الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دورُ التّعليم العالي في تعزيز فرص التّنمية المُستدامة

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي في رأس أولويات وأهداف كل بلد وكل مجتمع حريص على مستقبل أجياله وعلى إيجاد مكان محترم له في عالم معاصر يعجّ بالأقوياء وبالتنافس الشديد في كل مجال. والثاني، لأن هناك تسليماً كلِّياً وعلى مستوى العالم ألّا تنمية مستدامة، ولا تنمية حقيقية في الأساس، من دون دراسات دقيقة وأبحاث متخصصة ومعمّقة، أي لا تنمية من دون تعليم عالٍ كفوء وأبحاث علمية موثوقة ورفيعة المستوى. يقول تقرير حديث لليونسكو بعنوان: «Policy Paper for Change and Development in Higher Education…»

نحن نعيش في زمن لا يستطيع أي بلد بدون التدريب الجيد والبحوث رفيعة المستوى أن يكفل لنفسه أي درجة من التقدم المتوافق مع احتياجات وتوقعات مجتمع يسعى إلى التنمية الاقتصادية». لكن التنمية الاقتصادية في زمننا لم تعد مكاسب مالية وأرقاماً اقتصادية فحسب. يضيف التقرير محدداً نوع هذه التنمية فيقول بشكل دقيق: «مع المراعاة الواجبة للبيئة، والعمل في الوقت نفسه على بناء ثقافة للسلام قوامها الديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بالاستناد على تنمية بشرية مُستدامة».

مطلب البشرية بأسرها إذاً هو الرفاه والبحبوحة والتنمية الاقتصادية. ولكن ليست أيّة تنمية، بل التنمية المتوافقة مع البيئة والديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بكلمة واحدة: التنمية البشرية المستدامة. أما الشرط الضروري في كل سعي إلى هذه التنمية فهي: الدراسات والبحوث رفيعة المستوى والتدريب الجيد، أي لا تنمية حقيقية من دون تعليم عال رفيع المستوى.

فكيف نتمكن من توفير هذا التعليم العالي الرفيع المستوى؟
هذا السؤال العام المركزي ينقسم في الواقع إلى سؤالين فرعيين وهما:
السؤال الأول، كيف ننجح في تأمين تعليم عال لأوسع الشرائح في بلدنا؟.
والسؤال الثاني، كيف نجعل هذا التعليم العالي في بلدنا تعليماً رفيع المستوى، وبحسب أعلى معايير الجَودة في العالم؟.
من جهة السؤال الأول، حدث توسّع هائل لأعداد الطلاب المنتسبين إلى التعليم العالي منذ سنة 1980 إلى اليوم، وازداد عدد طلاب التعليم العالي نحو ثلاثة أضعاف وفي معظم دول العالم. فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم حوالي 85 مليون طالب، 47% منهم إناث.

المناطق الأضخم للتعليم العالي في العالم من حيث العدد، هي أمريكا الشمالية، حوالي 17 مليوناً ونسبة الإناث فيها تبلغ 55%، حوالي 5500 طالب لكل 100000 من السكان. تليها منطقة شرق آسيا وأوقيانيا، التي تجاوزت أوروبا مع نهاية القرن العشرين حيث بلغ عدد طلاب التعليم العالي فيها حوالي 15 مليوناً، نسبة الإناث بينهم 41%.

البلدان العربية هي في أسفل القائمة لا يقع دونها إلّا الدول الإفريقية جنوب الصحراء. يبلغ عدد طلاب التعليم العالي في بلداننا العربية حوالي200 جامعة حكومية، تضمّ 3 ملايين طالب جامعي، حوالي نصفهم في مصر وحدها (بمعدل طالب جامعي واحد لكل مائة من السكان).

في لبنان لدينا أكثر من 43 جامعة خاصة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، الجامعة الرسمية الوحيدة. يبلغ عدد طلاب هذه الجامعات حوالي 120ألف طالب، أكثر من نصفهم في الجامعة اللبنانية.
اذا أخذنا هذه الأرقام نجد أننا عربياً ولبنانياً لا نشكو من قلة عدد الجامعات، ولا من قلة عدد الطلاب المنتسبين إليها رغم أن مناطق وبلداناً أخرى في العالم متقدمة علينا.

المشكلة عندنا إذاً ليست في السؤال الأول، أي كيف نؤمن تعليماً عالياً للشباب والشابات المتخرجين من التعليم الثانوي. هذا مؤمَّن نسبياً رغم بعض التقصير هنا أو هناك. المشكلة في الواقع هي في السؤال الثاني، أي غياب التعليم العالي رفيع المستوى عندنا، وغياب الأبحاث العلمية ذات القيمة العلمية العالية، والقادرة أن تسهم على نحو إيجابي في خطط ومهام التنمية المستدامة في بلداننا العربية، وفي لبنان على وجه الخصوص – إذا كنّا نفكّر في ذلك!

النوعية إذاً هي السؤال الحقيقي عندنا. نوعية التعليم العالي المتوفر، لا كميته، وهل هو مراقَب أم غير مراقب، تلك هي المشكلة عندنا والتي تستحق الفحص والبحث، والنتائج غير مشجعة ولأسباب كثيرة.
باختصار شديد، المشكلات المعيقة لقيام تعليم عال رفيع المستوى، المعيقة بالتالي للتنمية والتنمية المستدامة عندنا هي التالية:
1. تمركز جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – الرصينة وذات المستوى- في العاصمة بيروت، مما يجعل الإقامة في العاصمة، أو التوجه إلى العاصمة يومياً شرطاً لتحصيل التعليم العالي، وهو واقع مخالف لتوصيات منظمة الأونيسكو التي تنصح الجامعات بالتوجه إلى الأرياف بدل إفراغ الأرياف من سكانها لصالح العاصمة والمدن الكبرى، مع ما في ذلك من نزوح من الريف، وأكلاف ونفقات وأعباء لا قبل لمعظم اللبنانيين بها.

2. غلبة التعليم النظري والأكاديمي على التعليم التقني والمهني والفني في مدارسنا كما في جامعاتنا. طلاب الكليات النظرية في الجامعة اللبنانية يشكلون وحدهم 75% من طلاب الجامعة. والوضع في مراحل التعليم ما قبل الجامعي أكثر سوءاً. مع أن الصحيح هو أن التعليم التقني والمهني هو الأكثر قدرة على خدمة مطالب التنمية وخططها، على المستوى المحلّي كما على مستوى البلاد عموماً. التعليم التقني والمهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام وإنفاق، وأحياناً شهاداته لا تعادل إلاّ بشق النفس: على سبيل المثال الإجازة الفنية LT لا تعادل حتى الآن بالإجازة الجامعية!.

3. غياب التوجيه الفني الفعلي Vocational Orientation، فلا المدارس ولا مجالس الأهل ولا الدولة تقدّم في نهاية المرحلة المتوسطة، أو في نهاية المرحلة الثانوية، توجيهاً حقيقياً للطالب مستنداً لا إلى رغبات أمه أو أبيه، وإنما إلى ميوله وقدراته الفعلية وما هو أفضل لمستقبله المهني والوظيفي.

4. فوضى التعليم المهني والتقني بحيث بات صعباً التمييز بين من يتاجر بالتعليم المهني ومن يقدّم تعليماً مهنياً كفوءاً ومفيداً لمحيطه ولتنمية هذا المحيط. أنا مع إعطاء الترخيص لمن يرغب ولكن شرط الالتزام بالعلانية والشفافية والمراقبة من السلطات المحلية ودوائر وزارة التربية الوطنية. وأشدد على دورالسلطات المحلية التي يحب أن تُعطى دوراً أساسياً، فهي أقرب إلى المدرسة المهنية وفي وسعها أن ترى وتراقب وتستنتج: أنّ هذا خطأ وذاك صواب، وهذا ما تحتاجه البيئة المحلية وذاك لا تحتاجه، وهلمّ جرّاً.

5. «غرق» البلاد في السياسة، ولا شيء غير السياسة. ومع احترامي للسياسة بمعناها الحقيقي، ومع قناعتي أن السياسة هي أمر جيد، ودليل ديمقراطية البلد وحيويته، ولكن هناك أموراً أخرى مهمة أيضاً مثل: مستقبل أولادنا المرتبط مباشرة بنوعية التعليم الذي يتلقَّوْنه في المدرسة والجامعة، ومثل فرص العمل غير المتوفرة، وكذلك الجو غير الصحي وأحيانا غير الآمن الذي يتعلم فيه أبناؤنا وبناتنا في المدارس والجامعات، وعلى الطريق إلى المدارس والجامعات. هل هناك من يسأل عن الجو النفسي لأبنائنا وبناتنا وهم يعيشون لبعض الوقت ويتعلمون ويدرسون ويبحثون عن نتيجة علمية فيما هم في غابة من الأعلام والصورالحزبية والأناشيد الحماسية والثياب المرقّطة وعرض عضلات الشبّان المفتولة، وعلى مرأى من مسؤولي المدارس والجامعات وموظفيها وحرّاسها، ولا من يرى أو يسمع، بل كأن ذلك هو آخر ما يعنيهم، هذا مُناخ غير صحِّي وغير معقول في الأساس ولا يحدث حتى في أفغانستان! ولكن من يسأل أو يهتم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود!

هذه فقط بعض المشكلات لا أكثر، مشكلات رغبت الإضاءة عليها لأن لها علاقة مباشرة بتحفيز التنمية المحلية والوطنية الشاملة والمستدامة. ويجب أن تنال عناية، ومتابعة، الأطراف الرسمية والسياسية والثقافية لأنها ببساطة تمسّ مستقبل أهم رأسمال في كل مجتمع وكل زمان وهو: الإنسان، وبخاصة الأجيال الشابة. فالمجتمع الذي يربح معركة الإنسان ومعركة إيجاد تعليم أساسي وجامعي ملائم، وإيجاد فرص عمل لأجياله الشابة، هو الذي يربح المستقبل. ومن يفشل أو يُهزم في المعركتين يخسرالمستقبل، ويستمر تابعاً ولاحقاً لمن هو أكثر تقدُّماً منه، ويبقى مجرد سوق لأسوأ ما لدى المتقدمين من بضاعة رديئة، وثقافة رديئة، وفنون رديئة، وسياسات رديئة كذلك، وشكراً.

المُجِدُّ المجاهد

ألا أيُّها الشيخُ المُجِدُّ المجاهدُ
حسيبٌ، وحسبُ الدارِ أنْ ذاعَ صيتُها
وعارفُها الصِهرُ الأمينُ على التُّقى
تباركَ بيتٌ َضمَّ فيه ثلاثةً

حَمَلتَ التُّقى إرثاً سما فيه والدُ
بأسعدِها، والشيخُ في القومِ رائدُ
بمسلكِه، وهْوَ التقيُّ المُكابدُ
وهل مثلُهم في الزُّهدِ زاهٍ وزاهدُ

بنَوا في حمى الرحمنِ خلوةَ ذكرِهم
أيا خلوةَ الشيخِ المُعمَّمِ بالنَّدى
سواعدُ أهلِ الحقِّ جادتْ وجاهدتْ
على دربِ حِفظِ الدينِ ساروا وشمَّروا
ففاضتْ بليلِ الذِّكرِ منها الفوائدُ
ويا معبداً ترنو إليه المعابدُ
وأعلتْ مقاماً، والشيوخُ روافدُ
فصانُوه من عصفِ الرَّدى وتعاهدوا
فما قيمةُ الدنيا، ولو فاض مالُها
وهل ينفعُ الأبناءَ جاهٌ وحُظوةٌ
بنى الوالدُ الفذُّ القصورَ بخلوةٍ
بساطةُ عيشٍ آمِنٍ، وأخوَّةٌ
ومعظمُ مَن فيها عدوٌّ وحاسدُ
إذا لم يحفظوا ما قد بَنتْه السواعدُ
وزيَّنها بالذِّكرِ قارٍ(1) وقائدُ
هي البيتُ، أمَّا غيرُها فزوائدُ
ألا يا حسيبٌ مذ حسِبتَ بأنَّها
فلم تُعنَ إلَّا بالثِّمارِ ولم تُعِرْ
هو الحقُّ والمعبودُ، لا حقَّ غيرُه
فمَن عاش قرناً كاملاً، وهْو راسخٌ
 

جناحا بَعوضٍ حرَّكتكَ المقاصدُ محاسنَها
بالاً، وفي البالِ واحدُ
ويا سعدَ عبدٍ، وهْو للهِ عابدُ
رسوخَ الروابـــي، فهْـــــــــو بـــــــــاقٍ وعـــــــــــــائدُ

صَرعتَ الهوى يومَ الشبابِ، مُقاوِماً
فشوقٌ إلى الأُخرى وتَوقٌ إلى النُّهى
ولم تَلوِكَ الأهوالُ يوماً، وفي الحِمى
إذا ما عوادي الدهرِ بالشرِّ زَمجرتْ
وما كنتَ إلَّا السَّيفَ، والصوتُ راعدُ
وما غيرَ ذاكَ الهمِّ هَمٌّ يُطارِدُ
فؤادٌ له كلُّ القلوبِ وسائدُ
حكتْ عنك دوماً بالثباتِ العوائدُ
هُمامٌ، ولو بانَ المَشيبُ، فلونُه
كذلك همْ أهلُ المكارمِ والتُّقى
حياةٌ مع الرحمن عاشوا بهاءَها
فحزمٌ وعزمٌ إنْ قضى الحقُّ والحِجى
صفاءٌ ونُبلٌ، حكمةٌ وقواعدُ
اْلأجاويدُ، نعمَ الأتقياءُ الأماجِدُ
فَجادوا وسادوا، ما لَواهُمْ تَقاعدُ
ولينٌ ودِينٌ دائماً وتعاضُد
أيا مُعصريتي أنتِ دوماً عَليَّةٌ
وواديكِ يَحكي ما حكاهُ شيوخُنا
ويا قمَّةً تعلو بإرثٍ مبارَكٍ
لئنْ غابَ عنَّا سيِّـدٌ قامَ سيِّـدٌ
تُحاكيكِ من أعلى الجبالِ الهَداهدُ (2)
وفي كل جِيدٍ من غِنـاهمْ قلائدُ
وسرٍّ من التوحيــدِ عالٍ وصامدُ
وصوتُ بني معــروفَ كالحقِّ سائدُ
أيا صائغَ التقوى بنفسٍ أبيَّةٍ
فمعهدُ إيمانٍ يُحاكي بعلمِه
ومعهدُ أخلاقٍ ولُطفٍ وحَنوةٍ ومعهدُ
جِدٍّ، والمواقفُ شيخُها
سبائكُها بين الأنامِ معاهدُ
اْلمعاهدَ جوداً، منهُ تالٍ وتالدُ (3)
على القومِ إمَّا هدَّدته المكائدُ
كريمٌ على دربِ الكرامةِ صاعدُ
أبيٌّ متى يُرجى الإباءُ، وزاهدٌ ومثلُ
الأبِ المِفضالِ عاشقُ حكمةٍ
عشقتَ الكتابَ المُستطابَ، كأنَّه
فعادةُ ختم النصِّ في كلِّ ليلةٍ
غفَوتُم، وإنْ تَغفُ العيونُ، فإنَّما
وفي كلِّ حالٍ عن حِمى الحقِّ ذائدُ
تجلَّتْ، ولا تَثنيه عنها الموائدُ
غِذاءٌ وماءٌ، دونَه العيشُ بائدُ
ويومٍ لها عندَ الكبارِ مَذاوِدُ (4)
على نغمةِ الآياتِ، والقلبُ ساهدُ
سلامٌ على مثواكَ، والقومُ حبُّهم
وسيلٌ من الأنوارِ يَهمي على الثَّرى

زَرعتَ الحقولَ السُّمرَ خيراً وحكمةً

شهاداتُ إخلاصٍ لكم، وشواهدُ (5)
فيُنعِشُه، والزَّرعُ بالخيرِ واعدُ

وها أنتَ جانٍ ما زرعتَ وحاصدُ

شهِدتَ لدين الحقِّ، حقَّاً، فأثمرتْ

وسيلاً من الرَّحْماتِ من كلِّ جانبٍ

شهاداتِ إخوانٍ لكم تتزايدُ

وفاءً لروحٍ طهَّرتْها الشدائدُ

هنيئاً أيا شيخَ الأجاويدِ والصَّفا
وبُشرى أيا شيخَ الجبالِ، لك الهنا
تسامَيتَ حتَّى توجَّتْكَ المحامدُ
عَلَوتَ، وما زادتْ عُلاكَ القصائدُ.

 

شروحات:

(1): قارٍ أي قارئٍ (مخفَّفة)
(2):الهداهد: جمع هدهُد
(3):التالد: الموروث أباً عن جَدّ
(4):المِذوَد: اللسان, جمع مذاوِد
(5):الشاهد جمعه شواهد: الدليل والبرهان

شيخٌ من الجُرد

شيخٌ من الجُردِ، عبدُ الخالقِ النَّسَبُ
الشيخُ الجليلُ سُليمانٌ، تُزيِّنُه الـ
من دوحةٍ صلُحتْ، من خلوةٍ صدَحتْ
أكرِمْ بخيرِ أبٍ، من سيِّدٍ وأبٍ
الشبلُ كاللَّيثِ، والتوحيدُ مَملكةٌ
أبو المحامدِ، نِعمَ الكُنيةُ؛ اللَّقَبُ
تقوى، ويُغنيهِ من أجدادِه الحَسَبُ
والشيخُ فيها أخٌ، بل قُدوةٌ وأبُ
أبي الفوارسِ محمودٍ، فلا عجبُ
فيهـا الرجالُ ومنهـا السادةُ النُّجُـبُ.
أبا المحامدِ، يا ذا الهمَّةِ، انتصرتْ
ما جئتُ أَرثيكَ، لا، بل جئتُ مُمتدِحاً
ما جئتُ أُغنيكَ بل قد جئتُ مُغتنياً
فلا الجواهرُ بالكنزِ الثمينِ، ولا
حتى القصائدُ لا تَعنيكَ، ما نُظِمَتْ
فيكَ الخصالُ، وأهلُ الجاهِ قد غُلبوا
ماضيكَ، أُهديكَ شعراً، منكَ يُستلَبُ
من جوهرٍ فيكَ، لا ماسٌ ولا ذهبُ
مظاهرُ الجاهِ عندَ اللهِ تُحتسَبُ
لتحتويكَ، ولن يُعليكَ ما كَتبوا.
أبا المحامدِ، يا إرثاً غدا قِيماً
بساطةُ العيشِ كنزٌ لا تُبدِّلُه
نشأتَ في كنَفِ التوحيدِ، مُرتقياً
فأنبتتْ فيك شيخاً سيِّداً علَماً
وتاجُكَ العقلُ، والتوحيدُ دُرَّتُه
من عُمقِ ذاتِكَ حيثُ الجحفلُ اللَّجِبُ
وليس يُغريكَ لا شَهدٌ ولا رُطَبُ
بالذِّكرِ والفكرِ، تَروي زرعَكَ الكتبُ
ثمارُكَ السدقُ والإخلاصُ والأدبُ
وليس تَقوى على تقوى الحِجا الرُّتَبُ.
مَجدانِ مجدُكَ يا شيخَ الثِّقاتِ هُما
الجردُ يَبكيكَ، والأشوافُ شاهدةٌ
مشايخُ الدينِ في التيمَينِ في غُصَصٍ
وفي فلسطينَ أشواقٌ يُرنِّمُها
جرحُ السُويداءِ يَبكي والصدى ألمٌ
الكلُّ للكلِّ، في حُزنٍ وفي فرحٍ
والقومُ سيرتُهم تَروي مسيرتَهم
مجدُ المكان، ومجدٌ منكَ يُكتَتَبُ
والمتنُ كالغربِ، كالشحَّارِ مُكتئِبُ
وفي قرى الشيخِ دمعَ الحبِّ قد سَكبوا
صوتٌ بعيدٌ بلونِ الحُبِّ يَختضِبُ
تُعيدُه هَضْبةُ الجَولانِ أو حلَبُ
ويَجمعُ الكلَّ في صَونِ الحِمى غضَبُ
إنْ غابَ عينٌ فعينُ الكلِّ تَنتحبُ.
ويسألُ الناسُ هل في الناسِ مَن بَلغوا
وهل يسودُ على الأقرانِ أبسطُهم
ومن قضَوا عمرَهم في حُبّ خالقِهم
وشاهدوهُ بمرآةِ النفوسِ، متى
فأدركوا أنَّ نيلَ الفوزِ مُرتَهَنٌ
والسعدُ ليس غِنىً بالمالِ والجاهِ، بلْ
مقامَ عزٍّ، وما في عيشِهم صخَبُ
حالاً، ومَن تَركوا الأقداحَ، ما شرِبوا
بالجِدّ والجَدِّ خيلَ الكَدِّ قد رَكِبوا
لهم تجلَّى، فزالتْ عنهمُ الحُجُبُ
بطاعةِ اللهِ، والتقوى هي السببُ
في حُبِّه، فهناكَ القصدُ والأرَبُ
يا أيُّها الناسُ، ها كم مرةٍ جُمِعتْ
كم دعوةٍ لَمعتْ، كم نجمةٍ سطَعتْ
تَعمى البصائرُ، والأبصارُ ناظرةٌ
ولا نُبالي، ولا نَسعى لآخرةٍ
وليس يُوقِظُنا من نومِنا خبرٌ
لكنَّما الشيخُ أفنى عمرَه يَقِظاً
تلكَ الفراخُ، فصَدَّ القومُ، ما رَغِبوا
والأُذنُ ما سمِعتْ، والناسُ ما طَلبوا
والعينُ حائرةٌ، والوعدُ يَقتربُ
ولا نُداري ولا نَنهى ونجتنبُ
ولا تُحرِّكُنا الأهوالُ والنُّوَبُ
يحيا التوازُنَ؛ يَستغني ويكتسبُ.
لِذاكَ يا شيخَنا نَأسى لفُرقتِكم
وفاقدِ الضَّوءِ في الظَّلماءِ يَطلُبُه
لكنَّ ذِكرَكَ يَروينا ويُنعِشُنا
فأنتَ مدرسةٌ تُرجى، ومبدَؤها
صدقتَ عهدَكَ واستبسلتَ من صِغَر
كم همَّةٍ نهضَتْ، والشوقُ أقلقها
تَسابَقتْ في ميادينِ التُّقى هِممٌ
كفاقدِ الفَيءِ في الصحراءِ يَلتهبُ
وفاقدِ الماءِ في الرَّمضاءِ يَضطربُ
نَأوي إليه إذا ما حاقَنا تعَبُ
كُنْ صادقاً، إنَّ رأسَ الخَيبةِ الكذِبُ
جاهدتَ ليلاً نهاراً، والمدى رحِبُ
والخوفُ أحرقَها، والوعدُ مُرتَقَبُ
وأنتَ أوَّلُها، بل أنتمُ النُّخَبُ.
جِهادُكم زادَكم خوفاً ومعرفةً
حفِظتَها خلوةً من شرِّ فانيةٍ
فكنتَ في العجزِ محفوظاً على سُرُرٍ
تقولُ: فَلْيرحمِ الرَّحمنُ مَن صَدقوا
ولْيرحمِ اللهُ مَن بانوا ومَن رَحلوا
فعُدتَ منه وفي أعماقِكَ الطرَبُ
حَفِظتَ فيها من الآياتِ ما يَجِبُ
من السعادةِ، تهفو نحوكَ الشُّهُبُ
ولْيرحمِ اللهُ مَن للخَلوةِ انتُدبوا
ومَن لهم في الحنايا تُرفَعُ القِببُ.

 

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

د.نجوى حسيكي العنداري

لعلّ أعظمَ ما في الوجود، وأخطرَ ما في الوجود، وأجملَ ما في الوجود: الكلمة!
فلنتّقِ الله في الكلمة.
جميعنا يتعطّشُ للكلمةِ الجميلة، والكلمةِ الصافية، والكلمةِ التي ترقى بنا إلى مصافِّ السّببِ الذي كنّا لأجلِهِ على هذه البسيطة… ولعلّ مَكارم من الرّجالاتِ القلائلِ الّذين بذلوا الكثيرَ، فهو اجتهدَ في استثمارِ ما حباهُ الله من قدراتٍ في سبيلِ ما أسماه «تحقيق الكمال الأخص»، والمجتهدُ له الأجرُ سواءَ أخطأ أم أصاب… تبقى النوايا وراء القصد، وتبقى الوِقفةُ الصّادقة أمام النّفس خيرَ مُعين …

وللأمانة، لا تسعُنا بضع كلمات للتعبير عمّا كان فيه سامي مكارم مُجَلّيًا، وهو العرفانيّ والفنّان والشاعر والأستاذ والمفيد وهو الّذي عشق الحرف وعشق الكلمة وسافر فيها وبها ومعها ولها … وما زلت أذكرُه يوم بارك لي العمل قبل رحيلِه، وبدأت مسيرة بحثي، وكان نتاجه «الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم» … لسنا بصدد تكريمِه فهو لا يحتاج لذلك، لكنّنا بحاجة أن نكرّمَ الخيرَ فينا كلٌّ من حيثِه، وكلٌّ من منطلقِه.
في هذا السّياق تتأسّس فكرةُ معرفتنا لمنبعِ آلامِنا، وأُسِّ أحزانِنا، وأصلِ سعادتِنا، ومُنطلقِ حرّيتِنا، تتأسسُ معرفةُ الإنسان لنفسه! ولعلّ هذه الفكرةَ، مع كثرةِ المفكّرين والمتنوّرين الذين تناولوها، تبقى تحمُلُ فرادةَ كلِّ نفسٍ، بما فيها من خصوصيّةٍ وجمالٍ. من هذا المنطلقِ، كان هذا الكتابُ الموسومُ بـ»الرؤية العرفانيّة في فكر سامي مكارم». وهو كتابٌ أُعِدَّ ليكونَ أطروحةَ دكتوراه، وقد تمَّ تلخيصُ بعض أقسامِه والتعديلُ عليها ليصبحَ مناسبًا لكلِّ قارئٍ مثقّفٍ، وليس حصرًا بالمتخصّصين.

ولتقديم لمحة عنه نتساءل:
ما انعكاسُ التجربةِ العرفانيّةِ على الواقعِ المُعاشِ حسب مكارم؟ أيمكن اختزالُها بالقول إنّها عيشُ حالٍ من الصفاءِ والطهرِ، في عالمٍ مترفّعٍ عن الماديّات؟ أم إنّه إشراكُ العرفان بنبض الحياة اليوميّة؟ ما الخصوصيّة التي ميّزت الرؤية العِرفانيّة في تجربة سامي مكارم، من ناحيةِ الأخلاقِ والدينِ والتصوّفِ؟ هل يتّصلُ، بحسب تجربةِ مكارم، العالمُ الأكبرُ – الله وعللُ الكائنات- بالعالمِ الأصغر – الإنسان، فيشكّلان عالمَ الوحدة؟ وهل انفصلا حتّى يتّصلا؟ وبأيٍّ من العالَمين يتحدّدُ موقعُ الضدِّ أو إبليس في هذه المعادلة؟ ومن ثمّ أينتفي دورُهُ؟ أم يُسَخَّر للخدمة؟ وما الذروةُ الروحيّةُ التي يصلُها الإنسانُ؟ وهل هي واحدةٌ أم أكثر؟ أم يتوقّفُ الأمرَ على قدرةِ الإنسان نفسه؟ وإلى أين وصل مكارم في تجربتِه ورؤيته؟
وبعد، ما هي أبرز المشاربِ الفكريّة التي استقى منها مكارم حتّى كوّنَ رؤيتَه العرفانية؟ وكيف تجلّى الإله الخفي في تجربتِه؟ وما هي النظريّةُ الأساسيّة التي انبنت عليها رؤيتُه؟ وهل قدّمت رؤيته في مختلف زواياها فرادةً وخصوصيّة أم كانت في بعضِها انتقاءٌ لما يتلاءمُ مع بعض الثوابتِ أو امتدادٌ لرؤيةٍ ما؟ هل هناك جوانبُ متناقضةٌ في تجربتِهِ؟
هذه الأسئلةُ وغيرُها تمَّت الإجابةُ عنها في هذا الكتاب الذي استُهلّ بمدخلٍ قدّم العرفان ومصدريّته ومعراج الترقّي ونهج المساررة، كما ألمحنا إلى أبرز مدارسه، وذلك من منظور التمايز والخصوصيّة. وفي الأبواب السّتّة تدرّجنا من دراسة رؤية مكارم للبنى الاجتماعيّة ثم رؤيته للبنى الأخلاقيّة، بعد ذلك درسنا رؤيته للعالم الأصغر – الإنسان، ثمّ تتبّعنا رؤيته للعالم الأكبر، ما سنح باستنباط رؤيته المعرفيّة للوحدة، بعد ذلك تجلّت رؤيته للثورة وصولا إلى كيفيّة تحقيق الإصلاح المؤدّي إلى تحقيق المدينة الفاضلة.

نضيف إلى ذلك ما قدّمته الدراسة في مجال تحديد الإله الخفيّ في فكر مكارم، والمشارب الفكريّة التي غذّت تجربته، والعرفان النظري العملي الذي تبلور في تحقيق الكمال الأخصّ، كذلك تحديد خلاصة الوعي الممكن وهو البراءة من الأنويّة، بالإضافة الى الجوانب المتناقضة لديه، زِد إلى ذلك ملحق معجم الرّموز الذي أظهر فرادة تجربة مكارم، وغيره ممّا لا يتّسع المجال هنا للحديث عنه.
ختامًا، يبقى للكلمة وقعها حسب تربة كلّ نفسٍ وحسب صفاء توقِها وقوّة شوقها وحثيث سعيها.

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

د.عبد الله سعيد (2)

يقول مثل قديم، ثلاثةٌ لا يموتون أبداً: واحدٌ زرع شجرةً، وواحدٌ خلّف ولداً، وشخصٌ ألّف كتاباً. من هذا المنطلق أحيا المؤلفان الماضي الريفي، عبر قرية بشتفين، بكل تفاصيله؛ الزراعية والحرفية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حتى الدقيقة منها. فتُعجب لسير أحداث وحياة بلدة ريفية منسية في جبل لبنان تقع على كتف جسر القاضي الأثري، ووادي نهر الدامور، كعقدة مواصلات هامة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
إنّ الكتابة في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي، تعني أنك تؤرخ لصالح وحدة المجتمع بكل عناصره وفئاته، وبكل تفاعلاته الجغرافية والحضارية والسياسية والنفسية والثقافية. وتعني أنّك أخذت جانب منهج التأريخ العلمي الذي يرصد حراك المجتمعات البشرية وفقاً لقوانين تطورها الطبيعية بمعزل عن ميول ونزعات الباحثين والدارسين… فالتاريخ الاجتماعي الاقتصادي هو تأريخ توحيدي تطوّري، بينما التأريخ السياسي الطوائفي، هو تأريخ تفتيتي تصادمي يحمل، غالباً، في طياته بذور الإقتتال والضغينة.
إن ما قام به المؤلفان هو قمة الإلتزام بمنهج البحث التاريخي العلمي للتاريخ الاجتماعي من حيث العودة إلى الوثيقة الأصلية والمقابلات الشفوية الحيّة المعاصرة للحدث، التي لا تقلّ أهمية عن الوثيقة المكتوبة في القراءة العلمية للتاريخ وأحداثه… كما أنهما قاما بالمهمة التأريخية بأفضل ما يكون من حيث ربط الجغرافية بالتاريخ، واتباع التسلسل التاريخي السليم في كل فرع من فروع التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والإداري لبلدة بشتفين.
إنه كتابٌ يسجّل تاريخ كل شخص في القرية صغيراً كان أم كهلاً أو شيخاً، شاباً أو فتاة أو إمرأة، عاملاً أم تاجراً أم شاعراً وأديباً وموظفاً وضابطاً، أم سفيراً أو مدرساً ومدرّسة، وطالباً وطالبة. ويخصص حيزاً هاماً لمكانة المرأة البشتفينية في الأسرة والمنزل والعمل الزراعي والحرفي والصناعي، والتعليم والتمريض والطب والوظيفة الخاصة والعامة، إلى جانب ممارستها حق الملكية الخاصة وتصرّفها الحر بحيازتها الشخصية بيعاً وشراءً وإرثاً.
من هنا، فالكتاب هو كناية عن دراسة ميدانية، ومسحٍ اجتماعي اقتصادي كاملٍ لقرية بشتفين الشوفية كمحاولة جريئة لالتقاط صورة حية للقرية اللبنانية المكافحة في صمودها أمام غضب الطبيعة، وإهمال السلطات المتعاقبة منذ عهد المتصرفية حتى الآن. فالكتاب أشبه بلوحة فنيّة بيانيّة لطبيعة ومعالم بشتفين الجغرافية وأراضيها الزراعية والمشاعية والحرجية وينابيعها ومياهها، وأحياءِها وطرقاتها المنبسطة والوعرة.
إنّه دراسة علميّة قيّمة لسكّانها وتحركاتهم ونشاطهم، ولمؤسساتهم الإدارية المحلية من شيخ الصلح والمختار إلى رئيس البلدية وأعمال المجالس البلدية المتعاقبة. كما أساليب أعمالهم الزراعية، والمهنية والصناعية، وتحرّكاتهم السكانية المحليّة والاغترابية، ونشاطاتهم الثقافية والأدبية والحزبية والكشفية.
فهكذا خلّد المؤلفان من خلال كتابهما هذا، بلدة بشتفين، حيث يمكن لكل شخص فيها أو قريب من أهلها، أن يعتزّ بصدور هكذا كتاب خالداً أبداً عن قريته، فهو طال الجميع بدون استثناء من خلال الحديث عن مجمل نشاطات القرية، وانضواء معظم أهاليها أفراداً وجماعات في تلك النشاطات.
وأخيراً، إن كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»، لا يمكنه أن يشيخَ أو يموت، فهو يصلحُ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلّ عصرٍ أو جيلٍ جديد يريد الإطّلاع على تراث الأجداد وأنماطِ معيشتهم السابقة، وتطوّر ثقافتهم في الوجود والحياة، والعمل والتفكير. إنه حقاً كتابٌ يُقرأ بإمعان، وفي كل مرة تقرأه تستفيد من معلوماته وكأنك تقرأه للمرّة الأولى.


المراجع:

1. مداخلة أُلقيت بمناسبة حفل توقيع كتاب “بشتفين في صفحات من تاريخها” في دار بلدة بشتفين بتاريخ 18/9/2020.
2. أستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية وعميد سابق لكلية السياحة فيها، له مجموعة مؤلفات وأبحاث في التاريخ الريفي الاقتصادي والاجتماعي.

جمال الدين جنبلاط، تاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي، 1185-1977

النّوع: باب التاريخ، الوسيط والحديث.
كتاب ضخم لجهة الحجم (ثمانية عشر فصلاً في 848 صفحة من القطع الكبير).
هو بالغ الأهمية لجهة المحتوى، إذ يغطي تاريخ أُسرة معروفيّة عريقة لعبت دون انقطاع أدواراً حاسمة، في شمال العراق، وجنوب غرب تركيا، وشمال سوريا، واستقرّت أخيراً في جبال الشوف اللبنانية بدءاً من القرن السابع عشر، ولتتحوّل ولأكثر من ثلاثمئة سنة دون انقطاع حجر الرّحى في الأحداث السياسية والتاريخية المتصلة بجبل لبنان، وربما بلبنان عموماً أيضاً. لم يسبق لي، في حدود معرفتي، أن توفّر للمكتبة العربية أيُّ مرجع تاريخي تمكّن من الإحاطة الشاملة بتاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي لفترات تاريخية امتدت لثمانية قرون (منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي إلى نهاية القرن العشرين الميلادي).
وإلى وَجْهَي الأهميّة أعلاه، اتَّسم عمل المؤلف، الباحث التاريخي جمال الدين جنبلاط، بالحِرَفية البحثية الواضحة، لجهة الإسناد المرجعي الشامل، من الوثائق والمصادر التي تُعْتَبَر من الدرجة الأولى، من الأرشيف العثماني في اسطنبول إلى مكتبات مهمّة أخرى، إلى الموضوعية والدقة في متابعة المعطيات والأحداث، إلى اللغة الباردة في نقل الأحداث أو مقاربة مكوّناتها المختلفة، (وعلى سبيل المثال، فقد غطّت مكتبة البحث والملاحق والخرائط والصور التوضيحية أكثر من 50 صفحة ختامية من الكتاب).

ميزة أخرى لافتة في عمل جمال الدين جنبلاط الضخم هي عدم أخذه (وكما يجب أن يفعل كل مؤرِّخ مدقّق وفق نصائح إبن خلدون) بسيل المعطيات التي تَرِدُه كما هي من دون تمحيص ومقارنة. إنّ قارئ الكتاب ليلفته حقاً أمران – بين أمور أُخرى كثيرة – الأوّل، تلك المروحة الواسعة جداً من المصادر والوثائق القديمة والحديثة التي أتيح للمؤلف أن يصل إليها، ولا أظن عملاً آخر في الموضوع أبداً أتيح له ذلك، والثاني، تعامله العلمي بل المحايد إلى حد كبير مع ما تضمنته المصادر والوثائق تلك من روايات ومعطيات ومعلومات، إذ إنّه أَعمل عقله البحثي النقدي في غربلة الروايات والأخبار، مقارناً بعضها بالبعض الآخر، وبسواها من مصادر معرفية، مُسْقطاً ما لا ينسجم مع ما هو مستقر وعليه إجماع من معطيات، ومفضِّلاً حين لا تكون الأمور بالوضوح البحثي ذاك إحالة الرواية إلى المزيد من التدقيق، بل وتعليق حكمه أحياناً. اتساع مروحة المصادر والمراجع والوثائق على نحو كبير جداً، من أكثر من بيئة ثقافية ومعرفية، وتدعيمها أحياناً بمشاهدات عيانية لأمكنة الأحداث في كردستان وتركيا وقبرص ولبنان وسواها، يجعل العمل وثيقة لا تُقَدّر بثمن، ومن النوع العلمي والبحثي الذي يصعب غالباً الحصول عليه.
تتوزّع فصول الكتاب على أبواب ثلاثة: الأوّل، بدايات التمركز الجغرافي للأسرة الجنبلاطية في الهكاري والعمادية؛ الثاني، الجنبلاطيون حكّام كيليس وحلب؛ والثالث، دور الأسرة الجنبلاطية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر – وهو الأضخم لناحية الحجم إذ يقع الباب هذا في 500 صفحة تقريباً.
لا يغيب عن البال بالتأكيد أن العمل هذا هو ثَبْتٌ عائليٌّ – كما يظهر صراحة من العنوان – أي تاريخ الأسرة الجنبلاطية، وأعلامها البارزة، والوقائع الأكثر أهمية التي انخرطت فيها طيلة ثمانمئة عام؛ وعلى نحو لن يتمكن من إنجازه كما أعتقد أيُّ مؤرِّخ آخر من خارج الإطار العائلي والثقافي الذي أتيح للمؤلف. وعليه، يجب أن لا يتوقّع القارئ مباحث تاريخيّة شاملة للعصور التي تضمنتها الحقب الطويلة تلك: لجهة السياق التاريخي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العمراني، أو العلمي والثقافي وما شابه. ربما يَرِدُ بعضٌ من ذلك في سياق التأريخ لهذا العَلَم الجنبلاطي أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، ولكن من دون أن يخرجنا الأمر عن سياق الكتاب الأصلي وهو التأريخ للأسرة الجنبلاطية السياسي حصراً – وقد أحصيت على وجه تقريبي ورود توثيق تاريخي لأكثر من 30 عَلَماً جنبلاطيّاً سياسيّاً لعبوا أدواراً بارزة من حكم الهكاري والعماديّة إلى حلب وحمص وحماه والساحل وقبل أن تبدأ مرحلة تاريخ الأسرة الجنبلاطية في جبال الشوف اللبنانية. وأقول، مرّةً أخرى، إنّ ذلك لم يكن ليتاح لأكثر المؤرخين خبرة لو لم يكن الباحث من داخل الأسرة الجنبلاطية والمُناخ المعرفي والثقافي تحديداً – أي امتداداً لتراث رشيد جنبلاط – والد المؤلف – صاحب السيرة البارزة بأهمية حدثانها ومتابعته السياسية اللّصيقة. والراوي الضمني أحياناً، على نحو أو آخر.

جمال الدين جنبلاط

ليس سهلاً اختصار 800 صفحة في 800 كلمة، وعليه أترك للقارئ بل أنصحه أن يقرأ بإمعان هذا السفر التاريخي الممتاز، لطوفان من المعلومات التي لم نكن نعرفها، وللتوثيق العلمي الدقيق، الذي يعطي العمل المكانة العلميّة التي يستحقها. وعليه، أختم هذه المراجعة السريعة بما بدأ به المؤلف من مقدمات، كتب:

«لا أنكر أن اختياري لتاريخ الأسرة الجنبلاطية، موضوعاً للدراسة، كان استجابة لهوى في النفس. ولا أنكر أيضاً أن ذلك الهوى وليد عصبية لا وليد تعصّب….حين كنت أستمع وأنا في مقتبل العمر إلى ما رواه المرحوم والدي وآخرون من أفراد عائلتي، كانت تنتابني مشاعر شتّى يتداخل فيها الفرح والاعتزاز والخوف والدهشة والفضول المعرفي الذي كان له بعض الأثر في التخصص الجامعي واختياري لمادة التاريخ. أذهلني وأنا أطّلع على تاريخ الأسرة الجنبلاطية ما أدّته من أدوار كان لها تأثيرها في منطقة الشرق الأدنى على مدى قرون عدّة. وهي أدوار يمكن ربطها بجملة من العوامل أهمُّها: بروز زعماء ذوي قدرات هائلة أنجبتهم تلك الأسرة والتلازم الدائم بين السياسة والحرب، امتياز الدروز بكونهم طائفة محاربة، واستمرارية الزعامة الجنبلاطية باعتبارها ملازمة للكيانية التوحيدية الدرزية، المتغيرات السياسية والعسكرية الناتجة عن الأحداث التي عصفت بمنطقة الشرق الأدنى….وهنا يبرز تساؤل منهجي: ما الجديد في هذا المؤلَّف على صعيد التأريخ للأسرة الجنبلاطية؟ ذلك أنّ الدراسات السابقة اقتصر كل منها على دراسة شخصية واحدة من شخصيات تلك الأسرة كالدراسات التي تناولت كلاً من الشيخ بشير قاسم جنبلاط وسعيد بك جنبلاط والمعلّم كمال جنبلاط…. أمّا هذا المؤلَّف فإنه يضمّ بين دفتيه دراسة جامعة شاملة للأسرة الجنبلاطية وزعمائها منذ مهد عهدها بالحكم… ليست الدراسة سجّلاً لأحداث وسيراً لأشخاص على الرّغم من كون ذلك يشكل بعضاً من جوانبها. بل هي مرآة تعكس الواقع بكل جوانبه من خلال تصويره ونقله نقلاً لا تفوته التفاصيل والجزئيات المتعلّقة بالحياة اليومية…..يمكن القول إنَّ هذا المؤلف يشكل مرجعية وحيدة من حيث طبيعته ومادته وموضوعه، هي خطوة أولى يؤمل أن تكملها وتعقبها على هذا الصعيد خطوات لاحقة يخطوها ذوو الباع الطويل من الباحثين والمؤرخين…..» (من مقدمة العمل، ص 7-12)

هكذا يفتتح جمال الدين جنبلاط ثَبْتَهُ التاريخيّ المميّز، مرجعاً ثرّاً لا غنى عنه لفهم تعقيدات السياسة والحرب في لبنان والمنطقة.

طارق آل ناصر الدين

الشعرُ حياةٌ لحياة، ظِلٌ أزليٌّ يحمي شمس الرؤيا، ويحوِّل صحراء اللغة إلى واحات. هكذا تحت عنوان: أنا والشعر، في مُقَدَّمة كتاب: «شهاداتٌ فيه ومختاراتٌ من شعره» كتب الشاعر طارق آل ناصر الدين مُفصحاً عن ذاته الأدبية بصدق، بما لا يستطيع غيره إدراكه أو التعبير عنه بنقاء «لم يجدني الشعر ضالاً فهداني أو يتيماً فآوى، بل كان قَدري أن أُولد في (بيت الشعر).. والدي نديم الأديب، والعالم اللُّغَوي، والجدّ أمين من كبار شعراء النهضة وعلمائها، ربياني طفلاً وزرعا في طفولتي جناحين: العربية والعروبة»: شاعر غزير الإنتاج، يكتب الشعر بجميع أنواعه الموزونة والحرّة، ويكتب المحكية، والزجل والنثر، إلّا أنه كان يربأ بنفسه في آن تقديم تنازل لشاعر أو رشوةٍ لناقدٍ أو هوية جديدة لمحتل. كان يرى أن الشاعر لا يستطيع تطوير نفسه وشعره وفكره وثقافته خارج انتمائه، وخارج هموم أمته، ولذلك كان يقاوم الحداثة الوافدة بالحداثة المقيمة، ويقاوم التغريب بالتعريب!!
عشق المنابر والخطابة والغناء كما يقول: «لأنّه من أمةٍ ما زال قرآنها يُرتّل ترتيلا، وما زال جرسُ كنيستها يَسْبقها إلى الصلاة». آمن بالحداثة إيمانه بالشعر نفسه، بدأ كتابة شعر التفعيلة (الحر) منذ الستينيّات. وحين بدأت الهجمة الثقافية الغربية تحاول تدمير اللغة والهوية، رَجَعَ إلى التراث راضياً مرضياً، فالمهم كما يقول: أن تبقى اللغة ليجري تحديثُها، والحداثة عنده تبدأ بالذات قبل الموضوع، وهي تُعمِّق الانتماء ولا تستبدله، ولا تعني استيراد الأعمال الأدبية الأجنبية وترجمتها، وتسمية ما نفعله أدباً حديثاً، ما زال الشعر عنده أقصى ما تصل إليه اللغة، وما زالت اللغة أقصى ما يصل إليه الوجدان.

نبذة عن الشاعر طارق آل ناصر الدين
الشاعر طارق آل ناصر الدين

الولادة والنشأة
وُلِد في كفر متى من جبل لبنان عام 1943، وينتسب إلى عائلة الأمراء التنوخيين. تلقّى علومه الابتدائية والمتوسطة في مدرسة «الداودية» في «اْعبيه» وأكمل دراسته الثانوية في كلية المقاصد، بيروت. في الثانية عشرة من عمره ترأس الجمعية الخطابية في المدرسة الداودية، نظراً إلى تفوقه اللافت في الخطابة، والأدب والشعر. وفاز عام دخوله كلية المقاصد بالمرتبة الأولى في مباريات الشعر والخطابة.

الأنشطة الوطنية والأدبية
من بوابة «فاطمة» في أقاصي الجنوب، إلى «وادي خالد» في أبعد شمال الوطن، وقف الشاعر طارق آل ناصر الدين على منابر المقاتلين والصامدين داعيةً متطوعاً من أجل وحدة الوطن وعروبته وسلامه الداخلي… مئات الأمسيات الشعرية، مئات المحاضرات والندوات والمهرجانات… وأكثر من مرّة تعرّض الشاعر لمحاولات اغتيال.

مؤلفات الشاعر
له ستة دواوين شعرية مطبوعة هي:
1- العائد من كلّ الأشياء.
2- قصائد مؤمنة.
3- تابعوا موتنا.
4- أماكن الروح.
5- حبٌ وحب.

أنشطة متنوّعة
‌أ- مستشار ثقافي للمؤتمر الشعبي اللبناني.
‌ب- مستشار الحركة الثقافية في لبنان.
‌ج- مستشار في منتدى «شهريار» الثقافي.
‌د- رئيس «جمعية أبناء العربية».
‌ه- من مؤسسي «بيت الشعر».
ولكي نعرف جيداً قيمة شعر طارق آل ناصر الدين، ومكانَتَهُ بين الشعراء، فهو كما وصفه أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين د. وجيه فانوس: يتعملق شعراً بموضوعات وقضايا ورؤًى وفنون بناءٍ وتشكّلٍ بين ما يمكن اعتباره من الأساسيات العامة العظمى في العيش الإنسانيّ، وبين ما يمكن النظر إليه على أنه من الخصوصيات المرتبطة بالحضور الذاتي، بيد أن كل هذا لا يصدر في شعر هذا الشاعر إلّا بعمق رؤيوي، جمالي إبداعي، ولغةٍ صافيةٍ رائعة تراعي مناحي المعاصرة، ولا تخون جذور الأصالة، أدخل الشعر في نسيج السياسة الوطنية والقومية في آن:

صُوفيُّ شعرٍ بِرُوحِ الحَرْفِ ممتزِجُ مصنَّفٌ فيه من أَهلِ الكفايات

في شمولية شعره من الوطني إلى العاطفي إلى الاجتماعي ما جعل منه حالةً ناضجة في موسم المحل الشعري… هذا الممسك بالقلم، بالريشة بالوتر، بالإزميل، يتعاطى الكلمة خلقاً، لوناً، نغماً نحتاً يسكب في عروقها نسغ دمه:

عَرَفَتْهُ أَرضُ الشام فهو منارُ والشعرُ من فمِهِ حُلَى وشِفارُ
فإذا أَرادَ سَبَا الحِسَانَ قريضُهُ أو ثارَ شَبَّتْ في الحروفِ النارُ
هذا أمير الشعر، مِنبرنا له ولشعره فلتخشع الأبصار

جَمَعَ الفكر والفلسفة في شعره، شأنه شأن المصلحين الكبار، متناولاً مشاكل الفردِ والمجتمع والدولة، ولم يترك حالةً ظالمة إلا وتدخَّل بشعره الحر، لأنه يعتبر ذاته معنياً بقضايا التحرر:

من أين جئنا من التاريخ من غدنا من طُهر أمٍ ومن إبداع أجدادِ
وَجَوَّعُونا وما جاعَتْ إرادتنا خبزُ الكرامة قد يُغني عن الزادِ
هي العروبة آختنا على قَسَم وَرِثْتُهُ من أبي إرثاً لأولادي
والدَعْشُ والفَحْشُ والبَطْشُ المُبرمَجُ هل من صُنعِ رَبِّكِ أو من ربِّ أَحقادِ
فلا عليُّ يَرْضاهُ ولا عُمَرُ سيفانِ للحق ما كانا بأضداد
لبنانُ ماذا جَرَى ماذا أرى، وغداً ماذا أقولُ لأبنائي وأحفادي
فَكَيْفَ يحكمُ لبنانَ الفسادُ وقد أعطى العروبة يوماً خَيْرَ روَّادِ
اليازجيان والشدياقُ أعمدةٌ حَمَتْ رسالةَ أهلِ الضادِ بالضادِ

في أوائل الخمسينيات دخل جمال عبد الناصر إلى حياة الشاعر طارق آل ناصر الدين، مُلهِماً ومثالاً فأصبح وما زال مِحور قصائده الوطنية، يومها صرّح: أن فلسطين والوحدة والتقدم والعدالة أصبحت كل أحلامه:

الثورة الأم مُذْ أعطيتها اللقبا لم تَنْسَلِخْ عنكَ يا إبناً لها وأبا
أَلَذُّ من عُمْرِكَ الدامي نهايتهُ وقد كَتَبْتَ بها أَغلى الذي كُتِبا
لمن تَرَكْتَ ملاييناً، على غدِها حَفَرْتَ قلبَكَ مجروحاً ومضطربا
ويسترد صَلِيلُ السيفِ نشوتَهُ وتُبْصِرُ النجمَ من أقدامِكَ اقتربا
صَلُّوا على القبر يُنبِتُ أَلفَ عاصِفةٍ ويستحيلُ به دمعُ الأسى لهبا
أين الشعاراتُ؟ أين المالئون بها الدنيا، لَكَم زوَّروا التاريخ والكُتبا
فلا اليسارُ يساراً في مصائبنا ولا اليمين يلبي الحق إن طُلِبا…

تقرَأُهُ، تُحِسُّ به في أعلى شجرة الإبداع، خُلِق عبقريَّ فنٍ، تتسقَّطُ عليه الرؤى صوراً من نقاء الروح، تغزلُها النفس قطراتٍ من مسك وعَنْبَر، لأنّ الشعر لديه لا يحتملُ، خصوصاً في الغزليات والوطنيات إلّا التصديق مع المُصدِّقين، إنّه أمير شعراء العروبة، حقّاً، يجري ومن الصعب أن يُجرى معه.

قرأْتُكَ شاعراً… أدباً وفكراً فأدهشني تَفَوُّقَكَ الكبيرُ
فَأَنْتَ بِمُلْهَمٍ سَطَعَتْ رُؤاهُ فمـا لَكَ طارقٌ أحَدٌ نَظِيرُ
على سَنَنِ الأُلَى بَدَعُوا فَصَاغوا قلائدَ (1) نَسْجُها ذَهَبٌ نَثِيرُ (2)
أميرُ أَصَالةٍ وَوَفًا وَصِدْقٍ فَضَائِلُ زَانَها عِلْمٌ غَزيرُ
لَكَ الرَجَحُ المُعَلَّى بغِيرِ فَنّ تَدَارَسَهُ (3) وَأَنْتَ به خَبيرُ
فَأَرْقَى ما يُرى الإنسانُ حُرًّا له حُلُمٌ وَعَقْلٌ مُسْتَنيرُ

 

الشاعر سعيد عقل

ومن أجمل وأروع ما كتب، قصيدتهُ: «دمعة على البردوني» في الثامن من أيلول عام 2011 في ذكرى الشاعر سعيد عقل، قصيدة وقف لها الحاضرون، وصفقوا طويلاً، نقتطف منها هذه الأبيات:

جَفَّتْ ليالٍ لنا ظلَّتْ لياليها… مخضرةً ترتوي منها وترويها
وكلَّما خَمَدَ الحِمرُ العتيقُ بنا توهج الجمرُ في فينيق ماضيها
يا للحبيبةِ كم أحبابها رحلوا وراسياتٌ كما الدنيا رواسيها
غاوون هِمنا بوديان الجمال وما قلناهُ نِلْناهُ، واختالَ الغوى تيها
يا زَحْلُ شبنا وما تِبْنا، ومن عَلَقتْ عليه جَمْرَةُ شِعْرٍ كَيفَ يطفيها
فذكريات الصِبا صارت أماكنُنا ودندناتُ الهوى صارتْ مقاهيها
جئنا إليها بشكوانا وقد سَمِعَتْ وكم غَفِلْنا، ولم نسمع شكاويها
هي المدينةُ ظَلَّ النهرُ يحملها حتى تلاشتْ وَحَلَّتْ روحُهُ فيها
فزحْلَةُ الحسنُ، رَبُّ الحُسْنِ توَّجها مليكةً والبوادي من جواريها
إيماءةٌ.. فملوكُ الأرضِ زاحفةٌ وهي التي أحْصَنَتْ، سبحانَ باريها
وزحلةُ اللغةُ الفُصحى وما نَطَقَتْ إلا وطأطأ شعري في معانيها
تأتي القوافي إليها وهي طائِعَةٌ وكيف لا، وقوافيها دواليها
فيها معالِفَةٌ دان الزمانُ لهم فيها السعيد غَوى فيها ليغويها
همُ النجومُ وليلُ الوحي مُنبسطٌ هُمُ الكلامُ متى السُمّار ترويها
يا بُحتريُّ تأكَّدْ إنّها فلكُ عالٍ، وأنَّ سماءً رُكِّبَتْ فيه
قِيلَ العجائبُ سَبْعٌ مَنْ يُصَنِّفُها وزحلةُ أينَ؟ إن الله بانيها
هنا أسُودٌ وغزلانٌ تعيش معاً وتستقي الحُبَّ من يُنبوع ساقيها
فالحبُّ مهنتها والشعرُ مهنتنا بالروح بالدم ها جئنا نلاقيها
وليس يحمي حماها غير عاشقها فإن تهاونَ، فالعذراءُ تحميها

 


المراجع:

1. قصائد لا تُنسى لنفاستها.
2. تَدَارَسَهُ: تتدارسُهُ.
3. المنثور “كلامه درٌ نثير.

مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإلزامي الإسرئيلية

«ظهرت البوادر الأولى لمعارضة قرار فرض التجنيد الإلزامي على الدروز مباشرة بعد صدوره في بداية سنة 1956، وخصوصاً عندما بدأ قائد وحدة الأقليات حملته في إسكات أصوات المعارضين التي ارتفعت في كل القرى الدرزية، كما أكد تقرير الحاكم العسكري في الشمال في 26 كانون الثاني 1956، أي بعد ثلاثة أسابيع من سريان القانون.
أبرزت نقارير الحاكم العسكري في الشمال دور الشيخ فرهود قاسم فرهود (1911-2003) أحد أبرز مشايخ الدين في الجليل الذي لم يترك مناسبة من مناسبات اجتماعات مشايخ الدروز من دون أن يرفع صوته ضد فرض القانون….وبعد أيام أرسل الشيخ فرهود عريضة موقعة من 42 شيخاً إلى رئيس الدولة طالب فيها بإلغاء القانون المفروض على الدروز. وفي نيسان من تلك السنة بادر الشيخ فرهود إلى عقد اجتماع عام في مقام الخضر في كفر ياسيف بهدف إعلان موقف موحد ضد التجنيد وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها السلطات الإسرائيلية على الشيخ أمين طريف (الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين يومذاك) لإلغاء الاجتماع وإقفال باب المقام، فإن المجتمعين نجحوا في عقده وإصدار بيان مشترك دعوا فيه السلطات الإسرائيلية إلى التراجع عن قرارها. زد على ذلك، وجّه المجتمعون إنذاراً بأنهم سيدعون إلى إضراب في المدارس وإلغاء احتفالات النبي شعيب في حال رفضت السلطات الاستجابة، ثم هددوا بسحب اعترافهم بالقيادة الروحية إذا ما أحجمت عن الوقوف إلى جانب رافضي الخدمة العسكرية (1).
وفي إحدى الرسائل التي وقعها 55 من رجالات الدين والشبّان بعثوا بها إلى وزير الأديان وإلى رؤساء الطائفة، أعلن الموقعون يوم الاحتفالات في مقام النبي شعيب 25 نيسان يوم حداد (2).وفي 22 آذار توجه المحامي نمر الهوّاري باسم 16 شاباً درزيا من رافضي التجنيد في مدينة شفا عمرو إلى رئيس الحكومة برسالة مفصّلة شدد فيها على التالي: 1- يعتبر الدروز أنفسهم أبناء الأقلية العربية، وما دام لم يُدعَ أبناء هذه الأقلية إلى الخدمة العسكرية، فيجب عدم الفصل بينهم وبين وبين الدروز في الدعوة إلى الخدمة العسكرية. 2- ليس ثمة مبرر لتغيير كانتهم من متطوعين وتحويلهم إلى مجنّدين إلزاميين….يعتبر فرض الخدمة اإجبارية على الدروز، بالاستناد إلى طلب تقدّم به من لا يمثلونه، عملاً استبدادياً.
ونتيجة تعاظم حركة الرفض بين الشباب الدروز لجأ الحاكم العسكري في الشمال إلى الطريقة التي اتبعها أمنون يناي في سنة 1953 في الاستعانة بوجهاء الطائفة لكي يوزعوا أوامر التجنيد في القرى. ففي قرية يكا على سبيل المثال رفض 28 شاباً من أصل 93 استلام الأوامر، فاقترح الحاكم العسكري في الشمال معالجة حالة الرفض في يركا قبل انتشارها في القرى الأخرىعن طريق استخدام الشرطة ضد الرافضين. وفي مواجهة هذا الرفض طلب نائب رئيس أركان الجيش من الحاكم العسكري في الشمال عقد جلة في 7 آذار 1956 لأعضاء لجنة التنسيق العسكري ضمّت بالإضافة إلى الحاكم العسكري في الشمال ممثلين عن الشاباك والشرطة وقائد وحدة الأقليات. وبحسب المعطيات التي عرضها مكتب التجنيد أمام هذه اللجنة لم يوافق سوى 28% من المطلوبين للخدمة الإجبارية على تسلّم أوامر التجنيد، إذ رفض 291 شاباً من أصل 374 مطلوباً للخدمة العسكرية (146 شاباً من أصل 197 مطلوباً في قرى الجلي، و145 شاباً من 177 في قرى الكرمل) (3).
في ضوء هذه المعطيات، طلبت لجنة التنسيق اللوائية من نائب رئيس الأركان أن يصدر أمراً إلى مكاتب التجنيد في طبريا وحيفا يقضي باستخدام قوة الشرطة ضد رافضي التجنيد. وعلى الرغم من اعتقال العديد من الشبّان وفتح ملفات جنائية ضدهم، فإن عدد الرافضين لم يتناقص كثيراً، إذ مثل في مكتب التجنيد في حيفا 60 شاباً فحسب من أصل 141 مطلوباً من قرى الكرمل، ومثل في مكتب التجنيد في طبريا 74 شاباً من اصل 240 مطلوباً من قرى الجليل، وهو ما دفع لجنة التنسيق اللوائية إلى الطلب مجدداً من السلطات العسكرية تقديم المعارضين للمحاكمات وجلب الرافضين بالقوة إلى مكاتب التجنيد. ونتيجة هذا الرفض، عقد أعضاء هذه اللجنة جلسة ثانية، اعترف فيها ممثل الشاباك بفشل الإجراءات البوليسية في وقف حالة الرفض، وأشار أعضاء آخرون في اللجنة إلأى أن تدخل بعض وجهاء القرى وخصوصاً في دالية الكرمل وعسفيا وبيت جن كان محدوداً جداً.» (4) (ص 282-285)
هذه صفحة واحدة من صفحات مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإسرائيلية، ويمكن متابعتها وسواها في عمل المرحوم قيس فرّو المهم.


المراجع:

  1. أرشيف الجيش الإسرائيلي، ملف 72\70\752 تقرير نائب الحاكم العسكري في الشمال
  2. أرشيف الجيش، التقرير نفسه،
  3. أرشيف الجيش، الرقم نفسه، تقرير هيئة الأركان بشأن تجنيد الدروز، 11 آذار\مارس، 1956.
  4. أرشيف الجيش، الملف نفسه، ملخص جلسة لجنة التنسيق بشأن التجنيد الإجباري للدروز، 22 آذار\مارس، 1956

مَلحمةُ الكَون

وعندَ الفجرِ
إذ تصحو،
لتعبُدَ
ربّك فيهِ،

وصدرُكَ
نحوَهُ تشرَحْ
بما ضمّ
وما فيهِ،

وقلبُكَ
مخلصاً يفتحْ،
جناحاً
كي يُلاقيهِ،

وعقلُكَ
إذ تجِدْ يسرحْ،
فسِرُّ الكونِ
يُدنيهِ

وكونٌ
لامرِىءٍ فكّرْ،
تبصّر
في أحاجيهِ،

عجائبُ
كيفما ينظرْ،
يقاربها
تناديهِ،

سماواتٌ
بغيرِ مدىً،
يخاطِبُها
فتأتيهِ،

وأنجُمُها
مناراتٌ،
شموعٌ
في حواشيهِ،

محيطاتٌ
تحِفّ بهِ،
ووسْطَ اليمِّ
تبقيهِ،

مجرّاتٌ،
وأنجُمُها ملايينٌ،
تسامِرُهُ،
تواسيهِ،

كواكبُ
قد جرتْ دوماً،
تقارِبُهُ،
تُدانيهِ،

تسبّحُ
خالقَ الأكوانِ
تعبُدُهُ
وترقى في مغانيهِ،

وإنسانٌ
سما عقلاً،
تناهى في معانيهِ،

وطَوعُ
بنانُهِ كونٌ،
يكَيّفُهُ
بما فيهِ،

وسِرُّ صنيعهِ
عِلمٌ،
تبحّرَ
في مراميهِ،

فصار الكون مطواعاً
وعبداً
في أياديهِ،

كلّما رَقّ النّسيمُ كلَّما غَلُظ الطّبع

 

أدقّ ما أصاب السّهمُ هدفَه، القول الفلسفي الاجتماعي للفيلسوف الشهير ابن خلدون «كلّما رقّ النّسيم كلّما غلظ الطّبع» وذلك في مقدَّمته الشهيرة «ديوان العِبَر حول طبائع البشر» من حيث تأثير المناخ الجغرافي في الأماكن المرتفعة كالجبال والهضاب، كون النّسيم يرقّ ولا يسترق إلاّ في تلك المرتفعات وانعكاسها الكلّي على قاطنيها تصرّفاً وتفاعلاً وتخاطُباً وفي شتى ضروب الحياة وعبر التاريخ… وما جعلنا نؤمن كليّاً بهذا القول الفلسفي إذ بتنا نجد العديد من سكان القرى الجبلية، وبعد انتقالهم في العصر الحالي للسّكن في المدن الساحلية وتآلفهم مع بيئتها، قد تخلّصوا من تلك العادات والتصرّفات المستهجنة والتي كانوا يعيشونها لأزمنة طويلة.

أما الأمثال والعبر لفحوى هذا القول فهي متعددة وإن اختلفت مواقعها الجغرافية والقروية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما وصل إلينا منها إذا ما استعرضنا تاريخهم وعبرهم نجد العديد من المناكفات والانفعالات والمشاحنات وصولاً إلى المنازعات الكبرى والتي تؤدي للقتل والدمار والتشريد واليتم والفقر المدقع وما مردّها سوى قصر النظر وضيق العقل وعدم الرّويّة والمخالطة مع سكان الحواضر والمدن الأقرب إلى التمدُّن والتعليم وسلوك طريق المعرفة والخلاص من خلالهما.

فمثلاً بعد معركة عين دارة المشؤومة عام 1711 بين الدروز أنفسهم والتي كشفت كليّاً عن عقول متحجّرة بين الغرضِيّات والجماعات القبلية والمحلّية دون التفكير في الخسارة الكبرى التي ألمّت بسكان الجبل جميعهم إذ أفقدتهم قوّتهم العسكرية وعزّتهم الكيانيّة وكرامتهم الذّاتية وحتى حكمهم للشوف وتوابعه ليصبح الجميع أتباعاً وليسوا متبوعين. هذا بالنسبة للوجهاء والزعماء والشيوخ فكيف حال الفلاحين والفقراء والمحتاجين الضعفاء والذين اسودّت الدنيا في وجوههم فيمّموا إلى جبل حوران حيث سبقهم إلى هنالك أهلهم وأقاربهم.
شوفانيّ ما، بعد أن ضاقت به سبل العيش قرّر الانتقال إلى تلك الديار، أثناء سيره في سهل حوران ترافق مع بدوي وعند وصولهم إلى أحد مضارب البدو في السهل المذكور تقدّم البدوي من أحدى الخيم وطلب شُربة ماء، فخرجت فتاة حسناء بقدّها ووجهها الجميل وناولته قربة الماء… شرب البدوي وقال: التي لا نعرف اسمها لا نرمي السلام عليها..

أجابته الفتاة الحسناء: «في قبضة سيفك يا أخوي». وكان يتدرّع سيفه في وسطه. أجابها البدوي: السلام عليك يا فِتنة، كون السيف في أغلب الأحيان فتنة للقتال والشّر. غير أن البدوية أرادت أن تردّ السؤال بالمثل فقالت: ونحن أيضاً لا نقول هنيئاً للذي لا نعرف اسمه. أجابها البدوي من جديد: في وجهكِ يا مزيونة. قالت الفتاة والانشراح بادٍ عليها: هنيئاً يا جميل. أجابها الشوفانيّ وبعصبيّته المعهودة: « أنا عمّك بو قاسِم عالدّغري وعلاك بدّاوي بدّاش». ثم أكمل طريقه فيما بعد إلى أن وصل إلى مشارف بلدة عتيل قرب السويداء حيث التقى براعٍ يرعى غنمه فما كان منه إلاّ أنْ بادره بما يشغل باله ويدقر عنده عقله فخاطبه سائلاً: هل أنت قيسي أم يمني..؟ ضحك الرّاعي مطولاً وبعد فراغه من ضحكه واستهتاره بسؤال صاحبه أجابه: «والله يا خوي أنا سارحٌ مع غْنِمي»..

أما العِبَر التي عاصرتها في منطقتنا المحاذية لجبل الشيخ فمنها: أنّ رجل دين مسالم قُتل عام 1950 وهو في طريقه إلى بلدة «عُرنة» في المقلب الآخر من الجبل ودون أيّ ذنب، والذي أقدم على قتله راعي ماعز متحجّر العقل والفكر وكان يُلقب «أبو الحِن»، وحيال مثوله أمام القضاء استدرجه المُستنطق للاعتراف بجريمته النكراء قائلاً: «حقاً وصدقاً قد تأكد لنا أن القتيل كان يهودياً كونه أشقر اللون والشعر ويستحق العذاب والموت، لكن استحلفك بالله كم عصاً ضربته حتى مات؟» الرّاعي وبغفلة منه أجاب على الفور: «والله يا سيدنا مئة عصا وعصا ثم (دركبته) من رأس الجبل حتى أسفله وعند تفقّده وجدته قد مات».

في هذا الصدد كان يردد ويقول النائب والمحامي الأستاذ نسيب غبريل والذي كان يتوكل في العديد من الدعاوى المقامة بين السكان من رعاة وفلاحين وسواهما قاطني تلك النواحي أنّ سبب قساوة التعامل وسوء التصرف والكلام الفجّ في التعبير بين الفرقاء والنتائج والعواقب الحمقاء مردّه إلى طبيعة أرضهم ووعورة مسالكهم، وارتفاع جبالهم وانخفاض وديانهم، مما ينعكس ذلك على طبع وتصرفات أبنائها، كما وأن حياة هؤلاء بأكملها في البراري التي يسرحون فيها مع طروشهم، فمن أين تأتي المعرفة واللّياقة ومن أين يتلقَّوْنها، فلا مدارس ولا تواصل بينهم وبين أبناء المدن في وطنهم لهذا كانت عقولهم وآفاقها لا تتعدى سوى مراعي حيواناتهم.

أمّا في العصر الحالي، فالجهل هو الجهل قديماً أم حديثاً، وحيث إنّ العلم والمعرفة قد أصابا الجميع ومنهم سكان الحواضر والمدن عند السواحل أو في السهول الشاسعة، يبقى الجهل عند البعض مسيطراً وملازماً وسببه أن الجهل هو الجهل، وأسبابه متعددة ومتشابكة لأنّ الذين يتضلعون به أناس إمّا لم يدخلوا المدارس أو المعاهد مطلقاً، أوهم فقراء ومحتاجون ممّا يشجع البعض من رجال السياسة على استغبائهم والسيطرة على عقولهم لحاجتهم المادية إليها، فيحملونهم على الإقدام لارتكاب أعمال مُشينة وخطرة تجاه أخصامهم كالاغتيال والتصفية والقيام بأمور مُستَغرَبة حيث تسيء لسيرتهم وتعرقل مسيرتهم الاجتماعية. كذلك مثل البعض يرَون كلّ من لم يتّبعهم ولا يأتمر بأمرهم هو عدوٌّ لهم، ومثال على هذا فإنّه عقب اغتيال أحد الرؤساء العرب؛ سأل القاضي القاتل: لماذا أقدمت على ذلك؟ فأجابه: لأنّه علماني.. قال القاضي ويعني أيه علماني؟ أجاب القاتل: إنه يكره الدين، قال القاضي غير أن الرئيس كان يؤم الجوامع ويصلّي نهار الجمعة مع الجماعة؟ أجاب القاتل: هذا لا يكفي فعليه محاربة كلّ من هو غير مسلم.

الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ

وفي حادثة محاولة اغتيال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ سأل القاضي المجرمَ الذي طعنه: لماذا طعنته؟ فقال الإرهابي: بسبب رواية أولاد حارتنا. قال القاضي: هل قرأت روايته أولاد حارتنا وما هو تعليقك عليها؟ أجاب القاتل: لا ولا أحسن القراءة..

وسأل قاضٍ آخر الإرهابي الذي قتل الكاتب المصري فرج فوده: لماذ اغتلت فرج فوده؟ أجاب القاتل: لأنه كافر. قال القاضي: وكيف عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: من كتبه. قال القاضي: أيّاً من كُتبه عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: أنا أميّ ولا أحسن القراءة.

العقل الضّيّق وحدوده

إنّه الجهل؛ وما أكثر أصحابه بين أبناء البشر قديماً وحديثاً وحيث إنّ العديد من أولئك البشر إنّما يكون إدراك عقولهم عند حدود أماكنهم البيئية، أو مساكنهم الريفية، لهذا فلا تجد مجالاً للمناقشة بل تقف أمام حائط مسدود، لا حول ولا قوّة ازاء ذلك. وما العبرة التي قدمها أبو علماء الاجتماع، ابن خلدون، عن هكذا حالات إلّا أصدق تعبير وأفضل تقدير:
قيل: «كانت ضفدعة تعيش في بئر صغيرة وُلدت فيها وبقيت تعيش فيها، وذات يوم سقطت في البئر ضفدعة أخرى كانت تعيش على شاطىء البحر، فدار بينهما الحديث التالي:
ـ من أين أتيت؟
– من شاطئ البحر؟
ـ هل هو كبير؟
– أوّاه طبعاً إنّه كبير جداً..
ـ وهل هو أكبر من هذه المسافة؟، بعد أن فتحت رجليها عن بعضهما..
– إنه أكبر بكثير..
فَغَرت ضفدعة البئر فاها من فرط الدهشة، ثم التفتت إلى رفيقتها سائلة: أتعنين أنّه بحجم البئر التي أعيش فيها؟ – أجابتها ضفدعة البحر: كيف يمكنك يا صديقتي تشبيه البحر ببئرك هذه..؟
عندها استغرقت ضفدعة البئر في تأمل عميق ثم قالت بينها وبين ذاتها: كلاّ لا يمكن أن يوجد مكان أكبر من هذه البئر، إنَّ هذه الضفدعة تكذب عليّ وتريد أن تتلاعب بعقلي وعليّ إمّا طردُها أو قتلُها فوراً…

عارفٌ الرَّيِّس (1928 – 2005)

تعودُ معرفتي الشخصيّة بالرسّام والنَّحّات اللبنانيِّ المُبدع المرحوم عارف الريّس، ابن مدينة عاليه اللبنانيّة الجَبليّة، إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كنت أسكن المدينة، غير بعيد عن مُحْتَرَفِه (أو القبو) كما كان يسمّيه. وكنّا شلّة صغيرة من المُتخرّجين الجامعييِّن الجُدُد، نخطف أقدامنا نحو أيّة تظاهرة ثقافية مُتاحة، في بيروت أو صيدا أو طرابلس، فكيف إذا كانت على مبعدة أمتار منّا. كانت عاليه في ذلك الزّمن مدينة الاصطياف والسّياحة الأولى في لبنان، وبخاصّة في أيام الصّيف، حيث تغدو المدينة بمنازلها وفنادقها الوجهة الدّائمة للزوّار العرب: من سوريا والعراق والخليج العربيّ على وجه الخصوص. وكان هؤلاء يحملون إلى مقاهي المدينة وأرصفتها ونواديها هموم جيل عربيّ جديد طموح يجدّ في البحث عمّا يؤمّن للأمّة وشعوبها فُرَص اللّحاق بركب المتقدّمين في ميادين العلم والمعرفة والثّقافة وكذلك الفنّ.

زرتُ شخصيّاً، وشلّة رفاق الثّقافة والسّياسة، الفنّان الريّس في محترفه غير مرّة، ويندر أن وجدناه مرّة واحدة وحيداً: كان في ضيافة مُحْتَرَفه باستمرار مثقّفون وفنّانون وصحافيّون وآخرون من مُقدّري فنّه من لبنان، كما من أقطار عربيّة شقيقة أخرى. وأذكر جيداً أنَّني التقيت في مُحْتَرَفِه في واحدة من الزّيارات تلك؛ الأميرة مَيّ، ابنة الأمير شكيب أرسلان وعقيلة الزّعيم والمفكّر اللبنانيّ الرّاحل كمال جنبلاط. وأذكر من اللّقاء ذاك مقدار المعرفة الفنيّة والثقافيّة التي كانت تُبديها الأميرة الرّاحلة في حديثها وتدخّلها مع الحضور أو مع عارف إذ كانت تمحضُه الإعجاب والتّقدير – وليس في الأمر ما يدعو للعجب فهي ابنة شكيب أرسلان ذات المنشأ الثّقافيّ في جنيف ثم رفيقة أحد أبرز المثّقّفين اللبنانييِّن قبل أن تنتزعه يوميّات السياسة بعيداً عن ساحته الأحبّ والأقرب؛ الثّقافة.

أمّا مُلاحظتي الثانية من زياراتي المعدودة تلك، أواسط السبعينيّات، فهي التحوُّل الواضح الذي بدا على عمل الفنان عارف الريّس آنذاك، أواسط السبعينيّات، واهتمامه المتزايد، أو ربما تحوُّله على ما قال نقّاده بعد ذلك، نحو فنّ «الكولاج»، أي التّركيب الحُرّ لقُصاصات ورقيّة صحافيّة أو لقطع قماشيّة أو خشبيّة في تشكيلات لها معان (أيديولوجيّة في الغالب) أشدّ قوّة وصُراخاً ممّا تقدّمه أو توحي به اللَّوحة أو المنحوتة. كانت تلك مرحلة جديدة في التطوّر الفني لمسيرة المبدع عارف الريّس التي بدأت أواخر الأربعينيّات، ولعلّها بلغت في أواسط السبعينيّات بعض الجفاف، أو «عصيان الألوان» وفق تعبيره الشّخصيّ في ندوة لاحقة له.

وُلِد عارف نجيب الريّس في مدينة عاليه، ونشأ فيها، بين كتب مكتبة والده حيناً ومُناخ المدينة المُزدهرة حيناً آخر. لكنّ طموح والده دفعه للسّفر إلى بلاد السّنغال يبحث عن ثروة له على طريقة معظم اللبنانييِّن الذين اتّجهوا إلى بلدان إفريقيا في ذلك الوقت. وبعد مشاكل صحيّة خطيرة لم تبرح عارف الصّبي، التحق عارف الشابّ وقد ظهرت بوضوح مهاراته الغزيرة في الرّسم، بوالده في السّنغال. لكنّه لم يستهدف الالتحاق بمهنة والده في التّجارة وإنّما لاستكشاف سحر إفريقيا الذي بدأ يتعرّف عليه في دراساته الفنيَّة.

قضى عارف الشابّ فترة مُثيرة من شبابه في مناطق نائية من البلاد تلك. فقضى الكثير من وقته على ضفاف نهر «الكورمونز»، غير بعيد عن التماسيح فيه، أو عن الجماعات البدائيّة في محيطه التي تحتفل بكلّ حدث في حياتها بإشعال النار والغناء والرّقص في حياة بريَّة عفويّة حرّة تامّة لم تبرح مُخيّلة عارف إلى زمن بعيد. رسم عارف ذلك الفنّ الإفريقيّ الصّافي وحمل لوحاتِهِ إلى باريسَ مطلعَ الخمسينيّات بهدف إقامة معارض له هناك. لكنه فوجئ، على ما يروي زميله في باريس نقولا النمّار، أنّ باريس الفنيّة مُتطلِّبة جدّاً وأكثر بكثير من عفويّة «الفنّ الإفريقيّ»، وأنّها في حراك مُجرّد مُعقّد وأكاديمي. وعليه فقد التحق عارف في باريس بمُحترَف الفنّان فرنان ليجيه للرّسم، ثم مُحترَف أندريه لوت وهنري غنيز للحفر، وربّما مُحترَفات عدّة أخرى أيضاً.

عاد بعد ذلك إلى بيروت، وبسبب من مُشاركتِه في معرض فنّي في السّفارة الإيطاليّة نال منحة دراسيّة من الحكومة الإيطاليّة لدراسة الفنّ في بلاد الفنّ، وهناك تنقّل عارف في إيطاليا بين روما وفلورنس وميلان والبندقيّة فتعرّف على آيات الإنتاج الفنّي الإيطاليّ الذي هَيمن أعظم فنانيه طوال القرن السّابعَ عشَرَ على الفنّ الأوروبي، وعاد من تجربته تلك بمزيد من التّشكيل والغنى والتّعقيد لروحه الفنّي المُبدع والخلاّق.

ومن بيروتَ إلى نيويوركَ، هذه المرّة، إذ شارك في مسابقة لمعرض نيويورك الدَّوْليّ بمنحوتة «الفينيقيّ»، فحازت على جائزة المعرض، وكانت سبباً لإقامةٍ في بلاد العمّ سام استمرّت خمسَ سنواتٍ، كان فيها دارساً، طالباً، مُنتجاً، زادت من معرفته باتّجاهات الفنّ الحديث، ومسرحها نيويورك، فكان أن اشترك في أكثر من معرض جماعي فيها، بل وأقام معرضاً مُنفرداً. انتقل عارف بعد ذلك إلى المكسيك للتعرّف على فنون أمريكا اللّاتينية، لجهة موضوعاتها النّضاليّة الغنيّة، كما لجهة أدواتها وأشكال التّعبير فيها، فكانت مرحلة جديدة ستجد تعبيراً صارخاً لها في السّلسلة النضاليّة (التشكيليّة/الكتابيّة) التي بدأ عارف بعد عودته إلى لبنان بإصدارها، (رؤى من العالم الثالث)؛ فكانت بعض موضوعاتها: باتريس لومومبا، وكاسترو وغيفارا والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمقاومة الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة اللبنانيّة وسواها، والتي بلغت ذروتها في إصداره «البيان التّشكيليّ»، كما لو كان بديلاً /أو فرعاً/ تشكيليّاً للبيان السياسيّ الذي لم يهتمَّ به كثيراً.

بعد عودته النهائيّة إلى لبنانَ، استقرَّ في مدينة عاليه، فحوّل (القبو) الحجريَّ في منزله إلى مُحترَف واسع تملأه الفوضى من الدّاخل، ولكن تحفُّ به من الخارج أحواضُ ورد وزهور وأقاحين. وفي الفترة تلك كان عارف شريكاً رئيساً في تأسيس «جمعية الفنانين اللبنانييِّن»، وفي تحويل الألباب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، أو معهد الفنون الجميلة لاحقاً، ثم في اقتراح مناهجه، وأخيراُ مدرّسّاً فيه لأكثر من عشرين سنة.
لعشرين سنة لاحقة استقرّ عارف أستاذاً مُمَيَّزاً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، وكانت فترة استقرار له وقد بدأ الاتّكاء على عصا، فكان زملاؤه أهمّ الفنانين التشكيلييِّن اللبنانييِّن، كما ترك تدريسه وإشرافه بصمات خلاّقة حرّة (وأحياناً فوضويّة) في الكثير من طلّابه.

في فترة نُضج عارف الأخيرة، حدث ما يشبه (الهزيمة) للفنّان المُتمرّد، الثائر، الحرّ، الفوضويّ، وبعض أسباب ذلك ما خَبِرَه في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أو ما رافقها، من نتائج وتناقضات وتداعيات لبنانيّة وعربيّة قتلت في عارف الكثير من الأحلام والطّموحات والمبادئ الصّافية التي نشأ عليها، «وهو ما دفع بالمرحوم كمال جنبلاط؛ القائد السّياسي الكبير»، على ما يروي الفنّان التشكيليّ اللبنانيُّ عُمران القيسيّ، «لأن يطلب مني بالذّات جمع رسوم عارف الريّس عن الحرب اللبنانيّة في كتاب مُستقلّ مع دراستها دراسة فنيّة وسياسيّة، كان ذلك في العام 1977» («ملحق الخليج الثقافي»، 29/4/2013)

تحوّل عارف في أثناء ذلك إلى إنتاج الجداريّات والمنحوتات الضّخمة، فشارك منذ الثمانينيّات (التي قضى معظمها خارج لبنان بفعل ظروفه الأمنيّة يومذاك) في نحت بعض مُجَسّمات ساحة مدينة جدّة، كما في تشكيل وتزيين بعض معالم جدّة وتَبوك. كذلك رست عليه مهمّة تقديم المنحوتة الأماميّة الرئيسة لجامعة الملك عبد العزيز في الرّياض. كانت فترة إقامته الطويلة في العربيّة السعوديّة فرصة له للتعرّف على أشكال الإنتاج الفنّي الصّحراويّ، وكانت تلك أولى محاولات تحديد هُوِّيَّة الفنّ الصّحراويّ ومِيزاته.
أنتج عارف في الفترة تلك أيضاً جداريّة «الأوبيسون» لصالح مبنى مُنظَّمة الأونيسكو في باريس، وأعمالاً مُماثلة أخرى لغير جهة.

هذه بعض كرونولوجيا الفنّان التشكيليّ المبدع المرحوم عارف الريّس.
لكنّ عارف الريّس لا يُختزل البتَّةَ في سنوات، أو في أعمال ملموسة، مهما بلغت من الانتشار. كان للتَّنوُّع المُدهش في ثقافته واهتماماته ومضامين أعماله، كما لأُسلوبه المُتميّز،الأكاديميّ/الحرّ في آن معاً، من التأثير العميق في زملائه وطلاّبه، وفي جيل كامل من الفنَّانين، ما غدا موضع إجماع من معاصريه كما من دارسيّ تطور الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ. وبسبب من محدوديّة المساحة المقرّرة لهذه المادّة، أكتفي ببعض شهادات معاصريه أو الذين كتبوا أو بحثوا فيه بعد رحيله الهادئ سنة 2005.

بين عدد كبير من شهادات فنّانين لبنانييِّن وعرب، نكتفي بشهادتين، لعُمران القيسيّ ومحمود شاهين. كتب الفنّان التشكيليّ اللبنانيّ عمران القيسي في عارف الريّس بعد سنوات من رحيله يقول:
«هل يترك موت الفنّان فراغاً كبيراً؟ وهل يؤثّر هذا الفراغ في صورة وتكوين حركة فنّه في حِقبة زمانيّة قلقة؟ بالنسبة إلى الفنان اللبنانيّ الراحل عارف الريّس، نستطيع أن نلمس بكل حواسّنا، ونشعر بكل مُدْرَكاتنا العقليّة، أنّ رحيله ترك فراغاً خطراً على صعيد الحركة الفنيّة التشكيليّة التعبيريّة في لبنان بل إنّ جيلاً من الرّاحلين أثَّروا بما لا يقبل الجدل في المسار الاختباريّ للحركة الفنيّة اللبنانيَّة….عارف الريّس (كان) العمود الثاني لحركة الفنّ اللبنانيّ المعاصر، مقابل العمود الأوّل المتمثّل في الفنّان اللبنانيّ بول غراغوسيان.»

وبمناسبة رحيله أيضاً، كتب الفنّان التشكيليّ السوريّ محمود شاهين ما يلي:
«عارف الريّس غادر (قبوه) أخيراً… ما عادت تهرب الألوان منه… ولا تأتي إليه، لكنّه ترك ما سيبقى يشير إليه ويدلّ على الفعل الخلاّق، الجميل والمُبدع، الذي أضافه للحياة، مُكَرِّساً وجهها المُشْرِق وسحرها المُفْعَم، وسعادتها الحقيقيّة التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقييِّن… وعارف الريّس كان واحداً منهم بكلّ تأكيد.»

الفنّان التّشكيلي اللبنانيّ عارف الريّس، وباختصار، مَعْلمٌ بارز في تاريخ الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ، وصاحب بَصمات حفرت عميقاً في اتّجاهاته، لجهة المضامين والأساليب في آن معاً. وما تأثيره العميق ذاك غير الخلاصة المنطقيّة لمواهبه الإبداعيّة التي ظهرت باكراً، ثم لإصراره ومثابرته على الدراسة الأكاديميّة في أهمِّ المُحْترَفات، ولإصراره العجيب ثالثاً على اختباره الشخصيّ، جسديّاً وفكريّاً وروحيّاً، للموضوعات التي اشتغل عليها، وسيبقى مُحْتَرَفُه الفنِّيُّ علامة مضيئة أخرى في تطوّر الحركة الفنيّة اللبنانيّة، أو مرّة أخرى وبتعبير الفنان عمران القيسي: «سيبقى (عارف الريّس) القطب الذي طَبع حركة التّشكيل اللبنانيّ بطابَعِهِ الذاتي العميق». (مُلحق الخليج الثقافي، 29/2/2016).

عارفٌ الريّسُ، بنتاجه الفنِّيِّ وفي كلّ مجال تشكيليّ، وصولاً إلى الكولاج والحروفيّة، وحتى الشّعر، بمروحة موضوعات اختبر شخصيّاً معظمها، وبأكاديميّة رفيعة لجهة الأساليب وأدوات التّشكيل والتّعبير، وبسُخْرِيته السّوداء المُرّة، بعينين لا تتوقّفان عن التّحديق، بلحية كانت لا تستقرّ بين سواد تمرُّدِه وبياض نضوجه، وبعصاه أخيراً يتكئ عليها وكأنّه يُقفل على زمن بأكمله: عارف الفنان المُبدع الخلّاق عَصِيٌّ على الموت، بل لعلّه رحل، كما قال فيه زميلُه في باريس الفنّانُ والمُهندس المُبدِع نقولا النّمّار، «إلى عالم أفضل وأجمل من عالمِنا هذا.»

مراجعات كتب

«“دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” باشا في لبنان»:

قيس ماضي فرّو

للكاتب والمناضل الفلسطيني قيس ماضي فرّو،عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2019 ، (في 417 صفحة، حجم كبير).
يبدأ المؤلف عمله بإهداء، ذي قيمة رمزية عالية، «إلى روح سلطان باشا الأطرش، الذي حاول الناشطون والمؤرخون الصهيونيون تلطيخ إسمه؛ وإلى روح والدي ماضي حمزه فرّو».
(ومنّا، شكراً لهذا الإهداء تحية لروح لسلطان باشا الأطرش، واضع حجر الزاوية لسوريا الحديثة الموحّدة، ولا يحتاج تاريخه لشهادة متطاول، ولا ينال منه إهمال غادر إو حقد حاقد).
من مراجعة متأنية للكتاب، في وسع المرء أن يقول بثقة تامة أنه الأكثر اشتمالاً على المادة التاريخية الواسعة الموثّقة ذات الصلة بالأقلية العربية الدرزية الموجودة في فلسطين؛ وغير مسبوقن على ما نعلم من هذه الجهة. ولأنه بالأهمية تلك، لا تكفي صفحة أو صفحتان لمراجعته، إذ تحتشد فيه، في كل صفحة، المعطيات والنصوص والإحالات وعلى نحو لا يمكن اختصارها: ما نقدّمه إذاً في «الضّحى» الثقافية ليس أكثر من دعوة لقراءة الكتاب هذا، الثبت العربي الفلسطيني الفائق الأهمية.
لا تقوم أهمية الكتاب من مادته فحسب، على غناها واتساعها، وإنما لطابعه العلمي وإحكامه المنهجي، وتوثيق معطياته التاريخية وفق أعلى معايير الاسناد، وإحالته حتى في أصغر القصص إلى مصادر ومراجع وأرشيف، لا أظن أن كاتباً عربياً آخر أمكنه الوصول إليها بين جميع من تناولوا تاريخ المجتمع الفلسطيني في الداخل والتحولات المثيرة التي ضربت من دون سابق إنذار تفاصيل حياته ورسمت بالأسود مصيره لعقود قادمة؛ وبخاصة الجزء المتصل منها بالجماعة العربية الفلسطينية الصغير العدد، دروز فلسطين، وسيلي بيانُ ذلك.
يقع الكتاب في ستة فصول بين مقدمة وخاتمة.

الفصل الأول:
دروز فلسطين أمام وضع جديد
الوجود الدرزي في شمال فلسطين، التنافس بين ثلاث عائلات متنفذة، الحركة الصهيونية تراقب وتتدخل، الدروز وثورة فلسطين الكبرى في امها الأول، محاولات منع دروز سوريا من المشاركة في ثورة الفلسطينيين، ( وسواها).
الفصل الثاني:
بين مطرقة التخطيط وسندان الغفلة،
إثارة دروز سوريا ولبنان وخطة نقل دروز فلسطين، نقل دروز فلسطين بحجة إنقاذهم، بيعوا أراضيكم وهاجروا، تجميد خطة النقل، ثم قبرها،
الفصل الثالث:
من الحرب العالمية الثانية إلى حرب 1948
أوضاع دروز سوريا تحت مجهر الصهيونية، اقتراب عاصفة 1948، التحضيرات للحرب، معارك فوج جبل العرب، الإحباط بعد معركة هوشة
الفصل الرابع:
بعد إعلان قيام دولة إسرائيل
من إقامة وحدة الأقليات إلى احتلال شفا عمرو، خنجر مسموم، البقاء في الوطن، خيار الدروز، معركة يانوح، تداعيات معركة يانوح.
الفصل الخامس:
فن الترويض، العصا لمن عصى والجزرة لمن أطاع
العصا لعرب سيئين والجزرة لعرب طيّبين، نماذج، أليات منع تشكل مجموعة عربية واحدة، غربلة القيادات الدرزية التقليدية، تنافس رؤساء العائلات يعزز ولاءهم.
الفصل السادس:
رهائن التجنيد يفقدون أراضيهم الزراعية
لا لتجنيد العرب ونعم لتجنيد الدروز، معارضو التجنيد ومؤيدوه، من التجنيد اختيارا
إلى التجنيد الإلزامي، قمع معارضة التجنيد، قوانين مصادرة أراضي الدروز، ما تبقى

خاتمة: التبعية الاقتصادية وتهجين الهوية

هذه أهم عناوين كتاب قيس ماضي فرّو البالغ الأهمية.
فهل الكتاب دفاع عن تاريخ دروز فلسطين العروبيين الوطنيين الأشاوس، في غالبيتهم العظمى فقط؟
لقارئ يعبرُ صفحات الكتاب مسرعاً أن يقول أجل؛ إلا أن القراءة الثانية ستظهر له نفسه أن الكتاب برمّته دفاع من المؤلف، وفي جهد علمي استثنائي، عن الحقيقة التاريخية الموضوعية الموثّقة والمثبتة بالتواريخ والمستندات، على نقيض نوعين من الأعمال الأخرى الشائعة: تلك المسرفة في المبالغات غير الواقعية، أو الأخرى المسرفة في الأحكام المسبقة الظالمة ومن دون تبصّر وتمييز.

يقع الجهد الرئيسي لمؤلف الكتاب، قيس ماضي فرّو، في دحض، بل تفنيد، مضمون الخطاب الصهيوني الإعلامي المتكرر حيال دروز فلسطين، فيبيّن هشاشة مادته العلمية وانتقائيتها من جهة، والتوظيف الأيديولوجي لوقائع محدودة يخرجها الخطاب ذاك من سياقها التاريخي ليبني عليها نظرية «العلاقة الخاصة» بين الدروز واليهود في فلسطين ولغاية واضحة هي زعزعة الانتماء العروبي لدروز فلسطين وخلق مشكلة ثقة بين الدروز والمكوّنات الأخرى للشعب الفلسطيني.
وفي رأي المؤلف، تقوم الثغرة الكبرى في منهجية الخطاب الصهيوني من انطلاقه من أحكام مسبقة يطبقها قسراً على الوقائع التاريخية، فيبالغ في تضخيم ما يتفق وروايته فيما هو يغفل ويشطب كل المعطيات والحالات والوقائع التي لا تتفق وخطابه المزعوم ذاك. ويعطي المؤلف مثالاً، بين عشرات الحالات المماثلة، التزوير الذي يمارسه الخطاب الصهيوني الأيديولوجي في تعامله مع مصطلح «الاندماج» الذي يروّج له كموقف درزي حيال الكيان الصهيوني، والذي يستنسخه بعض الباحثين في الموضوع الدرزي الفلسطيني داخل فلسطين إو خارجها ومن دون تبصّر أو تدقيق. يقول المؤلف: «ويظهر ذلك جلياً عندما يصوّر تعاون عدد قليل من الدروز مع الحركة الصهيونية – خلال الانتداب وبعد سنة 1948 – على أنه تعاون الطائفة كلها…فإذا تصرّف واحد أو مجموعة صغيرة من الدروز تصرفاً معيّناً في زمن ما، أصبح هذا تصرفاً عاماً للطائفة..». (ص 28) إن الخديعة الصهيونية الأيديولوجية في المسألة جلية تماماً: فهي تعتّم على أراء أكثر من 70 بالمئة يدعون لمقاطعة التجنيد الإلزامي رغم الإغراءات والتسهيلات التي لا بدّ أن يقع في فخها شبان من الدروز وغير الدروز من العرب الفلسطينيين. الخطاب ذاك، يقدّم حالات محدودة ومعروفة السياق والظروف الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها القاعدة السائدة، متناسياً مقاومة أكثرية دروز فلسطين للتجنيد وتسطيرهم عرائض مرفوعة للمعنيين تطالب أن يكتفى من الدروز بالتطويع الاختياري كما هو جار مع سائر عرب فلسطين – حتى لا نذكر حالات المقاومة الشديدة، أكثر من العرائض، والتي قادت أصحابها إلى المعتقلات الإسرائيلية. وليس ذلك غير واحد من الأمثلة على السياسة الإسرائيلية حيال الأقلية الدرزية الصغيرة والقائمة، برأي المؤلف، على مبدأ «فرّق تسد».
وإلى المنهجية التوثيقية العلمية التي تجعل من الكتاب مرجعاً موضوعياً لا مثيل له، يمكن للقارئ أن يقع على مادة ديمغرافية وتاريخية وسياسية موثقة ومن الدرجة الأولى، وبرسم كل بحث لاحق، وفي أية نقطة إضافية.
بعض تلك المادة العلمية نجدها مثلاً في الاحصائيات المتعلقة بانتشار المواطنين الفلسطينيين الدروز في قرى الجليل وشمال فلسطين، وبعددهم الدقيق. يبدأ المؤلف من كتاب «عمدة العارفين» لؤلفه محمد مالك الأشرفاني، أقدم المراجع في الموضوع وأوثقها، حسب المؤلف، ليبيّن قدم الوجود الدرزي في شمال فلسطين، الذي بدأ مع انتشار الدعوة التوحيدية في القرن الحادي عشر، واحدة من المناطق الخمسة في بلاد الشام التي انتشر فيها المسلك التوحيدي، ثم اشتد السكن فيها بفعل الهجرات التي حدثت من «منطقة الجبل الأعلى، أو جبل السمّاق القريب من مدينة إدلب…»(ص 29). ويضيف الكاتب: «وعلى الرغم من أن دروز فلسطين حافظوا على تواصلهم الاجتماعي بدروز سورية ولبنان خلال فترة الانتداب، فإن تقسيم كل من الاستعمار البريطاني والفرنسي بلاد الشام إلى كيانات سياسية جديدة أدى إلى فصل المسار السياسي لدروز فلسطين عن المسارات السياسية لدروز لبنان وسورية. فبينما أدّت النخب الدرزية دوراً مؤثراً في السياسة العامة للبنان وسورية، بقيت نخب دروز فلسطين بعيدة عن السياسة العامة حتى بعد سنة 1930 حين بدأت محاولات الحركة الصيونية البحث عن وسائل للتقرّب منهم. ووصل عدد سكان دروز فلسطين سنة 1931 إلى نحو 9000 نسمة، وشكّلوا أقل من واحد في المئة من مجمل سكان فلسطين البالغ 1.035.400 نسمة…..وبحسب مذكرة كتبها إلياهو إيبشتاين…وهو مستشرق عمل في الوكالة اليهودية…فإن أكثر من 90% من القوى العاملة الدرزية [هي] في الزراعة.» ص32
بحسب الوثائق الديمغرافية التي ضمّنها المؤلف كتابه: «…بقيت في فلسطين [مطلع القرن العشرين] 18 بلدة يسكنها الدروز حالياً قدّر عدد سكانها في سنة 1922 بنحو 7000 نسمة (أقل من واحد بالمئة من مجمل سكّان فلسطين هذه السنة). وبعد أقل من ثلاثين سنة تضاعف عدد سكانها الدروز ليصل في سنة 1950 إلى 14.400 نسمة. وخلال خمسة عقود تضاعف العدد أكثر من مرة ليصل في سنة 2015 إلى 115.300 نسمة (بالإضافة إلى 22.000 درزي يسكنون أربع قرى في الجولان المحتل). ص 31-32
من بين عشرات المسائل، الجديدة بالنسبة لنا، والتي يعالجها المؤلف على نحو علمي تام، الحرب الحقيقية التي خاضها دروز فلسطين «للبقاء في الوطن»، (ص 201 وما بعدها). ومعها في هذا السياق إصرار الحركة الصهيونية منذ البدء على إجبار (أو إغراء) دروز فلسطين لترك قراهم وبلادهم، وقد فصّلت الوكالة اليهودية «خطة نقلهم من البلد إلى جبل الدروز»، وفق النص الوارد في الأرشيف الصهيوني المركزي، (ص 231 وما بعدها)؛ والجهود المنظمة التي بذلتها المنظمات الصهيونية الحكومية،بعد فشل خطة الإبعاد، لفصل التعليم في المناطق الدرزية، وقطاعات أخرى، عن المجال الطبيعي الفلسطيني وإلحاقه «وفق سياسة الجزرة والعصا»، بالمجال الإسرائيلي.
ويختم الكتاب بثبت تفصيلي لحركة الاحتجاج لدى دروز فلسطين على الوجود الصهيوني أولاً، ثم على السياست الإسرائيلية في «الاندماج» و «التجنيد» (ص 265 وما بعدها) وسعي المنظمات الحكومية الاسرائيلية للتحكم بالتعليم والنشاط الثقافي، إلى جوانب أخرى، لدى دروز فلسطين2. (ص 237 وما بعدها) ومن المعلومات التفصيلية الأخرى مشاركة «فوج جبل العرب» من ضمن «جيش الإنقاذ» بقيادة القاوقجي في العمليات العسكرية، ومشاركة دروز فلسطين فيها، وبالأسماء، وأسماء شهدائهم في معارك الفوج، وما جرّ ذلك عليهم من عَسف صهيوني، (ص 153 وما بعدها).
وموضوع أخير أفسح له المؤلف مساحة كافية، وهي مواقف سلطان باشا الأطرش من التطورات المتلاحقة التي كانت تجري على أرض فلسطين، «ونشر شائعات عن أنه دعا إلى اتخذ موقف حيادي [من قبل دروز فلسطين]» (ص 147) والتي يدحضها بالملموس وقائع وتصريحات عدة، يسجّلها المؤلف، أحدها إرساله كمال كنج أبو صالح سرّا إلى فلسطين لاستطلاع أوضاع دروز فلسطين عشية حرب 1948، ثم قوله لجريدة الدنيا البيروتية في 12 كانون الثاني 1948: «لقد زرت دروز فلسطين الذين لا يتجاوز عددهم 17 ألفاً. ومن هذا العدد يمكن تجنيد قوة من 4000 إلى 5000 مقاتل ينقصهم اليوم السلاح. لقد بذلت جهداً كبيراً للحصول على سلاح لهم، لكنني فشلت حتى الآن….لاحظت عدم وجود تنظيم ونقصاً في السلاح عند العرب في فلسطين» (ص148).
وينقل المؤلف عن المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا (الذي غدا لاحقاً شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان) أن سلطان باشا قال لفوزي القاوقجي الذي زاره في داره طالباً المساعدة في تشكيل كتيبة درزية تنضم لجيش الإنقاذ الذي كان يسعى لتشكيله «عبّر سلطان باشا في هذا اللقاء عن أمله بتجنيد أكبر عدد ممكن من دروز جبل العرب لكي يضمن الانتصار، [لكن] القاوقجي اكتفى بتجنيد 500 مقاتل بسبب شحّ المصادر المالية، والنقص في السلاح» (ص 149) وهكذا كان إذ تم تكليف شكيب وهاب بقيادة الكتيبة الدرزية من ضمن تشكيلات جيش الإنقاذ التي ستدخا فلسطين لاحقاً.
أكثر من ذلك، يورد المؤلف بالتفصيل عجز كل مروّجي الشائعات عن تقديم دليل واحد يؤيد مضمون مزاعم بعض عملاء الحركة الصهيونية بشان لقاء الباشا.. فيعرض بالبيّنة والوثيقة للمحاولات المتكررة للمنظمات اليهودية للقاء سلطان باشا وعجزهم عن ذلك. وفي حالة واحدة يتيمة يعتدّ بها الكتّاب الصهاينة، فإن متعاونين محليين جاؤوا بناشط نقابي يهودي في الهستدروت إلى سلطان باشا باعتباره مناضلاً نقابياً ويتولى حماية العمال الفلسطينيين، ومنهم العمّال الدروز، من تعسّف المنظمات الصهيونية التي كانت المسيطرة على معظم النشاط الاقتصادي، حتى قبل 1948، ولم يعرّف المرافق الفلسطيني سلطان بهوية النقابي اليهودي في أثناء الاجتماع.(ص 147وما بعدها)
تلك عينة محدودة لا أكثر من التفاصيل الدقيقة والجديدة تماماً على القارئ العربي المتصلة بالعرب الدروز في فلسطين، والتي لا يمكن اختصارها في صفحات معدودات، لأنها وثائق ونصوص في كل اتجاه.
أنهي بالقول، كتاب بالغ الأهمية، صادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، وسيجده الكثير من القراء مرجعاً لا غنى عنه.

الباحث قيس ماضي فرّو متحدثاً في «نادي حيفا الثقافي»

العقلُ والتضامنُ والتماسك الاجتماعي في بلدة درزيّة…

د. إسكندر عبد النور.

كتاب من تأليف الدكتور إسكندر عبد النور، وضعه باللغة الإنكليزية، ونقله إلى اللغة العربية الدكتور مصطفى حجازي. يقع في مئة وخمسين صفحة من الحجم الوسط، منشورات مؤسسة التّراث الدرزي. حوى «تقديراً» بقلم رئيس المؤسسة الأستاذ سليم خير الدين، قدَّر فيه عالياً قيام العالِم المميَّز الدكتور عبد النور بالكتابة عن بلدة حاصبيّا، معتبراً ذلك بادرة كريمة منه وإسهاماً مرجعياً لكل المهتمين بحاصبيّا وتراثها، فهو حالياً مدير مركز العلوم المعرفية في كندا، ومستشار دولي في البحث والتدريب، حاصل على بكالوريوس في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت، ويحمل درجة الماجستير في العلوم الجنائيّة، ودكتوراه في التربية من جامعة أوتاوه. تضمُّ كتبه كلاً من متلازمة حلِّ الصراع (1987)، العدوان المقنّع: التهديدي الخفي للأفراد والمنظمات (2000) وغيرها من الكتب القيّمة. أمّا هذه الدراسة فتتوزّع على فصول تقوم على مرتكزات بيَّنها المؤلّف بتحليلات متساوقة ذات عناوين مستمدة من واقع الحال والتاريخ، وهو المعايش للمجتمع الدرزي كونه ابن حاصبيّا مولداً ونشأةً، فكتابته عنها تكتسب مصداقيّة العارف المتلمس للأشياء كما هي، من حيث تجلّيات الأسلوب العقلاني لدى الطائفة الدرزية في حاصبيا، فالمظاهر البارزة لديها تتمثل في التعبير القوي نسبياً عن التضامن الاجتماعي، والإجماع مرتفع المستوى على معايير التصرّف والضبط الاجتماعي الناجح، والمستويات المتدنّية للجريمة والانحراف، والتزام الطائفة الدرزية في حاصبيا القوي بمنظومة قيم الشرف الراسخة الجذور في حياتهم ما يتمدد في سلوك الفرد إلى حد تمسكه بمعايير الأمانة والاستقامة الخلقية ويشكل العِرض الذي يرتبط بسلوك العِفّة عند الأنثى مظهراً آخر من مظاهر الشرف، ويشكل رجال الأسرة والعشيرة أقصى حماة العِرض، وتتضمن مترتبات أخرى على التمسك بالشرف في الطائفة الدرزية، حَمْل السلاح وديمومة العِرفان بالجميل. ويعتقد الدروز أنَّ الكلمة المنطوقة بما هي انعكاس للعقل لا يجوز أن تتأثّر بعوامل تحُدُّ من مكانتها، فلا يسمح من باب أولى بالتعبير السّوقي أو البذيء، والكلمة المعطاة ملزمة، كما المحافظة على كرامة الذات وكرامة الآخر، فهي لا تحتاج إلى مجرد توكيدها بل يتعين حمايتها. هذا بعض ما ورد في هذا الكتاب عن دروز حاصبيا، فهو غنيٌّ بالعِبَر والفوائد على نطاق أعمّ وأوسع، ننصح بقراءته واقتنائه.


المعروفُ عندَ بني معروف صفحاتٌ مُختارةٌ من أدب سلام الرّاسي

سلام الراسي

يقول الدكتور شفيق البقاعي في «مقدّمة» كتَبها لهذا الكتاب متسائلاً عن الغاية منه، فيما بعض الكتب تُقرأ من عناوينها، على حدِّ قولٍ شبيهٍ لأحد علماء عصرنا سلامه موسى: «تُعرَف الشعوب من شعاراتها في الحياة» وهذا ما أنعم النظر فيه منذ حداثته، شيخ الأدب الشعبي سلام الراسي على طريقته النادرة في فنّ الكتابة. نشأ سلام الراسي بين الدروز في إبل السَّقي، من قرى وادي التَّيم، فأحبّهم وأحبّوه. ولم تكن خصوصيّات أهلها تحول دون عيشهم مجتمعاً واحداً يعتمد القِيَمَ والتقاليد بل اللَّهجات نفسها، فكان شخصيّة دَمِثَة متجانسة، حتى كان بعض من يلتقيه أو يجالسه، يحسبه درزي الانتماء حين ينطق بالقاف القوية الصافية ولا سيّما إدراكه باكراً أنَّ عادات الناس وتقاليدهم وأقوالهم ومواقفهم هي جوهر حضارتهم، ولُبّ تراثهم وتجسيدٌ لقيمهم مُتشبِّعاً من مفهومهم للكرامة ونظرتهم إلى المرأة والجار، وشرف الكلمة، فما خلا كتابٌ لسلام الراسي من بعض الحكايات والمواقف والأمثال من المحيط الدرزي الذي عرفه جيّداً، ومن الشخصيات العديدة التي عاشرها. ومن هنا نشأت فكرة جمع هذه المقالات في مجلّدٍ واحد، هو هذا المجلّد، تعبيراً متكاملاً عن نظرة سلام الراسي نحو أهله بني معروف، يُضاف إلى ذلك اشتمال هذا المؤلَّف على أخبار وروايات تُنشر للمرة الأولى. ولسنا لنكتب عن هذا الكتاب باختصار، أي ماقلَّ ودلّ دون أن نعطي سلام الراسي كلَّ حقه، من حيث هو كاتبٌ مبدعٌ، استطاع أن يُبهر القُرّاء، فيعطي كل هذا العطاء الكبير، أي ستَّة عشر كتاباً، بأسلوب فسيح وحده، في السلاسة، والمرح والبلاغة، تاركاً بصمةً باقيةً على مَرّ الزمان في الأدب اللّبناني، لم ولن تُنسى.


أوقاف الموحدين الدروز للأديار والكنائس في جبل لبنان

الأب الدكتور أنطوان ضو

ورقة بحثية قدَّمها الأب الدكتور أنطوان ضو، الكاتب والمؤرخ المعروف، في مؤتمر لمؤسسة التراث الدرزي، في جامعة أوكسفورد في إنكلترا، وصدرت وثائقه باللغة الإنكليزية، نقلها الدكتور محمد شيّا إلى اللغة العربية في كتاب، بعنوان: «الموحدون الدروز: الواقع والتصورات، أوراق بحثية في التاريخ والاجتماع والثقافة». إن أهمية هذه الورقة، في أنها تتطرق في حقبةٍ مديدة، من تاريخ جبل لبنان في القرنين السادس والسابع عشر، إلى العلاقة بين طائفة الموحدين الدروز والطوائف المسيحية، وبخاصة الطائفة المارونية، التي اتسمت في مبتدئها، وطوال حكم الأمراء التنوخيين والمعنيّين بالتسامح والتآلف، ولم تضطرب العلاقات تلك إلا مع بشير الثاني الذي استطاع بدعم من الدول الأوروبية السبع آنذاك، وتحالفه مع محمد علي باشا، حاكم مصر، وتدخله العسكري (أي محمد علي باشا) في لبنان وسوريا، حكم البلاد وإخضاع جميع المكونات اللبنانية لسلطته، ما جعل الموازين السياسية والعسكرية في جبل لبنان، تترجرج وتختل لمصلحة الموارنة، على حساب الموحدين الدروز، حكام جبل لبنان لما يزيد على ثمانية قرون
العلاقات الدرزية المسيحية
يقول الكاتب: «كانت العلاقات بين الموحدين الدروز والمسيحيين بعامة والموارنة بخاصة في جبل لبنان، صادقةً، إيجابيةً ومثمرة، ولا سيما في عهد السيد جمال الدين عبد الله البحتري التنوخي، (1417 – 1479) والأمير فخر الدين المعني الثاني (1585 – 1635). فالبطريرك اسطفان الدويهي (1630 – 1704) يقول عن هذه العلاقات: وفي دولة الأمير فخر الدين، ارتفع رأس الناصري، لأن أغلب عسكره كانوا نصارى، وكوخية وخدامه موارنة، فصاروا يركبون الخيل بسرج، ويلفون شاشيات وخرور، ويلبسون طوامين وزنانير مسقطة، ويحملون البندق والقفاص المجوهرة، وفي أيامه تعمَّرت الكنائس في بكفيا والعربانية وبشعله، وكفر زينا، وكفرحلتا، وقدم المراسلون من بلاد الفرنج وأخذوا السكن في البلاد. (الدويهي، 1976، ص 505).
الأوقاف الدرزية للأديار والكنائس في جبل لبنان
من المشتركات المسيحية الدرزية، الصّدَقة، ووقف الأملاك، وتقدمة النذورات، وإمداد الأوقاف بالتقدمات والهبات، علامة للمحبة المتبادلة، والشراكة الإنسانية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والثقافية والحضارية. وفي البحث الأوقاف التي قدَّمها الدروز إلى الأديار والكنائس المسيحية في منطقة جبل لبنان، أو بلاد الدروز، ابتداءً من المتن مروراً بعاليه والشوف وإقليم الخروب وجزين وصولاً إلى زحلة فقط. تاركين المناطق الأخرى إلى توسع في بحث آخر يلي هذا البحث.
لائحة بالأديار والكنائس التي أوقف لها الدروز بعض أملاكهم
وهب الدروز عقارات عدة في جبل لبنان للمسيحيين على اختلاف كنائسهم ورهبانياتهم ومؤسساتهم، كما قدموا المال والنذورات والتقديمات من أجل بناء الكنائس والأديار، ومنع أمراؤهم عنها كلَّ تعدٍّ أو تدخل من أي جهة مدنية أو روحية في مناطق حكمهم.
اللائحة كما يقول الأب ضو غير كاملة، من الضروري إجراء مسحٍ دقيق في القرى والمدن المختلطة، والتفتيش في المخطوطات والمراجع العلمية من أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذا الموضوع الحضاري الرائع.

الأوقاف الدرزية للموارنة

الرهبانية الأنطونية المارونية

  1. دير ما أشعيا – برمانا.
  2. دير مار يوحنا القلعة – بيت مري.
  3. دير مار روكس – الدكوانة.
  4. دير مار الياس – أنطلياس.
  5. دير مار الياس – قرنايل.
  6. دير مار سمعان – عين القبو.
  7. دير مار يوسف – زحلة.

الرهبانية اللبنانية المارونية

  1. دير مار ساسين – بسكنتا.
  2. دير مار جرجس – الناعمة.
  3. دير مار مخايل – بنبايل.
  4. دير مار موسى الحبشي – بعبدات.
  5. دير مار الياس – الكحلونية.
  6. دير مار أنطونيوس – زحلة.
  7. دير السيدة – مشموشة.
  8. دير ما أنطونيوس – بيت شباب.
  9. دير مار تقلا – المروج.
  10. دير مار مخايل وجبرايل – المتن.

أديار وكنائس مارونية مختلفة

  1. دير مار يوحنا – زكريت.
  2. كرسيّ مطرانية دمشق – عشقوت.
  3. كنيسة مار يوحنا – صليما.
  4. سيدة القصر – صليما.
  5. سيدة النجاة – ساحل المتن.
  6. كنيسة مار يوحنا – جوار الجوز.

الأوقاف الدرزية لأديار الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك:

  1. دير مار جرجس – دير الحرف.
  2.  دير مار الياس – شويّا.
  3. دير مار أشعيا النبي – برمانا.
  4. دير مار يوحنا – الخنشارة.
  5. دير مار جرجس – بمكّين.
  6. دير المخلص – جون.
  7. دير السيدة – قرب دير المخلص (جون).
  8. دير مار جرجس – المزرعة.
  9. أديار في زحلة.

الأوقاف الدرزية للاتين

الكبوشيون:

  1. عبيه.
  2. صليما.

اليسوعيون:

  1. دير سيدة النجاة بكفيا.

الأوقاف الدرزية للسريان:

دير مار أفرام – الشبانيه.

الأوقاف الدرزية للبروتستانت.

.

ثقافة و آداب

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي …

حَمَلتَ التُّقى إرثاً سما فيه والدُ بأسعدِها، والشيخُ في القومِ رائدُ بمسلكِه، وهْوَ التقيُّ المُكابدُ وهل مثلُهم في الزُّهدِ زاهٍ وزاهدُ ألا …

أبو المحامدِ، نِعمَ الكُنيةُ؛ اللَّقَبُ تقوى، ويُغنيهِ من أجدادِه الحَسَبُ والشيخُ فيها أخٌ، بل قُدوةٌ وأبُ أبي الفوارسِ محمودٍ، فلا عجبُ فيهـا …

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم د.نجوى حسيكي العنداري لعلّ أعظمَ ما في الوجود، وأخطرَ ما في الوجود، وأجملَ ما في الوجود: …

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها» د.عبد الله سعيد (2) يقول مثل قديم، ثلاثةٌ لا يموتون أبداً: واحدٌ زرع شجرةً، …

النّوع: باب التاريخ، الوسيط والحديث. كتاب ضخم لجهة الحجم (ثمانية عشر فصلاً في 848 صفحة من القطع الكبير). هو بالغ الأهمية لجهة …

الشعرُ حياةٌ لحياة، ظِلٌ أزليٌّ يحمي شمس الرؤيا، ويحوِّل صحراء اللغة إلى واحات. هكذا تحت عنوان: أنا والشعر، في مُقَدَّمة كتاب: «شهاداتٌ …

«ظهرت البوادر الأولى لمعارضة قرار فرض التجنيد الإلزامي على الدروز مباشرة بعد صدوره في بداية سنة 1956، وخصوصاً عندما بدأ قائد وحدة …

مَلحمةُ الكَون

وعندَ الفجرِ إذ تصحو، لتعبُدَ ربّك فيهِ، وصدرُكَ نحوَهُ تشرَحْ بما ضمّ وما فيهِ، وقلبُكَ مخلصاً يفتحْ، جناحاً كي يُلاقيهِ، وعقلُكَ إذ …

أدقّ ما أصاب السّهمُ هدفَه، القول الفلسفي الاجتماعي للفيلسوف الشهير ابن خلدون «كلّما رقّ النّسيم كلّما غلظ الطّبع» وذلك في مقدَّمته الشهيرة …

تعودُ معرفتي الشخصيّة بالرسّام والنَّحّات اللبنانيِّ المُبدع المرحوم عارف الريّس، ابن مدينة عاليه اللبنانيّة الجَبليّة، إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كنت أسكن …

«“دروز في زمن الغفلة، من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية” باشا في لبنان»: قيس ماضي فرّو للكاتب والمناضل الفلسطيني قيس ماضي فرّو،عن …