبلاد العربية

في أرضِ الله الواسعة
مع وفاة والده واجه توفيق الشّاب وضعًا جديدًا ودقيقًا إذ إنّه كان مازال فتًى يافعًا عندما اضطُرّ إلى تحمّل المسؤوليّة رغم صِغَر سنّه، وقد مارست والدته ضغطًا قويًّا عليه لتَرْك لعبة الملاكمة والبحث عن مهنة يستطيع من خلالها أنْ يساهم في تَكلفة معيشة الأسرة وأشقّائه الأصغر سنًّا. تقلّب توفيق الشّاب في عدد من الأعمال لكنّه قرّر في العام 1935 (وكان في العشرين من العمر) الهجرة الى أفريقيا وتوجّه إلى ليبيريا، لكنّه لم يمكث هناك أكثر من سنة إذ شجّعه أخوه الكبير يوسف، الذي كان بمثابة والده،على الانتقال إلى فنزويلّا حيث كان يعمل في تجارة الأقمشة.
كانت فنزويلّا وقتها من أكبر الدّول المنتجة والمصدِّرة للنّفط في العالم وتعوم على ثرَوات كبيرة كما أنّ نظامها الاقتصاديّ كان ليبراليًا ومفتوحًا لمختلف أنواع الهجرة من الخارج

“نجاحُهُ العمليُّ وسمعتُه الطّيِّبةُ جعلاهُ المرشّحَ المفضّلَ للمشاركةِ في تأسيس بنك لبنانَ والبلادِالعربيّة و80% من أسهم البنك أصبحت ملكًا لآلِ عســـــاف”

الثّروةُ الأولى
كان لتوفيق عسّاف بُعْد نظر تجاريٍّ، فلاحظ أنّ السّوق في حاجة لأنواع وكميات محدّدة من الأقمشة، لكنّه لم يكن يملك رأسمالًا كافيًا لتوسيع تجارته، وبسبب موهبته في بناء العلاقات وشخصيّته الموثوقة وجد من يقبل بتسليمه البضائع على الحساب، إذ إنَّه عرف كيف يلبّي طلبيّات السوق، ولمسَ بعض التّجار مهارته تلك فأمدّوه بكلّ ما يحتاج، وعلى أثر ذلك نمت تجارته بسرعة وبات من اللّاعبين الكبار في السّوق، كان ذلك النّجاح المصدر الأوّل لبناء ثروته الاغترابيّة. لكنّه بينما كان يحصد ثمار عمله وثقة النّاس لم ينشغل عن المهنة الأهمِّ التي يحبها وهي: خدمة النّاس، إذ حفَّزه نجاحه للاهتمام بشؤون الجالية اللّبنانية ومساعدة أبنائها، كما أنّه وجد نفسه أيضًا في بؤرة الضّوء عندما انبرى للردِّ على حمَلاتٍ أرادت تشويه صورة العرب واللّبنانيّين، حينها كان قد أصبح شخصيّة عامّة بين المهاجرين من بلاد الشّام بوجه الإجمال.
هل كان نجاح توفيق عساف في فنزويلّا نتيجة عمله فحسب أم حالفه الحظُّ أيضًا؟
هذا هو السّؤال الذي يطرحه البعض عادة في محاولة تفسير بعض النّجاحات ، وهم يشيرون مثلا إلى أن كثير من الناس يبذلون الجُهد ويكافحون لكنّ النّتائج لا تأتي متساوية، كما أنّ النّجاح والشّهرة لا يكونان إلّا نصيب قلّة.
يَعتبر الأستاذ غسان عسّاف أنّ من الصّعب الفصل بين ما يُسمّى عامل الحظّ وبين عامل الموهبة أو الجهد الشّخصيّ. فتوفيق عسّاف كان شخصًا مكافحًا وطموحًا لكنّه أوتيَ زيادة على ذلك شخصيّة محبّبة وأخلاقًا رجوليّة طيِّبة تجتذب النّاس إليه وتجعله يستحقُّ ثقتهم، وربّما يعتبر البعض هذه الصّفات بمثابة عامل “الحظِّ” وهذا قد يكون صحيحًا بشرط امتلاك موهبة المبادرة والفاعليّة الشّخصيّة والتّميُّز بين الآخرين.
جميع المهاجرين كانوا مكافحين فعلًا لكنّ معظمهم حصر اهتمامه بتأمين لُقمة العيش أوبناء ثروة صغيرة ولم تكن لهم موهبة بناء العلاقات الشّخصيّة وكسب ثقة النّاس كما فعل “الوالد الذي توسّعت علاقاته إلى أن عقد صداقة مع أكبر رجال الأعمال في فنزويلّا”. ويَعتبر غسّان عسّاف أنّ “هذا النّجاح في بناء شبكة العلاقات والصّداقات والسّمعة الطيّبة التي بناها الوالد ساعداه كثيرًا في تنمية أعماله، لأنّ الثّقة مع الموهبة هي أهمّ أسباب النّجاح. وكلّ شخص يضع نفسه في المكان المناسب يجذب الحظَّ إلى ذلك المكان”.

مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون
مع-الرئيس-الأميركي-ريتشارد-نيكسون

العَوْدةُ إلى الوطن
على عكس ما يتوقّع المرء فإنّ جَمْعَ تَوفيق عسّاف لثروة مُحترمة في المهجر لم يجعله يتعلّق بالاغتراب أو يستبدل وطنه الذي ترعرع فيه بالمُغْتَرَب البعيد. بالعكس، فقد تحولت ثروة توفيق عسّاف إلى حافز قويٍّ له للعودة به إلى البلاد التي يعرفها جيّدا ويحبّها ويعلم أيضًا أنّها بلد الفرص والأُلفة والعيش الأصيل. ورغم أنّ فنزويلّا كانت يومذاك تعوم على ثروة النّفط فإنّ توفيق عسّاف قرّر يومًا أنّ الوقت قد حان للعودة إلى الوطن
حدث أمرٌ جعلَ المغتربَ النّاجحَ يحزم قراره في عودة عَجْلى إلى الوطن، إذ انفتحت أمامه فجأةً فرصة الحصول على اميتاز شركة الببسي كولا للسّوق اللبنانية. كان ذلك بفضل علاقته الوثيقة بعائلة “سيسنيرو” الذين كانوا من أثرياء فنزويلّا وكانوا وكلاء البيبسي كولا في تلك البلاد.
كانت الببسي آنذاك في طَوْر توسيع انتشارها في العالم، وكانت السّوق اللّبنانية سوقًا واعدة بسبب الازدهار اللّبناني، والحركة السّياحيّة آنذاك ، لكن السّوق كانت حينها حِكرًا على شركة كوكا كولا، الأقدم والأعرق تاريخيًّا والمهيمنة عالميًّا. لكنّ توفيق عسّاف لم يتردّد لحظةً في السّعي لنيل ذلك الامتياز، فسافر إلى نيويورك برفقة بعض أصدقائه من أسرة سيسنيرو الذين دعموه مباشرة لدى الشّركة الأمّ، وكانت النّتيجة أن عاد من سَفرته الموفّقة تلك بعقد امتياز البيبسي كولا في السّوق اللّبنانيّة. كان ذلك في العام 1949 وفي ذلك العام عاد توفيق عسّاف إلى لبنان لتأسيس شركة الببسي، وإطلاق أعمالها.
لكنْ بمجرّد تأسيس الشّركة وإنشاء مصانعها في الحازميّة شنَّت شركة كوكا كولا على الشّركة النّاشئة حربًا قاسية لأنَّها كانت تريد حماية حِصّتها الضّخمة في السّوق، وكان ردّ فعل كوكاكولا جزءاً من سياستها ضمن الصّراع الذي بات عالميًّا مع شركة بيبسي كولا، ولأنّ شركة كوكا كولا كانت قد تأسَّست قبل عَشْرِ سنواتٍ في لبنان فإنّها كانت تستحوذُ على معظم السّوق وجميع نقاط البيع والتّوزيع. وفي سبيل توجيه ضربة قاضية إلى شركة بيبسي كولا النّاشئة قامت كوكاكولا بخفض أسعارها بشكل كبير ممَّا أدّى إلى هبوط مبيعات الشّركة المنافسة التي مُنِيَت بخسائر كبيرة، لكنَّ توفيق عسّاف صاحب العزيمة قرّر الرّدّ على الحرب بحرب مماثلة وأثبت في وقت قصير أنّه نَدٌّ قويٌّ بل خصم متفوّقٌ على منافسيه. لقد قرّر وبدعم من الشّركة الأمّ في نيويورك شنَّ حملة تسويقٍ كبرى في لبنان استخدمت إغراء “الرّبح الفوريّ” وذلك من خلال الهدايا الموجودة تحت الغلاف الدّاخليِّ لسِدَادة زجاجة البيبسي، وكانت الهدايا مهمّة مثل الكاميرات أو السّاعات أو الأدوات المنزليّة أو السّيارة أو حتّى الشّقة السّكنيّة، وغير ذلك، وبدأت عناوين الصّحف اللّبنانية تنشر الأنباء المثيرة عن جوائز الببسي كولا والرّابحين، وتهافت النّاس على زجاجات البيبسي وارتفعت مبيعات الشّرِكة، وفي أقلّ من خمسةَ عشَرَ عامًا كانت الشركة قد حصلت على نِصف السّوق اللّبنانيّة من المرطِّبات. ولفتت تلك النّجاحات الصّحافة اللّبنانيّة فكتبت عن تَوفيق عسّاف،”رجل الأعمال النّاجح ذي الأخلاق الحسَنة والسّمعة الطّيّبة”.
وبفضل تلك السّمعة الطّيّبة، ولا سيّما الموثوقيّة والصّدق في المعاملة التي يتمتّع بها توفيق عسّاف فقد ارتقى به سعيُه إلى مهنة تقوم على قيم من الثقة والمصداقيّة، ألا وهي مهنةُ العمل المصرفيّ. ورغم أنّه لم يكن يمتلك خلفيّة مصرفيّة فإنّ بروزه كرجل أعمال وصناعيٍّ ناجح جعل منه شريكًا مناسبًا لمجموعة من رجال الأعمال كانوا يعملون على تأسيس “بنك بيروتَ والبلاد العربيّة” ومن أفراد تلك المجموعة نَشْأتْ شيخ الأرض وهو سعوديٍّ من أصل سوريٍّ وجمال شحيبر وهو لبنانيّ من أصل فِلَسطينيّ. تردّد توفيق عسّاف بادئ الأمر، انطلاقًا من كَوْنه لا يمتلك خبرة في الصّناعة الماليّة، لكنّه اقتنع في ما بعد، وقَبِلَ في العام 1954 المشاركةَ في تأسيس البنك الذي انتُخِبَ ألفرد نقّاش أوّل رئيس مجلس إدارة له. وفي العام نفسه تزوّج توفيق عسّاف من عايدة ابنة شاكر صعب، التي وفّرت له سندًا قويًّا في حياته العائليّة والاجتماعية. يقول الأستاذ غسّان عسّاف في ذلك: “والدتي لم تكن تشبهه بل كانت تُكَمّله، وفيما فُرِض على رجل بمكانته أن يكون صارمًا وقاسيًا عائليًّا، كانت هي الوجه اللّيّن ومصدر الحنان كما حملت عنه بعض الأعباء الاجتماعيّة التي لم يكن بمقدوره تلبيتها خصوصًا بعدما تطوّرت أعماله وانخرط في السّياسة”.

الصّناعة والمؤسّسات
بعدما أخذت السّياسة ألفرد نقّاش، طلب من تَوفيق عسّاف تَرَؤس البنك نظرًا لمكانته في المجتمع ولثقة النّاس به، فقبل المهمة لكن على أن يكون له في الوقت نفسه الاستعانة برجل يثق به للإدارة الفعليّة. في ذلك يقول الأستاذ غسّان: “كان والدي متواضعًا ولا يدّعي أنّه يعرف كلَّ شيء، وهو رأى أنّ تَرَؤس إدارة مصرِف يجب أن يعهد به إلى شخص متخصّص ولديه الخبرة في الشؤون المالية،لذلك، قبل بتسلّم المنصب، لكنّه استقدم الشّيخ أمين علامة الذي كان موظفا كبيرا في البيبسي كولا نظرًا لثقته به، وأرسله إلى أميركا حيث تدرّب لمدّة سنة، وكان مثابرًا أحبّ عمله، وعند عودته كلّفه بالإدارة العامّة – وكان البنك وقتها صغيرًا – لكن أمين علامة تطور ورافق تطور البنك وكان من المصرفيين الذين يحظون باحترام في أوساط الصناعة المالية. ونتيجة النّجاحات التي حقّقها بنكُ بيروتَ والبلاد العربيّة بقي توفيق عسّاف رئيسَ مجلس الإدارة إلى حين وفاته”.
أمّا على صعيد المساهمة فقد زادت حِصّة توفيق عسّاف مع الوقت أوّلًا إذ قرّر آل شحيبر بيعه حِصَّتهم ممّا جعل منه المساهم الأكبرَ في المؤسّسة، ولا زال نشأتْ شيخُ الأرضِ شريكًا مساهمًا لغاية اليوم رغم أنّ أولادَ توفيق عسّاف اشترَوْا مزيدٍا من الأسهم وهم يملكون حاليًّا 80 في المئة من بنك بيروت والبلاد العربية.
دعمَ الشيخ توفيق على صعيد الصّناعة أيضًا أكثر من شركة كما شارك في تأسيسها، وكانت هذه الشّركات متخصّصة في صناعات عديدة بعضها يعتمد على شركة البيبسي كولا، مثل صناعة الزّجاجات وسِداداتها الحديديّة والبلاستيكيّة وغيرها. كما دخل الشّيخ توفيق مجال التّأمين كمساهم أساسيٍّ في شَركة SNA التي بيعت في ما بعد.
ولم يقتصر عمل ونشاط توفيق عسّاف على قِطاع الصّناعة والأعمال المصرِفيّة إذ امتدَّ ليشمل الإعلام، فكان مساهمًا رئيسًا في تأسيس “تِلِفزيون لبنانَ والمشرق” وقدّم الأرض في الحازميّة لإقامة مبنى التِّلِفِزيونَ. كما كان من مؤسّسيّ نادي الصَّفا الرَّياضيِّ ورئيسه الفخريّ لسنوات عدّة.

رجلُ المواقف
بسبب مساهماته الكثيرة ومشاركته المتزايدة في الحقل العامّ اختير توفيق عسّاف رئيسًا للجنة تأسيس دار الطّائفة الدّرزيّة في فردان، وتسنّى له بعد ذلك التعرُّف على القيادات الدّرزيّة، فبنى صداقة مهمَّة مع المرحوم كمال جُنْبُلاط الذي رأى فيه رجل مواقف إنسانيّة ووطنيّة قبل أنْ يراه رجل أعمال. أمّا بالنِّسبة لتوفيق عسّاف فإنَّ كمال جنبلاط كان الصّديق الذي يتشارك معه في التأمُّل والتّصوُّف بعيدًا عن أجواء الحياة اليوميّة والأعمال.
نتيجةً لتلك الصّداقة اقترح كمال جنبلاط على الشّيخ توفيق في العام 1960 التّرشّحَ للانتخابات فلم يتحمّس بدايةً للفكرة، لكنّه عاد وقبل من منظار رغبته في مساندة الزّعيم كمال جنبلاط في نضاله السّياسيّ، وقال يومها في شرح قبوله بفكرة دخول النّدوة النّيابيّة “لم أفكّر يومًا في الانتقال من المَيْدان الصِّناعيّ والتِّجاريّ إلى العمل السّياسيّ، غير أنّ الصّداقة التي تربطني بكمال حنبلاط والمحبّة المتبادلة بيننا دفعتا بي إلى دخول المعترك السّياسيِّ”. هذه الصّداقة ترافقت في الوقت نفسه مع رابطة وثيقةٍ بالمرحوم الأمير مجيد أرسلان، والمفارقة أنّ توفيق عسّاف لم يكن مجرّد نائب عن دائرة عاليه، بل كان في العام 1972 المرشح التوافقيّ بين الرّاحلين كمال جنبلاط والأمير مجيد. وهكذا أمضى عشرين عامًا في النّيابة، كما أصبح وزيرًا للاقتصاد والنّفط ، فأهّل الوزارة وسنّ تشريعات من أجل تطويرها.
خلال الحرب الأهليّة كانت زوجته والأبناء في الخارج لكنّه لم يترك لبنان سوى لزيارة العائلة ولم يَغِبْ عن وطنه أكثرَ من شهرٍ واحد.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط بقي توفيق عسّاف على تنسيق تامٍّ مع النّائب وليد جنبلاط وفي العام 1989 كان توفيق عساف النّائب الدّرزيّ الوحيد الذي بقي على قيد الحياة والممثّل الوحيد للطّائفة التي دافع بشدّة عن حقوقها في اجتماعات الطّائف وكان لوجوده ومشاركته الفاعلة أثر مهمٌّ في الموافقة على إصلاح دستوريّ أساسيّ هو إنشاء مجلس للشّيوخ في لبنان برئاسة درزيّ.

مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان
مع الشهيد كمال جنبلاط وسماحة شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان

“بسبب شخصيّته الموثوقة اقترحه كمال جنبلاط نائبًا عن عاليه ثم أصبح نائبًا بتوافق جنبلاطيٍّ أرسلانيّ لمدّة 20 عامًا”

بَصمات ذهبيّة
كانت لمدينة عاليه مكانةٌ خاصّة في قلبه، كما كان له بدوره في كيانها بصمات ذهبيّة، وكان البنك في عاليه الواسطة التي من خلالها تمّ توفير التّمويل للعديد من الشّرِكات الصّغيرة والمشاريع الفرديّة سواء للبدء في الأعمال أم لعمليّات التوسّع والاستمرار. يقول الأستاذ غسّان :”آمن والدي بأنَّ النّظام الحرَّ ليس لإغناء الأغنياء بل لخلق الفرص والمجالات أمام الأفراد وخصوصًا الفقراء لتطويرهم ورفع مستوى معيشتهم، وتأمين العمل لأكبر عدد ممكن من النّاس… أقصد أنّه كان يؤمن بالرّبح المعقول ويرفض الطّموح المتوحّش، من هنا قضت خطّته بانتشار فروع البّنك في كلّ المناطق والقرى المهمّة خصوصا في الجبل. وفي وقت كانت فيه المصارف تهتمّ بالشّرِكات الكبرى كان همّ توفيق عسّاف مساعدة وتمويل المؤسّسات الصّغيرة والفرديّة، فكان بذلك رائدًا في مجال دعم المؤسّسات الصّغيرة والمتوسّطة وفي مجال المسؤوليّة الاجتماعيّة التي باتت اليوم على جدول أعمال كلّ مصرِف. ويتميّز بنك بيروتَ والبلاد العربيّة لغاية اليوم بأنّ جزءًا كبيرًا من موجوداته موزّعًا في المناطق بينما يتركّز 45 في المائة فقط منها في بيروت”.

الصّديق المُنفتح
كما سبق وذكرنا كان توفيق عسّاف رجلًا مُنفتحًا واجتماعيًّا منذ صِغَرِه، ولم ترتبط صداقاته بأهل طائفته أو منطقته بل تخطّت ذلك فكان إدمون كسبار نقيب المحامين آنذاك رفيق دربه، كما صادق فوزي مارون وطلب منه أن يكون عضو مجلس إدارة في البنك، ومن أبرز أصدقائه وزير الماليّة في ذلك الوقت علي الخليل. صاحب البيت المفتوح والمائدة الدّائمة، حافظ على أصدقائه وعلاقاته الاجتماعيّة طوال عمره، ورغم أنّه تعرّض لبعض الخَيبات إلّا أنّه لم يندم قَطُّ على مبادئه وانفتاحه واتّساع دائرة الأصدقاء. ذلك أنّه على العموم قليلًا ما كان يُخطئ في اختيار النّاس المناسبين في كلّ مراحلَ حياته.

رحيلُه ووصيّتُه
في العام 1992 تراجعت صِحّتُه ممّا فرض عليه أن ينكفئ، ويقلّل من التزاماته الاجتماعيّة وفي فجر التّاسع من أيّارَ من العام 1996 رحل توفيق عسّاف إلى دنيا الحّقِّ عندما كان برفقة زوجته ورفيقة عمره في قبرص. وكانت إحدى وصاياه، تحويل أرض منزل والدَيه إلى مبنى للبلديّة ومكتبة عامّة، “نفذنا وصيّتَه وجرى وضعُ الحجر الأساس للمبنى في احتفال الذكرى السّنويّة الأولى لرحيله في العام 1997. وفي الذّكرى الثّانية تمّ تدشين مبنى البلديّة والمكتبة العامّة”، وقد جُهّزت المكتبةُ وفقًا للمواصفات العالميّة. وهي تقدّم لطالبيّ العلم والثّقافة مجموعةً واسعةً وشاملةً من الكتب والمجلّدات. وتضمُّ آلافَ العناوينَ في اللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة لكلّ الأعمار. أمّا البلديّة فقد أطلقت على الشّارع الذي يقع وسط البلدة اسم “شارع الشّيخ تَوفيق عسّاف”

الشيخ بشير جنبلاط

عَمود السّماء

الشّيــخ بشيــر جُنبـلاط

الشّيخ بشير جنبلاط (1775-1825) هو أهمُّ المشايخ المقاطعجيِّين في جبل لبنان في العهد الشِّهابيّ، وهو القائم بِدَور كبير زمن الأمير بشير الثّاني، والمُشكِّل معه ثُنائيَّة في الحُكم استمرَّت طوال ثلاثة عقود، كانا خلالها قُطبَي العمل السِّياسيّ، ومِحور معظم الأحداث. ونظرًا لأهمِّيَّته تلك لا يُكتَب تاريخ الإمارة الشِّهابِيَّة إلاَّ ويُذكَر فيه بصفحات كثيرة، ولا يُكتَب تاريخ الأمير بشير إلاَّ ويُشكِّل جزءاً كبيراً منه، ولا يُكتَب تاريخ الموحِّدين (الدّروز) إلاَّ ويبرز فيه أحد أعلامِه الكبار.

الزَّعامَة المُبكِّرة
الشيخ بشير جنبلاط المكنَّى بـ (أبو علي)، والملقَّب بـ(عمود السَّماء)، هو ابن قاسم بن علي بن رباح بن جنبلاط. وُلِد في سنة 1775 في بلدة بعذران، في القصر الذي بناه جدُّه الشيخ علي، الذي عايَشَه ثلاث سنوات. وإذا كانت المراجع التاريخيَّة لم تذكُر شيئًا عن نشأته، ولا عن تحصيله العِلميّ، فإنَّ الاستنتاج يسمح لنا بالقول: إنَّ ما تلقَّاه من علوم كان محدودًا، شأنُه في ذلك شأنُ الأكثرِيَّة السَّاحقة من أبناء زمانه. أمَّا ما تلقَّاه من خبرة في الشُّؤون السِّياسيَّة والحياتِيَّة فهو وافِرٌ جدًّا، ذلك أنه ابن بيت عريق في التّعاطي السّياسي والاجتماعي، يُضافُ إليها وَفْرة ما تلقَّاه من خبرة عسكريَّة من خلال تعلُّم فُنون الفُروسيَّة والقتال في الميدان القائم أمام قَصْر جدِّه في بعذران. وكلاهما لا يزالان موجودَيْن إلى اليوم.
إنَّ أُولَى التجارب السياسيَّة والعسكريَّة للشّيخ بشير جنبلاط، هي اتِّخاذه وهو في سن السابعة عشرة موقفًا سياسيًّا، وموقعًا عسكريًّا، مُتعارضَيْن مع موقف وموقع والده قاسم، ذلك أنَّه كان في مواقع الكرِّ والفرِّ، التي دارَت في نهاية سنة 1791، وأوائل سنة 1792، في نهر الحمَّام، وعِينبال، وإقليم الخَرُّوب، مع عسكر البلاد، الذي يقوده الأميران الشِّهابيَّان (حَيدَر ملحم وقعدان) ضدَّ عسكر والي صيدا (أحمد باشا الجَزَّار)، الذي قَدِم مع الأمير بشير الشِّهابيّ الثاني لإعادته إلى الحُكم، وكان هذا العَسكر يضمُّ والدَ الشيخ بشير قاسم ، وتجدر الإشارة إلى أنّ الجزّار، الذي تسلّم ولاية صيدا سنة 1776، أقام في عكّا وجعلها مقرّاً للولاية حتى وفاته سنة 1804. وهكذا فعل من تسلّم هذه الولاية بعده.
وهنا يجدر التَّساؤُل: هل كان تعارُض الشيخ بشير مع والده في الموقف والموقع المذكورَيْن، من قَبِيل التعدُّد الطبيعي للميول والاتِّجاهات، أم مِن قَبِيل توزيع الأدوار بينهما، حتى إذا انتصَر فريق أحدهما يكون فيه خيرٌ للاثنَيْن معًا؟ وما يجعلُنا نطرح هذا التَّساؤُل ما ذكَرَه حنانيَّا المنيّر، وهو التّالي: “وكان الشيخ قاسم جنبلاط في كبسة شحيم مع عسكر البلاد، فلمَّا وصل إلى هناك خان واعتزل عن العسكر، وانحاز إلى الأمير بشير في عانوت. لمَّا رَكبت الدَّولة هذه المرَّة على الدَّير(دَيْر القمَر)، كان الشيخ بشير ابن الشيخ قاسم جنبلاط في نبع الحمَّام، ومعه جماعة من رجال الشُّوف، فترك أباه ومضى برجاله إلى نصرة البلاد”1.
ساهم الشيخ بشير مساهمة فعَّالة في دحْر عسكر الجَزَّار في موقعة عانوت، وظلَّ يتعقَّبه حتى دخل صيدا “وغنم عسكرُ البلاد جميعَ ما معهم حتى بِيع الفَرَس بقِرْش لكثرة الغنيمة”2.
تراجَع عسكر الجَزَّار مهزومًا إلى صَيْدا، ومنها قفل راجعًا إلى عكَّا ومعه الأمير بشير والشيخ قاسم جنبلاط. فسمح الجزَّار بِعَودة الأمير بشير، وأبقَى الشيخ قاسم مسجونًا في عكَّا إلى أن تُوُفِّي في أواخِر سنة 1793، “فأرسل الجَزَّار يطلب من الأمير بشير أن يرسل إليه الشيخ بشيرًا عِوَض والده الشيخ قاسم”3. وفي أحد المراجع التّاريخيَّة أنَّ الجَزَّار “دسَّ له سمًّا ومات ودُفِن في عكَّا، وقام ولده بشير عِوَضه”4.

إنَّ ما جرَى لِقاسم جنبلاط، مضافًا إليه عجز الأميرَين الشِّهابيَّيْن (حيدر، وقعدان) عن الاستمرار في الحُكم، وعَودة الأمير بشير إليه، كان له تأثيرٌ في تغيير موقف الشّيخ بشير، إذ إِنَّه تحوَّل إلى جانب الأمير بشير، حيث سيبدأ معه مسيرة طويلة معظمها صداقة وتحالُف، ونهايتها عَداء قاتل.

توحيد الزَّعامَة الجُنبلاطيَّة
إنَّ توحِيد الشّيخ بشير للزَّعامة الجُنبلاطِيَّة، هو، بعبارة موجِزة، إعادتها مُوَحَّدة بشخصِه، كما كانت في عهد جَدِّه الشّيخ علي المُؤَسِّس الفِعلي لهذه الزَّعامة، التي لم تتوفَّر مُعطَياتها في وراثتِه لِزَعامة والدِه رباح، وجدِّه جنبلاط، بقَدْر ما توفَّرَت في وراثته لزعامة عمِّه الشيخ قبلان القاضي، الذي كان له الشُّوف الحَيْطي، والشُّوف الشُّويزاني (السويجاني)، وبعض مقاطعة جِزِّين. كما أنَّ زَعامة الشيخ علي جنبلاط كانت مطلب أهالي الشُّوفَيْن المذكورَيْن وسِوَاهم، لأنَّهم اعتبَرُوها زعامتهم، ودفعُوا 25 ألف غرش ترْضِيَةً للأمير حَيدر الشِّهابي، كي يقبل بانتقال معظم ممتلكات الشّيخ قبلان القاضي إلى صِهره الشّيخ علي جنبلاط، فعُرِفُوا بـ(أهل السميّة) أو بـ(السميّة الجنبلاطيَّة). وعُرِف المال الَّذِي دفَعُوه بـ(مال السميّة). وقد ظلَّ الشّيخ بشير حريصاً على هذه (السميّة) ومصالحها، إذْ إنَّه في وصيَّته الوَقفِيَّة التي كتبَها سنة 1808، أوصَى الوُكَلاء بمَصالِح (السميّة الجُنبلاطِيَّة) 5.
إذن، إنَّ أهالِي الشُّوفَين كانوا يتطلَّعُون إلى زَعامة قويَّة تخلُف الشّيخ قبلان القاضي، يستَقْوُون بها، ويستظِلُّون بحمايتها في عهد سِيادة الإِقطاع، فوَجدُوها في الشّيخ علي جنبلاط الذي كان جديرًا بتحمُّل أعبائها، مُمتلِكًا صفاتِها، وقد جمع إلى جانب القيادة السِّياسيَّة، قِيادة دِينيَّة ممثَّلة بالاتفاق عليه شيخًا لِلعُقَّال، أي شيخ عَقْل6.
تجَزَّأَت أملاك الشّيخ علي جنبلاط ومعها زَعامته بين أبنائه وأحفاده، وبعد أن كان لها مَقرٌّ واحد هو دار بعذران التي بناها، تعدَّدَت الدُّور، فصار هناك دارٌ أُخرى بِقُربها بناها ابنه حُسَين، ودار في بلدة الخرَيْبة المُجاوِرة بناها ابنه يُونس، ودار المختارة التي استقَرَّ فيها ابنه نجم، وهي موروثة من الشيخ قبلان القاضي. وتوزَّعَت السميّة الجُنبلاطِيَّة على هذه الدُّور الأرْبع التي كان لِمَواقعها تأثير في التَّوزُّع، إذْ كان معظم أنصار قاسم، ويونس، وحسين، من الشُّوف الحيطي، ومعظم أنصار نجم من الشُّوف السّويجاني، وفي حين لم تبرُز المُنافَسات والنِّزاعات بين أبناء الشيخ علي، برزَت بِقوَّة بين أحفاده، وتحديدًا بين ثُنائيّة الزَّعامَتَين الرئيسَّتَين المُستقِرَّتَين في دارَي بَعذَران، والمُختارة، أي بين ابنَي قاسم (بشير، وحسن) في دار بَعذَران، وأبناء نجم (أبو قاسم حمد، وسيّد أحمد، وبشير) في دار المُختارة.
إنَّ توَزُّع المُلكيَّة العِقاريَّة، التي هي مصْدر لِلسُّلطة، على أبناء وأحفاد الشيخ علي جنبلاط، جَعل كُلاًّ منهم ذا ثَروة بسيطة، قياسًا على ثَروة الشّيخ علي الأصليّة، وإنَّ توَزُّع مَقارِّهم صعَّب اتِّخاذ القَرار المُشترَك، أو غيَّبَه، وجعلهم يذهبون في أكثر من اتِّجاه، وحتى في الاتِّجاهات المُتعارِضة، جرَّاء تدخُّلهم في صِراعات الأُمَراء الشِّهابيِّين المُتنافِسين على الإمارة، بِدعمٍ من الوالي العُثماني الذي كان يُناصِر فريقًا ضِدَّ آخَر.
برَز الشيخ بشير منذ أن اشترك في مواقع الكرِّ والفرِّ، والكبسات التي حصلَت بين عسكر البلاد وعسكر الجزَّار، والتي ورد ذِكرها، ومُنذُ أنِ استطاع تثبيت حُكم الأميرَين الشِّهابيَّيْن (حيدر، وقعدان) حوالي السنتَين، فغدا أقوَى الزُّعَماء الجُنبلاطِيِّين “وتقَدَّم على الجميع، فضادَّه بعض أقاربه حَسداً” حسبَما يَذكر المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق7. وأقاربه الذين ضادُّوه وحسدُوه هم أبناء عمِّه نجم في دار المُختارة، الَّذين كانوا ينافِسونه على الزَّعامة، ويتطلَّعُون إلى القيام بِدور مهمّ على مسرح الأحداث، ويرفضون تفوُّق زعامته على زعامتهم.
لا يَذكر المُؤَرِّخان حيدر الشِّهابي، وطنُّوس الشِّدياق عن صراع الشّيخ بشير وأخيه حسن، مع أبناء عمِّهما نجم، سِوَى القول إنه في نيسان 1793 كبس الشّيخ بشير وأخوه حسن أبناء عمِّهما في المختارة، وقتلوا الشّيخ حمد، والشّيخ أحمد، ولم يكن لهما عقب8. أمَّا المؤرِّخ يوسف أبو شقرا، فيَذكُر الأسباب ويقول “إنّ التَّنافُس بين الفريقَين مَوروث عن الآباء”، ويُعيد سبب كبسة الشّيخ بشير وأخيه حسن لأبناء عمِّهما إلى عِلمهما بمؤامرتهم عليهما، دبَّرُوها بالاتِّفاق مع بعض أهالي الشُّوف، فقاما بضربةٍ استباقيَّة، وهاجماهم قبل أن يهاجموهما، وفتَكا بِهم قبل أن يفتكوا بهما. وحين رأى الشّيخ بشير المتآمِرِين من الشّوف السّويجاني قادمِين إلى المختارة ليلاً، حاملِين مشاعلهم، أمَر رِجاله أن يُحَورِبوا بحسب عادة ذلك الزَّمان، فحَوْرَبوا، وأنهَوا حَوْروبتهم بالعبارات التالية مرفقة بإطلاق زخَّة من الرصاص: “راعي الدَّار الشيخ حسن، ذبَّاح الخَيل بو علي”9، أي الشّيخ بشير.
كان ما قام به الشّيخ بشير ذا نتائج سلبيَّة عليه في البداية، إذْ أثار القوَى المُناوِئة له والحليفة لِلأخوَين المقتولَين، وفي طليعتها الأُمَراء الحاكمون: أبناء الأمير يوسف الشِّهابي (حسين، وسعد الدين، وسلمان)، الَّذين طلَبُوا الشيخ بشير وأخاه، واسْتدعَوا قوَّات الجزَّار للقبض عليهما، الأمر الَّذي اضطرَّهما إلى ترك المختارة، وبَعذران. كما عُيِّن أبو دعيبس علاء الدين عبد الصمد مُتوَلِّيًا أمور الشُّوفَين بدلاً من آل جنبلاط، فأقام في قصر المختارة لسبعة أشهر، ممَّا أدخله وعائلته في نزاع مع الشيخ بشير وأخيه، عمد الشيخ حسن خلاله إلى الانتقام منهما ومن بعض أفراد عائلتهما، مع الإشارة إلى أنَّ بعض وجوهها كانوا من جملة المتآمِرِين عليهما مع أبناء عمِّهما نجم.
لكن ما قام به الشّيخ بشير أعطى النَّتائج الإِيجابيَّة التي توقَّعَها، وكانت بدايتها مع المُشترِكين في المُؤَامرة ضِدَّه وضِدّ أخيه، وهم من قرى مزرعة الشُّوف، وغرِيفه، وبعَقْلِين، وسِوَاها، إذْ إِنَّهم حين سمِعوا حَوْروبة رجاله الَّتي أنبَأَت بانتصاره، عادُوا أدراجهم قبل أنْ يصِلوا إلى المختارة، ثم ما لبِثوا أنْ تحوَّلُوا إلى نُصَراء له، ذلك أنَّ الأجْدَى لهم هو التَّعامُل مع الأحياء، لا العيش على ذِكْرَى الأموات، والأجدى لهم أيضاً إتباع الأقوِياء الَّذين كان من رُموزهم في تلك الفترة الشيخ بشير المشهور بدهائه وحنكته السياسية ومواقفه الصلبة، وأخوه حسن المشهور بِفُرُوسيَّته وشجاعته. وقدِ استقرَّ الشّيخ بشير في دار المختارة، واستقرَّ أخوه في دار بعذرَان. وهو، أي الشيخ بشير، لم يُبقِ الجرح الدَّاخلي مفتوحًا، ولم يترُك مجالاً لأحدٍ أنْ ينكَأَه، بل بلْسَمه نهائيًّا بتزويجه ابنته لنجم بن علي بن بشير.
إنَّ تَوحِيد الشيخ بشير للقَرار الجُنبلاطِيّ، ومَرْكزته بشخصه وبدار المختارة، كانا منطلق زعامته السِّياسيَّة التي استمرَّت مُتألِّقة، فاعلة، مؤَثِّرة في تاريخ لبنان حتَّى نهايته في سنة 1825. وأصبح توحيد القرار ووحدانية الزعامة نهجًا سار عليه آل جنبلاط-ولا يزالون-، زاد من قوَّة زعامتهم بصيغتها التَّقليدِيَّة، أو بصيغتها الحديثة المتطوِّرَة، وأبرَزَها بين سائر القِيادات والزَّعامات، حتى إنَّه عندما اغْتِيل فؤاد بن نجيب بن سعيد بن بشير في 30 تمُّوز 1921، وكان نجْله الوحيد كمال صغيرًا، تسلَّمَت زوجته الست نظيرة جنبلاط مقاليد الزَّعامة، حتى كبر ابنهما كمال فتسلَّمَها في سنة 1943، بعد وفاة ابن عمِّه حكمت علي نجيب جنبلاط في السَّنَة نفسِها.

مشايخ الموحدين الدروز في قصر بيت الدين - صورة تعود إلى مطلع القرن الماضي
مشايخ الموحدين الدروز في قصر بيت الدين – صورة تعود إلى مطلع القرن الماضي

الإِمساك بالقَرار الدُّرزِي
حِين تُوُفِّي آخِر الحكّام المَعنِيِّين (الأمير أحمد) بدون عقب، في سنة 1697، فضّل أعيان القيسِيِّين أميرًا شِهابيًّا سُنِّيًّا من خارج جبل لبنان، هو بشير الشِّهابِيّ، على أمير درزي يمنِيّ من الجبل. وحِين حاول أُمراء آل علم الدين اليمنيِّين استعادة الإمارة الدُّرزيَّة بمساعدة محمود باشا أبو هرموش، قضَى عليهم الأمير حيدر الشِّهابي بمُساعدة القيسيِّين في موقعة عَين داره سنة 1711، حيث انتهى بها الحزب اليمنِيّ، وفشلت محاولة الدُّروز استعادة الإمارة.
ثَبَّت الأمير حيدر الشِّهابي أقدامه، وغدا أميراً على الدُّروز في (جبل الدُّروز)، وخلَفَه أبناؤه وأحفاده، ومنهم الأمير بشير الثاني زمن الشيخ بشير، وخسر الدُّروز الإمارة، لكنَّهم حافظوا على إقطاعاتهم في جبل لبنان، وعلى السُّلطة المُتأتِّيَة منها. فكانت معظم أراضي الجبل بِيَد أُسَرهم المقاطعجيّة، ومنها أمراء آل أبو اللمع في المَتن الذين تنصَّرُوا تباعاً، والأمراء الأرسلانيُّون اليمنيُّون في الغرب الأسفل، الذين التزَمُوا الحياد، والذين تراجَع شأنهم ودَورهم. أمَّا الأُسَر المقاطعجيّة الأُخرى التي برزَت بِصفة المشايخ الكبار، فهي آل جنبلاط في الشُّوفَين، وآل العماد في العرقوب، وآل نكد في المناصِف والشَّحَّار، وآل تلحوق في الغرب الأعلى، وآل عبد الملك في الجرد.

كان من المُمكن للأُسَر الدُّرزيَّة المقاطعجيَّة أنْ تعوِّض عن فقدان الإمارة باتِّحادها، إلاَّ أنَّ المصالح السِّياسيَّة والاقتصاديَّة كانت تُباعد بينها، إذْ قَلَّما اتَّحدَت كلُّها حول شأنٍ واحد، إذا استثنينا الخطر المباشر المشترك الذي يتهدَّدُها جميعها. فلقد تفسَّخَت الوَحدة القَيسيَّة، بعد زوال الغرضِيَّة اليمنيَّة، إلى غرضِيَّات انشغل الدُّروز في صراعاتها، وشغلوا أحيانا مُساكنِيهم بها، فكانت تعويضًا تافهًا عمَّا فقدُوه من نُفوذ.
إنَّ الغرضِيَّات الرئِيسة التي خلفَت الغرضيَّتَين (القيسيَّة، واليمنيَّة) ثلاث: اثنتان منها هما الغرَضِيَّتان (الجنبلاطيَّة، واليَزبكِيَّة) اللَّتان تعُود جُذورهما إلى نزاع الشيخ جنبلاط، والشيخ يَزْبك بن عبد العفيف العماد، اللَّذين عاشا في زمن الأمير فخر الدين. وإنَّ شُيوخ آل جنبلاط هم زعماء الغرَضِيَّة الجنبلاطيَّة، وشُيوخ آل العماد هم زُعماء الغرضِيَّة اليزْبَكيَّة، وقد انضمَّ إليهم آل تلحوق وآل عبد الملك لإيجاد نَوع من التَّوازن مع الغرضِيَّة الجنبلاطيَّة القويّة. أمَّا الغرضيَّة الثالثة فهي الغرضيَّة النَّكدِيَّة، وزُعماؤها المشايخ النَّكَدِيُّون. وكان الصِّراع على النُّفوذ بين مشايخ هذه الغرضِيَّات الثلاث يَتلاقَى غالبًا مع صِراع الأُمراء الشِّهابيِّين على الإمارة، فيُناصر فريق منهم أميرًا ضِدَّ أمير، فيما يَتوَسَّل الأمراء الشِّهابيُّون هؤلاء المشايخ لإزاحة خصومهم، ولتسلُّم الإمارة، ويعمد الأمير الحاكم منهم إلى سياسة “فرِّق تسُد” إِزاء المشايخ المقاطعجيِّين الدُّروز، من أجل إنفاذ قراراته، والثَّبات في مَرْكزه، وهذا ما أضعَف هؤلاء المشايخ وشتَّت قراراتهم.
كان القرار الدرزي في الجبل بيد مشايخ الأسر الخمس المذكورة، لكن آل تلحوق وآل عبد الملك كانوا أضعفهم تأثيراً فيه، لأنهم في المرتبتين: الرّابعة والخامسة، ولأن منطقتي نفوذهم هما خارج جبل الشوف، وبعيدتان عن مركز الإمارة (دير القمر)، فيما كان التأثير القوي في القرار الدرزي هو لمشايخ آل جنبلاط وآل العماد وآل نكد، الذين أمسكوا فعلياً به، لأنهم الأقوى من ناحية، ولأنهم من ناحية أخرى موجودون في جبل الشوف الذي غدا مركز الإمارة بعد انتقالها إلى المعنيين، والذي، نظراً لأهمّيته، توسَّع مدلوله فأصبح يشمل، إضافة إلى الشوف الحيطي والشوف السّويجاني واقليم الخروب والمناصف والعرقوب، الجرد والغرب والشحّار والمتن.
بعد أن لمَس الشّيخ بشير فوائد مَرْكزَة القرار الجنبلاطي بِيَده، عمد إلى الإمساك بالقرار الدُّرزي من خلال وسيلتَين، أُولاهما: تقوية حزبه، أي السميّة الجنبلاطيّة، بزيادة المُلكيَّة العَقاريَّة، ومُراكمة ثرَواتها، لأنَّها مصْدر السُّلطة. وثانيتهما: إضعاف المشايخ النَّكَدِيِّين الذين هم أشدُّ مُنافسِيه على النُّفوذ. وهذا ما جعله يلتقي مع آل عماد، ويشترك وإيَّاهم في المؤَامرة الَّتي دبَّرَها الأمير بشير للفتْك بالنَّكديِّين. وقد تمَّ تنفيذ المُؤَامرة في اجتماع بِدَير القمر بتاريخ 23 شباط 1797، دعا إليه الأميرُ بشيرٌ الشيخَ بشير، ومشايخَ آل العماد، والنَّكديِّين، للتَّفاوُض معهم حول بعض الشُّؤُون، ولإجراء الصُّلح مع النَّكديِّين حول خلاف سابق. ولم يكن الأمير بشير بحاجة إلى حجَّة للفتك بالنَّكديِّين، إذْ كانت جاهزة عنده، وأظهرها في بداية الاجتماع بتوجِيه اتِّهاماته إليهم، وأردف قائلاً لسائر المشايخ الحاضرين: “دُونكم هؤلاء…”. عندها بدأ الفتك بهم، وقُتِل من الحاضرين أبناء كليب النكدي الخمسة، وجرَى تعقُّب الغائبين، وقَتل من ظُفِرَ بهم، وجرَت مُصادرة مُمتلكاتهم، أو شراؤها بأسعار بخسة10.
يُمكن إيجاز أسباب الأمير بشير للقيام بمُؤَامرته على النَّكديِّين بحقده عليهم، لأنهم ساهموا في عزله مرَّتين، وبرغبته في التخلُّص من عصبيتهم المشاكِسة القويَّة، ومن هيمنتهم على العاصمة (دَير القمر)، واستِئْثارهم بمعظم عائدات مغالقها، وأسواقها، وصناعاتها، وتمتُّعهم بامتيازات أخرى فيها، تتمثَّل في منع ملاحقة أيِّ مطلوب في حماهم، بِمَن في ذلك من يذنب أمام السَّرَاي ويَعبُر مجرَى (نبع الشَّالوط) إلى حيِّهم. يُضاف إلى ذلك ما يمتلكونه من أراضٍ في خراج دَير القمر، وسائر بلدات وقرى المناصِف المحيطة بها.
ويمكن إيجاز أسباب العماديِّين برغبتهم في حماية إقطاعهم في العرقوب من تمدُّد نفوذ النَّكديِّين إليه، إذِ امتلك هؤلاء منه بعض المزارع على طريق دَير القمر- الباروك، وأكثر خطّار النكدي من إعتداءاته على مزارعهم في كفرنبرخ.
أمَّا الأسباب العائدة للشيخ بشير للاشتراك في ضرب النَّكديِّين، فهي تنحصر في اثنين. أَوَّلهما: دخول الشيخ بشير النَّكدِي قبْله إلى اجتماع في دَير القمر، فيما الأفضليَّة بموجب الأعراف والتقاليد للشيخ بشير جنبلاط ، كَونه أهمَّ المشايخ وله الحقُّ في التَّقدُّم عليهم. وهذا السَّبب ضعيف في رأينا، لأنَّ الشيخ بشير- وهو الأصغر سنًّا بين المشايخ- دعاه إلى الدُّخول بقوله: “ادخُل يا عمَّاه”، كَوْنه الأكبر سنًّا بين المَوجودِين. وثانيهما: -وهو السَّبب الرئيس- رغبة الشيخ بشير جنبلاط في تحجيم النَّكديِّين وكسْر شَوكتهم من أجل التَّوصُّل إلى الإمساك بالقرار الدُّرزي. وطالما ظلُّوا أقوِياء سيحُولُون بينه وبين ذلك. وهو لم يكن يطمَع بأملاكهم، بل كان يطمع بأخذ نفوذهم. فهو لم يأخذ من أملاكهم إلاَّ القليل جدًّا، وما أخذه أخوه حسن أخذه بالشِّراء، فيما كان النَّصيب الأكبر من أملاك النَّكديِّين وامتيازاتهم من نصيب الأمير بشير الذي كان الرَّابح الأوّل، والَّذي وزَّع بعض ما كسَبه على أقربائه.
إنَّ اشتراك الشّيخ بشير في الفتك بالنَّكديِّين كان سيفًا ذا حدَّين، إذْ وفَّر له ثمانِيَ وعشرين سنةً من الهيْمنة على القرار الدُّرزي، وما في ذلك من نفوذ ومنافع. لكنَّه بالمُقابِل كان أحدَ عَوامل نهايته عند دخوله في الصِّراع مع الأمير بشير، ذلك أنَّ الأخير ترَك عن قصدٍ بعض ذكور فرع كليب الذي فُتك به، حتَّى يكونوا أعداء أكيدِين للشّيخ بشير، جاهزِين عند الطَّلب للعمل ضدَّه، لأنَّه، ومِن منطلق خبث سياسته، عاد وحضَن هؤلاء الذُّكور، فإذا بهم بدلاً من أنْ يقتصُّوا منه، كَونه رأس المؤامرة عليهم، وقفُوا معه نكايةً بالشيخ بشير وانتقامًا منه كما سنرى. وحين خطَّطُوا في سنة 1831 للانتقام من الأمير بشير لم يكن لهم أيُّ أمل في النَّجاح، وظلَّ ذلك مُؤَامرة خفيَّة.
أزاح الشيخ بشير، بتغيِيب النَّكديِّين عن المَسرح السِّياسي، الحلقة الدُّرزيَّة الأقوَى من المنافسين له، ولم يَبقَ إلاَّ الحلَقات الدُّرزيَّة الأضعَف، المُمثَّلة بسائر المشايخ الكبار. وبعض هؤلاء تحالَفوا معه، وبعضهم الآخَر أضعَفَه الأمير بشير الذي كان يعمل على مركزة القرار. وتَبعًا لذلك ساد الشيخ بشير في المقاطعات التَّابعة له، وامتدَّ نُفوذه إلى خارجها، وامتدَّ صِيته إلى خارج جبل لبنان. وغدا الزَّعيم الدُّرزيُّ الأقوَى بين زُعماء جميع المناطق المأهُولة بالموحِّدين الدُّروز، تُسمع كلمته، ويُؤخذ برأيه، ويُعوَّل عليه، ويُستنجد به. وهذا الصُّعود السِّياسِي، والنُّفوذ المُتنامِي، سمح له بالتَّدخُّل في شؤون الإمارة السِّياسيَّة، وفي الشُّؤون الاجتماعيَّة.

خلوة الموحدين الدروز في قصر بيت الدين كانت مؤشرا على النفوذ الكبير للشيخ بشير في بلاط الأمير بشير الشهابي
خلوة الموحدين الدروز في قصر بيت الدين كانت مؤشرا على النفوذ الكبير للشيخ بشير في بلاط الأمير بشير الشهابي

الاشتراك في القضاء على جرجس وعبد
الأحد باز
كما تلاقَت مصالح الأمير بشير، والشيخ بشير، وآل العماد، في ضرب النَّكديِّين، هكذا تلاقت مصالحهم ومصالح آل تلحوق، وآل عبد الملك في تصفية الأخوَين جرجس، وعبد الأحد باز، في 15 أيَّار 1807، ذلك أنَّ جرجس باز مدبِّر أبناء الأمير يوسف الشِّهابي، ومهندِس اتِّفاقهم مع الأمير بشير على أن يحكموا بلاد جبيل بالاستقلال عنه، تعاظَمَ أمره، وأخذ دَور النَّكديِّين في دَيْر القمر التي هو أحد ابنائها المَوَارِنة. فتَضرَّر منه جميع مَن وَرد ذِكرهم أعلاه، خصوصًا الأمير بشير، وأخوه الأمير حسن، إذْ بدا منافسًا للأمير بشير على النُّفوذ. وإذا كانت لِكلٍّ منهم أسبابه في ضرب جرجس باز، فإنَّ السَّبب المهمَّ عند الشيخ بشير هو تحدِّي جرجس باز له، على أثر حادثة الدِّبِّيّة والجاهليّة.
أطلق جرجس باز ستّة من نصارى بلدة الدِّبِّيّة دون سؤال الأمير بشير، الذي سبق له أن سجنهم بناءً على طلب الشيخ بشير، لأنَّهم ضربوا أُناسًا من بلدة الجاهليّة، ثم أبلغ الأمير بذلك بحضور الشيخ بشير. وحِين تعرَّض له الشيخ بشير قائلاً: “إنَّه إلى الآن ما جرَى عادة أنّ نصرانيّ الدّبّيّة يمدّ يده إلى دُرزي الجاهليّة”، تحدَّاه جرجس باز بالكلام، وممَّا قاله له: “بينِي وبينَك سهل البقاع، والسالم لسعادة الأمير، أو إني بِجْعَل شيخ عقلك يبُوس إِيد خُورِيي”، وخرج غاضبًا، وكلٌّ في قلبه حزازة ضدَّ الآخَر. ثم كتَب جرجس باز إلى أخيه عبد الأحد في جبيل، وإلى آل الخازن يخبرهم بالحادث، فأجابوه أنَّهم مستعِدُّون لمُناصرته في أيِّ وقت11.
إنَّ الفتك بجرجس باز، وأخيه، وسائر وجوه الفتك والتَّصْفيات الجسديَّة، التي جرَت آنذاك بالأشخاص والأُسَر، هي أساليب مكيافيليّة منافيَة للاعتبارات الإنسانيَّة، لكنَّها مبرَّرَة في عالم السِّياسة بضَرُورات الدِّفاع عن النَّفس، وبتحقيق الطُّموحات والمصالح، وقد اعتمدها الملوك، والخلفاء، والسَّلاطِين، والحُكَّام، والأُمراء، والشُّيوخ، والأعيان. وأكْثَرَ منها الأمراء الشِّهابيُّون، واعتمدوها ضدَّ بعضهم البعض وضدَّ الآخَرين. ومن وُجوه ذلك تصْفِيَة الأمير يوسف الشِّهابي لأخيه أفندي، وخالَيْه بشير، واسماعيل 12. كما من وجوهه ما اعتمده الأمير بشير ضدَّ خصومه، ومنهم الشّيخ بشير نفسه كما سنَرَى.

الأعمال العُمْرانيَّة
كان الشّيخ بشير يأتي في المرتبة الأُولَى بين المقاطعجيِّين بتملُّك الأرض والثَّرْوة، وقد امتلَك في أوْج مجدِه ثُلث أراضي الجبل حسبما جاء في رسالة القنصل الفرنسي في صَيْدا (الكسيس تايبو) في رسالته بتاريخ 18 أيلول 1814 13. وكانت الأموال الطَّائلة تتجمَّع لدَيْه من غلال الأراضي، ومن الضَّرائب المفروضة على الفلاَّحين، فيُسدِّد الأموال الأميرية المطلوبة منه للدَّولة، ويعتمد على الفائض المُتبقِّي لدَيْه في كسْب رضَى الوُلاة العُثمانيِّين، وفي تَوليَة الأمير الشِّهابيّ أو تثبيته في الإمارة، وفي مسائل البِرِّ والإحسان التي أنفَق في مجالها بسنةٍ واحدة 650 ألف غرش على الفقراء جميعا 14. كما أنفَق قدْرًا كبيرًا من الأموال في أعمال البِناء والعِمران.
أحدَثَ الشيخ بشير في قصر المختارة بعض الأجنحة، والإضافات، والنَّوَاحي التَّجميليَّة، وأنجَز بعض الأعمال العِمرانيَّة في قرية المختارة وسِواها، وهي ما يلي:
• التبرع بالمال لبناء ضريح لشيخ العقل حسين ماضي في العبادية سنة 1802.
• تجديد ميدان ملعب الخَيْل أمام قصر المختارة سنة 1806.
• عقْد بناية بوَّابة الدَّار الفَوقانيَّة في قصر المختارة سنة 1807.
• تجديد عَين المختارة، وإنشاء بناءٍ عليها سنة 1807.
• إنشاء مسجد (مجلس) للدُّروز في المختارة سنة 1808.
• جرُّ المِياه إلى قصر المختارة بقناة من نهر البارُوك
سنة 1808.
• إنشاء تربة (ضريح) سنة 1808.
• بناء جِسر على نهر بحنِّين سنة 1809.
• إنشاء مقعد في الدَّار التَّحتاتيَّة بقصر المختارة، مكشوف من جهاته الأربع، وهو على عمود في الوسط، مثمَّن، ودايرُهُ حَوض يستلقِي الماء من ثمانية أنابيب، سنة وذلك سنة 1809.
• إكمال بناء القاعة في الدَّار الفَوْقانيَّة سنة 1810.
• إشادَة إِيوان بِقُبَّة مزخرفة مقابلة للقاعة سنة 1812.
• إنشاء جامع بالقُرب من قصر المختارة، شبِيه بجامع الجزَّار في عكَّا، سنة 1812.
• بناء سبيل في بلدة مرستي سنة 1812.
• بناء دار لولَدَيه (قاسم، وسليم) في المختارة سنة 1813.
• تجديد بناء جسر سنة 1813.
• إنشاء مقصف على جانب القاعة بقصر المختارة للاستراحة الصَّيفِيَّة.
• المساعدة في تجديد بناء دَيْر مشموشة.
• المساعدة في بناء كنيسةٍ في المختارة على أرضٍ قدَّمَها لمَسِيحِيِّي البلدة.
تجدر الإشارة إلى أنَّ جرَّ الأمير بشير مياهَ نبع الصَّفَا بقناة إلى القصر الذي شادَهُ في بيت الدِّين، سنة 1814، جاء تشبُّهًا بالشّيخ بشير الذي سبقَهُ إلى ذلك بستِّ سنوَات حين جرَّ المياه من نهر الباروك إلى قصره في المختارة. كما تجدر الإشارة إلى أنَّ الإنجازات العِمرانيَّة للشّيخ بشير مؤرَّخة بقصائد، أو أبيات للشَّاعر نقولا التّرك، ومُدرَجة في ديوانه 15. وهي بحسب تواريخها حصلَت بين سنتَي 1806 و 1813، أي في سبع سنوات هي المرحلة الذَّهبيَّة من زمَنِه.

نجدة دُروز الجبل الأعلى
بعد قيام الحركة الوهَّابيَّة في الجزيرة العربيَّة، امتدَّ تأثيرها إلى بلاد الشَّام، ووصلَت طلائع قوَّاتها، في تمُّوز 1810، إلى سهل حَوران، وتجاوزَتْه إلى جبل حَوران فبلغَت بلدة عرى. وبعد أن أَوْقَف والي دمشق زَحْف رجال هذه الحركة، عمل إلى الحدِّ من امتدادها الفِكريّ، باعتماد أسلُوب عقائدي هو إِحياء المَظاهر السَّلَفِيَّة المتشدِّدة مع المسيحيِّين، ومع أتباع المذاهب الإسلامية غير السُّنِّيّة، وكان من نتائج ذلك على دُروز الجبل الأعلى، الواقِع إلى الغَرب من حلَب، تعرُّضُهم للضُّغوطات والمُضايَقات من قِبَل جيرانهم السُّنَّة، ومحاولة هؤلاء القضاء عليهم.
كان الشّيخ بشير، آنذاك، أقوَى شخصيَّة دُرزيَّة في بلاد الشَّام كلِّها، فاستغاث به دُروز الجبل الأعلى، وطلبُوا مساعدته العاجلة، فعرَض الأمر على الأمير بشير، فكتَب إلى صديقَيْه: سعيد آغا حاكم أريحا، وطبّل آغا حاكم جسر الشُّغور، لتسهيل مهمّة بعثة أرسلها والشّيخ بشير، قوامها ثمانون رجلاً، وفي مقدَّمها حسُّون وَرْد، وبشير حسن أبو شقرا، وفارس الشِّدياق. وقد تمكَّنَت هذه البعثة من الإتيان بأربعمائة عائلة عن طريق البقاع، فوصلُوا أوَّلاً إلى زحلة، ومنها توزَّعُوا في قرى المتن، والغَرب، والشّوف وحاصبيَّا، وراشيَّا ومدينة بيروت، وعُرِف المُتحدِّرُون منهم باسم الحلبي، نسبة إلى جهات حلَب التي جاؤوا منها16 . وقد خلَّد الشَّاعر نقولا التّرك مأثرة البشيرَيْن، وهذا بعض ما قاله:
مــــــــــن الأعـــــلــــــــــى تــــــــــَرجَّــــــــــتْ فيــــــــــه قــــــــــَومٌ أَراهــــــــــــمْ حــــــــــــادِثُ الأيــــــــــَّامِ فَــــــــــجْـــعــــــــــا
فنـــــــــادَوْا يــــــــــا شِهابَ العَصــــــــــرِ أَشْرِقْ علينــــــــــا وَاقْمَــــــــــعِ الأَخْصَــــــــــامَ قَمْعــــــــــا
فــــــــــَلاَ الشَّـــهْــــبــــــــــاءُ عــــــــــادَتْ مُــــــــــرْتَجــــــــــانــــــــــا وَلاَ الأَعْلَــــــــــى لَنــــــــــا سَكَنًا ومَرْعَى
وجَــــــــــاؤُوا بِــــــــــهِم مِنَ الأَعْلــَى وأَوْلــــــــــَوْا قُــــــــــلــــــــــوبَ الضِّــــــــــدِّ إِنْكــــــــــاءً ولَكْــــــــــعَــــــــــا
تَـــــــــــــــلــــــــــقَّــــــــــاهــــــــــُمْ بَــــــــــشِيــــــــــرُ الْــــــــــعِــــــــــزِّ شَــــــــــيــــــــــْخٌ سَما بَــــــــــيْنَ الشُّيوخِ عُــــــــــلاً ورِفْعَــــــــــا
وأَكْـــمَــــــــــلَ كُـــــــــــــــــلَّمــــــــــا يَــــــــــقْضِــــــــــي اعْــــــــــتَنــــــــــاهُ لِــــــــــرَاحتِهِــــــــــم وَأَحْكَمَ فيـــهِ وَضْعَــــــــــا
فــــــــــَأَمــــــــــْســــــــــَوْا آمِنِــــــــــــــــــــين علَــــــــــى صَـــــــفــــــــــاءٍ بــــــــهِ رَدَعُوا خُطوبَ الدَّهــْرِ رَدْعَــــا71
إنَّ تطلُّع دُروز الجبل الأعلى إلى الشيخ بشير جنبلاط دليلٌ على تجاوُز صِيتِه وشهرته حدود المقاطعات اللبنانيّة إلى سائر المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدُّروز) في بلاد الشَّام. وإتيانه بِدُروز الجبل الأعلى مع ما جاء عند المُؤَرِّخ إبراهيم العورة عن محاولته ضمّ إقليم البلاَّن إلى جبل الدُّروز 18 (جبل لبنان الجنوبي)، أوحى للأستاذ عارف أبو شقرا، محقِّق كتاب “الحركات في لبنان”، أنْ يقول: إنَّ الشَّيخ بشير أراد تكتيل دُروز بلاد الشَّام وجمْعهم في منطقة واحدة “تمتدُّ من البحر إلى جبل حَوران، يكون هو المهيمن عليها، ويكون معظم سكَّانها جنودًا له” 19. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ محاولة الشيخ بشير ضمَّ إقليم البلاَّن لم ترِدْ إلاَّ عند المؤرِّخَين إبراهيم العورة ويوسف خطّار أبو شقرا.

مع البابا بيوس السَّابع
كان سكَن الرُّهبان والرَّاهبات في المقاطعات اللُّبنانيَّة، في دَيرٍ واحد، أمرًا مقبولاً من بعض رجال الدِّين المَوَارنة، ومن بعض مقاطعجيِّيهم كآل الخازن مثلاً، على اعتبار أنَّ الرَّاهبات يساعِدْن في العمل بِحقول الدَّيْر، ويقُمن بخدمة الرُّهبان. وبالمقابل، كان هذا السَّكَن مرفوضًا من البطاركة، ومن بعض المطارنة، لِمعاكسته القوانين الكنسيَّة، ولِما يثير من التَّساؤلات والشُّكُوك، ولِما ينتج عنه من المزالق، لكنَّهم عجزوا عن حلِّ هذه المشكلة التي سبَّبَت أزمةً بلغَت مسامع البابوِيَّة في رُوما.
تدخَّل البابا لحسْم هذا الموضوع الذي يتناقَض مع القوانين المقدَّسة، فكَتَب إلى بطريرك الطَّائفة المارونِيَّة ومَطارنتها، يدعوهم إلى عقْد مَجْمع دِينيّ يلغي العيش المشترك في الأدْيِرة، ويحدِّد أدْيِرَة خاصّة لكلٍّ من الرُّهبان والرَّاهبات، ويحدِّد مكانًا دائمًا لإقامة كلٍّ من البطريرك والأساقِفَة، وينهي النِّزاعات حول الأوقاف. وحِين تأخَّر عقْد هذا المَجْمَع الدِّيني كتَب البابا إلى الشَّيخ بشير جنبلاط رسالةً في 15 شباط 1817 يقول فيها:
“شمِلنا فرَح كبير إذْ بلغَ سمْعنا لأوَّل مرَّة من جملة المزايا الرَّفِيعة التي تتحلَّى بها نفسكم، وعطفكم الخاصّ على الكاثوليك المَوَارنة.. نطلب منكم -والنفس واثقة- أنْ تسهرُوا بحمايتكم واهتمامكم على أولادنا الأعزَّاء، الكاثوليك المَوَارنَة، وتُتابعوا إعارة سُلْطتكم وخدماتكم، فتنفذ أحكامنا المذكورة العائدة بالخير على قوانين الطَّائفة الكنسيَّة. واعلموا أنَّكم بعملكم هذا تحقِّقون أمرًا عزيزًا علينا، وتساهمون في سبيل ازدهار الطَّائفة المارونيَّة الكريمة، وتوطيد السَّلام بين أبنائها”.
عقَدَ البطريرك الماروني والمطارِنة مَجْمع اللُّوَيزة في سنة 1818، وساهَم الشَّيخ بشير، والأمير بشير، في إنجاحه، وفي تحقيق طلب البابا. وأرسل الشَّيخ بشير رسالة إلى البابا بتاريخ 21 رجب سنة 1233هـ =27 أيّار 1818م. هذا بعض ما جاء فيها:
“وما تَقدَّم من فحوى الخطايا صار معلومنا، وحسب المرغوب بسطْنا أعراض الرَّجا لسعادة أفندينا الأمير بشير الأفخم -أطال الله بقاه-، فيما التمسْتُموه من لَدُنْهُ، ومن وُفُور غَيْرَته، ومزيد شهامته، أمَر بإتمام مطلوباتكم إلى حضرة مُحبِّنا البطرك ومُحبِّينا المطارين، وأقاموا مَجْمعهم وانتها [وانتهى] حسبما أمرتموهم به بمُوجب رسوم ديانتكم” 20.
إنَّ جدَّ الشَّيخ بشير جنبلاط (الشيخ علي) تلقَّى رسالة من قَداسة البابا كليمنت الثالث، تاريخها 11 أيلول 1765، يطلب منه أنْ يشمل بعنايته البطريرك الشَّرعي تايودوسيوس، ويمنع البطريرك الدَّخيل اغناطيوس من التَّجاسُر عليه، وبلبلة سلام وهدوء الكاثوليك المتَّحدين مع الكرسي الرَّسولي. وفي رسالته هذه، ورسالة حفيده الشَّيخ بشير، دليل على اهتمامهما بشؤون المسيحيِّين، وعلى رعايتهما لهم، كما فيهما وفي غيرهما من الرَّسائل المُرسَلة من البابَوات إلى سائر مقاطعجيِّي الدُّروز، دليل على أنَّ الموحِّدين (الدُّروز) الذين استقْدَموا المسيحيِّين إلى مناطقهم، أو استقبلوهم فيها، عاملوهم أفضل معاملة، وتسامَحوا معهم، ووهبوهم الأراضي، وساعَدوهم في بناء الأدْيِرَة والكنائس، وفي تنظيم شؤونهم، وسهَّلوا لهم سبل العمل، الأمر الذي أَرْسَى قواعد متينة من العيش المشترك، لم يُزعْزِعها فيما بعد إلاَّ التَّدخُّل الخارجي، ونشوء فكرة قيام الوَطن المسيحِي على حساب الدُّروز، عندما اختلَّ التَّوَازن الديمغرافي لمصلحة المسيحيين بِفضل تكاثُر أعدادهم، وتَنامِي ثرواتهم.

ثُنائيَّة البشِيرَيْن
أمسك الشَّيخ بشير قاسم جنبلاط بالقرار الدُّرزي، وأمسك الأمير بشير قاسم الشِّهابي بحُكم جبل لبنان ما عدا جبيل. ثمّ قويَ موقعه بعد الفتك في العام 1807 بجرجس وعبد الأحد باز، وهذا ما سمح له بانتزاع بلاد جبيل من أبناء الأمير يوسف الشهابي وضمّها إلى الإمارة. ومنذ ذلك التّاريخ شهد تاريخ جبل لبنان ثنائيَّة البشيرَيْن بالاسم، وبالفِعل، والتي يمكن أن نطلق عليها تعبير الحُكم المزدوِج.

ما كان الشَّيخ بشير يطمح إلى توَلِّي الإمارة، لأنَّه ليس أميراً، ولأنَّ مسألة إمارة الجبل حُسِمت في موقعة عَين داره لمصلحة الأسرة الشِّهابيَّة، حتَّى إنَّ المعارضِين للأمير الحاكم كانوا يسيرون في معارضتهم له تحت شعار أميرٍ شهابي أو أكثر، لإيصاله إلى الحُكم. وكان الأمير بشير يعْلم أنَّ الشَّيخ بشير لا ينافسه على منصبه، وإنَّما على النُّفوذ، كما يمكنه أن يُزَعزِع استقرار أوضاعه بتأييد المنافِسِين له من أبناء الأمير يوسف وسِوَاهم. لذا، ما كان بوسعِه إلاَّ أنْ يعطي الشَّيخ بشير المجال الحيَوِي لِدَوره، حتى أنّه كان يعامله معاملة الأمراء اللّمعيِّين والشِّهابيِّين، فيكتب له في نصف طبق، بينما يكتب في ربع طبق لغيره من المشايخ، باستثناء مشايخ آل حماده في بلاد جبيل، لأنَّهم قديمًا كانوا يتولَّون أمْرها، والشَّيخين ناصيف وحمُّود النَّكديَّيْن، “وهو لم يذكُر كنية إلاَّ للشَّيخ بشير جنبلاط لأنَّه كان على جانب عظيم في البلاد” 21. وكنية الشَّيخ بشير هي أبو علي.
وعلى هذا بُنِيَت ثُنائيَّة البشيرَين واستمرَّت، فكانت على الشَّكل التَّالي: سُلطة إداريَّة رسميَّة للأمير، وسُلطة مقاطعجيَّة فعليَّة للشَّيخ بشير، تُوَازي سُلطة الأمير، مع تفوُّق الأمير بامتلاك القَرار الرَّسمي، وتفوُّق الشَّيخ بالرِّجال والثَّروة، بحيث كان يمدُّ الأمير بالرِّجال في المَواقع، وبالأموال لتلبيَة طلبات الوُلاة العثمانيِّين.
كان الأمير بشير أكبر من الشَّيخ بشير بلقَبِه، وبمَوقِعه الذي يمكنه بواسطته انْ ينزع من الشَّيخ ما يشاء من مقاطعات. وقد وَرد الحديث عند المؤرِّخ إبراهيم العورة عن الشَّيخ بشير أنَّه كتخدا الأمير بشير22، أي وكيله وأمينه. وفي حين لُقِّب الأمير بشير بـ(الكبير) لأنَّه أهمُّ الأمراء الشِّهابيِّين، ولِلتَّميِيز بينه وبين الأميرَين: بشير الأوَّل، وبشير الثَّالث، لُقِّب الشَّيخ بشير بـ (عمود السماء). فإذا كان الأمير بشير عمود الإمارة، فإنَّ الشَّيخ بشير هو عمود ما هو أهمُّ من الإمارة، أي السماء.
وهناك مَقُولة تعبِّر عن شأنَي البشيرين وهي: “الصِّيت لأبُو سعدَى، والفِعل لأخُو عدلا”23. وأبو سعدَى هو الأمير بشير، وأخو عدلا هو الشيخ بشير. وكانت اللاَّيدِي استر استنهوب البريطانيَّة المُقِيمة في بلدة جون، تنظر إلى الشَّيخ بشير باحترام كلِّيّ، وقد حافظت على علاقاتها الجيِّدة معه، في حين أنَّ علاقتها بالأمير بشير بدَأَت تسوء منذ سنة 1818، ثم نقمت عليه عند قيام النِّزاع بينه وبين الشَّيخ بشير، وعند اتِّخاذه الإجراءات القاسِيَة ضِدَّه24.
يَصِف المؤرِّخ يوسف خطَّار أبو شقرا علاقة البشيرَين ببعضهما، وكيفيّةَ تصريفهما للشُّؤون، فيقول: إنَّ الأمير بشير حين يصله البريد من عكَّا، كان يُرسله إلى الشَّيخ أوَّلاً ليفضَّه ويطَّلع عليه، وبعد تحرير الأمير للأجوبة، كان يرسلها إلى الشَّيخ ليقف عليها “فينفِي منها ما يريد نفْيه، ويثبت ما يريد إثباته”. ولم يكن الأمير يعيِّن مأمورًا أو يعزل موظَّفًا “إلاَّ بأمر الشَّيخ”. كما أنَّ الرَّاغبين في الاستخدام كانوا يسألون الشَّيخ أوَّلاً قبْل الأمير، وكانوا لا يُكملون الطّريق إلى الأمير إذا لم يَرُقْ طلبهم للشَّيخ 25.
إنَّنا نرى أنّ كلام المؤرِّخ يوسف أبو شقرا ربّما ينطبق على الأمير عبّاس الشهابي الذي تسلّم الإمارة سنة 1822، ولا ينطبق على الأمير بشير، كما أنَّه لا ينطبق على جميع الشُّؤون وينطبق على السَّمِيّة الجنبلاطيّة فقط، إلاَّ أنَّ فيه دلالةً على مدَى تاثير الشَّيخ بشير في قرارات الأمير، وهذا أمرٌ ما كان متيسِّرًا إلاَّ قليلاً جدًّا قبْل الشَّيخ بشير، بين الأمير الشِّهابي ومقاطعجيِّي الجبل، الَّذين كانت تحُول تجاذباتهم وتضارب مصالحهم دون اتِّخاذ القَرار الموَحَّد. وإضافة إلى ما ذكَرَه المؤرِّخ يوسف أبو شقرا عن أهمِّيَّة الشيخ بشير، نرَى في ديوان شاعر الأمير بشير (نقولا التّرك) ما يدلُّ أيضًا على هذه الأهمِّيَّة، إذ فيه عشرات المدائح في الشَّيخ وفي تاريخ مناسباته.
تَعاوَن البشيران في تصريف الشُّؤون وتَسْوِيَة المشكلات، وإجراء التَّسوِيات، ونادرًا ما كان الأمير بشير يرفض طلبًا للشَّيخ، أو حلاًّ لمسألة يطْرحه. ومن وجوه ذلك إصلاح الشَّيخ الأمر بين الأمراء الشِّهابيِّين والأمراء الأرسلانيِّين، بعد خلاف نشبَ بينهم في مأتم الأمير موسى منصور الشِّهابي سنة 1807، وإصلاح الأمور بين الأمير بشير ومشايخ آل الخازن، وإعادة مقاطعة كسروان إليهم، وتَولِية الشَّيخ بشارة جفال عليها. وقد تعمَّقَت جرَّاء ذلك العلاقة بين آل الخازن وآل جنبلاط، ولا تزال مستمرَّة إلى اليوم، مع الإشارة إلى أنَّها تعُود إلى زمن الشَّيخ علي جنبلاط، حيث ساهم آل الخازن في دفْع مال السميّة لإجراء التَّسوِيَة مع الأمير حيدر الشِّهابي على ترِكَة الشَّيخ قبلان القاضي.
ساعَد الشَّيخ بشير الأميرَ بشير في تثبيت دعائم حُكمِه، وأنجدَهُ بالرِّجال للقَضاء على عاميّة لحفد، وخاض معه المَواقع الحربيَّة مع والٍ عثمانيٍّ ضدَّ آخَر، وتحمَّلا نتائج الهزيمة والخسارة، ومن ذلك سجنهما معاً في عكا سنة 1794م ومغادرتهما البلاد بعد عاميّة انطلياس وعزْل الأمير بشير عن الحُكم. كما نَعِما بمنافع الانتصار والرّبح. وقليلاً ما تَعارَض موقفهما، كوُقُوف الأمير بشير موقف المؤيِّد ضمناً للجنرال بونابرت عند بلوغ جيشه عكَّا سنة 1799، وغضِّه النّظر عن المساعدات المُرسَلة إليه، في حِين تخوَّف الشَّيخ بشير من تقدُّم الجيش الفرنسي إلى الجبل. لذا، كان أحد زُعماء الدُّروز المجتمعين في عبيه في مقام الأمير السَّيِّد، حيث تقرَّر التَّصدِّي للفرنسيِّين، وللأمير بشير.
بعد نحو ثلاثة عُقود من التَّحالُف والتَّعاوُن بين البشيرَين، حصلَت أحداث وتحوُّلات سياسيَّة كُبرى فرَّقَت بينهما، ووَجد الأمير بشير فيها فرصة سانحة للتَّخلُّص من مُشاركة الشَّيخ بشير له في القَرار. ناصَرَ الأمير بشير في سنتَي 1821 و1822 والي صيدا عبد الله باشا في قتاله لوالي دمشق درويش باشا، وجاراه الشَّيخ بشير بدايةً وقليلاً في ذلك، لكنَّه حين علِم أنَّ الدَّولة العثمانيَّة تؤيِّد درويش باشا، ضدَّ عبد الله باشا الذي خرج على إرادة السُّلطان محمود الثاني، نصح الأمير بشير بالوُقُوف مع الدَّولة. وقد أسْفَر هذا الصِّراع عن هزيمة عبد الله باشا وتراجُعِه عن دمشق، بعد قدوم مصطفى باشا والي حلَب، مرسَلاً من الدَّولة العثمانيَّة لنصرة درويش باشا. وكان من الطَّبيعي أنْ يتأثَّر وضْع الأمير بشير بذلك، فسعى الشَّيخ بشير لدَى درويش باشا، لإبقائه في الحُكم، لكنَّه رفَض ذلك مفضِّلاً بقاءه إلى جانب عبد الله باشا، وسافَر إلى مصر، وهناك صار مقرَّبًا من واليها محمّد علي باشا الذي كان يقرِّب إليه أمراء ومشايخ العشائر في بلاد الشَّام تمهيداً لأخذها من الدَّولة العثمانيّة.
كان الأميران حسن وسلمان الشِّهابيَّان مرشَّحَي الحزب اليزبكي لتسلُّم إمارة الجبل مكان الأمير بشير، فحال الشَّيخ بشير دون وصولهما، وعمل لدى درويش باشا على تولية الأمير عبَّاس الشِّهابي، فكان له ذلك في آب 1822، وبما أنَّ الفضل في تولية هذا الأمير هو للشّيخ بشير صار الأمير مُسَيّراً كلياً بإرادته بدليل ما صَّرح به لميخائيل الدّمشقي عند مراجعته له في مسألة ماليَّة، إذ قال له: “إنَّك لحدِّ الآن ما عرفْت بأنِّي أمير على طاولة الطَّعام فقط، وأنَّ كلَّ شيء بيد الشَّيخ بشير26”. وبناءً على ذلك يمكن القول إن الشَّيخ بشير صار الحاكم في الجبل بعد عزْل الأمير بشير.

قلعة عكا من الداخل حيث أعدم الشيخ بشير جنبلاط
قلعة عكا من الداخل حيث أعدم الشيخ بشير جنبلاط

صِراع البَشِيرَيْن
قال الأمير يوسف الشِّهابي لشيخ العقل يوسف أبو شقرا أثناء مناظرتهما الحادَّة حول ضريبة الشَّاشيَّة التي فرضها الأمير: “البلاد لا تتَّسع ليُوسفَين”، فأجابه الشَّيخ يوسف: “المزروك يرحل”. أي المتضايق يرحل. وهذا الأمر نفسه ينطبق على البشيرَين، وخصوصًا على الأمير بشير الذي كان متضايقًا من تعاظُم قوَّة الشّيخ بشير، ويترقَّب الفرصة السَّانحة ليتخلَّص من ازدواجيَّة الحُكم معه، والتي قبِل بها مُكرهًا ليؤمِّن استمراريَّته فيه. إذ بقدر ما كان دعْم الشيخ بشير له ضروريًّا ليثبت في الإمارة، بات عبئًا ثقيلاً عليه يرغب في إزاحته عن كاهله، والتَّحرُّر من قيوده. لذا رفض تولية درويش باشا له، لأنَّها جاءت بوساطة من الشيخ بشير.
وفي حين بدا للشَّيخ بشير انّ هيمنته على الإمارة الشِّهابيَّة ستستمرُّ بوجود الأمير عبَّاس، وأنَّ الأمير بشير ابتعد نهائيًّا عنها، حصل ما لم يكن في الحسبان، وما لم يكن متوقَّعًا حسب تطوُّر الأمور والوقائع، إذ إنَّ تدخُّل محمّد علي مع الدَّولة العثمانيَّة قلَب المَوَازين، وأعاد عبد الله باشا واليًا على صيدا، والأمير بشير أميرًا على الجبل. كما أنَّ عجز درويش باشا عن احتلال عكَّا لِدفاع عبد الله باشا القويّ عنها، آلَ إلى عزْل الدّولة العثمانيَّة له، وتعيين مصطفى باشا والياً على دمشق مكانه.
بعد وصول الأمير بشير إلى عكَّا أواخر سنة 1822، آتياً إليها من القاهرة، ومزوَّدًا بنصائح محمّد علي بضرب أخصامه من المقاطعجيِّين، أرسل إلى أعيان الجبل ينبِّئهم بقدومه، وإلى الشيخ بشير يطلب منه 750 ألف غرش كمساهمة في تأدية المبلغ المقرَّر لقاء العفو عنه، وإعادته إلى الإمارة. فقَبِل الشيخ بشير بذلك، وقدَّم مبلغاً آخَر لعبد الله باشا إرضاءً لخاطره.
انتقل الأمير بشير سنة 1823 من عكَّا إلى صَيدا، فوجد أعيان البلاد في استقباله وبينهم الشّيخ بشير الذي حضر في وفد كبير. فسار الأمير بشير بالموكب الضّخم نحو بيت الدِّين، ولدى الوصول إلى مرج بعقلين نادى الشّيخ بشير قائلاً: “يا شيخ بشير، درب بيتك من هون”27، وهذا يعني في الجغرافيا ألاَّ يكمّل الشّيخ طريقه إلى بيت الدِّين، بل يسلك طريق الصّليّب التي توصله إلى المختارة، ويعني في السِّياسة افتراقًا بينهما، وبداية للصِّراع السِّياسي الذي سينتهي صداماً عسكريًّا.
أظهرت الوقائع والتَّطوُّرات، ولا سيَّما الاجتماعات التي عقَدَها الأمير بشير مع عبد الله باشا، وجود مؤامرة ثلاثيَّة مدبَّرة ضدَّ الشّيخ بشير، عناصرها محمّد علي باشا، وعبد الله باشا، والأمير بشير، وأداتها التَّنفيذيَّة المباشرة هي عبد الله باشا، والأمير بشير، اللَّذان تناوَبا على ابتزاز الشّيخ بشير ماليًّا لإضعافه اقتصاديًّا وسياسيًّا، تمهيداً للقضاء عليه. وقد وعى الشّيخ بشير خلفيَّات ذلك وأهدافه ومخاطره، فعمد إلى إرضاء عبد الله باشا والأمير بشير بالممكن تقديمه لهما من الأموال، لكنَّه لم يتمكَّن من وقْف طلباتهما المتكرِّرة، وإشباع نهمهما إلى المال.
ابتعد الشيخ بشير عن الشُّوف، وأقام في راشيَّا. لكن عبد الله باشا قبل بعودته مقابل دفع أربعمائة كيس، فعاد إلى المختارة وذهب إلى بيت الدِّين لمقابلة الأمير بشير وبرفقته ألْفا رجلٍ من قبيل إظهار القوَّة. استقبله الأمير بحفاوة وخلع عليه، لكنَّه بعد ذلك أرسل من يبلِّغه استياءه من كبر الحشد الذي رافقه إلى بيت الدِّين، فعاد الشّيخ إلى مقابلة الأمير مع وفد صغير، لكنّ هذا لم يغيِّر شيئًا في مجريات الأمور، وفي سير الأمير في مخطَّطه، إذ توالت طلباته الماليَّة ومضايقاته للشّيخ بشير ولأنصاره، الأمر الذي اضطرَّ الشيخ إلى الابتعاد مرَّة ثانية عن البلاد، واللُّجوء إلى حوران، ثم العودة منها إلى عكَّار قاصدًا توسيط والي طرابلس سليمان باشا. وقبْل أن يصل فوجِئ بخبر وفاته، وبهذا فقَد أيّ أمل في تسويَة الموضوع بالسِّياسة وبالتَّوسُّط، وفي تأجيل الصِّدام العسكري مع الأمير بشير، وهو صراع أخطأ في تأخيره وفي المراهنة على الوقت وحصول المستجدّات، لأنَّ معطيات واحتمالات فَوزه فيه كانت في سنة 1823، وبعدها بقليل، أكثر منها في أواخر سنة 1824، ومطلع سنة 1825.
كان من أنصار الأمير بشير آل نكد، وآل تلحوق، وآل عبد الملك، وآل أبو اللمع، وآل الدحداح، وآل حبيش ومعظم الشِّهابيِّين وآل الخازن، وآل حماده، وآل عبد الصَّمد، ومعظم مسيحيِّي دَير القمر. وكان من أنصار الشّيخ بشير فريق كبير من الدُّروز، يضمُّ إضافة إلى الجنبلاطيِّين، آل العماد، وآل أرسلان. وكان معه بعض آل الخازن، وبعض الأمراء الشِّهابيِّين وهم: الأخَوان سلمان وفارس، وحسن أسعد، وعبَّاس الطَّامح إلى تسلُّم الإمارة، كما من أنصار الشّيخ بشير أيضًا الفلاَّحون النَّصَارى العاملون في أراضيه.
كانت الاستعدادات تجري للمعركة الحربيَّة بين البشيرَين، وكان أنصار الأمير يحتشدون في بيت الدِّين، وأنصار الشَّيخ بشير يحتشدون في المختارة. وقَبْل أنْ يأتي الشَّيخ بشير من عكَّار هاجم أنصاره قصر بيت الدِّين، لكنَّهم عجزوا عن احتلاله، لأنَّهم وسائر مقاتلي الجبل آنذاك لا يحسنون تسلُّق الأسوار كما قال القنصل الفرنسي هنري غيز الذي عاصر ذلك28.
وبعد أن ربح الأمير بشير المعركة سياسيًّا بوقوف الوُلاة العثمانيِّين معه، بدأ يربحها عسكريًّا بصدِّ رجاله الهجومَ على قصْره، ثم بِقدوم النَّكديِّين من دَيْر القمر وثنْيه عن الرَّحيل الذي عزَم عليه، وذلك بتقطيعهم حبال الأحمال المحمَّلة على الجِمال، وبِمُداوَمتهم على حراسة قَصْره، إذ إنهم وجَدوا في ما يجري فرصة سانحة للانتقام من الشّيخ بشير الذي ساهم في نكبتهم سنة 1797.
لا مجال هنا للتَّوَسُّع في الحديث عن المَواقع التي دارَت بين البشيرَين، وإنَّما يُمكن القَول إنَّه بعد هجوم رجال الشَّيخ بشير على بيت الدِّين تتالَت مَواقعهم الدِّفاعيَّة في خطٍّ تراجعيّ، وهي السِّمقانيَّة، سهل بقْعاتا وظهور الجدَيْدة، الجدَيْدة، المختارة، إضافة إلى كبسة بعقلين الفاشلة التي قام بها رجال الشَّيخ بشير ضدَّ أنصار الأمير في البلدة. كما يمكن القَول إنَّه كان للنَّجدة العسكريَّة المُرسلة من عبد الله باشا إلى الأمير بشير الدَّور الكبير الفعَّال في تخلِّي بعض أنصار الشَّيخ بشير عنه، وفي هزيمته.
تناوَل العديد من المؤرِّخين صِراع البشيرَيْن، والمواقع التي دارت بينهما29. وإذا كان لنا من رأيٍ خاصّ نُبدِيه، فهو تشبيه هذا الصِّراع بفُصولِه، وعناصِره، ونتائجه، بموقعة عَيْن داره في النواحي التَّاليَة:
1. كان المتقاتلون في عين داره دروزاً مما جعل القتال فيها درزياً درزياً. وكان معظم المتقاتلين في صراع البشيرين دروزاً، لكنّ القتال فيه لم يكن ذا طابع طائفيّ دِينيّ، وإنَّما ذا طابع سياسيّ وصراعٍ على النُّفوذ، بالرّغم من أن رجال الكنيسة المارونية ألّبوا المسيحيين على القتال مع الأمير بشير ضد الشّيخ بشير.
2. لم يتسنَّ لِعسكرِيِّ واليَيْ دمشق وصَيْدا نصرة أمراء آل علم الدِّين، ومحمود باشا أبو هرموش، لأنَّ الأمير حيدر الشِّهابي استطاع حسْم المعركة لمصلحتِه قَبْل وصولهما، في حِين تسنَّى لِعسكر والي صَيْدا (عبد الله باشا) الوصول إلى قلْب الشُّوف، والاشتراك في القِتال والمساهمة في حسْم المعركة لمصلحة الأمير بشير.
3. قضَى الأمير حيدر الشِّهابي، وبمُساعدَة القيسيِّين الدُّروز، على اليمنيِّين في عَيْن داره، وأفشل محاوَلة استرداد الإمارة الدُّرزيَّة. وقضَى الأمير بشير الشِّهابيّ على أكبر زعيم درزي هو الشّيخ بشير، وعلى مرْكزيَّة القَرار الدُّرزي التي تَوصَّل إليها، وجسّدها بشخصه، وذلك بمساعَدة فريق دُرزيّ له، مُمثَّل بالنَّكديِّين، والتَّلاحقة، وآل عبد الملك، وبعض الأُسَر الدُّرزيَّة الأخرى. وما استطاع بعد ذلك أحدٌ من أعيان الدُّروز القِيام بدَور الشَّيخ بشير أو ببَعضه، حيث كان ندًّا بالسُّلطة للأمير بشير، ذلك أنَّ الدُّروز بلَغُوا في الخمس عشرة سنة من أواخِر عهده أقصَى درَجات ضُعفهم، وأسْوَأ مراحل تدنِّي دَورهم في عهد الإمارة الشِّهابيَّة. أما الفراغ الذي تركه الشّيخ بشير. فقد ملأت معظمه الكنيسة المارونيّة.

الأمير بشير الشهابي الثاني - الشراكة المستحيلة
الأمير بشير الشهابي الثاني – الشراكة المستحيلة

تَمادِي الأمير بشير في اقتصاصِه ومظالِمه بعد انتصاره على الشّيخ بشير
بعد انتصاره على الشّيخ بشير انفسح المجال واسعاً أمام الأمير بشير للإمعان في إجراءاته القمعيَّة، والتَّمادِي في مَظالمِه، والاقتصاص بشتَّى الأساليب من أنصار الشَّيخ بشير بِمَن فيهم الأمراء الشِّهابيُّون، فسَمَل أعيُن، وقطع ألسُن الأمراء: عبَّاس، وسلمان، وفارس، لأنَّهم وقَفُوا مع الشَّيخ طمَعاً في تسلُّم الإمارة. وهذا، حسبما جاء عند ميخائيل الدِّمشقي، “قساوَة وحشيَّة، لأنَّ الفتْك أهْوَن من هذا العذاب، وكان النّاقص سكب رصاص في آذانهم ليصبحوا طرشان أيضاً”30.
تتبّع رجالُ الأمير بشير رجالَ الشّيخ بشير وأنصاره، فقتلوا كلّ من ظفروا به ولم ينجُ باختفائه أو بفراره، حتى أنّ الأمير اقتصّ ممّن لم يقفوا إلى جانبه والتزموا الحياد. ومن سَلِم من الاقتصاص بالقتل أو بالسجن، لم تسلم ثروته وأملاكه من المصادرة، كما لم تسلم من الهدم دور كثيرة.
هدَم الأمير بشير قُصور آل جنبلاط في المختارة وبَعْذران، ودكَّ بالبارود جامع المختارة الذي بناه الشَّيخ بشير كأحد الأدلَّة على إسلاميَّة الموحِّدين (الدُّروز)، وجرْياً على عادات أكابرهم منذ مئات السِّنين. إنَّ هدْم هذا الجامع ما كان لِيحصل بتصرُّف ذاتي من الأمير بشير نظراً لدقَّة الموضوع وخطورته، وإنَّما تمَّ بأمرٍ من والي صيدا عبد الله باشا الذي طلب ذلك “لأنَّ الدُّروز غيْر أهلٍ له”، كما جاء عند طنُّوس الشِّدياق31. وهذا يُظهر مدَى تحامُل عبد الله باشا على الشَّيخ بشير وقَومه الدُّروز، كما يُظهر دهاء الأمير بشير ونجاحه في إظهار إسلامه، وإخفاء مسيحيَّته التي عاش ومات عليها، كالعديد من الأمراء الشّهابيِّين، والتي نرجّح أنَّه أخَذها عن والده قاسم عمر حَيْدر الذي يذكُر طنُّوس الشِّدياق أنَّ البطرك اسطفان الغسطاوي نَصَّرَه في سنة 1764 32. لكنَّه حيَّرَ المؤرِّخين بِغموض هُويَّته الدِّينيَّة، إذ كان أميرًا مُعيَّناً من الدَّولة العثمانيَّة المُسلمة على المسلمين الدُّروز في جبل الدُّروز، الذي بات في عهده مكوُّنًا من أكثريَّة مسيحيَّة.

صادَر الأمير بشير ما في بُيوت آل جنبلاط، وخصوصاً دار المختارة، من تُحَف، وأسلحة، وحلَىً، وجواهِر، وما يردُ إليها من غلال الأملاك الواسعة، وصادَر كلَّ إِقطاعات الشَّيخ بشير المُمتدَّة من البقاع الغربي إلى البحر، ووزَّعها على أنصاره، وعلى أبنائه الذين نالُوا الحصَّة الكُبرى منها. فأعطَى الشُّوف وبعض إقليم الخَرُّوب للشَّيخَين حمُّود، وناصيف النَّكدي، وطلب منهما الإقامة في بلدة الشَّيخ بشير (المختارة)، التي وهَبهما إيَّاها أيضًا. وأعطى الغَرب الأسفل لآل تلحوق، باستثناء بلدة الشُّوَيفات التي أعطاها للأمير بشير ملحم شهاب، وأعطى بعض إقليم الخَرُّوب للشَّيخ حسين حماده، وأعطى إقليم جِزِّين وإقليم التُّفَّاح لِوَلده خليل، والعرقوب لولدِه قاسم.
أمعَن الأمير بشير خصوصاً في الاقتصاص من العائلات الجنبلاطيَّة، فعمَد إلى التَّضيِيق على أفرادها والفتك بوجهائها، ومُصادَرة ممتلكاتهم، ممَّا أدَّى إلى إفقارها، وإلى نزوح قسم كبير من أبنائها إلى جبل حوران (جبل العرَب). وكان يختلق السَّبب لِمَن يريد الاقتصاص منهم، ويجبرهم على تحرير صكّ فراغٍ وانتقال إلى أحد أتباعه.
بلَغ إضعاف الأمير بشير للمقاطعجيِّين الدُّروز مداهُ بقضائه على أكبرهم، الشَّيخ بشير. وبعد أن أضعف الموحِّدين (الدُّروز) سياسيًّا بالفتْك بزعمائهم واحدًا بعد آخَر، وتحجيم دَورهم، وأضعفَهم اقتصاديًّا بنهْب ثرَواتهم ومُصادَرة ممتلكاتهم، عمَد إلى إضعافهم اجتماعيًّا بتعيِين رُؤسائهم الدِّينيِّين، بحيث صار لهم منذ سنة 1825، وبِتدخُّل منه، ثلاثة شيوخ عقْل، اثنان منهم على أساس الغرضيَّتَين (اليزبكيَّة والجنبلاطيَّة)33. ثم إنَّ ما قام به خلال الخمس عشرة سنة التي أعقَبَت انتصاره على الشَّيخ بشير يطُول شرحه، ولكن يمكِن إيجازه بأنَّه من أهمِّ نتائج انفراده بالحُكْم، وخلوِّ الجوِّ له بعد تغيِيب أكبر شخصيَّة شارَكَته في الحُكم، وكانت ندًّا له.
في حديثه عن الأمير بشير يذكُر الأمير شكيب أرسلان، أنَّه “لم يَسْلَم بيت من بُيوت الأكابر في جبل لبنان من تغريم الأمير بشير بدلاً من المرَّة مرَّات”، كما يُضيف أنَّ ثروَته تَضاعفَت كثيرًا بِسبب ذلك، وأنَّه بِرغم كلِّ ما كان يُؤَدِّي للوُلاة كانت خزانته يوم صُرِف من وِلاية الجبل سنة 1840، تحوِي ثمانية عشر ألْف كيس، أي نحو سبعين ألف جنيه، عدا الحلى والمجَوهرات34.
يُضاف إلى هذه الثَّروة الطَّائلة، التي ذكَرها الأمير شكيب أرسلان، أملاك واسعة وغنيَّة، آلَت إلى الأمير بشير بلْصاً ومُصادَرة، وأربعة قُصور شادَها في بيت الدّين له ولأبنائه: قاسم، وخليل، وأمين. وأكبرها قَصْره الَّذي عُرف مؤَخَّرًا بـ(قَصْر بيت الدِّين)، وصار مُلكًا للدَّولة، ومقَرًّا صيفيًّا لرئيس الجُمهوريَّة. وإنْ كانت هذه القُصور كسِواها من قُصور أرباب الحُكم والشَّأن، دليلاً على العظَمة والجاه، ونَوعاً من أنواع العُمران، إلاَّ أنَّها بُنيت بأموال الفلاَّحِين والفُقراء، والضَّرائب الباهِظة التي كانت تُفرَض زيادةً عن المطلوب للدَّولة، وتُجبَى أكثر من مرَّة في السَّنَة. وقد بُني بعض أقسام هذه القُصور بما صادَره الأمير بشير بعد انتصاره على الشَّيخ بشير، وبالحجارة والأخشاب والرّخام والبلاط، التي نقلها بعد هدْم قصْر الشَّيخ، وجامِعِه في المختارة. ثم إنّ بيت الدّين كانت ملكاً للموحِّدين (الدّروز) قبل أن“يناكدهم الأمير بشير ويشتري أراضيهم وبيوتهم” حسبما جاء عند ميخائيل الدّمشقي35. لذا تركوها، وانتقلوا إلى بلدتَي كفرنبرخ، وبَعْذران، حيث حمَلوا فيهما شهرة (البتدِّينِي)، نسبة إلى بلدتهم الأصليَّة (بيت الدِّين).

المختارة اليوم
المختارة اليوم

نهاية الشَّيخ بشير
بعد هزيمته في أواخِر كانون الثاني 1825، تَرك الشَّيخ بشير المختارة متنقِّلاً من مكان إلى آخَر أمام قوَّات الأمير بشير التي تُطارده، واتَّجَه نحْو حوْران قاصدًا إمَّا عرب الفحيليَّة والسّلوط، حيث لجأ إليهم في السَّنَة الماضِيَة، وإمَّا المشايخ الحمدانيِّين في جبل حوْران (جبل العَرب)، حيث أمَّن عِياله في سنة1820 عندما غادَر مع الأمير بشير الشوف، إثر عزْل الأمير. ولدَى وُصوله إلى نوى وَجد نفسه ورجاله مُحاطِين بِقوَّات الدَّالاتيَّة بقيادة كنج آغا. فسلَّم لهذا القائد على أمان أُعطِي له، لكن القائد نهب أمواله ثم سلَّمه إلى والي دمشق مصطفى باشا الذي قام بتسليمه إلى والي صيدا عبد الله باشا، بناءً على طلب الأخير.
وَضع عبد الله باشا الشيخ بشير في السِّجن لِمدَّة ثلاثة أشهر، ولم يقتله لطمَعه في مالِه والمساوَمة على إطلاق سراحه. لكنَّ الأمير بشير الذي كان مصِرًّا على تصفِيَة الشّيخ بشير، ويخشى حُصول تحوُّل ما ضدَّه، أو تغييرٌ مفاجئ يُعَرقل مخطَّطه وسياسته، أرسل إلى محمّد علي باشا يُعْلمه بالأمر، ويطلب منه القضاء على الشيخ بشير، فكتَب محمّد علي إلى حليفه عبد الله باشا أنْ يُجْهزَ على الشَّيخ، فأمَر بشنْقه ورفيقه أمين العماد، ونفذ ذلك ليلة الخميس في 9 شوَّال 1240هـ = 27 أيَّار 1825م، حسبما جاء في رسالته إلى الأمير بشير الشِّهابي، وظلَّت جثتاهما معلَّقتَين أمام مدْخل عكَّا لمدَّة ثلاثة أيام. ويذكُر قنصل فرنسا بعكَّا في رسالته إلى رئيسه بتاريخ 26 حزيران 1825 أنَّ الشَّيخ بشير حين بلَّغَه الحَرس بأمر إعدامه “أدَّى الصَّلاة ومات ثابت الجَنان”، وأنَّ الحَبْلة التي عُلِّقَت برقبته انقطعت مرَّتَين، “فقال لجلاَّدِيه بهدوء: أليس عند سيِّدكم حبْلة في سرايَته أمْتن من هذه”36. وبِشنْق الشَّيخ بشير في عكَّا سنة 1825، بعد مَوت والده فيها بالتَّسميم له سنة 1793، تصبِح عكَّا شُؤْمًا على آل جنبلاط.
كَتب الشَّيخ بشير وصيَّته في سنة 1808 تحسُّبًا من المَوت، أو من القتل في إحدى المَوَاقع الحربيَّة، أو من القضاء عليه كما كان يحصل لأكابِر القَوم. وبنَى ضريحًا في سنة كتابة وصيَّته حتَّى يُدفن فيه. لكنَّه قُدِّر له أن ينتهي بعد 17 سنة من كتابة وصيَّته، وألاَّ يُدفَن في الضَّريح الذي بناه، وأن يُدفَن في أرضٍ غير لبنانيَّة، ذلك أنَّ أحد وُجَهاء دُروز فلسطين (مرزوق سعيد معدِّي)، وكان صديقًا لعبد الله باشا، طلب منه السَّماح بِدَفن الشَّيخ بشير ورفيقه، فنقلهما إلى قريته (يرْكا)، ودفنهما فيها خلْف مدفن الشَّيخ أبو سرايا، ولا تزال رفاتهما هناك.
نهاية الشيخ بشير و”المسألة الشرقية”
غالباً ما يجري النِّقاش بين المؤرِّخين حول مدلُول (الحَدث)، و(الحادثة)، ويختلفون حول الأمثلة عنهما لاختلاف زاوية النَّظر إليها، ولأدلجة المواضيع. فلقد اعتَبر بعض المؤرِّخين عزل الأمير بشير في سنة 1840 حدَثًا لِما تلاه من تطوُّرات، ونتائج خطيرة، فيما اعتبروا نهاية الشَّيخ بشير حادثةً لنتائجها المحدودة، في رأيهم. وفي الحقيقة أنَّ نهاية الشَّيخ بشير شنْقًا في عكَّا، بطلب من الأمير بشير المُنتصِر عليه، وبِقَرار من والي صيدا الذي نزَل عند طلب والي مصر (محمّد علي)، هو حدَث يتوالى فصولاً في تاريخ لبنان عُموماً، وتاريخ الموحِّدين (الدُّروز) خصوصًا، ماثل في الذّاكرة الشّعبيّة والأدبيّات، جاء في سلسلة تمهيدات محمَّد علي لاحتلال بلاد الشَّام، وهو من كان بِحروبه وتوسُّعاته جزءاً من المسألة الشَّرقيّة. لذا، يمْكن اعتبار الشّيخ بشير أيضاً إحدى ضحايا هذه المَسألة، وقد كانت لنهايته نتائج كثيرة ورَد ذِكرها، بعضها كارثي، ونتائج أخرى بعيدة لم يتَّسِع المجال لها.
يعتبر المؤرّخ كمال سليمان الصّليبي نهاية الشّيخ بشير على يد الأمير بشير حدثاً مؤثّراً في تاريخ لبنان، فيقول: “كان سقوط بشير جنبلاط حدثاً ذا أثر في تاريخ لبنان. فبقضاء الأمير بشير على منافسه القويّ، الواسع الثّراء، أصبح هو وحده السيّد المطاع في لبنان. لكنّه، في الوقت نفسه، قضى على الزّعامة الدرزيّة الفعّالة الوحيدة التي بقيت في البلاد. وبذلك سدّد ضربة قاضية على مكانة الدّروز فيها، وإذ ضعفوا وصاروا بلا قيادة، أحجموا عن التّعاون الفعلي في شؤون الإمارة، منتظرين فرصة سانحة للثأر. ولئن صحّ القول بأنّ الأمير الشّهابي المسيحيّ إنّما سحق الشّيخ الجنبلاطي الدّرزي، لا لأنه درزي، بل لأنّه كان خصماً سياسيّاً عنيداً، إلّا أن الدّروز حملوا الأمر على غير محمله. وما كانت سياسة الأمير بشير، فيما بعد، إلا لتجعلهم يمعنون في النّظر إليه كعدوّ مسيحي”37.
تمُرُّ السُّنون، ويدُور الزَّمان دَورته، وتتَوالى الأحداث آخذًا بعضها برقاب بعض، وتنسحب أيضًا آثار بعضها على بعض. وتبدأ الحرب الأهليَّة اللُّبنانيَّة في سنة 1975، ويكون من فُصولِها المَأسويَّة والكارثيَّة حرب الجبل، ويكون من أهمِّ محطَّات حرب الجبل صعود الميليشيات المسيحيَّة أو (القوَّات اللُّبنانيَّة) إليه مع الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان سنة 1982، واتِّخاذ بعض قراهُ وبلداته ثكنات عسكريّة لها، ومنها بيت الدِّين، وذلك بقرار مشترك من والي عكَّا مجازًا: الدَّولة اليهوديَّة، ومن حليفها، قائد القوات اللُّبنانيَّة (بشير الجميِّل). ويوضَع الموحِّدون (الدُّروز) أمام خطر التَّهجِير والإخضاع والإذلال، والتَّبعيَّة للمارونيَّة السِّياسيَّة التي يشكِّل عهد الأمير بشير إحدى مراحل نهوضها. لكنهم ينتصرون في حرب الجبل بقيادة حفيد الشّيخ بشير (الزَّعيم وليد جنبلاط).
لقد شاد الأمير بشير أحد أجنحة قصره في بيت الدّين، ولا سيّما واجهته ومدخله، مما نقله من قصر الشّيخ بشير جنبلاط وجامعه، وأنهى بناءه في سنة 1829، فأُرّخ ذلك ببيتين من الشعر يشيران أيضاً إلى انتصاره على الشّيخ بشير، وهما:
شـــــــادهــــــــا المـــــــــــولـــــــى الشّهابـــــــيُّ الـــــــذي جـــــــاء بـــــــــــــالسعـــــــد بـــــــشيـــــــراً لـــــــلأنـــــــام
وعلـــــــــــــــــــــى بـــــــاب الحمـــــــى قـــــــد أرّخـــــــوا دام نَـــــــصراً فـــــــادخلـــــوهــــــا بــــــــــــــسلام
وفي سنة 1983 أهدى الدّروز انتصارهم في حرب الجبل إلى المقاتلين الأبطال، وإلى الشّيخ بشير، وأرّخوا ذلك بثلاثة أبيات من الشّعر، وُضعت ردّا على البيتين المذكورين أعلاه، وهي:
هذا هــــــــــــــــــــــــــــــــــــو القَصْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرُ انْحَنَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى لِسُيوفِنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
لِمَلاحِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الأبطالِ لِلنَّصْــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرِ الْكَبِيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
وأَطَــــــــــــــــــــــــــلَّ فَجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرُ الحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقِّ بَعْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أُفـــــــُولِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهِ
والدَّهْرُ يَخْشَــى صَوْلــــــــــــــــــــــــــــــــــــةَ الشَّيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــخِ البَشِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير

مأساة اليهود العرب في اسرائيل

المَشـروعُ الصّهيونـــيّ
ومأساةُ اليَهود العَرب

نصوص للكاتب الإسرائيليّ العراقيِّ الأصل رَؤُبين سنير

المؤسّسة الصّهيونيّة تتعامل مع الثّقافة اليهوديّة – العربيـــّة كما لو كانت وباءً يجب عزل المُصابين به عن المُجتمع

أجبر النّظام التّعليمي الإسرائيليّ أبناء الأسر اليهوديّة العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنه محرقتهم الذاتيّة وألقى بالهويّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إســرائيل في ســلّة مهملات التّاريخ
(رؤوبين سنير)

تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.

[su_accordion]
[su_spoiler title=”النص الأول” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مأساةُ اليهودِ العرب في إسرائيل

اكتشاف الهُوِّيّة اليهوديّة – العربيّة
كانت توبتي في “باب التّوبة” من “الرّسالة القُشَيْرِيّة” يَرِدُ القول إنّ الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التّوبة (وربّما أضحى ذلك واحداً من هُوّيّتي المُبتكرة الحاليّة) يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1984، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالساً في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللّغة العربيّة حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صِرت أتقن العربيّة، محرّراً للأخبار توفيراً للُقمة العيش. أمّا في أبحاثي الأكاديميّة فكنت منهمكاً في تحقيق نصوص الزُّهّاد والصّوفيين القُدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس – لم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أيّ حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبريّة (وهناك من يُصرّ أنّ هذا التصوّر ما زال سائداً هناك حتى الآن) هو أنّ العرب المعاصرين ليسوا إلاّ “ أمّة بائدة”، أي أمّة ذات ماضٍ عريق حضارياً، ولكن بلا شيء ذي قيمة حالياً. في ذلك اليوم الشّتائي، أبلغَنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904-1984) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مُقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فوراً بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العِبري، إذ ظننت أنّ من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونيّة المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العبرية أيضاً خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. “أنور مَنْ؟” سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنّها سرعان ما قالت: “هذا لا يعني مستمعينا بتاتاً” لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرا يهودياً عربيّاً آخر هو مراد ميخائيل (1906-1986) ، ثمّ في السّنوات اللاّحقة أدركت المنيّة المزيد من الشّعراء والكتّاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933-1997)، يعقوب بلبول (1920-2004)، إسحاق بار موشيه (1928-2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأُصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، و أدعو كل من يعتقد أنّي أبالغ بحكمي النّقدي أنْ يحتفظ بتحفّظاته إلى أنْ يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة “نزولة وخيط الشيطان” التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم ممّا حدا به، قبل موته المُبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عُزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: “لا أعتبر نفسي كائناً حيّاً في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنّني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)”. ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910-2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924-2006) في حيفا.
لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عُرضةً لمؤسّسة ثقافية عبرية ــ صهيونية سائدة، فَرضت هيمنتها المُطلقة على كافّة الكيانات الثقافيّة الأخرى تحت قناع اللّبيرالية اليساريّة، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشّرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافيّة الغربيّة عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي Thomas Babington Macaulay 1800- 1859 في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامّة للتّعليم العام. متحدّثاً عن الأهداف التعليميّة للبريطانيّين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون “هنديّاً بالدّم واللّون، وإنجليزيّاً في الذّوق، الأخلاق والذكاء”. لقد حقّقت الحركة الصهيونيّة نجاحا باهراً بالضّبط حيث عجزت حتّى بريطانيا عن تحقيقه ــ خلق نموذج جديد للإسرائيليّ: شرقيّ في دمه ولونه، وصهيونيّ وإشكينازيّ وغربيّ في الذّوق والرأي. هكذا، مثلا، أجبر النّظام التّعليميّ الإسرائيليّ نسلَ العوائل اليهودية العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذّاتيّة ــ وأستطيع أنْ أضيفَ أحياناً، كما لو أنّها روح تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هُوّيّتهم الثقافيّة. الهُوّيّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إسرائيل حضاريّاً وثقافيّاً أُلقيت في سَلّة المُهْمَلات التاريخيّة.

حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914

نقد الهُوِّيّة الأشكينازيّة الغربيّة
صار المدافعون عن الميول الغربيّة للهُوِّيّة الإسرائيليّة المُخْتَرَعة يتفجّعون خوفاً من “خطر” تشرّق” و”تمشرق” المجتمع الإسرائيليّ. فعلى سبيل المثال كتب الصّحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة “هآرِتس” الإسرائيلية يوم 22 أبريل 1949 ما يلي:
“نحن نتعامل مع أناسٍ في غاية البدائيّة، مستوى معرفتهم يقترب عملياً من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك، إنّهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أيِّ شيء عن الثّقافة”.
أحدُ هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنّهم “لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أيّ شي عن الثقافة “كان نسيم رجوان (ولد عام 1923)، الذي كتب باستمرار في الأربعينيات لصحيفة “Iraq Times” الإنجليزية (وكانت تصدر في بغداد) وكان يهتمّ خصوصاً بشؤون الأدب الإنجليزي. وبالرّغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالباً ما يعامَل ككاتب يفتقر للقابليّات الثقافيّة المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربيّة، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة جيروزاليم بوست Jerusalem Post، أمّا رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرّسميّة التي سعت إلى شطب الهُوِّيّة اليهوديّة العربيّة واستهانت باليهود العرب، يقول:
“إنّها المؤسّسة السّياسيّة ــ الثقافيّة (الصهيونيّة) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيّون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع “الغربيين” الأصليّين ــ هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشّرقيّين إلى عملية منظّمة من احتلال الهًوِّيّة والتّطهير الثّقافي فأجبرتهم على التّنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب – بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”.

“أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بحيث يرحّب بها الجيران العرب، بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”
(نسيم رجوان: كاتب إسرائيلي من أصل عراقي)”

فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي
فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي

اسطورة اضطهاد اليهود العراقيّين
ومن جانب آخر، أرفض تماماً الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكلّ عناية، ومفادها أنّ يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عمليّة إنقاذ خياليّة قامت بها أجهزة الدّولة اليهوديّة الجديدة. فالحقيقة هي أنّ يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتّى مطلع عام 1950، بل وحتّى حينما أصدرت الحكومة العراقيّة قراراً يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسيّة العراقيّة أو ما سُمّي بـ “التّسقيط” وقد طُرح خيار تسقيط الجنسيّة المذكور لفترة سنة واحدة فقط، ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟؟ سؤال حَرِج، وبالفعل، لا أعرف، وربّما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكلِّ ثقة، إنّ مُعظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أيُّ شكّ حول هُوِّيّة الجهة الفاعلة، أو على الأقل هُوِّيّة الجهة التي حقّقت أكبر المنافع من وراء تلك الأحداث، حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة لإسرائيل.

وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967
وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967

ووفق هذه العجالة التاريخيّة المنسوجة بمذكّراتي الشّخصيّة، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثّقافة والهُوّيّة اليهودية ــ العربية. كان العنصر الأساسي في “التّكافل الخلّاق” creative symbiosis 1 بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتّى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنَّوْا اللّغة العربيّة كلُغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التّكافل لأنّ العربية أصبحت تتلاشى الآن كلُغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديّاً يتحدّث العربية بطلاقة، فكُن على ثقة بأنّه إمّا أنْ يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنّه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنّخبة اليهودية ــ الإسرائيلية، سواء كانت الرّسميّة أو الثقافيّة، لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزاً حضاريّاً، وليس هناك، مثلاً، ولو كاتب يهودي واحد وُلِد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيّاً تراثٌ حضاريّ نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ أمام أعيننا، الإجهاز بشكل مُنظّم على هذا التّراث الحضاريّ الرّائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناءً على تآمر غير مُعلن تشارك فيه الصهيونيّة، من جهة، والقوميّة العربيّة المتعصّبة، من جهة أخرى، وكلٌّ منهما يجد دعماً لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأنّ الإسلام واليهوديّة يُجمعان على ضرورة مَحْو هذا التّراث الحَضاري اليهوديّ ــ العربيّ العريق المُشترك.
بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهوديّة ــ العربيّة مثل الوباء الذي ينبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حَجْر صحّي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المُصابين.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أنْ يُطلق عليهم، من باب لُطف التّعبير اسم “مزراحيم” (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قِبَل الصّهيونيّة والقوميّين العرب وعملائهما السّياسيّين والاجتماعيّين والثّقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحياناً، وربّما بسبب ما مَرّوا به من شطب لهُوِّيّتهم الأصليّة وإحلال هُوِّيّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيّين.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”النص الثاني” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يهودُ العراق
والمشــروع الهاشمــي لبنــاء العــراق الحــديث

الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل
الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل

لو أنّ بغداد نجحت في أن تُوَرّث لأهالي الشّرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تَشكّل منها ربيعها المُشرق في مطلع القرن العشرين لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفاً بالرّفاهية والازدهار بعيداً عمّا جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضّغينة المُتبَادلة خلال القرن الماضي.
كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظمِ الفُرص التي تمّ تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الرّبيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حَدت بهم إلى الاعتقاد بأنّ المُجتمع المحلّي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (1883-1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكلّ ما أوتيَ من قوة.
هكذا وقبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطاباً أمام النادي العربي في حلب في 9 حزيران 1919 قال فيه: “نحن عرب قبل موسى ومحمّد وعيسى وابراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت”.
وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكاً على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1921، زعماء الجالية اليهوديّة قائلا: “لا شيء في عرف الوطنيّة اسمه مُسْلم ومسيحيّ وإسرائيليّ، بل هناك شيء يُقال له العراق. إنّني أطلب من أبناء وطني العراقيّين أن لا يكونوا إلا عراقيين لأنّنا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام وكلّنا منسوبون إلى العنصر السّامي ولا فَرق في ذلك بين المسلم والمسيحيّ واليهوديّ. وليس لنا اليوم إلا الرّابطة القوميّة العظيمة التأثير”.
كما أكّد ساطع الحُصَريّ (1880-1986) يومها أنّ “كلّ من يتكلّم العربيّة هو عربي” وكان الحُصَري المدير العام للتّربية والتعليم في العراق، بين 1923-1927، هذه التّصريحات من قِبَل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكّان من الأصول المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابيّة والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السّلبيّة والاختلاف. وقد أسهمت التّصريحات “التأسيسية” للملك فيصل في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلوَرة هُوّيّته العراقيّة العربيّة المتفرّدة.
وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع لعراقيّ الجديد في عشرينيّات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التّغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التّحوّل حاسماً لأنّه شمل هُوّيّات متفرّدة مختلفة ولم يكن مشروطاً بالتخلّي عن الأُطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينيّة، اثنيّة أو مهنيّة وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقيّ الكلدانيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950) في مطلع عام 1924 كتاباً بعنوان: “ نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق” (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطّبقات الاجتماعية والمهنيّة للجالية اليهوديّة أنّ يهود العراق يمارسون كافة المهن: “إلاّ أنّك لا تجد بينهم من حَمَلة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أنّ اليهوديّ يرمي إلى ما به نفعه وسوق التّأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنّهم في هذا الباب يتّبعون المثل اللاتيني القائل “عِشْ أوّلا ثمّ تفلسف”.

الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات
الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات

ولكنْ بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 1924 بالضّبط صدر العدد الأول من مجلّة “المصباح” العربيّة. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتّابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلّة أنْ تكون جزءاً من الثّقافة العراقيّة العربيّة ومن تيّار الصّحافة العربيّة السائد دون أن تكون لها أيّة غاية يهوديّة ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور “المصباح” التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافيّة لأبناء الجالية اليهوديّة التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشّباب يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمّة العراقيّة – العربيّة الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أنْ أقول، مستخدماً مفردات غنيمة، أنّ اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في “القضايا الفلسفيّة”، وبالذّات حول الأشياء ذات الاستقلاليّة النسبيّة عن الحقول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي غالباً ما تتجسّد بأشكال جماليّة كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها.
ومنذ البداية تأثّر المثقّفون اليهود العراقيّون الشّباب بالرّؤية الثقافيّة التي كان “الدّين لله والوطن للجميع” شعارها. هذا الشّعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1919، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لأنجيل مرقص 12، 17: “ أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين ــ السّوريين المسيحيّين في القرن التاسعَ عشَرَ “حبُّ الوطن من الإيمان”. وقد تبنّته أيضا مجلّة الجِنان، أوّل نشرة دورية عربيّة عموميّة تأسّست ببيروت عام 1870 من قِبَل بطرس البستاني (1819-1883) وصدرت حتى عام 1886؛ وحُرّرت أيضاً من قِبَل نجله سليم البستاني. ووفقاً لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرّابطة الدينية بالرابطة القومية.
ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيّين المارّ ذكرهم، شعار “الدّين لله، والوطن للجميع”، كما حفزتهم الآيات القرآنيّة التي تدعو للتّسامح الدّيني والتعدّديّة الثقافية مثل “لا إكراه في الدّين” (البقرة 256) و“لكم دينكم ولي ديني” (الكافرون 6). واصطفّت نُخْبَتهم، وخاصّة المثقّفون العلمانيّون الشّباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قوميّة حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشّيعة والسّنة، والكُرد، والتُّركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصّهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهوديّة قوميّة في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمراً غير مرغوب به إطلاقاً في صفوف مُعظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أيّة وثائق تاريخيّة تعكس تحمّساً لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينيّات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقيّ العربيّ. يكفي بنا أنْ نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson)، المفوّض المدنيّ المؤقت في بلاد الرّافدين في الفترة ما بين 1918، 1920 في سجّلاته عن تلك الفترة:
“ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهوديّة الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلدٌ فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسّكن. وبلاد الرّافدين جنّة مقارنة بفلِسْطين. قال أحدُهم: “العراق جَنّة عدَن ومن هذا البلد طُرد آدم ــ أعطونا حكومةً جيّدة وسنجعل البلد يزدهر ــ وادي الرافدين وطننا؛ وطن قوميّ سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفّر في فِلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة”.
وقال التّربوي والصّحفي اليهوديّ عزرا حدّاد (1900 – 1972) في أواخر الثّلاثينيّات: “نحن عرب قبل أنْ نكون يهوداً”. كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920- 2004 ): “لا يتوقّع الشّاب اليهوديّ في البلدان العربيّة من الصّهيونيّة غير الاستعمار والهيمنة”. عاش معظم السّكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيّين والحقبة الملكيّة المُبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنّه: “يمكن أن يقول المرء بكلّ ثقة إنّ بغداد كانت يهوديّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، كما كان يقال إنّ نيويورك مدينة يهوديّة”. كان الأفق الحقيقيّ ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النّخبة المثقّفة، عراقيّاً وعربيّاً. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقيّة جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصّدد: “لم يطلق يهود العراق على العراقيّين من غير اليهود تسمية “عرب”، وإنّما استخدموا مفردات “مسلم” و”مسيحيّ” وحينما كانوا يتكلّمون عن “عرب” فالمعني في أذهانهم كان “البدو” فقط

ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925
ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925

إذا عدنا إلى “المصباح”، نرى أنّ رئيس التّحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار “ابن السموأل”، إشارة إلى الشّاعر اليهوديّ الجاهليّ السّمَوْأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السّموأل (هكذا تسرد الروايات العربيّة القديمة) تسليم أسلحة عُهِدَ بها إليه، وبالتّالي فقد شَهِدَ مصرعَ ولَدِه على يديّ شيخ القبيلة البدوي الذي فَرضَ حِصاراً على قصره كي يجبرَه على تسليم الأسلحة التي تُرِكت بحوزته. وبفضل ذلك خُلِّد السّموأل في ذاكرة العرب إذ أصبح يُقال “أوْفَى من السّموأل”. ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقيّ ــ العربيّ الذي كان، من منظاره، المَوْقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقيّة.
ولقد عَثرت، ودون أيِّ جهدٍ خاصّ، على نصوص تتناول ذلك الرّبيع ببغداد في عشرينيّات القرن الماضي بقلم السّنّي معروف الرّصافي (1875-1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997 ) والكردي جميل صدقي الزّهاوي (1863- 1936) والمسيحيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885 ــ 1950). لا أحدَ منهم تباهى بأنّه عربيّ أو عراقيّ إذْ كان ذلك بديهيّاً كما كان بديهيّاً بالنّسبة لأنور شاؤل إذ كان انتماؤهم جميعاَ يستند إلى كون كلّ منهم جزءاً من الأمّة العراقيّة وكانت لغتُه الأمّ هي العربيّة وكان مستقرُّه الأوحد هو الوطن العراقيّ، ولم يكن للاختلاف في الدّين أيّة أهميّة إذ إنّ الإيمان الدّيني، في المنظور السّائد في تلك الفترة، كان أمراً بين الفرد وخالقِه “الدّين لله، والوطنُ للجميع.

رؤبين سنير

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

جمعيةُ الغد للتّنمية والإسكان تعلنُ عن طَرح وَحَداتٍ سَكَنيّةٍ فخمةٍ في مشروع الشّوَيْفات

متوسّط مساحة الشقّة بين 145 و 155 متراً مربّعاً
سعر البيع بين 800 و1000 دولار بالمتر المربع

أعلنت جمعيَّة الغد للتّنمية والإسكان وهي جمعيّة تابعة للمجلس المذهبيّ لطائفة الموحّدين الدّروز عن طرح أوّل دفعة من الوحدات السّكنية في مشروع الشّويفات للبيع (وهي شقق البلوك A ( كما أعلنت أن وحدات البلوك B ستكون جاهزة للتّسليم بعد سنة. أمّا البلوكات الثّلاث الأخرى فقد أنجزت أعمال الباطون فيها بالكامل، ويتوقّع أن يبدأ طرح وحداتها السّكنيّة للبيع ابتداء من العام المقبل.
وتُعنى جمعيّة الغد للتّنمية والإسكان بالدّرجة الأولى بإقامة مشاريع سكنيّة لأبناء مجتمعها. وقد باشرت عملها بإشادة مُجَمّع سكنيّ على العقار رقم /896/ في مدخل الشّويفات الشّمالي (العمروسيّة) وهو يتألّف من أربع بلوكات سكنيّة A,B,C,D وكلّ بلوك عبارة عن أربعة طوابق ويضمّ كلّ طابق أربع شقق سكنيّة تتراوح مساحة الواحدة منها بين 145 إلى 155 م2. ويحتوي المجمّع على طابق أرضي مُخصّص لمواقف السّيّارات وغرف النّاطور والكهرباء وطابق سفليّ تجاريّ وذلك على كامل مساحة البلوكات الأربعة.

مواصفات فخمة وتفصيل المُحتويات

تتألّف كلّ شقّة من صالون مع سُفرة وموزّع ومطبخ وثلاث غرف نوم وثلاثة حمّامات وشرفات وأحواض للزّهور عِلماً أنّ كلّ مبنى يضمّ مصعداً كهربائياً ذا مواصفات عالية وموقف سيّارة لكلّ شقّة.
الواجهات الخارجيّة تتضمّن نسبة عالية من تلبيس الحجر الطّبيعي. كما أنّ الحوائط الخارجيّة مزدوجة وذلك لمنع تسرّب المياه والحرارة.
أعمال الألمنيوم نوعيّة مُمَيّزة Sidem 2000 double glazing وإكسسوارات فولدا.
أعمال الصّحيّة من الطّراز العالي (الأنابيب الـ PPR ماركة RAK الإماراتية وقساطل الصّرف الصّحّيّ ماركة MIA اللّبنانية الصّنع ) مع تأمين مياه للشّرب وخطّ مياه بارد وساخن منفصلين وسَخَّان عدد 2 لكلّ شِقّة وتجهيز المواسير لزوم الطّاقة الشّمسيّة وخلّاطات إيطاليّة الصّنع مع بئر ارتوازي لكامل المشروع.
أعمال الكهرباء ذات مواصفات عالية ( كابلات لبنان + ticcino) وانترفون لكلّ شقّة.
أعمال البلاط الدّاخلي للمطابخ والحمّامات هي من السّيراميك ليسيكو الصّنع والصّالونات والموزّع قياس 60X60 إسبانيّة الصّنع وهي أيضاً من السّيراميك.
أمّا الأدراج والأقسام المُشترَكة فهي من الغرانيت والحجر الطّبيعيّ للمدخل الرّئيسيّ.
أعمال الطّرش والدّهان من شركة تينول.
أبواب الخشب الرّئيسة هي من خشب الماسيّف ( فراكيه) والبقيّة من الـ mdf ذات مواصفات عالية.
خزائن المطابخ من الألمنيوم والدّرف pvc المقاوم للرّطوبة مع غرانيت وستانلس في الأسفل.
هذا وقد بوشر ببيع الشّقق. ويترواح حاليّاً سعر المتر المربّع الواحد بين 800 و 1000 دولار أميركي.

للمراجعة :هاتف المشروع 800998/03 المكتب 341355/01

المرأة عند الموحدين الدروز

كرامة المــــرأة عنــــد
الموحّــــدين الـــــدّروز

الموحّدون الدّروز يحرّمون تعدّد الزّوجات توخّياً للعدل
ويحظرون إعادة المطلّقة بل مقابلة الرّجل مطلّقته

نساء جبل العرب اخترقْنَ صفوف المقاتلين يستَنْهضْهنَم للقتال
فكُنّ بذلك سبباً مهمّاً في تغيير مجرى الكثير من المعارك

للمرأة في كلّ المجتمعات دورٌ خاصّ قد يتفاوت من حيث الأهمّية حسب التّنظيم الاقتصادي والاجتماعي، ومنظومة العقائد والقيم والتقاليد، لكنّ مجتمعَ الموحّدين الدّروز جعل للمرأة مكانةً تتميّز بها عن غيرها من النساء، وهذه المكانةُ مستمدّةٌ من صُلبِ مذهب التّوحيد الذي خصّها بقواعد ووصايا، فكان الموحّدون بذلك سبّاقون في إعطاء المرأةَ دورَها الكاملَ في المجتمعِ، وقد تكرَّست لها تلك الحقوقُ بنصوصٍ مكتوبة وأحكام مُلْزِمة.
من الفروضِ التّوحيدية أنّه عندما يتزوج موحّدٌ موحّدة، عليه أن يجعلَها مُساويةً له في كلّ شيء، وأن يُقسّم بينه وبينها كلَّ دَخْله، وأن يستشيرَها في كلّ أموره، وعليه احترامُها بحيثُ لا يُسمِعُها أيَّ كلمةٍ نابية.
كما أقَرّ مذهبُ التّوحيدِ الموحّدين على ألاّ يظلموا النّساءَ، ولا يسيئؤوا معاملتهنّ ، وأوصى النّساء بالعدل والتّعَفُّف، وعلى المؤمن أن يتّقي اللهَ في النّساء، ومن جانب آخر فإنّ المولى قد نهى النّساء عن التهتّكِ والظّهورِ بمظهر المُسْتهترات، أو أنْ تسلك إحداهنّ سلوكاً في الطّريق لِلَفْتِ النظر سواءَ في مَشْيتها، أو لبسها وكلامِها، أم في صوتها الذي يجب ألاّ يرتفعَ، وعليهنّ عدمُ لبسِ الفاقع من الألوان والمكشوفِ من الثياب1.
وقد حَرَّمَ مذهبُ التّوحيد تعدَّد الزّوجات. لذلك، فالمرأة الدّرزيّة هي سيّدةُ بيتها من دون أن ينازَعها منازع. كما حَرَّمَ المذهبُ أيضاً الزّواجَ بطريقةِ التّهديد أو التّرغيب إذْ “لا يتزّوجُ أحدٌ بالرّغم منه”. وإذا أَجبر وَليُّ أمرِ فتاةً على الزّواج، فلها الحقُّ في إبطالهِ أمام أولي الأمرِ من الموحّدين، ويُعاقَبُ الأبُ ــ الوليّ ــ عقابا” أدبيّا”.

مكانة اجتماعية رفيعة
إنّه لَأمرٌ مُشتَهر أنّ أكبرَ إهانةٍ في نظر الموحّدين الدّروز هي التعرّضُ للعِرض ــ النّساء ــ وتستوي في ذلك نساؤُهم ونساءُ غيرهم، حتى الأعداء. فهم يوجِبون لهنّ الصَّوْنَ والاحترام، حتى إنّ قاطعَ الطّريق منهم الذي ثارَ على الفرنسيين في عهد انتدابهم على لبنانَ، وأطلق الناسُ عليه لقبَ “روبن هود” كان يرفعُ يدَه عن المرأة الفرنسيّة أو غيرها من النّساء باحترامٍ، ويعفُّ عمّا مع أيّ منهنّ، وهو يعلم أنّ رفقاء السفر حين رأوه خبّأوا محافظَ نقودِهم في مطاوي ثيابِ النّساء.

“من الفروضِ التّوحيديّة مساواة الرّجل لزوجته بنفسه في كلّ شيء وأن يقسّمَ بينه وبينها كلَّ دَخْلِه وأن يستشيرَها في كلّ أموره وأن يحترمها”

النصّ والصورة
الصّورة في باحة القرية: مناديلُ بيضٌ كسربِ حمامٍ حطّ على دوحة، مناديلُ تنحدرُ من على الرّأسِ التفافاً حول الكتفينِ إلى ما دونِ الخَصرِ. ثيابُ المرأةِ هادئةُ الألوانِ، أمْيَلُ ما تكونُ إلى العمقِ والقتامة، بسيطةٌ تتهدّل بحرّيّة في خطوط تسيلُ هَوْناً حتى لا تعلو عن سطح الأرض إلاّ قليلاً، وتستديرُ المناديلُ البيض استدارةَ الهالاتِ بوجوه – إنْ هي التمّت على فرحٍ ــ ففي بشاشةٍ رَضِيّة، أو على حزنٍ ففي أسىً وَقور.
من باحة المناديلِ هذه يستطيع بحثُنا أنْ يستمدَّ حقائقَه ونماذِجَه للمرأةِ الدّرزيّة، فهي هناك في بيئتِها الأصلية على سجاياها وخصائِصِها المُمَيّزة.2
تمثّلُ المرأةُ في مجتمعها الدّرزيّ رمزاً للشّرفِ والكرامة3. كما تمثّلُ العنصرَ الأوّلَ والضروريَّ في إقامةِ عائلة متماسكة. إنَّ هذه المكانةَ مُستقاةٌ بصورةٍ رئيسيّةٍ من تعاليمِ المذهب التوحيديّ ومبادئه، والذي أمر بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ وضروريّ، حيث يُعتبرُ التّعليم حقّاً لها لمساواتِها بالرّجل. كما خصّص لإنصافهن العديد من الوصايا.
لقد يسّرَ المذهب أو المسلك التّوحيدي الأمرَ على المرأة الموحِّدة، وساعدها في الرّياضة الرّوحيّةِ التي أوجبَها عليها. فهو صريحٌ في إِعزازِه لها وتكريِمها، فأعطى في ذلك المثلَ، ورسمَ الطّريقَ للمجتمع وللرّجل خاصّة. قال لها في ما قال:” إنّ المقصود بمخاطبة النّساء ودعوتهنّ للمسلك القويم لم يكن فقط حُنُوّاً عليهنّ، بل “اجلالاً وشرفاً وإعزازاً”.
ويظهر جلِيّاً في التراث التوحيدي، ورواد المسلك القويم للنّساء أسلوب الاحترام ومناداة العقل، كما يظهر فيه معنى التّشاورِ والاستفتاء، ومعنى موقفِ العاقلِ من العاقل، وتكليف الإرادة الحرّة في الاختيار. إذ أن مسلكها الذي سيغدو دستورَ حياتها، ومرتكزَ إيمانِها لا يتقرّر بضغطٍ، بل بإرادة واعية من المرأة، وعقلٍ ومَلَكَة تمييز.
إنّ عدَم تعدّدِ الزّوجاتِ في مجتمع الموحّدين الدّروز، زاد من اقدام المرأة، وعمّقَ شعورَها بالعزّة والكرامة والاستقرار النفسيّ. وقد حـرَّم مذهب التّوحيد تعدّدَ الزّوجاتِ لتحقيق العدل وفقاً للآية الكريمة” وإنْ خِفْتم أنْ لا تعدلوا فواحدة”، وقد رافق هذا التّحذير توكيد من الله تعالى بقوله “ولن تستطيعوا ان تعدِلوا بين النساءِ ولو حرِصْتم”. ومن نصائحِ الخليفةِ المعزّ لدين لله لأتباعه أنْ “لا يميلوا إلى التكثيرِ من النساء، بل يكتفي الرجلُ بزوجةٍ واحدة، فحسبُ الرّجلِ الواحدُ المرأة الواحدةَ”. ويقول المؤرّخون إنّ ما يسترعي الانتباهَ هو إشارةُ المُعزِّ لدين لله إلى زوجته كرفيقةٍ يبحث معها الشؤونَ العامّةَ وكشريكة في مجالسه، وإنْ كان ذلك من وراءِ حجاب4.
فالمرأةُ في مجتمع الموحّدين هي” سيّدةُ بيتها، تتمتّع بالاحترامِ والكرامة والطمأنينة على مصيرها فلا ينازعُها منازعٌ، بل تحظى بمحبّة زوجِها وأولادِها وعائلتِها. وكانتِ البنتُ تُربّى منذُ نعومةِ أظفارِها لتكونَ زوجةً صالحة، لأنّ العائلةَ تُعتبر مؤسّسةً مقدّسة، فعليها أن تعيشَ بوئامٍ وفضيلة مع زوجها ومن أجل استقرار أسرتها وهنائها وصلاح أولادها.
والعمل بين الزّوج والزّوجة تعاونيٌّ بكلِّ ما للكلمةِ من معنى. المرأةُ شريكُ الرّجل، ولم تقتصر مساهمتُها على حفظ التّراثِ والتقاليد وتربية الأطفال، والمحافظةِ على كيان الأسرة من حيثُ التّماسكُ الاجتماعيُّ والأخلاقيُّ فحسب، بل ساهمت مساهمةً فعليّةً في الإنتاجِ الاقتصاديّ والماديّ. فكانت اليدَ اليمنى للرّجل من حيثُ المشاركةُ في أعمال الحقل والأرزاق، أو إدارة المنزل وتأمين الغذاءِ والكساء للعائلة.

المرأة في ميادين الحياة
في مجتمع الموحّدين الدّروز، هناك الكثيراتُ من النّساء ممّن اتّبعنَ سيرةَ التّقوى والتّقشّف، وابتعدنَ عن الحياةِ الدّنيا ليكرّسنَ وقتَهنّ للصّلاة والعبادة؛ ففي قرى الشوف وعاليه والمتن وحاصبيا وراشيا وجوارها، وفي بيروت سيّداتٌ تقيّاتٌ تصعبُ الإحاطةُ بهنّ جميعاً، وعلى سبيل الذّكر لا الحصر نذكر:
على الصّعيد الدّينيّ، “ السّتُّ سارة والأميرَة نفيسة التنّوخيّة التي حفظت الكتابَ العزيزَ عن ظهر قلب وهي بنتُ سبعِ سنوات”5. وعلى الصّعيد السّياسيّ، نذكر الأميرةَ “طيبة معن” والدة الأمير قرقماز، وأم دبّوس أبي اللمع والسّيّدة نَسَب التّنوخيّة والدة الأمير فخر الدّين الثاني والسيّدة حبوس أرسلان زوجة الأمير عبّاس أرسلان، والتي اغتالها الأميرُ بشير الثاني بكمين أعدّه خِصّيصاً لها. والسيّدة نايفة ابنة الشّيخ بشير جنبلاط وزوجة الشيخ خليل شمس. والسّيّدة نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط التي لعبت دوراً” سياسيّاً كبيراً” في لبنانَ خلال الانتدابِ الفرنسيّ، وبدايةِ عهد الاستقلال.
وقد قيلَ كثيرٌ في تقييم السّتّ نظيرة، ومن ذلك القولُ الشائع: إنّ الكُبراءَ والأجانبَ الّذين يزورون لبنان لا يكونون قد أنصفوا أنفسهم ما لم يزوروا مَرْجِعَين هما: البطريرك المارونيّ، والسّتّ نظيرة جنبلاط في المختارة.
وفي هذا الأطار، لا بُدّ من الإشارة إلى بعضِ العلاماتِ البارزة في مسيرةِ بعضهنَّ، كالسيّدة نايفة جنبلاط مثلاً، والتي قال فيها الدكتور حَريز” كانت السيّدةُ نايفة جنبلاط على جانب عظيم من الذّكاء والحصافةِ والرّصانة. وكانت تقيّة جدّاً” وعملت على درءِ المخاطرِ والنّوازل عن أهل حاصبيّا، وخفّفت الكثيرَ من الوَيلات والمصاعب”، كما يتكلّم أحدُ معاصريها، وهو الشّيخ جمال الدّين شُجاع قائلاً بأنّ”العطفَ الفائق والثورةَ النفسيّة العنيفة التي ألمّت بالسيّدة نايفة، أثناء محنة 1860 في حاصبيّا نفسها، برهنت على أنّ السيّدةَ قد ارتقت إلى أرفعَ مستوياتِ الإنسانيّة. لقد برزت أريحيُّتها، وانفجر حنانُها وعطفُها على المشرّدين المنكوبين من إخوانِها المسيحيين، بشكل لم ترهُ عينٌ. لقد فتحت منزِلَها غرفةً غرفة، وقدمّت كلَّ ما في وسعها من عَوْن وغذاء. ثمّ إنّها لمّا حوصرت قلعةُ آل شهاب اندفعت بشجاعة فائقة تحت زخّات الرصاص، فوصلت إلى القلعة، وانقذت كلَّ من فيها من نساء وأطفال، وحَضَنتهم بحنان الأمّهات، حتى انقشعَ الأفقُ وزال القتال”. وقد زار الأمير شكيب أرسلان حاصبيّا، والتقى السيّدة نايفة وهي في آخر عهدها فكتب عنها:”لقد زرت كثيراً من الكُبَراء البارزين والفُصحاء، فلم يعتَرِني تأثيرٌ، كبعض ما أثارتني شخصيّةُ هذه السيّدة”6.

المرأة في المعارك
وعلى الصّعيد العسكريّ، كانت المرأة الدّرزيّة تقف في كثير من الأحيان إلى جانب إخوتِها وأبيها وأقاربِها، تساعدُهم بمختلف الوسائل، حتى إنَّ بعضَهنّ خُضنَ المعاركَ في ساحات القتال، واندفعنَ بين المقاتلين، يَحثُثْنَهُنَّ على القتال ويبثُثْنَ النّخوةَ والشّجاعةَ في نفوسهم، ويفرِضنَ وجودَهُنّ عاملاً هامّاً في تغيير مجريات الأحداث. وقد كانت هذه حال سعدى ملاعب مثلاً أثناء معركة “عيون” بين بني معروف في جبل العرب وبين الجنود العثمانيين عام 1895، إذ حصل في تلك المعركة التّاريخيّة أنْ تقهقر فرسان الدّروزُ القليلو العدد في بداية المواجهات أمام جحافل الجيش العثماني، وإذا بشبح يخترق الجموعَ المبعثرةَ ويصرخ فيهم:” إلى أين؟ رَمّلوا نساءَكم ويتِّموا أطفالكم. ولا تتراجعوا فَتُهتَكُ أعراضُنا؟؟ قالتها باللهجة العاميّة، وكأنّ حبّاتِ قلبِها تتناثر مع الكلمات، وما زالت تصْرُخ بهم وتستقبل نار العدوّ، حتّى ارتدَّ المقاتلون مُستميتين وتواثبوا، وصمدوا، وتلاحموا تلاحُماً أحبَط هجوم الجحفل العثماني الذي انكفأ جندُه وتبعثروا، فنال منهم المجاهدون قتلاً كبيراً، وعاد هؤلاء بهتافات النّصر والزغاريد. كذلك كانت الحالُ بالنّسبة لبعضِ الفتيات والنّساء الأُخرياتِ اللواتي لعبن دوراً استنهاضيّاً مماثلاً خصوصاً في معركة المزرعة الظّافرة ضدّ جيوش الفرنسيّين الحديثة عام 1925، وقد حفظ التّاريخ المواقف المجيدة للسّيّدة “بُستان شلغين” و “شمّا أبو عاصي” و “عبلا حاطوم” و “ترفة المحيثاوي” وغيرهنّ، واعتبر المؤرخون دورهنَّ التّعبوي، وتحرُّكهن البطولي بين خطوط القتال، وأناشيدهنّ الحماسيّة التي تحذّر الرّجال من العار في حال التخاذل من العوامل المهمّة التي ساهمت في انتصار مجاهدي سلطان باشا الأطرش في أكبر معارك الثورة، وإلحاقهم هزيمةً مُذِلّة بجيوش الفرنسيين الثّقيلة التّسليح. وما زال الدّروزُ يردّدون حتى اليوم هتافَات تلك المعركة:
لعيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك عبلا و شمّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منــــــــــــــــــــحطّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم الدبــــــــــــــــّابــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
والمدفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع مــــــــــــــــــــــــــــــــــــا منســــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّوا إلا بّْيْــــــــــــــــــــــــــــــــض الشّـــاشيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّات7

وبرزت عَمشة القنطار أيضاً في البقاع، وتميّزت بالقوّة والشجاعة والسّطوة والبطش، واشتُهرت شجاعتُها في طول البلاد وعرضها حتّى اليوم، فكان بنو معروف إذا تفرّدتْ امرأةٌ بالقوّة والسّطوة يطلقون عليها لقبَ “عمشة”، فهي عنترةُ النّساء8. كما تميّزت فاطمة حسام الدّين زوجة حسن حمّود عابد من كفرنبرخ، واشتهرت بأمرين هما: أوّلاً، شدَّةُ تديّنها وصِحّةُ تقواها. ثانياً، قوّةُ بُنْيَتها ومتانةُ عضلاتها9.

رائدات في العمل الاجتماعي
وكذلك على الصّعيد الاجتماعي، لعبت المرأةُ الدّرزّية دوراً مُهمَّاً في تأسيسِ الجمعيّات، والمساهمة في إنشاء الحركات الاجتماعية. ومثّلث السيدةُ زاهية سلمان والدة الوزير السابق صلاح سلمان، والسيّدة نجلا صعب، والسيّدة أنيسة النجّار، زوجةُ الوزير السابق فؤاد النجّار. أهمّ العلاماتِ البارزةِ على هذا الصّعيد. فقد ساهمتِ السيدةُ أنيسة النّجّار في تأسيس جمعيّة “نهضة المرأة الدّرزيّة”، كما انْتُخبت السيّدة زاهية سلمان رئيسةً لـ “جمعية رعاية الطّفل في لبنان”، والتي كان لجمعيتِها هذه مدارسُ ابتدائيةٌ، وروضاتٌ للأطفال في القرى النائية. كما انتُخبت السيّدة نجلا صعب رئيسةً لـ”المجلس النّسائي الّلبناني” الذي يضمّ ستّاً وتسعين جمعيّةً من جميع أنحاء البلاد.

المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية
المدرسة الإنجيلية في عين زحلتا . الإرساليات لعبت دورا في التشجيع على تعليم المرأة الدرزية

نظيرة زين الدين السبّاقة
وليس خافياً أيضاً تلك الانتفاضةُ الأدبيّة والاجتماعية التي قامت بها السيدة نظيرة زين الدين ابنة القاضي الكبير سعيد زين الدين وزوجة محافظِ مدينة بيروتَ سابقاً السيد شفيق الحلبي، وكان لأفكارِها عن الحجاب، وتحرر المرأة، تأثيرٌ كبيرٌ أدّت لردّةِ فعلٍ كبيرة، انقسم على أثرِها رجالُ الفكر والدين إلى قسمين، أيّدها أحدُهما بينما عارضها القسمُ الآخر.
وكانت السيدة نظيرة زين الدين من اوائلِ من أسّسَ الحركةَ النسائيّة الإسلاميّةَ في لبنان. كما ساهمت في تأسيس “اتحاد النساء العرب، واضعةً في ميثاقِه موادَ ذاتَ قيمةٍ عالية، تختصُّ بحقوقِ المرأة المسلمة وحريّتِها وتربيتها.
وفي ميدانِ الفنون كان الدروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفظ. وكان للمرأةِ من التصوّفِ والتحفظِ النصيبُ الاوفى، وهي الموصاةُ “بألا تضحكَ من الفرحِ ولا تبكي من الخوفِ والجزع”. فلم نعرف بها أدباً أو غناء في هاتيك الحقبة من الزمن إلاّ الزغاريدَ في الأفراحِ والندبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتسجيلِ والدراسة، لما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصدقِ التعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولما ينبضُ به جيّدهُ من نفحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في ميدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النساء الدرزياتِ كنَّ على العمومِ يعرفنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النهضةِ الصحيحةِ إلى أواخرِ القرن التاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين:
وفي مَيْدانِ الفنون كان الدّروزُ دائماً عازفين عن الغناءِ والرقصِ والموسيقى، لما اتّصفَ به مجتمعُهم من تصوّفٍ وتحفّظ. وكان للمرأةِ من التّصوّفِ والتّحفّظِ النّصيبُ الأوفى، وهي المُوصاةُ “بألاّ تضحكَ من الفرحِ، ولا تبكي من الخوفِ والجَزَع”. فلم نعرف منها أدباً أو غناءً في هاتيك الحقبة من الزّمن إلاّ الزّغاريدَ في الأفراحِ، والنّدبَ في المآتم، وهو فنٌّ له في كلّ عهدٍ نساءٌ يختصَّصْن به. على أنّه أدبٌ شعبيٌّ جديرٌ بالتّسجيلِ والدّراسة، لِما ورد فيهَ من شواردِ المعاني وصِدقِ التّعبيرِ عن الأحاسيسِ العميقة، ولِما ينبضُ به جَيِّدُهُ من نفَحاتِ الفنِّ الأصيل.
وأمّا في مَيْدانِ العلوم، فإنّ سوادَ النّساء الدّرزياتِ كُنَّ على العمومِ يعرفْنَ القراءَة لغايةِ الاطّلاعِ على الدّينِ ودروسِه. وستتأخّرُ بواكيرُ النّهضةِ الصّحيحةِ إلى أواخرِ القَرن التّاسعَ عشَر، ولا تنطلقُ إلاَّ بعدَ العقدِ الأوّلِ من القرنِ العشرين.

” مذهب التوحيد أمرَ بتعليمِ النّساءِ كواجبٍ إلزاميّ واعتبره حقّاً مُصانا لهنّ لمساواتِهن مع الرجــال. كما خصّص لإنصافـــهن العديد من الأحكام والوصـايا.  “

دور الإرساليات
في أواخرِ القرنِ التّاسعَ عشَرَ ظهرفي لبنان رجل أميركيّ اسمُه “مستر برد”، وهو أوّلُ رئيسٍ لمدرسةِ البناتِ الأميركيةِ في صيدا، وكان يجوبُ القرى الدّرزيةَ بحثاً عن فتياتٍ درزيّاتٍ يقبلُ ذووهُن بإدخالهنّ هذه المدرسةَ، فيكنَّ طليعةً تتبعُها أُخْرَياتٌ، ويتخيّرُ وجيهَ كلِّ بلدٍ فيزورُه. وكان أوّلَ من استجابَ للمستر “بِرْد” من الآباءِ الدّروز رجلٌ عصاميٌّ ذو ثقافةٍ لُغَويّةٍ، وشَغفٍ بالشّعرِ العربيّ وسَعيٍ جادٍّ بطلبِ الكتبِ وتثقيفِ نفسِه عليها، واستقلالٍ فكريّ وإرادةٍ صلبة، اسمه الشيخ أبوعلي محمود حسن من عثرين – الشوف. في غدوةٍ من شهر تشرين الأول عام 1890، كنتَ ترى فتاتين تركبان فرساً، يصحبهُما أخوهما وأجيرٌ بينهما، يأخذون طريق جِزّين ــ صيدا، يسجّلون أوّل فتاتين درزيّتين داخليّتين في تلك المدرسة. وتلحقُ بناتُ آل تلحوق بمدرسةِ شملان الإنكليزيّة، وغيرهُن بمدرستيّ عين زحلتا وبعقلين الإنكليزيّتين. وكُنّ طلائعَ لطلبِ العلمِ تميّزن بالنَّهمِ في التّحصيل. واتّصفت خَزْما يونس بالعقلِ المتوقّدِ والتّفوّق، وحاولت نظمَ الشّعرِ بالإنكليزيّة، وهي خالةُ الشّيخ نسيب مكارم. وكان آباءُ هؤلاء الفتياتِ يتلقَّوْنَ بسببِ هذه الأسبقيّةِ سهامَ الأذى والتّجريحِ بشجاعةٍ وصدورٍ رحبة.
بهؤلاءِ الطّلائعِ ترتبطُ اليوم الأجيالُ المتلاحقةُ في المدارسِ صعوداً إلى الجامعاتِ، وأصبحَ لنا منها نماذجُ وبشائرُ في المِهنِ العلميّة.

” نايفة جنبلاط زعيمة الرّحمة إبّان أحداث 1860 ونظيرة جنبلاط مِحور السياسة الّلبنانيّة ونموذج الزّعامة المحنَّكة والآســـرة للقلـــــوب “

المرأة والــــزواج
يشجّعُ الموحدون الدّروزُ الزّواجَ ولا سيّما الزّواجُ المبكرْ، وقد كان الزّواج من الأقرباءِ شائعاً جدّاً نظراً لطبيعة مجتمعِ الموحدّين الصّارمةِ، وعدمِ سماحِهم بالاختلاط بين النساءِ والرّجال إلا ضمنَ حدودٍ دقيقةٍ وضيّقة. وفي الماضي غيرِ البعيد، لم يكن باستطاعةِ طالبِ الزّواج أن يتعرّفَ على عروسِه أو يراها قبلَ ليلةِ الزفاف. لكنّ ظروفَ العيشِ التي تطوّرت مع اقترابِ الموحّدين من الحياةِ العصريّة، سهّلت عمليّةَ التعارفِ التي تسبقُ الخِطْبة، وأصبحت عمليّةُ زيارةِ الشّابِّ لمنزلِ الفتاةِ للتعرّفِ عليها أوّلا،ً وطلبِ يدِها ثانياً، من الأمورِ الدارجةِ والطبيعيةِّ في مجتمعِ الموحّدين.
بعد الزّيارة، أو الزياراتِ التّمهيديّة من قِبَل طالبِ الزّواج، يُفاتحُ ذوو العريسِ أهلَ الفتاةِ برغبةِ العريس في الزّواجِ بابنتِهِم. عندئذٍ يقومُ أهلُ الفتاةِ بالتقصّي عن وضعِ العريسِ الاجتماعي والمادي والعائلي، وعن سمعتِه وسمعة أهله الأخلاقيةِ وطبيعةِ عملِه، إلى غيرِ ذلك، وقد يذهبون بزيارةٍ استطلاعيةٍ إلى بيتِ العريس للتعرفِ مباشرةً على وضعه، فإذا رأى أهلُ الفتاةِ أنّ طالبَ يدِها في وضعٍ ملائم، يحدّدون مَوعداً لإعطائِه الجوابَ المبدئيَ بالقبول. وإذا كان وضعُه غيرَ ملائمٍ لهم، فإنّهم يرسلون الجوابَ بالاعتذار بواسطةِ أحدِ الأصدقاءِ المقرّبين من الأُسرتين. وفي جميعِ الحالات، يكون رأيُ الفتاةِ صاحبةِ العلاقةِ هو الأساسَ الأوّلَ للرّفضِ أو القبول. لأنَّ القواعد التوحيدية تشدّدُ على وجوبِ قبولِ الفتاة بالعرضِ وموافقتِها على الزّواجِ من طالبِ يدها.
يجتمعُ أهلُ العروس، وبعضُ الأقرباءِ والأصدقاء، وتُشْهَر نِيّةُ أهلِ العروسِ بالموافقةِ على طلبِ العريس. ويُعتبَرُ هذا الإشهارُ بمنزلةِ وَعْدٍ للعريسِ بأنّ العروسَ “أصبحت على حسابِه” وعند ذلك تُقرأُ الفاتحةُ ويُقدّمُ الشّراب المُحَلّى، وتُسمّى المرحلةُ بمرحلةِ “التتميم”.
وتعقبُ هذه المرحلةَ فترةٌ من التّداولِ والتفاوض، يتّمُ الاتّفاقُ فيها على مَهرِ الزّواجِ من مُقدَّم ومؤخّر. والمَهْر ليس ركناَّ من أركانِ الزّواج أو شرطاً من شروطِه. لأنَّ عقدَ الزّواجِ يقوم ويتمّ بين الرجلِ والمرأة بمجرّدِ تبادلِ الإيجابِ والقبولِ بينهما10، شرطَ أن يتمَّ وفقاً للأحوالِ الشّرعيّةِ التي تنظّمُه وترعاه.
والمَهر يُقسم إلى نوعين:
“المُعجَّلُ والمُؤخَّر” والمَهْرُ المُعجَّلُ هو ما يقدَّمُه الزّوجُ لزوجته عند إجراءِ العقد، أمّا المَهرُ المؤخَّرُ فهو الذي يؤجَّلُ دفعُه إلى حينِ حلولِ أحدِ الأجَلَين: الطلاق أو الوفاة”11. وبعدَ الانتهاءِ من الاتّفاقِ على المَهرِ تُعْلَنُ الخطوبةُ في احتفالٍ عَلنّيّ، ويتمُّ إلباسُ خاتَمِ الخطوبةِ وبعضِ الحُلى الّتي يقدّمها الخطيب، أو بعض أفراد أهلِه وأهلها على سبيل المباركة، وإظهار السّعادة بالمناسبة.
ولا توجَدُ قاعدةٌ تحدّدُ مقدارَ المَهرِ من حيثُ حدُّه الأدنى أو حدُّه الأعلى. لكنّ القضاءَ المذهبيّ يوصي بعدمِ المُبالغة في طلبِ المهورِ الكبيرة، مُستنداً إلى الأحاديثِ النّبويّةِ الشريفةِ وخطى السلف الصالح التي تُوصي بعدمِ المغالاة في المهور، ومنها:
الأوّل:” إنّ أعظمَ النّكاحِ بَرَكةً أيسرُه مَؤونة”. والثّاني:” إنّ خيرَ الصّداقِ أيسرُه”12.

رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا
رقص جماعي وفردي في عرس في السويدا

وبعد مرحلةِ الخِطْبةِ الّتي يُسْتحسنُ أن تكونَ قصيرةً، تأتي المرحلةُ الحاسمةُ وهي مرحلةُ عقدِ القِران. وعَقدُ القِران يتمُّ عادةً في المحكمةِ المذهبيّةِ للعامّةِ، وفي منزلِ العروس، إذا كان العروسان من الأجاويد. ويقوم بكتابةِ العقدِ شيخٌ مأذون. وقد يُجرى عقدُ القرانِ بحضورِ العَروسين شخصيّاً أو بحضورِ وكيلين عنهما كما هي العادةُ عند المُتديّنين. وبعد كتابةِ العقدِ وتوقيعِ الشّهودُ تُقرأُ سورةُ الفاتحةِ ثم سورةُ الإخلاصِ ثلاثَ مرات، تبدأُ كلٌّ منهما بالبَسملة، ثم تُتّلى خُطبةُ الزّواجِ التّالية:” الحمدُ الله الذي أبدعَ الكائنات، وأفاضَ من رحمتِه الخَيرات، وخلقَ الإنسان على أحسنِ صورةٍ فكان أشرفَ المخلوقات، سبحانَه وتعالى عن وصفِ الواصفين وإدراكِ الأنام، والصّلاةُ والسّلامُ على سيّدِنا محمّدٍ سيّدِ المُرسَلين، في كلِّ بدءِ وخِتام. وبعدُ: فإنّ الزّواجَ سُنّةٌ من سُننِ الأنبياء، وشِرعةٌ من شرائعِ البقاءِ، وصونٌ عن الفحشاء، ووقايةٌ من ربّ الأرض والسّماء. وقال تعالى:” ومن كلّ شيءٍ خلقنا زوجَين”13، و”ومن آياتِه أنْ خَلقَ لكم من أنفسِكم أزواجاً لتسكنوا إليها، وجعلَ بينكُم مودةً ورحمة”14.
وقال سيّدُنا الرّسولُ عليه الصّلاةُ والسلام:” تزوّجوا وتكاثروا، فإنّي أُباهي بكم الأُممَ يومَ القيامة”15، فأسألُه أن يلقيَ بين الزّوجين المحبّةَ والوداد، وأن يرزُقَهما النّسلَ الصًالحَ من الأولادِ، وأن يوسِّعَ عليهما الرّزقَ، وأن يحفظَهما من مكائِد الخَلق، وأن يباركَ هذا العقدَ الميمونَ إن شاءَ الله”16.
بسطتُ هذه الخُطبةَ بالتّفصيلِ لبيانِ الرّوحِ التي تحيطُ بهذه العتبةِ الفاصلةِ في حياةِ الموحّد؛ ومع عقدِ القرانِ يصبحُ مفعولُ الزّواجِ بين العروسين نافذاً، لكنَّ إقرارَه الفعليَّ يتمُّ بالاجتماعِ الصّحيح.
يتّضحُ ممّا تقدَم أنَّ الموحّدين يتزوّجون على سُنةِ اللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلّم، وأنّ أحكامَهم في الزواجِ أحكامٌ شرعيّةٌ إسلاميّةٌ مستمدّةٌ من القرآنِ الكريم والحديثِ، ومن المذهب الحَنَفي مع احتفاظِهم بخصوصيّةٍ اجتهاديّة تقضي بعدمِ تعدُّدِ الزوجاتِ تمسّكاً بقولهِ تعالى:”ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساءِ ولو حرصْتُم”17.
أمّا الخصوصيّةُ الاجتهاديّة الثّانية، فهي في عدمِ السماحِ للموحّدِ بإعادةِ المطلّقة. وهذهِ القاعدةُ قائمةٌ أصلاً على الاجتهادِ لا على النصّ. ويدافعُ الموحدون عنها بالقولِ: إنها تجعلُ الزّوجين يفكّران مليّاً قبلَ الإقدامِ على هذه الخُطوة. كما يذكرُ أحدُ العلماءِ الموحّدين إنَّ التوراةَ تنصُ على عدمِ رجوعِ المُطّقة18. ويشرحُ أحدُ الكتّابِ الدّروزِ مسوّغاتِ هذا التصرّف، فيقولُ إنّ الموحّدين لا يجيزون إعادةَ المطلّقةِ بوجهٍ من الوجوهِ تفسيراً للآية القائلة:” فإن طلَّقَها فلا تحلُّ له من بعد، حتى تُنْكَحَ زوجاً غيره، فإنْ طلّقَها فلا جُناحَ عليهما أَن يتراجعا، إنْ ظنّا أَنْ يُقيما حدودَ الله”19.
والتّحريمَ ناشئٌ عن تفسيرٍ للفقرةِ الأخيرة من هذه الآية، لأنّ عودة المُطَلّقَيْن إلى بعضهما هي اختياريّة، (فلا جُناح عليهما) إلاّ أنّهما حسب اعتقاد الموحّدين يصعب عليهما بعد الطّلاق والجفاء، وزواج المرأة بغير بعلها أنْ يقيما حدودَ الله، وأن يعودا لبناء أسرة متحابّة، وقد صدق الشاعر إذْ قال:
إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدّها مثل الزجاجةِ كسرُها لا يُجبَرُ
وهكذا، فاجتهاد الموحّدين المتعلّق بالزواجِ يحكمُه تفسيرٌ مُدقّقٌ وخاصٌّ لآياتِ القرآنِ الكريمِ يتوخّى الموحّدون من جرّائِه اجتناب الشُّبُهات، واعتمادَ ما يعتقدون أنّه أفضلُ السّبلِ للتّمسّكِ بهدي الكتّاب وتمتينِ روابطِ الأسرة20.

المرأة والطّـــلاق
لقد سمحَ مذهبُ التّوحيدِ بطلب الرّجل الطّلاق في حالاتٍ مُعيّنة، كما سمحَ للزّوجةِ بالحقِّ في طلبِ التّفريق، وفسخِ العقد إذا تعذّر استمرارُ الحياةِ الزّوجيّةِ لأسبابٍ حدّدها قانونُ الأحوالِ الشّخصيّة. فالطّلاق عند الموحّدين الدّروز لا يحصل بإرادة منفردة من الزوج لا تحتاج إلى تبرير منه، بل يمكن أن يحصل فقط بحكم قضائي من قاضي المذهبِ بعد النّظر في مُجريات دعوى الطّلاق، والحيثيات المُقدّمة من كلٍّ من الزّوجين المتخاصمين.
وبالطبع فإن هذا يتطلبُ وقتاً من الزمن، قد يعودُ الزوجان خلالَه عن نية الطلاقِ ويتوصّلان بواسطةِ المصلحين من الأهلِ والأصدقاء أو من تعيّنُهم المحكمةُ المذهبية، إلى وفاقٍ يكونُ لصالحِ العائلةِ والأولادِ وللزوجين أيضاً. أمّا إذا تعذّرَ إصلاحُ ذاتِ البينِ بين الزوجين، فقانونُ الاحوالِ الشخصية الصادر عام 1948، المستمدُّ من التعاليمِ الدينيّة ومن التقاليدِ والتراث، يشترطُ على الزوجِ أن ينصفَ زوجتَه، وكذلك أن تنصف الزوجةُ زوجها.
فأعطى القانون المذكور القاضي حق التعويض على المتضرر من الزوجين بما يزيد عن قيمة المهر وفقاً لتقدير الظروف والأسباب، أو العكس بإنقاص المهر، استئناساً لقاعدة حق الإنصاف بالملكية بين الفريقين الذي يكرسه مذهب التوحيد تبعاً لمبدأ التساوي بين الزوجين بحيث يحق لكل منهما نصف ما يملكه الآخر إذا كانت الفرقة بلا ذنب. وهذه القاعدة يمكن تطبيقها اختيارياً إذا أراد الزوجين ذلك ضمن الشروط الخاصة في عقد الزواج، وللمرأة ثروتها الخاصّة بها والتي ورثتها، وفي الكثير من الأحيان الثروة التي كونتها في عملها خارج البيت أو داخله.
كما أنًّ التّعاليمَ لم تكتفِ يتحريم إعادة المُطلّقةِ، بل حُرّمَت رؤيتها على الزّوج بعد الطّلاق، وذلك لاجتناب الأسباب الّتي قد تًسهم في بعث الخلافات وتفاقمها، وكذلك على سبيل الحيطة في أن يعود الزّوجان للّقاء ببعضهما وهما مُطلّقَين بعد أنْ تكون قد هدأت انفعالاتُهما.
وبالرّغم من أنًّ حالاتِ الطّلاقِ قد زادت نِسبيّاً في مجتمعِ الموحّدين الدّروز عن السّابقِ لأسبابٍ عديدة، من أهمّها النّزوحُ إلى المدينةِ لطلبِ العلم والرّزقِ والانفتاحِ على العالم الغربي علماً وثقافةً، وعن طريق وسائلِ الاعلامِ بجميع انواعِها المكتوبةِ منها والمرئيةِ والمسموعةِ، والسّينما وخصوصاً التّلفزيونَ والفيديو والخليوي والإنترنت التي دخلت كلها المنازلَ بإذنٍ أو بدون إذن.
ولا شكّ في أنّ طموحَ المرأة للمزيدِ من العلمِ والتّخصّص، حتى بعدَ الزّواج، ودخولَها ميدانَ العملِ خارجَ البيت، وما يتبعه من حريّةِ التّصرّف، أو التّقصيرِ من حيثُ الاهتمامُ بتربيةِ الأولاد ورعايتِهم، أو إهمالُ الزّوج، أو التّفاوتُ الحاصلُ بين الزّوجين من حيثُ المستوى العِلْمِيُّ والثّقافيُّ والمِهنيّ، وأيضاً بسبب مُتطلّباتِ الحياةِ المتزايدة وضغوط الحالةِ الاقتصاديّة وغلاءِ المعيشة، كلّ ذلك يضاعف الضّغوط الماديّة والنفسيّة على الزّوجين، فتزداد بسبب ذلك حالاتُ التفكّكِ العائّلي، وبالتالي عددُ حالاتِ الطّلاق.
رغم كلّ هذا لم يتفسّخْ مدماكُ العائلةِ، ولم يتصدّعْ النّسيجُ الاجتماعيّ عندَ الموحّدين الدّروز. لأنَّ بعضاً من الموروثِ كالنّسغِ ما يزالُ مخزوناً احتياطيّاً، ويظهرُ هذا أكثرَ ما يظهرُ عندما تقومُ المرأةُ الدّرزيّةُ بدورِ الأمّ، فيصبحُ الأملُ في أولادِها، ويتحوّلُ حِرمانُ الماضي وما افتقدَت من إمداداتٍ للنّفسِ تعويضاً بأولادِها، ويأخذُ البدرُ استدارةً أوسعَ، وشخصيتُها المُهابةُ تكبر في عائلتِها ومجتمعها عندما تلبسُ ثوبَ الدّينِ كفعلِ يقين. فيصبحُ إيمانُها ثوبَ رِفْعَتِها الجديد، لاسيَّما إذا كانت تقفُ على أرضٍ صلبةٍ من الإيمانِ والثّقافةِ والعلمِ. ابتدأتْ رحلتُها هي لتستمرَّ الحياةُ، “نور على نور” وكأنّي هنا أرى طيفَ أميّ، وغيري كذلك…

عماطور

عَمّــاطور الزّاهرة
بلدةُ الرِّجالات والمَشايخ الثّقات

سُمّيت «بَلدة الموحدين» لكَثرة مجالسها وخلواتها
وبرز منها خَمسة مشايخ للعقل كان لهم شأنُهم

الشّيخ محمّد أبو شقرا عهده استمرّ 42 عاماً
وأكبر إنجازاته، الوَحدة وبناء المؤسّسات

كنيسة البلدة القديمة شارك الدّروز في بنائها
ولازالت رمزاً للحضور المسيحيّ في عَمّاطور

مثل معظم أسماء قرى الجبل يعود اسم قرية عمّاطور» إلى الحقبة الآرامية وأصله باللّفظ الآرامي “en mayya d tura” ومعناه عين ماء الجبل، وقد تكون القرية أُعطيَت تلك التّسمية نسبةً إلى العَيْن الرّئيسة عند مدخلها الجنوبي والتي تسمّى اليوم «عين العريش» وربّما كان السّبب أيضاً وفرة الينابيع فيها. لكنْ وفي أغلب الحالات فإنّ المعنى الآرامي لاسم القرى في الجبل سقط في أحيان كثيرة مع الزمن لتحلّ محلّه مضامين جديدة متّصلة بحياة سكانها العرب الذين أعمروها منذ ما بعد الفتح الإسلامي، وغالبا ما تُعرف القرى اليوم بمعايير مثل أهمية عائلاتها أو ثقلها البشري أو السياسي أو التّضحيات التي قدمها أبناؤها في الملمّات.  وبهذا المعنى فإنّ عمّاطور المعاصرة عُرفت بكل هذه الأمور مجتمعة، فهي بلدة ذات ثقل بشري وسياسي وأهمية تاريخية وقد اشتُهرت بقوّة عائلاتها وتعليم أبنائها وأدوارهم البارزة في مواقع الدّولة والسّلك العسكري والتّعليم والسّياسة والدبلوماسيّة والقضاء والأدب والثقافة فضلا عن كونها أنجبت مشايخ عقل ثقات كان لهم أيضا أدوار بارزة في تاريخ المنطقة والموحّدين الدّروز.  فماذا نعرف عن هذه البلدة العريقة وعن أعلامها وآثارها وعن مساهمتها ومساهمة أبنائها في العمل لرفعة المنطقة ورفعة الوطن والمجتمع.

جُغرافية البلدة
تمتدّ عمّاطور على مساحة تقارب 577 هكتاراً أو ما يعادل خمسة ملايين وسبعمائة وسبعين ألف مترٍ مربّعٍ. وتتّصل أراضي عمّاطور بالأراضي التّابعة لمحافظة لبنان الجنوبي عبر القرى التالية: الميدان – جل ناشي – الغبّاطية – عاريّ (جنوباً). وتّتصل بقرى الشوف عبر: مزرعة الشوف (غرباً) يفصل بينهما نهر الباروك. عين قني (شمالاً). بعذران – حارة جندل – باتر – جباع (شرقاً). والجدير ذكره أنّ في عمّاطور 365 نبع ماء (على عدد أيام السنة!) تساهم في ريّ المساحات الزّراعية الشاسعة، رغم عدم اعتماد الأهالي على الزّراعة بشكل أساسي.
تبعد البلدة عن العاصمة 55 كلم، وعن مركز القضاء، بيت الدين، 14 كلم. وترتفع عن سطح البحر 850 متراً مما أعطاها مُناخاً مُميّزاً في الصّيف وفي الشّتاء، كما أنّ موقعها على الطريق العام بيروت- جزين (عبر الشوف) وعلى التقاطع الذي يربطها ببلدة بعذران وبلدات الشوف الأعلى جعل منها مركزاً مهمّاً ونقطة رئيسية لأهالي القرى المجاورة.
عدد سكّانها اليوم نحو 4,300 نسمة يتوزّعون على عدّة عائلات درزيّة ومسيحيّة، وتشكل عائلتا أبوشقرا و عبد الصمد نسبة 80% تقريباً من عدد السكان، أمّا النسبة الباقية فتتوزع على العائلات التالية: ناشي، ربَح، ناصيف، حرفوش، قنديل، الدّاهوك، سْليم، جوديّة، حسنية وأبوعاصي (دروز). وعائلات: سالم، جبارة، لْطَيْف، أبورعد، طوبيا، صوايا وكنعان (مسيحيّون).

ثروة مياه واقتصاد زراعيّ ــ حِرفي
كانت عمّاطور، وفقاً لمحاضر مجلس الإدارة الكبير في متصرفيّة جبل لبنان، “من أغنى القرى خراجاً ومالاً في الجبل المذكور، خلال النّصف الثاني من القرن التاسع عشر” وقد شجّع الإنتاج الزراعي الضّخم على قيام مؤسّسات صناعية، فانتشرت في البلدة المطاحن و معاصر العنب والزّيتون، وكان فيها أيضاً معصرة حلاوة وثلاثة أفران، ومحلّ صبّاغ، ومحلّ لتصنيع الأحذية، ومحل صياغة، و نول حياكة وربما أكثر. ونظراً لاتّساع الأراضي المزروعة (آنذاك) ومنعاً لأي خلافات على المياه وضع أهالي عمّاطور اتّفاقية لتوزيع مياه الريّ هي الأولى في المنطقة، ونصّت الاتفاقية على ما يلي حرفيّاً:
اتّفاق ما بين أهالي الضّيعة – عين ماطور على مياه الضّيعة وتقسيمها إلى عدّانين (12 ساعة):
حصة بيت بو شقرا أربعة أيام (ليل نهار) حصة بيت عبد الصمد أربعة أيام (ليل نهار) حصّة النصارا وأولاد الضّيعة: يوم وليل وكّل من تعدا او خالف يكون عنده خمسين قرش الى حاكم الوقت ويكون الله وأنبياؤه خصمه.
حرّر ذلك وجرا في ثلاثة أيام خَلت من شهر جمادى الأول من شهور سنة الف ومئتين وعشرين هجري (1805 م)».
(سيرة الشيخ محمد قاسم عبد الصمد) للأستاذ عادل سليمان عبد الصمد.
لكنّ الماضي الزّراعي الزّاهر تراجع مع الأسف كما حصل في كل مكان، وبات أغلب سكّان البلدة يعتمدون، وبشكل أساسيّ، على الوظيفة (في القطاعين العام و الخاص) وقد شجّعت مكانة البلدة وقوّة عائلاتها على انخراط رجالاتها منذ عصر مُبَكِّر بالخدمة العامّة وسجل البلدة حافل بكوكبة من أبنائها الذين بلغوا مراتب عليا في الدّولة اللّبنانية (مثل رئاسة أركان الجيش اللبناني وقيادة الشرطة القضائية كما أنّها أنجبت العديد من القضاة والسّفراء والقناصل والمدراء العامّين، وكبار الضباط في صفوف الجيش والقوى الأمنية. ورؤساء مصالح، ورؤساء الدوائر الحكومية وهذا فضلا عن عشرات الأطباء والمهندسين والمحامين وعدد آخر موزّع بين مهاجرين وأصحاب مؤسّسات ومصالح (صناعيّة ، تجاريّة) ومؤسسات تربوية ومكاتب هندسة. أمّا الذين لا زالوا يعتمدون على الزّراعة كمورد رئيسيّ فقد أصبحوا أقليّة في البلدة.

 

العين .. لكن أين الجرار ؟
العين .. لكن أين الجرار ؟

“بلدةُ الموحّدين”
كان لعمّاطور موقع ديني مرموق بين البلدات الشّوفيّة، حتى لُقّبت في حين من الأحيان “بلدة المُوحّدين” بسبب ما كان فيها من مشايخ ثقاة وخلوات ومجالس للذكر ونذكر منها خلوات المشايخ: علي حسين يوسف عبد الصمد، نجم معضاد أبوشقرا، قاسم فهد علي عبد الصّمد، محمود حسن شرّوف عبد الصمد، حمّود حيدر أبو شقرا، فارس يونس أبو شقرا، خلوات الحدّ (أبوعلي باز عبد الصمد) وخلوات الضّيعة لعائلتي أبوشقرا وعبد الصمد، ومجلس آل سْليم.
كما ارتقى خمسة مشايخ من عمّاطور سدّة مَشيخة عقل طائفة الموحّدين الدّروز هم: الشيخ ناصيف أبو شقرا، الشّيخ يوسف عربيد أبو شقرا، الشّيخ حسين سلمان عبد الصمد، الشّيخ محمد قاسم عبد الصمد والشّيخ محمد داوود أبو شقرا.

كنيسة عمّاطور
تُمثّل عمّاطور منذ القدم نموذجاً مُشَرِّفاً للمحبّة والتّعايش الدّرزي المسيحيّ، وتُعتبر كنيسة البلدة من أقدم الكنائس في الشّوف، وكانت من قبل تشغل موقعاً آخر في البلدة كان يعرف باسم محلة الكنيسة، ثم أشيدت الكنيسة الحاليّة في أواخر القرن التاسع عشر وشارك مواطني البلدة الدّروز أيضاً في بنائها.
يشكّل المسيحيّون في عمّاطور نسبة لا تقل عن 10 % وهم ينتمون إلى الكنيستين الكاثوليكيّة والمارونيّة وهم مُمَثّلون في المجلس البلدي، وبلغ كاهن عماطوري من آل جبارة مرتبة دينية مرموقة عندما جرت سيامته مُطراناً. ويقيم عدد كبير من مواطني البلدة المسيحيّين بصورة دائمة فيها بينما يحرص الباقون منهم الذين يقيمون خارجها بداعي العمل أو غيره من الأسباب، على أن يفِدوا إليها أيام الآحاد والأعياد وفي المناسبات للمشاركة في المراسم والاحتفالات الدينية. وهناك راعٍ للكنيسة يحضر من مطرانيّة صيدا ليترأّس القداديس أيّام الآحاد والأعياد وكذلك في المآتم حيث أنّ 90 % من المسيحيين يَدفنون موتاهم في عمّاطور، ويتشاركون مع أبناء بلدتهم الدّروز في غالبيّة المناسبات. ويلاحظ أنّ مالكي الأراضي المسيحيّين لم يُهملوا أرزاقهم بل هم يعتنون بها مباشرة أو بواسطة وكلاء وعمّال زراعيّين.

أحد شوارع البلدة
أحد شوارع البلدة

عمّاطور سياسيّاً
منذ القرن الثامنَ عشَرَ، لعبت عمّاطور دوراً بارزاً على الصّعيد السّياسي، و قد تجلّى هذا الدّور في عدة امتيازات لم تحصل عليها أيّة مدينة أو منطقة في لبنان، أهمّها أنّه كان على الفارس الترجّل عن حصانه أثناء مروره بساحة عمّاطور، حتّى لو كان الأمير بحدّ ذاته. و كان من يطلب الحماية من إحدى العائلتين (أبو شقرا وعبد الصمد) يُفرج عنه وتلازمه الحماية مدّة سنة وأنّ الأسير لا يمرّ في عمّاطور مقيّداً أو مَكتوفاً بل يجب أنْ يُفَكَّ قيدُه.

حاضرةُ عِلم وثقافة
كان أهالي عمّاطور منذ القدم تواقين إلى العلم والبحث والمعرفة. وقد أنشأ الشّيخ اللّامع سليمان نجم أبوشقرا الذي، كان يلقّب بـ “الفقيه”، أوّل مدرسة في عَمّاطور عام 1870، وكان يمتلك تجهيزات لتسطير الورق وقطعه وخياطة الكتب.
وفي العام 1905 أسّس الشيخ نايف أبوشقرا مدرسة أخرى. وفي العام 1912 أسّس السّيد نعمان ابوشقرا مدرسة ثالثة. وفي العام 1922 أسس الاستاذان أمين عبد الصمد وعارف أبوشقرا المدرسة الرابعة. وفي العام 1934 افتُتِحت المدرسة الرّسمية وكانت أوّل مدرسة رسميّة تكميلية في الشّوْف توالى على إدارتها كلٌّ من الأساتذة:
1. الأستاذ سامي أبوشقرا الذي كان له الفضل الأوّل في نهضة مدرسة عمّاطور ولما قدمه من تَفانٍ وسهر وبعد فوز أوّل دفعة بالشهادة التّكميليّة انشأ الصّف الأوّل الثّانوي دون العودة لوزارة التّربية.
2. الأستاذ سمير لْطَيف
3. الأستاذ حسن ضاهر أبوشقرا
4. الأستاذ شوقي أبوشقرا
5. الأستاذ منصور أبوشقرا
6. وحاليّاً الأستاذة جيهان أبوشقرا
وفي العام 1936 افتُتحت مكتبة تحت عنوان (غرفة المطالعات الديمقراطيّة).
وحوالي سنة 1942 أسّست السيّدة حميدة أبوشقرا مدرسة.
ولم تكن المدرسة الرسمية في عمّاطور لأبناء البلدة فقط فقد تخرّج من تكميليّتها عشرات الطّلّاب من باتر ومزرعة الشّوف وجباع وبعذران وعين قني ومْرستي وغيرها من القرى المجاورة.

بلدةُ الطُّموح
لعبت عمّاطور دوراً فاعلاً في جميع الحركات منذ القِدم ففي عهد فخر الدين الأوّل أيّ سنة 1516 تملّكت عمّاطور بعائلتيها عبد الصمد وأبو شقرا أراضي إقليم التّفاح الذي كان يضمّ 24 قرية، وبقيت هذه الحِيازة في يد العائلتين إلى أنْ استولى والي صيدا على قسم من إقليم التّفاح.
وقد نبغ وتميّز من هذه البلدة جمعٌ من الرجال في عدّة مجالات لا بدّ من ذكرهم بصورة مُختصَرة:
• أحمد علي منصور عبد الصمد عُيّن وكيلاً عن الشّوف الحَيْطي (الآعلى) في تحقيقات شكيب أفندي سنة 1845.
• حسين بشير أسعد أبو شقرا الذي كان يحمل الوسام العثماني الرّابع، وبعد تقاعده من الوظيفة أحدث في عمّاطور نهضة صناعيّة.
• حسن يوسف حمد أبو شقرا عُيّن مديراً لناحية الباروك في عهد الانتداب وأحرز الوسام المجيديّ الخامس. تولّى مشيخة عمّاطور لثلاثين سنة.
• حسين محمد شاهين عبد الصمد كان مديراً لمدرسة الشّرطة في القدس درس القانون وعين مُدّعياً عامّاً ثم قاضياً في مدينة حيفا.
• داود علي أحمد أبو شقرا الذي ترقّى من شرطي ليصبح مفوّضاً عامّاً ممتازاً في الشرطة فاشتُهر باكتشافه للجرائم وملاحقة المجرمين أقيم له تمثال في عمّاطور وأطلقت بلديّة بيروت اسمه على أحد شوارع العاصمة.
• صبحي نايف حمد جنبلاط أبو شقرا تخرّج من جامعة القدّيس يوسف وعُيِّن مديراً لمتحف بيت الدّين حقّق مع الدّكتور أسد رستم كتاب “الجواب على اقتراح الأحباب” ومخطوطة “وثائق لبنانيّة”.
• ضاهر عثمان معضاد نجم أبو شقرا كان سعيد بك جنبلاط يعتمد عليه نظراً لمقدرته وحُسن إدارته وقوّة شخصيّته. عُيّن وكيلاً مع أحمد علي عبد الصمد لشكيب أفندي لتسوية أحوال البلاد وعُيّن عضواً في مجلس إدارة الشّوف وعضواً في مجلس الإدارة الكبير.
• رفيق علي عباس عبد الصّمد نال شهادة الحقوق ومارس المحاماة سنة 1932 ثم عُين قاضيَ تحقيق لجبل الدّروز، وبسبب انتمائه إلى الكتلة الوطنية وسلوكه الوطني نفاه الفرنسيّون، ثمّ عاد بعد تقلّص نفوذهم إلى القضاء وشغل وظيفة عضو محكمة دير الزّور سنة 1942 ثم حاكم صلح دير الدروز ثم رئيس محكمة بداية درعا ثم قاضي استئناف في دمشق 1958 ثمّ رئيس محكمة جنايات سنة 1959 وأسّس بعد تقاعده مكتباً للمحاماة في الشّام 1966.
• عارف يوسف خليل أبو شقرا أنشأ أكثر من مدرسة ودرَّس في مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت وأصدر مجلّة “البادية” سنة 1928 واشترك في تحرير مجلّة “الأماني” وكتب في عدّة صحف باسم مستعار “أبو ذرّ” ودرّس في الكليّة السعوديّة، وكان شاعراً وكاتباً وخطيباً له عدّة كتب وبحوث ومخطوطات وديوان شعر.
• عباس محمود نجم معضاد أبو شقرا بعد أن أنهى دروسه سافر إلى مصر وعمل محرّراً في جريدة المقطّم وتعرّف بسعد زغلول ومكرم عبيد وأحمد شوقي وحافظ ابراهيم، ثم عاد إلى لبنان ومن ثمّ سافر إلى الولايات المتحدة واشتغل في الصّحافة وكتب في “الهدى” و” البيان” و”نهضة العرب” ثم أصدر جريدة “البرهان” وانتُخِبَ سكرتيراً عامّاً لحزب سوريا الجديدة، وكان يجمع المساعدات ويرسلها إلى مجاهدي الثّورة السّورية وفي سنة 1934 حضر الى الوطن ففرضت عليه السلطات الفرنسية مغادرة الوطن خلال ثلاثة أيام. فذهب إلى اللّاذقية ثم إلى الشّام فاستقبله رجال الحركة الوطنيّة استقبالاً حافلاً أمثال شكري القوّتْلي وخالد العظم وجميل مردم بك وعمل على إزالة الخلاف وإحلال الصّلح بين أعضاء الحركة الوطنيّة وعاد إلى لبنان بعد رفع الفرنسيين الحظر عنه.
• محمّد بو شديد ناصر الدّين شبلي عبد الصمد، عُيّن ضابطاً في درك جبل لبنان في عهد المتصرّف داود باشا فنفّذ حملات ناجحة لمطاردة الأشقياء وكفّ شرورهم، ثم عُيِّن في سنة 1883 مديراً بالوكالة لمديريّة المناصف ثم وكيلاً لمديرية الجُرد ثمّ مديراً لمركز بعقلين، وبعد التّقاعد انصرفَ إلى الكتابة وألّف كتاباً ضخماً في تاريخ لبنان لم يُطبع وفُقدت مخطوطته.
• الشيخ محمد قاسم سليمان أحمد عبد الصمد من بيت وجاهة وثروة وتقوى أشرف على وقف سماحة الشيخ محمد حسين عبد الصّمد وكان تقيّاً ذا وقار وهيبة، تولّى مشيخة العقل سنة 1946 بعد وفاة الشيخ حسين حمادة واضطّلع بأعمالها بكلّ إخلاص.
• الشيخ أبوعلي ناصيف علي ابراهيم تميم أبو شقرا، شيخ جليل تولّى مشيخة العقل لمدة 15 سنة وكان على درجة رفيعة من الوجاهة والتّقوى عاصر الشّيخ علي جنبلاط، الذي كان يحترمه ويجلّه وقد أوصى بثروة طائلة إلى المجالس والخلوت والمشايخ أصحاب التّقوى وخاصة المجلس الذي يعرف باسمه: مجلس الشّيخ ناصيف.

بيت تراثي
بيت تراثي

• نسيب داوود علي أحمد أبو شقرا، بعد انتهاء علومه في مدرسة اللّيسه الفرنسيّة في بيروت بدأ حياته في الصّحافة فاصدر مجلة “البادية” مع الأستاذ عارف أبو شقرا. كانت لديه رغبة في السفر إلى المهاجر لكنّ والده ثناه عن ذلك وحَملَه على دخول مدرسة الشّرطة سنة 1933 وفي سنة 1940 أحرز رتبة مفوّض وبسبب نشاطه وإخلاصه وجرأته بلغ رتبة مفوّض عامّ ممتاز وشغل وظيفة مفتّش عام للشّرطة وفي سنة 1956 أسندت إليه قيادة الشّرطة القضائية. ثم بعد تقاعده أصدر مجلة “الحديث المصوّر” مع الأستاذ سلمان جابر والتي استمرّت لسنوات. مثَّل لبنان لسنوات في قيادة الأنتربول وتولّى رئاسة قسم مكافحة المخدّرات، نال عدّة أوسمة رفيعة.
• محمود حسين محمود سليمان أحمد عبد الصّمَد، بعد انهاء علومة في سوق الغرب استدعاه الأمير شكيب أرسلان ليكون أمين سرّه فصحبه إلى سويسرا سنة 1930 وعاد بعد سنة 1939 فانتخب رئيساً لبلدية عمّاطور وكان قد أسّس مع المجاهد على ناصر الدّين البحريني “دار الحكمة” للتّأليف والنّشر واستمرّ برئاسة بلديّة عمّاطور حتى سنة 1973.
• منصور قاسم سليمان أحمد علي عبد الصّمد تعلّم في مدرسة الحكمة في بيروت ودرس الحقوق في مكتب الحقوق الأعلى عين بعد تخرجه مأمور معيّة في بيروت ثم نُقل إلى نابلس ثم عين قائمّقام في صور. وبسبب تمنّعه عن إلقاء القبض على الأمير فيصل بن الحسين بناء لأمر جمال باشا فقد نُقل إلى معان ثم إلى تيرانا في ألبانيا، ثمّ رُقِّي إلى رُتبة مُتصرّف على السّليمانية في العراق وبعد جلاء الأتراك عُيّن متصرّفاً على السّلْط، فالكرك من قبل الأمير فيصل، وبعد احتلال الفرنسيّين الشّام عُيِّن مديراً عاماًّ للقضاء، ثم انتُخب عضواً في مجلس النّواب في جبل الدروز سنة 1921 وانتخب ثانية سنة 1922 وأخيراً شغل وظيفة رئيس محكمة الاستئناف في السّويدا، وبعد التقاعد اتّخذ مكتباً للمحاماة ومارسها لسنوات.

العزّ القديم
العزّ القديم

“بلديّة عمّاطور خليّة نشاط ومشاريع بنى تحتيّة واهتمام خاص بزرع الصّنــوبر وتطوير البيئة”

• نعمان محمود رافع ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة صيدا الأميركية ثم دخل في سلك الدّرك اللّبناني سنة 1918 وتخرّج من المكتب الحربي في حمص برتبة مُرشَّح ضابط. تقلّب في مراكز عدّة بين مرجعيون ومشغرة وزغرتا قام خلالها بالقضاء على عدّة عصابات ونال على أثرها التّرقية لملازم أوّل وعُيّن قائداً لدرك صور ثم رئيساً للحرس الجمهوريّ سنة 1927 وتقاعد برتبة نقيب.
• يوسف ملحم وهبة عبد الصمد، أكمل علومه الثّانوية في الاسكندريّة وثم سافر إلى الولايات المتّحدة ودخل جامعة شيكاغو وتخرّج منها طبيباً في جراحة الأسنان وعُيّن طبياً خاصّاً للخديوي عبّاس حلمي، ثمّ عاد إلى لبنان سنة 1906 وأنشأ عيادة لطبّ الأسنان هي الأولى في صيدا وحاضر في الجامعة الاميركيّة في بيروت بناءً على طلب الدكتور غراهام سنة 1939 تلقّى كتاباً من جلالة الملك فاروق مُنِح بموجبه رتبة البكويّة.
• (أبو زين الدين) يوسف أحمد عربيد أبو شقرا، تولّى مشيخة عقل الطائفة الدرزية سنة 1778 بعد الشيخ علي جنبلاط في عهد الأمير يوسف الشّهابي، وكان له مع الأمير جولات وأخصّها بشأن ضريبة الشّاشيّة حيث كان الأمير شديد الانحراف على الدروز وفرَض عليهم كثيراً من الضّرائب. وكانت أهمّها الضّريبة على العمائم سنة 1782 وبعد اعتراض المشايخ الدّروز ذهب الشّيخ يوسف أبو شقرا إلى مقر الأمير في دير القمر وبعد جدال محتدم قال له الأمير :البلاد لا تحتمل يوسفين” فأجابه الشّيخ أبو زين الدين “المزروك يرحل”!! وبعد عودته، وجّه كتاباً من بعقلين إلى كافّة وجوه البلاد دعاهم إلى الحضور في وقت محدّد بالأسلحة والمؤن والذّخائر “لأمر يحبّه الله” وسار أمام سبعة آلاف مقاتل نحو دير القمر بالأناشيد الدّينية ترتجّ منها أودية الشّوف، فوقع الرّعب في قلب الأمير فأراد أن يركن إلى الفرار لكن منعه من الهرب مشايخ آل نَكد ودخلوا في الصّلح وأُلغِيت ضربية الشّاشيّة وضرائب أخرى فهدأت المشاعر وصلحت العلاقة، لكنّ الأمير يوسف بدّل خطّته فأصبح يلاطف الشّيخ ويدعوه إلى مجلسه ثم أمر بأن يدسّ السم في طعامه في وقت مناسب وكان له ذلك.
• يوسف خطّار خليل ضاهر نعمان أبو شقرا، تخرّج من مدرسة الحكمة في بيروت سنة 1892 ثم درس الفِقْه على يد الأستاذ عبّاس بك حميّة وزاول المحاماة في محكمة الشّوف. وكان يعرف اللّغات الفرنسيّة والانكليزيّة وشيئاً من التركيّة. وكان أديباً وشاعراً نُشرت قصائده في جريدة “الصّفا” سنة 1900، له دراسة نشرت في أعداد متسلسلة عن تاريخ دول أوروبا. اشتغل إلى جانب المحاماة في الصّحافة مع ابراهيم بك الأسود في تحرير جريدة “لبنان” وانصرف إلى تأليف كتاب الحركات في لبنان ثمّ عاد إلى العمل في جريدة “لبنان”.

رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد
رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد

بلديّة عمّاطور
استُحدِثت بلدية عمّاطور عام 1927 بموجب المرسوم رقم 1721 تاريخ 9 حزيران 1927. وعُيّنَت لجنة بلديّة للقيام بأعمال بلديّة عمّاطور- محافظة الشّوف بالمرسوم رقم 1778 تاريخ 24 حزيران 1927 مؤلّفة كما يلي:
رئيس: علي أفندي عبّاس عبد الصمد.
أعضاء: سلمان أفندي أحمد أبو شقرا، فؤاد أفندي حسين سلمان عبد الصّمد، فؤاد أفندي حسين يوسف أبو شقرا، بولس أفندي لْطَيف. (وهذان المرسومان محفوظان في مكتبة الأستاذ نايل أبو شقرا).
ساهم وجود بلديّة في عمّاطور في ذلك الوقت في إتمام عدّة مشاريع حيويّة للبلدة، إضافة إلى استفادة الأهالي من الخدمات الأساسية بشكل متتالٍ:
ففي العام 1936 وصلت شبكة مياه الشّفة الى المنازل وكانت آلة الضّخ هي الـ belier تعمل بقوّة ضغط المياه دون وقود.
أمّا الكهرباء فقد استفادت منها عمّاطور في العام 1951 حين استحصل السّيد فؤاد حسن أبو شقرا على إذن لتوليد الطّاقة الكهربائيّة من مولّد خاص.
وفي العام 1964 أسّست بلديّة عمّاطور أوّل مستوصف في البلدة.
كما قامت في هذه الفترة بصبّ المسالك القديمة للبلدة بالإسمنت بطول إجمالي زاد على 3,000 م. وبعرض وسطي يبلغ المترين. ثم استُحدثت شبكة الصّرف الصّحي عام 1970.
وفي أوائل سبعينيات القرن الماضي، وبعد أن توفّي أكثر من نصف أعضائه، حُلّ المجلس البلديّ وبقيت البلدية باستلام القائمّقاميّة حتى انتخاب المجالس البلديّة عام 1998 فاقتصر العمل في هذه الفترة على الأمور الضروريّة، لكنّ فعاليّة العمل البلدي عادت بعد الانتخابات حيث ضمّ المجلس البلديّ 12 عضواً، تميّز بوجود العنصر النّسائي، وقام بعدة مشاريع حيوية، نذكر منها:
• زرع 5,000 غرسة صنوبر جوي في مشاع البلدية في مرج عمّاطور.
• شراء قطعة أرض ملاصقة لمشاع البلدية مساحتها التقريبيّة 5,000 متراً مربعاً، وضمّها إليه.
• شراء مبنى مع قطعة أرض في السّاحة العامذة وجعله المركز البلدي.
• بناء خزّان لمياه الشّفة بسعة 380 متراً مكعّباً، واستبدال الشّبكة القديمة بالكامل.
• إصدار مجلّة مختصّة بالشؤون البلديّة، وكانت المجلّة الأولى في لبنان التي تُعنى بهذا الشأن، هي مجلّة “السّاحة”.
• إعداد مخطّط توجيهي للبلدة Zoning .
• انشاء محطّة لتكرير الصّرف الصّحيّ بتمويل من الوكالة الأميركيّة للتّنمية الدوليّة، وبالتّعاون مع اتّحاد بلديّات الشّوف الأعلى.
• إنشاء برك زراعية مخصّصة للرّي.
• إعادة تأهيل مصابيح الشّوارع بعدما كانت معطّلة بالكامل.
• إطلاق مهرجان عيد الزّيتون وجعله تقليداً سنويّاً، وذلك بمشاركة النّادي الاجتماعي الرّياضي والجمعيات الأهلية.
• بالإضافة إلى بناء الجدران والأقنية وصيانة الطّرق وغيرها من المشاريع.
بعد ذلك تمّ استحداث غرفة تعقيم على شبكة مياه الشّفة، لتصبح صالحة في جميع المنازل.

زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء
زقاق تاريخي يقود إلى فسحة الضوء

المجلس البلديّ الحالي
يقول رئيس المجلس البلدي الأستاذ ذوقان عبد الصمد الذي يتابع مسيرة الإنماء والتّطوّر مع المجلس البلدي مجتمعاً: “قمنا بعدّة إنجازات هامّة، منها تقوية قدرة ضخّ مياه الشّفة، من خلال تأهيل نفق عين العريش الذي يفوق عمقه الـ 90 متراً بمواصفات عالميّة (بتمويل من الصّندوق الوطني للمهجّرين)، واستبدال المضخّات بمضخّات ذات قدرة دفع مضاعفة، وتركيب محطّة تعقيم ثانية على الشّبكة، تعمل المحطّات على التّعقيم بأشعة الـ UV وإضافة الـ Cl، كما قدّم الأستاذ وليد بك جنبلاط مولّداً كهربائيّاً لتشغيل الشّبكة” ومن إنجازات البلديّة أيضاً:
• إنشاء شبكة كهرباء لمولّد بقوّة 350 KVA يغذّي المنازل عند انقطاع الكهرباء، ويستفيد منه الأهالي بإنارة شوارع البلدة بشكل كامل، قدّمه الأستاذ وليد بك جنبلاط بمساهمة من معالي الأستاذ نعمة طُعمة والشّيخ وجدي أبو حمزة.
• تنفيذ أكثر من 3,000 م من أقنية الرّي، يتمّ العمل على إنجازها بالكامل.
• زراعة 1,000 غرسة صنوبر جوّي في مشاع البلديّة، وهناك قرار بزرع 1,000 غرسة أخرى.
• الاستحصال على رخصة إضافة بناء على المركز البلدي الحالي
• العمل جارٍ على تعديل تصنيف الأراضي بحيث تزيد نسبة الاستثمار.
• إطلاق “رحلة المرج” وهي رحلة سنويّة تنظّمها البلديّة إلى مرج عمّاطور، بغية التعرّف على الطّبيعة وخلق جوّ من الألفة والمحبّة بين أبناء البلدة الواحدة، وقد أصبحت هذه الرّحلة تقليداً سنويّاً.
• رعاية مهرجان عيد الزّيتون و تكريسه بشكل سنوي.
• مخطّط تجميل السّاحة العامة.
• السّعي لإتمام إضافة بناء على البناء الحاليّ لمدرسة عمّاطور الرّسميّة.

المَخْتَرَة
توالى في هذا الموقع كل من السّادة فؤاد حسن أبو شقرا ونجيب نايف أبو شقرا وحسيب عارف عبد الصمد وسمير أحمد أبو شقرا ومروان عارف أبو شقرا وعدنان فرحان عبد الصمد.
يقول المختار عدنان عبد الصمد إنّه ومنذ استحدُث منصب المختار في عمّاطور كان للمختارين المنتخَبين الدّور البارز في رعاية شؤون النّاس وتسهيل أمورهم في المجالات الموكلة إليهم، كما كانت تعهد إليهم قضايا الصّلح وفضّ الخلافات. و كانت لهم اليد الطّولى في إعلاء شأن عمّاطور وتميّزها.
وفي العام 1998 تم انتخاب مختاريَن، ومنذ ذلك الحين يتابع المختارون الرّسالة التي بدأها أسلافهم، والجدير بالذكر أنّ المختار في عمّاطور، وبحسب العُرف المتّبع، لا يتقاضى أيّ بدل من الأهالي لقاء معاملاتهم

العزّ القديم
العزّ القديم

المُنظّمات والجمعيّات الأهليّة النّاشطة
• دار البلدة: أنشأها المغفور له سماحة الشيخ محمد أبو شقرا لتكون مقرّاً جامعا للمناسبات والاحتفالات في البلدة.
• النّادي الاجتماعي الرّياضي (عُدِّل الاسم فأصبح: “النّادي الثّقافي الرّياضي”).
• رابطة سيّدات عمّاطور.
• الاتحاد النّسائي التّقدّمي.
• جمعيّة الكشّاف التّقدّمي – فَوج عمّاطور.
• اللّقاء الثقافي.
• الجمعيّة التعاونيّة للتّوفير والتّسليف والسّكن.
وفي عمّاطور وجود لبعض الأحزاب والحركات السياسية اللبنانية.
لكلّ من هذه الجمعيّات حضورها وأعمالها المُشرّفة وعطاءاتها في المجالات الاجتماعيّة والتنمويّة.

مواقعُ أثريّة
في عمّاطور العديد من البيوت الأثريّة والمزارات و الحُجَرات والمدافن الأثريّة في وسط البلدة ومن أبرز هذه المعالم:
• مزار السّت أم علي صالحة.
• مزار السّت أم علي حربا.
• مزار الشّيخ ناصيف أبو شقرا.
• مزار الشّيخ أبو سليمان محمّد عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ محمّد أبو شقرا.
• مدفن الشّيخ أبو قاسم محمود عبد الصّمد.
• مدفن الشّيخ يحيى عبد الصّمد في عريض عمّاطور (محفور في الصخر).
إضافة إلى معابد وجسور رومانيّة وعثمانيّة في محلّتَيّ المَرج والدّرجة ومعاصر قديمة للزّيتون وآبار قديمة، و”بلاطات الهوا” و”رأس المنقود” في أعلى البلدة بالإضافة إلى عدّة مواقع طبيعيّة خلّابة وهياكل مهدومة ذات أهميّة تاريخيّة تقع بين نهر بْحَنّين ونهر عارَيْ في بِسري وقد أعطت الأعمدة هذه اسمها لمرج بسري فصار يعرف بـ “مرج العواميد”، ويُرجَّح أنْ يكون هذا الهيكل قد تهدّم نتيجة الزّلازل القويّة التي دمّرت مدينة بيروت سنة 551م أو بسبب الزّلزال الذي ضرب البلاد سنة 1261م وأحدث أضراراً بالغة في جنوب لنبان وشمال فلسطين ولا سيّما السواحل.
كما يعتزّ ويفاخر العمّاطوريون بالعريض الحاضن للبلدة من الشرق وبالسّاحة العامّة حيث اصبحت مُلتَقًى لأهالي البلدة من كلّ الأعمار.

مدفن الشيخ محمد أبو شقرا
مدفن الشيخ محمد أبو شقرا

الشيخ محمد أبو شقرا
1910-1991

عند الحديث عن رجالات عمّاطور لا بدّ من إفراد موضع خاص لشخصيّة تاريخيّة وفذّة خرجت من هذه البلدة لتلعب دورها على صعيد لبنان والمنطقة وهي شخصيّة المغفور له الشيخ محمد أبو شقرا وقد تولى مشيخة العقل لمدة 42 عاماً وطبع هذا الموقع بطابَع لا يُمحى إذ كان عهده الطّويل عهد الوحدة الدّرزية والنّضال الوطنيّ وبناء المؤسّسات والدّفاع القويّ غير الهيّاب عن مصالح العشيرة المعروفيّة بالتّعاون مع الزّعامة السّياسية.
في زمنه تمّ توحيد مشيخة العقل عبر تفاهم بين الأمير مجيد أرسلان والزّعيم كمال جنبلاط فقوي المنصب وبات له مكانته واعتباره في العلاقة مع الطوائف اللّبنانية ومع الدّولة ومع العالم الخارجيّ.
أظهر الشيخ محمّد إلماما واسعا بأوضاع الطائفة وكان عهده عهد أعمال وإنجازات ومبادرات وكان سريع الاستجابة للظّروف كما حصل عندما أدّت صدامات في وَطى المصَيْطْبَة بين سكان أكواخ دروز من جبل العرب وبين الشّرطة إلى سقوط قتلى وردود فعل شعبيّة، إذ سارع إلى تأمين أرض بين الشويفات وعين عنوب تمّ توزيعها على المتضرّرين ليبنوا فيها مساكنَ لهم وهذه القرية تُعرَف اليوم بالـ “معروفيّة”.
كان له الفضل الأوّل في تنظيم أوضاع الطائفة ورجال الدّين وإحداث نهضة دينيّة، وإطلاق بعض أهمّ المؤسّسات التي أصبحت معالم إنجاز ساطعة مثل دار الطّائفة الدّرزية في فردان والمؤسّسة الصحية في عَيْن وزين
توفّيَ، رَحِمه الله، في الرابع والعشرين من شهر تشرين الأول 1991.

نظام المناعة

صناعة الأسلحة الدّفاعيّة في جهاز المناعة مُتْقَنَةٌ لدرجة أنّ بُنية العنصر المجهريّ الدّخيل وبُنية السّلاح المُنتَج لتدميره تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتــاح!

مع اندحار العدوّ تأمر “شرطة الانضباط” بوقف إطلاق النّار وتدعو سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها لكي لا يستمرّ الجسم في وضعية تعبئة مُكلفة وغير مجديـــة

تسامُح الجهاز الدّفاعي مع ملايين البكتيريا النّافعة وقدرته على تمييزها وعدم مهاجمتها هي مُعجزة مُبهرة لم يتمكَّن العلم بكلِّ وسائله من فهم أسرارها

قال تعالى: }وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ{ (الجاثية: 4) يريد بذلك أن يحثّ المؤمن على التفكّر في آيات الخلق باعتبار ذلك أحد أهمّ طرق اليقين بوجوده وهو أيضاً سبيل الاتِّضاع له والتّسليم لسلطانه ولهدي حكمته ورسالاته. فهذا الكون الهائل الذي يسير منذ الأزل وفق قوانين دقيقة وتلك المخلوقات التي لا تُحصى في البرّ والبحر والتي يمثل كلّ منها ومن أصغر بكتيريا إلى الإنسان نفسه عوالم كاملة لا يُسْبر غورُها ومعجزات ناطقة بعظمة الخالق وقدرته لا يمكن عند النّظر عن قرب في أيّ منها إلّا الخشوع والتّسليم التّام الشّاكر الحامد لمبدع الكون. لقد أراد بعض الضَّالّين المـُضِلِّين استخدام العلم لإنكار وجود الخالق إتّباعا لأصنام نفوسهم وظلمة عقولهم لكنّ العلم نفسه الذي يريدون وضعه في مواجهة الإيمان يصبح يوماً بعد يوم، وكلّما اكتملت حلقاته وتعمّقت اختباراته، أكبر ناصر للإيمان؛ لأنّ التّمَعّن في آيات الخلق والمخلوقات في ضوء العِّلم يوفّر براهين لا تردّ على أنّ كلّ ما في الوجود ليس من فعل الصّدفة إنّما هو آيات إعجاز الخلّاق العظيم }لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا{ (الفرقان:62). كذلك جاء في الآية الكريمة }وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56) أيْ ليعرفون، وفق شرح إبن عباس. وهذا يعني أنّ الله تعالى جعل من الكون ومعجزة الخلق آيات ليس للنّظر إليها بعين البصر أو التّمتّع بها مثل ما تفعل الأنعام بل للتفكر في ما تشير إليه من حقيقة الخالق وتجلّيات عظمته وبراهين سلطانه، فيكون التفكّر بآيات الخلق بذلك هو سبيل معرفة الخالق ونتيجة ذلك الإقرار بالعبودية وبشرف العبادة وتصديق الرّسالات والرّسل والتزام هَدْيِهم.
وبالنّظر لأهمّية إعمال العقل والتفكّر في آيات الوجود تدخل مجلّة “الضّحى” مع هذا العدد قسما علميّاً يتناول تسليط الضّوء على آيات الخلق والكون ليظهر مع كلّ موضوع نتناوله مدى الإعجاز في كلّ مظاهر الوجود صغيرها وكبيرها ولعلّ ذلك يكون حافزاً لمزيد من التفكّر والتأمّل، وسبيل عقليٍّ إلى ثبات الإيمان في القلب وسطوع براهين اليقين.

“الضّحى”

مطار مكتظ وألوف متدافعة - نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام
مطار مكتظ وألوف متدافعة – نظام المناعة خطّ دفاع أول لا ينام

مُعْجزَةُ نظام المناعة

بينما نمضي في حياتنا اليوميّة تعمل جيوش المناعة
بنظام بديع على صدّ هَجمات آلاف الأجسام المُعادية

جنود الدّفاع المَناعي يتلقَّوْنَ في الأمعاء «تدريباً»
يعلّمُهم تمييز البكتيريا النّافعة وعدم مهاجمتها!

ينصرف الإنسان كلّ يوم إلى حياته العاديّة فيستيقظ ويتناول طعامه ويذهب إلى عمله ثم يعود إلى حضن الأسرة أو لملاقاة الأصحاب أو لإجراء بعض التّمارين في النّادي أو غير ذلك من الأعمال، لكن بينما يعيش الإنسان يومه وليله بطمأنينة فإنّه قد لا يكون على بيِّنة من أنّ جسده مهدّد في كلّ أوان من أعداء كثيرين، وأنّه مُحاط في منزله أو في مدينته أو في مكان العمل أو في السوق أو أيّ مكان يقصده بأخطار تتمثل في البكتيريا والفيروسات والأجسام الميكروسكوبية التي توجد بالملايين في كلّ مكان: في الهواء الذي نستنشقه، وفي الماء الذي نشربه، وفي الطعام الذي نأكله، وفي المحيط الذي نعيش فيه.
لكنّ هذا الشخص قادر على أن يستمر في حياته العاديّة دون قلق بفضل نظام المناعة المعقّد والمتطوّر جدّاً الذي يحميه في كلّ لحظاته دون أن يدري عنه شيئاً أو حتى يشعر بخدماته العظيمة. ومثل القلب أو الكبد أو البنكرياس التي تقوم بوظائفها دون أن نشعر بها أو نفهم طبيعة عملها، كذلك يعمل نظام المناعة المعقد دون أن نشعر به مع فارق أنّ هذا النّظام ليس عضواً معيّناً بل هو نظام بديع للدّفاع والهجوم وجمع المعلومات وتبادل التّنسيق وتوزيع الأدوار لا يماثله في دقّته أيّ نظام بشري على الإطلاق. فنحن نتحدّث هنا عن جيوش حقيقيّة مشكّلة من “جنود” عدّة ومن أجهزة استخبارات وأسلحة موجَّهة عن بُعد وعن شبكة اتّصالات وفرق “مٌهمّات خاصّة” أُسندت لكلٍّ منها مهام محدّدة وهؤلاء الجنود أو المحاربون مدرّبون تدريباً ممتازاً وهم يستعملون في دفاعهم عن الجسم تكنولوجيا متطوّرة ويحاربون بأسلحة فعّالة بيولوجيّة وكيميائيّة.

الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا
الجلد هو جدار الحماية الأهم لنظام المناعة لكن هذا الجرح الصغير قد يفتح الباب لتسلل البكتيريا

حروبٌ مستمرّة
وفي كلّ يوم، أو بالأحرى في كلّ دقيقة، تنشب وبشكل متتابع “حروبٌ” بين هذه الجيوش وبين الأجسام المجهريّة المعادية التي لا يمكننا رؤيتها لكنّها تحاول على الدّوام التسلّل إلى جسدنا وإيذائنا. وقد تقع هذه الحروب على شكل مناوشات داخليّة بسيطة، لكنّ المناوشات قد تتطوّر إلى اختراق بكتيري فتنشب الحرب على نطاق أوسع وتشمل المعارك الجسد بأكمله مما ينذر بالخطر. وتسمى هذه المعارك “أمراضا”.
وفي غالب الأحيان لا تتغيّر الطّريقة العامّة التي تنشب من خلالها هذه الحرب. فقد يحاول العدوّ خداع جهاز المناعة عن طريق التّمويه وهو يشقّ طريقه عُنْوة داخل الجسد. في مقابل ذلك فإنّ جهاز المناعة يعتمد على قوّات مدرّبة تقوم، وعند أدنى تسلّل أو اختراق بمهمّة تقصّي الحقائق لتحديد هُوِّيّة الأعداء. ويتمّ التعرّف على العدوّ وتحديد طبيعته ويبدأ فوراً تحضير الأسلحة المناسبة للقضاء عليه.
يمكن دون مبالغة تشبيه جسم الإنسان بقلعة محاصرة من قِبَل أعداء يبحث كلٌّ منهم عن نقطة ضَعف أو سبيل لضرب دفاعات القلعة واقتحامها ثم إيذاء من فيها، ويشكّل جِلدُ الإنسان جدارَ تلك القلعة وخطَّ الدّفاع الأوّل عنها.

الجِلْدُ خطُّ دفاعٍ أوّل
بفضل دور الجلد كخطّ دفاعٍ حصينٍ لا تتمكّن الكائنات الدّخيلة التي تصل إلى سطحه من شق طريقها إلى داخل الجسم. ومع أنّ الطّبقة الخارجيّة للجلد، والتي تحتوي على الغلاف القَرنيStratum Corneum تمَّحي باستمرار إلّا أنّها تتجدّد بالكامل كلّ أسبوعين إذ يتكوّن الجلد من تحتها ثمّ يصعد باستمرار لتأخذ الخلايا الجديدة مكان القديمة التي زالت.. وبذلك يتمّ طرد كلّ الزوّار غير المرغوب بهم (والذين شقّوا طريقاً لهم داخل الجلد) من الجسم مع طرح الجلد الميت، وذلك خلال مرحلة نموّ الجلد من الدّاخل إلى الخارج. ولا يمكن للعدوّ في هذه الحالة أنْ يقتحم الجسم سوى عن طريق جرح ما قد يصيب الجلد.
يُعْتَبَر الهواء أحدُ الطّرق التي تتمكّن من خلالها الفيروسات من ولوج جسم الإنسان، حيث يشقّ العدو طريقه إلى الجسم عن طريق الهواء الذي يستنشقه الإنسان. لكنْ هناك إفرازات خاصّة توجد داخل غشاء الأنف المُخاطي وأجزاء دفاعيّة “تبتلع” الخلايا الضّارّة داخل الرّئة (وتسمى البلاعم) وهي عبارة عن خلايا تبتلع الأجسام الغريبة وتقضي عليها قبل أنْ يستفحل خطرها. وتتمكّن الأنزيمات الهضميّة الموجودة في حامض المعدة والأمعاء الصّغيرة من صدّ وقتل عدد كبير من الميكروبات التي تحاول ولوج جسم الإنسان عن طريق الطّعام.

صراعٌ عنيف
وهناك عددٌ من الميكروبات التي تتمكّن من الاستقرار داخل جسم الإنسان، كتلك التي تستقر في الجلد وفي طياته وفي الفم والأنف والعين وقنوات التنفّس العليا وقناة الهضم والأعضاء التّناسليّة، وهي تبقى في حالةٍ كامنة لكنّها لا تتسبّب في المَرض.
لكنْ عندما يتمكّن عنصر مجهريّ دخيل من ولوج الجسم، ومن ثمّ التّكاثر وتحدّي عناصر الدّفاع اليقِظة، فإنّ هذا الاختراق يشعل على الفَور نار الحرب لأنّ نظام المناعة سيدفع بجيشه النّظامي إلى الجبهة لشنّ حربٍ خاطفة ضدّ العدو قبل أنْ يتحوّل إلى خطر حقيقي..
وتمرّ الحرب التي يشنّها جهاز المناعة بأربعة مراحل أوّلها تحديد هُوّيّة وخصائص العدوّ وثانيها تحصين الدّفاعات وإعداد الأسلحة الهجوميّة المناسبة ثم يتمّ شنّ الهجوم وتصفية العناصر المقتحمة الدّخيلة، وأخيراً يتعافى الجسم ويعود إلى حالته الطبيعيّة.
وتُسمّى الخلايا التي تبادر إلى مُجابهة الوحدات المُعادية “الخلايا البَلعَميّة”، وهي التي تقوم بمحاصرة العدوّ والالتحام معه وهذه أشبه بجيش المُشاة وهي تعتمد على كثرتها وسرعة حركتها. ثم يقوم فريق من هذه البلاعم بوظيفة وحدات الاستخبارات العسكرية، لأنّها تحتفظ بأفراد من العدوّ الذي تمكّنت من القضاء عليه وتقوم بتسليمهم
إلى وحدة استخباراتيّة أو ما يسمى بـ “مرسال” خلايا الـ T Cells الدّفاعيّة التي تقوم بتحديد هُوِّيّة العدوّ تمهيداً لعمليّة إنتاج الأسلحة الكفيلة بتدميره.

إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي
إحدى الكريات البيض في جيش المناعة -باللون الأصفر- تبتلع جرثومة الأنثراكس -باللون البرتقالي

إعلانُ النَّفيرِ العام
إذا تبيّن أنّ قوّة العدوّ تفوق قدرة الدّفاعات الأولى أو الأمامية، فإنّ فرقة الفرسان (بلاعم الماكروفيتجز) تأتي لدعم الهجوم وتقوم بإفراز مادّة خاصّة. وتسمّى هذه المادّة “المُحِمَّة” التي تسافر طويلا حتى تصل إلى المخّ لتقوم بعمليّة التّنبيه والتّحفيز في وسطه، وبمجرّد وصولها يقوم المخّ بإنذار كافّة الجسم وتتولّد عن ذلك حُمَّى شديدة لدى الشّخص. إنَّ الحُمَّى الشّديدة جزء من نظام المناعة لأنّها تدفع المريض إلى الرّاحة ممّا يعني أنّ الطاقة التي يحتاجها الجيش للدّفاع عن القلعة لا تُصْرَف في أماكن أخرى، وقد لاحظ العلماء وجود تفاعل سريع بين مختلف أجزاء نظام المناعة وتواصل وخِطط توزيع مهمّات معقدة جدّاً.
عَقِبَ هذه التّعبئة تصبح المعركة بين العناصر المِجهريّة الدّخيلة وجهاز المناعة أكثر تعقيداً، وقد يصبح الجسم مهدّداً نتيجة قوّة الهجوم البكتيري وعدم كفاية الدّفاعات الأوّليّة؛ عندها تتدخّل “القوّات الخاصّة” وتُسَمّى الكريفاوات (وهي الخلايا “T” و “B”).
تقوم المخابرات (بلاعم الماكروفيتجز) بتزويد الخلايا “T المساعدة” بالمعلومات عن العدوّ. وتقوم هذه الخلايا بدعوة سامّ الخلايا وخلايا “B” إلى ساحة المعركة وهذه تٌعدّ من أكثر محاربيّ جهاز المناعة فعاليّة.

إنتاجُ الأسلحة
ولحظة حصول خلايا “B” على المعلومات المُتعلّقة بالعدوّ تقوم هذه بصناعة الأسلحة. وتمتاز هذه الصّناعة بالإتقان لدرجة أنّ البُنية الثّلاثيّة الأبعاد للعنصر المجهريّ الدّخيل والبُنية الثّلاثيّة الأبعاد للسّلاح المُنتَج تتطابقان مثل تطابق القفل مع المفتاح.
وتتقدم المُضادّات الحيويّة ِAntibodies وهي الأسلحة التي أنتجتها الخلايا B في اتّجاه العدوّ لتنقض عليه بإحكام تامّ. وبعد هذه المرحلة يتمّ القضاء على العدوّ كما يُفعَل بالدّبابة التي دُمِّرت عجلاتُها ومدفعُها وسلاحُها. وبعد ذلك تأتي فرق أخرى من جهاز المناعة لتقضي نهائياً على العدوّ المُندحر.
وهنا يجب التوقّف عند نقطة هامّة جدّاً قصد التّمعّن فيها. وهي أنّ أنواع العدو التي يتعامل معها جهاز المناعة تعدُّ بالملايين، لكنْ مهما كان شكل العدوّ أو خصائصه فإنّ خلايا جهاز المناعة قادرة على إنتاج السلاح المناسب للأعداء كافّة، ويعني هذا أنّ جهاز المناعة يمتلك المعرفة والقدرة اللّازمتين لإنتاج المفاتيح المناسبة للملايين من الأقفال. وتمتلك هذه الخلايا اللّاواعية القدرة على إنتاج الملايين من الأجسام المضادّة، والقدرة على استعمالها بأفضل الطّرق لإلحاق الهزيمة بالعدوّ.

ما بعدَ النَّصر
وعندما يندحر العدوّ تدخل “شرطة الانضباط” من الخلايا T ساحة العمليات، فتأمر جيش الدّفاع بوقف إطلاق النار كما تتحكّم في سامّ الخلايا “T” وخلايا “B” كي تحدّ من أنشطتها. لهذا فإنّ الجسم لا يستمرّ في وضعية تعبئة غير مجدية. وبعد أن تضع الحرب أوزارها تكون معظم خلايا “T” و “B”، والتي أنتجت خِصّيــصاً للحرب، قد أكملت دورة حياتها لتموت بعد ذلك. غير أنّ هذه الحرب الضّروس يجب ألا تُنسى دروسها. هنا يأتي دور مجموعة خلايا الذّاكرة التي تحتفظ بكل المعلومات عن العدوّ وهذه ستكون في تصرّف جهاز المناعة في حالة تكرار الهجوم من البكتيريا المعادية نفسها، لأنّ نظام المناعة سيُسارع عندها إلى حسم الموقف قبل أن يتمكّن العدوّ من تجميع قوّته. إنّ عمل ذاكرة جهاز المناعة هو الذي يفسر لماذا قد تصيبنا الحصبة مرة لكنّها لا تعاود الإصابة ثانية.

نظامُ المناعة ونظريّة التّطوّر
عند التأمّل في عمل جهاز المناعة يتبيّن لنا وجود خطّة خارقة تتحكّم بكلّ هذا النّظام العجيب وهي خالية من أيّ عيب أو نقص. فكلّ ما يعتبر ضرورياً لعمل هذا المخطّط متوفّر ولا يعتريه أيُّ نقصان: فكيف جاء هذا النّظام المُحكَم إلى الوجود؟
في هذا الشأن بالتّحديد لا يمكن لنظريّة التطور أن تقدّم أيَّ تفسير لأنّه لا يمكن لجهاز المناعة بأيِّ شكل من الأشكال أن يكون نشأ بفعل التطور والتدرّج. والسبب في ذلك أن أي نقص في أي من العناصر المكوّنة لهذا الجهاز يجعل هذا الجهاز يتعطّل تماماً ولا يمكن للشّخص أن يبقى على قيد الحياة بعد ذلك. لذا، فإنّ النّظام لا بدَّ أنَّه وجد مرة واحدة كاملاً شاملاً بعناصره ومن دون عيب أو نقص. وهذه الحقيقة تدحض فكرة الصّدفة التي تبدو في هذا المجال نظريّة فارغة لا قيمة لها.
تَمييز العدوّ من الصّديق
لنأتِ الآن إلى موضوع سيزيدنا حَيْرة وفي الوقت نفسه قناعة بأنّ نظام المناعة وكل حياتنا وكلّ مظاهر هذا الوجود إنّما هي أجزاء من نظام كوني بديع لا يمكن أن يعتريه خطأ أو نُقصان. وموضوعنا يتلخّص في سؤال هو كيف يمكن لنظام المناعة أنّ يفرّق بين بكتيريا عدوّة وبكتيريا نافعة أو صديقة؟ وفي جسمنا تعيش ملايين البكتيريات النّافعة في الأمعاء أو المعدة أو الفم أو الحلق وكذلك الخلايا التي تنتمي إلى أعضاء جسدنا، وهذه الكائنات المجهريّة تعيش وتزدهر في جسدنا دون أن يعترضها نظام المناعة أو تهاجمها فرق الدّفاع؟
على سبيل المثال فإنَّ 80 نوعاً من الكائنات (البكتيريا النافعة) الحيَّة تعيش في الفم والحلق واللّوزتين، كما أنّ هناك 200 نوع من الكائنات الحيّة التي تصون الصحّة الجيدة لأجسادنا باستمرار. وهذه الكائنات لا يهاجمها جهاز المناعة بل “يتسامح” معها أو يتعايش معها بسلام. وهذا ما يسمى “تسامح الجهاز المناعي”Immune System Tolerance وهذا النّظام يمكن وصف عمله كما يلي:
• الخلايا اللّمفاويةlymphocytes هي نوع من الكريّات الدّمويّة البيضاء في أجسامنا. وهي تقاتل كلَّ ما هو ضار بالجسم و تقضي على البكتيريا والجزيئات الخطيرة على أجسامنا.
• لكنْ أثناء تنفيذها لمهمّات الدّفاع والتّنظيف فإنّ هذه الخلايا لا تهاجم بطريق الخطأ مثلا خلايا الجسم الذي تنتمي إليه كما أنها لا تهاجم البكتيريا المفيدة للجسم.
• سبب ذلك أنَّ كلَّ خليّة من خلايا الجسم تحتوي على نظام محدّد للهُوّيّة الخَلويّة للتّعريف بنفسها (الجزيئات المحددَّة للذَّات) وهذه تُعرَف بـ “المستقبلات” Receptors. وعلى هذا الأساس فإنّ خلايا T المقاتلة يمكنها التّمييز بين جميع الخلايا الأخرى من خلال التَعرُّف على مستقبلاتها، كما أنّها تتعايش مع تلك الخلايا التي يحتاجها الجسم. وهذا ما يدعى بـ “التّسامح المناعي”.
• إنَّ التّسامح المناعي” هو في الواقع معجزة عظيمة لأنّه يعني أنّ جهاز الدّفاع قادر على التّمييز بين آلاف البروتينات التي يختلف بعضها عن البعض الآخر.
• فإذا واجهت خليَّة T مُدافعة خليّة أخرى من خلايا الجسم، فإنّها لا تقوم بمهاجمتها، بل تجعل من نفسها غيرَ فعّالة (أي تبطل مؤقتا خاصّيتها الدّفاعية) حتّى لا تهاجمها.
• وبنفس الطّريقة، إذا كانت هناك مادّة من الجسم تتصرَّف كأنَّها مضاد دفاعي antigen لكنّه قد يضرّ بالجسم فانَّ الخليَّة المدافعة لا تدمره و(لا تثير مشاكل للجسم) والسَّبب، كما كشفت الأبحاث العلميّة، هو أنَّ عنصر الدِّفاع الذي يضرُّ الجسم إمّا أنْ يموت تلقائيّاً أو يدمِّر نفسَه بنفسِه.

الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء
الكريات البيضاء باللون الأبيض والكريات الحمراء

التّسامح المناعي في الأمعاء
الأمعاء عُضوٌ آخر يتسامح معه جهاز الدّفاع المناعي. بالرّغم من أنّ الجسم بشكل عام محميّ بأسلحة دفاعيّة دقيقة للغاية، فإن الملايين من البكتيريا تعيش في الأمعاء لدينا، لأن الطّعام الذي نأكله، والسّوائل التي نشربها يتمّ هضمها عن طريق تلك البكتيريا في الأمعاء الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ هذه البكتيريا توفّر طريقة طبيعيّة للحماية لأنّها تمنع تكاثر الجراثيم الأخرى التي يمكن أن تضرّ الجسم. بل إن الخلايا الدّفاعية تتعاون مع هذه البكتيريا من أجل تحقيق الفائدة للجسم. حتى ولو حصلت إثارة لجهاز الدّفاع المناعي وبدأت حرب في الأمعاء فإنَّ الخلايا T المقاتلة تتجاهل البكتيريا النَّافعة في الأمعاء الدَّقيقة وتمنع حصول تلك الحرب.
إذاً، كيف تتسامح الخلايا الدّفاعية مع البكتيريا النّافعة في جسدنا؟

اكتشافٌ أذهل مجلّة Science World
في ورقة بحث نُشرت في مجلة طبيعة المناعة (Nature Immunology)، وجد فريق من الباحثين بقيادة شانون تورلي (Shannon Turley) أنّ جهاز الدّفاع لديه آلية التّسامح المناعي وهي آلية في عمل الجهاز لم تكن معروفة من قبل. وهي تعمل بالشّكل التالي:
1. الغدد اللّمفاوية هي مثل “ثكنات تجمع الجنود” أو المعسكرات الإستراتيجيّة التي تحيط بالجسم كلِّه. أمَّا الخلايا اللَّمفاوية Lymphocites فهي جنود الدّفاع وهذه كما أثبت البحث تقوم بسحب مُضادّات الجسم إلى العُقَد اللّمفاوية ومحاربتها.
2. بالرّغم من ذلك، فإنَّ العُقَد اللّمفاوية الموجودة في الأمعاء تشبه مركزاً للتدريب أكثر من كونها معسكراً إستراتيجيّاً. المذهل هو إن الخلايا الأساسية الموجودة هناك تقوم بتدريب خلايا T والتي هي من جنود جهاز دفاعنا، بالتصرّف بطريقة مناسبة تجاه خلايا الأمعاء وبالتّالي عدم مهاجمة البكتيريا النّافعة التي تعيش فيها وتتكاثر بحرّيّة. وهذا يماثل تدريب الخلايا T على أنْ تُمَيِّز بين مئات البكتيريات النّافعة وبين البكتيريات الضّارة فتهاجم فقط الأخيرة بينما تترك الأولى تعيش وتتكاثر بسلام.
3. لا يمكن تفسير أنَّ مثل هذا النظام في هذا الجزء من الجسم يمكن أنْ يأتي إلى حيّز الوجود عن طريق المصادفات. كيف يمكن لعمليّة التَّدريب أنْ تحدث؟ لقد عجز العلماء عن فهم هذا الأمر رغم كلّ ما يمتلكونه من الوسائل التكنولوجيَّة الأكثر تقدّماً.
شانون تورلي، اختصاصيّة علم الأمراض في جامعة هارفارد والتي قادت ذلك البحث تَملّكتْها الدّهشة ممّا وجدته وأدلت بعد ذلك بتصريح مثير جاء فيه:
“إنَّ خلايا الجهاز المناعي (الخلايا T) إمَّا تتجاهل نسيج الأمعاء أو تتعامل معه بتسامح. ومع ذلك، فإنَّه لا يزال مجهولاً كيف يمكن لخلايا في الجسم أنْ تُعلِّم وتُدرِّب الخلايا T التي تُعتبرُ حسّاسة جدّاً للميكروبات أنْ لا تقوم بمهاجمة خلايا الأمعاء وأنواع البكتيريات الصّديقة التي تقيم فيها”.
إنّ الخلايا كائنات بيولوجيّة غير واعية، ولا تملك الذّكاء والوعي والقدرة التي تمكّنها من تعليم العملية البيولوجية لخلايا أخرى. إذاً ليس هناك أدنى شكّ في أنَّ وضع مثل هذا النّظام الذي عجز أكثر الباحثين والعلماء ذكاءً عن فَهمه يحتاج إلى تفسير أوسع يأخذ في الاعتبار مُعجزَة الخَلق والقدرة المطلقة لله تعالى وهو الذي } إذا قضى أمرا فإنَّما يقول له كُنْ فيكون{ (البقرة :117).
ملاحظة: استفاد هذا الموضوع من مراجع علميّة عّدة من بينها موقع العالم الفيزيائي عدنان أوكتار .

الراهب ريوكان

“جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجــــر وحتى وقت الغـــــــــــــــــروب
وحدي أنا أجد نفســـــــي حرّا ودون عمـــل
ملتصقا بقوة بالمصــــــدر الذي جئت منـــه”
«الريح يعطيني
من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»

من شعر الناسك الياباني

ريـــوكان

عندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

مثل سحابة في الفضاء لا يقيِّدها شيء
أترك نفسي لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار

قليل من قراء العربية لديه الإلمام بهذه الشخصية الفريدة في تاريخ التصوف البوذي، وتاريخ الشعر الصوفي النادر في شاعريته وجماليته، لذلك عندما اطلعنا منذ سنوات على ديوان الشاعر الياباني الأصل ريوكان وقعنا فيه على حديقة وارفة من أشعار الزهد والتأمل الروحي تثير المشاعر وتهز الأحاسيس، وهي تحدث هذا الأثر في النفوس ليس بسبب بلاغة في الصياغة أو بسبب موسيقاها بل بسبب ما تعكسه من روح الشاعر الناسك ورقته وعقيدة الحب والسلام التي تلهم كل لحظة من لحظات حياته. فريوكان يبدو لنا نموذجا نادرا للروح الحرة التاركة للعالم الملتصقة بالطبيعة والأزاهير والغابات والقمر والجبال والأنهار. وهذا الشاعر الناسك السائح في الأرض لا يؤلف شعرا من الخيال بل يصف حياته الحقيقية، حتى لتكاد قصائده تكون نوعا من اليوميات الشعرية لحياة النسك والتجوال. وبسبب انغماسه في الطبيعة وحبه لها وللعزلة في كوخه البعيد عن العمران فإن الكثير من شعر ريوكان يدور حول الطبيعة اليابانية الأخّاذة وحول تفاعله اليومي مع فصولها ورياحها وبردها وسكونها وأشجارها وينابيعها .. ولننتبه إلى أن شعر ريوكان يتعدى وصف الطبيعة إلى وصف حالتة الداخلية في التفاعل معها فهنا نجد ناسكا يشرح لنا معنى السلام الداخلي والتحرر من الحاجة ومن الخوف ومن كل ما تسببه الدنيا والتعلق بها من هموم وكدر وتعاسة. ولهذا ربما فإن القارئ لشعر ريوكان سيشعر بصورة عفوية براحة كبيرة وربما تمنى لو أن في إمكانه أن يعيش ولو على سبيل الاختبار تلك التجربة الفريدة للنسك وتأمل الوجود وسط الطبيعة وبعيدا عن الناس وقد كانت سلوى ريوكان الأولى هي اللعب مع الأطفال، وهو الذي يقول في شعره أنه يبحث عن رجل واحد يكون شبيها له لكي يشاركه الحديث في كوخه (لكنه لا يجد) وفي هذا القول ما يفيد عن عمق المسافة التي فصلت الشاعر عن الناس وعن زمانه وجعلته يقول في أحد أشعاره أن خير أصحابه هي الجبال والأنهار !! أي الطبيعة النقية الصافية. فمن هو هذا الشاعر وما الذي يمكننا أن نتعلم منه؟

ولد ريوكان الناسك في العام 1758 في منطقة أشيجو النائية في شمال اليابان والتي تتميز بطبيعة جبلية ساحرة وطقس ثلجي خلال أشهر الشتاء. وقد درس ريوكان الشاب الآثار الكلاسيكية للفكر الصيني والياباني، وكان والده رئيس البلدة كما أنه كان شاعراُ معروفاً في فن الهايكو وهو فن خاص من الشعر الياباني الذي يهتم بالطبيعة ويستخدم أسلوب الأبيات القصيرة والإيحائية للتعبير عن تجربة داخلية ذات عمق وجودي أو روحي.
وكان ريوكان الشاب وسيما ومحط أنظار فتيات القرية، لكنه على أثر أزمة قلق وجودي وبحث عن معنى الحياة نذر الفقر وقرر ترك كل أملاكه ومكانة العائلة والالتحاق بدير للرهبان البوذيين وكان يومها في العشرين من عمره.
في العام 1780 أصبح ريوكان مريدا للمعلم البوذي كوكوسن وكان أشهر معلمي بوذية التشان Zen Budhism وهي الفرع النُّسُكي والصوفي للبوذية. وقد سلك ريوكان بثبات في ذلك المعتكف الجميل في قلب الجبال إلى أن مات معلمه في العام 1791، ورغم أن ريوكان كان قد أصبح المريد المُفضَّل لكوكوسن الذي اختاره كخليفة له لرئاسة المعبد والطريقة التي كان يتبعها، إلا أنَّه رفض القيام بتلك المهمة وقرر بدلا من ذلك التحول إلى ناسك جوال وأمضى السنوات العشر التالية من حياته متجولا في أنحاء اليابان. ومع بلوغه مطلع الأربعينات من عمره عاد إلى مسقط رأسه حيث أمضى البقية الباقية من أيامه يعيش حياة بسيطة وهادئة في معتكف جبلي بعيد عن الناس. وكان يحصل على قوته بالتسول وطلب الطعام من الناس وكان بعد ذلك يشارك في طعامه العصافير وحيوانات الغاب. وكما توحي أشعاره فإن ريوكان كان يمضي أيامه في التأمل الروحي في كوخه أو في النظر إلى القمر أو اللعب مع أطفال القرية أو يزور الأصدقاء ويحتسي معهم نبيذ الأرز أو يرقص في الاحتفالات ويخط أبياته الشعرية بريشته ومحبرته مخلفا بذلك مخطوطات رائعة الجمال وذات قيمة فنية نادرة.
كتب أحد أصدقائه يصفه بهذه الكلمات:
“عندما يأتي ريوكان لزيارة أحد فكأنما حل الربيع فجأة في يوم شتائي قاتم. لقد كان يتميز بشخصية شفافة ونقية لا تشوبها شائبة من تصنع أو ازدواجية. وكان يشبه كثيرا أولئك الخالدين من أعلام العبادة والزهد الذين بلغتنا أخبارهم ومآثرهم في الآداب والسير القديمة كان يشع حرارة ومحبة ولم يظهر في حياته أي غضب ولم يكن يستمع لأي نقد يوجه إلى آخرين، وكان مجرد اللقاء به يبرز في الناس أفضل ما في شخصهم وأطباعهم”.
في إحدى المرات طلب منه أحد أقاربه أن يساعده في إرشاد ابنه المنحرف، وقد أجاب ريوكان الطلب بأن قام بزيارة الأسرة وأمضى ليلته مع أفرادها، لكنه لم يتحدث إلى الشاب أو يسعى إلى وعظه، وفي الصباح وعندما كان يستعد للمغادرة كان الشاب يساعده في ربط صندله عندما أحس بنقطة ماء حارة تسقط عليه وعندما رفع نظره وجد ريوكان يبكي بحرارة لحاله. وكانت الحادثة المنعطف الذي ساعد الشاب على إصلاح نفسه.
روي أيضا أن أحد أمراء الساموراي بلغه أنباء ريوكان فأراد أن يكرمه وجاءه يوما يعرض عليه أن يبني له معبدا واسعا يسكنه. استمع الراهب إلى الأمير لكنه بقي صامتا ثم أخذ ورقة وخط عليها الأبيات التالية وسلمها إلى الأمير وقد كتب فيها:
«الريح يعطيني من أوراق الأشجار
ما يكفي لأوقد ناري»
أدرك الأمير مغزى الرسالة فانسحب وودع ريوكان باحترام وتوقير شديدين
مع تقدمه بالسن ظهرت علامات العجز على ريوكان فأقلع عن حياة التجوال والعزلة في البرية وقبل ضيافة أحد أصدقائه في منزل سكنه حتى وفاته عن عمر بلغ الثالثة والسبعين في سنة 1831.
خلال حياته الصوفية كتب ريوكان ألاف الأشعار بخط رائع جعل منه أحد أبرز وأشهر خطاطي الأسلوبين الصيني والياباني الكلاسيكيين واحتفظ الناس بآثاره وحرصوا عليها، ثم قام الشاعر تي تشن بجمع تلك الأشعار فصدرت كمختارات تحت عنوان “نقاط من الندى على ورقة اللوتس” سنة 1835 أي بعد أربع سنوات من وفاة الشاعر
ويعتبر ريوكان أعظم شعراء مدرسة التصوف البوذي Zen Budhism على الإطلاق كما أنه لغاية اليوم أعظم خطاطي اللغة اليابانية الكلاسيكية.
في الجزء التالي أشعار مختارة قمنا بترجمتها عن النسخة الإنكليزية للديوان الذي ترجمه عن اليابانية جون ستيفنس وصدر عن دار شامبالا في العام 1993.

شعري ليس من الشعر!

من قال أن شعري هو من الشعر؟
إن شعري ليس من الشعر
لذلك، وعندما تدرك أن شعري ليس من الشعر
عندها فقط يمكننا أن نبدأ الحديث عن الشعر

إلى مرشدي

قبر قديم بعيد عن الأنظار في أسفل تلّه مهجورة
تغطي جوانبه أعشاب تنمو وترتفع عاماً بعد عام
لم يعد هناك من يعتني بالقبر
وربما مر أحد الحطابين بالمكان من حين لآخر
كنت يوما مريده وكنت شابّاً أشعث الشعر
ونهلت العلم منه على ضفة النهر.
وفي أحد الأيام غادرته مسافراً لوحدي
ومرت الأيام والسنين على افتراقنا بصمت
وهاأنذا أعود، لأجده راقدا في المكان
كيف أكرم ذكرى روحه؟
أسكب إبريقا من الماء فوق شاهد قبره
وأتبع ذلك بصلاة صامتة
فجأة، تختفي الشمس خلف التلال
ويلفُّني هدير ريح يعصف بين أشجار الصنوبر
أحاول أن أنتشل نفسي بعيدا لكنني لا أستطيع
سيل من الدمع يبلل أطراف أكمامي
كوخي الجميل

في شبابي وضعت جانبا هم الدرس
وأخذني طموح بأن أكون قديسا
أن أحيا كراهب متجول يعيش على الصدقات
وقد جلت الفيافي في كل اتجاه لأكثر من ربيع
أخيرا عدت من حيث انطلقت لأقيم تحت قمة وعرة
وهاأنا الآن أعيش بسلام داخل كوخ من القش
أصغي إلى العصافير وموسيقاها الجميلة
والسحب في السماء أفضل جيران لي
وفي أسفل التلّه ينبوع رقراق حيث أطهر الجسد والروح
وفي أعلاها أشجار سنديان وصنوبر باسقة تمدني بالظل وبالحطب
ها هنا أتنفس الحرية في النهار وفي الليل
ليست لي رغبة بترك هذا المكان أبدا
إن سأل أحد عن مسكني
فإنني سأجيب:
مسكني على الحافة الشرقية
من مجرّة درب التبانة
مثل سحابة في الفضاء
لا يقيِّدها شيء
فإنني أترك نفسي
لتنساب حيث تشاء الريح

هذه الحياة!

ممزقة ومهلهلة، ممزقة ومهلهلة
ممزقة ومهلهلة هذه الحياة
تسألني عن الطعام؟ إنني أجمعه من الطريق
والشجيرات والعليّق استولت على كوخي منذ زمن
غالبا أجلس أنا والقمر كل الليل
وكم من مرة نسيت نفسي وسط الأزهار البرية
فغاب عن ذهني أمر العودة إلى البيت
لا تعجب إذن لم تركت الحياة مع الناس
كيف يمكن لراهب مجذوب مثلي أن يعيش في معبد؟

قصيدتان إلى الصديق بوزاي

حقا أنني رجل محدود الفهم
أعيش بين الشجر والنباتات
لا تسألني عن مسائل مثل وهم الوجود والتجليات
فهذا الرجل البسيط كل همه أن يبتسم لنفسه
أشق طريقي وسط الجداول برجلين نحيلتين
أحمل كيسا عندما يكون الطقس ربيعيا
تلك هي حياتي
ولست مدينا بشيء لهذا العالم
هذه الدنيا البرّاقة لا تثير في نفسي أي اهتمام
وأقرب الأصدقاء إليّ هي الجبال والأنهار
السحب تبتلع ظلي عندما أسير
وعندما أجلس على قمة الجرف تحلق فوقي الطيور
مرتديا صندلا من القش، يعلوه الثلج، أزور قرى باردة
حاول كل جهدك أن تتعمق في معنى الحياة
وسيمكنك عندها أن تدير ظهرك حتى للأزهار الجميلة

لم يأت الخريف بعد

طريق فريد بين عشرة آلاف شجرة
وادٍ غارق في الضباب، محتجب بين آلاف القمم
لم يأت الخريف بعد، لكن أوراق الشجر بدأت تتساقط
لم يهطل المطر بغزارة، لكن الصخور اتخذت لونا قاتما
مع سلتي الصغيرة أقطف الفطر
وبهذا الطاس الصغير أغترف مياه الينابيع النقية
وما لم تلق بنفسك –عمداً- في حالة من الضياع التام
فإنك لن تصل -بعيدا- إلى حيث وصلت

الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغابة
الكوح الذي كان يمضي فيه أيامه ولياليه ساهرا منأملا القمر وسلام الغاب

مرآة الماء

أرتقي إلى قاعة الحب الكبرى
وأسرح بنظري نحو الغيوم ووهج الغروب
أشجار موغلة في القدم تمتد إلى حدود السماء
ونسيم عليل يُحدِّث عن عشرة آلاف جيل من البشر
وفي الأسفل نبع التنين الملك
وهو من الصفاء بحيث يمكنك أن ترى أول منبعه
لذا فإنني أن صادفت أحد المارة أناديه:
تعال وشاهد نفسك في مرآة الماء

ليل لا ينتهي

في حلكة الليل وعمق الجبال
أجلس متربعا للتأمّل
شؤون الدنيا لا طريق لها إلى هذا المكان
كل شيء هنا هدوء تام وفراغ
كل البخور ابتلعه ليلٌ لا ينتهي
وقفطاني أصبح ثوب من ندى
لم أستطع النوم، لذلك خرجت أتمشى في الغابة
فجأة، من خلف أعلى قمة، ظهر البدر التمام

قصائد جبل الصقيع

في كوخي وجدت نسخة من كتاب “قصائد جبل الصقيع”
أجده خيراً من كتب الأصول الفلسفية
لذلك أقوم بنسخ أبياته الجميلة
وأعلقها حولي على الجدران
متذوقا كل منها مرارا وتكرارا

هرّة ..وفأر

في صومعتي يعيش معي هرة وفأر
كلاهما من الحيوانات ذات الفراء
الهِرّة سمينة وتغط في النوم في عز النهار
أما الفأر فنحيل ويتحرك في الظلمة
الهِرّة أنعمت عليها الطبيعية بمواهب ومهارات
مثل قدرتها على اصطياد الكائنات الغبية واتخاذها طعاما
أما الفأر فتلاحقه اللعنات
وهو يسرق الفتات من هنا أو هناك لسد رمقه
الفأر أحيانا يصيب بالتلف مؤونة البيت
لكن المؤونة يمكن أن نأتي ببديل لها
بينما الكائن الحي، إن مات، لا يمكن أن تجد له بديلا
لذلك فإنك إن سألتني أي الاثنين يحمل وزراً أكبر
فإنني سأقول: الهِرّة

تسليتي اليومية

تسليتي اليومية هي اللعب مع أولاد القرية
وأنا، من أجل ذلك، أخبئ في كم ثوبي دوما كرة من قماش
لا فائدة منها لغير اللعب
كذلك، فإنني أعرف كيف أتمتع بهدوء الربيع
كرة القماش التي في كم ثوبي بالنسبة لي
أثمن من ألف قطعة من الذهب
وأنا ماهر جداً في اللعب بكرة القماش
لذلك إن سألني أحدهم عن سرِّي فإنني سأجيبه:
هذا هو سرّي: “واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة…..”

لا أحد هنا لأحدّثه

أي حياة هذه التي أعيشها؟
سائحا في الأرض فإني أسلم نفسي للقدر
ضاحكا أحيانا، وأحيانا أمسح الدموع
لست برجل دنيا ولا أنا براهب
مطر ربيعي مبكر ينهمر وينهمر
لكن أزهار الخوخ لم تلق بعد بأنوارها على الأشياء
طيلة الصباح، أجالس المدفأة
لا أحد هنا لأحدثه
أبحث عن كراستي
ثم أخط بريشتي بعض الأشعار

عندما فارقت الأهل

وجود البشر على هذه الأرض
مثل زغب طير في تيار جارف
من أين إذن سيأتي الشعور بالأمان؟
لهذا السبب
أخذت عِدَّة النُسَّاك وفارقت أهلي
وودعت الأصدقاء
كل ما أملك الآن ثوب وحيد
وطاس قام بأودي كل تلك السنين

أنا وكوخي

أحب كثيرا هذا الكوخ الصغير
وغالبا ما أمضي وقتي في أحضانه
فنحن روحان متلازمان
لا يهم من منا هو الضيف ومن هو المضيف
ريح عاصفة تهب عبر أشجار الصنوبر
والصقيع يجمد ما تبقى من أزهار الأقحوان
يدا بيد –أنا وكوخي- نقف معا فوق الغيوم
متحدين كجسد واحد نجول في ما يتعدى الوجود

حُرّا .. ودون عمل

ريح شرقية جلبت معها غيثا يروي الأرض
في كوخي البسيط
مطر ينهمر فوق سقف من الأغصان والقش
بينما الناسك يغطُّ في نوم عميق
غير عابئ بما يجري خارج الجدران
الجبال الخضراء تستحم في ضوء الصباح
وطيور الربيع تُغرِّد فوق الأغصان
أمّا أنا فأخرج لأمشي ولا أعرف إلى أين!
جداول رقراقة تنساب نحو القرى البعيدة
وبساط من أزهار رائعة يكسو المنحدرات
فجأة تقع عيناي على فلاح يقود ثورا
وولد يافع يحمل معولا..
جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول
من الفجر وحتى الغروب
وحدي أنا أجد نفسي حرّا ودون عمل
ملتصقا بقوة بالمصدر الذي جئت منه

بدر الخريف

يظهر القمر في جميع الفصول، هذا صحيح،
لكن أفضل بدر في السنة هو بدر الخريف
في الخريف تضاء الجبال بالألوان وتصفو الينابيع
ويسبح قرص من الضوء في السماء اللانهائية
تنمحي الفوارق بين الضوء والعتمة
وكل الأشياء تغدو مشبعة بحضوره
الفضاء اللامحدود فوقي وهواء بارد يلفح وجهي
آخذ متاعي العزيز وأنطلق هائما بين التلال
لا يوجد هنا أثر حتى لغبرة واحدة من غبار العالم
لا يوجد إلا الضوء المتوهج للقمر
أرجو أن يكون هناك آخرين كثر ينظرون هذا البدر الليلة
هذا البدر الذي يسطع نوره على جميع أصناف البشر
خريف بعد خريف يأتي القمر ثم يمضي
وسيبقى البشر يتأملونه في السماء إلى الأبد
تعليم البوذا أو مواعظ إينو
لابدَّ أنها أيضا حصلت تحت ضوء هذا القمر
لذلك أجلس متأملا القمر طوال الليل وأتساءل
أي مسافر سينظر هذه الليلة إلى القمر ؟
وأي بيت سينهل الليلة أكثر من ضيائه؟

هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار
هنا أتنفس الحرية في الليل والنهار

شهر شباط

الثلج يتساقط
مختلطا بالريح
والريح تزأر
مختلطة بالثلج
وأنا، مستلقٍ جنب الموقد
أمد رِجليّ
مسترخيا غير عابئ بالوقت
منعزلاً في هذا الكوخ
أعدُّ الأيام
وإنني لأجد
أن شهر شباط أيضا
أتى ثم ذهب
مثل حلم

دعاء للطبيعة

أمطار الربيع
زخّات الصيف
والخريف الجاف
دعائي أن تبتسم الطبيعة لنا
وأن نأخذ جميعا من نعمها الوفيرة

ماذا فعلت؟

أرجوك لا تظنني عصفورا
إن رأيتني أدخل الحديقة
لآكل من ثمار التفاح
لقد جئت إلى هنا
طلبا لحفنة من الأرُزّ
لكن مروج النفل
المتفتحة بين الصخور
جعلتني أنسى السبب
الذي من أجله قدمت إلى المكان

يوم جوع

لا حظَّ لي اليوم
في تسوّل الطعام
من قرية إلى قر%

يوثيفرو

يوثيفرو

سقراط يحرج مدعي المعرفة بالتقوى والقداسة

يوثيفرو: كل ما يرضي الآلهة هو من أعمـــــــال التقوى
سقراط: لكنهم كما تقول يختلفون ويتقاتلون فكيف نعرف؟

سؤال محيِّر من سقراط إلى محاوره : هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبوب من الآلـهة؟

هناك تعريف شهير لسقراط يقول فيه إن “المعرفة الحقيقية هي أن يعرف المرء أنه لا يعرف شيئاً” وبالطبع قليلون ربما يدركون المعنى البعيد لهذا التعريف وربما استحسن البعض استخدام سقراط للكلمات واستخدامه لأسلوب المفارقة لكي يحضّ الناس على ترك ما يعتقدونه ويفكروا بطريقة جديدة. الهدف الحقيقي لسقراط هو أن يبيّن أن المعرفة الحقيقية وهي معرفة ما يتعدى الظواهر لا تحصل إلا لمن طهر باطنه من كل العلوم السابقة وكل الأفكار والتصورات والأوهام، وبات في حال من الفراغ يقول فيه فعلاً وعن قناعة راسخة أنه «لا يعرف شيئاً” فإذا بلغ هذا القدر من كمال “التخلية” فإنه يصبح عندها مثل صفحة بيضاء قابلاً لتلقي العلم اللدني وهو العلم الحقيقي غالباً من مرشد كامل إجتاز كل مراقي التحقق العرفاني.
كانت رسالة سقراط في الحياة لذلك هي تقديم البراهين على خواء العلوم الكتبية ومدارك المنطق والعلوم الظاهرة مشيراً على الدوام إلى «علم العلوم” كلها وهو إن كان لك حظ الحصول عليه فإنك ستبلغ من خلاله معرفة كافة العلوم والحقائق الظاهرة والباطنة.
في محاورة يوثيفرو يقدم أفلاطون نموذجاً بارزاً بل وساطعاً على الأسلوب السقراطي في إظهار سهولة الوقوع في وهم “المعرفة” وكيف يمكن للمرء أن يكون تحت سلطان الوهم وهو مقتنع بل واثق تماماً من أنه على العكس إنما يمتلك أعلى درجات المعارف. وكون المرء يعتقد أنه يعرف (وهو لا يعرف) هو أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب الناس، وبما أن أكثر الناس هم مثل بطل محاورة يوثيفرو يعتقدون أنهم يعلمون وهم في الحقيقة لا يعلمون، وبما أنه لا يوجد دوماً مرجع مؤتمن (مثل الحكيم أو إمام العقل) يحكم بينهم فيجمعهم على الصواب والحقائق، فإننا سنجد الناس دوماً في صراعات والمجتمعات في تناحر دائم «كل حزب بما لديهم فرحون» حسب قول القرآن الكريم (الروم:32). وسنلاحظ أن سقراط، كما في أكثر محاورات أفلاطون لا يعطي بنفسه الجواب على السؤال الذي أحرج مدعي المعرفة يوثيفرو لأن القصد الأهم لسقراط هو التأكيد على نسبية المعارف الإنسانية وإظهار حدودها وليس تقديم الجواب العرفاني على المسائل. بذلك تنتهي محاورة يوثيفرو ليس بجواب شاف من سقراط بل بتخلص يوثيفرو من المأزق الذي أوقع نفسه فيه عبر اختلاق عذر للإنسحاب من المواجهة.

المحاورة
تعتبر محاورة «يوثيفرو» لأفلاطون بين الأعمال المبكرة التي كتبها والتي تركز بصورة خاصة على تقديم الحكيم سقراط وقد كتبت على الأرجح في العام 308 قبل الميلاد بعد موت الحكيم تنفيذ الحكم المحكمة الأثينية. والمحاورة تدور كلها حول لقاء بالصدفة بين سقراط وبين يوثيفرو على مدخل محكمة أثينا المتخصصة في الشأن الديني وقد تطور اللقاء إلى محاورة مهمة بين الحكيم سقراط وبين يوثيفرو الذي بدا للحكيم بمجرد أن بدأ الحديث مثقفاً سطحياً لكنه يعتقد في نفسه ميزات فريدة.
المفارقة الأهم اللافتة في يوثيفرو هي أن الرجلين حضرا للمثول أمام المحكمة نفسها لكن لسببين مختلفين، فسقراط استدعي بسبب إدعاء أحد مواطني أثينا ويدعى ميليتوس عليه بتهمة إفساد الشباب، وميليتوس هذا شخص مغرور لا شأن له لكن من مفارقات الديمقراطية الأثينية أن التهمة التي بدت مجرد تصرف وقح ضد حكيم أثينا الأكثر شعبية في زمانه عادت وتفاعلت لتؤدي إلى الحكم عليه بالموت بتجرع السم..
أما يوثيفرو مدعي الحكمة والعلم بكل شيء فقد لفت سقراط أنه حضر إلى المحكمة لتقديم دعوى ضد والده بتهمة قتل أحد العمال الذين كانوا يساعدون يوثيفرو في أعمال الزراعة. حقيقة الأمر في شكوى يوثيفرو هي أن عاملاً زراعياً كان يعمل عند الأخير قام وهو في حالة سكر بذبح عامل آخر وهو أمر أغضب والد يوثيفرو فقام بتقييد القاتل بسلاسل ورماه في جب، وأرسل في طلب المحقق لكي يوثق الجريمة ويتابع أمر العقوبة لكن قبل أن يصل المحقق إلى دار والد يوثيفرو كان الرجل قد مات من البرد والجوع في حفرة التراب. المفارقة التي قصد أفلاطون التشديد عليها هي التناقض البديهي بين شخصية من يعلم وشخصية من لا يعلم ويعتقد أنه يعلم. فسقراط أتى المحكمة متَّهَماً لأنه لفرط شعبيته خصوصاً بين الأجيال الشابة جعل الكثيرين في أثينا يخافون تأثيره ويسعون لإسكاته. وقد كان هذا سبب وجوده أمام المحكمة ربما تمهيداً لاستجوابه من قاضي الشؤون الدينية في التهم الموجهة إليه من خصومه. أما يوثيفرو فقد كان سبب وجوده في المحكمة أنه جاء ليدعي على والده بتهمة القتل وهو يعتقد أنه إنما يعمل بذلك وفق مبدأ التقوى وأخذ جانب الحق والعدل. ونحن نعرف من سياق القصة أن والد يوثيفرو لم يرتكب جريمة القتل وإنما قام باعتقال القاتل الذي ذبح عاملاً آخر وألقى به في حفرة مقيداً في انتظار وصول المحقق لكي يتخذ الإجراءات اللازمة. ويبدو أن الرجل لم يستطع تحمل البرد ونقص الطعام فمات قبل وصول المحقق. وبما أن يوثيفرو يعلم كل تلك التفاصيل فإن سعيه لملاحقة والده بتهمة القتل يمثل عنواناً لمدعي العلم يفرقه بوضوح وهو أنه يعتقد فعلاً أنه على الصواب في وقت يبدو ضلاله جلياً لكل من لديه حد أدنى من التمييز.
كأن أفلاطون يريد عبر شخصية يوثيفرو أن يعطينا فكرة عن انتشار الحماقة بين الناس وندرة الحكمة والعقلاء وكأن الذين حضروا في محكمة أثينا لينتهوا بإدانته بصورة اعتباطية لا يختلفون كثيراً عن يوثيفرو فهم مثله يظهرون ثقة كبيرة في ما يعتقدونه ولا يبدون مهتمين بالأخذ ممن يتقدمهم معرفة أو خبرة، وهم مستعدون (كما هي حال العوام دوماً) لإتباع الهوى وغالباً ما ينجم عن اجتماعهم شتى أنواع الكوارث والمظالم، أما زعماؤهم فهم كالأعمى الذي يقود عمياناً. ومثل كل من يتبع الهوى فإن يوثيفرو سيبدو لنا بعد قليل من تطور الحوار شخصاً تناقض أعماله ما يدعيه من إلمام بالحكمة وبالمعارف.
تبدأ المحاورة بإظهار يوثيفرو استغرابه لوجود سقراط في المحكمة، ويداخله الشك بأن أحداً ما ربما يدعي عليه بأمر إذ إن سقراط حسبما يعلم يوثيفرو لا يمكن أن يأتي المحكمة ليدعي على أي إنسان، لذلك فهو يبدأ بسؤال الحكيم عن طبيعة التهمة الموجهة إليه.
سقراط: ما هي التهمة؟ حسناً إنها تهمة جسيمة
يبدأ سقراط الإجابة بلهجة ساخرة فهو يقول: إن ميليتوس يجب أن لا يلام لاتهامنا بإفساد الشباب، لأن الرجل يعلم من الذين يتم إفسادهم ومن هم المفسدون فهذا الرجل يجعل أول همه مصير الشباب ويسعى لإزالتنا نحن الذين نقوم بتدميرهم.
يعود يوثيفرو إلى السؤال: ولكن حسب هذا الرجل ما هي الكيفية التي تقوم أنت فيها بإفساد عقول الشباب؟
سقراط: إنه يأتي بتهمة رائعة ضدي، وهو يقول عني إنني شاعر أو إنني أخترع آلهة جدداً وأنكر وجود الآلهة السابقين (آلهة أثينا) وهذا هو جوهر التهمة.
يوثيفرو: أفهم من ذلك يا سقراط، إن هدف الرجل هو أن يلصق بك تهمة الهرطقة أو الابتداع وأنه يريد أن يأخذك إلى المحكمة بهذه التهمة لمعرفته بأن هذا النوع من التهم يلقى فوراً آذاناً صاغية، وهذا أمر إختبرته بنفسي لأنني عندما أبلغ الناس عن الأمور الإلهية وأتنبأ بالمستقبل لهم فإنهم يسخرون مني ويرمونني بالجنون، هذا مع العلم أن كل كلمة أقولها هي الحقيقة لكنهم يحسدوننا ويجب علينا لذلك أن نكون شجعاناً وأن نردّ عليهم بقوة.
هنا يجعلنا أفلاطون نقرأ المكتوب من عنوانه كما يقال، إذ إن يوثيفرو من أول الطريق يضع نفسه في مصاف سقراط (إذ يقول: «يحسدوننا») وهو يبلغ الحكيم بشيء من السذاجة عن إحاطته بالعلوم الإلهية وقدرته التنبؤ بالمستقبل. بالطبع لا يوجد شخص حكيم يتفوّه بمثل هذه الادعاءات؛ وسنرى أن سقراط يبدأ بأن يجاري يوثيفرو في دعواه كما هو أسلوب الحكيم دوماً، إذ إنه لا يناقض محدثه ولا يبين له خطأه أو يسفّه تفكيره بل يقوده، من خلال أسلوبه الفريد في الحوار، ليكتشف بنفسه خطأ مقولاته وعندما يتضح للشخص خطأه فإنه على الأرجح يصبح مستعداً أكثر لتبين الحقيقة وللإستماع بصورة أفضل لسقراط والخضوع لأسلوبه في السير بمحدثه خطوة خطوة في طريق المعرفة.

هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟
هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟

“سقراط تعجّب لقيام يوثيفرو بملاحقة والده بتهمة القتل فسأله: هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وما هو إثم معرفة دقيقة؟”

سقراط: إن سخريتهم يا صديقي يوثيفرو لن تنال منك في شيء لأن الناس قد ترى في رجل ما حكيماً لكنهم لن يتعرضوا له بشيء إلى أن يبدأ بعرض حكمته على الآخرين، يحصل ذلك لسبب أم لآخر لكنه قد يكون شعور الحسد هو الذي يجعلهم ينقمون.
يوثيفرو: بالتأكيد، لذلك فإنني أسعى جهدي كي لا أستفزّهم بتلك الطريقة.
سقراط: أنت رجل رصين ومتحفظ في عرض حكمتك على الآخرين، لكن على العكس فإن لدي تلك العادة وهي أنني أقدم نفسي لكل الناس، حتى إنني قد أدفع المال لمن يرغب في الاستماع إليّ، وأخشى نتيجة ذلك أن ينظر الأثينيون إليّ باعتباري ثرثاراً. مع ذلك فإنهم لو اكتفوا بالهزء مني كما يهزأون منك لهان الأمر، لأنهم على الأرجح ينوون أمراً أكبر وهذا الأمر حتى قارئو المستقبل قد لا يفلحون في توقعه.
يوثيفرو: إنني لأجرؤ على القول إن هذه القضية ستنتهي بسلام وإنك يا سقراط ستربح الدعوى.
يظهر أفلاطون هنا أن يوثيفرو رجل مدع فعلاً فهو يتنبأ بأن سقراط سيربح القضية وهو عكس الذي سيحصل فعلاً. لكن الحكيم المشهور بحلمه وأناته يتابع الحوار مستفسراً عن سبب مجيء يوثيفرو إلى المحكمة وهل هو مدعٍ أم مدعى عليه.
يوثيفرو: ربما تظنني مجنوناً إن أخبرتك.
سقراط: لماذا هل للمتهم الفار أجنحة؟
يوثيفرو: إنه والدي.
سقراط : وما هي التهمة؟
يوثيفرو: القتل.
يحاول سقراط كبت شعور الدهشة الذي يعتريه وهو يرى هذا الشاب يلاحق والده بتهمة خطيرة وهو أمر مستهجن في الأعراف الأثينية لأن للوالد كرامة كبيرة وشبه قداسة في هرم الأسرة وفي المجتمع وهو يستحق الخضوع والاحترام التامين. لكن سقراط يغتنم الفرصة للبدء بالمحاورة وهو يستدرج يوثيفرو إلى الموضوع بإظهار العجب من عمل يوثيفرو الذي لا بدّ أن تكون لديه معرفة كبيرة بما هو حق وما هو باطل من الناحية الدينية لكي يقوم بهذا العمل غير المسبوق وهو ملاحقة والده أمام القضاء.
سقراط: لا بدّ لمن يقوم بمثل هذا العمل الجريء أن يكون رجلاً استثنائياً سار أشواطاً طويلة في طريق الحكمة !
يوافق يوثيفرو سقراط على فرضيته مؤكداً له أنه “ضليع جداً بمختلف شؤون الدين” فيتابع سقراط السؤال عن “الضحية” إذ لا بدّ أن تكون من أفراد أسرة يوثيفرو أو أقربائه لكي يكون غاضباً إلى حدّ ملاحقة والده، لكن يوثيفرو ينفي الأمر وشعور الغرور لديه على حاله فيقول:
يوثيفرو: عجباً يا سقراط، هل تريد أن تميز فعلاً في شأن الضحية بين من هو قريب ومن هو غريب؟ لأن شر القتل لا يتبدل وجوهر الموضوع هو هل أن الضحية قتلت لسبب وجيه أو ظلماً؟
بناء على سؤال من سقراط يشرح يوثيفرو تفاصيل الحادثة وكيف قام أحد عماله وكان تحت تأثير السكر الشديد بقتل زميل له، وقد نجم عن ذلك أن قام والد يوثيفرو الغاضب بتقييد القاتل بالسلاسل ورميه في حفرة ليومين أو ثلاثة ريثما يأتي المحقق لاستجوابه، وما حدث بعد ذلك من موت الرجل في الحفرة بتأثير البرد والجوع . واضح بالطبع أن والد يوثيفرو لم يقصد القتل وإن كان تصرف بغلظة بتأثير الجريمة التي ارتكبها العامل، لكن يوثيفرو يصرّ على ملاحقة والده والادعاء عليه لأنه بذلك (حسب ادعائه) يأخذ جانب التقوى والحق الإلهي، وهو يعترف لسقراط بأن والده وأسرته غاضبون عليه بسبب موقفه الشاذ، لأن من أكبر الآثام في أثينا أن يقوم ولد بملاحقة والده لكن يوثيفرو يؤكد لسقراط أنه لن يعبأ بكل هذا في سبيل سعيه لإحقاق الحق.
هنا يدخل سقراط في الموضوع بسؤال مهم:
سقراط: لكن هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وبين ما هو إثم معرفة دقيقة، وبناء على الظروف التي شرحتها لي ألست قلقاً من أن يكون أيضاً في ما تفعله من ادعاء على والدك إثم كبير؟
يوثيفرو: أفضل ما في يوثيفرو يا سقراط وما يميزه عن الآخرين هو أن علمه دقيق وصحيح في كل هذه الأمور وأي قيمة لي من دون هذا العلم؟
كل جملة جديدة يتفوه بها يوثيفرو تزيد المتابع اطلاعاً على شخصية مدعي العلم وهي الثقة التامة بعلمه وعدم قبوله للنصيحة أو استعداده لمناقشة ما يقوم به. وقد بلغ اعتداد يوثيفرو حداً لم يدع لسقراط تعليقاً سوى الطلب منه أن يكون مُعَلِّمه. وفي هذا الطلب بالطبع سخرية مبطنة من الحكيم ولكنه الطريق الذي سيأخذه ليكشف لمحاوره أنه لا يعلم شيئاً في الوقت الذي يظن نفسه أعلم العلماء.
سقراط: أيها الصديق النادر الوجود أعتقد أن أفضل شيء يحصل لي هو أن تقبلني مريداً!
هنا يتوسع سقراط في سبب سؤاله يوثيفرو أن يكون مرشداً له بالقول إن ذلك سيمثل دفاعاً جيداً له ضد تهمة ميليتوس لأنه سيتحدى الأخير عندئذ بالقول إنه مريد ليوثيفرو المفكر العظيم وإنه إذا كان يوثيفرو على صواب فإنه لا بدّ أن يكون هو على صواب أيضاً وإن كان ميليتوس والمحكمة يرون في أفكاره ما يستوجب الاتهام والعقوبة فإن يوثيفرو باعتباره «معلمه» أجدر بأن يلاحق ويتهم لأن سقراط لا يفعل سوى التعبير عن أفكار مرشده يوثيفرو!!
اللافت أن يوثيفرو يسارع إلى قبول سقراط تلميذاً له في بادرة تدل على أن جهله يقارب حدود الحماقة. لكن سقراط يمضي في خطة الحوار ويبدأ بصورة مواربة الدخول في جوهر الموضوع.
سقراط: إنني أرجوك أن تبين لي أولاً طبيعة التقوى وطبيعة نقيضها وهو الإثم أو الفساد وهي أمور قلت إنك تعرفها جيداً كما تعرف عن غيرها من أشكال الزلل في العلاقة مع الآلهة. أليست التقوى هي نفسها التي نجدها في كل عمل من الأعمال؟ وكذلك الإثم أو الضلالة أليس ذلك هو نفسه في كل الأعمال التي يمكن وصفها بأنها تناقض التقوى؟
يوثيفرو: التقوى هي أن تعمل كما أعمل، أي الإدعاء على الشخص المتهم بالقتل أو بأي إفساد في الأرض سواء كان المتهم والدك أو والدتك أو أي كان، فذلك يجب أن لا يحمل أي اختلاف في الحكم وبالتالي فإن عكس التقوى هي أن لا تلاحق هؤلاء الناس أمام المحكمة.
يتابع يوثيفرو فيعطي أمثلة من الأساطير اليونانية القديمة يعرض فيها لحالات قام فيها الولد بتقييد أبيه (الإله زويس ووالده (كرونوس) لأنه التهم أولاده، كذلك فعل كرونوس نفسه بوالده أورانوس.إذ قام بخصيه وهذا من الأفعال الفظيعة لولد بوالده، وهنا يبدي يوثيفرو وجهة نظر طريفة، إذ يقول: إذا كان يجوز للإله زويس تقييد والده وإذا جاز لكرونوس فعل أمر شنيع بوالده الواجب أن يعلن الناس تأييدهم له عندما يقوم بعمل مماثل لعمل الآلهة وهو ملاحقة والده أمام قضاء أثينا.
سقراط: أعترف لك بأنني لا أعرف شيئاً عن تلك الآلهة لكنني أسألك: هل تعتقد أنها كائنات حقيقية؟
يوثيفرو: بالتأكيد أنهم حقيقة ولدي علم بأشياء رائعة كثيرة الناس جاهلون بها تماماً.
سقراط: لكن هل تعتقد حقاً أن الآلهة يصارع بعضهم بعضاً وأنهم خاضوا معارك ضروساً في ما بينهم وما شابه كما يقول الشعراء أو كما جاء في أعمال بعض كبار القصاصين والرواة أو كما تراها مشخصة في مختلف المعابد، فهل كل هذه الروايات في نظرك يا يوثيفرو حقيقية؟
يوثيفرو: نعم يا سقراط، وفي إمكاني أن أقصّ عليك إضافة إلى ذلك قصصاً عن الآلهة سوف تذهلك !
يبدو واضحاً من سؤال سقراط أنه يتعجب من أن يوثيفرو يعتقد فعلاً بوجود الآلهة الأسطورية التي جاءت في قصص هوميروس مثلاً أو هيسيود Hesiod أو غيرهما وهذا التصديق لأدب خرافي والاعتقاد بشخصياته يظهر محدودية في التفكير ونوعاً من الاعتقاد الجامد الشبيه بما يشار إليه في أيامنا بالـ «أصولية» الدينية فهذه الأصولية مخلصة في اعتقادها لكنها تبني حجتها على إيمان متطرف بأمور وتقاليد وأشخاص دون تمحيص. لكن سقراط ليس مهتماً بهذا الجانب من “علم” يوثيفرو بل بالجانب المتعلق بادعائه العلم، لذلك

كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان
كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان

فإنه يعيد محاوره إلى الموضوع فيسأله مجدداً عن تعريف دقيق
لـ «التقوى» ونقيضها.
سقراط: ما أودّ الحصول عليه منك هو جواب أكثر دقة (لم أحصل عليه منك حتى الآن) على السؤال: ما هي التقوى؟
وهنا يعيب سقراط على يوثيفرو تعريفه التقوى بأنها أن يعمل المرء مثله أي أن يدعي على إنسان حتى ولو كان والداً أو والدة! لأن ما هو في صدده ليس إعطاء مثل أو مثلين على فعل التقوى بل الحصول على تعريف لـ «التقوى».
سقراط: قل لي ما هي طبيعة هذه الفكرة (التقوى) وعندها سيكون لديّ معيار أقيس به الأعمال سواء أعمالك أم أعمال أي إنسان آخر وعندها سيكون في إمكاني أن أقول إن عمل هذا أو ذاك هو من التقوى أو عمل آثم أو فساد.
يوثيفرو: التقوى هي أن تقوم بأعمال تحبها الآلهة والإثم أما الفساد هو كل عمل تكرهه الآلهة.
هذه بالطبع أول محاولة من يوثيفرو لتعريف التقوى، وهو أعطى الحكيم سقراط بذلك أول مستند لمواجهته بتناقضات منطقه.
أول ما سيفعله سقراط هو أن يستخدم قناعات يوثيفرو نفسها ليظهر له كم يعتريها من التناقض وكيف أنها لا تصلح لتعريف التقوى أو الفضيلة. إذا كانت التقوى هي كل عمل محبب للآلهة فإن كل الآلهة التي يؤمن بها يوثيفرو يجب أن يجتمع على رأي واحد وأن تكون لهم نفس الصفات الإلهية أو العصمة من الخطأ. وهنا يستدرج سقراط يوثيفرو للإقرار بأن آلهة الإغريق (على فرض كونهم حقيقيين وهو ما لا يؤمن به سقراط) لديهم أطباع وأمزجة وهم يتصارعون ويقاتل بعضهم بعضاً حال اختلافهم شبيهة باختلاف البشر، وبالتالي العمل الذي قد يروق لإله ما قد لا يروق لإله آخر مما يعني أن محبة الآلهة لعمل ما كمعيار لاعتباره من أعمال التقوى لا تستقيم كمعيار شامل، لأن ما قد يروق للإله زويس قد لا يروق للإله كرونوس وما قد يروق لكرونوس قد لا يروق للإله ترايدنت أو أورانوس.
يتابع سقراط لأن مقياس يوثيفرو للتمييز بين التقوى ونقيضها مقياس واه وهو يذكره أن الاختلاف حول الأرقام يحل بعلم الحساب والاختلاف حول مقاييس الأشياء يحلها الكيل، والاختلاف حول الأوزان يحلها الميزان لكن يقول سقراط: ما هي الاختلافات التي لا يمكن حسمها بهذا القدر من الموضوعية؟ ما هي الاختلافات التي قد تثير فينا شعور الغضب وتخلق العداوة بيننا؟ ويجيب سقراط على السؤال بالقول إن هذا النوع من الاختلافات يظهر عندما يتعلق الأمر بالعدل أو الظلم أو يتعلق بالخير ونقيضه الشر، أو يتعلق بما هو شريف وما هو غير شريف. أليست هذه الأمور التي يختلف حولها الناس؟
يوثيفرو: حقاً يا سقراط تلك هي الأمور التي نتنازع بشأنها كما تصف.
سقراط: وصراعات الآلهة، ايها الرجل النبيل يوثيفرو، عندما تحصل، أليست من طبيعة مشابهة؟
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط: أي إن بينهم اختلافاً في الرأي حول ما هو خير وما هو شرّ، ما هو عادل وما هو ظلم، ما هو شريف وما هو غير شريف، ولولا تلك الاختلافات لم نكن لنرى قيام النزاعات والصراعات بينهم أليس كذلك؟
يوثيفرو: يبدو الأمر كذلك.
سقراط: هذه الاختلافات سواء بين الآلهة أو بين البشر تعني أن الأمر نفسه قد يكون من التقوى وعكسها في آن معاً.
التعليق: إلى هنا يكون سقراط قد أطاح بالفكرة الأساسية ليوثيفرو في تعريف التقوى على أنها كل عمل يروق للآلهة. وبالطبع فإن سقراط لا يؤمن بتلك الآلة أصلاً أو بوجودها لكنه استخدم حجة يوثيفرو نفسها من أجل هدم نظريته. الخطوة التالية لسقراط ستكون اقتراح بديل فوري للفكرة السابقة وهو لذلك يسأل يوثيفرو:
سقراط: عند الحديث عن الناس (كبديل لموضوع الآلهة) هل سمعت في حياتك إنساناً يجادل في أن القاتل أو الشرير يجب تركهما وشأنهما؟ وهل يمكن لأي مجرم أن يعترف بذنبه ثم يحاول إقناع الناس أن عليهم أن يتركوه وشأنه دون عقاب؟
يوثيفرو: كلا بالتأكيد
سقراط: وأن مرتكب الذنب لا يناقش لإقناع الناس بأن الذنب ليس عملاً شائناً بل يحاول فقط تبرئة نفسه بأنه ليس الفاعل، أليس كذلك؟
يستنتج سقراط بأن الآلهة مثل البشر لا يمكن أن يختلفوا في حقيقة أن المجرم -أي مجرم- يجب أن ينال العقاب العادل، أي إنهم لا يمكن أن يختلفوا حول مبدأ العدل، لكن يمكن أن يختلفوا حول تقدير الوقائع أي إنهم -مثل ما قد يحصل داخل هيئة محلفين- قد يختلفون في تقييم فعل معين وهل تتوافر فيه مواصفات الجرم المستحق للعقوبة أم لا.
يوثيفرو: هذا صحيح.
هنا وقع يوثيفرو في فخ سقراط لأن الحكيم سيتحداه أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل حصلت وفق الظروف التي شرحها يوثيفرو بنفسه.
سقراط: كيف تثبت أن جميع الآلهة دون استثناء يوافقون على عملك؟ أثبت لي ذلك وسأثمن عالياً حكمتك ما حييت!
يوثيفرو: هذه مهمة صعبة
هنا يقترح سقراط تعديل التعريف الأولي للتقوى كما جاء به يوثيفرو (كل ما هو محبب للآلهة) إلى صيغة جديدة أقوى مفادها أن كل ما تجمع عليه الآلهة على أنه تقوى فهو تقوى وكل ما تجمع على اعتباره إثماً أو فساداً فإنه إثم وفساد.

سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق
سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق

مفارقة “يوثيفرو” الأساسية
عند هذه النقطة يعود سقراط ليشرح ليوثيفرو أنه حتى على فرض أنه أثبت له أن جميع الآلهة يوافقون على عمله وهو ملاحقة والده بتهمة القتل (وهو بالطبع أمر مستحيل) فإنه لم يجب حتى الآن على السؤال الأساسي المتعلق بطبيعة «التقوى» وهنا يرمي سقراط بالمفارقة الأساسية التي حيرت يوثيفرو وباتت المسألة المحورية في محاورة أفلاطون هذه.
ما هي تلك المفارقة؟ إنها في السؤال التالي الذي وجهه سقراط ليوثيفرو:
سقراط: إن النقطة التي أودّ أن أفهمها هي: هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من أعمال التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبّب إلى الآلهة؟
يريد سقراط هنا أن يشرح ما هو الأسبق وما هو مصدر عمل التقوى. هل محبة الآلهة لعمل التقوى سابقة له أي إنها السبب في تعريفه كذلك أم أنها لاحقة بمعنى أن العمل يأتي من الإنسان فتحبه الآلهة فيصبح من أعمال التقوى؟
يوثيفرو: لم أفهم ماذا تعني يا سقراط؟
يشرح سقراط بأن هناك دوماً فارق بين أن تَرى أو أن تُرى بين أن تَحمُل أو أن تكون محمولاً بين أن تُقود وأن تكون مُقاداً..
يوثيفرو: أعتقد أنني أفهم ما تعنيه
سقراط: بنفس المعنى السابق أن تكون محبوباً هي حالة تابعة لفعل الحب وليس فعل الحب تابعاً لها.
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط : وماذا تقول في التقوى يا يوثيفرو أليست التقوى حسب تعريفك محبوبة من جميع الآلهة.
يوثيفرو: نعم
سقراط: هل هي محبوبة بسبب قدسية التقوى أم لأي سبب آخر؟
يوثيفرو: كلا هذا هو السبب
سقراط: أي إن التقوى محبوبة من الآلهة لأن لها قدسيتها وليست للتقوى قدسية لأنها محبوبة من الآلهة.
يوثيفرو: بالتأكيد
يقدم سقراط بعد ذلك سلسلة من الأدلة تؤكد ليوثيفرو أن كل هذا السعي لتعريف التقوى بأنها ما يجمع الآلهة على محبته مازالت قاصرة عن تعريف كنه أو جوهر التقوى نفسها لأننا ما زلنا نعرف التقوى بشيء آخر خارجها مثل محبة الآلهة لها لكن يوثيفرو فشل حتى الآن في إعطاء تعريف حقيقي للتقوى كمفهوم أو كحقيقة سماوية (قدسية).بعد موضوع التقوى ينتقل سقراط في محاورته إلى موضوع القداسة Holiness .

البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية
البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية

“سقراط يتحدى يوثيفرو أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل!”

سقراط: يبدو يا يوثيفرو أنه في كل مرة أسألك عن طبيعة القداسة فإنك تقدم لي صفة من صفاتها وليس جوهرها أو ماهيتها الحقيقية.(والتي تجعل من عمل قدسي محبوب من الآلهة جميعاً)، لكنك مازلت ترفض أن تشرح لي حقيقة القداسة. وإنني لأسألك أن لا تخفي كنوز معرفتك عنا وأن تخبرني ما هي حقيقة القداسة وما هي حقيقة التقوى .
يوثيفرو: في الحقيقة لا أعلم يا سقراط كيف أعبّر لك عمّا أعنيه إذ لسبب ما فإن حجتنا في أي موضوع نتحاور فيه تدور في مكانها ثم تجدها تذهب بعيداً عنا.
سقراط: يبدو لي يا يوثيفرو أنك كسول فعلاً، لذلك سأحاول بنفسي أن أظهر لك كيف يمكن أن ترشدني في ما خص موضوع التقوى، وأنا أودّ أن أسألك : أليس كل تصرف يتميز بالتقوى هو أيضاً تصرف عادل.
يوثيفرو: نعم
سقراط: فهل كل ما هو عادل أيضاً من التقوى أو أن كل ما هو تقوى يتصف بالعدل بينما فقط بعض ما يتصف بالعدل هو من التقوى؟
يوثيفرو: إنني لا أفهم ما تقوله يا سقراط
سقراط: مع ذلك فإنني أعلم أنك أعقل وأكثر حكمة مني، لكن يبدو أن غزارة حكمتك تجعلك كسولاً فأرجو يا صديقي أن تتملك نفسك وتجتهد أكثر. السؤال الذي أودّ أن أسأله هو : هل ما هو عدل دوماً من التقوى أم أن كل عمل تقوى يتصف دوماً بالعدل؟ وهل لا يوجد هناك عدل حيث لا توجد التقوى -إذ إن العدل مفهوم موسع حيث تشكل التقوى جزءاً منه- هل تخالف هذا القول؟
يوثيفرو: لا بل أعتقد أنك على حق في ما تقول.
سقراط: والحال، إذا كانت التقوى جزءاً من العدل فإن علينا أن نسأل أي جزء؟ أي أنني أودّ منك أن تقول لي ما هو الجزء من العدالة الذي يمثل التقوى أو القداسة، لعلني بذلك أقنع ميليتوس أن لا يوقع بي الظلم ويتهمني بالإفساد.
يوثيفرو: التقوى أو القداسة تبدو لي يا سقراط ذلك الجزء الذي يهتم بالآلهة بينما نقيض التقوى والقداسة يهتم بالإنسان.
هنا يتساءل الحكيم سقراط عن معنى كلمة «اهتمام» التي أوردها يوثيفرو. ما معنى أن يهتم الأتقياء أو الأولياء بالآلهة؟ وماذا يمكن للإنسان أن يقدم للآلهة. وهو يعطي أمثلة اهتمام السائس بالأحصنة واهتمام الصياد بكلاب الصيد واهتمام صاحب الثيران بثيرانه، وهو يسأل يوثيفرو: هل هذا النوع من الاهتمام هو ما قصدته؟ يسارع يوثيفرو إلى النفي مؤكداً أنه لم يقصد عقد مقارنة بين الاهتمام بالآلهة وبين الاهتمام بالأحصنة أو الثيران !!
سقراط: وأنا أيضاً يا يوثيفرو لم أقصد ذلك، لكنني أسألك عن طبيعة الاهتمام بالآلهة الذي اعتبرته تعريفاً للتقوى ، فأنت لم توضح ذلك.
يوثيفرو: إنه نفس الاهتمام الذي يظهره الخادم أو العبد لسيده.
سقراط: أي أنه نوع من خدمة الآلهة.
يوثيفرو: تماماً
يتساءل سقراط هنا عن الفوائد التي تقدمها الآلهة بفضل اهتمام أهل التقوى بخدمتها؟
يوثيفرو: هناك الكثير من الأعمال المفيدة التي تقدمها الآلهة منها على سبيل المثال تمكيننا من النصر في الحرب.
سقراط: لكن بين تلك الفوائد ما هي الفائدة الأساسية والأهم التي تقدمها الآلهة؟
يوثيفرو: قلت لك سابقاً يا سقراط بأن تعلم كل هذه الأمور بدقة أمر مرهق، لكن دعني أقول إن التقوى أو القداسة هي تعلم كيف ترضي الآلهة بالأعمال والأقوال، بالأدعية والابتهالات والأضاحي، وبفضل أعمال التقوى هذه يتحقق الخلاص للعائلات وللدولة كما إن الفساد (أو غياب التقوى) يتسبب بإغضاب الآلهة ودمار العائلات والدول.
سقراط: هل تعني أن التقوى هي نوع من علم الدعاء للآلهة والتضحية لها؟
يوثيفرو: نعم هذا ما أقصده.
سقراط: وهذا يعني أن التضحية هي العطاء للآلهة وأن الدعاء هو الطلب منهم.
يوثيفرو: نعم يا سقراط.
سقراط: بناء على تلك النظرة فإن التقوى هي علم الأخذ والعطاء!
يوثيفرو: أنت تفهمني تماماً يا سقراط.
سقراط: لكن ما طبيعة تلك الخدمة لهم هل تعني أننا نسألهم عن أشياء ونقدم لهم هدايا في المقابل؟
يوثيفرو: نعم هذا ما قصدته.
لكن سقراط لا يبدو راضياً بهذا التعريف لأنه يبدو وكأن الناس تقوم بصفقات أو تجارة مع الآلهة، لكنها صفقات غير متكافئة، لأن الآلهة تعطينا نحن البشر عند سؤالها، وهذا متفق عليه، لكن ما الذي نعطيه نحن لها وإذا كنا نعطيهم فمن قال إنهم يريدون عطيتنا أو إنهم في حاجة إليها؟ وهل تعطي أياً كان شيئاً لا يريده وتعتبر ذلك هدية؟

محاكمة-أوديسوس---لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية
محاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينيةمحاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية

سقراط: ليس لدي أي شك في أن الآلهة تعطينا وليس هناك خير أو إنعام إلا وهم يقدمونه، لكن كيف يمكننا أن نعطيهم أشياء حسنة قيمة في المقابل؟ فهذا الأمر الأخير غير واضح البتّة لي!.
يوثيفرو: أو تعتقد حقاً يا سقراط أن هناك أي فائدة تنجم من أضحياتنا للآلهة؟
سقراط: لكن إذا لم تكن هناك فائدة للآلهة مما نقدمه فما هو معنى الهدية وما الذي تناله من هديتنا؟
يوثيفرو: لا شيء سوى أننا نكرِّمُهُم ونقوم بما يرضيهم.
سقراط: إذاً التقوى ليس فيها أي فائدة للآلهة لكنها تسرهم
يوثيفرو: هذا صحيح
سقراط: أي إن التقوى تسرّ الآلهة لكن ليس فيها فائدة لهم كما إنها لا ترضيهم بشيء.
يوثيفرو: بل يمكنني القول ليس هناك أعز على الألهة وأقرب إلى قلوبهم من التقوى.
سقراط: لكن ألم نتفق قبل قليل على أن ما هو من التقوى أو القداسة ليس بالضرورة هو نفسه ما هو محبب للآلهة؟ هل نسيت؟
يوثيفرو: لا بل أذكر ذلك.
سقراط: ألست من تقول إن ما تحبه الآلهة له قداسة لكنه أليس كل ما تحبه الآلهة قريب إلى قلوبها؟
يوثيفرو: صحيح
سقراط: إذاً إن ما اتفقنا عليه من قبل كان خطأ وإما أن نكون على صواب الآن.
يوثيفرو: أحد الأمرين لا بدّ أن يكون صحيحاً.
سقراط: إذاً علينا أن نبدأ من جديد بالسؤال: ما هي التقوى، وإن كنت لم تستطع بشيء من الثقة تعريف ما هي التقوى وما هو نقيضها فكيف يمكنني أن أثق بأنك تعلم ما أنت فاعله عندما تقوم بالنيابة عن أحد الخدم بملاحقة والدك بتهمة القتل، لو أنك تعرف فإنك لم تكن لتأخذ مثل هذه المخاطرة بارتكاب ما هو إثم في نظر الآلهة بملاحقتك والدك وكنت ستظهر احتراماً أكبر لرأي الناس، مع ذلك فإنني ما زلت موقناً انك تعرف طبيعة التقوى ونقيضها أي الفساد في الأرض، فلتقل لي يا عزيزي يوثيفرو ولا تُخفِ عني علمك !!!
يوثيفرو: ربما في وقت آخر يا سقراط لأنني على عجلة من أمري وعلي أن أذهب.

سعيد بك جنبلاط

سعيد جنبلاط
سعيد جنبلاط

هذا القول الشريف، والذي ينمّ عن أخلاق متعالية وهمم متفانية في نكران للذات، وفي أحلك الملمات وخصوصاً إذا كانت الشدائد تهدّد مصير الجماعة فلا ضير إذا دفع الفرد حياته ثمناً للعشيرة.
بعد انتهاء أحداث عام 1860 المؤلمة كان زعيم الدروز الأول سعيد بك جنبلاط منشغلاً في جمع محاصيل أملاكه وأثمانها من شركائه وكان السبب خشيته من نتائج الحرب الأهلية واحتمال اتهامه ببعض حوادثها، ولفت يومها أنه أرسل بكميات كبيرة من محاصيله وأمواله إلى بلدات له تقع عند أطراف جنوب جبل الشيخ مثل بلدات مجدل شمس وقراها في الجولان، وذلك كمقدمة لنقلها إلى جبل حوران إذ كان سائداً آنذاك أن الدروز سيتعرضون للإضطهاد من قبل الدول الأوروبية وقد استعد الكثيرون منهم للجوء إلى جبل حوران (جبل الدروز) في ما بعد والبقاء فيه إلى أن تهدأ العاصفة..
لم يكن سعيد بك جنبلاط مرتاحاً إلى الموقف العثماني، وهو الذي خبر حقيقته وما يكنّه العمّال الأتراك من نوايا مسبقة للشر والتفرقة ولتغطية ما ارتكبوه من جنايات قتلٍ وتشريد ومجازر كانوا يلصقونها بالدروز وأعيانهم، وحصلت تحديات واستفزازات كثيرة من عناصر متعصبة بتحريض من بعض الزعماء ورجال الأكليروس كالمطران طوبيا عون وسواه من النافخين في النار، وزدّ على ذلك الدسائس والتحريض من قبل الجواسيس بأثواب مختلفة آتين من الغرب بناء على رغبات دولهم في اقتسام الإمبراطورية التركية المريضة، وتقاسم ممتلكاتها واستعمارها. وليس أسهل من إشعال النار في الهشيم الطائفي، بالإضافة الى ذلك ما قام به الولاة والعمال الأتراك في محاولة التصدي للمؤامرة الغربية بأن زادوا الطين بلّة في إضرام النار والأوار بين الطائفتين المذكورتين في الحوادث الأهلية المشؤومة وما نتج عنها من خراب ودمار وقتل وتشريد ونزوح جماعي للناس عن بعض قراها كما حصل لدروز دير القمر من النكدية وأنصارهم وما حصل في المقابل في حاصبيا التي هجرها قسم كبير من المسيحيين، والعديد العديد من هذه الأمثلة ينطبق على باقي القرى والبلدات.
لهذا، أسرع العمال الأتراك لقطع الطريق على النفوذ الغربي فأتى وزير خارجيتها فؤاد باشا إلى سوريا ولبنان لإصلاح ذات البين بين الفريقين وإعادة المياه إلى مجاريها متعمداً رفع الغبن عن كل مظلوم ومقهور فعمد إلى استدعاء زعماء الدروز أولاً كونهم في نظره المنتصرين والمعتدين وفي طليعة من استدعاهم الزعيم الجنبلاطي سعيد بك جنبلاط. من هنا كان توقع سعيد جنيلاط في محله إذ فور وصول الوزير التركي إلى بيروت عمد إلى استدعاء الزعماء الدروز، والبعض القليل من الزعماء المسيحيين، إكراماً لعيون الغرب.
حاول الشيخ سعيد جنبلاط، عدم الإستجابة الى طلب فؤاد باشا بالذهاب إلى بيروت وقرّر الذهاب إلى جبل الدروز فرافقه نحو ثمانين فارساً من الأقارب والوجهاء والأعيان، وبوصولهم إلى محلة عين ياقوب قرب قرية مرستي استوقف الركب عدد من المشايخ والأعيان وناشدوهم عدم ترك البلاد وقد خاطبوا سعيد بك جنبلاط قائلين “سعيد بك إذا سلّمت نفسك إلى فؤاد باشا ربما هو خطر عليك، لكن إذا تركتنا وغادرت إلى حوران فمن يفاوض اللجنة الدولية للمحاكمة بإسم الطائفة الدرزية، ومن يظهر مركزها ويحافظ على حقوقها، وهل يوجد من هو أجدر منكم لهذه المهام؟”
أثارت مناشدة الناس مشاعر الزعيم الجنبلاطي فراجع أفكاره وأجاب بعد طول آناة :“فيّي ولا في الدروز”، وهكذا وكما توقع سابقاً فقد تمّ استخدامه “كبش محرقة” من قبل العثمانيين لأغراض إرضاء الدول الغربية وامتصاص الحملة التي كانت قائمة ضدها تحملها مسؤولية ما حصل، فبمجرد أن عرض سعيد بك نفسه على الوزير التركي حتى أمر هذا بحجزه في قشلة بيروت والتي تعرف حالياً بالسرايا الكبير ليدفع الثمن غالياً ويموت شهيداً أو مريضاً ويدفن في محلة الأوزاعي في بيروت.

صراع اليوسفين
“المزروك يزحط”

هذه العبارة تردّدها العامة من قبيل الإعتداد بالنفس والإعتزاز بالعشيرة، أما مصدرها فهو الخلاف الذي حدث بين الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان وشيخ العقل في حينه الشيخ يوسف أبوشقرا في حدود عام 1778 تقريباً وإن يكن البعض يلطّفها فيقول
“ المتضايق يرحل” غير أن العديد من الكتّاب تداولوا العبارة السابقة وقد اعتمدناها لاعتقادنا بدقتها وقد أوردها المؤرخ يوسف خطار أبوشقرا في كتاب “الحركات في لبنان”.
قصة تلك الحادثة أنه لما آل عهد الولاية الشهابية إلى الأمير يوسف الشهابي طغى هذا الأخير وبغى وأكثر من الضرائب غير المحقة فعمّت النوائب والمصائب، ومن جملة ما شرّع وسنّ وضع رسمٍ على الشاشية التي كانت عميلا ضرئيبة على اعتمار “العمامة” وذلك انتقاماً من الدروز أولاً لشدة كرهه لهم وقصده أن هذه الضريبة تصيب معظمهم إذ كان على جميع الموحدين لبس العمامة اعتباراً من سن الخامس عشرة وما فوق. وهذا الكره عند الأمير المذكور عائد للدسائس والتآليب التي كان يبثها من يحيط به ومن انتسب إليهم في ما بعد.
إمتعض الدروز وكذلك شيخ عقّالهم الشيخ يوسف أبو شقرا الذي أغاظه هذا الأمر جداً فحضر من بلدته عماطور إلى سرايا دير القمر، مركز الإمارة، لمقابلة الأمير يوسف وثنيه عن تصرفه الشائن هذا، فكان الجدال وكان النقاش ومما قاله الشيخ يوسف: “وليكن بعلمكم يا سعادة الأمير أن هذه العادات من صلب الدين، فلماذا هذا التدخل بشيء لا يعنيكم إلا إذا كان مقصدكم التحدي للمذهب التوحيدي وتقاليده المتبعة”؟؟
الأمير لم يكترث لحديث الشيخ ولم يعر الأمر اهتماماً بل بقي على عناده وإصراره حتى أنه تواقح مهدداً وقائلاً: “إذا لم تعجبكم هذه الضريبة فلربما نفرض سواها، فالواقع يا شيخ يوسف أن البلاد لا تتسع ليوسفين”. الشيخ بعد سماعه هذه العبارة وما تضمنته من تهديد وقف مغتاظاً ومردداً بأعلى صوته “المزروك يزحط”.
الجمهور المجتمع عند الأمير يوسف فاجأته جرأة الشيخ يوسف أبو شقرا واعتبرها البعض صفعة وتهديداً أقوى في مقابل تهديد الأمير، لذلك وعند خروجه مع مرافقيه إلى ساحة الدير أمام السرايا لحق به الكتخدار غندور الخوري (وهو الجد الأول للشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية في ما بعد)، وقال: يا شيخ يوسف أبلغت بكم الجسارة هكذا لتخاطب سيدنا الأمير بالمزروك يزحط، والله والله إذا لم يعمل الأمير على ردعكم فإنني لأحمّي فرن دير القمر من شاشاتكم”..ردّ الشيخ يوسف بصوت جهوري “والله والله لكسر رأسك ورأس سيدك الأمير بهذه العصا أسهل بكثير من تحمية فرن دير القمر بشاشات العمائم..” ثم مضى وبات ليلته في بلدة بعقلين، وقبل أن يأوي إلى فراشه كان قد كتب إلى جميع الإنحاء وصرف الرسل كل إلى ناحيته وفحوى كتابه:” أخواننا أبناء الطاعة، يقتضي حضوركم في النهار الفلاني إلى مرج بعقلين بالأسلحة الكاملة والمؤونة والذخائر الوافرة لأمر يحبه الله تعالى”.
وفي اليوم المضروب طفقت الجماهير تفد من كل حدب وصوب حتى تآلب في المرج نحو سبعة آلاف مقاتل من رجال الدين بأسلحتهم ومؤنهم وأكثرهم لا يدري لما كانت دعوتهم سوى أنه “أمر يحبه الله”. وبعد التداول بالقضية وما حدث بين الأمير والشيخ من تهديد ووعيد رفعت البيارق واستلّت السيوف والخناجر وغدا الجميع مصممين على إشعال الحرب على الأمير وأعوانه حتى خلعه من منصبه واستبداله بمن يناسب.
قرر الشيخ يوسف، حقناً للدماء، إعطاء الأمير فرصة أخيرة للتراجع فأرسل إليه مبعوثاً ينذره بأن الأمور تسير باتجاه المواجهة وأن الدروز اجتمعوا للحرب. توجّس الأمير يوسف من تلك الأنباء فأمر على الفور إرسال إثنين من رجاله ليذهبا إلى مكان تواجد الشيخ والمقاتلين الدروز ويقفا على حقيقة الأمر وما يطلبه الشيخ، غير أن رسول الشيخ وصل قبل وصول رسل الأمير، ثم أخبره بأن الأمير لم يزل على عناده وغطرسته. آنذاك امتطى الشيخ بغلته وسار نحو دير القمر والرجال سارت في إثره وهم يرفعون عقيرتهم بالحداء “ صلوا على المصطفى على المصطفى زيد الصلاة”.
عند سماع الحداء والأهازيج والنخوات ارتعدت فرائص أتباع الأمير وأعوانه فهبوا إليه قائلين: أنظر يا سعادة الأمير ها قد أتى الدروز فماذا تريدنا أن نفعل فنحن لا قبل لنا بمواجهتهم وعليك لذلك أن تحسم أمرك قبل فوات الأوان.

قصة عن بناء مدينة القاهرة

المعروف أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي هو باني مدينة القاهرة لكن قليلين يعرفون الأسلوب الذي اتبع في بنائها وكيف ساهمت صدفة غير محسوبة في إطلاق إشارة البدء بأعمال البناء؟
فقد كان المعز لدين الله الفاطمي يعلم عن تردي الحكم الإخشيدي في ظل كافور وتدهور مقومات الدولة بسبب حماقته وجهله فاعتبرها فرصة سانحة لفتح مصر، فأرسل قائده العسكري جوهر الصقلي مع جيش مؤلف من مائة ألف جندي وتمّ لجوهر الفتح المنشود من دون قتال يذكر وذلك يوم 6 تموز عام 969م. وفي مساء ذلك اليوم، عسكرت الجيوش في الأرض الواسعة والتي يُشرف عليها جبل المقطم من الشرق ويحدها من الغرب مجرى ماء متفرع من نهر النيل، ثم أمر القائد جوهر بأن تُقام لمصر عاصمة جديدة تليق بخلفاء الدولة الفاطمية الذين خططوا ليحكموا العالم الإسلامي بأسره باعتبارهم خلفاء الرسول نسباً وحسباً، وأولى الناس بحكم المسلمين.
جمع القائد جوهر الحشود من الجنود والعمال وأمرهم بحفر مخطط المدينة بشكل مربع ثم وضع على كل زاوية قائماً كبيراً من الخشب وأوصل على هذه القوائم بحبالٍ تتدلى منها أجراس، بعدها طلب إلى المنجمين الذين يرافقونه أنهم في حال تم الوقت المبشّر بالخير أن يحركوا الحبال المعلقة بها الأجراس فتقرع ويبدأ عندها العمل من قبل الجميع في حفر الأساسات وبناء المنازل والقصور وكذلك الأسوار.
وبينما الجميع في انتظار إشارة المنجمين إذا بغراب ينفر من وكره ويطير ليحطّ عشوائياً على أحد الحبال الممتدة بين الأعمدة فدقت على الفور نواقيس تلك الأجراس وفي لمح البصر بدأ الجميع الحفر والبناء. المنجمون أخذتهم المفاجأة فهرعوا فوراً قائلين إنّ القاهر قد ظهر ومقصدهم كوكب المريخ الذي يُسميه العرب “ قاهر الفلك”، ومن هنا جاء إسم القاهرة في ما بعد.

قصة أدم خنجر
في زيارة للرئيس برّي

المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور
المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور

هكذا بادرنا القول دولة الرئيس نبيه بري عند استقباله لنا في قاعة أدهم خنجر بدارته في المصيلح، وقد كنّا برفقة وفدٍ كبير من مشايخ ثقات مجلّلي الرؤوس بعمائمهم البيضاء.
بعد الترحيب والتأهيل قال: “ هل قرأتم حضرات المشايخ ما كُتب على مدخل هذه القاعة؟“ ثم أجاب قبل أن نجيب“ إنها قاعة أدهم خنجر، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فنحن مدينون لسلطان باشا الأطرش، صلاح الدين الثاني في تاريخنا المعاصر، كونه فجّر الثورة السورية الكبرى، وكان لنا من تلك الثورة استقلال بلدينا سوريا ولبنان من نير المستعمر الفرنسي.. لكن قبل كل شيء تجلّ به أصالته العربية الفذّة وشهامته العائلية السمحة حيث إن الشرارة الأولى لتلك الثورة المباركة، وذاك القسم العظيم الذي أطلقته والدته على نفسها عند عودته إلى منزله قائلة: “سأقطع الثدي الذي أرضعتك منه إذا لم تُعد نزيلك أدهم خنجر وتخلصه من براثن المستعمر الفرنسي الذي اختطفه من حماك“. ثم إجابته الشهيرة لوالدته بعد أن زغردت بارودته قائلاً: “ لعيونك يا أم سلطان فإما حياة ملؤها الكرامة والعز وإما ممات أشرف وأجلّ من الإهانة والذل“.
هذا ما رواه أمامنا دولة الرئيس بري صيف عام 2002، أمّا ما يرويه سلطان باشا في مذكراته التي نشرتها جريدة “بيروت المساء“ بقلم الصحافي يوسف دبيسي أوائل السبعينات من القرن الماضي فيقول: “بينما كنت أقوم ببعض الإتصالات في قرى الجنوب من جبل الدروز حضر شكيب وهّاب ليلاً بأمرٍ من والدتي إلى بيت صديقي حمد البربور في بلدة أم الرمان ليخبرني أن أدهم خنجر، ذاك البطل العاملي النبيل، قد وصل إلى بلدتنا لاجئاً إلى حِمانا غير أن مخفر الدرك المتواجد عند مدخل البلدة اعتقله.“ ثم يكمل سلطان باشا فيقول: “بعد أن وصلت إلى البيت وما سمعته من والدتي وما يلحقنا من إهانة بعدم تخليص نزيلنا، لهذا انتقلت فوراً إلى مخفر الدرك في البلدة فوجدته خالياً وقد تركه حراسه رهبة وخوفاً، عندها أرسلت شقيقي إلى السويداء ليطلب من الفرنسيين إخلاء سبيل نزيلنا وكان هناك المستشار (ترنكا)، فرفض وأجاب مستهزءاً :“إن أدهم خنجر في القلعة وليأت آخوك بنفسه ويأخذه، وإذا كانت عندكم المحافظة على النزيل واجباً مقدساً فيلفعل سلطان ما باستطاعته، ونحن بدورنا نعتبر أدهم خنجر مخرباً وعابثاً بالأمن“. ومع هذا التسلط والتحدي من قبل المستشار الفرنسي إستلم سلطان كتاباً من أدهم خنجر يستجير به، وقد نقله النائب حمد البعيني يقول فيه: “ دخلت لدياركم العامرة مستجيراً وأنا آمن على نفسي لأني أعرف شهامتكم ونخوتكم ولا أزال دخيل حريمكم وأولادكم وحتى الطرشان بأكملهم لأن حياتي صارت بقبضة العدو الفرنسي وفهمكم كفاية. وأختم رسالتي بتقبيل يدكم وأنني مشهّد على ضيافتكم“.
ومع هذا فضّل سلطان باشا التريث أولاً على التهور وإشعال الحرب، لذا أبرق إلى المسؤولين في بيروت ودمشق وفي مقدمهم الجنرال غورو راجياً ترك نزيله .. ولما لم يوفق بذلك جمع أشقاءه وأقاربه وأنصاره في المقرن القبلي ثم اتخذ من منزل نجم عزالدين في بلدة الثعلة مقراً لمراقبة طريق دمشق – السويداء ليقينه أنّ نزيله سينقل عبر هذه الطريق.
وفي صباح يوم 21 تموز 1922 شاهد سلطان باشا ورفاقه القافلة التي تنقل نزيلهم وهي مؤلفة من ثلاث مصفحات، فهبّوا لمهاجمتها عند تل الحديد حيث إن سلطان بنفسه قفز عن ظهر جواده إلى سطح المصفحة الوسطى ظناً منه أن أدهم خنجر في داخلها، فقتل قائدها ومعاونه قبل أن يتمكنا من الحراك إلا أن الجندي الثالث أمسك بخناق سلطان لكنه انقض عليه بالسيف الذي لم يزل مغمساً بدماء رفاقه فتلاشى وسقط فوق رفيقيه، ثم تركهم لينتقل إلى المصفحة الثالثة وإذا بشقيقيه ورفاقهما قد قضوا أيضاً على كل من في داخلها وأسروا الباقين، وكانت الحصيلة أربعة قتلى بينهم ضابط واربعة أسرى أحياء وجرح بليغ أصاب شقيقه مصطفى دفع حياته ثمناً له في ما بعد. أمّا المصفحة التي كان بداخلها الأسير فقد فرّت عائدة نحو السويداء.
هذا أيضاً ما رواه عن تلك الواقعة أحد أبطالها ورفيق سلطان حمد البربور شهيد موقعة المسيفرة في ما بعد.
لكن الأقدار ستتم والشهادة سينعم بها أدهم خنجر ليدخل التاريخ اللبناني من بابه الواسع. ومهما تكن الرجولة والشجاعة، حتى اعتبر العديد من المؤرخين أن إقدام سلطان بنفسه على اقتحام المصفحة في تلك المعركة تهوّر ما بعده تهور ولربما هذه الرجولة نادرة في تاريخ قادة الحروب والثورات.
غير إنه بعد أن أصبحت الطرق غير آمنة اضطر العدو الفرنسي إلى نقل سجينهم بالطائرة إلى بيروت ليُعدم في عاصمة بلده من دون أن يحرك أحد ساكناً.
لكن سلطان لم يكتفِ بذلك بل هاجم مع جماعته جميع المخافر والمراكز العسكرية التي تحيط بمنطقته وكانت بذلك بداية الشرارة الأولى لأجلّ وأشرف ثورة عربية في مطلع القرن العشرين، وبعد أن تيقّن له أنه قد تمّ نقل ضيفه المغدور بالطائرة إلى بيروت وقف وقال:“لا حيلة لنا في السماء وأمّا على الأرض فنحن مستعدون لبذل أرواحنا في سبيل كرامتنا وعزتنا“. وليس بالكثير الكثير إذا تفضل دولة الرئيس بري وقال إن استقلال بلدينا سوريا ولبنان والتنعم بهذا الإستقلال كان الفضل الأول فيه لسلطان باشا الأطرش وثورته المجيدة، وهذا ما ألهم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري بقصيدته العصماء هذه:
ولما صـــــــــــــــرت مــــــن مُهـــــج الأعــــــادي بحــيث تذيقها السّـم النقيــــعــــــــــا
وَثبْــــــتَ عــــلى ســــنام التنــــــك وثبـــــــــــــــــــاً عجيبــاً علّم النسـر الوقوعـــــــــــــا
أغـــــــــــــــرت عليــــــــــه تلقـــــــــــــــي النـــــار بــرداً ويرميـهــــا الذي يرمي هلوعـــــــــــــــــاً
فطاشـت عنـــك جازعــــة ولــو لــــــــم تهمهـــم لهـــا لحـاولـت الرجوعـــــا
فخرّ الجنـــد فـــوق التنـــــــك صرعى وخــــرّ التنـــك تحتـــهــــــم صريعـــــــــــــــاً
فيـــــــــــــــا لك غـــــــــــــــــــارة لو لـــــــــــــــــم تذعــــــــهـــــــــــــــا أعـــادينـــــــــــــــا لكـــــــــــذّبنــــــــــــــــــا المذيعـــــــــــــــــــا
ويـــــــــــــــــالــــــــــــــك أطرشـــــــــــــــــاً لمــــــــــــــــّـا دُعينـــــــــــــــــــــــــا لثـــأر كــنت أســـمعنا جميعـــــــــــــــاً

كوكبا

كوكبا

حديقة آثار وزراعة
ونجاح تعليمي باهر

أهل كوكبا لصيقون بالأرض لا يحبون الهجرة لكن حبذا لو جاءتها الإنترنت وتوفّرت المياه

بالعمل والتنظيم تحوّلت مدرسة مهدّدة بالإقفال
إلى حاضرة تعليمية لطلاب وأهالي المنطقة

كوكبا قرية صغيرة وادعة في منطقة راشيا تجلس قبالة جبل حرمون، وهناك غير قرية تحمل الإسم نفسه، لكنها تابعة لقضاء حاصبيا في محافظة الجنوب. يمتد تراب هذه القرية الوادعة تلالاً خضراء حتى الأفق، لكن رغم البساطة الظاهرة فإن القرية تنام فوق تاريخ سحيق من الحضارات السابقة التي تركت بصماتها واضحة في أكثر من مكان كما إنها -عندما تقاس الإنجازات بمدى الاهتمام بالإنسان- تبرز في الطليعة بسبب نجاحها التعليمي وتحولها إلى حاضرة تربوية لقرى المنطقة.

عود تسمية القرية كوكبا الى الآرامية – السريانية ومعناه الحرفي
« الكوكب » والذي يرتبط بكوكب الزهرة الذي كان له شأن في العبادة عند الفينيقيين. وتقع القرية في قضاء راشيا وتتبع إدارياً لمحافظة البقاع وهي تبعد عن العاصمة بيروت 92 كلم وعن مركز القضاء 5 كلم وترتفع عن سطح البحر 1100م وتتصل بقرى مجاورة هي ضهر الأحمر شرقاً ومجدل بلهيص غرباً والمحيدثة شمالاً وكفرمشكي جنوباً، ويمكن الوصول إليها من بيروت عبر طريق شتورا – ضهر الأحمر أو طريق شتورا – مشغرة – سحمر وهناك طريق يتجه من بيروت إلى صيدا ثم مرجعيون في الجنوب ثم حاصبيا فكوكبا.

أهميتها التاريخية
تعتبر قرية كوكبا من القرى الموغلة في القدم وهو ما تدل عليه الآثار الموجودة في محيط القرية ولاسيما القلعة القديمة المحفورة في الصخر ويوجد في داخلها العديد من النواويس الحجرية المنحوتة بإتقان كما توجد مدافن قديمة ايضاً، وهذه الآثار تعود حسب الخبراء الى الحقبة الرومانية، كما توجد بالقرب من القرية معصرة مع جرن كان يتم استخدامهما لعصر العنب وتحويله الى دبس، أضف الى ذلك الكهوف التي تحتوي بدورها على آثار يرجح أنها تعود الى زمن «عنا ايل” اي الى العصور الآرامية التي سبقت التاريخ الميلادي.
ونظراً إلى هذه الآثار الغنية فقد أصدر وزير الثقافة في العام 2012 قراراً بتحويل المنطقة التي تضم الآثار الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني والذي يقضي بدراسة كافة الطلبات المقدمة من أجل الحصول على رخص بناء أو ترميم أو استصلاح أراض الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني لإبداء الرأي في أي تأثير محتمل للنشاط العمراني على طبيعة المنطقة وسلامة الطابع الأثري. ومن المعالم البارزة في كوكبا مزار بني في فترة متأخرة لسيدنا الشيخ الفاضل رحمه الله مع العلم أن ضريحه ومدفنه يقعان في قرية عين عطا.

الوضع السكاني
يبلغ عدد سكان القرية المسجلين 950 نسمة تقريباً على الرغم من غياب الإحصاء الدقيق منذ زمن بعيد وخلافاً للعديد من قرى الجنوب اللبناني التي تعاني من الهجرة فإن نسبة المقيمين في كوكبا مرتفعة نسبياً مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة، إذ إن 50% من أبناء القرية المسجلين يقيمون فيها والذين يغادرونها الى بيروت مثل الطلاب فإنما يفعلون ذلك بهدف متابعة تحصيلهم العلمي بينما انتقل قسم من السكان إلى خارج القرية لأسباب اقتصادية، لكن حركة الاغتراب في كوكبا محدودة وهي تتركز حالياً على دول الخليج.
عائلات البلدة: أبو غوش ، مغامس ، كرامة ، علامة ، زين الدين، الغزال ، كيوان .

الثروة المائية
تعتبر مصادر المياه في القرية ضئيلة مقارنة مع كمية المياه المطلوبة للقيام بأعباء الزراعة، حيث تستفيد القرية في مياه الشفة من بئر ارتوازي تمّ حفره في محاذاة القرية، وقد تمّ جرّ المياه الى خزان القرية وتوزيعها على المنازل من خلال شبكة داخلية عملت البلدية على تأهيلها في الأشهر الماضية بحيث تغطّي كافة المنازل وبحيث يتم تفادي هدر المياه الناتج عن تآكل الشبكة وتقادمها، كما يعمد أبناء القرية الى إنشاء خزانات من الإسمنت لتجميع مياه الأمطار خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها خلال موسم الشحائح في فصل الصيف .
وتوجد في جوار القرية بركة اصطناعية تستخدم لتجميع مياه الأمطار والمتساقطات خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها في تأمين المياه لري بعض المزروعات خلال فصل الصيف حيث يتم نقل المياه من البركة بواسطة الصهاريج ، لكن مياه هذه البركة غالباً ما تنضب قبل انتهاء فصل الصيف ولا يتم الإستفادة منها عن طريق المداورة أو بطريقة الحصص بين المزارعين .

الزراعة والثروة الحيوانية
تعتبر كوكبا قرية زراعية وهذا على الرغم من أن العاملين في القطاع الزراعي لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من مجموع سكان القرية المقيمين والذين هم في سن العمل ، لكن حتى الذين لا يمارسون النشاط الزراعي كنشاط مستقل فإنهم يعولون عليه لتأمين حاجات الأسرة من محاصيل مثل الحمص والقمح والعدس أو من الفواكه والخضار.
وبسبب شح الموارد المائية الطبيعية فإن الزراعة في كوكبا زراعة بعلية بالدرجة الأولى أما أهم المزروعات التي تعتمد على موسم الأمطار فهي زراعة الكرمة والزيتون، وقد نشطت زراعة الزيتون بصورة خاصة في العقود الأخيرة إضافة الى زراعة الأشجار المثمرة مثل اللوزيات والتفاح. والجدير بالذكر أن زراعة الكرمة يتم الإستفادة منها في تصنيع دبس العنب الذي يتمتع بجودة عالية نظراً إلى اهتمام المزارعين بهذه الزراعة منذ القدم .
كما يتم الإستفادة من السهول المجاورة للقرية في بعض الزراعات الموسمية ولاسيما زراعة الخضار والفاكهة، ويتم ريّ هذه المزروعات خلال فصل الصيف من بركة القرية لكن هذا المورد ينضب عادة قبل انتهاء الموسم وقد يتسبب بضياع ما تبقى بسبب عدم وجود المياه أو تكلفة شرائها.
كما يتم الإستفادة من سهول القرية في زراعات مطرية مثل القمح والحمص والعدس والشعير وهذه الزراعة بعلية ولا تستخدم فيها الأسمدة الكيماوية أو أي مواد مصنعة لزيادة الإنتاج فهي لذلك زراعات طبيعية .
تسويق متجوِّل!
يتم تسويق المنتوجات والمحاصيل الزراعية داخل القرية وفي الأسواق المجاورة وفي بعض قرى وبلدات راشيا عبر وضع محاصيلهم داخل مركباتهم والمناداة عليها في القرى المحيطة. ورغم أن ظاهرة «التاجر المتجول” لم تعد معروفة في القرى، إلا أن أهل كوكبا ما زالوا يرون فائدة في اتباعها ويعتبرونها وسيلة فعّالة لتسويق المحصول وكسب العيش.

السهل
السهل

تربية المواشي
على الرغم من ظاهرة «التمدين» التي أصابت العديد من قرى وبلدات راشيا واخذت تطمس بعض مظاهر الحياة القروية ولاسيما تربية الماشية، إلا ان هذه الحرفة ما زالت نشطة وأساسية في قرية كوكبا وهناك نسبة كبيرة من الناس ما زالت تعتمد على تربية الماشية ولاسيما الأبقار لكن الوضع تغير كثيراً عن الماضي كما يقول إبن البلدة السبعيني الشيخ سامي مغامس الذي يذكر أن ما يقارب ثلاثة ارباع القرية كان قبل عقود قليلة يهتم بتربية الماشية وأن المواشي والماعز كانت تسرح في مراعي القرية وفي الجبال المحيطة بها طوال فصلي الربيع والصيف ومطلع فصل الخريف عندما كان أصحاب الماشية ينقلون ماشيتهم هرباً من برودة الطقس والثلوج الى «بلاد بشارة» في الجنوب اللبناني .
وحسب الشيخ مغامس، فإن أعداد الماشية تراجعت اليوم مع إنخراط ابناء القرية في المؤسسات الحكومية والوظائف الرسمية ومعارضة الناس لوجود المواشي في جوارهم مما يعرّض المربي إلى المضايقة الدائمة فيقرر عندها التوقف عن هذا النشاط المهم لأسرته – وللقرية أيضاً لأنه يوفر منتجات الحليب الطبيعية والطازجة لأسرها.

محمية الخلف الطبيعية
قامت لجنة البيئة في متوسطة كوكبا الرسمية بالتعاون مع المجلس البلدي وتمثلت في انشاء محمية طبيعية بمساحة 9,000 متر وقد تمّ وضع سياج من الأسلاك لحماية المكان من تعدي الرعاة والصيادين وتمّ غرس 2000 شجرة مثمرة من لوز وجوز وصنوبر وغرس 1000 شجرة حرجية من سنديان وملول وأرز وشربين وكينا وتمّ زرع 500 شتلة صعتر (زعتر).
وتحتوي هذه المحمية على أنواع مختلفة من الأزهار والأعشاب البرية والغذائية والأعشاب ذات الاستخدام الطبي.

مغاور-من-العصر-الروماني
مغاور-من-العصر-الروماني

نجاح تربوي
يعتبر تطوير التعليم في كوكبا وتحولها إلى مركز للخدمات التعليمية في نطاقها الجغرافي نجاحاً لافتاً يغاير الاتجاه العام الذي شهد إقفال مدارس في المنطقة أو استمرار معاناة الكثير منها من جراء ضعف الموارد وعدم كفاءة التعليم.
مؤشرالنجاح التربوي الأهم الذي حققته كوكبا هو أنها وبعد أن كانت متوسطة البلدة مهدّدة بالإقفال وبعد أن كان عدد الطلاب تراجع إلى 36 طالباً فإنها حققت تحولاً بفضل جهود الهيئة التعليمية وتمكنت من وقف التراجع والبدء بإجراء تطوير حقيقي في أسلوب التعليم وإدارة المؤسسة ما جعل عدد الطلاب يقفز في سنوات إلى 400 طالب من القرية ومن القرى المجاورة كما ارتفع عدد أفراد الأسرة التعليمية إلى 50 مدرساً بين أساتذة متعاقدين وأساتذة مثبتين في ملاك وزارة التربية.
كيف تمكنت مدرسة كانت مهدّدة بالإقفال بسبب تراجع عدد التلامذة المسجلين فيها أن تحدث هذا التحول الباهر وتصبح محط أنظار التلامذة وأهاليهم في القرية وفي القرى المحيطة؟ السبب الأهم هو تمكن الهيئة التعليمية ومديرها من إجراء تحول كبير في أساليب التعليم وفي إدارة النشاطات والعلاقات مع الطلاب ومع الأهالي بحيث تمكنت من رفع مستوى الأداء الطالبي كثيراً وقد انعكس ذلك سنة بعد سنة بمعدلات النجاح الاستثنائية لتلامذة المدرسة في الامتحانات الرسمية الأمر الذي عزّز شهرة المدرسة وزاد ثقة الطلاب والأهالي بها وبإدارتها. وبالنظر إلى اهتمام الأهالي الكبير بمستقبل أولادهم وكذلك حرص الطلاب على تلقي التعليم الذي يمكّنهم من متابعة تحصيلهم وتأمين مستقبلهم فقد أصبح هناك إقبال على المدرسة يفوق قدرتها الاستيعابية كما يقول مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش الذي يضيف أن المدرسة وحتى هذا التاريخ لم تنته من استقبال الطلاب، رغم أن جميع الصفوف في كافة المراحل باتت مكتملة مما يضطرنا في بعض الحالات الى استحداث شعب إضافية إفساحاً في المجال امام جميع الطلاب الراغبين في متابعة تحصيلهم العلمي. ويردّ الأستاذ أبو غوش نجاح تجربة متوسطة كوكبا إلى الجهود التي بذلت في تطوير مهارات أفراد الهيئة التعليمية بشكل مستمر من خلال متابعة الدورات التي تعدّها وزارة التربية والتي تهدف الى رفع قدرة المدرس على مواكبة التقنيات الحديثة والفعالة في حقل التربية. ويضيف أبو غوش: عملنا بشكل خاص على تحفيز الطلاب من خلال إقامة توازن بين النشاط التربوي والنشاطات المواكبة له إضافة الى النشاط اللاصفي الذي يترك للطالب مساحة للإبداع والتعبير عن ذاته ولاسيما الأعمال المتعلقة بالبيئة من خلال لجنة البيئة داخل المدرسة .
وقد دفع نجاح تجربة متوسطة كوكبا ووفرة عدد الطلاب الذين باتوا ينهون المرحلة المتوسطة إلى إستحداث ثانوية رسمية في القرية بحيث يتمكن الخريجون من متابعة التعليم الثانوي مع تخفيف اعباء انتقالهم الى بلدة سحمر أو الى بلدة راشيا لمتابعة تحصيلهم العلمي، كما ساهم إنشاء الثانوية في خلق فرص عمل لحملة الإجازات الجامعية الأمر الذي ينعكس بنتائج مميزة للثانوية في الامتحانات الرسمية. تبقى مشكلة التعليم الجامعي وبعد أكثر الجامعات عن القرية بما في ذلك الجامعة اللبنانية في زحلة، وقد تمّ استحداث فرع لكلية الاقتصاد في راشيا لكن محدودية الاختصاصات لم تفك المعضلة بعد.

كوكبا والإنترنت
رغم وصول شبكة الهاتف الثابت (أوجيرو) إلى القرية منذ العام 2000 فإن كوكبا ما زالت من دون شبكة الإنترنت وهذا أمر مستغرب بالطبع لأن الإنترنت بات حاجة أساسية في التعليم وفي الكثير من النشاطات الاقتصادية والثقافة الشخصية، لذلك فإن الخدمة تقدم من خارج القرية من خلال اشخاص يعمدون الى ايصالها بكلفة مرتفعة نسبياً.

المدرسة الرسمية
المدرسة الرسمية
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش

محطة بارزة
إحدى الحوادث التي ما زالت ماثلة في ذاكرة أبناء القرية حملة التنكيل التي شنّها الجيش الفرنسي على القرية عام 1925 وذلك في ردّ فعل على نشاط بعض مجاهدي الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. فقد تعقبت القوات الفرنسية المجاهدين من ابناء القرية للإقتصاص منهم بسبب مساندتهم الثوار فعاثوا في القرية تنكيلاً وفساداً وحرقوا المنازل وشردوا السكان مما دفعهم إلى مغادرة القرية، فمنهم من غادر الى سوريا وما زالوا يرتبطون بالقرية الأم ومنهم من غادر الى فلسطين وما زالوا مدرجين على قيود القرية والأوفر حظاً منهم من انتقل مؤقتاً الى القرى المجاورة لإتقاء الاضطهاد لكنه عاد الى منزله بعد خروج المحتل.

النشاط البلدي
على صعيد الإدارة المحلية، قامت البلدية بتأهيل شبكة المياه في القرية مع العمل على إيجاد مصادر جديدة من مياه الشفة التي يتم توفيرها حالياً من بئر إرتوازية تمّ حفرها في العام 2013، كما قامت البلدية بزيادة غطاء الثروة الحرجية في القرية من خلال القيام بعمليات تشجير وغرس ما يزيد على 5000 شجرة صنوبر .
ويوضح رئيس البلدية السيد وليد مغامس أن اهتمام البلدية يتركز الآن على تشييد مبنى لثانوية كوكبا ليصبح قادراً على استيعاب ما يزيد على 300 طالب في بيئة تعليمية وتقنية تواكب متطلبات التربية الحديثة. وأضاف مغامس أن البلدية تعمل على توفير الموارد اللازمة لتأهيل الطرقات وإقامة جدران دعم لرفع هامش الأمان على الطرقات الداخلية وأنها مهتمة بإقامة ملعب لكرة القدم من أجل توفير متنفس لأبناء القرية “نأمل إنجازه قريباً”.

ثقافة و آداب

كرامة المــــرأة عنــــد الموحّــــدين الـــــدّروز الموحّدون الدّروز يحرّمون تعدّد الزّوجات توخّياً للعدل ويحظرون إعادة المطلّقة بل مقابلة الرّجل مطلّقته نساء جبل العرب …

عَمّــاطور الزّاهرة بلدةُ الرِّجالات والمَشايخ الثّقات سُمّيت «بَلدة الموحدين» لكَثرة مجالسها وخلواتها وبرز منها خَمسة مشايخ للعقل كان لهم شأنُهم الشّيخ محمّد …

صناعة الأسلحة الدّفاعيّة في جهاز المناعة مُتْقَنَةٌ لدرجة أنّ بُنية العنصر المجهريّ الدّخيل وبُنية السّلاح المُنتَج لتدميره تتطابقان مثل تطابق القفل مع …

“جميع البشر عليهم العمل في جميع الفصول من الفجــــر وحتى وقت الغـــــــــــــــــروب وحدي أنا أجد نفســـــــي حرّا ودون عمـــل ملتصقا بقوة بالمصــــــدر …

يوثيفرو

يوثيفرو سقراط يحرج مدعي المعرفة بالتقوى والقداسة يوثيفرو: كل ما يرضي الآلهة هو من أعمـــــــال التقوى سقراط: لكنهم كما تقول يختلفون ويتقاتلون …

هذا القول الشريف، والذي ينمّ عن أخلاق متعالية وهمم متفانية في نكران للذات، وفي أحلك الملمات وخصوصاً إذا كانت الشدائد تهدّد مصير …

كوكبا

كوكبا حديقة آثار وزراعة ونجاح تعليمي باهر أهل كوكبا لصيقون بالأرض لا يحبون الهجرة لكن حبذا لو جاءتها الإنترنت وتوفّرت المياه بالعمل …

غزوة الخندق

غزوة الخندق يوم بلغت القلوب الحناجر آخر محاولة من قريش لوأد الدولة الإسلامية أفشلها سلمان وخدعة نُعَيم والعاصفة العاتية فوجئ المسلمون بضخامة …

طريق الحرير طريــــــق الحضــارة البشريــة كان طريق الحرير أهم شريان عالمي لتبادل السلع وحركة القوافل والسفن والأفكار والتأثيرات الحضارية كان طول طريق …

تأثير الحكمة الهرمسية المصرية في تطور الفكر الفلسفي اليوناني بِتاح فكَّرَ بالكون ونطَقَ به فكان الوجـــود محاورات أفلاطون أظهرت مدى تأثر الفكر …

ذِكرى المؤرّخ والأديب والشاعر حافــظ أبــو مصلــــح مكتبــة فــي رجــــل أكثر ما يدهش في الإرث الفكري والأدبي للمفكر الراحل الشيخ حافظ أبو …

هــــــــــوَى الفـــــارس الآتــي من بـاريــــــــس الشاعر والأديب والكاتب الأستاذ أحمـد منصور، مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدولية في مدينة الشويفات، هـوى مـن …