الأحد, نيسان 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, نيسان 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

محمود كيوان

سيرة المجاهد محمود كيوان

كتلــــة عنفــــوان ومهــــارة قتــــال
وشجاعــــة بلغــــت حــــدّ التهــــور

أطلق الفرنسيون على غارات محمود كيوان ورفاقه إسم «غارات جهنم» لطابعها الصاعق ولسرعة اختفاء المهاجمين

توغَّل كقائد موقع حدودي داخل تركيا واحتل قلعة
لاستعادة أغنام مسروقة فأشعل أزمة بين البلدين

طوق الفرنسيون سلطان باشا ورفاقه في أبو زريق فانقضّ محمود ورفاقه عليهم من الخلف وشتتوا شملهم

سألني مرّة أحدهم:«أنتم في جبل حوران كل واحد منكم يزعم أن والده أو عمّه أو خاله قتل كذا وكذا من العثمانيين والفرنسيين»!…
قلت له: ما ذنبنا إن كنت لم تقرأ تاريخاً منصفاً؟ لا أريدك أن تقرأ لكتّاب الجبل ومؤرخيه بل أن تقرأ ما كتبه الآخرون من مثل: عبد الرحمن الشهبندر ومنير الريّس وأدهم آل جندي والفرنسي الجنرال أندريا وبيير لامازيير واللبنانيان المعروفيان المنصفان عباس أبوصالح وحسن أمين البعيني وغيرهم وإن بقيت لك حجة كهذه فعد إلينا بها..
بدأت بهذه المقدمة لأنني على وشك أن أعرض على القارئ سيرة المجاهد محمود كيوان الذي كان في طليعة الفرسان الأشاوس الذين سطروا بطولات ومآثر مشهودة في مقاومة المستعمر الفرنسي أدهشت العدو قبل الصديق، وقد كان هذا المجاهد يضطرم شجاعة وتحرقاً لمواجهة العدو لدرجة جعلته يقوم بأعمال وصفت بالتهور بل بالإستهتار مثل أن يصول ويجول على فرسه في مقابل متاريس الفرنسيين ورشّاشاتهم وهو يصليهم النيران حاثّاً رفاقه ومحرّضاً إياهم على قتال الجيش الفرنسي المتفوق عدداً وعدة. كان خلال الثورة السورية ينتقل من موقعة إلى أخرى ويركب المخاطر ويحقق ما كان يعتبره كثيرون أموراً مستحيلة. كرهه الفرنسيون لكنهم احترموه في الوقت نفسه لشدة بأسه وبسالته ومدحه السلطان في أكثر من مناسبة وفي مذكراته.
فمن هو المجاهد محمود كيوان وما هي مساهمته في سجل الأمجاد والبطولات الذي دوّنه أبطال جبل العرب بأعمالهم المجيدة وفي أحيان كثيرة بدمائهم الزكية وأرواحهم؟

نسب عربي وأسرة عريقة
آل كيوان عشيرة عربية تعود بأصولها إلى آل منذر حسب يحيى حسين عمّار في كتابه الأصول والأنساب ( الجزء الأول، ص 179) وهؤلاء القوم من تنوخ هم من قبائل الفتح العربي الإسلامي، وكان أجدادهم قد انتقلوا في الماضي البعيد من ديار معرّة النعمان إلى برمانا من بلاد المتن في لبنان، واشتهر أمرهم كإحدى عائلات المتن الدرزية القوية على ما يذكره الشيخ ناصيف اليازجي، وقد لعبوا دوراً في سياسة البلاد إلى جانب الأمراء الدروز اللمعيين، ولكن تنصّر هؤلاء بتأثير الأمراء الشهابيين السنة الذين تنصروا بدورهم، جعل اللمعيين في المتن يضغطون على آل منذر وهم أسلاف آل كيوان بهدف تنصيرهم، ولما قاوم هؤلاء سياسة اللمعيين، يقول يحيى عمار بأن العلاقة بين العائلتين ساءت ووصلت« إلى حدّ الإفناء»، بينما يذكر حنّا أبو راشد ن أولاد مصطفى كيوان وكانوا خمسة رجال ارتحلوا إلى جبل الدروز من باتر التي كانوا قد استقروا فيها إلى حين، وذلك بعد تهجيرهم وغدر الأمراء اللمعيين بآبائهم، وتشتيتهم من ديارهم في برمانا وسائر بلاد المتن، وقد وصلوا بادئ الأمر إلى السويداء، فالقريّا، كان ذلك نحو أواسط القرن التاسع عشر وما يليه، ومنها توزعوا إلى قرى مياماس وسهوة الخضر وعرمان، والأبناء هم: حمد وبشير ومحفوظ ومحمد ووهبة. ويقول أبو راشد: في ص 70 من كتابه «جبل الدروز»، في آل كيوان:
«لهم مزيتان: مزية الفروسية في الحرب، ومزية الفلاحة في السلم»، ويشير أبو راشد إلى عدة رجال اشتهروا من هذه الأسرة العريقة وهم: يوسف أبوحسين كيوان، وخليل بك كيوان «زعيم العشيرة الأول، وكان من جملة الثوار الذين تقرر شنقهم مع ذوقان بك والد سلطان باشا الأطرش، ورفاقه الخمسة (سنة 1911)، ومع هذا سَلِم»، ويقول يحيى عمار:» وقد اشتهر من هذه الجماعة في الثورة السورية الكبرى 1925 بطل جريء هو محمود كيوان وهو بطل معركة الفالوج وقد اتصف بالنكتة والجرأة والخلق الكريم، ورجال هذه الجماعة في الإجمال ممن يعتمد عليهم في المهمات الصعبة».

المولد ومغامرات الشباب
ولد محمود كيوان عام 1898، في قرية مياماس وهي من القرى العالية في جبل العرب، والده الشهيد سليم كيوان وهو من مجاهدي الثورة السورية الكبرى عام 1925 ومن شهدائها أيضاً.
نحو أواسط العقد الثاني من القرن العشرين سافر محمود الطموح من دون علم والده إلى الأرجنتين، وحسب ابنه شكيب، أمضى محمود في تلك البلاد مدة خمس سنوات لم يوفّق خلالها في جمع مال يذكر، ولعلّ مردّ ذلك أن الشاب كان أنوفاً وذا كبرياء، إذ لم يسافر عن فاقة، فهو ابن بيت وجاهة، ومن كبار ملاّكي قريته، وقد روى رفيق غربته هاني ملاّك، من قرية قيصما، أنه كان يعمل ومحموداً في إحدى مزارع تلك البلاد وبرفقة أربعة وعشرين من الإيطاليين، وعندما جلسوا لتناول غدائهم أخذ الإيطاليون يقهقهون ويسخرون منهم، وهم يقولون« توركو عرب»، ولم يكن من عربي سواهما، غضب محمود، وقال لصاحبه:«قم واحمِ لي ظهري بحيث لايطعنني أحد منهم من الخلف، هنا حاول هاني إقناعه، فأبى»، يقول هاني:«دارت بيننا معركة خاطفة استطعنا التغلّب عليهم جميعاً، كان محمود لا يعيد ضربته، ومنذ ذلك الوقت افترقنا ولم أعد التقي به في تلك البلاد».

معارك شوارع في الأرجنتين
ويروي رفيق اغتراب آخر هو الشيخ أحمد جربوع أنه اشتغل ومحموداً في أحد المصانع، وعندما استثارته جماعة من العمال بالسخرية من العرب، ما كان منه إلاّ أن تناول أنبوباً ضخماً من الحديد يعجز عن حمله عدة رجال، وضعه عرضانياً على كتفيه، وأخذ يعصف بهم يميناً ويساراً، فصار كلّما اقترب منه فريق منهم يريدون الإنتقام منه يطرح بهم أرضاً… وهكذا إلى أن اضطر مدير المصنع إلى طلب البوليس، وعندما حضر هؤلاء دهشوا لذلك المشهد الخارق الذي اجترحه ذلك الشاب العربي، فاقتربوا منه وقالوا له :«نحيّي فيك هذه البطولة، اترك أنبوب الحديد وتفضل معنا».
أخذوه معهم خارج المصنع، وطلبوا منه ألاّ يعود إلى المصنع لكي لا ينتقم منه أولئك الذين أذلّهم ببطولته، وأرسلوه إلى رصيف بحري حيث يتم تفريغ السفن، هناك كان أحد مراقبي العمال يتعامل بغلاظة مع العمال، ولكن محموداً أظهر عدم احترامه لسلوك ذلك المراقب مع رفاقه، فما كان من المراقب إلاّ أن اتفق مع عدد من العمال لإذلاله، وأخذ يوجّه له كلمات مهينة، أثارت غضبه، ولم يلبث أن هجم عليه نحو اثني عشر من العمال أتباع المراقب الفظ، فغلبهم ولم يقدروا عليه، فما كان من مسؤول محلّي في بار مجاور للرصيف، وكان هذا مصارعاً يخافه كل من كان في الموقع، إلاّ أن جاء غاضباً بذريعة أن ذلك العربي أخلّ بسيرورة العمل، وتقدم منه يريد ضربه، فما كان منه إلاّ أن حمله بين يديه ورمى به في البحر، وبذلك جعل منه أضحوكة لمن حوله، فاضطر أن يغادر المكان خجلاً مما لحق به من مذلّة.
لكن محموداً ترك العمل في تفريغ السفن، ومضى يفتش عن فرصة أخرى.

“عاد محمود كيوان إلى الجبل بشروط قبلها الفرنسيون منها حصانته واحتفاظه بسلاحه واستقبل باحتفال وحرس وموسيقى عسكرية”

بطل مصارعة بالصدفة
ذات يوم قرر محمود حضور حفلة مصارعة، ولمَ لا؟، فهو مصارع بالفطرة، ولكن أحد المصارعَيْن لم يحضر لسبب ما، فأُسقط في يد مدير الحفلة الذي اعتذر من الحضور عن تخلّف المصارع، لكنه أضاف مازحاً على سبيل تلطيف الجو.
ــ هل بينكم من يؤدّي هذا الدور؟
فما كان من الشاب محمود إلاّ أن وقف متحدّياً وأشهر ذراعه!
هنا سأله المدير:
ــ هل لديك شهادة تخوّلك العمل بهذه المهنة، أو وسام ما؟.
قال محمود: لا، ولكنني أتحمّل المسؤولية عمّا أنا مقدم عليه.
عندها دعاه المدير إلى مكتبه، فتعهّد بتحمّل المسؤولية الشخصية عن نتيجة عمله، وأنه يبرّئ ذمة الإدارة عن أي مكروه يصيبه.
كان خصم محمود مصارعاً محترفاً، خبيراً بأساليب المهنة وأسرارها ومقالبها، لكن محموداً كان صخرة صلدة من صخور الجبل، وهو صعد من دون اي تردد إلى الحلبة ، ليواجه من دون أي تدريب سابق على فن المصارعة خصماً قوياً ومحترفاً ويفوقه وزناً. وقد فاجأه ذلك الخصم بمكيدة، إذ طرح بجسده أرضاً ثم لفّ برجليه حول ساقي محمود بعزم أمكنه من إيقاعه أرضاً، ثم انتصب واقفاً بسرعة يريد أن يمسك
محموداً من رقبته بزنديه القويين.
أمّا محمود، فقد تمكّن من فك كمّاشة زندي المصارع من حول رقبته وعنقه بقبضتيه الحديديتين، وبسرعة خاطفة أمسك به من خصره، ورفعه إلى الأعلى ورمى به أرضاً بكل ما امتلك من قوة وعزيمة، فكسر بذلك عموده الفقري، وهكذا بقي الخصم منطرحاً أرضاً لا يقوى على الوقوف.
هنا تناول الحكم يد محمود، ورفع بها إلى الأعلى معلناً انتصاره، وانتهاء الحفل مع منحه ثلاثة آلاف دولار أميركي جائزة فوزه.
شاعت أخبار محمود في أوساط الجالية السورية، ووصلت أخبار مغامراته إلى جبل العرب، ونقل أحد المغتربين من قرية الغارية أنباء الإبن إلى أبيه في قرية مياماس، فخشي الأب على حياته إن هو ظل في بلاد الغربة، وأرسل إليه راجياً منه العودة إلى الوطن، وهكذا عاد محمود كيوان إلى مياماس.
كانت بطولات أرفع شأناً من تلك تنتظره على تراب الوطن.

محمود كيوان في معركة الكفر
يروي الأستاذ شكيب كيوان، وهو ابن المجاهد محمود، أن سلطان باشا عندما كان متّجهاً بصحبة رفاقه الثوار إلى الكفر، أرسل أخاه عليّاً إلى بيت الشيخ سليم كيوان، والد محمود ليستنفره ضد الفرنسيين مع أهالي قريته مياماس، وكان سلطان يمتلك رؤيا استراتيجية فطرية سليمة للحرب وللسياسة، فهو يريد أن يوفّر للمواجهة الأولى مع الفرنسيين كل شروط الفوز، وبهذا فقد كانت مياماس تشكل رفداً معززاً لقوى الهجوم الصاعق الذي شنّه الثوار على الحملة الفرنسية.
ويروي شكيب في ص70 من كتابه«محمود كيوان»، أن كنج الحلبي من بلدة عرمان قال له: «شاهدت والدك ينقض على مرابض العساكر بالسلاح الأبيض، وفي نهاية المعركة كان يحمل بيديه ستّ بنادق أعطى بعضها لرفاقه وأن حمد منذر من قرية المغّير طلب من سليم والد محمود بندقية فقال له سليم:«كسبت ثلاث بنادق، أعطيت إحداها لرفاقي، ولكن سأطلب لك بندقية من ولدي محمود، وبالفعل فقد أعطى محمود بندقية لحمد منذر.

موقعة «تل الخروف» ومعركة «المزرعة»
حدثت موقعة «تل الخروف» قبيل معركة «المزرعة» بيوم واحد، كانت موقعة شؤم على بني معروف، إذ استشهد فيها عدد من شجعان فرسان بني معروف الذين أغاروا على مواقع الفرنسيين من دون أن يدروا أن هؤلاء أعدّوا لهم كميناً غادراً، ومن أبرز شهداء تلك الموقعة المناضل حمد البربور، رفيق سلطان وساعده الأيمن، وفي ذلك اليوم قتل حصان محمود كيوان تحته لكنه أفلت من الموت.
يروي شكيب أن نجم الفقيه نقل عن المجاهد زيد الأطرش قوله إن المجاهد محمود كيوان كان أول من نبّه إلى أن ذهاب الثوار إلى المسيفرة عملية محفوفة بالمخاطر في أرض سهلة مكشوفة يريد بها العدو استدراجنا إليها بعد الانتصارات التي حققناها، ولكن الروح الحماسية طغت وكان ما كان من نكسة للثوار وخسائر جسيمة.

بعض قادة الثورة السورية في صورة تذكارية ويبدو المجاهد محود كيوان - الثاني من اليمين
بعض قادة الثورة السورية في صورة تذكارية ويبدو المجاهد محود كيوان – الثاني من اليمين

في معارك الغوطة
ندبت قيادة الثورة مجموعة من كبار الثوار، ومنهم زيد الأطرش ومحمد عز الدين الحلبي وحمزة درويش ومحمود كيوان ومحمود أبو يحيى وغيرهم، إلى منطقة الغوطة بهدف دعم ثوار دمشق في الغوطة حول العاصمة والتي كانت تتمركز فيها قوات الاحتلال الفرنسي، وكانت فرنسا قد استقدمت مائة ألف جندي بأحدث تجهيزات ذلك العصر، وعمدت إلى محاولة خنق الثورة في إقليم البلاّن والقلمون ودمشق وذلك بهدف الإجهاز لاحقاً على قيادتها في جبل العرب.
كان الثوار في الغوطة يحاصرون الفرنسيين الذين اتخذوا من مدينة دمشق العاصمة حصناً يلوذون به من هجمات الثوار، ومن سكانها درعاً بشرياً يحتمون به.
وفي معارك الغوطة ودوما لمع اسم المجاهد محمود ورفاقه، ففي بلدة دوما كان الفرنسيون قد حصّنوا داراً جانبية ، واتخذوها موقعاً عسكرياً يتحكمون منه بطريق دمشق حمص وشمال سوريا. يقول المجاهد الحموي منير الريّس في كتابه:« الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي، الثورة السورية الكبرى، ص 331»، بأن تلك الدار الحصن التي«أصبحت بمثابة ثكنة محاطة بالأسلاك الشائكة من كل جوانبها، وفي جدرانها أعشاش للرشاشات تحصد بسلاحها كل من يهاجمها أو يدنو منها»، يقول الريّس بأن تلك الدار « لم يلبث أن هاجمها محمود كيوان بقواته، وأسر جنود فصيل الدرك، وغنم خيلهم وسلاحهم».

هجوم صاعق في دوما
هاجم محمود كيوان ذلك الموقع الشديد التحصين بنحو عشرين مجاهداً من رجاله، ومنهم عزام قماش وحمد فندي كيوان وعطا الله خير شجاع وشجاع شجاع ونايف عزام ويوسف نصر الدين وذياب كيوان ومحمد نادر وحمود أبو حمود كيوان وأربعة مجاهدين من قرية مفعلة من آل غانم ومجاهد آخر من آل زهر الدين أصيب في أثناء ذلك الهجوم، وثلاثة مجاهدين من غوطة دمشق، فاستولوا على الموقع وأطلق محمود سراح السجناء الوطنيين وأحرقوا محتويات الموقع، وأسروا بعض جنوده، بينما فرّ آخرون، وغنم المهاجمون خيل الفرنسيين وسلاحهم، ودخل محمود بمفرده إلى غرفة الضباط وأسر سبعة منهم، ولما هرع أهل دوما على أصوات لعلعة الرصاص مع باكورة الصباح خطب فيهم محمود:«يا أهل دوما لا تخشوا ولا تخافوا، قولوا لرجال فرنسا وقادتها، إننا من فعل هذا، وسنحاصر ونهاجم القوات الفرنسية أينما وجدت، وأنا محمود كيوان من الجبل». ولم يزل أهالي دوما يذكرون تلك الواقعة، وقد قدم منهم مرة وفد كبير زار بيت محمود في مياماس تقديراً لبطولته.

إحتلال الفرنسيين للسويداء
كان الثوار قد انسحبوا من قرى الجبل الغربية، وقرروا مجابهة القوات الفرنسية التي يقودها الجنرال أندريا في الأراضي الوعرة الواقعة غرب مدينة السويداء، وفي يوم 25 نيسان 1926 وبعد معركة شارك فيها الطيران الفرنسي والمدفعية الثقيلة والدبابات، أُجبر الثوار بنتيجتها على التراجع والانسحاب، وبهذا تمكن الفرنسيون من احتلال مدينة السويداء.
تراجع الثوار عن مدينة السويداء عاصمة الجبل، ولكنهم ظلّوا يقاتلون الفرنسيين في قرى المقرن الشرقي وفي اللجاة، وقد اشتهر في تلك المعارك التي خاضها الثوار حينذاك المجاهد محمود كيوان ومجموعته، يذكر ذلك ولده وراوي سيرته شكيب، يقول في ص 79« بأن والده»بقي في تلك المناطق شهوراً يقاوم القوات الفرنسية» .

موقعة «ابو زريق»
ذكرت مصادر الثورة الكثير من المواقف البطولية لمحمود كيوان، منها كسر الحصار في قرية أبو زريق عن القائد العام سلطان باشا الأطرش، عندما كان برفقة قوّة من المجاهدين في بيت المجاهد أبو حمد فارس أبو مغضب، وتذكر وثيقة وردت في أرشيف الثورة السورية أن السلطات الفرنسية علمت من أحد عملائها أن سلطان مع فريق من الثوار حلوا ضيوفاً في قرية أبو زريق، فشكلت حملة عسكرية لمداهمتهم بهدف اعتقالهم، وعندما وصلت الحملة إلى مشارف القرية سعت إلى تطويقهم استعداداً للهجوم على منزل المضيف، وفي تلك اللحظات الحرجة شعر المجاهد محمود كيوان الذي كان مرابطاً في موقع غير بعيد من أبو زريق، بأن أمراً خطيراً يستهدف القائد العام للثورة، فسارع مع رجاله من جهة شمال القرية لضرب الفرنسيين من الخلف، وأوقعوا فيهم إصابات عديدة، أحدهم برتبة ملازم أول.أما في داخل القرية فقد كان سلطان ورفاقه في موقف حرج، إذ كانت طلائع الحملة تقترب منهم، ولكن الاشتباك مع محمود ورجاله جعلهم يفتحون النار بدورهم على الفرنسيين الذين وقعوا بين نارين، وبذلك كُسر الطوق المضروب على سلطان ومن معه من الثوار، وتمكنوا بالتعاون مع محمود ورجاله من دحر المهاجمين الذين انسحبوا هاربين أمامهم.
وفي ذلك يقول الشاعر ابراهيم أبو صعب:
وهل تنســــــــــــــــاه فـــــــــــــي «بوزريق» أرضٌ بـــــــــــــــــــــــه ظــــــــــــــــــــهرت فِعــــــــــــــــــــالٌ قُســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوريّة
فمحمـــــــــــــودٌ هنــــــــــــــــــــا قــــــــــــــــــــد كــــــــــــــــــــان فـــــــــــــــــــــــــــذّاً يُــــــــــــــكِــــــــــــــــــرُّ على الجيــــــــــــــــــــوش الأجنبيـــــــــــــــــــــة
أيــــــــــــــــــــا بطــــــــــــــــــــــــل المعامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع والمغــــــــــــــــــــــــازي ومقـــــــــــــــــــــــدام العشيــــــــــــــــــــــــــــــــرة والــــــــــــــــــــرعيّــــــــــــــــــــة

القصف الجوي الفرنسي لدمشق يوم 16 تشرين الأول 1925
القصف الجوي الفرنسي لدمشق يوم 16 تشرين الأول 1925

موقعة «أبوزريق» الثانية
في أوائل عام 1927 كانت مجموعة من الثوار بقيادة علي الأطرش شقيق سلطان قد قدمت من قرية الشبِكي وباتت في قرية أبو زريق، ولما كان الفرنسيون يراقبــــون تحركات الثوار في تلك المنطقة، فقد علم القائد«دزدريه» بتواجدهم هناك، فشكل قوة كبيرة من جيشه، ووجهها لمباغتة الثوار فضربت طوقاً حولهم، واشتبكت معهم، واستمرت المعركة حتى الصباح، وكاد يقضى على الثوار لولا مبادرة محمود ومجموعته الذين كانوا متمركزين في قرية طليلين المجاورة، وقد شكّلوا طوقاً من خلف القوات الفرنسية من جهة غرب القرية، وخرقوا الحصار المضروب على الثوار الذين وجدوها فرصة لإفشال هدف العدو.
وقد استشهد في تلك الموقعة المجاهد حامد قرقوط، واستشهد من مجموعة محمود اثنان من آل منذر، وواحد من آل الجغامي، وفي ذلك يقول صالح عمار أبو الحسن؛ وهو الشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى مشيداً بدور محمود وجماعته:
محمود بن كيوان هوِّ وْلابْتَـــه ( أي جاعته)
فزعوا من طليلين عَ الرشاش
حقاً، لقد كان سلطان يثق ببطولة محمود، وفي هذا الصدد يقول أدهم آل جندي في كتابه «تاريخ الثورات السورية»، أن القائد العام للثورة السورية بعث بسريّة من المجاهدين بقيادة محمود كيوان كان في عدادها هايل ونايف الأطرش للدفاع عن شهبا، كما ذكر آل جندي في ص 223 أنه في 7 آب سنة 1926 اجتاحت حملة فرنسية قرية عريقة بحيلة حربية، ونكّلت بمن كان فيها من أهلها ومنها زحفت على ريمة الفخور فتلقّتها قوى المجاهد محمود كيوان واشتبكت معها في صدام عنيف ومُنيت القوة الفرنسية بخسائر فادحة، ولما علم الفرنسيون أن اختراق خط المجاهدين لقواتهم في صميد ومجادل سيوقع بهم أعظم الخسائر عدلوا عن خطتهم وتوجّهوا نحو سليم وشهبا وفي هذه الفترة كانت المعارك تبدأ مع طلوع الشمس وتنتهي عند الظهيرة.

شهامة مغربية أصيلة
بتاريخ 15 نيسان 2000 نشرت مجلة التكامل العربي مذكرات الملازم أول الفرنسي «أنول» الذي شغل منصب قائد لإحدى سرايا الرماة في القوات الفرنسية، وقد تحدث فيها عن مجريات المجابهة بين الفرنسيين والثوار في معركة أم الرمان وما بعدها في طريق حملة الجنرال أندريا لاحتلال مدينة صلخد، يقول:« كنت أقود سرية رماة استطلاع، وعندما أصبحت بالقرب من الغارية شاهدت من على البعد مجموعة من الثوار كنت أعتقد بأنها ليست معنية بمقاومتنا نظراً إلى قلّتها إلاّ أنها أخذت أماكنها وأخذت تطلق النار علينا فاستطعنا بنيران رشاشاتنا الكثيفة وأسلحتنا الأوتوماتيكية إبعاد أكثر أفرادها من استحكاماتنا، وكانت هذه المجموعة تنقسم إلى قسمين ولكن سرعان ما رأينا قائدها قد امتطى جواداً وأخذ يصول ويجول يمنة ويسرة، ويهاجم قواتنا ويشجع أفراد مجموعته مما أدى إلى إصابة عدد من جنودنا، وعندما نظرت بالمنظار عرفت بأنه محمود كيوان ( كان الفرنسيون يعرفونه من بعيد بحكم كثرة مواجهاته لهم، وبدلالة المجندين المحليين من جنود الاسكادرونات أبناء البلد الذين يعرفون الرجل جيّداً بحكم المنشأ والقربى أحياناً)، فغضبت منه غضباً شديداً، لاستهتاره وتماديه على هذه الصورة التي لا يقوم بها إلاّ الانتحاريون، كان يهاجم ويحرّض رفاقه، وكان في عداد سريتي رماة مهرة أدقّهم شقيقان اثنان من المغاربة، فطلبت من أحدهم رميه بسرعة حيث كان مكشوفاً علينا، فأخذ يرمي من دون جدوى، وعندما نظرت جيداً في هذا الرامي شعرت بأنه لم يصوّب بدقة، فصحت به « أسرع وإلاّ قتلتك، كان ذلك القائد قد أصاب معاوني في كتفه، كما استشهد بعض من جنودي، أشهرت مسدسي على هذا الرامي لتلكّئه في قنصه وصحت به أرمه وإلاّ قتلتك!؟، لكنه سرعان ما وقف وقال لي:« أقتل! فلن أقتل هذا الشجاع العربي الذي قلّما رأيت مثله، وفي غمرة الغضب أطلقت عليه النار، فأجابني وهو يتلوّى بدمه:« الآن لست بخائن» وناديت شقيقه الرامي الآخر قائلاً:«هذا مصيرك إن لم تقتل هذا الفارس الذي يتراءى لنا جميعاً، لكنه سرعان ما كشف عن صدره، وقال:« اقتل، اقتل أيها المستعمر!».
يقول آنول:« استغربت عناد هذين الجنديين المغربيين اللذين لم يخالفا أمري إلاّ في هذه اللحظات، لقد هزتهم شجاعة هذا القائد العربي، فامتنعا عن قنصه، وضحّيا بحياتهما من أجله».
ومن جانب آخر فقد أكد على هذه الحادثة أحد جنود الاسكادرونات المحليين من أبناء الجبل الذين تجنّدوا مع الفرنسيين، كان يرويها في المضافات كشاهد عيان حضر تلك الموقعة، وكان يسمي اثنين من الرجال الذين كانوا يقاتلون إلى جانب محمود في تلك الموقعة، وهما أبو حسن محمود أبو اسماعيل ومشعل عبد الله كيوان من سهوة الخضر.
ويتابع آنول:« هذا القائد الذي يسمّى محمود كيوان كنّا نتتبع تحركاته بحذر، وكان لنا بعض الأعوان يتابعون أخباره، وكنا نسمي غاراته على مراكز قواتنا بغارات «جهنّم»، نظراً إلى سرعتها ومفاجآتها لنا، كما كانت تختفي بسرعة، وقد أعددنا له بعض الكمائن، ولكنه كان ينجو في كل مرة منها، وكاد أن يقع بأيدينا في موقع «الشوكتلية» في منطقة جبل الشيخ، كنّا قد نصبنا له كميناً كبيراً، إذ علمنا حينها بأنه سيتعرّض لطريق إمداداتنا في تلك المنطقة، ولكنه نجا».

مجاهدون من الغوطة ويبدو مشارا إليه بسهم حسن الخراط
مجاهدون من الغوطة ويبدو مشارا إليه بسهم حسن الخراط

محمود كيوان في ذاكرة سلطان
كان الإنكليز قد اتفقوا مع الفرنسيين على محاصرة الثورة السورية، وعملوا على إجلاء الثوار عن منطقة الأزرق التي هي أصلاً من أراضي الجبل ومن أملاك بني معروف، فقاموا بتطويقها بقوات من أربعة آلاف جندي بريطاني، ودعموها بآليات مدرعة وطيران، فتعرض المجاهدون للجوع والعطش والأمراض، ولكن سلطان كان لم يتخلّ بعد عن فكرة مقاتلة الفرنسيين، رغم ذلك الحصار المفروض من قبل الحليفين اللدودين، وعلى الرغم من أن كثيراً من المقاتلين من حوله أخذوا يدركون استحالة الاستمرار في مواجهة الفرنسيين عسكريّاً، لكنه بفطرته الوطنية السليمة وفي تلك الظروف الحرجة،كان يعرف كيف يختار الرجال القادة المقربين منه، يقول في مذكراته:«كنا نوجه مجموعاتنا لجنوب الجبل كي نبعد فكرة استسلامنا، وقد ذهبت بنفسي ووصلت إلى قرية المغيّر(تقع المغيّر في أقصى جنوب الجبل على الحدود السورية الأردنية)، ونزلنا ضيوفاً عند السيد حمد صعب بصحبة كل من محمود كيوان وزيد عامر وسعيد عز الدين وصياح الحمود الأطرش وفضل الله الأطرش وفرحان العبدالله وهاجمنا الفرنسيين».

معركة الفالوج
كان محمود كيوان يعمل في ميادين الثورة كدينامو فعّال، وليس غريباً أن يذكره سلطان باشا في معظم المعارك الرئيسية ذات التأثير في مسار الثورة، جاء في كتاب «أحداث الثورة» كما رواها القائد العام، ص 175، أن فريقاً من الثوار بقيادة الشيخ خطار أبو هرموش ومحمود كيوان كانوا يرابطون في بعض القرى قرب راشيا، فمرت كوكبة من المتطوعين اللبنانيين ذاهبة إلى الشمال فتبعها الثوار حتى مخفر الفالوج حيث وجدوا قافلة عسكرية تنقل الميرة والعتاد الحربي إلى قلعة راشيا، يرافقها نحو ثلاثمائة من الخيالة ومشاة السنغال، وقد توقفت هناك بسبب الثلوج التي أربكت سيرها في ذلك الطريق، وما إن وصلت طلائع الثوار إلى المكان حتى استعد الجنود للقتال، تمركز بعض الضباط والجنود في بناء المخفر، وانتشر الآخرون وراء الصخور، ولم تلبث المعركة أن نشبت بسرعة وضراوة إثر هجوم قام به الثوار استشهد منهم فيه نحو عشرين مقاتلاً، وسقط عدد كبير من الجرحى، مما يدل على يقظة أولئك الجنود وحسن تدريبهم على القتال، في مثل تلك الظروف القاسية، غير أن المعركة استمرت على أشدها أكثر من ساعتين، أجهز الثوار خلالها على أكثر من مائة وثمانين ضابطاً وجندياً، ورفعوا السيف عن البقية الباقية منهم بعد استسلامهم وعادوا إلى مراكزهم وهم يحملون الأسلحة والذخيرة التي غنموها، ويسوقون أمامهم الخيول والبغال التي كسبوها.
وهنا في معرض حديثه عن معركة الفالوج يشيد سلطان باشا بمحمود كيوان فيقول:«وقد اشتهر فيها محمود كيوان ببطولته الخارقة، إذ شوهد أثناء المعركة الشرسة التي كان الجنود يبدونها من جهة المخفر، وهو ينقض عليهم مع بعض المجاهدين، كنايف رشيد وجميل العسل وحسين الحلح، فعطلوا فاعلية أسلحتهم وأحاطوا بالمخفر، ثم دخله محمود فقتل الضابط وأسر الباقين بعد أن رموا سلاحهم، وأبادوا فيها فصيلاً كاملاً من الجنود، سوى ضابط فرنسي واحد أسروه بعد أن أصيب بجرح بليغ، وسلّموه في ما بعد إلى الأمير عادل أرسلان بقرية عين الشعرة.

محمود كيوان يسالم.. بشروطه
كان الإتفاق الفرنسي البريطاني قد حقق أهدافه في حصر العمليات الحربية للثوار، وتوقف الأعمال القتالية بنتيجة ذلك، لكن سلطان باشا وفريقاً من المجاهدين أصروا على الاستمرار في مقاومة الاحتلال من المنفى في وادي السرحان من أراضي المملكة العربية السعودية، ومن جنوب الأردن في ما بعد، بحيث ظلّوا يشكّلون ضغطاً سياسياً ومعنوياً على الفرنسيين، وبالتعاون مع القوى الوطنية التي جنحت للمعارضة السياسية داخل سوريا،بحيث اضطرت فرنسا للإعتراف باستقلال سوريا ولبنان، وذلك بموجب معاهدة عام 1936.
من أسباب عودة محمود كيوان إلى الجبل توقف الأعمال القتالية ضد الفرنسيين، فأُقفل ميدانه، وهو الرجل الذي تشغفه ساحات قتال العدو ومنازلة الأقران، ومن جانب آخر كان والده المجاهد الشيخ سليم كيوان قد استشهد في معركة رساس، كما إن السلطات الفرنسية هدمت بيته في قريته مياماس انتقاماً منه لمشاركته الفعّالة في طليعة صفوف الثوار، ولم يعد من معيل للأسرة المؤلفة من النساء والأطفال سواه، كل هذا كان من بين أسباب عودته إلى الجبل، وفي ذلك كتب ولده شكيب بأن والده: اضطر إلى العودة إلى الوطن تحت شروط خاصة قبل بها الفرنسيون، منها أن يبقى لديه سلاحه الذي كان يحمله أيام الثورة إلى جانبه، وكان من عادته أن يتمنطق من على يمينه ويساره بمسدّسين، ولذلك كان يُلقب بـ«أبو فردين»، كما اشترط أن تكون له حصانة شخصية، هذا مع العلم أن السلطة الفرنسية اشترطت على كل من يعود إلى الوطن مسالماً لفرنسا أن يسلّم سلاحه، ولكن محموداً رجع بلباس الثورة، واستقبل قائداً حربياً شجاعاً، مع ثلّة من الحرس ومارش عسكري تتخلله الموسيقى التي يستقبل بها الأشخاص المكرمون، وهكذا عاد والدي ليلملم أشتات بيتنا ويعيد بناءه ويعيل أسرته ».
وافقت السلطات الفرنسية على تلك الشروط مكرهة من أجل تحييد رجل بقوة شكيمته من صفوف الثوار الذين اختاروا النضال السياسي من خلال المنفى، وكان المسؤولون الفرنسيون على الرغم من عودته مسالماً يخشون إغضابه، وصولته.

خوفاً من غضبة محمود بك
شغل محمود كيوان منصب القائد لإحدى الوحدات العسكرية «اسكادرون»، إلى جانب آخرين منهم زيد الأطرش وشكيب وهاب وحمد الأطرش وعلي الطويل وحمد نصر، وذات مرة قدم ضابط فرنسي كبير برتبة كولونيل بمهمة تتعلّق بعمل قادة هذه الوحدات، وكان المترجم سعدو عامر من قرية الهيت يعرّف الكولونيل على أسماء قادة الاسكادرونات، كل بدوره، وعندما عرّفه على القائد محمود، قال الكولونيل بالفرنسية :«يقولون لي إن محمود كيوان كالهر، يخدش إذا غضب»، لكن المترجم الحصيف، وبمعرفته الوثيقة بشخص محمود كيوان، وأنَفَتِه كان يدرك أنه يرفض مثل ذلك الوصف غير اللائق به، فحرّف الترجمة وقال لمحمود بك:«الكولونيل يقول عنك بأنك كالنمر إذاغضبت تثب على خصمك»، فشكره محمود بك. لكن المترجم كان يخشى من أحد الضباط المحليين الذي كان يعرف الفرنسية، أن يبلغ الكولونيل بأنه لم يترجم بأمانة، فيسيء إليه. عند نهاية الاجتماع، اقترب المترجم من الكولونيل وأبلغه بما فعل، فقال له:» ولمَ فعلت ذلك؟، قال:
« إن الكابتن محمود لا يقبل بما وصفته به، بل كان سيثور، ويغضب منك، وتقع معه في إشكال ربما أدى إلى شيء غير مرغوب فيه».
قال الكولونيل:» كيف يثور في وجهي وهو ضابط أدنى مني رتبة، وأنا فرنسي»، فأجابه المترجم :«ولو كنت ديغول لرفض منك مثل هذا الكلام»، فشكره الكولونيل على ما فعله واتقائه للمشكل.
وعندما قيل للكولونيل في ما بعد أن سعدو عامر لا يترجم بأمانة، قال:«حسناً ما فعل».

مجاهدي جبل العرب في احتشاد شعبي خلال الثورة السورية الكبرى
مجاهدي جبل العرب في احتشاد شعبي خلال الثورة السورية الكبرى

محمود في السلك الوظيفي
عيّن الفرنسيون محمود كيوان مديراً لناحية القريّا بعد عودته من الثورة، ومن ثمّ عيّن قاضي صلح، فعضو محكمة جنايات، ثم انضمّ إلى كوكبات الفرسان في الجيش السوري برتبة رئيس (أي نقيب)، وهذا بعد أن اعترفت فرنسا باستقلال سوريا عام 1936، ثم تمّ تعيينه عام 1945 قائداً لموقع رأس العين على الحدود السوريةــ التركية.
كان تعيينه في تلك النقطة النائية نتيجة لأنفته وانزعاجه من رؤية أشخاص كان يعتبرهم غير مؤهلين وقد أصبحوا في مواقع أعلى وبمثابة رؤساء عليه، وقد بلغ استياءه كما يبدو أسماع الدولة السورية الناشئة فتم نقله إبعاداً من الجبل إلى أقصى شمال سوريا، في منطقة القامشلي، قائداً لموقع رأس العين، على الحدود مع تركيا، لكنه تمكّن بحزمه من إقرار القانون في تلك المنطقة المختلطة السكان من عشائر العرب والأكراد والآشوريين والسريان وغيرهم، يقول راوي سيرته إنه لاقى «تعدّيات من الأتراك واستخفافهم بالمواقع السورية، لكنه كان يرد لهم الصاع صاعين، وأخيراً أقدم على احتلال قلعة تركية تبعد خمسة كيلومترات داخل الأراضي التركية، بثمانية عناصر من جنوده، وأسر ضباطها وجنودها، وأجبرهم على إعادة الأغنام التي انتزعوها من أحد أصحابها، وأدب الجنود الأتراك لقيامهم بتعديات عديدة، ولنقضهم اتفاقية حسن الجوار التي أبرمت بينه وبين قادة المناطق التركية المجاورة، وقد أدى موقفه ذاك إلى استنفار الجيش التركي في المواقع الحدودية، وبنتيجة ذلك وقعت أزمة بين تركيا وسوريا دامت شهرين، كما كان يحدّثني العقيد المتقاعد محمد مصطفى الأطرش والعميد المتقاعد فرحان الجرمقاني، وترك محمود كيوان الخدمة تلقائياً على أثر ذلك، ورفض أن يبقى في الخدمة بعد أن لامته وزارة الدفاع على احتلاله لموقع تركي، وأصدرت قراراً بنقله ليتولى قيادة موقع حمص. يقول ابنه شكيب في ذلك:« حدث تراسل بين والدي ورئاسة الأركان يطلبون إليه تسلّم موقع حمص والالتزام بالقوانين والأنظمة حرصاً على خدماته وحقوقه التقاعدية إلاّ أن والدي أصرّ على ترك الخدمة غير آسف على حقوقه تلك، وفي رسالة موجهة آنذاك من قائد اللواء الأول توفيق بشور جاء فيها»:
إلى حضرة الصديق الوفي الرئيس محمود بك كيوان المحترم …
إني آسف على خروجكم من الخدمة لأننا بحاجة إلى جهود من كانوا أمثالكم وإلى تضحياتكم ومواقفكم الوطنية والبطولية المشهود لها تاريخياً وتقبل مني أصدق تمنياتي القلبية ودمتم،
صديقكم المخلص
25 نيسان 1946
المقدّم توفيق بشّور
في الختام فإن الحديث عن مآثر المجاهد محمود كيوان وبطولاته في معارك الثورة السورية الكبرى يستغرق مجلّداً، وما تم عرضه في هذه المقالة ليس سوى قليل من كثير على أمل أن نطل من خلالها على سيرة بطولة وتضحيات تكاد تكون أقرب إلى الأساطير ولكي يبقى لدى أجيالنا الشابة الجديدة معرفة بتاريخ الجماعة المعروفية الأبية وسجلها الطويل في ميادين البطولة وفي الأنفة والوطنية وكره المستعمر وحب الأوطان..

عرمان

مدينة عرمان

في السلم زراعــة ومضافــات
وفــي الحــرب ملاحــم شجاعــة

إستوطنها الموحدون الدروز وأعمروها قبل 160 عاماً
بعد أن حوّلها إهمال الولاة وغزوات البدو إلى خرائب

في عام 1941 زار الجنرال ديغول عرمان، وذلك على أثر طرد الفرنسيين الموالين للألمان من سوريا في أحداث الحرب العالمية الثانية، وكان من برنامجه زيارة بعض وجهاء عرمان ومنهم السيد قاسم أبو خير، وهو أحد كبار المجاهدين في الثورة السورية الكبرى، وقد عرض ديغول على قاسم أبو خير أن يرسل ابنه جاد الله ليتعلّم على نفقة الحكومة الفرنسية، لكن الرجل رفض ذلك العرض بإباء، وقال للجنرال: «لدينا مطلب واحد منكم، أن ترحلوا إلى بلادكم وتتركوا لنا بلادنا ».
لقد دخلت «عرمان» تاريخ سوريا الحديث بشهرة عزّ نظيرها، وهي البلدة التي لا يزيد زمن إعمارها الأخير على أيدي بني معروف الموحّدين على نحو مائة وستين عاماً، يذكر الأستاذ متروك صيموعة في كتابه« عرمان، اسبارطة العرب» أنه في أيار من عام 1945 وأثناء قيام المستعمر الفرنسي بالإعتداء على دمشق، دخل الشاعر عز الدين التنوخي إلى جامع بني أمية، فوجد العديد من أعيان دمشق فيه. صعد المنبر، وارتجل خطبة وقصيدة يهدد فيها الفرنسيين بصولة الدروز وبسلطان وبعرمان، يقول منها:
يـــــــــــــــــا مــــــــــــــــــــــــــــــعشــــــــــــــــر الــــــــــــــــفرنسيــــــــــــــــين تــــــــــــــــرحّـــــلــــــــــــــــوا قــــومي «الدروز» تــــــــكفّلـــــــوا الـــــــترحيلا
سيغولكــــــــــــــــــــــــــــــــم سلطــــــــــــــــان يفني جمعكــــــــــــــــــــــم ويـــــــــريكــــــــــــــــــــــــــــمُ يــــــــــــــــوم الحســــــــــــــــاب ثــــــــــــــــقيلا
وتجيئكــــــــــــــــم عــــــــــــــــرمــــــــــــــــان تتــــــــــــــــرك فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــكــــــــــــــــمُ تــــــــــــــــلك المــــــغانــــــــــــــــي الآهلات طلــــــــــــــــــــــــــــولا
كان التنوخي يهدّد فروسية عرمان، فقبل ذلك بنحو نصف قرن، عام 1896 م، كان أهل عرمان قد هزموا قوة عثمانية كبيرة بالتعاون مع قرى عديدة أخرى من الجبل في موقعة شهيرة تعرف بموقعة «خراب عرمان».

جانب-من-الحارة-الشمالية-الغربية-من-عرمان-وتبد-قلعة-صلخد-وتل-عبمار-في-نهاية-الأفق-
جانب-من-الحارة-الشمالية-الغربية-من-عرمان-وتبد-قلعة-صلخد-وتل-عبمار-في-نهاية-الأفق-

عرمان الموقع وتاريخ العمران
تقع مدينة عرمان مسافة نحو سبعة وعشرين كلم جنوب شرقي مدينة السويداء، وعلى مسافة 4 كلم إلى الشمال الشرقي من مدينة صلخد مركز المنطقة (القضاء)، التي تتبع لها إدارياً، ويحدّ مجالها الجغرافي من الغرب مدينة صلخد، ومن الشرق مدينة ملح وقرية قيصما، ومن الجنوب امتان وتحولا، ومن الشمال قرى بَهَم وتلّ اللوز وسهوة الخضر .
ترتفع المدينة نحو 1369 متراً عن سطح البحر وهذا في أقصى نقطة ارتفاع ، ونحو 1350متراً في منحنى التسوية الذي يعبر إلى الشمال منها، أما المعدّل السنوي للمطر في عرمان فيبلغ 300 ملم3 ، وهذا المعدّل يتقلب من عام إلى آخر كما يظهر في كميات الهطول المسجّلة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وهي كما يلي:

2013 2012 2011
277 ملم3 378 ملم3 287 ملم3

 

“الأبراج المنتشرة في حوران كانت الغاية الأساس منها مراقبة المحاصيل وإبعاد اللصــوص والغزاة”

تاريخ إعمار عرمان
كانت «عرمان» كمعظم حواضر جبل حوران في العهد العثماني خراباً يباباً ينعق البوم في أرجائها، ذلك لأن الدولة العثمانية وخصوصاً في عهدها الأخير تحوّلت إلى دولة عاجزة عن حماية الأرياف البعيدة عن مركز الولاية في دمشق، وصار الوالي العثماني يسترضي زعماء القبائل البدوية بالهبات والأعطيات ليقبلوا بالتهدئة مع الفلاحين في أماكن انتشار تلك القبائل، بدليل ما يذكره المستشرق السويسري بيركهاردت الذي زار البلاد عام 1810م، وقد وجدها خالية من السكان فقال:» «عرمان مدينة قديمة وفيها ثلاثة أبراج مبنية بالطريقة ذاتها التي وصفتها في الكفر، وفي عرمان نبع ماء، إلاّ أن مرافقيَّ من أهل القرية تخوّفوا من أن تطول إقامتنا في هذه الأماكن المقفرة فأنكروا وجوده عندما سألتهم عنه».
ويذكر الأستاذ حسين نايف خويص صاحب كتاب«عرمان، قصة الإنسان وقدسية الأرض والمكان» (ص 16) أن عمران القرية يعود إلى عام 1857م، وهذا يدلّنا على أن المدينة كانت قبل ذلك خراباً، ويشير الكاتب إلى أن العمران في المدينة قديم «فيها بعض المعالم الأثرية من العصور السالفة (مساكن متهدّمة، برج مربّع وكتابات وكنيسة وجامع وبركة أو مطخ من عهد الملك العادل) مساكنها القديمة مبنية بالحجارة البازلتية، مسقوفة بالربد والأقواس».
ولم يكن ذلك العمران اختياراً سهلاً على الروّاد الأوائل بل فرضاً لا خيار لهم فيه، بدليل هذه الواقعة التي يذكرها المستشرق الرحالة والمبشر الإنجيلي الايرلندي د. وليم رايت في كتابه «مغامرات بين خرائب باشان عام 1874» وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ كمال الشوفاني عام 2012، يقول رايت في ص 123:« سرنا مباشرة نحو عرمان، ومنذ وطأنا الأرض المقابلة لصلخد دخلنا بين حدائق مسوّرة، ما زالت الأسوار قائمة بعلوها، لكن الحدائق داخلها ليست محروثة لأميال وأميال شاهدنا الحدائق وبساتين الكرمة، لكن العنب اختفى والخراب الصامت كان مسيطراً على تلك الأماكن كما هي حال المنازل المهجورة في مدن اللجاة.
كنت غالباً ما أحدّث نفسي قائلاً: «ربما كان هذا المكان ذات مرّة قصراً لأحد الشيوخ أو الزعماء يحسده عليه الجيران هنا، كانت الروابط الاجتماعية تجعل المرء يتشبّث بأرضه» لكننا الآن نمرّ على

هذه البساتين وهي خالية من البهجة، ثم يصف رايت برج عرمان فيقول: «وصلنا الآن إلى مكان يجعلني أتحدّث كما وُعدت عن بناء هام واستخدامات هذا البناء، إنه البرج الدائري الذي رأيناه في شتى أركان حوران. إن لكل حديقة هنا برجها، صغيراً أحياناً، وكبيراً أحياناً أخرى، طبقاً لحجم الحديقة … » ويعتقد رايت أن هذه الأبراج المنتشرة في جميع أرجاء حوران سهلاً وجبلاً كانت الغاية الأساس منها مراقبة المحاصيل وإبعاد اللصوص عن مواقع السيطرة الرومانية.
يصف رايت دخوله إلى عرمان فيقول: «عندما دخلنا إلى عرمان، كانت قطعان كبيرة من الأغنام تتجمّع في القرية من جميع الإتجاهات، لقد قوبلنا بترحاب لا مثيل له من الشيخ نجم الأطرش (هو نجم بن ابراهيم الشهيد في حروب اللجاة ضد قوات محمد علي باشا) والدروز الآخرين الذين تذكّروا زياراتي السابقة. كان الشيخ رجلاً أسمر ضخم البنية بوزن لا يقل عن مائتين وثمانين رطلاً (125كلغ) كان رجلاً قويّاً وشجاعاً حتى يُظَن أن الرصاصة لا تستطيع خرق جسمه، إنه يتمتع بمنزلة عالية بين الزعماء الدروز، كان عليه أن يتصدّى لأولى الغارات البدوية القادمة من الصحراء. هناك عدد كبير من الدروز تحت إمرته، جميعهم مسلّحون ومعظمهم فرسان مَهَرَة.
ويتابع رايت وصفه زيارة عرمان: «في خريف عام 1812 زار بيركهاردت عرمان ووجدها مهجورة، وعندما زرتها كانت تحوي عدداً كبيراً من الدروز، معظمهم من الرجال الذين استقروا بعيداً عن لبنان، وقد اختاروا ذلك ليكونوا بعيدين عن الحكومة».
ويتابع رايت وصف زيارته تلك لعرمان، فيقول: «لقد زارنا الشيخ (يقصد نجم) وولده وأتباعه في خيمتنا بعد العشاء، لقد تفحّصوا كل كتبنا، وقرأنا لهم لساعات أجزاء من الإنجيل، كنا معجبين كثيراً بذكائهم، خصوصاً بمعرفتهم بالسياسة الخارجية».
ويصف رايت مشاهدته اجتماع مجلس حربي للدروز في بيت الشيخ الأطرش، يقول:« رددنا الزيارة في الصباح التالي، فوجدنا الشيخ يجلس في البوابة محاطاً بجميع أتباعه. إن الأخبار التي أقلقت الدروز في طريقنا وصلت إلى هنا، وعُقد مجلسٌ للحرب. وقف الشيخ واستقبلنا، ثم قادنا إلى غرفة الضيوف(المضافة)، غرفة منخفضة السقف، كانت كنيسة في ما مضى بنيت من حجارة أخذت من بناء آخر ( لعلّه معبد نبطي، ذلك لأن الأديان والعقائد تقوم وتنشأ على أنقاض سابقاتها)ــ كان السقف مرتكزاً على مجموعتين من القناطر السميكة، وقد وضعت الألواح الحجرية (الربد) من القنطرة إلى القنطرة مشكّلة السقف، يدخل النور من المدخنة والباب فقط ليبدّد الظلام في الغرفة. تحلّق حشد من الدروز حول الغرفة المظلمة التي كانت تحوي مذبحين عليهما رموز مسيحية وكتابات في وسط الغرفة، واللذين على الأغلب لم يُزالا من مكانهما منذ كانت الغرفة كنيسة مسيحية. كان علينا في البداية، كما هي الحال في كل الأماكن الأخرى، أن نتعرّض إلى محنة انتظار صنع القهوة…( يصف رايت بالتفصيل كيفية صنع القهوة ).
كنا قد تعوّدنا على الظلمة ( في المضافة) وأصبح بإمكاننا أن نرى ملامح الدروز الذين جلسوا في دائرة متراصّة حول الغرفة، كان المشهد سيكون في غاية الروعة في هذه الظلمة لو تجسّد بلوحة تبدعها عبقرية رمبرانت».

تضامن الجبل مع حوران
نستنتج من سياق رواية رايت أن رسلاً من قِبَل أهل سهل حوران نقلوا أنباء عن معاناتهم مع العثمانيين الذين فرضوا ترتيبات مرهقة على الأهالي، يقول المستشرق:« الشيخ الذي لم يتعلّم أبداً فن الملاطفة والذي لا يخاف حاكماً، أعلن لنا بكل صراحة سبب الهياج المحيط بالمكان. إنّ الحكومة (العثمانية) في حوران اعتزمت فرض ضريبة على البلاد، لقد جمع الحاكم شيوخ القرى وطلب منهم تقدير قيمة الأراضي، اغتاظ الأهالي (في حوران) من الموقف وقتلوا اثنين من الشيوخ وفرّ الحاكم ناجياً بنفسه، ثم شفى الناس غليلهم بأي رمز مرّ بطريقهم يمت للحكم العثماني بصلة. لقد قطعوا أربعة عشر ميلاً من خطوط البرق، وفرّ جميع الموظفين بأرواحهم. استدعت الحكومة الجنود وجهّزت المدافع ووعدت بالإنتقام، وردّ أهل سهل حوران أنّهم في الرابع عشر من نيسان سيغادرون حوران بشكل كامل. لقد أشار الشيخ للرسول الذي جاء بالخبر، وختم كلامه بتصريح مشبوب بالعاطفة:
«إن الصراع في حوران هو صراعنا نحن أيضاً، إن فرضوا ضرائب عليهم سيفرضون ضرائب علينا. لم تفعل الحكومة لنا شيئاً: لم تحمنا من البدو: لم تشقّ لنا الطرق، وقد شرّدتنا من بلاد أهلنا في لبنان، وها هم الآن يتبعونا إلى هذه الصحراء التي استصلحناها بكدّنا وعرقنا وفديناها بأرواحنا. هل سيكون أولادنا مظلومين كما نحن؟ لا ياأولادي سوف نتّحد مع أخوتنا المنكوبين في حوران، سوف نلاقي عدوّنا على عتبة دارنا قبل أن يدخل حرمتها، ولأن الحق معنا، والله إلى جانبنا، فإننا لن نقهر أبداً».

توزيع أدوار
من سياق المشاهدات التي أوردها رايت عن حضوره المجلس الحربي للموحدين في عرمان، ومن خلال حديثه عن مسار رحلته بإتجاه القريّا حيث يقول:« دخلنا القريّا برفقة راع
( ليرشدهم إلى الطريق)، ووجدنا أن ابراهيم الأطرش ( هو ابراهيم بن اسماعيل وقبل إزاحة آل الحمدان من السويداء) الزعيم الأكثر أهمية بين الدروز، قد غادر إلى دمشق محاولاً تفادي الصراع المرتقب ».
من شهادة رايت نستنتج أن الرسل الذين نقلوا أحداث سهل حوران إلى شيخ بلدة عرمان وصلوا أوّلاً إلى شيخ بلدة القريّا الطرشاني الذي لا بدّ أن يكون قد حوّلهم إلى ابن عمه الذي يليه في الأهمية وهو شيخ عرمان، ولما كان عبء قرار مواجهة الدولة العثمانية آنذاك أمراً يحتاج إلى استنفار أوسع في قوى مجتمع بني معروف، فلا بدّ أن يتم التمهيد له بالتعبئة والاستعداد من الجميع لأنّه أمر جلل، إذ لا يمكن لقرية منفردة أن تتخذ قراراً خطيراً بقتال الحكومة.

كنيسة-عرمان-الأرثوذكسية1
كنيسة-عرمان-الأرثوذكسية
من-مضافات-عرمان-القديمة1
من-مضافات-عرمان-القديمة

 

 

 

 

 

 

 

 

العائلات المعروفية في عرمان
يروي المعمرون أنه من العائلات التي عمرت عرمان أصلاً هم آل عقيل، (وقد انتقلوا منها ليستقروا أخيراً في قرية ذيبين)، ومن المحتمل أن يكون هذا قد حصل خلال أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بدأ فيها إعمار بعض القرى الجنوبية من جبل حوران التي كانت خراباً لا زراعة فيها ولا استقرار حضرياً للإنسان في ربوعها، وكان مع آل عقيل في نزولهم عرمان آل فليحان، لكنّ سَكَنَ آل الأطرش ومعهم أبناء عمومتهم آل زيدان ثبت توطن بني معروف في عرمان، بعد أن كانت قرية تُسكن وتُهجر تبعاً للظروف طيلة الفترة الأخيرة من الحكم العثماني، لأن نجم بن ابراهيم الأطرش الأول، وكان هذا فارساً شجاعاً، وصاحب شخصية قوية استطاع أن يثبت في عرمان مع أقاربه، ومن ثم استقدم آل الأطرش جماعات أخرى من عائلات بني معروف، ومع الزمن توافدت العائلات العديدة إلى القرية الناشئة، كآل نصر القادمين من الشوف في لبنان، وآل الحلبي الذين كانوا قد قدموا إلى جبل حوران ( كما كان يدعى آنذاك) من حلب على أثر موجة اضطهاد عاتية ضد الموحّدين نحو عام 1810 في العهد العثماني، لكن أكثرية عائلات عرمان تعود إلى أصول لبنانية كآل شروف وسمارة وجمال وأبو شاهين وجمال الدين وآل صيموعة الذين قدموا إلى أم رواق في جبل حوران ومن ثم جاء بهم نجم الإبراهيم الأطرش الأول إلى عرمان ليقوّي بهم أزر بني معروف في جنوب الجبل. وآل أبو ليث والخليل والخماسي، وزويهد والجاري ورَشيد وخويص، وأبومالك والحلاّل والصبي والمؤيد وصياغة والاسماعيل وأبو مقلّى والبكفاني ودلال وآل رزق والمقت وقريشي والعبدالله وشنان ومحفوظ والشريطي وقرقماس والعطواني ( من عين عطا في منطقة راشيا) ووهبي والعياش والزيبق وياغي والريشاني وبرق، والجرمقاني ، وآل ملاعب وفليحان ونصر وكيوان وريدان وأبوهدير وبركات وحاتم وأبوخير والدبيسي وأبوحسن ورافع وبركة وخويص والشعار ومسعود وزين الدين وحمزة ومصطفى وأبو الحُسن وأبو هرموش ومنشا ومطرد وشمس وعماشة والسمطي وحبوس وصعب وأبو غانم ونعيم وشديد وجابر والغاوي والعريضي وابوحرب وسمارة وجابر والأعور والعسراوي والمتني والزغيّر، وأما آل الصفدي فقد قدموا من ديار صفد في شمال فلسطين.

جانب-من-مضافة-أحد-وجهاء-آل-الحلبي-في-عرمان1
جانب-من-مضافة-أحد-وجهاء-آل-الحلبي-في-عرمان

العائلات المسيحية
من العائلات المسيحية في عرمان آل الحداد والرّيس، والسليم والحمصي والعيد وسابا والسيقلي وآل النعمة وهم من عائلات السهل الحوراني في القديم قبل أن ينتقلوا إلى جبل حوران ويتساكنوا مع بني معروف الموحدين ، فيما انتقل فريق منهم إلى لبنان ليستقروا في زحلة، ومن آل النعمة وهم من المسيحيين الحورانيين يتحدّر الشاعر اللبناني سعيد عقل كما يذكر ذلك الكاتب صقر أبو فخر.
يروي أحد مسيحيي عرمان أن ثلاث عائلات مسيحية قدمت من عبيه في جبل لبنان إلى قلعة جندل ومن ثم إلى القريا، ومنهم آل العوابدة وزخريّا، وفي القريا طلبوا من نجم الابراهيم الأطرش المجيء إلى عرمان، فسأل: هل معهم صنعات؟، فقيل له هم حدادون وبياطرة وإسكافية. فقال: هاتوهم.
وبعد قدومهم إلى عرمان بقي الحداد على حاله حداداً، ( وآل الحداد في عرمان أصلاً آل لحّام في لبنان، وآل العيد كانوا يمتهنون البيطرة، والرّيس كان إسكافياً).
وكان المشايخ من الدروز يعطون لأصحاب المهن السكن والأرض، تشجيعاً لهم على الاستقرار مع بني معروف الموحدين لإعمار البلاد، لكن عدداً غير قليل من مسيحيي عرمان نزحوا إلى دمشق في النصف الثاني من القرن الماضي وقد بلغ عددهم نحو 400 نسمة.

المضافات
لمضافات عرمان ميزة مختلفة عما عداها، ففيها صيغت الأفكار الأولية التي مهّدت لتمرد العامة على المشايخ الأطارشة في النصف الجنوبي من جبل الدروز كما كان يدعى آنذاك، وقد أدت تلك الحركة إلى تثبيت ملكية الفلاحين، ومنع ترحيلهم من قراهم، وتقليص ملكية الشيخ إلى النصف مما كان يملكه قبل ذلك، بحيث صار يملك الثمن من أراضي القرية التي هو شيخها بدلاً من الربع. بالإضافة إلى ذلك، كانت المضافات في سائر قرى الجبل مهاجع مجانية للضيوف، ومنتديات عامة لمناقشة الشؤون العامة وحلّ المشاكل التي تدور في مجتمع القرية، ومدرسة يتم عبرها تداول الآراء والأفكار ووجهات النظر في الحياة العامة من قبل اولئك الفرسان المحاربين من الشيوخ ووجهاء العائلات النافذة والملاّكين في القرية، الذين كانوا يعتمدون على المرابعين في تسيير أعمال زراعتهم وعلى مشاركة البدو في رعي مواشيهم.
كانت مضافات عرمان أيضاً «هيئة أركان» للعائلة أو للقرية، فكانت قرارات مثل تعيين الحراس والنواطير، أو دخول الحرب وإعلان التعبئة كلّها تتخذ داخل المضافة، وفيها يُتداول الأدب الشعبي وتكرّس القيم الأخلاقية، ومثالية القدوة في الشجاعة والكرم، فهي« مجلس قضاء أهلي وعرفي عام لا تقبل قراراته وأحكامه الطعن والمراجعة»، إذ لم يكن آنذاك من دور مؤثر يذكر للدولة في ذلك المجتمع الناشئ البعيد عن مركز الولاية البعيد في دمشق.
وكانت من أولى مضافات عرمان مضافة الشيخ نجم الأطرش التي شهد فيها المستشرق البريطاني وليم رايت اجتماعاً لوجهاء من الدروز عام 1874، ومضافات آل الجرمقاني، والعطواني وصيموعة وملاعب والخليل والحلبي وعلاّم وبركات والدبيسي وغيرهم… وهذا موضوع يستحق أن يُفرد له بحث خاص لأهميته في تشكيل الوعي الاجتماعي العام.
بيرق عرمان هو أصلاً عباءة جنرال تركي غنمها مجاهدو عرمان في المعركة، وعملوا منها بيرق بلدتهم، وكان آل الحلبي في ما مضى هم حملة بيرق عرمان أصلاً، وحدث أن مجموعة من الجند العثمانيين جاؤوا يطلبون ابناً لحسن الحلبي، حامل بيرق عرمان، وصدف أن سألوا شاباً من آل صيموعة ليرشدهم إليه، فأبى، فقتلوه، وسألوا آخر من العائلة نفسها، ففعل كسابقه فقتلوه أيضاً، وسألوا ثالثاً، وكان مصيره كسابقيه، ويومها كانت فتنة كبيرة في عرمان بسبب هذه الأعمال الظالمة، وبنتيجتها أقدم حسن الحلبي على تسليم بيرق عرمان لآل صيموعة ممثلين بشخص أحدهم وهو سلامة صيموعة، ولم يزل بيرق عرمان محفوظاً عند أبو طلال جادو صيموعة إلى يومنا هذا.
ويذكر الشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى عام 1925، صالح عمار أبي الحسن في ديوانه أسماء شهداء قرية عرمان آنذاك، وعددهم 114 شهيداً، وفيهم يقول الشاعر :
عــــرمــــــــــــــــان مفتــــــــــــــــاح الحرايــــــــــــــــب كــــــــــــــــلّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها وسيـــــــــــــــــــوفــــــها مــــــــــــــــن اغمــــــــــــــــادها بتــــــــــــــــســــــلّــــــــــــــــها
ان صاح صياح الضحى يااهل الوحى الجبـــهــــــــــــــــة العظيمـــــــــة مــــــــــــــــن العدى بتحتلّها
فضل الله بيك النجم قيدوم الشــــــبــــــــــــاب يلكد على جموع الأعـــــادي ولايـهـــــــــــــــــاب
غــــــــــــــربي الســـجـــــــــن بنهـــــار كـــــــــــــون المزرعـــــة من فوق ســـابق كَنّـــــــــــــه الزغبــــــــــــــــي ذيــــــــــــــــاب
وفضل الله بيك النجم هو فضل الله النجم الأطرش، المجاهد الكبير، والبطل المعروف في الثورة السورية الكبرى، وأخو نجم الأطرش شيخ عرمان في ذلك الزمن، وله في الثورة سيرة مميزة خاصة به.

“مضافات الجبل كانت مهاجع مجانية للضيوف، ومنتديات لمناقشة الشؤون العامة وفضّ الخلافات ومدرسة لتعلم قيم بني معروف وشيمهم”

المجاهد-البطل-فضل-الله-الأطرش،-صورة-من-ثلاثينيات-القرن-الماضي1
المجاهد-البطل-فضل-الله-الأطرش،-صورة-من-ثلاثينيات-القرن-الماضي
اقتصاد زراعي
ما زال أهل عرمان يعتمدون على الزراعة كنشاط اقتصادي أساسي وهذا إلى جانب الوظائف العامة والمهن الصغيرة والحرف والخدمات، وتبلغ المساحة الإجمالية التي تتبع المدينة من أراضٍ زراعية وغيرها نحو 82,319 دونم، القابل منها للزراعة 67,974 دونم. وتتخصص عرمان بزراعة المحاصيل الحقلية كالقمح والشعير والعدس والحمّص وسواها، كما يزرع في أراضيها التفاح والعنب واللوزيات،  وهناك ما مساحته 9,175 دونم هي عبارة عن أراضٍ وعرة غير قابلة للزراعة، يضاف إليها ما مساحته 100دونم هي عبارة عن مستنقعات تجف صيفاً، وليس في عرمان من أحراج أو مروج.
ويعمل غالبية أهالي عرمان في مجال الزراعة وعلى الأخص في منطقة جبل عرمان الذي تزدهر فيه زراعة العنب والتفاحيات المتميّزة بجودة ثمارها.
أهم المحاصيل الزراعية
القمح والحبوب: تبلغ مساحة الأراضي المزروعة قمحاً في عرمان نحو 12,150 دونم جميعها تعتمد على مياه الأمطار بإستثناء ثلاثة دونمات تزرع ريّاً بالرش والتنقيط،  كما ويزرع الشعير وتبلغ مساحة الأرض المزروعة منه نحو 1,200 دونم، وقد بلغ متوسط إنتاج الدونم لهذه السنة 50 كيلو غراماً، ولكنه في السنوات الماطرة يتراوح إنتاجه ما بين 110 إلى 120 كيلوغراماً.
ويعتبر الحمّص من المحاصيل النقدية المجزية نسبياً بالنسبة للمزارع، وتبلغ مساحة الأرض التي تزرع بالحمص سنوياً نحو 14,800 دونم، ويتقلب حجم إنتاجه من عام إلى آخر حسب كمية الأمطار.
الكرمة :تبلغ مساحة الأرض التي تزرع بالكرمة نحو 5,327 دونم، وعدد أشجارها 189,612 شجرة، المثمر منها 148,000 شجرة، ويبلغ متوسط إنتاج الشجرة منها نحو 20 كيلوغراماً، ويبلغ إنتاج العنب في عرمان نحو 2,588 طن، يذهب منه للإستهلاك المنزلي نحو 259 طناً  وللزبيب 128.5 طن ونصف الطن، ويباع منه في السوق نحو 1,812طن لأغراض مختلفة.
أما متوسط إنتاج الدبس الذي يصنّع في عدّة معاصر محلّية في المدينة فيبلغ نحو 97 طناً، والزبيب نحو 19,300 كلغ.
التفاح قطاع أساسي:تبلغ مساحة الأرض التي تزرع بأشجار التفاح في عرمان 4,866 دونم، وعدد أشجار التفاح فيها 107,500 شجرة بما فيها النصوب الجديدة، أما المثمر من أشجار التفاح فيبلغ عدده نحو  64,700 شجرة، ويتراوح متوسط إنتاج الشجرة منها ما بين 40 و50 كيلوغراماً، ومعظم الأراضي المزروعة تفاحاً تقع في أراضي ظهر الجبل التي بلغت حصة عرمان منها 9,000 دونمٍ، وأراضي ظهر الجبل هذه هي من أخصب أراضي الجبل لوقوعها في منطقة الإستقرار الأولى الوفيرة الأمطار( متوسط أمطارها يفوق الـ 500 ملم3 سنويّاً)، وهي أصلاً من أملاك مواطني سائر قرى جبل العرب، وقديماً كان لكل قرية من قرى الجبل الحق في الإنتفاع من أراضي ظهر الجبل تلك، وحتى تلك القرى البعيدة الواقعة على أطراف الجبل من جهاته الأربع، وهذا أمر كان متفّقاً عليه منذ أن استوطن بنو معروف في الجبل، وتمكّنوا فيه، ولكنه وفي ستينيات القرن الماضي أهملت حقوق القرى وضاعت ، غير أن أهل عرمان، وبمبادرة من عقلائهم  تمسكوا بحقوقهم في أراضي ظهر الجبل، واستطاعوا تحصيل تلك التسعة آلاف دونم، وتوزيعها في ما بينهم، بحيث استفاد منها جميعهم، فكانوا بذلك حالة مميزة في الوقوف عند حقوقهم.
ومن الزراعات الأخرى في عرمان اللوز والتين ويزرعان تحميلاً، أي مضافين إلى غيرهما من أشجار أخرى كالعنب، أو سواه. .
الزيتون: لا تعتبر زراعة الزيتون مجزية لمُزارع عرمان، وذلك بسبب ارتفاع المدينة عن سطح البحر أكثر من 1300م، بينما يكون الإرتفاع المجزي لزراعة شجرة الزيتون دون 900م عن سطح البحر، ولكن بعضهم يجازف ويخالف، وهكذا فإن مساحة المزروع زيتوناً 215 دونماً، ويقوم بعض مزارعي عرمان أيضاً بزراعة بعض أشجار الزيتون بشكل تحميلي في الكروم القريبة، وضمن حدائق المنازل، وقد بلغ مجموع أشجار الزيتون في المدينة ومجالها الزراعي 4,400 شجرة، المثمر منها 800 شجرة، متوسط إنتاج المثمرة منها 20 كيلوغراماً.
كما ويزرع الدراق في حدائق المنازل، وكذلك التوت، إذ تبلغ مساحة الأرض المزروعة بالتوت نحو 14 دونماً، ويزرع بشكل تحميلي في الجنائن المنزلية، ومما يجدر ذكره أن زراعة التوت في عرمان، بل وفي سائر الجبل إنما هي زراعة جلبها بنو معروف من مواطنهم الأولى في لبنان.
يضاف إلى هذا، زراعات أخرى كالإجّاص والمشمش والجنارك والجوز والرمان، وكلها تزرع في حدائق المنازل أو تحميلاً في الكروم.
“بيرق عرمان حيك من عباءة جنرال تركي غنمها المجاهدون وانتقل من آل الحلبي إلى آل صيمــــوعة”
دار-المجاهد--فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان10
دار-المجاهد–فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان

الثروة الحيوانية
على هامش الزراعة، نما قطاع لتربية المواشي في عرمان، مثل تربية الأبقار المحسنة بالأنواع الأوروبية المستوردة وتربية الأغنام. ويوجد في عرمان 106 من الأبقار ونحو 4,000 رأس غنم ونحو 800 رأس ماعز جبلي ونحو 15 من الجمال، وتربى الأغنام بالمشاركة مع رعاة من البدو مقابل ربع المواليد ونحو 6 كلغ قمح، أو مبلغ مالي آخر يتفق عليه. أما النسبة لتربية الدواجن فقد تسببت الأحداث المؤلمة التي تمرّ بها البلاد بنقص كبير في عرض الفروج اللاحم مما أدى إلى إحياء تربية الدجاج البلدي في البيوت، ويقوم البعض وعلى نطاق ضيق بتربية الحبش والحمام.
تربية النحل: تراجعت تربية النحل في السنوات الأخيرة، وذلك بسبب الجفاف وضيق المرعى بعد أن كانت الخلايا تُرحّل من مكان إلى آخر بعيداً عن المدينة، ففي العامين 2006 و2007 بلغ عدد خلايا النحل في عرمان 70 خلية، بينما تدنّى هذا العدد إلى 5 خلايا في صيف عام 2014.

موارد المياه
كانت عرمان ومنذ عصورها القديمة قبل أن يسكنها الموحّدون الدروز، تعتمد على مياه الأمطار بالدرجة الأولى سواء من حيث تأمين مياه الشرب أو مياه الإستعمالات المنزلية، أم من حيث الزراعة البعلية، وهذا ما يفسّره لنا تعدّد المناهل والبرك الواقعة ضمن المدينة، وكان الأهالي منذ السكن الأقدم لعرمان يستجرّون إليها مياه السيول الشتوية التي تنحدر إلى بلدتهم من المرتفعات الجبلية الواقعة إلى الشمال منها، ومن هذه المناهل المطخ العادلي الذي أصبح وسط عمرانها الحالي، وهذا المنهل منسوب إلى الملك العادل شقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويروي الأستاذ خويص في كتابه الآنف ذكره ص 40، أن الملك العادل مرّ من عرمان يوماً، وقال للأهلين احفروا هنا مطخاً للمياه، وهكذا كان. ومما يؤسف له أنه قد تمّ ردم أكثر من نصف هذا المنهل في زمننا.
وهناك مطخ المنبوع في القسم الشمالي من عرمان، ومطخ صلخد غرب المدينة من جهة صلخد، وكان في ما مضى مخصّصاً لمياه الشرب، وهناك في المدينة بعض الآبار السطحية التي ساهم الأهلون بحفرها غير أن الجفاف أدركها بسبب نقص الوارد المطري، فجفت، ولكن مؤسسة مياه الشرب الحكومية في السويداء ساهمت في حفر ثلاث آبار أرتوازية ضمن مخطط المدينة التنظيمي لتزويدها بما يلزمها من مياه الشرب، وأعماق هذه الآبار نحو 200م، وطاقة كل منها على الضخ نحو 20 م3 في الساعة أي نحو 480 م3 في اليوم.
وهكذا، فإن مياه الشرب تصل إلى كل بيت في عرمان، وفي الفترة الأخيرة، وبسبب تعاقب السنوات الجافة، فقد حرصت مؤسسة المياه الحكومية على تزويد عرمان بمياه الشرب الجوفية النقية من الآبار الأرتوازية الواقعة في قرية خازمة التي تبعد عن عرمان نحو بضعة عشر كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي منها.

بيوت-أثرية-في-محنة-1
بيوت-أثرية-في-محنة-

“إقتصاد عرمان زراعي يعتمد على مياه الأمطار وعلى بعض الموارد الجوفية وقطاع الثروة الحيوانية عنصر مهم في اقتصاد البلدة”

بلدية عرمان
أنشئت بلدية عرمان عام 1970 ومنذ العام 1975 تشغل البلدية مبنى خاصاً بها كمرفق عام، وتتبع لبلدية عرمان قرية عَوَس ومزرعة مجدل الشور.
تبلغ المساحات المبنية في المدينة حسب المخطط التنظيمي الأخير 5,070 دونم، أمّا عدد سكانها فيبلغ نحو 13,800 نسمة.
تشرف البلدية على تأمين خدمات مواطني عرمان من شق وتعبيد وتزفيت الشوارع، وإنارتها، وإنشاء حدائق عامة، ويبلغ طول الشوارع في المدينة نحو 30 كلم، وفي المدينة حديقتان عامتان.
وفي عام 2010 تمّ تنفيذ نحو 50% من أعمال شبكة الصرف الصّحي، وتتوفر في المدينة سائر الخدمات الأساسية من مياه نقية مصدرها الآبار الاأتوازية، ومن كهرباء وطرقات، ومدارس ومعاهد تعليمية ومنشآت خدمية، وجمعيات خيرية ومركز صحّي ووحدة إرشادية زراعية، ومركز اتصالات ومشغل للسجّاد اليدوي وصالة للأفراح .

الحرف والخدمات
تضم المدينة نحو 250 محلاً تجارياً، وحرفياً ولا وجود لشركات تجارية في المدينة وهناك عدد من الصناعات الصغيرة مثل صناعة دبس العنب ( توجد في المدينة ثلاث معاصر لصنع الدبس) بالإضافة إلى معصرة لدبس التفاح، وهناك صناعة الكشك، وهي صناعة منزلية أولية تكمّلها مطحنة الحبوب، وبعض الكشك الفائض عن حاجة الأسرة يباع خارج المدينة، وتوجد في المدينة صناعة أحجار البناء ومطاحن للقمح. ومن المهن الحرفية في عرمان محلات للحدادة الإفرنجية وتشكيل الألمنيوم والنجارة، ومحال لصيانة السيارات. وأنشئ في سبعينيات القرن الماضي مشغل لصناعة السجاد، ولكنه متوقف عن العمل.

دماء وصلح في القريا

دمـــاء وصلـــح
في القــــــــــريَّا

ندمت قبيلة “وِلْد علي” على عدوانها الغادر على القريّا
فأرسلت وفداً عظيماً لاسترحام إسماعيل الأطرش

“ذبحة القريّا” تزعزع سيطرة البدو التقليدية على السهل
وتعزّز أرجحية الموحدين الدروز وهيمنتهم على الجبل

صلح القريّا فرض على البدو أخذ الإذن من زعيم الجبل
إسماعيل الأطرش إذا أرادوا دخول المراعي السهلية

جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش
جوار-هذه-البركة-جرت-المصالحة-بين-بني-معروف-وقبيلة-ولد-علي-في-القريا-أيام-اسماعيل-الأطرش

تاريخ جبل العرب في سورية هو في جزء منه تاريخ العلاقة الصعبة والمتقلبة بين الموحدين الدروز الذين عمروا الجبل وبعثوا الحياة في ربوعه المقفرة وبين بدو السهل الذين سعوا للإحتفاظ بهيمنتهم القديمة وحقهم في أخذ الأتاوات أو حتى الإغارة والغزو كجزء من تقاليدهم.
مشكلة البدو كانت أنهم وجدوا في الموحدين الدروز خصماً شديداً كما أنهم وجدوا أن الفئات المستضعفة من المسيحيين وعشائر البدو الأقل شأناً دخلت في حمى الدروز وعزّزت صفوفهم، وأصبح الصراع بذلك حادّاً بين مصالح سكان الحضر الدروز ومن معهم الذين استقروا وأصبح اقتصادهم مستنداً إلى الزراعة وبين حياة البدو الرحل الذين لا يستقر لهم قرار والذين يعتبرون الغزو جزءاً من تقاليدهم بل أحد مصادر عيشهم.
في هذا السياق تعتبر الحرب القصيرة لكن الدامية التي قامت في منتصف القرن التاسع عشر بين الموحدين الدروز بقيادة إسماعيل الأطرش وبين قبيلة ولد علي الكبيرة منعطفاً مهماً في تاريخ العلاقة بين الجانبين لأنها شهدت ذروة المواجهات ثم انتقال الفريقين بعدها إلى مصالحة طويلة الأمد اعترف فيها البدو ضمناً بأرجحية الموحدين الدروز وقبلوا بسيطرتهم على المراعي السهلية. وأحد بنود تلك المصالحة أن أصبح على البدو طلب الأذن من زعيم الدروز إسماعيل الأطرش للتمكّن من دخول الأراضي السهلية لرعاية ماشيتهم.
فما الذي جرى في تلك المقتلة الدامية ؟وكيف أدت حكمة إسماعيل الأطرش والشيخ أبو علي قسّام الحِنّاوي إلى احتواء الخطر البدوي وتأمين مرحلة مديدة من السلام والأمان لسكان الجبل؟

كانت قبيلة عنزة، وهي من قبائل البدو الرحالة بين نجد وبلاد الشام، لها السطوة على أرض سهل حوران، إذ كانت ترتاده لغرض الماء والمرعى في الصيف وتأمين المؤونة من الحبوب في الشتاء، وكان ذلك يحدث كل عام من شهر أيار وحتى شهر أيلول، يذكر المستشرق السويسري بركهاردت في كتابه “رحلات في سوريا عام 1810ــ 1812م “ إن قبيلة عنزة التي تزور سهل حوران دائماً هي “ولد علي“ وزعيماها الطيار وابن سمير”، وفي تلك الفترة كان الفلاّحون في مناطق السهل الحوراني يُجبرون على دفع الخوّات لأولئك البدو.

الشرارة: البدو يعترضون قافلة تاجر لبناني
وذات يوم من عام 1842 كانت قافلة من الباعة البسطاء من جبل لبنان على رأسها حسين العوام وهو تاجر من بني معروف كان ينتقل بتجارته من الزيت والزبيب والتين المجفف وغير ذلك من جبل لبنان إلى جبل حوران، إذ لم يكن ليتيسّر لسكان الجبل آنذاك أن يزرعوا الكروم بسبب حياة عدم الاستقرار في مجتمع تغلب عليه حياة الرعي وتقاليد الغزو البدوية، وفي الطريق قرب قرية زيزون في سهل حوران مرّت قافلة العوّام بنجع من البدو يتبع لقبيلة ولد علي وهؤلاء فرع من عنزة، وكان في ذلك النجع عشرات من المسلّحين الذين تصدَّوْا لتلك القافلة، ويذكر زيد سلمان النجم مؤلّف كتاب “أبو علي قسام الحناوي” أن عدد البدو الذين اعتدوا على العوام وصحبه كانوا نحو أربعين فارساً، وأن العوّام أبلغهم أنه يسير بتجارته في حماية بني معروف وفي وجههم،( كان هذا التعبيرــ في وجه فلان ــ بمثابة جواز سفر بالنسبة لمن ينتقل من منطقة لأخرى في ذلك الزمن، حيث لا وجود ثابتاً للدولة في تلك المناطق الريفية البعيدة عن المدن آنذاك)، فهزأوا به قائلين: “إفطن يا رجل، وجه بني معروف في ديارهم فقط، أخبرهم أننا قطعنا وجههم ونحن لا نخافهم”، وما كان منهم إلاّ أن نهبوا تجارة العوّام ومن معه، لكن ابنه الشاب قاومهم، فقتلوه، وقتلوا اثنين من الرجال الذين شاركوه ضدهم .

الشيخ الحمداني يتهرَّب
هرب من بقي سالماً من رجال القافلة باتجاه جبل الدروز ( كما كان يُدعى آنذاك)، ولما وصلوا إلى السويداء، وكانت مركز الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف حينذاك، شكوا له حالهم، فقال لهم:” أنا مالي طَوْل على أولئك القوم البعيدين، روحوا إلى اسماعيل الأطرش، هو من يزعم أنه ابن عم الدروز وحاميهم”.
وصل العوام إلى القريا حاملاً بؤسه وخسرانه، وشكا حاله لإسماعيل الأطرش الذي هبّ لسماعه شكاية الرجل المنكوب، وانطلق على رأس نحو من ثلاثين فارساً من أبرزهم الشيخ أبوعلي قسام الحناوي، وسلامة الحمود الأطرش وعثمان أبو راس وأحمد البربور وغيرهم من فرسان بني معروف المُعلَمين في القريّا.
كان العوام دليل الفرسان في سرى ذلك الليل، وعندما وصلوا بعيد منتصفه إلى غربي زيزون، تربّصوا ينتظرون بزوغ الفجر، إذ تقدمت طليعة منهم مع أول تباشير ضوء الصباح، وهناك عثروا على نجع المعتدين، حيث تعرّف العوام على دواب القافلة المنهوبة، هنا عاد أحدهم ليبلّغ أصحابه في الكمين أن الهدف المطلوب قيد التناول، فبعثوا ثلاثة من فرسانهم الأشداء يعدون بخيولهم ويتقدمونهم نُذًراً يصيحون في حي المعتدين “ الذيب بالجليب” أي ( الخطر كامن في البئر الذي تشربون منه يا قوم)، وبعد قليل تبعهم الفرسان غائرين على النجع الهاجع الذي لم يتوقع رجاله سرعة رد بني معروف على الغدر الذي كان من قبلهم أمس، فقتل منهم من قاوم المغيرين، واستعاد الفرسان الدواب وما وجدوه من بقايا المسلوبات، وساقوا ما صادفوه من إبل ومواشٍ عقاباً لهم على غدرهم بمن استجار ببني معروف.
لم يلبث محمد بن سمير شيخ قبيلة ولد علي أن علم بما حدث لجماعته، فقرر أن يثأر لهم، ونسي أنهم هم الذين اعتدوا أوّلاً. إنها تقاليد البداوة التي لا ترحم، والتي لم تزل تتوراثها الأجيال من عصور الجاهلية!!.

يوم ذبحة القريّا
أرسل ابن سمير أعوانه متنكّرين إلى القريّا ليستطلع أخبار البلدة، وشيخها اسماعيل الأطرش، وفي تلك الأيام السود من عام 1842 كان اسماعيل الأطرش غائباً عن القريّا في مهمة بعيدة إلى لبنان، إذ كان عُمَر باشا النمساوي الحاكم العثماني على جبل لبنان آنذاك، قد احتال على عدد من زعماء بني معروف بدعوتهم إلى بيت الدين وألقى القبض عليهم، وكان من أبرز هؤلاء سعيد جنبلاط وناصيف نكد وحسين تلحوق وخطار العماد وبعث بهم إلى صيدا، ومن ثم نُقلوا إلى بيروت حيث تمّ وضعهم في محرس خاص بهم ( ورد هذا في كتاب معجم حكام لبنان والرؤساء، سيرة عمر باشا النمساوي، ص 16)، ولما احتج بنو معروف على اعتقال زعمائهم بهذه المكيدة الغادرة، وطالبوا بإطلاق سراحهم، ولم يُلبَّ طلبهم ثاروا على عمر باشا وطالبوا بإسقاطه وحاصروا بيت الدين…ومن الطبيعي ألاّ يتخلّف اسماعيل الأطرش عن نجدة أبناء عمومته في لبنان، وكان هذا الغياب عن الحمى هو ما استغلّه عليه شيخ قبيلة وِلد علي، محمد بن سُمَير الذي لطالما عُرف عنه عداؤه لبني معروف، وتعاونه مع جيش محمد علي باشا ضد بني معروف الموحدين.
كان اسماعيل الأطرش قد ترك بعضاً من الرجال الأشداء في القريّا منهم: أخواه طرودي ومنصور، وآخرون من آل (الزغيّر) وهؤلاء أصلاً من آل أبو الحسن المتنيين، وغيرهم من الفرسان… وكان اسماعيل شديد الثقة بهم، لدرجة أنه عندما حذّره أحد المقرّبين منه من خطر ابن سمير في غيابه قال له :“إن بيضات حصان طرودي وحدها كفيلة برد ابن سمير عن القريّا”!.
جمع ابن سمير نحواً من خمسمائة فارس بقيادة الفحيلي، وباغت القريّا بدون نذير من جهة الجنوب، ودارت معركة دامية في الأزقة، وعلى أبواب البيوت، كانت حصيلة تلك المباغتة الغادرة اثنين وسبعين شهيداً من بينهم أخوا اسماعيل منصور وطرودي، وخمسة وعشرون زوجاً من الأخوة، وفي أحد أزقة القريّا الذي لم يزل إلى يومنا هذا يحمل إسم “ زقاق العشرة” استشهد عشرة رجال من آل الزّغيّر، وذبح البدو قاسم العبدالله ابن عم اسماعيل وأحد أشد رجاله صلابة إلاّ أنهم في عجلتهم لم يتمكّنوا من فصل رأسه عن جسده، وقد خاط المعالجون في ما بعد ذلك اليوم ما احتُزّ من لحم عنقه، وعاش قاسم بعدها وقاتل وأنجب أبناء وبنات بينما قتل من البدو المهاجمين عشرون رجلاً.
كان يوم “ذبحة القريا” يوماً كارثياً على بني معروف، ولا بد أن الشيخ الحمداني كان يدرك عندما بعث بإسماعيل الأطرش للسكن في القريّا مدى خطورة إقامة رجل قوي منافس له فيها، وهو يريد بذلك أن يتخلّص منه، إذ وضعه في مواجهة بيئة بدوية جاهلة، تعوّدت قبض الخوّات من أهل الحضر، تلك الخوّات التي كان الحمدانيّ يدفعها، لكن اسماعيل الأطرش لم يعوّد البدو عليها. وفي ما يخص يوم ذبحة القريّا لم يذكر أحد ممن روَوْا أخبار الحادثة في تلك الأيام أن الشيخ الحمداني في السويداء هبّ لنجدة القريّا، أو عمد للثأر لها في غياب رجلها القوي، اسماعيل الأطرش ومن معه من فرسان بني معروف في حملتهم لنجدة ذويهم في لبنان.

أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي
أحد-شيوخ-قبيلة-عنزة-في-مطلع-القرن-الماضي

الثأر من ابن سمير وملاحقته
بعد العودة من مهمة لبنان عمد اسماعيل الأطرش ومن معه من الرجال، وفي طليعتهم الشيخ أبو علي قسام الحناوي إلى الثأر من ابن سمير، الذي هرب بعشيرته جنوباً باتجاه بادية شرق الأردن، فلاحقوه عبرها وثأروا منه وألحقوا به هزيمة يستحقها على عدوانه في موقعة القحاطي شمالي عمّان بنحو ثلاثين كيلو متراً، وظلّوا يطاردونه بعدها في كل مكان قريب من المعمورة ينزل به مع عشيرته، وهكذا بقي ابن سمير لا يجرؤ على الاقتراب من أطراف أراضي الجبل، وضاقت به وبعشيرته البادية التي توالت عليها سنوات الجفاف، ولم يعد ذلك البدوي الفظ يجد المراعي الكافية لمواشيه ومواشي قبيلته، فأشار أحد أعيان القبيلة عليه وعلى أمّه (وكانت الأم امرأة صاحبة رأي وقرار في القبيلة، وتدعى الخطيبة) أن يذهبا إلى الشيخ أبوعلي قسّام الحناوي، ويكلّفاه بالتوسط لدى الشيخ الأطرش (كان الشيخ الحناوي نسيباً لاسماعيل الأطرش الذي تزوج بأخته وسنداً قوياً له في سياسته ووقائعه).
تفكّرت” الخطيبة أم محمد بن سمير بالنصيحة مليّاً، ولم ترَ صواباً في ذهاب ابنها محمد إلى بني معروف في مساعي الوساطة تلك، وهو الذي سبق له أن غدرهم مراراً بتحالفه مع محمد علي باشا وبشير الشهابي الغدّار، الذي كان أميراً على جبل لبنان آنذاك، أو بقطع الطريق عليهم بين جبل حوران وجبل لبنان، أو بالاعتداء على مواشيهم ومزروعاتهم في جبل حوران كلّما آنس منهم غفلة أو رآهم منشغلين في مواجهة عدو خارجي.

السعي لطلب الصّلح
كان قد مضى على يوم “ذبحة القريّا” سنوات سبع، ففي عام 1849، اختارت الخطيبة (أم محمد) فارسين من نخبة فرسان القبيلة حكمةً وفروسيةً، واتجهت بهما إلى قرية سهوة البلاطة، إذ كان الشيخ الحناوي قد استقرّ بها بعد انتقاله من القريّا، وفي مضافة الشيخ الحناوي نزل الركب ومن يتبع لهم من عبيدهم، ولمّا كانت القهوة أول ما يقدّم للضيف الذي يصل إلى المضافة، فإن السيّدة الخطيبة أمسكت بالفنجان بيمناها ولم تشرب القهوة، بل وقفت مخاطبة الشيخ: “يا شيخ أبوعلي: أنا قاصدة حماك وحمى بني معروف، لي عندكم طلب، أوعدني به، واعطني الأمان أنا ومن معي”.
قال الشيخ:” اشربي قهوتك، وعليكِ أمان الله ومحمد رسول الله، وعهد بني معروف أنتِ ومن معك”.
شربت أم محمد قهوتها، بعد أن سمعت ما هدّأ من مخاوفها أن تُرَدّ خائبة في مسعاها، ثم أردفت: “يا شيخ، يا شيخ أنا الخطيبة، أم محمد بن السّمير، قاصدة حماك، عساك ترشدنا لحلّ بيننا وبين الشيخ الأطرش، والله من بعد يوم القريا ضاقت بنا ديار الله، حِنّا (أي نحن) بوجه الله وبوجهك”.
أطرق الحناوي يتفكّر برهة، ثم رفع رأسه وقال لها:” اذكري الله يا الخطيبة، ابنك خان بعادات العرب، قتل بالغدر والبوق 72 رجلاً من أهلنا في يوم القريّا، قتلهم ومن دون نذارة في بيوتهم، وعلى أبوابها، لو قتلهم بساحة الكون حسب تقاليد العشاير كان هيّناً علينا وعليكم، كنّا عقدنا رايات ودفنّا سايات
( أي: أعمال سيّئة)، لكن الغدر والبوق ما ينتسى يا أم محمد”.
كانت أم محمد تدرك طبيعة الموقف الحرج الذي وقع فيه ابنها، بل وأوقع فيه قبيلته ولم يكن أمامها إلاّ أن تعترف بجناية ابنها على بني معروف، وذلك لأن اعترافها، وغفران بني معروف لجريرة ابنها يمهّدان السبيل أمام قبيلتها للدخول بمواشيها إلى مراعي الجبل، ومحيطه، وما جاوره من سهل حوران وخصوصاً في موسم الحصاد، لقد كانت دماء الموحّدين التي سفكها ابن سمير في القريّا سبباً لمطاردته وحرمان قبيلته من المراعي الخصبة.
قالت الأم مستعطفة الرجل:”يا شيخ أبوعلي، جريمة وْلِدي كبيرة، لكن عفوكم أكبر، وأنتم بنو معروف مشهود لكم بالعفو عند المقدرة، وأنتم لها يا شيخ، وأنا واقعة في بيتك وعند حريمك”.
قال لها الشيخ: “أهلاً وسهلاً بكم يا أم محمد، بنو معروف كرام، وأهل تسامح، والشيخ اسماعيل الأطرش بيقدِّر إذا تَقَدَّر ( أي لديه رؤية حكيمة، ويحترم من يحترمه)”.
كان في كلام الحناوي ما يطمئن السيّدة بأن الشيخ اسماعيل الأطرش قد يصفح ويقبل بالصلح الذي تنشده أم محمد لقبيلتها، فتفاءلت خيراً، وشكرت له استقبالها ومن معها، وعادت إلى البادية التي قدمت منها، وهي عازمة على زيارة القريّا بعد موافقة الأطرش، ولا بدّ أن حديثاً أطول مما وصل إلينا قد دار بين الوافدين والشيخ الحناوي، فهم يدركون بحكم ما تيسّر لديهم من معلومات متداولة بين الناس في ذلك الزمن أن الحناوي هو أحد المفاتيح التي توصلهم إلى اسماعيل الأطرش بسبب العلاقات الوثقى بين آل الحناوي وعشيرة الأطارشة، والمصاهرة بين الرجلين.
قصد الشيخ الحناوي القريّا وأبلغ صديقه وصهره بزيارة أم محمد ومن رافقها إليه في سهوة البلاطة، وبما تمّ تداوله من وجهات نظر بشأن طبيعة المصالحة المرتجاة.
كان اسماعيل الأطرش يجمع الشجاعة إلى الحكمة في تصريف الأمور، وكان يدرك أن المسالمة مع عشائر البلاد والقبائل البدوية من جهة وبين الفئات الحضرية قوة تساعد الناس على العيش في حياة آمنة، وأن قومه بني معروف هم أشد الناس حاجة إلى السلام والأمن والأمان. بذلك قرر الرجلان الاجتماع في بيت سلامة الراشد، تكريماً لذلك الفارس المسيحي،”كاسب الرمحين”، كما لقّبه بنو معروف، فهو محرر الفتاة التي حاول البدويّان الهرب بها يوم الغارة على القرَيّا، وهناك تمّت استشارة ذوي الشهداء ضحايا “ذبحة القريّا” التي دبّرها ابن سمير، وبنتيجة ذلك الاجتماع أقرّ المجتمعون على القبول بالصلح الذي تقتضيه الظروف.

وفد المصالحة بين بني معروف وقبيلة وِلْد علي
ما إن وصلت أم محمد إلى مضارب قبيلتها، حتّى جمعت أعيانها، وفي طليعتهم ابنها محمد والشيخ صالح الطيّار وهو الرجل الثاني في قبيلة وِلْد علي بعد محمد بن سمير، وأبلغتهم بالذي جرى في خطوتها باتجاه طلب المصالحة مع بني معروف، فعمدوا إلى تفويضها بترؤّس وفد لم يسبق له نظير في تقاليد القبائل العربية من قبل، إذ اختارت أن يكون في وفدها كل امرأة لها طفل رضيع، وكل أنثى من الخيل والأغنام والإبل والماعز لها مولود رضيع أيضاً، واصطحبت معها ما حواه بيت ابنها محمد من أثاث وأوانٍ وأدوات طبخ القهوة من أباريق ومحماص ومبرَدة ونجر ( وهو الجرن المصنوع من ساق شجر البطم، إذ يتم تجويفه، وفي داخل ذلك التجويف يتم سحق حبوب القهوة المحمّصة)، والمهباج (أي اليد الخشبية التي تسحق بالدّق حبوب القهوة المحمصة وهو مصنوع من نوع خشب النجر ذاته)، ورافقها الشيخ صالح الطيار وعدد من أعيان القبيلة.
كانت الأم حذرة في مسعاها للصلح مع بني معروف، فاستبعدت ابنها محمد من الوفد خوفاً منها على حياته من فلتة تتجاوز مساعي المصالحة المرتجاة، ففي عنقه دماء لإثنين وسبعين شهيداً بينهم اثنان من أخوة اسماعيل، وعدد من أقربائه.

مقاتل-من-الجبل
مقاتل-من-الجبل

” قال الشيخ الحناوي لوالدة ابن سمير: لو قاتلتمونا في ساحة الكون ولم تغدروا بنا على غير عادات العشائر لكان هيناً علينا عقد الصلح لكن الغدر لا يمكن أن ينســــى  “

مشهد درامي في خيمة والدة ابن سمير
وصل وفد الخطيبة أم محمد إلى القريّا قبيل الفجر، فحطت بالرحال على البيادر إلى الشرق منها، وأرسلت بالفارسين اللذين سبق لهما أن وفدا معها إلى الشيخ الحناوي في سهوة البلاطة ليبلغاه بموافاتها إلى القريّا لإنجاز ما سبق الاتفاق عليه.
كانت السيدة قد نصبت بيت الشَّعر الخاص بشيخ القبيلة ذي الثمانية أعمدة ( وقيل اثنا عشر عموداً) والمصنوع من شعر الماعز، أقامته على عمودين فقط، وطرحت بقية الأعمدة أرضاً بحيث يبدو البيت وكأن عاصفة أطاحت به أرضاً … ومعنى هذا التصرف يشير إلى أن السيدة ووفدها يطلبون الاستجارة بحمى الشيخ اسماعيل الأطرش وبني معروف.
مع إطلالة الصباح وُضعت كافة النساء من أمّهات الرّضَّع بجانب، وأطفالهن ومن يحملنهنّ من بنات القبيلة مقابل الأمّهات بحيث يرى الصغار أمّهاتهم عن بعد، وفي ذلك ما فيه من عويل وصراخ الصغار الذين يطلبون أمّهاتهم، وكذلك فعلت بإناث الخيل والإبل والأغنام والماعز وفصلتها عن مواليدها، وما بين بكاء الصغار يطلبون أمهاتهم، وحنين النوق إلى صغارها، وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام وكلها تسترحم، الأمّهات، والأُمّات تطلب صغارها، والصغار يطلبون أمهاتهم وأُمّاتهم، هنا يحن الإنسان مهما قسا قلبه إلى إنسانيته الأولى التي فطره الله تعالى عليها، فيغفر ويصفح.
وتتمة لهذا الترتيب دخل الشيخ صالح الطيّار إلى بيت الشعر المكسوح، وربط حبلأً من المَذيع برقبته ( حبل المذيع شديد المتانة مصنوع من شعر الماعز ووبر الإبل)، وشدّه إلى يده اليمنى وربط نهايته بكاسر البيت (أي العمود الرئيسي الذي يرتفع عليه بيت الشعر الذي يتخذه البدو مسكناً)، وأخذ يدق القهوة بالمهباج وهو مشدود إلى الحبل.
إزاء هذا الاستعطاف المثير يكتسب الموقف الدرامي العجيب حالة تستدعي حلاً إنسانيّاً أرادته (الخطيبة)، أُمّ الشيخ البدوي، محمد بن سمير، مرتكب جريمة “ذبحة القريّا “ بحق بني معروف.

إسماعيل الأطرش يستطلع الأمر
لم يلبث أن وصل نبأ المستجيرين إلى اسماعيل الأطرش ولا شكّ أنه كان على علم بالبادرة من صديقه الحنّاوي، فأرسل رجالاً من قِبَلِه يستطلعون طبيعة الموقف، ويدعون القادمين إلى ضيافته، وكان الضجيج الذي أحدثته مسرحية الخطيبة قد علا بحيث وصلت أصداؤه إلى القرية القريبة.
دُهش رجال الشيخ اسماعيل للمشهد المثير الذي لم يسبق أن شوهد مثله في تقاليد البوادي العربية، دخل كبيرهم بيت الشّعر المكسوح، وفوجئ بالرجل المشدود إلى حبل المذيع وهو يدق القهوة بالمهباج بيده المربوطة بالحبل، وحوله الرجال القادمون بصحبة السيدة الخطيبة أم محمد، حيّره ذلك الترتيب غير المسبوق، لكنه لم ينسَ المهمة المكلّف بها من قبل من أوفده، الشيخ اسماعيل، فوجّه إليهم الدعوة لمضافته، فأجابه الطيّار “بعد ما تجهز قهوتي نلبّي دعوة شيخكم”.
فهم الرجال أن في الأمر استجارة وتدبيراً يريده الوافدون، لكن كلام المستجير كان ينطوي على قدر كبير من التدلّل الذي يتنافى مع طبيعة وضعه كطالب حماية، ولم يشأ رسل الشيخ تكدير المستجير، فعادوا إلى شيخهم، وأبلغوه بالذي جرى، فأرسل مجموعة من أقربائه للتيقّن مما يحدث، وليؤكّدوا على دعوته إليهم للقدوم إلى ضيافته، لكنه قام بنشر رجاله بأسلحتهم في مواقع متفرّقة على تخوم القرية وعلى أسطح المنازل، وأمرهم بالإكثار من المتاريس الفارغة على تلك السطوح ليوحوا بالكثرة أمام الوافدين، ولبعث الهيبة في النفوس، ورتّب مجموعة من الفرسان المسلّحين بالبنادق والسيوف والرماح على مدخل القريّا من جهة دخول الوفد إليها.
عندما وصل مبعوثو اسماعيل إلى وفد ولد علي، وكان المشهد على حاله الأولى من التوتر والانفعال، أكدوا للطيّار دعوة شيخهم لاستضافته، فقال لهم الرجل الذي لم يزل يضرب بمهباجه في النجر:” لو كان الشيخ الأطرش موجوداً كان جانا بذاته وسايل عن دخيله”، رجع الرجال إلى حيث أتَوْا، وأخبروا شيخهم بما قاله الرجل، فقال:” لا حول لا قوّة إلاّ بالله، وبه المستعان”، ثم انطلق وخلفه كوكبة من فرسان القريّا نحو خيمة الدخيل، وهناك كان حشد القادمين على حاله من الهيجان العاطفي من بكاء الصغار شوقاً لأمهاتهم، وحنين النوق وصهيل الأفراس وثغاء الأغنام طلباً لصغارها.
شعر الشيخ اسماعيل بجدّية الموقف، وأحس بأن واجبه الأخلاقي يدعوه لوضع حدٍّ لما يجري، دخل خيمة المستجيرين، وحيّاهم بتحية الإسلام فنهض الشيخ الطيار بوثاقه ورد بالسلام، وقال للشيخ الأطرش:” فكّ لي حبل المذيع يا شيخ أبو محمد، وابدأ بكاسر البيت”.
تقدّم الشيخ اسماعيل من كاسر البيت وفك الحبل، وتابع، ففك الحبل من عن يد الرجل وعنقه، وهنا علت زغاريد النساء وفي تلك اللحظات تقدّمت الخطيبة أم محمد وأمسكت بذيل عباءة الشيخ اسماعيل قائلة له:”عفّ عنّا يا شيخ أبو محمد، ترانا اليوم بحماك وجيرتك، وجيرة بني معروف، أنا الخطيبة أم محمد بن السّمير، وهذا الشيخ صالح الطيار، شيخنا وكبيرنا ومشيرنا”.
أجابها الشيخ اسماعيل:” أهلاً وسهلاً بكم جميعاً، وتفضلوا معنا إلى المضافة”.
هنا اجتمعت الأمهات بأطفالهن، والأمّات بصغارها، وفي حمأة هذا الخطاب كان قد وصل الشيخ أبو علي قسّام الحناوي وحوله مجموعة من فرسان السهوة، وشهد كلام الخطيبة ودعوة صهره الشيخ اسماعيل للوفد إلى ضيافته، ومن ثم انطلق الجميع إلى القريّا المتأهبة كما رتّبها رجلها الألمعي، بعد أن تركوا ما جلبوه من ماشية في عهدة رعاة منهم…
كان الشيخ اسماعيل قد أمر بنصب عدد من بيوت الشعر إلى الغرب من بركة القريا لاستقبال وفد المصالحة من ولد علي، فمضافة الشيخ لا تتسع لهذا الحشد من البشر الذي أعدّته الخطيبة.
لما وصل المدعوون توسطوا الساحة بين بيوت الشعر المنصوبة والعمد القديم. أمام أولى درجات المدرّج الروماني وقف الشيخ اسماعيل وإلى جانبه الشيخ الحناوي ومعهما أعيان القريّا، ولم تذكر الروايات أن الشيخ الحمداني الأكبر في السويداء كان حاضراً مما دلّ على تعمق الخصومة والمنافسة على الزعامة بين الرجلين القويين.

ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها
ابن-سمير-هاجم-القريا-غدراً-على-رأس-خمسمائة-فارس-وقتل-40-من-خيرة-أبنائها

” تقدّم الشيخ إسماعيل الأطرش وفكّ الحبل من رقبة الشيخ الطيار وسط زغاريــــد النساء ثم دعا الجــميع إلى المضافة  “

والدة ابن سمير تعترف وتستجير
في مقابلهم وقف وفد “ كدّة وِلد علي،( الكدّة في لهجة البدو وجنوب سوريا تعني الوفد القادم بغرض ما)”، تقدّمت الخطيبة أم محمد خطوات باتجاه الشيخ اسماعيل ومن حوله، وخاطبته بصوت مرتفع أسمَعَ من المحفل، قالت:” يا شيخ أبو محمد، شينة وْلِدِي يتيمة بين العربان( تقصد أن ابنها محمد ارتكب فعلاً شائناً لا نظير له)، وحِنّا(أي نحن) اليوم سُقنا لك كَدّة يتيمة من نوعها، ولا صار مثلها لغيرك، ولا يستحقّها بين الناس إلاّ أنت، وها الحين صرنا بحماك وحمى بني معروف، جيناك بحالنا ومالنا وعيالنا، طامعين بعفوك وكرمك، واللي يَسَّر علينا طلب العفو منك نسيبك الشيخ الحناوي”.
كان الشيخ الأطرش لم يزل واقفاً مع من حوله يصغي لكلام السيدة، التي ما إن أنهت كلامها حتى أجابها:” نحمد الله يا الخطيبة، نحنا(نحن) جينا ها البلاد، وعمّرنا خرابها، وزرعنا أرضها، وحمينا حدودها، ونحنا بإذن الله ما نعتدي على أحد، والصلح سيّد الأحكام يا إخواننا”، ولوّح بيمناه وبكفّ مفتوح باتجاه الوفد من وِلد علي، وفي تلك اللحظة عَلَتْ زغاريد النساء، وانهالت الدعوات بطول العمر للشيخ اسماعيل وللشيخ الحناوي وتقدم المصوّت، وهو رجل بدوي من وفد الخطيبة يتبعه ثلاثة رجال من خلفه أحدهم يحمل رمحاً ثُبّتت تحت سنانه راية بيضاء كما يُثبّت العلم، وهي عبارة عن قطعة مستطيلة من قماش الشاش، بعرض متر وطول مناسب بحيث يتّسع للعديد من العقد على عدد الشهداء القتلى، وإذ يعقد وليُّ المقتول عقدة بيده، فإن هذا معناه في تقاليد العرب أن لا مطالبةة بعدها بثأر أو دِيَّة، لأن ذلك قد حسم أمره مع المصالحة وما سبقها من تسويات، ولا تراجع بعد ذلك. ونادى المصوّت بأعلى صوته:” أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، من عفا وأصلح فأجره على الله. اشهدوا يا أهل الحميّة، ضيوف ومحلّية، الراية البيضا المبنية للشيخ اسماعيل الأطرش وأهل القريا بيّض الله وجههم، وللشيخ أبوعلي قسام الحناوي وسيط الخير” وبعد عبارات من الثناء والإطراء على موقف الشيخ اسماعيل وأهل الشهداء من أهالي القريا وعلى موقف وسيط الخير الشيخ الحناوي، تقدم حامل الراية من الشيخ الأطرش الذي عقد الراية عن دم أخويه طرودي ومنصور وأبناء عمومته وأقاربه وكافة شهداء ذلك اليوم، إذ كان أعيان القريا قد فوّضوه بعقدها نيابة عن سائر أولياء دم الشهداء الضحايا في يوم “ذبحة القريّا”، فكانت عقدة واحدة عن دماء الاثنين والسبعين شهيداً، ثم أوعز لحامل الراية أن يناولها للشيخ الحناوي ليعقدها باعتباره كفيل المصالحة. وبعد أن عقد الشيخ الحناوي الراية أمر حاملها أن يذهب بها إلى الخطيبة والشيخ صالح الطيار باعتبارهما الممثلين الرئيسيين لقبيلة “ولد علي” وأولياء دم قتلاهم.
بعد هذا الصلح المشهود، وقد كانت الخطيبة أم محمد قد أمرت بإعداد وليمة عظيمة لأهل القريّا وللمدعوين من بني معروف من أنصار الشيخ الأطرش، ولمن هم في وفدها، قُدّم الطعام الذي شارك الجميع من الجانبين في تناوله كأسرة واحدة، وعلى أثر ذلك اليوم الذي ظل حديث الحضر والبوادي لسنين مديدة، ولم يزل ذكره إلى يومنا هذا، عادت الخطيبة ومن رافقها تحمل راية بالمصالحة عن دماء اثنين وسبعين شهيداً من بني معروف، وبذلك اليوم أصبحت الطريق مفتوحة أمام قبيلة ولد علي لدخول مراعي الجبل وما حوله على أن يكون ذلك الأمر بعد أخذ الإذن المسبق من الشيخ الأطرش، وهو الإذن الذي لم يعد عليه اعتراض، وقد استمر مفعول تلك المصالحة لفترة غير قصيرة بعد ذلك اليوم التاريخي.

قصة من جبل العرب

قصة بطولة من جبل العرب

نايـف العاقـل
ومعركـة مرصـد جبـل الشيـخ

اعتبرها المحللون أجرأ عملية عسكرية وأهم هزيمة للدولة العبرية في حرب تشرين

الخبراء الروس ساعدوا في تدريب كتيبة النخبة ودخلوا إلى المرصد لوضع اليد على تجهيزاته السرية

نايف العاقل: استذكرت في لحظات الهجوم بطولات أجدادنا في موقعة الكفر ضد الفرنسيين

على الرغم من أن إسرائيل تمكّنت في حرب تشرين 1973 من استيعاب صدمة الهجوم العربي المباغت، بل وتحسين مواقعها السابقة، فإن الحرب العربية نفسها مثلت جهداً هائلاً وأظهرت قدرة العرب على تطبيق استراتيجيات وتكتيكات بارعة في الهجوم. ومن بين الإنجازات الكبرى التي دخلت العلم العسكري اجتياح الجيش المصري لخط بارليف على الضفة المحتلة من قناة السويس والذي كان يعتبر سداً لا يمكن قهره أو اجتيازه من أي جيش بسبب الحاجز المائي المتمثل بقناة السويس نفسها والتحصينات الرملية والدفاعات الضخمة التي كانت تحميه.
على الجبهة السورية كان تحرير القوات السورية الخاصة وقوات المظليين من الفرقة 82 لمرصد جبل الشيخ أيضاً من أبرز منجزات تلك الحرب لأنها أسقطت موقعاً في غاية التحصين تدعمه خطوط خلفية إسرائيلية والقوة الهائلة للجيش الإسرائيلي، ولهذا السبب شكّل سقوط موقع جبل الشيخ صدمة كبيرة لإسرائيل وكان من بين الأحداث التي كتب فيها خبراء عسكريون إسرائيليون ودوليون تحليلاً لما اعتبر يومها تقصيراً وهزيمة مذلة.

الأهمية الاستراتيجية للمرصد
أحد أهم أسباب الصدمة الإسرائيلية لم تكن فقط السرعة التي تمت بها عملية السيطرة على قمة الجبل المحصنة بل الأهمية الاستراتيجية للموقع الذي يقع على إحدى القمم الاستراتيجية المشرفة على فلسطين المحتلّة والأردن وجنوب سوريا حتى بادية الشام، وقد استخدم المرصد من قبل إسرائيل بعد حرب 1967 كرادار رئيسي بسبب موقعه الاستراتيجي واستخدمت في المرصد أحدث التجهيزات الإلكترونية وتقنيات كانت تعتبر يومها أسراراً عسكرية بالغة الحساسية. وقد بنت إسرائيل طريقاً ضيقاً وحيداً إلى المرصد كما بنت مصعداً للتزلج يربط المرصد بموقع عسكري أكبر في سفح الجبل.
كان مجمع الرادار والمراقبة يعتبر حيوياً لإسرائيل لأنه يعمل كمحطة إنذار مبكر وكقاعدة لجمع معلومات فورية ويستخدم في عمليات التشويش الإلكتروني على اتصالات الجيش السوري كما أنه يستخدم كموقع لتوجيه المدفعية في عمليات قصف الهضبة السورية التي تمتد تحته إلى مسافات بعيدة وذلك دون حاجة لاستخدام الطائرات،. كما كان الجبل موقعاً مثالياً للقيام بعمليات التفاف على أي هجمات محتملة فضلاً عن أنه قاعدة حماية لأهم موارد إسرائيل المائية في بحيرة طبريا.
وكان المرصد يتألف من ثلاث طبقات: طبقتان فوق الأرض تحتويان على نقاط المراقبة والدفاع والتجهيزات الإلكترونية الحساسة وطبقة سفلى (تحت الأرض) تستخدم كمركز للقيادة وكمستودعات للذخائر ومؤن الغذاء والمياه، وكانت الأقبية تتصل بأنفاق سرّية بعضها مموه ويقود إلى خارج المجمع والبعض الآخر متصل تحت الأرض بمواقع الحراس ونقاط وأبراج المراقبة في المبنى.
لهذه الأسباب، وبسبب التحصينات الضخمة فإن المرصد كان عصياً على أي هجوم من الجو أو هجوم مدفعي وكان أي هجوم أرضي يسعى لاقتحامه بأسلوب الكوماندوس مغامرة شديدة الخطورة ومكلفة للغاية بسبب طوق الحماية وحقول الألغام والعوائق التي كانت تجعل من المستحيل احتلال المبنى العسكري الضخم إلا بإجتياز الساحة الأمامية المكشوفة واقتحامه عبر مداخله. رغم ذلك، فإن صعوبة المهمة أدت إلى تركيز القوات السورية والخبراء الروس الذين كانوا يعملون معها على تكوين قوة نخبة شديدة البأس وتدريبها تدريباً عالياً واتباع تكتيكات جديدة في شنّ الهجوم المنسق المروحي والأرضي، إضافة إلى عملية تمويه الهجوم حتى اللحظة الأخيرة نظراً إلى أن الإسرائيليين كانوا يشرفون من المرصد على السفوح التي تجمعت فيها قوة الهجوم وكان في إمكانهم أن يتابعوا ويقيّموا ما يحصل على الجانب السوري.
لكن على الرغم من حجم قوة الكوماندوس السورية التي نفذت الهجوم ومشاركة ضباطها وافرادها في الاقتحام فإن الملازم نايف العاقل تميّز في ذلك الهجوم بسلوك بطولي وبدرجة عالية من المبادرة والشجاعة ودقة الهجوم مع مجموعته على مداخل المرصد بما اعتبر بعد ذلك عاملاً أساسياً في نجاح المرحلة الأكثر دقة وخطورة من الهجوم وهي الاقتحام الأرضي للمرصد وتدمير الدفاعات وأعشاش الرشاشات التي كانت ترمي المهاجمين بكثافة وتمكّنت لبعض الوقت من وقف الهجوم. وقد اعترفت الدولة السورية يومها بهذا الدور عبر منح الملازم العاقل وسام بطل الجمهورية وترقيته إلى نقيب، وكان العاقل الضابط الوحيد من المشاركين في الهجوم الذي حاز على ذلك التكريم، علماً أن بطل اقتحام مرصد جبل الشيخ عاد وأنجز خدمات عسكرية مرموقة في صفوف القوات السورية حتى تقاعده كعميد وهو يقيم حالياً في قريته في أم الرمان.
ما هي قصة اقتحام مرصد جبل الشيخ واحتلاله من قبل القوات السورية الخاصّة والفرقة 82 في حرب تشرين؟ وما هو الدور الذي لعبه الملازم (يومها) في القوات الخاصة نايف العاقل في عملية الاقتحام ثم صدّ الهجمات المضادة الإسرائيلية وكيف عاش تلك التجربة المثيرة مع رفاقه من أبطال الهجوم؟

مع-الملازم-عزت-المشكاوي-أمام-المرصد-المحرر
مع-الملازم-عزت-المشكاوي-أمام-المرصد-المحرر

” إلتفت الملازم نايف العاقل إلى النقيب الخير قائلاً: «إمّا أن نموت أو نهجم» ورفع ذراعه إلى الجنــود المتحصـنين وأعطــــى الأمر بالهجــــوم  “

تحضير طويل للعملية
يذكر العميد نايف العاقل (المولود عام 1949) أنه وفي نهاية دراسته في الكلية الحربية جرت عملية تقييم لطلاب الضباط في الكلية وتمّ اختيار حوالي 100 طالب ضابط من بينهم نايف العاقل ليكونوا نواة لقوة نخبة يناط بها تنفيذ مهمات خاصة وصعبة في الحرب، وقد أخضع العاقل ورفاقه لتدريبات شاقة تناولت القفز بالمظلات والقتال الجبلي والليلي ثم نقلت الكتيبة إلى منطقة جبلية في شمال سوريا وأخضع العناصر هناك إلى تدريبات بالذخيرة الحيّة- لعدة شهور اشتملت على عمليات إقتحام أهداف جبليّة محصّنة، وكانت طبيعة التدريبات القاسية وإشراف الخبراء العسكريين الروس ودرجة القسوة وتركيز التدريبات على محاكاة هجوم شامل على مواقع محصنة وجبلية تشي بأن المجموعة يتم إعدادها لتنفيذ مهمة كوماندوس تحتاج إلى مستوى عال من التأهيل والشجاعة والمهارة العسكرية، لكن السرية التي أحيطت بها المهمة وكذلك قرار حرب أكتوبر أبقيا الغموض محيطاً بالهدف إلى أن أزفت ساعة الصفر أو ما قبلها بقليل.
تمويه الهجوم
وقد جاءت اللحظة المنتظرة عندما تمّ نقل مجموعة «المغاوير» العالية التدريب إلى القمة المقابلة للمرصد المحتل في أعالي جبل الشيخ –حرمون، بذلك أصبحت المجموعة أقرب ما يكون إلى العدو وعلى بعد نحو ستة كيلومترات من المرصد المحتل.وقد تمكّنت القوات المهاجمة من التمركّز واستكمال استعداداتها دون أحداث استنفار بين صفوف الإسرائيليين الذين كانوا يراقبون تلك التحركات لكنهم فشلوا في النظر إليها كمقدمة لعمل عسكري جريء وحاسم.
أيقن نايف العاقل أنه وفرقة النخبة التي كان ضابطاً فيها لا بدّ مقبلون بعد قليل على حدث كبير، وهو يذكر انه ذهب قبل أيام من الحرب برفقة جابر ديب، وهو ملازم صديق له، من محافظة طرطوس، إلى دمشق يخالجهما شعور أنهما قد لا يعودان إليها وقد حرص الرجلان على أخذ بعض الصور للذكرى، علّ من يبقى على قيد الحياة يذكر الآخر. كانت هذه هي الحالة المعنوية لدى المغاوير السوريين قبل ايام قليلة من بدء الهجوم الصاعق على الموقع الاستراتيجي الإسرائيلي.

ساعة الصفر
في مساء 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 تلقت المجموعة أمر المهمة الموكولة إليها وهي اقتحام المرصد الإسرائيلي والقمم المرتفعة وأبلغ الجنود المترقبون بأن الحرب ستبدأ فعلاً في اليوم التالي (وكان يوم سبت كما أنه كان يصادف عيد الغفران اليهودي) لكن دون تحديد ساعة الصفر. كان أمر القتال مختصراً بالنسبة لمهمة غير عاديّة بنظر أولئك المقاتلين الشبّان، لكن الخطة بسيطة ومستوحاة من تكتيكات الحرب الفييتنامية التي تقضي عند الهجوم على أهداف شديدة التحصين بتمهيد مدفعي كثيف يتبعه تركيز مواقع حماية يتم إنزالها بالمروحيات لقطع طرق إمداد العدو ثم دفع موجات اقتحام متتالية من المقاتلين الشديدي البأس، بحيث إذا فشلت المجموعة المهاجمة أو أبيدت يتم زجّ مجموعة أُخرى، إلى أن يتم تحقيق الهدف. ويتميز ذلك التاكتيك بأنه يعتمد على المباغتة والسرعة والروح القتالية العالية وفعالية المهاجمين وليس على القوة التدميرية لأن الموقع كان شديد التحصين وقد جرى تنبيه المجموعة الى أنه توجد في المرصد الهدف أجهزة ومعدّات للعدو على غاية كبيرة من الأهمية، يجب الحفاظ عليها وعدم تدميرها.
طبقاً لأمر القتال انتقلت الكتيبة من خراج بلدة عرنة إلى موقع المرصد السوري الصديق وعلى مسافة نحو ثلاثة كيلو مترات من المرصد المحتل وكان المطلوب أن يتم الأمر قبل فجر اليوم التالي الذي كان قد حدّد للمعركة.

الوسام
الوسام

مسار القتال
بدأت معركة تحرير مرصد جبل الشيخ بقصف جوي مركّز للمرصد المعادي، وتلا ذلك رمي كثيف من قبل المدفعية على الموقع ذاته. وتحت ستار القصف العنيف قامت ثلاث مروحيات بالهبوط غرب المرصد من جهة العدو وأنزلت مجموعة مقاتلين بقيادة الملازم أول أحمد جوجو كانت مهمتها إطباق الحصار على القوات المعادية في المرصد وتأمين الحماية لقوة الاقتحام. وكان من المقرّر أن تقوم مروحية أُخرى بإنزال عناصر دعم على المرصد ذاته، غير أنّ هذا لم يتم بسبب النيران السورية الكثيفة على الموقع في نطاق التمهيد المدفعي.
كانت المجموعات المكلّفة بالاقتحام قد تقدّمت باتجاه الهدف تحت غطاء القصف الجوّي ونيران التمهيد المدفعي، إلا أن نقص الاوكسيجين على ارتفاع أكثر من 2600 م فوق سطح البحر مثّل صعوبة أساسية لأن الهجوم كان راجلاً ولأن المقاتلين كانوا يحملون عتاداً وكان عليهم التقدم والتحرك بسرعة، كذلك كانت التّحصينات الكثيفة التي شيّدها العدو حول المرصد والألغام المزروعة في محيطه بالإضافة إلى الأسلاك الشائكة تجعل من المستحيل دخول ذلك الموقع إلاّ عن طريق المدخل الرّئيسي المكشوف والمحمي جيداً من قبل العدو.
استغرق وصول المقاتلين إلى أمام ساحة المرصد بقيادة النقيب محمد الخيّر نحو ثلاث ساعات، ورغم التمهيد المدفعي المساند فقد كان الإسرائيليون قد أدركوا أنهم يتعرضون لهجوم مباشر فألقوا بكل قوتهم النارية في محاولة وقف الهجوم فسقط عدد من المهاجمين وأصيب آخرون، وكانت لحظات حرجة إذ أدركت القوة المهاجمة أن العدو متحصن بقوة وأنهم يمتلكون قوة نار كبيرة، وبات الأمر المهم هو اتخاذ قرار حاسم يساعد في حسم المعركة بسرعة لأن استمرار المناوشات سجالاً أي دون اختراق سريع سيسمح للإسرائيليين باستقدام تعزيزات تمكّنهم من إحباط الهجوم وربما تطويق القوات المهاجمة وتصفيتها أو أسرها.
التفت الملازم نايف العاقل إلى النقيب محمد قائلاً: «إمّا أن نموت أو نهجم» ورفع ذراعه إلى الجنود المتحصنين آمراً بالاقتحام، واندفع تحت رشق الرصاص المعادي عبر المدخل نحو ساحة المرصد باتّجاه المبنى والدشم المحصّنة التي تصبّ نيرانها على المقتحمين صائحاً : « الله أكبر، الحياة وقفة شرف! الشهادة أو النصر»، واندفع المقاتلون خلفه، نحو مئة وخمسين مقاتلاً اندفعوا بسرعة كبيرة يقتحمون بنيرانهم وأجسادهم الدشم المعادية التي تصليهم بنيرانها. وقد فوجئ الإسرائيليون بسرعة الاقتحام وبكثافة القصف المدفعي فتركوا نقاط المراقبة وهبطوا عبر الممرّات السريّة إلى الطابق السفلي تحت الأرض من مبنى المرصد، واحدة فقط من تلك الدشم بقيت صامدة، أوقعت في المقتحمين عدداً من الشهداء والجرحى، تناول نايف قاذف الآر بي جي من المقاتل شحاذه القاسم وسدّد على نافذتها التي تطلق النار ورماها فدمّرها تماماً، وبدا بعد قليل أن مقاومة المدافعين تراجعت رغم استمرار إطلاق النيران فركض الملازم نايف بإتجاه السارية التي يرفرف فوقها العلم الإسرائيلي، تسلّقها، قطع علم العدو بحربته وتناول العلم العربي السوري ورفعه مكانه، وانتقل المهاجمون فوراً إلى استكمال عملية الاقتحام وتطهير الموقع وكانت تلك عمليّة بطوليّة أُنجزت في وقت قصير وكانت من أشهر العمليات العسكرية التي حصلت في إطار حرب تشرين 1973. وما زال نايف العاقل يذكر كيف كان يسترجع في تلك اللحظات التاريخية بطولة الاجداد في معركة الكفر والمزرعة والبطولات الأسطورية التي سجلت فيها.
كان المقتحمون قد أسكتوا النار المعادية في المرصد، هذا من حيث ظاهر الأمر، لكنّ جنود العدو الذين لم يقتلوا في المجابهة اختبأوا خلف الأبواب الفولاذية من المبنى العميق وتوزّعوا في مجموعتين على عدد من الأنفاق والغرف السفلية المتصلة بالأنفاق، وأجرى الإسرائيليون في اليومين التاليين محاولات عدة للفرار نحو المواقع الإسرائيلية في أسفل التلة عبر مخارج سرية للأنفاق، لكن تلك المحاولات أفشلت عندما اكتشفت قوات الحماية السورية التي كانت قد أنزلت بواسطة المروحيات السورية في التلال المطلة على المرصد وقد قتل عدد من الجنود الفارين وجرح بعضهم كما تمّ أسر البعض الآخر. في صباح اليوم الثاني حاول العدو في الساعات المبكرة ارسال قوة من لواء جولاني المشهور بهدف استرجاع المرصد لكن يقظة المجموعة المتمركزة غرب المرصد بقيادة الملازم أول احمد الجوجو ساعدت في إفشال العملية والقضاء على المهاجمين بالكامل.

مع-سلطان-باشا-الأطرش-الذي-هنأه-ورفاقه-على-إنجاز-جبل-الشيخ
مع-سلطان-باشا-الأطرش-الذي-هنأه-ورفاقه-على-إنجاز-جبل-الشيخ

وتمكّنت القوات المهاجمة في ما بعد وبالصدفة من اكتشاف عدد آخر من الجنود الإسرائيليين المختبئين في أقبية المرصد وتمّ أسرهم، كما تمّ أسر عدد آخر عندما خرجوا من مخابئهم الحصينة بسبب اعتقادهم خطأ أن قوات لواء جولاني قد وصلت إلى المكان لإنقاذهم ليفاجأوا بأن القوات المتمركزة حول المرصد وفي الجبل عموماً كانت سورية بالكامل. وتمت ملاحقة الجنود الهاربين في السراديب واستخدمت مكبرات الصوت لتوجيه نداءات تدعو الإسرائيليين إلى الإستسلام، وتمّ تفجير الأبواب الفولاذية كما استخدم الجيش السوري قنابل دخانية تسربت بكثافة إلى داخل السراديب في الطابقين السفليين للمرصد وقد ذعر الإسرائيليون بسبب الدخان الخانق وظنوا أن السوريين يستخدمون غازات سامة، فخرج البعض مضطرين وسلموا أنفسهم للقوات المهاجمة.
وبمجرد السيطرة على المرصد حضر ضباط وفنيون من الخبراء الروس واطلعوا على التجهيزات المتقدمة للموقع وبدأوا على وجه السرعة بتفكيكها ونقلها إلى الخارج وكانت المعدات الإسرائيلية غنيمة مهمة وضع الروس يدهم عليها واستفادوا منها كثيراً في معرفة تقنيات الرصد والإتصال والبنية العملياتية للجيش الإسرائيلي.

” عمليات تطهير ومطاردة للإسرائيليين في أقبية المرصد وممراته الســـــرية”

عدد-من-جنود-العدو-الذين-تم-أسرهم-خلال-العملية
عدد-من-جنود-العدو-الذين-تم-أسرهم-خلال-العملية

هجوم إسرائيلي مضاد
كان لسقوط موقع جبل الشيخ في يد القوات السورية وقع أليم جداً على القيادة الإسرائيلية لأنه افقدها ما كان القادة العسكريون يعتبرونه «عين إسرائيل» وهذا بسبب أهمية الموقع في المتابعة اليومية والاستخبارية لتحركات القوات السورية من الجولان وحتى ما بعد دمشق. وكتب المحلل الإسرائيلي أبراهام رابينوفينتش في كتاب أصدره عام 2005 عن حرب «يوم كيبور» أن خسارة إسرائيل لموقع جبل الشيخ كانت أكبر هزيمة عسكرية مذلّة تعرضت لها في حرب يوم الغفران، أو حرب اكتوبر كما يسميها العرب. وكتب والتر بوين قبل ذلك مستنكراً درجة الإهمال والضعف التي أظهرها الإسرائيليون في مواجهة الهجوم السوري المنسق وأشار بوين بصورة خاصة إلى أنها كانت المرة الأولى التي يفر فيها قائد وحدة مدافعة إسرائيلية من الجبهة بينما كانت قواته تخوض مواجهة يائسة للدفاع عن الموقع في وجه الهجوم السوري المباغت.
لهذه الأسباب، تحول استرداد موقع جبل الشيخ إلى مسألة حيوية وذات أولوية قصوى للإسرائيليين، وقد ساعدت انتكاسة الهجمة المصرية في قناة السويس وبدء مفاوضات الخيمة 101 للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار والتي نسقها اليهودي الأميركي هنري كيسنغر على توفير معظم القوة العسكرية الإسرائيلية التي كانت تقاتل على الجبهة المصرية وبالتالي تحويل طاقة نيرانها بالكامل إلى الجبهة السورية. لكن على الرغم تركيز القوة الإسرائيلية كل جهودها على جبهة جبل الشيخ فإن محاولاتها الأولى ما بين يومي 8 أكتوبر و20 منه باءت جميعها بالفشل، وتمكنت القوات السورية التي كان قد جرى تعزيزها بقوات جديدة وبقوات حليفة عراقية ومغربية بصورة خاصة من صدّ الهجمات المتكررة التي شنها جيش الدفاع الإسرائيلي لاسترجاع الموقع، واعترفت إسرائيل لاحقاً بأنها خسرت في محاولات الهجوم المضاد الأولى مئات القتلى والجرحى بسبب الكمائن السورية والعربية واستماتة القوات المدافعة في صدّ الهجمات.
إلا أن إسرائيل التي كانت تتمتع بتفوق جوي تام جرّاء التقنيات الأميركية التي تمّ تزويدها بها أعادت الكرّة يومي 21 و22 أكتوبر من العام 1973 ودفعت بقوات ضخمة من المشاة وقوات المظليين والمدرعات المدعومة بغطاء جوي كثيف لإنجاز المهمة خصوصاً بعد أن أبلغ كيسنغر تل أبيب بأن قراراً بوقف إطلاق النار بات وشيكاً، وهو ما جعل الإسرائيليين يلقون بكل قواهم في محاولة إحداث تغيير على الأرض قبل التوصّل إلى القرار المذكور.

حرب-6-أكتوبر-1973-على-جبل-الشيخ
حرب-6-أكتوبر-1973-على-جبل-الشيخ

 

 

أصابة الملازم العاقل
كانت القوة المدافعة بقيادة الملازم أول أحمد رفاعي الجوجو تتصدى للهجوم، لكنّ الوضع القتالي كان غير متكافئ إذ كانت القوات المدافعة وكذلك القوات القادمة للمساندة مكشوفة لضربات الطيران، وكان مقاتلو الوحدات الخاصة المشاة ورغم مستوى تدريبهم العالي يقاتلون بالأسلحة الفرديّة والأسلحة المحمولة المضادة للدروع والهاونات.
طلب الملازم نايف العاقل من قائد الكتيبة الإذن بأخذ مجموعة من المقاتلين لدعم مجموعة الملازم أول الجوجو التي تواجه الهجوم المعادي. وكانت المجموعتان أصبحتا القوة السورية الرئيسية في مواجهة العدو التي بدأت تتخذ طابع حرب شرسة من مسافات قريبة لا تزيد على عشرات الأمتار. وقد فعلت الآر بي جي فعلها في الدروع المعادية، وكان المقاتل سعيد بدّور يحمي ظهر الملازم نايف وهو يتصدّى مع رفاقه للدبابات المهاجمة، ويذكر الأخير أنه فوجئ بقائد فصيلة إسرائيلية يندفع أمام جنوده في هجوم على القوات المدافعة عن المرصد وقد قذفه نايف بقنبلة يدوية فقتله.

المنطقة-المنزوعة-السلاح-بين-سوريا-والجولان-المحتل
المنطقة-المنزوعة-السلاح-بين-سوريا-والجولان-المحتل

البطل ينزف واقفاً
حصلت تلك المعركة الكبيرة في اليوم الثالث عندما دفع العدو بقوات كبيرة من لواء جولاني في محاولة لاسترجاع المرصد وقد تمّ إفشال الهجوم إلا أن رصاصة أصابت بندقية الملازم نايف العاقل فعطلتها كما أصابت رصاصة يده فحطمت أصابعه واستقرت رصاصة أخرى في خاصرته، لكن رغم إصابته البليغة طلب العاقل من قائد الكتيبة (اللواء المتقاعد حالياً) سليمان الحسن على اللاسلكي أن يرسل له بندقية عوضاً عن تلك التي تعطلت، لكن الضباط الذين كانوا يشرفون على معارك صد الهجوم وجدوا أن حال الملازم العاقل لم تكن تسمح بمواصلة القتال، فتقرر العمل على نقله إلى أقرب مستشفى ميداني. وبالفعل تولى عنصران من رفاقه إخلاءه باتجاه قرية مزرعة بيت جن ثم إلى مستشفى بلدة حرستا التي تقع شرق دمشق على مسافة بضعة كيلومترات وكان قد أصيب في التاسعة صباحاً على سفح المرصد، وبلغ المشفى المذكور في التاسعة مساءً، أي أنه سار على نزفه نحو 12 ساعة. لذلك، وعندما خرج من المصعد في الطابق الثالث من المستشفى فَقَد وَعيَه إذ كان الإجهاد والنزف قد أنهكا جسده، ولم يستعد وعيه إلّا في اليوم الثالث، وقد عولج في غيبوبته.
بعد عدّة أيام من المعالجة في مستشفى حرستا نُقل الملازم نايف إلى إحدى المدارس التي أُعدّت كمستشفى إضافي، وذلك بسبب تزايد أعداد المصابين في صفوف الجيش السوري، وقد تمّ تجبير كسور يده وأُعطيَ إجازة استراحة في انتظار العودة إلى القتال. وزار العاقل قريته أم الرمّان وسط حفاوة كبيرة من الأهل والأصدقاء في قريته وفي قرى محافظة السويداء، الذين شعروا بالإعتزاز لما حققه في ميدان الشرف وكانت قصة احتلال المرصد قد ذاعت كما ذاع خبر نايف العاقل وإنزال العلم الإسرائيلي عن سارية المرصد ثم قتاله الباسل مع رفاقه لصدّ الهجمات الكبيرة لجيش العدوّ، وقد كافأته القيادة العامة للجيش والقوّات المسلّحة بترفيعه من رتبة ملازم إلى رتبة نقيب، وبمنحه وسام بطل الجمهوريّة العربيّة السوريّة.
يقول نايف: «عندما زارني اللواء علي حيدر وكانت جراحي لم تلتئم بعد، والرصاصة التي اخترقت جسمي تحت العمود الفقري لم تضرًّ بي بحمد الله، قال لي: « الحمد لله على سلامتك، لكن كيف سلمت؟» قلت له: «إنّها إرادة الله، وحسن دعاء الوالدين».

محمد ابو هدير

رجل الأعمال محمد أبو هدير لـ “الضحى”

ماذا يفيدني مال البنك الذي لا يستقر على حال
زراعتي ومواشيّ وتجارتي هي المال الحقيقي

محمد أبو هدير رجل أعمال من “القريا” بدأ من الصفر وتمكّن بفضل حسّه الإقتصادي ومثابرته واستعداده للمخاطرة والعمل الشاق من بناء مؤسسة كبرى متعددة النشاطات تمتد من البناء والمقاولات إلى الاستثمار الزراعي وتربية المواشي بما في ذلك الجمال والأبقار والأغنام والطيور.
بدأ أبو هدير المولود عام 1946 حياته بعد حصوله على الشهادة الثانوية العامة بالعمل في التعليم مدة خمس سنوات، ولكنه ضاق ذرعاً بالروتين الوظيفي، فاتّجه إلى العمل في مجال البناء والمقاولات والتعهّدات والاستثمار الإنتاجي في الزراعة، وفي عام 1977 سافر للعمل في المملكة العربية السعودية وعمل فيها مدة ثلاث سنوات، ثم لم يلبث أن عاد منها ليتابع أعماله الحرّة…وذات سنة وفيرة المطر والغلال تجمعت لديه 208 أطنان من التبن لم يتيسر له بيعها، فكسدت، ولم يجد من يشتريها، فما كان منه إلاّ أن اشترى أبقاراً وعمل على تربيتها، ثم دخل مجال تربية الحيوان إلى جانب عمله في زراعة أرض تبلغ مساحتها نحو 1500 دونم، ثم دخل مجال التجارة فافتتح محالاًّ تجارية يعمل فيها أولاده الشبان بمعونة عمال مساعدين لهم، وفوق هذا حقق نجاحاً بتوجهه إلى الاستثمار الحر كمقاول في البناء بالإضافة إلى عمله في مجال الاستثمار في الزراعة وتربية الحيوان، والعمل التجاري.
بدأ أبو هدير اهتمامه بالزراعة بإنشائه مزرعة للأبقار المحسّنة من 20 رأساً، حقق فيها نجاحاً ملموساً ومن ثم اتجه إلى تربية الجمال، وأصبح مشغّلاً لـ30 شخصاً يعملون لديه في مصالحه التي يديرها. “الضحى” التقت السيد أبو هدير في حديث تناول تجربته والدروس المستقاة منها وهنا نص الحوار:

> “الضحى”: ما الذي حفزكم على تربية الجمال؟
تربية الجمل مجزية جداً لأن لحمه يباع بسعر مجز وكذلك جلده وحليبه دواء للمرض، كما أن أمراض الجمل أقل مما هي لدى الحيوانات الأخرى، أضف إلى ذلك أن الجمل أقل احتياجاً للأعلاف المصنعة والمستوردة، وطعامه متوفّر في بيئتنا الجبلية الوعرة وأهمها النباتات الشوكية المفضلة لديه ، وهكذا فإن تكلفة تربيته ومصاريف الإنفاق عليه قليلتان وأمراضه أقل، وحليبه دواء، ومئة دونم من المرعى الطبيعي تكفي لـ 50 جملاً إذا أخذنا بالاعتبار ما نقدمه له من علف تكميلي إذ لا يصحّ الاعتماد على المرعى الطبيعي وحده، ولدي حالياً قطيع من 50 جملاً وناقة.

> “الضحى”: هل أنتم من يقومون بالعمل على تربية جمالكم؟
أنا من يقوم بالإشراف على العمل، ويعمل لديّ في المزرعة ثلاثون شخصاً، والبدوي هو من يقوم برعي جمالي في براري “القريا”، فهو الأعرف بالرعي بحكم الخبرة الموروثة، ونحن في المزرعة نربي أيضاً البقر والحمام والبط والدجاج والحبش كما نربي أغناماً يبلغ عددها 300 رأس، وتتأرجح أعدادها أحياناً تبعاً لحركة البيع والتصريف.

> “الضحى”: من السهل تسويق إنتاج مزرعتكم من الأبقار والأغنام وسواها، ولكن كيف تسوّقون إنتاجكم من الجمال؟
يأتيني إلى القريا تجار الجمال من دمشق وجيرود وحمص ودرعا وتدمر وحتى من البوكمال، بل وأبعد من ذلك أيضاً، من محافظات سوريا الأخرى، وعلى الهاتف تتم المحادثات بهذا الأمر والتمهيد للصفقات، ويتراوح سعر الجمل الواحد ما بين 200,000 إلى 500,000 ( نصف مليون) ليرة سورية، وقد شاركت ببعض جمالي المختارة في ثلاثة سباقات للهجن في تدمر. لقد أحببت جمالي، فعندما أذهب إلى مرعاها وأشاهدها وأمشي وراءها أشفى إذا كنت مريضاً، ماذا يفيدني مال البنك الذي لا يستقرّ على حال، هذا هو المال الحقيقي!!.

> “الضحى”: كم يبلغ إنتاجكم من المحاصيل؟
عام 2013 بلغ إنتاجي من محاصيل الحبوب 80 طنّاً من الحمّص و150 طناً من القمح و50 طنّاً من الشعير ونحن نزرع ما مساحته 36 دونماً من العنب و20 دونماً من الزيتون و10 دونمات من اللوز والفستق الحلبي.

> كيف تتولون إدارة هذه الأعمال المتعددة؟
قمت بتوزيع مجالات العمل بين أولادي كل واحد منهم مسؤول عن جانب من عمل الشركة.

> “الضحى”: كيف ترون فرص التطور الزراعي في القريا؟
الزراعة مهنة شريفة وهي لا تخسّر من يقوم بها، وفي أسوأ المواسم لم تخسّرني بل هي تردّ تكاليفها وأكثر، وأنا أرى أن مستقبل المنطقة يستند إلى تطوير زراعة المحاصيل الحقلية وتحسين تربية المواشي لكن مع الأسف الجيل المتعلم في “القريا” بل في سائر محافظة السويداء أقل اهتماماً من جيل الآباء والأجداد بالزراعة وتربية الحيوان. أكثرهم مهتم بالوظيفة.

قَنَوات مدينة التاريخ

قَنَوات مدينة التاريخ
وعروس جبل العرب

إحدى أقدم المدن في العالم تهدمت صروحها
وأعاد الموحدون إعمارها فعادت حاضرة زاهرة

بسبب أهميتها سكّ الرومان النقود باسمها لكنها إندثرت
بعد انتقال الخلافة إلى بغداد وتحوّل طرق التجارة عنها

الشيخ قاســــم المهتار وشديد شـرّوف أول من سكنها
وعائلاتها الحالية تعود في معظمها إلى أصول لبنانية

جانب-من-معبد-هيليوس-ويبدو-جزء-من-المدينة-خلفه
جانب-من-معبد-هيليوس-ويبدو-جزء-من-المدينة-خلفه

قنوات واحدة من بين أقدم حواضر الجبل، بل هي حسب بعض المؤرخين من أقدم مدن العالم اعتبرها الرومان بين أكبر مدن الإمبراطورية وسكّوا النقود باسمها، وأقاموا فيها المدارج الرياضية والفنادق أو الخانات، وبنوا فيها المعابد وخزانات المياه الضخمة والطرق، وجروا إليها المياه في أقنية حجرية وأحاطوها بأسوار منيعة، لكن هذه المدينة الزاهرة أفل نجمها في ما بعد وتآكلتها صروف الدهر وأيدي العابثين من بني البشر حتى غدت خراباً قاحلاً. إلا أن المهاجرين الأوائل من الموحدين وجدوا فيها موئلاً وطبيعة خصبة ومنيعة فأقاموا فيها وأعادوا إعمارها لتصبح مع الزمن مدينة يسكنها اليوم نحو 12 ألف نسمة، ومجتمعاً أهلياً تزدهر فيه أعمال الزراعة وبعض الصناعات وتدعمه المؤسسات الرسمية والأهلية والخيّرون من أهل البلدة.
فما هي قنوات، ولماذا اشتهرت عبر التاريخ، ولماذا درست، وكيف أحياها الموحدون الدروز ليجعلوا منها حاضرة مزدهرة؟

قنوات في التاريخ
كانت قنوات في العصر الهلنستي (أي عصر الدولة السلوقية ذات الحضارة الإغريقية المتمازجة مع حضارات الشرق الأوسط القديم)واحدة من المدن العشر الهامة ( ديكا بوليس)، في جنوب بلاد الشام، ومن هذه المدن قنوات وبصرى وجرش وأم الجمال وعمّان (فيلادلفيا )… وبعد احتلال الرومان لسوريا على يد القائد الروماني بومبيوس سنة 63 قبل الميلاد، تنامى ازدهار المدينة، وكانت أمور مجتمعها تُدار بأسلوب شبيه لما كانت عليه الحال في المدن الرومانية واليونانية، من خلال مجالس شيوخ محلّية من الوجهاء والقادة… ومنذ بداية القرن الرابع الميلادي، عندما اعتمد الامبراطور الروماني، قسطنطين، المسيحية ديانة رسمية للدولة، غدت «كاناثا»، (وهذا هو اسمها القديم)، مقرّاً لأسقفية كبيرة ترتبط ببصرى، وتتبع وإياها بدورهما لبطريركية أنطاكيا.
ولأهميتها، فقد سُكّت نقود برونزية حملت اسمها، ويقدّر الآثاريون وعلماء التاريخ القديم عدد سكان قنوات في عصرها القديم ذاك بنحو 60000 نسمة. لكنّ قنوات تراجع عمرانها في العصر العربي الإسلامي، وخاصة بعد أن نقل بنو العباس العاصمة من دمشق إلى بغداد، وبعدت طرق التجارة عنها.

موقع مرتفع ومصيف جميل
تقع مدينة قنوات على ارتفاع نحو 1320م فوق سطح البحر، وعلى مسافة 7كلم، شمال شرق السويداء، يشقّها وادٍ عميق يشطرها نصفين، وتحيط بها المرتفعات من الشرق والشمال والجنوب، ولها أفق مفتوح على الغرب، ومن موقعها هذا تطل على سهل حوران، وجبل الشيخ ومرتفعات الجولان ممّا يؤهلها لتكون مصيفاً ممتازاً لطيب هوائها ووفرة مياهها، والاسم «قنوات» يدل على وفرة الأقنية في تلك المدينة وخراجها.
عودة الروح إلى الخراب
بدأت قنوات في عشيّة القرن الثامن عشر تنفض عن نفسها غبار قرون من الخراب عندما قدم إليها، وفقاً لرواية أحد معمري آل عسقول، الشيخ قاسم المهتار ( أصلاً من عرمون في جبل لبنان) وشديد شرّوف، وكانا يسكنان في خربة سلم، الواقعة بين بلدتي سليم وعتيل قرب قنوات، واستوطنا فيها، وكان ذلك أول دخول لبني معروف إليها، وإيذاناً بإعادتها إلى العمران.
عندما زارها الرحّالة بيركهاردت سنة 1810، وهو المستشرق السويسري المكلّف من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب، ذكر أنه وجدها شبه خَرِبة، وصلتنا أخبار تلك الزيارة من خلال كُتيب صغير ترجمه المرحوم الأستاذ سلامة عبيد، متناولاً فيه فقط ما يتعلّق بحواضر جبل حوران عنوانه: «جبل حوران في القرن التاسع عشر، مقتطفات من كتاب: «رحلات في سوريا». يقول بيركهاردت في ص20: «إنّ قنوات تقع على مسير ساعتين شرق السويداء ــ الأصح شمال شرق السويداء ــ ويصف الطريق من السويداء إليها بأنّه يسير في حرج لم يُسمح له بالنمو، وأشجاره من السنديان والزّعرور، تتخلله بضعة حقول مزروعة»، ويذكر بأنه «يوجد إلى الجنوب الغربي من المدينة نبع غزير».
ويوثّق بيركهاردت مشاهداته في قنوات في تلك الفترة من الزمن، فيذكر أنّ أوّل ما يلفت انتباه القادم من السويداء إلى قنوات عدد من الأعمدة العالية فوق مصطبة على مسافة قريبة من البلدة، وكان هذا معبد إله الشمس «هيليوس» في عصور الإغريق والرومان، ويعود بناؤه إلى القرن الأول قبل المسيح.
أمّا عن سكان قنوات في ذلك العصر، فيقول الرّحالة أنّه لا توجد في قنوات إلاّ أسرتان درزيّتان، كان أفرادهما منهمكين في زراعة حقول التبغ.

وفود المهاجرين من لبنان
لكن الدروز، ومنذ تلك الفترة ــ أي مطلع القرن التاسع عشر ــ أخذوا يتوافدون إلى حواضر جبل حوران الخربة ومنها قنوات، ويعمّرونها، كان هذا شأنهم منذ أن قضى العثمانيون على الإمارة المعنية، وقد اختلف الوضع على بني معروف الدروز منذ ذلك الوقت، وتفاقم الأمر بعد أن تحوّل الأمراء الشهابيون السنّة ــ الذين حلّوا محلّ المعنيين ــ إلى المارونية وتمكنوا، وخصوصاً بشير الثاني، من استخدام نفوذهم وحلفهم مع المصريين لإضعاف شوكة الموحدين الدروز وتشتيت أسرهم الإقطاعية وسلب إقطاعتها وأراضيها. وقد تصاعدت نتيجة لتلك الضغوط الشديدة هجرة الموحّدين الدروز إلى جبل حوران فعُمّرت قنوات وغيرها من حواضر جبل حوران بعد أن كانت خراباً لزمان طويل.

مأثرة الشيخ فارس حميد
مع توافد أسر الموحّدين إلى قنوات خلال القرن التاسع عشر، وبسبب الحاجة الماسة لتأمين سكن على وجه السرعة، كان الناس يستسهلون الإقامة في البيوت التي وجدوها تصلح للسكن أو البناء بحجارة الآثار المتناثرة في المدينة المهملة.
عاش في تلك الفترة الشيخ فارس حميد، وكان ذا عقل نير وفكر سديد، وقد هاله ما رأى من عدوان على الآثار، فارتأى أن يوحي للناس بأنّ هذا المجمّع المركزي الفريد بآثاره كان مقرّاً للنبي أيّوب عليه السلام في أيّام مرضه. هنا امتنع الناس عن المساس بتلك الآثار، ولابد أن الشيخ فارس حميد في موقفه الحصيف هذا قد ساهم بتقليص حجم الضرر الذي لحق بتراث قنوات، ولم يزل مثقّفو المدينة وعقلاؤها إلى يومنا هذا يذكرون له هذا الجميل الذي أسداه لتاريخ مدينتهم وتراثها العريق.

أحراج قنوات ضحية الحرب

أصبحت غابات قنوات الشهيرة، في غياب الدولة، من ابرز ضحايا الوضع المضطرب في البلاد، ولم يتبقَ منها حالياً أكثر من 5000 دونم من الأحراج، وحتى هذه المساحة المتبقّية تلتهمها حاليّاً وبشراهة مناشر البنزين لتحول هذه الثروة الحرجية الثمينة إلى حطب للتدفئة في فصل الشتاء البارد في مدينة جبلية، وذلك بسبب ضغوط أزمة المازوت وتردي مستوى المعيشة وحاجة المواطنين الماسّة للتوفير ولو من أي باب.
ولمواجهة ما يتعرّض له حرش قنوات من خطر الإبادة، فإن الوحدة الإرشادية الزراعية في المدينة تقاوم التحطيب الجائر اللاعقلاني عن طريق فصائل حراسة طوعية ــ ولكن لا حياة لمن تنادي ــ على حد قول أحد المعنيين بحماية الحرش المهدّد بالزوال بسبب التعديات الحاصلة من أهالي قنوات أم من مواطني قرى الجوار من ضحايا أزمة البلاد.

آثار-رومانية
آثار-رومانية

الآثار الطبيعية
اكتشفت في أراضي قنوات، في منطقة «حيور اللوز» الواقعة شرق المدينة، مغارة طبيعية قديمة، طول المعروف منها نحو 760 متراً، بعرض نحو 5 أمتار، وارتفاع 4 أمتار، ويشكّل سقفها وجداراها قوساً غير متناظر على طول امتدادها. وبتأثير من عوامل الرطوبة عبر العصور القديمة فقد تشكّلت في تلك المغارة ما يُعرف بظاهرة الصواعد والنوازل ذات اللون البنّي المختلف عمّا نشاهده في المغاور التي تشكّلت في المناطق الرسوبية التي يغلب عليها التركيب الكلسي( كمغارة جعيتا مثلاً)، بحيث يكون لون الصواعد والنوازل مائلاً للّون الأبيض الكريستالي، وغلبة اللون المائل للبُنّي على صواعد ونوازل مغارة حيور اللوز في قنوات، ناشئ عن غنى تربة الجبل البركانية بالهيماتيت( أوكسيد الحديد الأحمر)، الذي أكسبها ذلك اللّون.
قنوات في محنة تيمورلنك
تعرّضت قنوات لما تعرّضت له سائر بلاد الشام في العهود التاريخية السالفة، ولعلّ الخراب الأكبر الذي تعرّضت له حواضر الجبل على يد الغازي المغولي تيمورلنك سنة 802هـ، نحو سنة 1403م، قد نال منها، كما يذكر سعيد الصغير في كتابه: «بنو معروف في التاريخ»(ص122). بذلك فقد كانت قنوات خراباً يباباً قبل أن يعيد الموحدّون من بني معروف عمرانها منذ نحو قرنين ونيّف من عصرنا هذا، وإن أوّل شهادة توثّق نزول الموحّدين فيها هي شهادة الرحالة بيركهاردت الذي زارها سنة 1810، وقد ذكر فيها وجود أسرتين ( درزيتين)، إلاّ أن بيركهاردت لم يسمِّ لنا أحداً ممن ذكر وجودهم آنذاك.

قدوم آل الهجري
يذكر المعمرون في المدينة أنّ الشيخ قاسم المهتار أول ساكني قنوات هو جدّ آل جزّان، وقد اشتهر بادئ الأمر بعمله في الحطب فعُرف بالجزّال، ( والجزل لغةً هو ماعظم من الحطب ويبس)، وفي ما بعد حُرّفت الكنية فأصبحت «جزّان»، ومن ثم قدم إلى قنوات آل شرّوف وقيصر، وهؤلاء أساساً يتحدّرون من أصل واحد، ومن ثم تلاهم الشيخ أبو حسين ابراهيم الهجري، ولعلّ قدومه هذا إلى قنوات كان بتأثير خلاف وقع له مع الشيخ الحمداني في السويداء. والشيخ الهجري، حسب ما يذكره المعمرون، ينتمي لآل زين الدين أصلاً، كان والده محمود سلمان زين الدين قد هاجر من خريبة الشوف في جبل لبنان إلى أشرفية صحنايا.

توسع-عمراني-في-المدينة
توسع-عمراني-في-المدينة

ويذكر أستاذ التاريخ في قنوات، جدعان زين الدين، أن سبب هجرة آل زين الدين من جبل لبنان يرجع لكونهم ضحية السياسة المستبدة والإقصائية التي كان يمارسها الأمير بشير الشهابي المدعوم من الأكليروس الماروني وفرنسا من خلفهم، ضد الموحّدين من بني معروف، وهذا يصح على معظم المهاجرين من جبل لبنان من بني معروف الذين لجأوا إلى جبل حوران في ذلك العصر. وأشرفية صحنايا هذه هي إحدى قرى غوطة دمشق التي يقطنها الموحّدون آنذاك وإلى يومنا هذا، ومن ثمّ انتقل الرجل إلى الجبل، وقد عمل عند قدومه إلى السويداء بحياكة الوسائد من الصوف والبُسْط من شعر الماعز، وكان شاعراً وأديباً، ورجل دين وتقوى هجر جبل لبنان، ولهذا لُقّب بالهجري، وقد اعتمده الحمدان، شيخ مشايخ الموحّدين في الجبل آنذاك، وكان مركزه في السويداء.
اشتهر الشيخ ابراهيم بعلمه الواسع وحكمته بصواب رأيه الذي عمل به الموحّدون في حربهم ضد حملات ابراهيم باشا (حليف الأمير بشير الشهابي)، التي وجهها ضد بني معروف على الجبل، وقد كانت حربه تلك من بين أسباب فشل مشروعه القاضي بالتخلّص من السيطرة العثمانية.

“هال الشيخ فارس حميد تخــريب الســـــكان للآثـــار العظيمة واستخدام أحجارها في بناء منازلهم فأوحى لهم أنها كانت سكناً للنبــي أيوب فامتنعوا ..وسلمت”

توافد العائلات إلى قنوات
كان من القادمين إلى قنوات آل شقير ( وهم أساساً من جبل لبنان)، وقد تفرّع منهم آل زريفة نسبة لإسم والدتهم (زريفة شقير)، ثم قدم آل زين الدين ومنهم تفرّع آل عسّاف وشكر.
ومن عائلات قنوات آل عسقول، وآل الجرماني، وهم أصلاً من آل ملاعب من بيصور، سكنوا في جباع الشوف زمناً، ومن ثم انتقلوا بعدها إلى جرمانا من قرى غوطة دمشق، انتقلوا بعدها إلى الجبل وسكن بعضهم قنوات، وهناك آل خير، ويقال إنهم يمتّون بصلة القربى لآل أبو فرح في صحنايا، في غوطة دمشق، ولآل كيوان ومنذر وفرحات في بقعاتا الجولان. ومرجع هذه الأسر يعود إلى جبل لبنان. وآل أبوخير، وهؤلاء أصلاً من دير القمر جبل لبنان، ولكنّهم بعد حرب 1860 هُجّروا منها وتفرّقوا بين دميت وكفر نبرخ في جبل لبنان، وبين رخلة في جبل الشيخ وامتد بهم التهجير إلى جبل الدروز، فاستوطن بعضهم في قنوات، وكانوا حمّلة البيرق فيها أيام حروب بني معروف في المواجهات ضد العثمانيين، وقد استشهد منهم خمسة أخوة في تلك المعارك خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفي ما بعد تسلّم البيرق آل شرّوف.
وهناك آل قيسيّة، وهم أصلاً متفرّعون من آل عامر في بعقلين من جبل لبنان، وآل خلف، وآل أبو شاهين، وبشير وأمين، وجمال الدين ،وبكري، وفرحات، وريدان، والقضماني، والعقباني، وغنّام، وعسقول والمغوّش، وأبو سعد، والشويّاني، وأيوب، والشوفي، وزرزور، وشهيّب، وصعب، والأعور، والبرنوطي، وزيدان وفرزان، وفهد، ومن الملاحظ أنّ معظم هذه العائلات المعروفية ذات جذور لبنانية.

تركيبة السكان
يبلغ عدد سكان قنوات حاليّاً نحو 11862 نسمة، يضاف إليهم في هذه الفترة نزوح نحو 500 أسرة سورية من محافظات الجوار وغيرها بسبب ما تتعرّض له البلاد من أحداث مؤلمة، وعموماً فللمدينة جاذبية أكسبها إياها موقعها الطبيعي الجميل، حيث تحيط بها أحراش من السنديان والبطم والزعرور، ومُناخها العليل المميز، تضاف إلى ذلك المواقع الأثرية التي تمنحها ميزة سياحية لم تستفد منها بشكل كافٍ، وبسبب من ظروف العمل والتوظيف داخل القطر السوري، فإنّ نحو 1500 أسرة من قنوات موزعة في محافظات سورية عدة بحكم عمل أربابها، أهمّها دمشق وحلب والرّقة.

مبنى-بيت-الضيعة-في-قنوات
مبنى-بيت-الضيعة-في-قنوات

استخدامات الأراضي في قنوات
تبلغ المساحة المستثمرة زراعيّاً من أراضي قنوات نحو 26000 دونم من أصل 50000 دونم هي المساحة الإجمالية لأراضي المدينة، تتراوح فروق ارتفاعاتها بين 1075م فوق سطح البحر من جهة الغرب، لتصل إلى نحو 1690 متراً من جهة الشرق. وهناك 11190 دونماً، هي عبارة عن أراضٍ غير قابلة للزراعة، لكونها أبنية ومرافق وبحيرات ومستنقعات، وأراضي صخرية أو رمليّة، وهناك أخيراً الأحراج التي تتعرض اليوم لأخطر أزمة قد تهدد وجودها.

مواسم العنب الوفيرة
تصنّف أراضي قنوات على أنّها منطقة استقرار أولى في محافظة السويداء، وهي مخصصة للزراعة، إذ تمنع فيها تربية الماعز والأغنام على شكل قطعان، ومتوسط كميّة المطر السنوي فيها يفوق الـ 400مم، وكان العنب يشكل المحصول الزراعي الرئيسي إلى أن اقتحمت حشرة الفلوكسيرا سلامه، فكان هذا بداية تراجعه لصالح التفّاح، وهبطت مساحة المغروس منه من نحو 5500 دونم إلى نحو 4480 دونماً، وتدنّى عدد أشجار الكرمة المثمرة إلى نحو 222000 شجرة، بلغ إنتاجها من العنب نحو2504 أطنان، يذهب معظمه (1404 أطنان) للموائد أو للزبيب (نحو 250 طناً) أو للدبس (نحو 350 طناً). وأنواع العنب في قنوات عديدة، ويتم تصريف إنتاجها داخل المحافظة وخارجها. هذا وتوجد ثلاث معاصر آلية على مستوى محلّي للعنب قبل غليه، ويبلغ متوسّط إنتاج الدبس في قنوات نحو 10000 تنكة من الدبس، أي نحو 250000 كغ ( نحو مئتين وخمسين طنّاً) يستهلك بعضه محليّاً، ويباع الباقي في الأسواق.
وهناك من يصنع الدبس في المنزل، ودبس البيت أفضل من دبس المعصرة التجاري ذي اللون المائل للأسود، في حين يكون دبس البيت أشقر بلون العسل ويكاد يكون بطعمه.

التفّاح كمحصول إقتصادي
أصبحت شجرة التفّاح، الشجرة الرئيسية في قنوات، ويبلغ عدد أشجارها نحو 329,000 شجرة، ولذا بدأ التفاح يحل تدريجياً محلّ العنب من حيث دوره في الإنتاج الزراعي وقد بلغ الإنتاج منه في سنة 2012 نحو 4,000 طن،إلا أن الإنتاج يتقلّب من سنة لأخرى، بحسب الظروف المناخية.
تضاف إلى ذلك قدرة المزارع على الإنفاق على التسميد الذي من شأنه أن يحافظ على مستوى إنتاج مناسب، وهذا لولا مشكلة الارتفاع العاصف لأسعار الأسمدة، إذ كان ثمن الكيلوغرام من سماد البوتاس 12 ل.س، في حين أصبح سعره في تمّوز 2013 60 ل.س، وقد اصبح سعر السماد يثقل كاهل المزارع، وهو ما سيؤثر حكماً على الإنتاج.

بلد الأشجار المثمرة
لقد وهبت الطبيعة قنوات أرضاً خصبة، ومياهاً ومناخاً ساعدا على قيام زراعة ناشطة ساهم بها إنسان يعي أهمية الزراعة التي أخذت تنحو باتجاه زراعة الأشجار المثمرة والبستنة والكروم بشكل عام. ومن هنا، وبالإضافة لما سبق بيانه من زراعة العنب والتفاح، فقد ازدهرت زراعة أشجار مثمرة أخرى، وكلّها على العموم تُزرع بعلاً، أهمّها الزيتون، وقد بلغ عدد أشجاره نحو 38,457 شجرة والإجّاص (نحو 47,000 شجرة) واللّوز (نحو 20,000 ألف شجرة)، وهناك أنواع أخرى من الأشجار المثمرة مثل الكرز: ويبلغ عدد أشجاره 7073 شجرة، والدرّاق وعدد أشجاره نحو 15000 شجرة، والتين (نحو8000 شجرة) ويزرع التين بالترافق مع العنب، وهي الشجرة الأكثر ملاءمة للزراعة في بيئة الجبل بشكل عام والأقل تأثراً بأمراض الأشجار وآفاتها. وهناك المشمش (نحو 3,000 شجرة)، والخوخ (نحو 2,300 شجرة)، متوسّط إنتاج الشجرة الواحدة 15 كلغ، والجوز والرّمّان والفستق الحلبي والجانرك والسفرجل وغيرها.
محاصيل حقلية أُخرى: رغم أن التنظيم الزراعي ينصح بزراعة البستنة والكروم في قنوات، إلا أنّ بعض المزارعين يقومون بزراعة محاصيل حقلية من الحبوب كالقمح والحمّص والعدس وغيرها، ولكنّ هذا يجري على نطاق محدود، ولا توجد إحصاءات لدى الوحدة الإرشادية الزراعية عن تلك المحاصيل.

خزانات--المياه-الرومانية---القناطر-صممت-لحمل-السقف-وقد-زال-الآن
خزانات–المياه-الرومانية—القناطر-صممت-لحمل-السقف-وقد-زال-الآن

المياه في قنوات
كان بناة المدينة الأوائل من الأنباط والإغريق والرومان قد استجرّوا الماء لسكان المدينة من ينابيع «الصايغ»على بعد 7 كلم، وارتفاع 1400 فوق مستوى سطح البحر إلى الشرق من المدينة، وعندما احتل الفرنسيون سوريا مدّوا خطّ المياه على آثار الخط القديم…وحاليّاً، توزّع المياه على سائر بيوت المدينة، بكلفة 5 ليرات سورية للمتر المكعب الواحد للمواطن.

الإنتاج الحيواني
بحكم موقع قنوات وأراضيها ضمن منطقة الاستقرار الأولى، فقد منعت فيها تربية الماعز والأغنام والجمال والأبقار الجبلية التي كانت تربّى على شكل قطعان، وذلك لما كانت تسببه تلك المواشي، وخصوصاً الماعز منها، من أضرار على المزروعات والأشجار المثمرة والحرجية. ولهذا السبب فقد تحول الكثير من المزارعين إلى تربية الأبقار ذات الأنواع العالية الإدرار من الحليب أو تسمين العجول الذكور أو تربية الماعز الشامي، بعد تحريم تربية الماعز الجبلي على شكل قطعان ترعى الأرض على سفوح الجبل وأوديته وأحراشه. ولأهمّية الماعز من حيث حليبه ولحمه وشعره وفضلاته التي تفيد في تسميد الأرض، فقد لجأت أسر عديدة لتربية الماعز الشامي المحسّن، أو الدواجن على أنواعها في منازلهم، وفي المدينة مدجنة للدّجاج البيّاض تربّي 10,000 طير. وهناك عدد من الأشخاص في المدينة يقومون بتربية النحل.
هذا ويقوم الأطباء البيطريّون ومساعدوهم وموظّفو الوحدة الإرشادية الزراعية بزيارات منزلية دورية لمربّي تلك المواشي من أبقار وخيول وماعز ودواجن للإشراف، ولتفقد صحّة سائر الحيوانات المنزلية وتقديم اللقاحات المجانية والإرشاد المناسب.

المرافق العامّة
تقوم على خدمة المدينة وسكانها مجموعة من المرافق العامة أبرزها:
دائرة البلديّة: التي تهتم بمسائل تنظيم العمران وفق مخطط تنظيمي يغطي المدينة الأثرية القديمة، كما تعتني البلدية بتلبية احتياجات التوسّع العمراني المتنامي، وإصدار رخص البناء وشقّ الشوارع، وسفلتتها، وصيانة الشوارع القديمة، ورعاية نظافة الشوارع التي يبلغ مجمل أطوالها 70 كيلومتراً، وجملة ما يخص المدينة بشكل عام، ومتابعة عملية ربط منازل الأهالي بشبكة الصرف الصحي التي تخدّم 40% من مجمل منازل المدينة فقط، ورعاية الحديقتين العامتين اللتين تبلغ مساحة الواحدة منهما دونماً واحداً على المخطط التنظيمي للمدينة.
ومن ضمن اهتمامات البلدية، التعاون مع دائرة الأحراج في حماية الأشجار الحرجية الواقعة ضمن أراضي قنوات، ومراقبة حسن توزيع المواد التموينية من خلال صالة بيع المواد الاستهلاكية.
المدارس: التعليم في المدينة بجملته تعليم حكومي مجّانيّ، تديره الدولة التي تقوم بإمداد المدارس بوسائل التدفئة من مدافئ ومازوت في فصل الشتاء. وفي قنوات 5 مدارس إبتدائية ــ تعليم مختلط ــ

خارطة-محافظة-السويداء-وتبدو-قنوات
خارطة-محافظة-السويداء-وتبدو-قنوات

” الشيخ التقي إبراهيم الهجري كان شيخ مشايخ الجبل اشتهر بعلمه الواسع وحكمته وقد عمل الموحدون بمشورته في حربهم ضد حملات ابراهيـم باشا “

مشكلة سدّ الفطم

في أواخر القرن الماضي أنشأت الدولة سداً يقع في الجهة الشمالية الغربية من قنوات، حمل اسم سد الفطم، نسبة للأرض التي شيّد عليها، وكان من المتوقّع لذلك السد أن يخزن نحو 7 ملايين م3.
لكن بعد إنشاء السدّ تبيّن أن نفوذية التربة في أرضيته أفشلت المشروع الذي كان مقدّراً له أن يرفع مستوى الزراعة في قنوات، ويساهم في إنتاج وفير يمكن استثماره في مجال تصنيع المنتجات الزراعية.
يعتقد بعض مهندسي المياه مع ذلك أنه من الممكن تدارك الخسارة، وإعادة تأهيل السد من خلال تزويد أرضيّته بما يدعوه المختصّون بسجّادة غضارية كتيمة أو بإجراءات هندسية مناسبة لإعادة الحياة إلى ذلك المشروع الذي لايزال بحكم الميت، بعد كل ما أنفق عليه من أموال ومجهودات.

ومدرسة إعدادية، وفي المدينة مدرسة ثانويّة عامّة ومدرسة فنية نسوية و4 روضات أطفال. ومما يجدر ذكره أن التعليم في قنوات هو تعليم مجّانيّ عام تديره الدولة، باستثناء مدرسة الشمس الخاصة. وهناك روضة أطفال تشرف عليها تابعة لمنظّمة الاتحاد النسائي في السويداء مركزالمحافظة ومن ضمن اهتماماتها، وتضم الروضة ما بين 80 إلى مئة طفل وطفلة. وتتواصل الناشطة في الوحدة النسائية، راغدة أيوب مع 230 أسرة في قنوات، حيث تقام دورات كومبيوتر مسائية للراغبات، ونشاطات تدريبية على كيفية صناعة الصابون ودورات تنجيد للمفروشات، وتطريز المناديل النسائية، ودورات إسعاف أوّلي للمرضى والجرحى في مجال الدفاع المدني.
الوحدة الإرشادية الزراعية: تقوم الوحدة الإرشادية في قنوات بمهام فنّية هامة لدعم الزراعة وتربية الحيوان في قنوات، وعدد موظّفيها 18 موظّفاً وموظّفة يتقاضون رواتبهم من وزارة الزراعة. منهم 7 رجال، 4 منهم مهندسون زراعيّون، وبيطري واحد، وثلاثة مراقبين زراعيين. أما النساء فعددهن 11 منهنّ 4 مهندسات زراعيات، والأخريات موظّفات في ملاك الوحدة إلإرشادية، ويتضمّن بناء الوحدة الإرشادية قاعة محاضرات للتثقيف الزراعي تتّسع لـ40 مشاركاً.
هذا وتقوم هذه الدائرة بعمل ميداني هام لتطوير عمل وإنتاج المرأة الريفية مثل التدريب على تصنيع الشامبو وسوائل الجلي وصناعة الطحينة، والاستثمار الأمثل للحديقة المنزلية، وزراعة الخضار، وإقامة دورات تدريبية لتعليم النساء مهنة قص الشعر النسائية «الكوافير».
المركز الثقافي: خُصّصت للمركز الثقافي في قنوات دار مساحة بنائها 120 متراً مربّعاً تحتوي على قاعة محاضرات ومطالعة وعرض سينمائي تتسع لـ100 كرسي، الى جانب غرفتين للإدارة والموظفين ومرافق خدمة تقع ضمن المنطقة الأثرية من المدينة القديمة. وعدد موظفي المركز ستة من الذكور والإناث، ورئيسه الأستاذ حمد شكر زين الدين. ومن الدوائر الرسمية في قنوات، مركز الهاتف ومكتب للبريد وشعبة للآثار.
المركز الصحي : ويدعى بـ»مركز الدكتور شفيق أبو سعد الصحّي»، وهو عبارة عن بناء حديث متقن بطابقين، مساحة كل منهما 160م2، وقد تبرّع ببنائه شقيق الدكتور المتوفّى.
يضم المركز الصحّي ثلاثين موظّفاً وموظّفة من المختصّين في شؤون الصحة، رئيس المركز طبيب عام، وفيه عيادة نسائية، وعيادة أسنان مجانية ويتم تحويل المرضى عند اللزوم إلى مشفى السويداء، ويتضمّن المركز مخبراً لتحاليل الدم والبول وصالة للمحاضرات للتثقيف الصّحّي تتسع لـ 20 كرسيّاً.
صالة بيع المواد التموينية: ويتولى المسؤول عنها بيع المواد الاستهلاكية بأسعار مدعومة، وهذا مع الأخذ في الاعتبار عدم استقرار الأسعار في الظروف الحالية التي تمر بها سوريا، لكن أسعار الصالة تبقى أرخص كثيراً من سعر السوق وأرحم للمواطن العادي، هذا بالطبع عند توفّر المادة المطلوبة فيها.
جمعية قنوات الخيرية: تأسّست الجمعية الخيرية في قنوات سنة 2004، ويرأسها السيد أبو شكري فوّاز جزّان، وهي تقدّم خدمات للفقراء والمحتاجين، وتساعد في تعليم الطلاب المعوزين، كما تقدم المعونات العينية للأسر الفقيرة.
دور العبادة والأوقاف: في قنوات مجلسان للموحّدين، واحد لآل الهجري، ومن معهم، وآخر لآل جّزان ومن في جماعتهم، وهذا التوزيع لا يدل على انقسام اجتماعي في الوقت الحالي، وإنما هو نتيجة لظروف اجتماعية تجاوزها أهالي قنوات ومضى عليها الزمن.
أما أوقاف المدينة، فتتألف من تبرّعات المواطنين، والمدفوعات الطوعية عن أرواح المتوفّين، والزيارات والنذور، والتقدمات للضريح في مقام الشيخ الهجري. وتنفق الأموال لترميم المجالس وموقف بيت المدينة وبيت الجنازة للنساء، والموقف العام حيث يتم تشييع الجنائز تبلغ مساحته 525 م2، وهو عبارة عن بناء مدرّج مسقوف، وقد خصص له موظّف لصيانته، وينفق الباقي على الفقراء والمساكين.

قنوات الأثرية متحف الأزمنة
لم يصلنا من كنوزها إلا القليل

بقايا-الكنيسة-الشرقية
بقايا-الكنيسة-الشرقية

تعرضت آثار قنوات الغنية والمتنوعة لصروف الدهور، إذ عبثت بها أيدي البشر جيلاً بعد جيل عندما لم يكن الكثير يعرف عن أهمية الآثار، وكان الناس في المقابل فقراء ولا تتوافر لهم وسائل قطع الأحجار التي نمتلكها اليوم. وقد كان أسهل لذلك نقل أحجار القلاع والآثار القديمة من مكانها واستخدامها في شتى الأمور بما في ذلك رصف بعض الطرق أو الساحات. وقنوات ليست استثناء على تلك القاعدة لكن ربما بسبب حماية الشيخ فارس حميد لآثار قنوات أو ما كان قد تبقى منها في زمانه، فإننا نجد اليوم بضعاً منها مما يرتدي أهمية تاريخية وأثرية كبيرة، ومن هذه:
1. السرايا: وتشمل أطلالاً لأبنية دينية عدة هامة بنيت على آثار بعضها البعض، إذ تعود إلى عصور متعاقبة، وهذه هي أوسع آثار المدينة، وأكثرها إثارة للسائح والدارس معاً، وإلى الغرب من السرايا تمتد ساحة واسعة مبلّطة بالبلاط البازلتي تتّصل بأبواب المدينة، ومن الراجح أنها كانت تشكّل السوق التجارية لمدينة مزدهرة كانت تقع على الطريق إلى كعبة سيع المجاورة لها، بالإضافة إلى ما احتوت عليه قنوات من موقع إداري في تلك العهود، ومعابد آرامية نبطية، وإغريقية ورومانية ووثنية ومسيحية بيزنطية… فالمعبد الروماني العائد للقرن الثاني الميلادي، أقيمت فيه كنيسة مسيحية في القرن الرابع للميلاد، ولكن باتجاهات تعاكس اتّجاهاته، ثم بنيت كنيسة أُخرى في ما بعد تعود الى أواخر القرن الرابع أو الخامس في الجهة الخلفية مع قاعة أماميّة، وقاعة استقبال كبرى، ويقع مدخل هذا المجمّع الديني الكبير في الواجهة الغربية التي تطلّ على الساحة العامّة، وما زالت الواجهة الغربية محافظة على ارتفاعها الأصلي كما كانت عليه الحال في العصور القديمة.
2. خزّان المياه: أبعاده 17× 14,5 متراً بعمق 7م، ولا يزال بحالة جيّدة، غير أنه افتقد الملاط الذي كان يساعد على الاحتفاظ بمياهه، ولابد أن ذلك حدث بفعل تطاول القرون، ويقع في الجهة الجنوبية الغربية من السرايا، ولا تزال القناطر الضخمة القوية على حالها، لكن البلاطات المنحوتة ــ الرّبد ــ التي كانت تشكل سقف الخزان قد زال معظمها بفعل عدم وجود حماية للآثار في الماضي. أما إمداد الخزان بالماء فقد كان يتم من مياه الوادي الجارية من جهة الجنوب من سيع، ومنه يتم سحب الماء إلى الحمّامات.
3. معبد الإله زوس: ويقع إلى الشرق من الخزان، ولم يبقَ من معبد زوس سوى المصطبة والزاوية الشمالية من الرواق الذي كان أمام بوابة مصلّى المعبد.
4. المسرح: وهو صغير الحجم بالقياس إلى تلك المسارح التي بقيت من ذلك العصر البعيد، ويرجّح أنه كان يستخدم للموسيقى، ويعود للقرون الأولى للميلاد، ولاتزال ماثلة منه للعيان، وبحالة جيدة 9 صفوف من مدرّجه، وعلى جدار الصف الأوّل من الدرجات تبرز كتابة تفيد أنّ»ماركوس أوليبس بن ليزيا بن إيكاروس قام بتشييد هذا الأوديون على شكل مسرح بكلفة 10000 قطعة نقدية بكل الشجاعة والسرور»، ويوجد مكان للجوقة على شكل نصف دائري 11,70×10,40م، مع أرضية لا تزال محتفظة ببلاطها من الحجر البازلتي المنحوت، وواجهة المنصة مزيّنة بمحاريب متعاقبة، والمدرّج مقسّم إلى ثلاثة قطاعات بدرجين في الوسط.

جانب-من-معبد-هيليوس-الروماني
جانب-من-معبد-هيليوس-الروماني

5. معبد آلهة المياه: وموقعه إلى الجنوب من المسرح، وهو بناء جميل مربّع الشكل، منحوت بشكل دقيق ومتماسك، تتدفّق المياه من حوله، وخاصة مياه الوادي، ويعود ذلك البناء إلى النصف الثاني من القرن الثالث الميلادي، أيام كانت الديانات الوثنية هي السائدة.
6. الأبراج: ولعلّها شُيّدت لتكون مدافن، وتقع إلى الجنوب من معبد آلهة المياه، أحد هذه الأبراج مربّع والآخر مدوّر وهما بحالة جيّدة، وهذه المنشآت تقع خارج المدينة القديمة على الضفة الشرقية لوادي قنوات، أمّا على الضفّة الغربية الشديدة الانحدار للوادي فقد امتد فوقها سور المدينة ذو الأبراج المنيعة.
7. هيكل إله الشمس: ويظن أن من بناه هو هيرودس الأوّل (أغريبا)، ويقع خارج سور المدينة، إلى الشمال الغربي منها، وقد أصابه التهديم ولم يبقَ منه سوى المصطبة مع شفيرها المتقن، وفوقها أعمدة عدة ترتفع فوق قواعد عالية، ولعلّه كان بحالة أفضل ممّا هو عليه الآن سنة 1810م، عندما زار الرّحالة بيركهاردت قنوات.
8. البناء المربع: لعلّه كان مخصّصاً ليكون فندقاً للغرباء أو مضيفاً أو مدرسة، ويقع في الطرف الشرقي من المدينة، وهو عبارة عن قاعة على شكل المربّع، تقريباً، بنيت نحو سنة 124ــ 125م.
9. البيت الأثري: وهو بيت جميل مؤلّف من طابقين في وسطه فناء ــ ساحة داخلية ــ يحيط به رواق بارتفاع الطابقين، وقد وصفه الرحالة الذين سبق لهم أن زاروا المدينة بـ القصر، وهو بحالة جيّدة إلى حدّ ما.
10. المعبد: وهو ذو رواق أمامي، ويقع إلى الجهة الجنوبية الغربية من سرايا المدينة، وهذا المعبد متهدّم، لكنّ أطلاله بارزة، ومن الراجح أنه بني نحو نهاية القرن الثاني أو في مطلع القرن الثالث الميلادي.
11. ملعب للرياضة: جوار السور الغربي للمدينة، ولا تزال أطلاله شاهدة، وكان يتضمّن مسارب للعَدْو والسباق.
12. بوابات المدينة القديمة: لم يبقَ منها سوى البوابة المقابلة للسرايا من الجهة الغربية.
13. السور: يمتد سور المدينة المنيع بأبعاد 400×350 متراً، فمازال من الممكن متابعة امتداده وتحديد الأبراج التي كانت تنتصب عليه، وملاحظة بوّاباته الحجرية التي لم يزل بعضها ماثلاً إلى يومنا هذا.

الشيخ ابراهيم الهجري الأوّل

مقام-المرحوم-الشيخ-إبراهيم-الهجري-ومشايخ-آل-الهجري-من-بعده
مقام-المرحوم-الشيخ-إبراهيم-الهجري-ومشايخ-آل-الهجري-من-بعده
ضريح-الشيخ-إبراهيم-الهجري
ضريح-الشيخ-إبراهيم-الهجري

يعتبر المرحوم الشيخ ابراهيم الهجري المؤسس الأول للرئاسة الروحية في جبل الدروز ، ولئن كان قد تبوّأ منصبه هذا برضى الشيخ الحمداني في بادئ الأمر، إلاّ أنّ الأمر اختلف في ما بعد، فالرئاسة الروحية أكثر التزاماً بالقيم من الزعامة الدنيوية. هنا اضطر الشيخ الهجري للارتحال إلى قنوات، ولكن خلال حملة ابراهيم باشا التي شكلت أخطر تهديد لوجود الموحدين الدروز الذين كانوا يعانون من قلّة العدد وضعف التسليح سيلعب الشيخ إبراهيم الهجري دورا حاسما في شد عزيمة المقاتلين وتوحيد صفوفهم في معركة صمود خطرة وغير متكافئة. وفي مقتطفات من نسخة منقولة عن قصة حرب اللجاة لكاتب مجهول من أهل التوحيد، كتبت عام 1840م بعد وفاة الشيخ ابراهيم الهجري بقليل، وأوردها الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه “جبل العرب” تتضح المكانة العظيمة التي كان يحتلّها الشيخ ابراهيم الهجري كقائد روحي ومعنوي لبني معروف آنذاك، يقول الكاتب بلغته العامية البسيطة:” … فعند ذلك اجتمعت المشايخ والأعيان إلى محلّ الشيخ يحيى الحمدان ومن جملتهم فريد وقته والأوان ورئيس عصره وذلك الزمان الشيخ أبو حسين ابراهيم المغمد بالرحمة والرضوان ثم والبطل الهمام والأسد المقدام جناب شبلي آغا العريان. ولم يزالوا يتفاوضوا بذلك الحال والشان وصاروا يشددوا جميع الشبان، وجعلوا يحرضونا على الحرب والقتال كما جاء في محكم القرآن وخصوصاً الشيخ المذكور المغمد بالرحمة والرضوان فإنه لم يزل يشدد ويحرض الفوارس والشجعان ويقوّي البائس الجنان ويبشّر بالنصر والظفر مع السلام والأمان من القوم الخاسرين الخاسيين الأغنام…”.
بعد وفاة الشيخ ابراهيم عام 1840خلفه ابنه الشيخ حسين، وبهذا أصبحت الرئاسة الروحية في الجبل متوارثة في أسرة مرموقة بخلاف ماهي عليه الحال لدى إخوانهم في جبل لبنان، ولعل مبعث هذا عائد إلى التركيبة العشائرية في الجبل، وإلى التهديدات الخارجية لوجود الموحّدين في الجبل والتي كانت تفرض عليهم تضييق أبواب الخلافات بينهم إلى أضيق الحدود، وهو ما كان يمكن أن ينشب بسهولة في ما لو طرح موضوع المشيخة على أساس الانتخاب والمنافسة بين مرشحين. بعد وفاة الشيخ حسين عام 1880،جاء بعده ابنه الشيخ حسن…

مزار الشيخ حسن الهجري في بلدة الرحيبة
كانت أيام بني معروف في الجبل أكثر اضطراباً على زمان الشيخ حسن الهجري، فعلى أثر سلسلة من المعارك ضد القوات العثمانية، قام العثمانيون نحو عام 1896م، بتهجير أعداد من الأسر البارزة من الموحّدين، ومن رجالهم المميّزين، وكان من بينهم الشيخ حسن الهجري الذي نفي مع عدد من أهالي قنوات إلى الأناضول، وبعد أربع سنوات من التهجير القسري تمكن الشيخ حسن وآخرون من إخوانه من الهروب من منفاهم، كانوا يسيرون ليلاً ويكمنون نهاراً، ويتجاوزون ما يواجههم من المخاوف والأخطار في ذلك الزمن العثماني المظلم.
كانوا يعبرون في طرق البادية مبتعدين شرقاً عن الطريق الرئيسة بين الشام والأناضول، تلك الطريق التي يسيطر عليها العثمانيون، لكن الشيخ الهجري وقد أنهكته مشاق الطريق واعتلال صحته توفّي في قرية الرحيبة إلى الشمال الشرقي من دمشق عام 1898، ودفن هناك بترحيب من أهل قرية الرحيبة الذين رفضوا أن يُنقل جثمانه إلى قنوات تبرّكاً بمقام ضريحه في ديارهم، ولم يزل مدفنه مزاراً قائما يتبرك به المؤمنون. ولا زالت شجرة هذه العائلة الكريمة تزهر وتثمر بالرجال الكبار ً.

قصة ثأر وشجاعة وأقدار عجيبة

قصة ثأر وشجاعة وأقدار عجيبة
بين البطل ظاهر عامر وآل الفحيلي
كيف حوّلت تقاليد البادية وأخلاق الرجال
عداوة الدم بين عائلتين إلى صداقة مديدة؟

كان ظاهر بن حمّود عامر واحداً من ستة أخوة اشتهروا بفروسيتهم، وهم فارس وأسعد وظاهر وفندي وخزاعي وخمري. تميّز ظاهر من بين أخوته بلون بشرته الأشقر الضارب إلى الحُمْرَة، وبكثافة شعر حاجبيه المتدلّيين على عينيه حتى كادا أن يحجبا الرؤية عنهما إن هو لم يرفعهما، أو يثبّتهما بعصابة. وهو سليل أسرة كافحت للحفاظ على انتمائها للتوحيد ضد الظلم والتمييز الطائفي، إذ هاجر أجداده من شمالي سوريا بتأثير تلك المظالم لينزلوا في جهات الغوطة وإقليم البلاّن. يذكر هذا الكاتب يحيى حسين عمّار في كتابه “الأصول والأنساب”، الصادر عن دار الضحى سنة 2002، فيقول إنّ تلك الأسرة سكنت أوّل الأمر في بلدة قَطَنا، ثمّ ارتحلوا منها إلى قرية مجاورة تدعى “حينا”، وهناك استقرّوا في أبنية كانت في القديم ديراً للرهبان هجره أصحابه، لقد كانت هجرة الديار والنزوح منها ظاهرة تكاد تكون عامة في ذلك العهد بسبب عدم الإستقرار وغياب سلطة الدولة خارج المدن الكبرى في بلاد الشام.

” كان فرسان آل الفحيلي يصرّون على أن تُقدّم الذبائح طعاماً لهم وهم على ظهور خيولهم، وصحاف الطعام محمولة على رؤوس الرجال أو النســـاء من فلاحي السـهل المقهورين “

كان الدروز أهل حضر وكان عليهم باستمرار صد هجمات البادية
كان الدروز أهل حضر وكان عليهم باستمرار صد هجمات البادية

ضريبة الشرف
في مطلع القرن التاسع عشر تعرّض بعض الأهالي من الجيران لنساء من آل عامر، سكان دير حينا الموحّدين، كان رجالهم في العمل خارج القرية، ولما رجع هؤلاء مساءً وتبينوا ما جرى، هاجموا الجماعة المعتدية وانتقموا منهم بمقتلة كانت حصيلتها نحو ستين قتيلاً، عندئذ فطن العثمانيون لما حدث، فأرسلوا حملة عسكرية على آل عامر وأبناء عمومتهم من آل نوفل هدمت عليهم البيوت التي يقطنونها، وقتلت منهم من قتلت واستاقت من أسَرَتهم من الرجال، وشتت شمل الباقين الذين فرّوا باتجاه جبل حوران ــ كما كان يدعى آنذاك ــ ليستقرّوا في قرية أم الزيتون، ومن ثم مدّوا نفوذهم إلى شهبا.
لقد رتّبت سيطرة آل عامر على شهبا، والعديد من قرى وادي اللوى المنحدر من السفوح الشمالية الغربية لجبل العرب باتّجاه سهلة براق جنوب شرق دمشق، مسؤوليات الدفاع عن الوجود الحضري للإنسان في البلدة والديار المجاورة التي تآكّلها الخراب والبداوة قروناً مديدة، فعملوا على حماية الزراعة في موطن ناشئ كانت تسيطر فيه تقاليد الصحراء والغزو، بحيث كان الوالي العثماني المقيم في مدينة دمشق، يجد نفسه مجبَراً على تجييش عساكر الولاية ومنازلة أولئك البدو في القفار التي هم أكثر خبرة بدروبها ومسالكها المخيفة، أو كان يدفع لهم المال مقابل تسوية موسميّة توفّر إراقة الدماء، نتج ذلك عن تراجع القوة العثمانية بسبب فساد ولاة وجيش السلطنة، وعجز القيادة عن مواكبة العلوم العسكرية والإدارية الحديثة. نتيجة لذلك، توجّب على رعايا السلطنة أن تقوم كل فئة منهم خارج المدن الرئيسية التي تنحصر فيها سيطرة الدولة، بالاعتماد على نفسها في توفير الأمن الذاتي الذي طالما كان يضطرب تبعاً لموازين القوى التي لم تكن لتستقرّ على حال، إذ كان الولاة العثمانيون ينقلون تأييدهم ودعمهم إلى هذه الفئة أو تلك، من فئات السكّان وطوائفهم وفقاً لحسابات سياسية، أو بحسب كميّة الرشاوى أو وفقاً لأهواء مذهبية ضيّقة.
ولم يكن العوامرة وحدهم في معترك أحياء شهبا وقرى القسم الشمالي من الجبل، فقد كان بنو معروف في سائر قرى الجبل التي أحْيَوْا مواتها، وعمّروها بعد خرابها، يتآزرون في هذا المجال دفاعاً عن وجودهم على هذه الأرض الجديدة التي وصلوها مُطارَدين من مواطنهم الأولى.
كان الاستبداد السائد في مواطنهم التي هُجّروا منها، يضاف إليه الحلف الشهابي الفرنسي الطائفي المركّب ضدّهم في جبل لبنان، والاضطهاد الديني في ديار حلب والشام، وشمال فلسطين، وصراعاتهم القبلية الموروثة بين “قيسي” و”يمني”، كل تلك العوامل كانت من أسباب تشتتهم ولجوئهم إلى جبل حوران، الذي حمّلوه اسمهم ( جبل الدروز)، في ما بعد، وكان ذلك كلّه يتمّ على حساب تضحيات جسيمة، وسيل من دماء الضحايا.
نزاع مع سادة الريف الدمشقي، آل الفحيلي
كانت لقبيلة الفحيلية، في مطلع القرن التاسع عشر وما سبقه، صولة وجولة في جنوب مدينة دمشق، وخصوصاً في منطقة اللجاة وأطرافها، إذ كانت هذه القبيلة البدوية الباسلة تمد نفوذها أحياناً إلى سهل حوران بكامله، بحيث كان فرسانها يفرضون خُوّة سنوية على كافة قرى السهل الحوراني، أما الجبل الذي كان آنذاك بمعظمه خراباً، ومراعي لمواشي البدو في فصل الربيع وأوائل الصيف، فقد بدأ ينفض عنه مظاهر الخراب والبداوة.
حدث ذلك عندما أخذ الموحّدون الدروز المهجّرون من لبنان وديار حلب وشمال فلسطين ببعث العمران في أرجائه التي ران عليها الخراب ونعيق البوم منذ مئات السنين… وقد بلغ من سطوة فرسان الفحيلية وجبروتهم في ذلك الزمن أنّهم عندما كانوا يجوسون في قرى السهل الحوراني كانوا يفرضون على الأهالي من الحوارنة أن تُقدّم الذبائح طعاماً لهم، فلا يأكلون إلاّ وهم راكبون على ظهور خيولهم، والموائد وصحاف الطعام محمولة على رؤوس الرجال أو النساء من فلاحي السهل المقهورين بالدولة وبسيطرة البدو معاً.
حتى والي دمشق العثماني كان يضطرّ لمصانعة أولئك البدو، فيسلّم في كل سنة خُلعة لشيوخ البدو من الفحيلي والسرديّة، وكان هذا التصرّف من الباشا العثماني بمثابة تفويض من السلطة لهؤلاء البدو يجيز لهم أخذ الإتاوة من قرى حوران والجولان، ومن قرى كثيرة في جبل عجلون، على أن تكون حصة الوالي من تلك الضريبة عشرين كيساً من القروش الذهبية (الكيس يحوي خمسمائة قرش) يدفعها له آل الفحيلي، كما يدفع السردية أيضاً اثني عشر كيساً مثلها.
في تلك الفترة التي تميّزت بضعف هيبة الدولة، وتنازع الفئات الاجتماعية، وسيادة شريعة الغاب، نزل آل عامر في مدينة شهبا، كان ذلك نحو العقد الأول من القرن التاسع عشر، بعد أن انتقلوا إليها من بلدة أم الزيتون، ومن ثم أزاحوا آل القلعاني الذين ضعف دورهم بعد موقعة مذبح الدروز على تخوم وعرة الصفاة شرقي قرية الحقف التي تبعد نحو عشرين كيلومتراً شمال شرق شهبا، تلك الموقعة التي شكّلت كارثة على آل القلعاني، إذ خسروا ستة أشقاء من خيرة فرسان بني معروف أثناء ملاحقتهم لجماعات البدو الذين لم ينفكوا عن الإغارة على الأراضي الزراعية. وبنتيجة تلك الخسارة الفادحة فقد آل القلعاني موقع الوجاهة في شهبا لصالح آل عامر، فانتقلوا في ما بعد إلى نمرة، ومن ثم إلى شقّا.

” قال ظاهر لرجاله:” سأهجم على الفحيلي لوحدي، فإن قتلته سينهزم رجاله، ونسلم، وإن هو قتلنــي فليتــدبّر كل واحد منـــكم أمر نفسه” “

آل عامر في موقع المواجهة
لم تكن زعامة آل عامر في شهبا بالمهمّة السهلة في ذلك العصر من فوضى البداوة وتواطؤ الولاة الذين كانوا لا يكفون عن تحريض البدو والجوار على الموحّدين، وطبقاً لهذه السياسة وإثر اعتداء قام به رعاة من قبيلة الفحيلي على مزروعات أهالي شهبا ذات ربيع من ذلك الزمن البعيد، فاشتبكوا مع نواطير المزروعات الذين لم يتمكنوا منهم لأنهم أعدّوا عدّتهم للأذى، فاضطرّوا لطلب النجدة من فرسان بلدتهم الذين سارعوا إليهم ولاحقوا المعتدين بهدف إبعادهم عن معمور بني معروف باتجاه مواقعهم التي قدموا منها وراء خربة المسمية الواقعة شمالي اللجاة ــ كانت المسمية آنذاك خراباً لم تعمّر بعد ــ ، وفي ذلك الموقع البعيد من حمى الجبل فوجئ فرسان شهبا ببركات الفحيلي، شيخ قبيلة الرعاة المعتدين، يرافقه نحو ثلاثين فارساً من قبيلته بعد أن كان راجعاً من زيارته للوالي العثماني في الشام.
كان الرعاة بدورهم قد استنجدوا بفرسان قبيلتهم التي كانت مضاربها قريبة منهم، وقد اشتد الاشتباك بين الفريقين، وما أن رأى بركات رجاله يتراجعون في مواجهة فرسان شهبا الذين كان يقودهم ظاهر حتى اعتملت في رأسه حَميّة القبيلة، فانبرى مع من معه واندفعوا إلى جانب مقاتلي الفحيلي، هنا وقع فرسان شهبا القلائل في مأزق، فإمّا الهزيمة والنجاة وإمّا الإبادة.
كانت تقاليد البداوة تقضي بهزيمة المقاتلين إن قتل قائدهم، قال ظاهر لرجاله:” سأهجم على الفحيلي لوحدي، فإن قتلته سينهزم رجاله، ونسلم، وإن هو قتلني فليتدبّر كل واحد منكم أمر نفسه”.
لم يمهل ظاهر نفسه، ثبّت حاجبيه بعصابة على جبهته، وانتخى كعادة فرسان ذلك الزمن واندفع نحو زعيم القوم يشتبك معه كيفما كان الأمر، بارودة لبارودة، وسيفاً لسيف، وما هي إلّا جولات مريرة حتى وقع الفحيلي قتيلاً، وانهزم من كانوا معه يلوذون بوعور اللجاة.

ثأر لم تَطْوِه الأيّام
كان يوم المسمية نصراً للزراعة والتحضّر لا في شهبا وحدها، بل في سائر قرى المقرن الشمالي من الجبل، فقد أدرك البدو أن للزراعة ربّاً يحميها، ولكن قبيلة الفحيلي قبيلة عربية لا تنام على ضيم لحقها بمقتل شيخها.
يوم قتل بركات كانت إحدى نسائه حاملاً تنتظر وليداً قارب قدومه إلى هذا العالم الدامي، وعندما ولدته كان مولوداً ذكراً أسمته( ظاهر)، على اسم قاتل والده، كان هذا تدبيراً ذكيّاً من الأم الوالدة لكي لا يُنسى الثأر من القاتل، ظاهر عامر.
مرّت أعوام تتلوها أعوام، بضعة عشر عاماً، وإذا بظاهر الفحيلي شابّاً يافعاً، وقد ورث حمى أجداده المتمثل بسيطرة قبيلته على الريف الجنوبي لدمشق، وامتداداً إلى قرى حوران.
أمّا الطريق ما بين الجبل ودمشق، فقد كانت طريقاً مخيفة في تلك الأيام، كشأنها في أيّام الاضطرابات دائماً، وإلى يومنا هذا.
ويشاء مدبّر القدر أن يكون ظاهر عامر عائداً من دمشق إلى شهبا بصحبة فارسين اثنين من بني عمّه، وعلى ذلك الطريق في سهلة براق وفي ليلة شتائية باردة داهمتهم عاصفة وضباب أضاعوا معهما الطريق فتاهوا، وعندما انفرج الجو قليلاً أدركوا أنهم في موضع بعيد عن ديارهم، ولم يلبثوا أن استأنسوا بنار تلوح عن بعد، فتوجّهوا نحوها علّهم يجدون قربها مأوى دافئاً من برد وبلل ألمّا بهم.

محاربون من البدو في مطلع القرن
.محاربون من البدو في مطلع القرن

عجائب الأقدار
ما أن وصلوا، ترجّلوا عن خيولهم ونزلوا ضيوفاً في البيت الذي استدعتهم إليه ناره، كان بيت الشيخ الذي رحّب بهم، وكان في المضيف شبّان ساهرون من الأسرة بينهم ظاهر الذي تنبّه إلى أنّ أوصاف أحد الضيوف تطابق أوصاف قاتل أبيه، فعجّل في تلك الليلة يستدعي عمّه الكهل للتثبّت من صحّة معرفته بقاتل والده الذي يعرفه بحكم علاقات الجوار القديمة.
وصل العمّ سريعاً، وعندما سلّم على الضيوف أدرك أن طريدته وصلت إلى بيته!؟، التفت نحو الشبّان، أولاد أخيه المقتول، وقال لهم ( كبّروا النار يا عيال)، وما أن شبّت النار حتى ظهرت ملامح ظاهر عامر التي يعرفها جيّداً، شعر الحاجبين الكثّ فوق العينين، والبشرة الشقراء المائلة للحمرة، ومهابة الرجل.
بادره العم:” هو أنت ظاهر وَلاّ انت شبيه لَهْ ؟!”.
أجابه ظاهر بلا تردّد:” أنا ظاهر بذاته”.
ــ هو أنت وأهم أو أنت وارد؟ ( الواهم هو الواصل إلى مكان عن طريق الغلط، أي لم يقصده، والوارد هو القادم عن سبق تصميم وإصرار).
قال ظاهر عن بداهة منه واستدراك:”بل أنا وارد”.
هنا، قال العم لأولاد أخيه:” قدّموا للضيوف تمراً، ولا تقبلوا إلاّ أن يأكلوا، وبعدها أطفئوا النار، وفي الغد نرى ما سنفعل”.( لأنّه من تقاليد العرب أن من يطعم الضيف الخبز والملح لا يحق له أن ينال الثأر الذي له عنده).
في تلك اللحظات الحرجة أدرك ظاهر أن القدر ساقه إلى بيت غريمه، فقال لصاحبيه: “ليس بيدنا أن نفعل شيئاً، ولا بدّ أنهم قد ربّطوا أفراسنا، وشددوا الحراسة علينا لكي لا نفلت منهم، ناموا وتوكّلوا على الله، والصباح رباح”.

” قال شيخ الفحيلي: “إن حلف ظاهر عامر وأنكر أنه قتل بركات أخي سنقتله لأنه كذاب، وإن هو اعترف فلتزغرد نساء القبيلة لأننا نكون قد أخذنا ثأرنا بالعفو عند المقـــدرة” “

مدينة-شهبا-اليوم
مدينة-شهبا-اليوم

يوم الفصل
صبيحة اليوم التالي جمع العمّ رجال القبيلة، وقال لهم:”هذا اليوم لنا. إذا حلف ظاهر عامر وأنكر أنه قتل بركات أخي سنقتله لأنه كذاب، أنا رأيته بعينيّ هاتين يوم قتل بركات، وإن هو اعترف ــ والتفت نحو جمع من نساء القبيلة ــ وقال لهنّ: لازم تزغردن يا بنات، بهذا نكون قد أخذنا ثأرنا بالعفو عند المقدرة”.
ما هي إلاّ لحظات كانت كدهر مديد على ظاهر عامر ورفيقيه الحبيسين في المضيف، وقد أسلموا أمرهم لله تعالى، حتى قدم رجال من القبيلة وطلبوا إليهم المثول أمام الحشد في ساحة من عراء اللجاة، وفي صباح تقنّعت شمسه ببراقع من غيوم دكناء ورياح غربية باردة يدفعها البحر المتوسّط شتاءً عبر فتحة الجولان إلى وعور اللجاة، تقدّم العمّ من ظاهر وهو يحمل بيده عوداً من شجر اللوز البرّي الذي كان يكثر انتشاره في تلك الدّيار، وخطّ به على الأرض دائرة، وقال له:”توسّط الخِطّة يا ظاهر، وهاك عود اللوز واحلف بما تعرف عن يوم ذبحة بركات”.
تناول ظاهر العود من غريمه، ثم توسّط الخطّة وصاح بأعلى صوته:”وحياة من خلق عود اللوز، وخلق الدنيا بالجوز( أي خلقها أزواجاً)، وحياة من خلق هذا العود، وما لنا غير الله من رب معبود، بارودتي أصابت بركات الفحيلي، والله هو المحيي وهو المميت”.

أراضي اللجاة التي كانت تسيطر عليها عشيرة الفحيلي
أراضي اللجاة التي كانت تسيطر عليها عشيرة الفحيلي

خاتمتها صلح وصداقة
لم يكد ظاهر يكمل قسمه، حتّى علت زغاريد نساء القبيلة اعتزازاً بأن قاتل شيخهم بطل شجاع من أشراف الناس، وليس إنساناً نكرة، وهذه الدنيا شأنها هكذا، يوم لك ويوم عليك…
بعد ذلك صنعوا وليمة لظاهر ورفيقيه، وعقدوا راية بيضاء دلالة على المصالحة والتسامح وتجاوز العداوة القديمة، وأن لا ثأر لآل الفحيلي عند آل عامر بعد اليوم، ولم يلبث أن انطلق ظاهر وصاحباه من مضارب الفحيلي إلى شهبا، وقد حمّله آل الفحيلي بنبلهم وتسامحهم دَيْناً عظيماً، فجمع أقاربه وأعيان شهبا، وأنبأهم بالذي حدث له ولصاحبيه مع آل الفحيلي، قدّر آل عامر وأهالي شهبا ما فعله آل الفحيلي تقديراً عالياً، وقرّروا أن يقوموا بزيارة رد جميل لهم، وهكذا كان، إذ جمع ظاهر عامر وفداً من آل عامر وسائر أعيان شهبا، ومن ثمّ انطلقوا يحملون هدايا ثمينة تليق بتسامح القوم الكرام، آل الفحيلي، وإلى يومنا هذا لم تزل المودّة قائمة بين آل الفحيلي من جهة، وآل عامر وسائر بني معروف تقديراً لتلك التقاليد النبيلة.

هنانو

بعد محنة قاسية عاش فيها شريداً ومطارداً

إبراهيم هنانو
في جبل العرب

عرض سلطان باشا على الزعيم المطارد البقاء في الجبل لكنه آثر السفر إلى الأردن وفلسطين لمقابلة الأمير عبد الله

أظهر هنانو صلابة في متابعة النضال ضد الفرنسيين لكنه اصطدم بالواقع الدولي الذي فرض على المنطقة

رشيد طليع والي حلب في سوريا الاستقلال وإبراهيم هنانو يقودان مقاومة الشمال السوري لطلائع الاحتلال الفرنسي الذي استهدف إسقاط عهد فيصل الأول

أحد الفصول المطوية في تاريخ النضال الوطني السوري هو ذاك الذي سطّره مناضل عنيد وصلب هو الزعيم السوري الكردي الأصل إبراهيم هنانو، وهو فصل حافل بأعمال المقاومة العسكرية للقوات الفرنسية التي كانت قد دخلت سوريا على أنقاض العهد الفيصلي الذي لم يترك له أن يعمّر طويلاً. فعلى الرغم من كل ذلك، إختار هنانو معاكسة التيار والثبات في ميدان معركة غير متكافئة على الرغم من علمه بصعوبة الموقف وإحساسه المتزايد بأن المصالح الدولية التي نشأت على أنقاض الخلافة العثمانية لم تعد في صالح الاستقلال السوري. ومن أبرز التطورات التي ساعدت في إجهاض المقاومة الوطنية السورية كان التوافق التركي -الفرنسي الذي تمّ بعد ضم لواء الإسكندرون إلى تركيا وانقلاب كمال أتاتورك على الحركة الوطنية السورية نتيجة لذلك. أما في الأردن، فقد تبيّن لأولاد الشريف حسين فيصل الأول وعبد الله أن المنطقة قد قسمت فعلاً بموجب اتفاق دولي يفوق طاقة الحركة العربية الناشئة، وقد ارتأى الزعيمان على سبيل الواقعية السياسية التكيّف مع الوضع الجديد ونالا نتيجة لذلك عرشي العراق ومملكة شرق الأردن. وقد صدم هنانو بالطبع لتبدل المواقف ولعدم حماس الأمير عبد الله بن الحسين، وهو السياسي المحنك، مدّ ثواره بالمساعدات، وقد كان الأمير الهاشمي ملماً جيداً بالمتغيّرات التي نجمت عن انهيار الدولة العثمانية وسيطرة الدول الأوروبية على معظم ممتلكات الخلافة وتقاسمها في ما بينها.
وما زاد في الصدمة السياسية لإبراهيم هنانو، المحنة الشخصية التي عاشها بعد انهيار مقاومة الفرنسيين في الشمال السوري وتشتيت الثوار ونكوص العديد منهم أمام ضغط الفرنسيين وقوتهم الساحقة، وقد ضاق الخناق على الزعيم هنانو نفسه عندما وجد نفسه مطارداً ولم يعد له من خيار سوى السعي إلى مغادرة سوريا باتجاه الأردن. في هذا المقال نعرض للظروف القاسية والمخاطر الكبيرة التي عاشها الزعيم إبراهيم هنانو في طريقه من منطقة حلب إلى المنفى الأردني، وقد ذاق المناضل الصلب الأهوال في تلك المسيرة التي قادته أولاً إلى جبل العرب، حيث أمكنه أن يلتقط أنفاسه ويطمئن إلى سلامته في حياض العشيرة المعروفية وقائدها سلطان باشا والعديد من أبطالها الذين أكرموا وفادته، وبذلوا كل ما في وسعهم لحمايته ثم لتأمين وصوله إلى شرق الأردن.
فكيف بلغ إبراهيم هنانو نقطة التسليم بحتمية مغادرة سوريا، وكيف جاز البوادي وعايش الأخطار في سبيل بلوغ منفاه، وما هي تفاصيل إقامته في جبل العرب ومقابلته مع سلطان باشا؟

وُلِدَ إبراهيم هنانو سنة 1869، في قرية كان يسكنها خليط من العرب السنّة والدروز، ومن الأكراد السنّة…، تلك هي قرية كفر تخاريم، من قرى ديار حلب آنذاك ــ تتبع محافظة إدلب حالياً ــ وهو يتحدّر من أصل كردي، ويتبع لعشيرة البرازيّة. كان جد الأسرة قد قَدِمَ من ديار ماردين التي تقع ضمن الأراضي التركية حالياً، واستوطن كفر تخاريم التابعة لقضاء حارم، غربي مدينة حلب، منذ نحو ثلاثة قرون.
أنهى التلميذ إبراهيم مرحلة الدراسة الابتدائية في بلدة حارم، وفي مدينة حلب نال الشهادة الثانوية، ثم سافر إلى الآستانة ليتابع تعليمه الجامعي في عاصمة الامبراطورية العثمانية آنذاك، وبعد تخرّجه، شَغَلَ منصب القائمّقام في أحد الأقضية من بلاد ديار بكر في جنوب الأناضول إبّان الفترة الأخيرة من الحكم العثماني، وهذا منحه خبرة عملية في الناس والإدارة، إذ جمع بين الوعي السياسي العميق، وفهم الأدب، والمعرفة بشؤون الزراعة…
كان إبراهيم هنانو واحداً من أولئك الثوار الوطنيين الذين دخلوا التاريخ، بإخلاصهم للقضية الوطنية التي من أجلها يناضلون، فعندما أُعْلِن استقلال البلاد بإسم” سوريا”، بحدودها الطبيعية، اختاره أبناء مدينة حلب ليكون ممثلاً لهم في المؤتمر السوري الأوّل الذي اجتمع في دمشق، كان ذلك في شهر آب من سنة 1919. وقد شارك الرّجل، حامل الإجازة في الحقوق، بنشاط في أعمال دورتي المؤتمر المذكور عامي 1919 و 1920.
كان تقسيم بلاد الشام بحسب اتفاقية سايكس ــ بيكو، يأخذ سبيله إلى التنفيذ، وكان ذلك الوضع المُريب يرتّب على حكومة الملك فيصل بن الحسين في دمشق أن تتحرّك بسرعة لمواجهة احتلال فرنسي وشيك الحدوث، لذا فقد عُيّن المناضل العروبي، والضابط السابق في الجيش العثماني، رشيد باشا طليع ــ وهو من جديدة الشوف في جبل لبنان ــ والياً على حلب، وعُيّن إبراهيم هنانو مديراً لمكتبه، وتعاون الرجلان في مهمة الإعداد لمقاومة الاحتلال الفرنسي الوشيك وعمل هنانو بتشجيع من رشيد طليع على تشكيل زُمَر صغيرة من الثوار، لتكون سهلة الحركة وسريعة التنقّل، بهدف عرقلة حركة قوّات الزحف الفرنسي.

ثورة شمال سوريا على الفرنسيين
ولم يلبث أن وقع الاحتلال بعد معركة ميسلون في تمّوز 1920، وقامت جماعات هنانو من الثوّار بدورها المرجوّ منها، الأمر الذي فرض على المحتلّين حشد المزيد من قواتهم بقيادة الجنرال” دي لاموت” لاحتلال حلب في الثالث والعشرين من تموز 1920. على أثر ذلك غادر هنانو حلب إلى بلدته كفر تخاريم، ومن ثمّ اتّخذ من جبال الزاوية معقلاً لثوّاره، ثمّ سافر إلى تركيا بهدف تأمين إمدادها الثوار بالسلاح، ونجح سعيُه حينها، فقد كان الأتراك آنذاك في حالة حرب مع الإنكليز والفرنسيين ضد اتفاقية سايكس ــ بيكو، التي هدفت إلى تجزئة بلادهم أيضاً، وقام بتوزيع السلاح على جماعات المجاهدين الذين يعملون بقيادته، كما عمل على إعادة تنظيمهم بحيث توزّعوا على شكل فرق تقاتل ضمن مناطق تواجدها.
وحدثت مع الفرنسيين “معارك طاحنة” أشهرها معركة مخفر الحمام لكن الأتراك ما لبثوا أن تخلوا عن مساعدة ثوار شمال سوريا بعد أن عقدوا صفقة مع فرنسا تمكنوا بموجبها من اقتطاع جزء كبير من الشمال السوري.
وبتأثير من السياسة الأتاتوركيّة، انسحب الأتراك السوريون، أنصار تركيا من القتال، لكن مقاومة المحتل لم تتوقّف رغم الصّلح التركي مع فرنسا، واستمرّ الزّعيم هنانو ومن معه من الثوّار يقاتلون القوات الفرنسية، حيث اشتبكوا معها في مواقع عدة أهمها موقعة مزرعة السيجري وموقعة كفر تخاريم في كانون الأوّل 1920، وتمكّن الثوار من تكبيد القوات الفرنسية خسائر كبيرة في الرجال والعتاد.، وأظهرت تلك النجاحات القتالية صوابيّة رأي كل من رشيد طليع ــ الذي سيلمع نجمه في ما بعد في الثورة السورية الكبرى ــ ورفيقه في الجهاد إبراهيم هنانو في اختيارهما لقوات من الثوّار قليلة العدد، وسريعة الحركة، وتتمتع بمعنوية عالية في مواجهة جيش حديث مجهّز بمعدّات ثقيلة.
عرض الفرنسيون على هنانو تسليمه منصب رئاسة حكومة حلب، لكنّ الرجل رفض القبول بتقسيم البلاد، وقد ردّ الفرنسيون بتشديد الضغط على هنانو ومجموعاته خصوصاً بعد القضاء على ثورة الشيخ صالح العلي في جبال العلويين، وتمكّن الفرنسيون من تشتيت شمل الثوار وأضعفوا بذلك موقف إبراهيم هنانو، الذي اضطرّ إلى اللجوء ذات مرّة إلى بيت المجاهد عمر عز الدين، وهو من الموحدين الدروز ومن قرية كفتين.

في الطريق إلى جبل الدروز
ترافق تشتت صفوف الثوار مع نقاش تناول الخطوة التالية بعد تلاشي قوة المتمردين. إذ اتجه فريق منهم نحو الأراضي التركية، بينما فضل قسم آخر، كان هنانو منهم، التوجه نحو الأردن. لكن خيار هنانو ورفاقه كان محفوفاً بمخاطر أكبر لأن اللجوء إلى تركيا كان سهلاً في منطقة الشمال السوري، بينما كان الوصول إلى الأردن مهمة شاقة محفوفة بمخاطر بسبب بُعْد الطريق عبر البادية السورية، وعدم وجود مواقع طبيعية تؤمّن الحماية للثوّار في تحرُّكهم عبر أرض مكشوفة، وفوق هذا وذاك عدم الاطمئنان لولاء العشائر التي تسكن البادية. وكان كل ذلك من العوامل التي تسهّل على الفرنسيين مطاردة الثوار والقضاء عليهم.
افترق هنانو عن إخوانه أصحاب خيار اللجوء إلى تركيا وانحدر بجماعته إلى المناطق الوعرة في قضاء معرّة النّعمان، واتّجهوا شرقاً في السهول، يكمنون في النهار، ويسيرون في الليل، وهكذا حتى أصبحوا شرق السّلميّة، وكانوا نحو ثمانين مسلّحاً أكثرهم من المشاة وكان دليلهم المجاهد هزّاع أيّوب، الخبير بطرق البادية، يقطعها ماشياً على قدميه. لم يطل الأمر قبل أن يدرك الجمع من يبلغهم أنهم مطوقون من قبل القوات الفرنسية وبقوات دعم من البادية عند قرية “عنز”، إحدى قرى السلمية، فقد وفدت إليهم سيّارة تقلّ الشيخ سلطان الطيّار من زعماء العشائر في البادية السورية، يحمل رسالة لهنانو من الكابتن فوزي القاوقجي، الضابط في الجيش الفرنسي حينذاك، يبلغه فيها أنّه وَمَنْ معه، مطوّقون بالقوّات الفرنسية، وبقوّات دعم من قبائل البادية التي تتبع لتلك القوّات، وأن لا نجاة له ولرفاقه الثوار منها، ويعرض عليه الدخول في مفاوضات على الاستسلام، مقابل التعهّد بضمان حياته وحياة من معه من المجاهدين، واعتبارهم كأسرى، إلى أن يصدر العفو عنهم من المندوب السامي الفرنسي. لكن هنانو كعادته فضّل أخذ الطريق الصعب، فرفض العرض وحثّ مع جماعته السير في البادية محاولاً الابتعاد ما أمكن عن مطاردة الفرنسيين. إلا أن هؤلاء أدركوا الثوار بعد يوم واضطر هنانو للانسحاب مع فرسه في مجاهل القفر السوري الوعرة والجافة. وقد أيقن المناضل العنيد بعد أن أنهكه التنقل ومطاردة السلطة الفرنسية استحالة عبور الصحراء السوريّة باتّجاه الأردن، خصوصاً بعد أن فقد الاتصال بدليله، المجاهد هزّاع أيّوب الذي لم يعد يُعرف له مصير.
وبسبب معاناته وحصانه الأصيل من إرهاق السفر والعطش والجوع، قرر هنانو أن يعرج على مضارب بعض البدو لعله يجد لديهم ملاذاً، لكنه سرعان ما سيشعر بالندم إذ ساورته الشكوك في نوايا زعيم عشيرة الخالدية وطريقة تعامله معه، وقد اضطر هنانو بعد ذلك لأن يدفع إلى الأخير بمعظم الليرات الذهبية التي كان يحملها تحت كمره لكي يخلي سبيله بعد أن بات أشبه بمعتقل في مضاربه في انتظار صفقة كان ربما يدبرها مكراً به وغدراً.
بعد تلك المغامرة ترك هنانو مضارب العشيرة واتجه بجواده غرباً، ووصل إلى مدينة حمص التي دخلها متنكراً من جهة الشرق وتوغّل في حي الخالدية، وهو حيّ يغلب الفقر على ساكنيه، وعزم على أن يطرق باباً من أبواب ذلك الحي، كان يريد إيداع حصانه مقابل أجر، ثمّ يمضي إلى المسجد يقضي فيه نهاره مُصَلّياً ومن ثمّ ينام في إحدى زوايا باحته، إلى أن يجنّ الليل، فينسلّ إلى دار صديقه، وزميله، عضو المؤتمر السوري إبّان العهد الفيصلي، عمر الأتاسي، ليتدبّر معه مسألة وصوله سرّاً إلى الأردنّ.
تفرّسَ في الأبواب التي كان يمرّ أمامها، اختار باباً ذا خصائص، يُعَبّرُ عن بساطة أهل تلك الدار التي يتصدّرها، طَرَقَهُ في حمأة ذلك اليوم القائظ، فتح له شابٌّ في مقتبل العمر، وسأله:
أيمكن أن تتفضّل بربط هذا الحصان في ظِلٍّ عندكم لقاء أجر، ريثما أذهب إلى المدينة أقضي فيها حاجتي وأعود؟.
قال الشاب: أهلاً وسهلاً بالعم، إنّ في استطاعتك أنت وجوادك أن تجد لدينا مكاناً للراحة والمبيت، فهلّا دخلت أوّلاً، واسترحت من عناء السفر، فالوقت الآن وقت قيلولة، ونحن في هاجرة النهار…، تفضّل يا عم وادخل، فأنت في دارك وبين أهلك”!، تشجّع هنانو من كلام الشاب، فترجّل. ناول الشاب عنان الحصان، فقاده بدوره إلى مربط في صحن الدار، ثمّ عاد سريعاً حيث أدخله غرفة فقيرة الأثاث، لكنّها نظيفة ظليلة، فرش له حصيراً، ووسائد، ولكنه انتبه إلى ما به من وسخ، فبادره:
ــ مارأيك يا عم بحمّام بارد في عتبة هذه الغرفة لتنظّف جسمك؟، وسآتيك بثياب تلقي بها عنك هذه الأثواب الوسخة، قال هذا، ومضى دون أن يترك له مجالاً للاعتراض، ونقل له إلى العتبة صفائح من الماء البارد، كانت امرأة قد انتشلتها من بئر في باحة من الدار، عرف في ما بعد أنّها امرأة أخي الشاب.
إغتسل، ولبس ثياباً نظيفة منذ زمن خاله دهراً، وجلس آمناً، ثمّ طلب من الشاب أن يذهب بدينار ممّا كان معه، ليأتي له ببعضه غداء من السوق، وعليقاً للجواد، فلبّى الطلب مخلصاً. نام بعدها نوماً عميقاً …
عند الأصيل فُتِح َ باب الدّار، ودخل رجل يرتدي قنبازاً وكفّيّة وعقالاً، أدرك هنانو أنّه صاحب البيت، ويبدو أنّ امرأته لوّحت له من المطبخ المقابل لباب الدّار، اتّجه صوبها، ولم يلبث أن عاد ووقف إلى جانب الجواد، وتفرّس به، ثمّ نقله إلى مكان ظليل من الدّار، بناء على رغبة هنانو بحجّة حمايته من حرّ ذلك اليوم القائظ، وحقيقة الأمر أنّه ــ أي هنانو ــ أراد إبعاده عن العيون كي لا يُرى من خارج الدار كلّما فُتِح بابها، لكنّ الرجل رجع إلى زوجته ودار بينهما همس استمرّ دقائق، ثم أقبل إلى الغرفة حيث يجلس هنانو، حيّاه وجلس، وبادره بالسؤال:” ضيفنا من أي ديرة؟”، قال هنانو:”من ديرة المعرّة، سُرقت لي أغنام، فركبت في أثرها، لعلّي أجدها، ولكن خاب أملي وسلبني قُطّاع الطرق ملابسي، وها قد رماني القدر في داركم”!.
ــ ولكن جوادك أيّها الصّديق هو جواد الزعيم إبراهيم هنانو، عليه تنطبق كل الأوصاف التي رآها البدو، والجنود الذين طاردوا عصابته وطاردوه شخصيّاً في البادية، فهلّا صدقتني القول وطمأنتني عن سلامة الزعيم؟
كان الصدق والتلهّف واضحين في لهجة الرجل وفي عينيه، ولكنه شعر أنّ عليه أن يستوثق من الرجل بحقيقة موقفه منه، فسأله:
ــ ومن أين عرفت أنّ الجواد حصان هنانو؟
قال: أنا جنباز ــ أي سمسار ــ خيل، وإسمي أنيس أحمد الدّقس، قضّيت عمري كلّه في هذه المهنة، والناس كلّهم يلهجون اليوم بقصّة الزعيم هنانو، وجواده الأصيل الذي أنقذه من كل خيول البادية التي طاردته فرسانها، طمعاً بالجائزة التي وَعدت بها فرنسا شيوخ العشائر، أو أيّ اًمن يقبض عليه، والألسن تلهج بالدّعاء للّه أن يحفظ الزعيم، فلا يهلك جوعاً وعطشاً في الصحراء القاحلة، وألّا يقع بيد الفرنسيين، أعدائه وأعداء البلاد كلّها، فهلّا أخبرتني إن كان هذا حصانه، وهلّا طمأنتني عنه؟.
ــ طِب نفساً، وقرّ عيناً، فهذا حقّاً هو حصان هنانو، وأنا رفيقه الذي نجوت معه في الطراد، وهو في مكان أمين، وحرز حريز، لا خوف عليه إن شاء الله، وقد أوفدني إلى حمص بمهمّة، أنا في سبيل إنجازها له، فهل أنت مستعد لمساعدتي؟
ــ قال المضيف: إنّ روحي فداء الزعيم هنانو، وبيتي وزوجتي وأخي وكلّ أسرتي، فهلّا حدّثتني عن مهمّتك؟، أنا رهن إشارتك.
إغرورقت عينا هنانو بالدموع لتأثّره بصدق لهجة الرجل، ولإحساسه بعميق إخلاصه، وأدرك أنّ في وطنه شعباً طيّباً، وأنّ مضيفه مثال حي على أصالته، لقد شفت أقوال هذا الرجل النبيل ما لَقِيَهُ من شيخ بني خالد، الذي كان سلوكه معه أبعد ما يكون عن شِيَم العرب.
لم يجد هنانو بُدّاً، بعد ما لقيه من إكرام الرجل الحمصيّ له، وصدقه، وتعبيره عن الحرص على سلامته، من أن يبوح بحقيقته لمضيفه، فاعترف له بأنّه إبراهيم هنانو، فهمّ الرجل بتقبيل قدميه من شدّة الفرح، وهنانو يبعده عن ذلك، وطلب منه بعد ذلك أن يُسهّل اتّصاله بعُمَر الأتاسي، ليؤمّن له وصوله إلى شرق الأردن، عن طريق جبل الدروز.
ــ ما لنا وهؤلاء الأفنديّة الذّوات، قال الدقس كمن يعرف واقع الحال في مدينته، مضيفاً: أنا الفقير، جنباز الخيل، مستعدٌّ أن أبذل روحي في سبيل وصولك إلى المكان الأمين الذي يكفل سلامتك، ولست أريد أن يعلم أحد غيري بوجودك هنا، وسأقوم من هذه الساعة بإعداد العدّة لسفرك إلى شرق الأردن عبر الطريق الأمينة، وسيكون سفرنا من هنا إلى دمشق، وعبر الطريق العامّة، ولكن عليّ أن أغيّر لك ملامح الحصان، وأن أجد لك الزيّ المناسب الذي لا يلفت النّظر، ولا يثير الشكوك، فإذا وصلنا دمشق، ضمنت لك وصولك إلى جبل الدروز، فهل أنت ضامن في الجبل من يساعدك على الوصول إلى شرق الأردن؟
قال هنانو: نعم، لي فيه من أثق بوطنيّته وإخلاصه وقدرته على العمل.
قال الدّقس: حسناً، سأعدّ العدّة، وليس أمامي غير تغيير أوصاف جوادك الذي أصبح أشهر من داحس والغبراء، والأبجر والخضراء في قصص العرب، ولكنّني أنا الجنباز سأغيّر معالمه وأبدّل أوصافه، وأجعل منه جواداً آخر، لا يمكن لأعظم خبير في الخيل أن يعرفه.
في اليوم التالي، جاء الجنباز بأصباغ، وبمقص للشعر، وأخذ يتلاعب بمظهر الحصان، قصّ بعضاً من شعر لبدته، وقصّ شعر ذيله، وصبغ الغرّة بين ناصيته، والبياض في أرجله، وقصّ وصبغ حتّى لتظنّه إذا ما رأيته حصاناً غيره، ثم ّذهب إلى السوق ببعض نقود من هنانو، وأتاه بلباس كامل لزِي آغوات عكّار، وأبلغه أنّه استأجر رهوانة لعشرة أيّام، وأنهما سينطلقان معاً في الأصيل إلى دمشق، بحيث يكون مسيرهما في الليل، ومن ثمّ يستريحان في النهار تحت ستار الحرّ في شهر تمّوز، إلى أن يصلا غايتهما، دمشق.
قطعا أوّل مرحلة من الطريق، حيث بلغا بلدة ” حسياء”، وفيها قضيا النهار ثم تابعا طريقهما، فبلغا قبيل الصباح قرية “جوبر” ومكثا فيها حتى الأصيل، وكان اليوم يوم أحد، عَبَرا حيّ القصّاع، كان يومها مكتظاً بالناس، عَبَراه دون أن يثيرا شبهة، ووصلا حي الخراب، حيث نزلا فيه ــ هو حارة الجزماتيّة اليوم، إحدى حارات حي الميدان ــ وكان أهل الميدان من أشد المتعاطفين والمتواصلين مع الثورة السورية الكبرى، التي كانت بؤرتها في جبل الدروز آنذاك. وقد كانت خطّة الدقس أن يصل بصاحبه إلى خان ترتاده قوافل جبل الدروز. وفي ذلك الخان التقى هنانو صدفة برفيق جهاده هزاّع أيوب، الذي كان على علاقة وطيدة بمجاهدي الدروز، عندها أمّن الدقس على ضيفه، ودّعه وقفل عائداً إلى حمص، أمّا هنانو فتابع طريقه إلى جبل الدروز مبتعداً عن الطرق المألوفة التي يراقبها الفرنسيون، فعبر قرى غوطة دمشق الظليلة متجنّباً الطّرق الرّئيسية باتجاه الجنوب الشرقي، إلى قرية الهيجانة، وحلّ ضيفاً على الوجيه حسين إيبش الذي رحّب به، لكنه ــ أي إيبش ــ اعتذر عن توفير الحماية له بسبب دوريات الجيش الفرنسي التي تتجوّل في المنطقة بشكل متواصل، فأوضح هنانو له بأنّه يريد الوصول إلى جبل الدروز، وإلى قرية الخالدية بالتحديد، قاصداً شيخها المجاهد حسين عز الدين، فما كان من الإيبش إلّا أنْ أرسل معه فارساً من رجاله رافقه إلى الخالدية، وأرشده إلى مضافة حسين عز الدين حيث يريد، ثم عاد إلى حيث أتى.

حلّ هنانو ضيفاً على شيخ قرية الثعلة المجاهد نجم عزّ الدّين الحلبي وبقي في داره محروساً إلى أن قرّر التوجّه لزيارة سلطان باشا في «القرَيّا»

الجنرال غورو يستعرض الجيش الفرنسي بعد احتلال دمشق
الجنرال غورو يستعرض الجيش الفرنسي بعد احتلال دمشق

هنانو نوّه بدعم الموحدين الدروز في الجبل الأعلى لثورته وتضحياتهم الكبيرة بالأرواح والأموال، وعلى الأخص الموقف المشرف لآل قصّاب باشا، وآل النجار، وآل عز الدين، وغيرهم من الأسر المجاهدة في الجبل الأعلى..

الجماهير تحيط بالمجاهد إبراهيم هنانو بعد تبرئته من قبل المجلس العرفي الفرنسي
الجماهير تحيط بالمجاهد إبراهيم هنانو بعد تبرئته من قبل المجلس العرفي الفرنسي

 

هنانو في جبل الدروز
يذكر المجاهد علي سيف الدين القنطار في مخطوطة له تتناول تلك الحادثة، فيقول:”وصل هنانو إلى الخالدية متخفّياً بُعّيد منتصف الليل، ومن عادة بني معروف آنذاك أن يبتنوا المضافة في ركن جانبي من الملك الخاص – بحيث يكون بابها مفتوحاً إلى الطريق العام- لتسهيل دخول الضيوف. وبينما كان المجاهد أبو يوسف حسين عز الدين نائماً في مضافته، أحسّ بوقع أقدام تقترب، فَلَقّمَ بندقيّته، ومدّها إلى جانبه، وتظاهر بالنوم، وقال لنفسه:”إذا كان القادم حرامياً بيكون قَدَرو ساقو لَموتو، وإذا كان ضيفاً أهلاً وسهلاً به…”.
كان باب المضافة مغلقاً غير مقفل ــ فليس من اللائق إقفال باب المضافة عند الدروز، حتى ولو كان صاحب البيت غائباً، وعندها تُتْرك ضلفة من الباب مفتوحة، والأخرى مغلقة لاستقبال أي ضيف، حتى في غياب المُضيف ــ، طَرق هنانو الباب بهدوء، وعندما لم يُفتح له، فتحه بنفسه على حذر، ودخل، أغلق الباب خلفه على مهل ثمّ أسند له ظهره وتنفّس آمناً، لحظتئذٍ أدرك أبو يوسف أنّ الرجل طالب استجارة يبحث عن مأمن، ولابدّ أنّه قد وصل غايته.
تقدّم طارق الليل من قنديل الكاز في ركن المضافة، وقوّى الضوء الخافت في رأس ذبالته فأضاء المكان، ثم تقدم باتجاه أباريق القهوة وتلمّس الغلّاية، وجد في قهوتها بقيّة دفء، سكب لنفسه ثلاثة فناجين منها، وأشعل سيجارة، وجلس.
نحّى حسين عز الدين بارودته جانباً تحت اللحاف، ونهض من فراشه، قائلاً للطارق:” أهلاً وسهلاً بك يا ضيف، اطمئن عِدّك ببيتك، أنا رايح للبيت أجيب لك عشاء.”.
قاطعه الضيف:”كثّر الله خيرك، أنا تعبان ونعسان، ومالي نفس على الأكل، أريد أن أنام إذا تكرّمت، والصبح إن شاء الله نأكل اللي فيه النصيب”.
نزل أبو يوسف حسين عند رغبة ضيفه، فمدّ له فراشاً ولحافاً ووسائد في المضافة،ــ كانت المضافات في جبل الدروز بمثابة فنادق ومطاعم مجّانية، إذ لم يكن من فنادق في الجبل آنذاك، وكانوا يعتبرون الضيافة المأجورة عاراً ــ .
مع الفجر نهض الشيخ حسين كعادته مبكراً، صرّف أمور رزقه، وأشرف على إطلاق مواشيه مع رعاتها، وأعدّ القهوة المرّة لزائريه المنتظَرين، فتقديم القهوة المرّة للزائرين والضِّيفين أوّل واجبات المضيف، ــ كان هذا نمط حياة المشايخ والوجهاء آنذاك.
مع شروق الشمس كان الضيف قد نهض من نومه مطمئنّاً بعد عناء يومه السابق، حيّاه مضيفه، وأرشده إلى غرفة صغيرة مُعدّة للضيوف القادمين من دروب بعيدة فاغتسل، ولم يلبث أن عاد منتعشاً ، فتناول قهوة الصباح من يد المضيف، ولم يطل الوقت حتى جيء بالفطور، أكلا معاً، ولم يسأله عن نفسه أي سؤال، أمّا هو فلم يبُح بسرّه.
أَوعزَ صاحب البيت بتحضير وليمة واجب للضيف، والتقليد يقضي بدعوة وجهاء الضيعة لمشاركة الضيف في تناول الطعام، وذلك هو شكل من أشكال تكريم الضيوف بغض النظر عن كونهم معروفين أم لا.
في ذلك الحين، صدف وجود ضيف آخر في الخالدية قادماً من جبل السمّاق، من ديار حلب، وهو ضيف على أخيه حسين الحلبي، المقيم في القرية ــ ممّا يجدر ذكره أنّ أعداداً كبيرة من العائلات التي تنتمي للموحدين الدروز، ومنهم آل عز الدين، قد تمّ تهجيرهم من ديار حلب سنة 1811م إثر فتنة طائفية ” وحملة إبادة همجية شنّها عليهم (طوبال التركي) أحد الولاة العثمانيين المتطرّفين، فنزح منهم نحو ستمائة عائلة إلى لبنان ثم إلى جبل حوران”، يذكر هذا نايف جربوع في كتابه”دراسات في العامّية”، وكانت تلك الحملة الهمجية ضد الموحّدين الدروز في الديار الحلبية متأثّرة بالحركة الوهّابية التي هاجم أتباعها بلاد الشام والعراق في العهد العثماني في ذلك الوقت، ومعظم تلك الأسر لم يزل يحمل كنية “الحلبي” إلى يومنا هذا، ولم تزل الصّلات مستمرّة إلى الآن بين المُهَجَّرين، وبين من تبقّى من أقاربهم في تلك الدّيار ــ كان الضيف وإسمه” علي” مدعُوّاً مع أخيه حسين إلى الوليمة، وحالما دخل المضافة، فقد عرف الضيف. خاطبه باحترام جَمّ” كيفك يا زعيم، ألف الحمد لله على سلامتك” لَفَتَ هذا الخطاب الحارّ انتباه الحاضرين، وخصوصاً المُضيف، وما أن أخذ الضيف “علي” مكانه بين الحضور، حتّى أشار إليه أبو يوسف حسين إشارة خفيّة ثمّ خرج وإيّاه خارج المضافة، وسأله همساً:” مين هو يالزعيم اللي سلّمت عليه بها الحرارة يا علي؟”.
ــ سؤالك يدلّ على إنّك مش عارف ضيفك ياعمّي!.
ــ بالحقيقة أنا ما سألتو، وهو ما عرّف عن نفسو.
ــ ياعمّي أبو يوسف، ضيفك هو الزعيم إبراهيم هنانو، زعيم ثورة الشمال، والفرنساويي عم يلاحقوه.!
أدرك أبو يوسف عِظَمَ مسؤوليته تجاه ضيفه غير العادي، وقال لعلي:” الحمد للّه أَللي كرّمناه كَرَم ضيافة، لاكرم وجاهة، ومن دون أن نعرفه”.
بعد الغداء انصرف المدعوّون، ولم يبقَ في المضافة إلّا الضيف مع مضيفه، عندها باح هنانو بحقيقته، وأنّ الفرنسيين يطاردونه فطمأنه أبو يوسف:” أنت عندنا يا زعيم أمنع من عقاب الجو، فلا تحسب أيّ حساب، أنت بين أهلك وعشيرتك، ونحن أصلنا من عندكم، من جبل السمّاق”.
إطمأنّ هنانو إلى حسين عز الدين، وشعر أنّه في مأمن بعد الذي عاناه من متاعب، وطلب منه أن يسهّل له الوصول إلى السويداء، إلى بيت المجاهد علي عبيد، ومن هناك سيمضي إلى الأردنّ.
لم يكن أمام المضيف إلّا أن يلبّي مطلب ضيفه، فكلّف جادو الحلبي، وهو أحد أفضل من يثق بهم من رجال قريته، الخالديّة، أوصاه بمرافقته في الطريق، باتا ليلة قبل وصولهما السويداء في قرية بريكة، في بيت المجاهد وهبي الحلبي، وفي مساء اليوم التالي، وصلا بيت المجاهد علي عبيد في السويداء، يصف هنانو وصوله إلى بيت علي عبيد فيقول” قصدته واثقاً من إخلاصه رغم عدم معرفتي به من قبل، وهو شخصيّة وطنيّة في الجبل، لمّا بلغت داره استقبلني ولده نايف، ورحّب بي ترحيباً حارّاً كضيف، وأنزلني في غرفة الضّيافة، ثمّ ذهب يدعو أباه من مضافة أحد أصدقائه..”، عندما جاء علي عبيد من زيارته، رحّب به أكثر، فقد عرف ضيفه، وفاجأه بسؤاله:” ألست في حضرة القائد المجاهد إبراهيم هنانو؟” قال هنانو نعم يا أبا نايف، ولكن كيف عرفتني؟” قال:” كان هزّاع أيّوب ضيفي هنا منذ بضعة أيّام، وقد ضاع منكم صبيحة يوم هوجمتم في البادية، إذْ رحلتم وخلّفتموه مستغرقاً في النوم، ولم يستطع اللحاق بكم، بسبب تعرّضكم للهجوم، وجَدَّ وَحْدَهُ يقطع البادية، حتّى جاءني هنا، وحدّثني عنكم، وسألته عن أوصافكم، فلمّا وقعت عيناي عليكم الآن، عرفت أنّ ضيفي هو إبراهيم هنانو.
احتفى علي عبيد بضيفه وأكرمه، غير أنّ الحذر من رقابة الفرنسيين المشدّدة على دارته في السويداء، أوجب أن ينتقل هنانو ليلاً إلى قرية الثّعَلَة غرباً بنحو بضعة عشر كيلو متراً. في تلك القرية حلّ هنانو ضيفاً على شيخها المجاهد نجم عزّ الدّين الحلبي، الذي رحّب به غاية الترحيب، وبقي في داره محروساً أيّاماً عدة، قبل أن يتابع طريقه إلى سلطان باشا في “القرَيّا”.

فارس قصاب أحد مجاهدي ثورة هنانوa
فارس قصاب أحد مجاهدي ثورة هنانوa
رشيد بيك طليع
رشيد بيك طليع
الملك عبد الله الأول أدرك الواقع الدولي الجديد فلم يستجب لدعوة هنانو إلى استمرارالثورة على المنتدب الفرنسي
الملك عبد الله الأول أدرك الواقع الدولي الجديد فلم يستجب لدعوة هنانو إلى استمرارالثورة على المنتدب الفرنسي
المجاهد هزاع أيوب لعب دوراً مهما في ثورة الشمال خصوصا على صعيد تأمين الاتصالات بين هنانو وبين المقاتلين على مختلف الجبهات
المجاهد هزاع أيوب لعب دوراً مهما في ثورة الشمال خصوصا على صعيد تأمين الاتصالات بين هنانو وبين المقاتلين على مختلف الجبهات

هنانو في ضيافة سلطان باشا الأطرش
يقول سلطان باشا في “أحداث الثورة السوريّة الكبرى”: “وفي أثناء تلك الفترة التي كنّا نعيش فيها تلك الأوضاع السيّئة ونتلمّس طريق الخلاص منها، قدم إلى الجبل إبراهيم هنانو، كانت فرنسا قد شكّلت ما سُمّي
بـ “حكومة جبل الدروز”، وحُدّد لتلك الدولة علم خاص بها ويوم استقلال في الخامس من نيسان.وقد أعلنّا استنكارنا لهذا الاستقلال المحلّي، وتجزئة بقيّة أرجاء الوطن إلى دويلات…”، ويذكر سلطان بأن فرنسا كانت تعمل لإفشال تلك الحكومة المحلّية بهدف” بسط نفوذها الشامل على الجبل، وإقامة حكم فرنسي مباشر فيه…”.
يصف سلطان لقاءه بهنانو بأنّه كان مفيداً للغاية، وأنه أطلعه خلال تلك الفترة القصيرة التي مكثها عنده في القريّا على وقائع ثورته في الشمال، ووصف له أهمّ معاركها، وكيفية اتصالها بثورة الشيخ صالح العلي التي نشبت في جبل العلويين. كما حدّثه عن الظروف الصعبة التي حالت دون نجاح ثورته واستمرارها في تلك الجهات، وبأنه ــ أي هنانو ــ أشاد ببطولة إخواننا دروز الجبل الأعلى، وبتعاونهم الصادق معه، وتضحياتهم الكبيرة بالأرواح والأموال، ونَوَّهَ بالمواقف النبيلة والمشرّفة لآل قصّاب باشا، وآل النجار، وآل عز الدين، وغيرهم من الأسر المجاهدة المعروفة في الجبل الأعلى.
ويذكر سلطان بأن هنانو أبدى له إعجابه بالموقف الجريء لرشيد طليع، وتقديمه المساعدات القيّمة له ولقادة ثورته، على الرغم من مراقبة الفرنسيين الشديدة له، وتتبّعهم لحركاته بصفته والياً على حلب منذ العهد الفيصلي.
كما يقول سلطان:” تأثّرت بأحاديث هذا الرجل المقدام، وأُعجبت بصراحته، وعظيم تقديره، ووفائه لكل من شارك بثورته من الأفراد والجماعات، فقد أحاطني علماً بأخبار الحركات التي قامت ضد الفرنسيين في أنطاكيا ودير الزور، والجزيرة الفراتية وتلكلخ”.
في هذه الفقرة ممّا يُعتبر مذكّرات سلطان باشا عن الثورة السوريّة الكبرى، وفي الصفحة 65، نستشعر عمق معاناة الرجلين الثائرين، الضيف والمضيف، هنانو وسلطان، وتلك كانت خلاصة لقائهما قبل افتراقهما، يلخّصها سلطان فيقول:” ومع أنه كان متفائلاً بالعودة إلى ميادين الجهاد، مُظهراً رغبته بالتعاون المجدي الفعّال معنا، إذا ما تهيّأت ظروف مناسبة لاستئناف الكفاح، فقد أبدى لي أسفه وردّد مراراً وهو يتأوّه هذا القول:”لن يتحقّق لنا نصر مُؤزّر على المستعمرين مادمنا نقول أكثر مما نفعل، ومادمنا لا نراعي مشاعر جميع المواطنين التي تستوجب من شيوخنا الكبار رفع شعار “الدين للّه والوطن للجميع”.
وفي النهاية، يقول سلطان:”حاولت أن أقنع ضيفنا بالبقاء في ديارنا، مبدياً له استعدادي التام لتحمّل جميع المسؤوليّات المترتّبة على ذلك، ولكنه اعتذر وأصرّ على الرّحيل إلى شرق الأردن، فأرسلت معه عندئذ ثلاثة رجال لمرافقته إلى بيت حمد البربور في أم ّ الرمّان”.
يذكر زيد سلمان النجم في كتابه “أحداث منسيّة وأبطال مجهولون” عن الأستاذ جاد الله عز الدين، أسماء أولئك الفرسان الذين كلّفهم سلطان بمرافقة هنانو إلى أم الرمّان، وهم: جادو الحلبي وسلمان الحلبي وجاد الله شلهوب، ومن هناك، بعد أن أمضى أيّاماً في قرية أم الرمّان معزّزاً مُكرّماً، سار هنانو بحراسة فرسان من أم الرّمّان، لهم خبرة بطرق البادية، فوصلوا به آمناً إلى عمّان.

إبراهيم هنانو في إمارة شرق الأردن
وفي ما يتعلّق بوصول هنانو إلى الأردنّ، يكتب منير الرّيّس عن لسان هنانو الذي يقول: ” واجتمعت هناك بإخواني أحرار الشام اللاجئين، وعرفت منهم أنّ الأمير عبد الله بن الحسين خيّب ظنّهم به وبوالده (الشريف حسين) وأسرته، لذلك ضاعت كلّ الآمال التي بنيناها حول مساعدة سوريا في محنتها”.
لم يكتفِ هنانو بما سمعه من أحرار الشام في عمّان، بل أصرّ على مقابلة الأمير الهاشمي على انفراد، وفي تلك المقابلة شدّد هنانو على أن الفرصة سانحة لتنظيم ثورة في جنوب سوريا تطرق أبواب العاصمة دمشق، وغوطتها، بالاعتماد على مساعدة إمارة شرق الأردن. لكن الأمير عبد الله المعروف بذكائه وإلمامه بالوضع الإقليمي رأى أن مشروع هنانو لم يعد سهلاً بعد أن استتب الأمر للفرنسيين وتشتت شمل جيوش الدولة العربية وتفرقت صفوف الثوار، لذلك فقد اعتذر بلطف عن دعم الفكرة.
قبل ذلك كان سلطان باشا الأطرش ورفاقه قد سعوا لإعلان دعمهم المطلق للملك فيصل الاول على أمل تشجيعه على مقاومة المخطط الفرنسي البريطاني والصمود في وجه الفرنسيين ومشروع الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان. ويذكر سلطان في كتاب “أحداث الثورة السورية الكبرى” (ص 57) بأنّه كان في بلدته القريّا عندما وردت إلى جبل الدروز أخبار زحف الجيش الفرنسي إلى دمشق، فما كان منه إلّا أن دعا إلى اجتماع لبحث الموقف، وقد تقرّر في ذلك الاجتماع الاستعداد للدفاع عن استقلال البلاد، وانطلقت باتجاه دمشق حملة من المشاة والفرسان، تعدادها نحو ثلاثة آلاف مقاتل، وفي قرية المزرعة “السّجن سابقاً” باتوا ليلتهم، هناك، ووصل إليهم نبأ دخول الجيش الفرنسي دمشق وانسحاب الملك فيصل وحاشيته منها، فشكّل سلطان وفداً من حمد البربور، وصيّاح الأطرش وعبد الله العبد الله، كانت مهمته الاتّصال بفيصل ودراسة الموقف معه، ودعوته إلى الجبل من أجل متابعة الكفاح ضد الفرنسيين، وقد تمّ اختيار نحو خمسين فارساً من أشدّ فرسان الجبل، وأصلبهم مجابهة في ميادين القتال، ليكونوا حرساً للملك في حال قبوله الفكرة، واستحسانه الاقتراح، ولكنّه غادر البلاد عن طريق درعا، وتوجّه بالقطار إلى فلسطين، قبل أن يتمكّن الوفد من مقابلته، ومع ذلك فقد لحق به حمد البربور وعبد الله العبد الله وحاولا الاتّصال به في حيفا، فقيل لهما أنّه على متن الباخرة المسافرة إلى أوروبّا، فلحقا به إلى الباخرة، وعرضا عليه دعوتنا، إلّا أنّ جوابه كان بما معناه أنّ الأوان قد فات” (انتهى كلام سلطان باشا).
وهكذا، فإنّ حقيقة هذه الأحداث لا يمكن أن تخفى على هنانو، ولابد أن تكون الأحاديث بينه وبين سلطان عند استضافته له قد تطرّقت إليها.
خرج هنانو من اجتماعه بالأمير عبد الله محبطاً، إذ رأى في موقف الأمير أنه لم يعد هناك أي أمل في إيقاد نار الثورة مجدداً ضد الفرنسيين، لذلك فقد عزم على مغادرة الأردن وطلب من إخوانه السوريين هناك، أن يتدبّروا له جواز سفر أردنياً، يستطيع بواسطته أن يغادر البلاد العربية إلى الغرب للتّداوي، ففعلوا، وذهب إثر ذلك إلى فلسطين في طريقه إلى الغرب، لكن الإنكليز الذين كانوا يرصدونه، ويعتبرون وجوده غير مرغوب فيه في الأراضي الأردنيّة، قبضوا عليه في القدس، وسلّموه إلى أعدائه الفرنسيين، الذين نقلوه إلى السّجن العسكري في حلب. وقد نقل منير الرّيّس هذه الوقائع عن لسان هنانو نفسه.
وهكذا لم يُوَفّق الزعيم الثائر إبراهيم هنانو في مساعيه لاستئناف الثورة على الفرنسيين بعد مغادرته جبل الدروز وعدم قبوله نصيحة سلطان بالبقاء في الجبل، إذ جرت اتّصالات بين السلطات الفرنسيّة والبريطانية لتسليمه لفرنسا، وفقاً لاتفاقية بين الدولتين اللتين اقتسمتا السيطرة على بلاد الشام، وكان الشيخ كامل القصّاب قد حصل على إذن بإسم هنانو لدخوله فلسطين من دون معارضة.
سافر القصّاب وهنانو إلى القدس ــ التي كانت عاصمة لدولة فلسطين تحت السيطرة البريطانية ــ رغم تنبيه الأمير عبد الله له بعدم السفر إليها، وحذّره من غدر الإنكليز. وفي فندق “مُرْقُس” في باب العمود في القدس قَدِمَ إلى هنانو مدير الشرطة الإنكليزي وأخذه إلى سجن المسكوبية، يوم 13 آب، ومن ثمّ قام الإنكليز بتسفيره من القدس، وسلّموه للسلطات الفرنسيّة على الحدود السورية، حيث ساقوه إلى بيروت مُكبّلاً، ثمّ وصلوا به إلى حلب، وزجّوا به في سجن “خان اسطنبول العسكري”.
في حلب قدّم الفرنسيّون الزعيم السجين إلى محكمة عسكرية، أمام مجلس عرفي، وقد وُجّهت إليه تهم السلب وقطع الطرق والقتل، وهنا تطوّع عدد من كبار المحامين للدفاع عنه، منهم فتح الله الصقّال، المحامي المعروف آنذاك، وهو أحد خرّيجي جامعة السوربون في باريس. وفي النهاية، ثبت بالدليل القاطع أن إبراهيم هنانو لم يكن كما وُصِف واتُّهِم من قبل الفرنسيين، قاتلاً وقاطع طرق، بل كان مناضلاً وطنيّاً، دافع عن كرامة شعبه وحقه في الحرّية والاستقلال. وهو لم يظهر في المعارك التي خاضها ضد الفرنسيين أية مخالفة لقواعد الحرب، بل حافظ على هيبة أعدائه وكرامتهم ما استطاع،. مثال على ذلك أن رئيس المحكمة العسكرية، الفرنسي، سأله أثناء المحاكمة عن عدد أفراد عصابته في إحدى معاركه ضد الجيش الفرنسي، وكان النصر فيها للمجاهدين، فأجاب هنانو بعد تَفَكُّر، بأنّهم أكثر من ألف مسلّح، وبعد أن تعدّدت جلسات المحاكمة، وكرّر رئيسها السؤال نفسه في جلسة أُخرى، سكت هنانو، ولمّا أصرّ رئيس المحكمة على سؤاله، أجابه الزّعيم هنانو أنّ عدد المجاهدين كان بضع مئات، فانتفض رئيس المحكمة غضباً، واتّهم هنانو بالكذب، لأنّ جوابه في هذه المرّة يناقض جوابه في المرّة السابقة، فوقف هنانو وصاح برئيس المحكمة: “أنا لا أُتّهم بالكذب! ولكنّك سألتني عن عدد قوّاتي في معركة هُزِمَ فيها الجيش الفرنسي، وهو ألوف مؤلّفة، فأردت أن أحفظ كرامة فرنسا أمام المستمعين، لذلك قلت إنّ عدد قوّاتي أكثر من ألف مُسَلّح…ثمّ أحرجتني اليوم بالسؤال نفسه، فأردت أيضاً أن أبقي لفرنسا كرامة جيشها، فقلت إنّ عدد المجاهدين كان بضع مئات، أمّا وأنت تتّهمني بالكذب، فإنّني أقول صادقاً إنّ عدد المجاهدين الذين هزموا الحملة الفرنسيّة لم يكن أكثر من ستّين مسلّحاً!”، فوجم رئيس المحكمة، وأخفض رأسه، وتابع سير المحاكمة.
استغرقت محاكمة إبراهيم هنانو مدّة طويلة، كان الحكّام العسكريون هم الخصم والحَكَم، وكانت شهادة المجاهدَيْن الدرزيين عمر عز الدين من قرية كفتين، وعلي قصّاب من معرّة الإخوان ــ من قرى الجبل الأعلى ــ إلى جانب شهادة أحمد المدرّس، في صالح هنانو، وقد برّأته المحكمة من التّهم المنسوبة إليه، وخرج الزّعيم من السجن رافع الرأس ، فخوراً بجهاده من أجل حرّية وطنه، ولمّا تقدّم من الضابط الفرنسي، رئيس المحكمة، ليشكره على خلاصة الحكم، قال له الضابط: “لا تشكرني أنا، بل إشكر القانون الفرنسي، ومبادئ الثورة الفرنسية التي برّأتك بعد أن ثبت للمحكمة أنك مجاهد تدافع عن حرّيّة بلدك، ولست شقيّاً خارجاً عن القانون. ولو تُرِك الأمر لي، لأمرت بإعدامك”.
لكن هنانو الذي لم يربح معركة المواجهة المسلّحة ضد المحتل الفرنسي، ربح حبّ شعبه له، فاحترمه السوريون عامّة، ومواطنوه الحلبيّون خاصة، وتولّى زعامة الحركة الوطنية في حلب، وكان نصيراً للثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش، سنة 1925م، ولمّا دعيت البلاد سنة 1928 لانتخاب جمعية تأسيسية، ووضع الدستور السوري، انتُخب هنانو عن حلب، واختير رئيساً لِلَجنة الدستور في الجمعية التأسيسية، فأتمّ وضعه، وكان دستورسنة 1936.
وإلى جانب إبراهيم هنانو، ناضلت شقيقته، زكيّة هنانو، وقد أطلق عليها بحق لقب” المجاهدة” إذْ كرّست حياتها في سبيل وطنها، وفي سبيل المبادئ التي ناضل من أجلها شقيقها إبراهيم، فَضَحّت بكل ما تملكه لدعم الثورة، وشراء السلاح والذخائر للثوّار، كما كانت تجتمع سرّاً مع الشخصيّات الوطنية لتوحيد كلمة الثورة، وقامت بدور همزة الوصل بين شقيقها والزعماء الوطنيين، بالإضافة إلى قيادتها المظاهرات النسائية ضد الاحتلال الفرنسي، حيث كانت تتعرّض لإطلاق النار والتعذيب، كل هذا جعل من زكيّة هنانو مثالاً أعلى للمرأة السورية والعربية عموماً.
وكلمة حق يجب قولها، إنّ المجاهد إبراهيم هنانو ظل وفيّاً لوطنه، مخلصاً لمبادئه إلى آخر يوم في حياته الغنية بالجهاد، وهو عندما أحسّ بدنوّ أجَله صبيحة يوم الخميس الواقع في الثاني من تشرين الثاني من سنة 1935، قال لمن حوله:” قولوا لأُخوتي: الوطن بين أيديهم”.
هكذا توفّي هنانو، تاركاً عبَقاً طيّباً من ذكريات جهاده على صفحات التاريخ، وأحاديث متداولة في ذاكرة الأحفاد من بني معروف، في محافظة السويداء، تخبرك بأن الزعيم المجاهد إبراهيم هنانو مرّ من هنا.

هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائداً للقوات الفرنسية في الشرق وممثلاً للسلطة الفرنسية المنتدبة

هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائدا للقوات الفرنسية في الشرق وممثلا للسطلة الفرنسية المنتدبة
هنري غورو الذي قاتل الثوار في سوريا بعد تعيينه قائدا للقوات الفرنسية في الشرق وممثلا للسطلة الفرنسية المنتدبة

 

تاريــــخ عِــــرى

تاريــــخ عِــــرى

دار إمارة الأطارشة في الجبل

بُنيت في عهدي كل من شبلي ووالده يحيى على مساحة 11 ألف متر مربع لتكون مقراً لإمارة الأطارشة وزادها الأمير حسن جناحاً خاصاً لزوجته المطربة أسمهان

زارها مستشرقون سحرتهم أخبار الجبل ونضاله الاستقلالي
وتركوا آثاراً تصف قوة الموحدين الدروز وآدابهم وشهامتهم

لم تكن قرية «عِرى» سوى قرية عادية من بين قرى جبل حوران في القرون الخوالي، ويذكر الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ»، بأن الخراب قد نال حوران سهلاً وجبلاً بمعظمها في العهد العثماني، وفي القرن التاسع عشر ومع اتساع دور الموحّدين الدروز في ذلك الجبل الذي أصبح اسمه «جبل الدروز» بُعيد منتصف ذلك القرن.
عِرى في عهد آل الحمدان
بقيت عِرى قرية بسيطة تتبع لشيخ السويداء الحمداني، وفي سنة 1810 كانت عِرى حين زارها الرّحالة السويسري بركهاردت عامرة بالدروز والمسيحيين، ويورد الأستاذ سلامة عبيد، مترجم كتاب جون لويس بركهاردت «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، مقتطفات من كتاب «رحلات في سوريا» (ص 22) أنّ بركهاردت أعجب بذكاء وكرم الشيخ الدرزي شبلي الحمدان شيخ قرية عِرى حينذاك، إذ يقول: «إنّ عِرى هي مقر زعيم الدروز الثاني في حوران وهو واحد من ألطف الناس الذين صادفتهم في الشرق وأغرب ما في أمره أنّه شديد الشغف في توسيع معارفه واطّلاعه، وفي الأحاديث التي كانت تجري بيني وبينه أثناء زياراتي المتتالية لعِرى كان دائم التلهّف للحصول على معلومات عن عادات الأوروبيين وأنظمتهم، وقد رجاني في أحد الأيام أن أكتب له حروف الألفباء اليونانية والإنكليزية والألمانية وما يقابلها من نطق باللغة العربيّة تحت كل سطر، وفي اليوم الثاني أراني النسخة التي نقلها عنها بنفسه».
وكان شبلي الحمدان، إبن عم شيخ السويداء الذي كان يشغل منصب شيخ مشايخ الدروز آنذاك، وكان على درجة من التميّز ممّا رفع من شأن تلك القرية.
تقع عِرى جنوب غرب مدينة السويداء، مركز المحافظة، وتبعد عنها مسافة ثمانية كيلومترات، وهي على ارتفاع 984 متراً فوق سطح البحر. ويمتد العمران القديم لبلدة عِرى على السفح الغربي لتل بركاني يدعى بـ «تل الحصن»، وعلى الامتداد الشمالي الجنوبي من ذلك السفح المتطاول في الاتّجاه نفسه، وتشكّل أبنية القرية القديمة المبنيّة من الحجر البازالتي المقصوب نواة البلدة الحاليّة التي امتدّت في الجهات الأربع من حولها، وتتصف الأراضي الواقعة إلى الغرب من قرية عِرى بما تتصف به أراضي سهل حوران من سهولة وانبساط نسبي، بينما تكثر في أراضيها الشرقية الحجارة والرجوم، أمّا تربتها فناجمة عن تحلّل الأحجار البركانية، لذا فهي تربة خصبة غنيّة بالمواد المعدنيّة فقيرة إلى حدّ ما بالمواد العضويّة.
لم تكن بلدة عِرى الحاليّة موقعاً حضريّاً ذا أهميّة في العصور السالفة التي شهدت توطّن الإنسان وتحضّره في ما كان يُدعى جبل باشان في الألف الأول قبل الميلاد، ثمّ حمل اسم جبل حوران في عصور الجاهلية قبل الإسلام وفي ما بعد، إلى أن أصبح يدعى جبل الدروز في القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بعد أن أصبح الدروز المهجّرون، والمهاجرون إليه من لبنان وغيره، قوّة مؤثّرة في ذلك الجبل وما حوله. أمّا عِرى فقد كانت منذ القديم قرية بسيطة بالنسبة إلى الحواضر الرئيسية في جبل حوران مثل السويداء وشقّا وشهبا وقنوات وصلخد، تلك المدن التي ازدهرت في العصر النبطي ثم العصر الروماني فالبيزنطي فالإسلامي في ما بعد. لكن عِرى وسائر المواقع الحضريّة في الجبل تعرّضت لخراب العمران بعد سقوط دولة بني أميّة لأسباب أهمها الجفاف، والجراد وغزوات البدو وانعدام الأمن، إلى أن تمكّن الموحّدون الدروز من إعادة إعمار الجبل منذ مطلع القرن الثامن عشر، بعد أن كانت معظم حواضره خراباً وأطلالاً.

تاريخ سكنى الموحّدين الدروز في عِرى
يذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه «جبل العرب» (ص 176) أنّ انتقال الحمدانيين(الدروز) إلى عِرى حصل قبل القرن التاسع عشر، أي قبل زيارة بركهاردت لها، ولكن لا سنة محدّدة لذلك، كما أن السيّد أبو محمد فارس زين، وهو من معمري البلدة، يذكر أن آل زين ودرويش وبكري، وهم أبناء عم يعودون بأصولهم إلى بلدة نيحا الشوف، وفدوا إلى عِرى قبل أن يصل إليها آل الحمدان، وقد وجدوا فيها قبلهم المسيحيين الأرثوذكس من آل الفريحات الغساسنة. يؤكد ذلك القاضي نمر الفريحات، الذي يقول بأن الفريحات نزحوا من رميمين في الأردن نحو سنة 1720 وقد طوّفوا في العديد من قرى جبل وسهل حوران من عنز إلى صلخد فأم الرمان فذيبين فحبران، فالكفر فالرحا فبصرى فالمجيمر، فجمرّين فخرَبا فجبيب فالأصلحة فالدارة، إلى أن استقرّ بهم المقام في عِرى أخيراً.
ولم تكن عِرى قرية زراعية قبل قدوم الفريحات إليها في القرن الثامن عشر، بل كانت خربة ومراعي ومشتى تتبع للشيخ سلمان البداح من شيوخ قبيلة الشنابلة البدو. وكان البداح ينتقل بمواشيه في الربيع إلى الجبل حيث يُربِع في برّية خرائب الكَفْر وما حولها، لكن الشنابلة وسائر عشائر بدو الجبل الذين كانوا يتخذون من أراضي جبل حوران مراعي لهم، كانوا مستضعفين من قبل القبائل الأقوى مثل قبائل الرولا ووِلد علي وأهل الشمال والسّرديّة وغيرهم، بحيث كان هؤلاء يقومون بنهبهم، أو إجبارهم على دفع الإتاوات. وظل هذا الواقع قائماً إلى أن قَدِم الدروز إلى البلاد، فرفعوا عنهم الحيف واستزرعوا الأرض الموات. ومع قدوم الفريحات إلى عِرى قدمت بعض الأسر الحورانية كآل الغوثاني وغيرهم. وقد كتب الدكتور الحوراني خليل المقداد في كتابه «حوران عبر التاريخ» (ص 166) ما يلي: «تميّز القرن التاسع عشر بشكل عام بالهجرات واضمحلال عدد من مدن وقرى حوران ( السهل والجبل)، حيث لم يبقَ إلّا 14 قرية مأهولة من أصل 300 قرية، وتحوّل الباقي إلى خرائب، حتى أنّ بصرى العاصمة العريقة عبر التاريخ لم يسكنها سوى 14 عائلة بلغ عدد أفرادها 150 شخصاً فقط».

التأثير المدمر للبدو والقلاقل ..والجراد
أما قدوم آل زين ودرويش وبكري إلى عِرى ، وهم من أُسر بني معروف، فلابدّ أن يكون قد حصل في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولم يلبث الشيخ الحمداني في السويداء أن مدّ نفوذه إلى عِرى في ما بعد، فقدم إليها الشيخ إبراهيم الحمدان، وفي سنة 1810 كانت عِرى عامرة بالدروز والمسيحيين؛ حسب شهادة الرحّالة السويسري بركهاردت.
أمّا عن التنقل المتواصل والقلق لآل الفريحات وغيرهم من الأسر الحضرية، فإن سببه يكمن في ضعف سلطة الدولة العثمانية آنذاك، بحيث يصعب الاستقرار في كثير من مناطق حوران، وبسبب الجراد الذي كان يهدّد الزراعة مرّة كل أربع سنوات، وانعدام الأمن بسبب الغارات البدوية على الحواضر، وقد كان البدو عنصر تدمير للحضر، وكثيراً ما كانوا يتصدّون حتى لقوافل الحج، ويفرضون الإتاوات عليها أو ينهبونها، مُتَحدّين بذلك هيبة الدولة.

الموحدون الدروز أعادوا إعمار جبل العرب بعد أن كانت معظـــم حواضره أطلالاً وخرابــاً

السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي
السهوة_مقام الشيخ ابو حسين محمد الحناوي

وقد وجد المسيحيون في الموحدين الدروز (في عِرى وغيرها) سنداً ساعدهم على الاستقرار لقيامهم بصد غارات البدو على عِرى وغيرها من حواضر الجبل التي كانت خراباً قبل وفودهم إليها، كما أنّ المنطقة الواقعة إلى الجنوب والغرب والجنوب الشرقي من عِرى كانت غير آمنة، وطرقها مُخوِّفة. يقول بركهاردت:« كنت أرغب في أن أقوم برحلة إلى الجهات الغربية من جبل حوران لزيارة درعا وأم الجمال وأم السرب، والتي تبعد مسيرة يوم عن درعا وقد صار عندي اقتناع بأن هذه الخرائب يجب أن تزار. وقد عرضت على أي شخص أو جماعة من الناس مبلغ ثلاثين قرشاً وهو ثروة ضخمة في هذه الأنحاء مقابل إرشادي إلى أماكنها ولكنني لم أجد أحداً. كانت الطريق بين درعا وأم الجمال مطروقة من قبل عرب السردية ــ قبيلة بدوية مشهورة بشدة البأس ــ وقد قتل أخو زعيمها منذ عهد قريب من قبل جنود الباشا ــ والي الشام ــ وبالإضافة إلى ذلك، فإن جماعات كثيرة من عرب الشراقة ــ قبائل الجلاس والغياث وغيرهم ممن كانوا يجولون بمواشيهم ويمارسون غزواتهم في الخرائب الشرقية من الجبل وإلى الشرق منه وفي جنوب سهل حوران ــ … وهكذا أرغمت على التخلي عن فكرتي».

عرس مسيحي
في ذلك الزمن ــ أي سنة 1810 ــ يصف بركهاردت مشاهدته عرساً مسيحياً في عِرى، يقول: «وقد أتيحت لي فرصة مشاهدة إكليل أحد المسيحيين في عِرى وفي بيت أحد المسيحيين، إذ جيء بالعروس ورفيقاتها من النساء من بلدها وهي تبعد مسيرة يوم من عِرى ومعها جملان مزينان بالشراشيب ( اللواليح) والأجراس إلى آخره. ونزلت ضيفاً على أقربائها في عِرى. ودخل الموكب القرية تتقدمه النساء اللواتي يضربن على الدفوف وشباب القرية وهم يطلقون نيران بنادقهم في الفضاء، وما أن وصلوا حتى انسحب العريس إلى النبع الذي كان يبعد عشر دقائق عن القرية حيث اغتسل ولبس ثياباً جديدة ثم دخل القرية فوق حصان مزيّن يحفّ به الفتيان بينهم اثنان يدقان على الدف والآخرون يطلقون النار. ومن ثم توقف أمام بيت الشيخ ثم حمل مدة ربع ساعة على ذراعي رجلين وسط الأغاني والزغردات وحينئذ صاح الشيخ: «مبارك العريس»! وردد ذلك بصوت واحد جميع الحاضرين، ثم جلس العريس وظل حتى غياب الشمس عرضة لتنكيت رفاقه، وبعد هذا أخذ إلى الكنيسة حيث قام خوري الروم بمراسم الزواج ومن ثم سار العروسان إلى منزلهما وكان والد العريس قد ذبح خرافاً عدة وجدايا استُهلك قسم منها أثناء النهار إلا أن أفضل قطعها حمل في ثلاث صوانٍ كبيرة (مناسف) من البرغل إلى مضافة الشيخ. وكان اثنان منها مختصين بالأهالي أما الثالث فقد خصص للشيخ ولوجوه القرية. وفي المساء بُدئ بجمع البارات (نقود عثمانية) من قبل أحد رفاق العريس الذي كان ينشد أشعار المديح بكل الذين يعرفهم وكلما سمى واحداً كان على هذا الأخير أن يقدّم هدية».
بعد هذا العرض نستنتج أنّ آل الحمدان الذين تمكّنوا من دخول السويداء والتمركز فيها كعاصمة لهم في الجبل، في القرن الثامن عشر، نشروا نفوذهم حول مركزهم الجديد. ويذكر بركهاردت أنّ هناك أكثر من ثماني قرى يرأسها أقرباء الشيخ الحمداني، ولابدّ أن يكون الموقع الانتقالي والمتوسّط لقرية عِرى قد لفت انتباه الحمدانيين؛ لكونه يفصل بين سهل حوران الواقع إلى الغرب منها، وبين قرى الجبل الواقعة شرقها؛ حيث تأخذ الأرض بالتوعّر تدريجيّاً كلّما اتّجهنا شرقاً صوب المرتفعات، كما أنّ وجود النبع الغزير نسبياً في أراضي عِرى عزّز اهتمام الحمدانيين بالتوطّن في تلك القرية التي كان مصير عمرانها مرتبطاً بمصير عمران الجبل.

كان البدو عنصر تدمير للحضر وكانوا يفرضون الإتاوات ويتصدّون حتى لقوافل الحج مُتَحدّين هيبة الدولة قبل أن يكسر الدروز شوكتهم ويبسطوا حمايتهم على السكان

زعامة عِرى تؤول لآل الأطرش
حتّى سنة 1859 كانت عِرى مقرّاً للشيخ هزّاع الحمدان، شقيق الشيخ واكد، شيخ السويداء. ويقرر المؤرّخ البعيني في كتابه «جبل العرب» ( ص 203) «أنّ الزعامة الحمدانيّة شاخت واعتراها الوهن، وغدت عاجزة عن إثبات وجودها وقيادة الدروز، وأن اسماعيل الأطرش تسلّم زمام القيادة الفعليّة للدروز قبل أن يقوّض مشيخة هزّاع الحمدان في عِرى ، الذي غدا مع أخيه واكد (شيخ السويداء وزعيم الجبل الرسمي في نظر العثمانيين) زعيمين فخريين ضعيفي السلطة…».
أما السلطة الفعليّة المستندة إلى مبايعة الدروز فقد استطاع اسماعيل الأطرش أن يملكها بعد أن اكتسب ثقة دروز الجبل وسكانه بفعل كرمه ونجدته واستجابته لمطالب السكان. واستند سليم الأطرش إلى عشيرة واسعة من أبناء العم والأقرباء الفارّين من بطش التحالف الذي تزعّمه الشهابيون ضدّهم في جبل لبنان، وقد كانوا لشدّة ثقتهم بصدق مواقف إسماعيل وحسن قيادته لا يسألونه برهاناً على أمرٍ يقودهم إليه.
من جانب آخر، كانت الزعامة الحمدانية تتوجّس خيفة من اتّساع نفوذ اسماعيل في أوساط الدروز والحوارنة، ولدى عشائر البدو في الجبل وما حوله، إذ كان قد نجح من موقعه في بلدة القريّا حينذاك، وقبل انتقاله إلى عِرى وطرده الحمدانيين منها، في أن يعقد تحالفاً مع آل المقداد الشيوخ في بصرى أسكي شام، القريبة من عِرى (تقع على مسافة بضعة عشر كيلو متراً منها)، وذلك بعد أن قاد رجاله ليلاً إلى بصرى في عملية قتالية جريئة وتمكّن من تحريرهم من ضريبة سنويّة مذلّة كانوا يؤدّونها للبدو من أهل الشمال، وهم بدو شمال الأردن الحاليّة. وكانت تلك الضريبة التي فرضها البدو على قرى وادي الزيدي الواقعة جنوب شرق سهل حوران تشتمل على حصص من المواسم الزراعية والمواشي وخدمات أخرى.
كانت هذه الأحداث بمثابة المقدمات التي أكدت تنامي زعامة الأطارشة وتراجع الزعامة الحمدانية، لكن القشة التي قصمت ظهر البعير تمثّلت في ما أقدم عليه الشيخ واكد الحمدان من إهانة شخصية لاسماعيل الأطرش، وذلك عندما قَدِمَ إليه في دار المشيخة في السويداء بائع أمواس حلاقة ساذج، غريب الديار، فما كان منه إلّا أن قال له «اذهب إلى اسماعيل الأطرش وجماعته في القريّا، هناك تجد من يشتري أمواسك»، وكان الشيخ اسماعيل يتميّز بمنظره المهيب ولحيته الكثّة، وقد أدرك أنّ الشيخ الحمداني بعث إليه ببائع الأمواس ليهزأ به وبجماعته الملتحين.

ردّ صاعق من إسماعيل الأطرش
لم يشأ اسماعيل الأطرش التوجّه إلى السويداء والانتقام من واكد الحمدان، لأن ذلك يضعه في مواجهة العثمانيين الذين يعترفون للشيخ الحمداني بالزعامة الأولى على بني معروف، ثمّ أنّ هذا يتطلّب منه أن يحصل على تأييد قادة عشائر الموحدين الدروز في الجبل لتلك الخطوة. وقد اختار سليم الأطرش بدلاً من ذلك أن يقود رجال عشيرته وعدداً من مناصريه إلى عِرى فقاموا بطرد شيخها هزّاع الحمدان أخ الشيخ واكد. وقد مثّل طرد الحمدانيين من عِرى ضربة معنوية كبيرة لهم وهي ضربة حملت مؤشراً واضحاً على الأفول الوشيك لزعامتهم التاريخية في الجبل. وقد دخلت عِرى في حيازة الأطارشة سنة 1859، وأصبحت منذ ذلك العام مركزاً للزعيم الأطرشي الذي، على حد قول حنا أبو راشد في كتابه: «جبل الدروز، حوران الدامية» (ص149)، أصبح «الزعيم الذي له الأسبقية الأولى في المراكز الاجتماعية» وقد اتخذ مقره في عِرى «ابتداء بعهد الشيخ اسماعيل الأطرش مؤسس الزعامة الأولى في الجبل واستمر هذا التقليد في فترة إبراهيم باشا ثم شبلي بيك إلى يحيى بيك إلى الأمير سليم (ابن محمود بن شبلي) إلى الأمير حمد بن شبلي».

مستشرقون في عِرى
بالإضافة إلى السويسري بركهاردت، الذي زار عِرى سنة 1810، فإن مستشرقين آخرين زاروا البلدة ودوّنوا مشاهداتهم، منهم الإنكليزي وليم رايت (سنة 1874) الذي وصف شاعرية المكان في كتابه الذي ترجمه كمال الشوفاني «مغامرات بين خرائب باشان» (ص 152) بقوله: «سرنا مباشرة من عِرى إلى مزيريب عبر سهل من القمح، على يسارنا، خلفنا وأمامنا، كان بحر القمح يمتدّ إلى التلال البعيدة، وعندما نظرنا إلى الأسفل من قمة تل القليب قبل أيام عدة، كان يبدو لنا وكأنّ بحيرات من الدم تخترق سهول القمح، وقد قدّرنا أن ظاهرة طبيعية ما قد تصدر عن غياب الشمس أو السراب، لكن عندما عبرنا هذه السهول، وجدنا أن الأرض التي لا تحوي قمحاً تكون متلألئة بالخشخاش القرمزي».
أمّا الألماني ماكس فون أوبنهايم الذي زار الجبل في صيف 1893، فيذكر في كتابه «من البحر المتوسّط إلى الخليج، لبنان وسوريا» (ص 217) «وصلنا بعد مسيرة ساعتين من السويداء إلى القرية الشاعرية عِرى، الواقعة على ظهر هضبة صغيرة. وفي عِرى كان يسكن في بناء بارز، إلى مسافة بعيدة، شبلي الأطرش».
وكان مرافقو أوبنهايم من رجال إبراهيم باشا الأطرش شيخ مشايخ الدروز في السويداء قد منعوه من زيارة عِرى بحجة أن شبلي وهو شيخ عِرى الشديد البأس، الذي تصفه المستشرقة الألمانية بريجيت شيبلر بـ «شبلي الأسطوري» سيهاجمهم في ما لو فعلوا ذلك. حقيقة الأمر أن الأخوين كانا على خلاف حول العلاقة مع العثمانيين، وكذلك حول الموقف من ثورة العامية التي وقف إبراهيم منها موقفاً مضادّاً.

الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الأمير حسن الأطرش أمر بتوسيع دار الإمارة وإنشاء جناح خاص لزوجته أسمهان
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى
الجنرال ديغول في زيارة جبل العرب بعد عودة سلطان الأطرش من المنفى

زيارة جيرترود بل
وفي أيار سنة 1900 زارت الرحالة الإنكليزية جيرترود بل عِرى ، وكان إبراهيم قد مات، بينما نُفِي شبلي من قبل السلطة العثمانية إلى جزيرة رودس في البحر المتوسط لفترة امتدت ما بين 1896و1900. لذلك فقد استقبل بل في عِرى شقيق شبلي يحيى. تقول بل في ما ترجمه كمال الشوفاني «مذكرات جيرترود بل إلى جبل الدروز»، «وصلنا عِرى عند الثامنة والنصف صباحاً وكان هناك بعض الأشخاص، بدا لي أنّهم من عليّة القوم يجلسون أمام منازلهم في أسفل التلّة. كان ألطف شخص بينهم يدعى حمد حامد. أخبرتُهم عن قصتي وكيف هربت من الحكومة وجئت إليهم، فكان استقبالهم حارّاً، وأكّدوا لي أنه لا توجد حكومة هنا، وأن في إمكاني الذهاب أنّى شئت. سيكون من الصعب وصف المشهد الرائع ومشاعر الراحة والأمان والثقة التي منحوني إياها. سألوني عن الحرب وكانوا يعرفون أسماء كل الجنرالات والمدن، لقد كانوا أشخاصاً مهذبين متحضرين، بعد أن قدّموا لي القهوة وكانت لذيذة، سألت إن كان بإمكاني زيارة الشيخ.
فهب أحدهم قائلاً: «الشيخ؟! إن يحيى بيك هو زعيم كل الدروز على هذه الأرض، بالطبع يجب أن تزوريه».
سرنا صعوداً إلى قمة الهضبة حيث يتربّع بيت البيك ذو الشرفات المتعددة على جوانبه، أخبرني حمد بأن يحيى بيك سجن لمدة خمس سنوات في دمشق، وقد أفرج عنه قبل ثلاثة أسابيع وطلب مني أن أعامله باحترام كبير. كان يحيى بيك مثالاً للسيد الإقطاعي، وكان رجلاً كهلاً (في الأربعينات أو الخمسينات على ما أظن) أنيقاً ويتمتع بأخلاق رفيعة.
بل تركت زيارة الرحّالة البريطانية أثراً مهماً بسبب اهتمامها الخاص بوصف التقاليد ونمط السلوك واللباس والحياة السائدة في مجتمع الجبل آنذاك، تقول: «توجّهنا مباشرة إلى غرفة الاستقبال حيث كان الشيخ يجلس على سجادة مع ستة أشخاص أو ثمانية يتناولون الطعام، من وعاء كبير. أشار إليّ أن أدخل لأشاركهم الطعام، ففعلت، واستخدمت قطعة رقيقة من الخبز كملعقة.
كان الطعام لبناً وخليطاً من الفاصولياء واللحم. كنت أريد أن آكل المزيد لكن يحيى بيك انتهى من طعامه وخفت أن لا يكون من اللائق أن أستمر.
رُفع الطعام وكُوّمت المساند لي على الأرض كي أجلس، وانتظرت حتى جلس، فهو ملك كما تعلمون، وملك طيّب جدّاً على الرغم من أن مملكته ليست كبيرة. كان عليّ أن أعيد له حكايتي مرة أخرى وكان البيك يغمض عينيه الكبيرتين ويحرّك رأسه بين الحين والآخر هامساً: هذا صحيح. أخبرته بكل ما أريد مشاهدته وأنني لا أريد رؤية السويداء بسبب وجود الأتراك فيها ــ كما يوجد خط برقي أيضاً وهو الأمر الأكثر خطورة. كان متعاطفاً جداً معي، ثم حدثني بالتفصيل عن سجنه، وكيف أن شقيقه شبلي بيك مازال سجيناً في المنفى.
شربنا القهوة ثم توجهنا لمشاهدة البناء الجديد الذي شيّده البيك مكان الخرائب التي تركها الأتراك.
غرف ذات جدران حجرية جميلة وبلاطات حجرية على الطراز الروماني وبوابة منحوتة مزخرفة. أشار علي سليم بأن أصور البيك (وهذا ما كنت أتمناه) طلبت منه الوقوف على الشرفة وبدا أمامي بكامل هيبته فصورته. خرجنا أخيراً من بيت البيك وتوجهنا أنا وحمد حامد ومحمود رضوان إلى المرج القريب حيث كانت دوابي ترعى، ثم غادرنا القرية بصحبة نصر الدين ــ شاب من قرية المجيمر ــ وعلي، الذي لم أكن أعرف وظيفته بالضبط، ولكن بدا لي أنه رفيق سفر مقنع. كان نصر الدين دليلاً ممتازاً عرّفني بأسماء كل القرى والخرائب والأسوار والينابيع والطرق متنقّلاً برشاقة لافتة أثناء سيرنا، بقمبازه المطرّز فوق رداء أبيض.
وفي طريقنا مررنا بجماعة من القرويين بملابس بهيّة يحملون البنادق والسيوف، كانوا ذاهبين لتهنئة يحيى بيك على عودته بالسلامة من السجن العثماني.
توقّفوا لإلقاء التحية ورحّبوا بي ترحيباً حارّاً».
ثم تعلّق بل: «يا له من تغيّر رائع بالمقارنة مع أولئك الذين كان همّهم الوحيد أن يمنعوك من الذهاب إلى أي مكان. صعدنا تدريجياً إلى سلسلة من التلال ودلّني نصر الدين على السهل الذي جرت فيه معركة قبل أربع سنوات، يقال إنه سقط فيها خمسمائة درزي وألف ومائتان من العثمانيين».

إهانة رعناء من واكد الحمدان دفعت بإسماعيل الأطرش إلى حسم النزاع وطرد الحمدانيين من عِرى وتحويلها إلى مقر لزعامة الطرشان

الامير جهاد بن زيد الاطرش
الامير جهاد بن زيد الاطرش

 

البريطانية «جيرترود بل» زارت إمارة عِرى سنة 1900 وتركت وصفاً دقيقاً للتقاليد والعادات ونمط السلوك وآداب المعاملة في الجبل في تلك الحقبة

الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد
الحفيد حسن بن يحيى الثاني تحت ضلال الماضي المتباعد

معركة ضارية في عِرى
في عِرى جرت إحدى معارك الثورة السورية الكبرى، يقول سلطان باشا في «أحداث الثورة» (ص141) «ولم يلبث العدو أن استأنف هجومه مستخدماً سلاح الطيران بشدة، وعلى نطاق واسع، فدخل بلدة عِرى بعد معركة ضارية استشهد فيها عمّي نسيب»، وهنا يشيد سلطان باشا بالبطولة الخارقة للأمير حسن الأطرش ــ من عِرى- على الرغم من صغر سنّه، وبخاصة في معركة تل الخروف.
وفي ثوّار عِرى يقول الشاعر صالح عمار:
لمّا عِرى عِلق النّخا بِرْكانــهــــا بْوجــه الأعــادي فَجّــــرت بُرْكانهــــا
لو قامت الهيجا وثــار غبارها نِعْمــين مـــــن شيّــابهــــا وشُبّانــهــــا
ولمّا كان لكل قرية من قرى الجبل بيرقها، فإن بيرق عِرى يتوارثه آل بكري، وفي أواخر القرن التاسع عشر، على أيّام شبلي، كان حامل البيرق سلمان بكري يتقدم المحاربين في المعارك، فأعجب الشيخ بشجاعته، وعرض عليه هبة فدّانين من الأرض ــ أي ثلاثمائة دونم ــ فرفضها قائلاً: «لا أريد أن يقول الدروز إنني أحارب قدامهم من أجل مكاسب الدنيا».

مأثرة الأميرة أسمهان الأطرش
في سنة1941 تزوّج الأمير حسن الأطرش بالمطربة أسمهان، وأسمهان هي ابنة فهد الأطرش من دار الأطارشة في السويداء، فهي حفيدة إبراهيم باشا الأطرش قائمّقام جبل الدروز من قبل العثمانيين ــ توفي سنة 1893 ــ وكانت أمّها عالية المنذر اللبنانية قد فرّت إلى مصر هرباً بأطفالها فريد وفؤاد وأسمهان من معارك الثورة السورية الكبرى سنة 1925؛ تلك الحرب التي دارت أهم معاركها في الجبل.
وفي مصر شبّت أسمهان، ولمع نجمها كمطربة بارعة الأداء، وكان الأمير حسن الأطرش، حفيد اسماعيل ووارث الإمارة في دار عِرى ، المسمّاة بـ
(دار الدروز) محافظاً للجبل حينذاك، وكان يجمع بين الحنكة السياسية، والشجاعة التي اشتهر بها في معارك الثورة إلى جانب ابن عمه سلطان، لكن مع استقرار الأمور في الجبل قبيل بزوغ عهد الاستقلال لحق الأمير حسن بابنة العم الفاتنة إلى مصر، وجاء بها بعد لأيٍ إلى دمشق ليتزوّجها.
وفي دار الإمارة في عِرى، تلك الدار العريقة، التي تزيد مساحتها على أحد عشر ألف متر مربّع، وكانت قد بنيت في عهد كل من شبلي ووالده يحيى، أصدر الأمير حسن أوامره ببناء «أربع حجرات تليق بأسمهان» وجيء بالأثاث من دمشق وبيروت، وأطلّت الحجرات على صحن الدار من ناحية، ومن الناحية الأخرى أطلّت على بيوت الحرس من الدروز الأشدّاء الذين يقيمون في بيوت متلاصقة تشكّل سوراً للدار التي تشبه القلاع»، وذلك حسب الكاتب المصري فوميل لبيب الذي وضع كتاباً تناول فيه حياة أسمهان.
كانت أسمهان في دار عِرى أميرة بحق، أميرة صاحبة قرار، وقد رأت معاناة نساء بلدة عِرى وهنّ ينقلن الماء بالجرار على أكتافهن، أو على ظهور الدواب من أماكن بعيدة عن بيوتهن، إذ كان حق الانتفاع بمياه نبع عِرى، الذي تبلغ قوّة تدفّقه نحو خمس إلى ست بوصات في فصل الشتاء وتنخفض إلى ما دون ذلك صيفاً، محصوراً بدار الإمارة، وكان شبلي المتوفّى سنة 1904، وهو عم الأمير حسن ــ قد أمر باستجرار مياه النبع الذي يقع إلى الشرق من القرية بنحو خمسة كيلومترات، عبر قناة فوق قناطر حجريّة بنيت بإشراف مهندس استقدمه شبلي من اسطنبول ــ حسب رواية الدكتور هاني ملاعب من مواطني عِرى الأصلاء ــ وكانت تلك المياه تستخدم لإدارة ما عُرِف بمطاحن عِرى التي كانت ملكية خاصة لدار عِرى وقد آلت ملكيتها إلى آل الأطرش؛ بعد أن كانت لآل الحمدان، وهي أربع مطاحن، وقيل إن عددها خمس أو أكثر من ذلك، وكان الماء الذي تُدار به المطاحن يُستخدم لصالح دار الإمارة في إرواء بستان تربو مساحته على ستمائة دونم، ويروي أحد المعمرين بأن بستان الأمير حسن في زمانه «جنة أرضية» بكل معنى الكلمة.
يقول الأستاذ عمّار الخطيب: «بفضل أسمهان وُزّعت خمس حنفيّات سبيل يتدفّق ماؤها نهاراً وليلاً في حارات عِرى، وهكذا انتشر الاخضرار في جنائن صغيرة حول البيوت في تلك القرية، حيث كانت القرية الوحيدة من بين قرى جبل الدروز التي تتميّز بجنائنها في ذلك الزمن»، ولكن مأثرة الأميرة أسمهان أبقت لدار الإمارة ما يكفيها من الماء الذي توزّع في الخمسينات إلى حصص بحيث يكون الربع للأمير، والنصف لأهل عِرى، وربع لأهل المجيمر القرية المجاورة، والتي تشترك مع عِرى في حوض النبع.’

صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش
صحن الدار وصالون يحيى بيك بني نحو عام 1905 والى اليمين المضافة التي بناها الامير حسن الاطرش

شهـــداء عِرى
في الثورة على الفرنسيين

قدّمت عِرى عدداً من خيرة فرسانها في ثورة الاستقلال، وعددهم أربعة وعشرون شهيداً، وهم، كما ذكرهم الشاعر صالح عمار أبو الحسن:
الأمير حمد بن شبلي الأطرش واسماعيل ملاعب، وفرحان ملاعب، ومسعود ملاعب، وخليل ملاعب، وعلي ملاعب، وتوفيق الشبل، وحمد الشومري، ويوسف حامد، وطراد حامد، وحسن زين، ومحسن قسّام، ومحمد قسّام، وأحمد الجوهري، وظاهر حمزة، وقاسم أبو سعد، وسليم رضوان، وحسن الأشقر، وحسين غزلان، وعلي سيف، وحامد الأعور، وحمد شرف الدين، وحسين بكري، ومحمد قطيش.

الأمير حسن الأطرش يعتقل المندوب الفرنسي في السويداء ويؤيد رفع علم الاستقلال ووحدة الجبل مع سوريا الأم

مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.
مدخل-مضافة-شبلي-الاطرش-الاول-في-عرى.

قصف فرنسي لدمشق وانتفاضة في السويداء
كان الأمير حسن الأطرش محافظاً لجبل الدروز سنة 1945، وفي تلك الفترة من الأربعينات؛ بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يذكر سلطان باشا في مذكّراته (ص 361) أن فرنسا أخذت تستجمع قواها لتظهر بمظاهر القوة التي كانت تزهو بها قبل الحرب التي انهزمت فيها هزيمة منكرة أمام الألمان سنة 1940، إذ لم تصمد إلّا أياماً معدودة، تناسى الفرنسيون ذلك، وصاروا يتصرفون وكأنّ شيئاً لم يتغيّر بنظرهم في هذا العالم، فطالبوا حكومتي سوريا ولبنان بقواعد عسكرية برّية وبحرية، ولما قوبلوا برفض مطلبهم من البلدين، ظنوا بأن العنف يعزّز من هيبتهم، فقاموا بقصف مدينة دمشق.
وفي الجبل كان سارازان ممثلاً للانتداب في السويداء، وكانت تعاونه استخبارياً في الظل؛ المعلّمة رئيسة مدرسة الراهبات التبشيريةــ إذ كان الفرنسيون قد جعلوا من معلّمي المدارس عيوناً ومخبرين لهم ــ وكانت المعلمة قد حذّرت سارازان ممّا استشعرته عبر جواسيسها المعلّمين، لكن الأخير قلل من أهمية الأمر وأجابها بالقول: «لقد أنفقت مئة ألف ليرة سورية ــ وكان هذا مبلغاً ضخماً بالنسبة لذلك الزمن ــ لإفشال أي خطة ضد فرنسا.
كان سارازان يتولى قيادة قوات فرنسا في الجبل وكان تعداد تلك القوات نحو ألف وثمانمائة ضابط وجندي، من خيالة وسرية مدرعات ومفارز للنقل واللاسلكي والخدمات، بالإضافة إلى جنود نظاميين معززين بأسلحة ثقيلة يقودهم ضباط فرنسيون. وقد بذل الأمير حسن ومشايخ الموحّدين في الجبل جهوداً للبت في أمر الوحدة الوطنية وحسم الخلافات بين الناس في الشأن الوطني، ولم تفد الفرنسيين «الأموال الطائلة التي أغدقوها على من كان يتقرّب منهم أو يسير في ركابهم»، كما ورد في مذكرات سلطان.
وبتنسيق مع الأمير حسن الأطرش، وباطّلاع من قبل سلطان باشا على الخطة وغايتها، واستناداً إلى اتفاق مسبق بين الأمير وبين أعيان سوريا، أقدم فريق من الضباط وصف الضباط والجنود والشبان الوطنيين، من عصبة العمل القومي وغيرهم، على تنفيذ انتفاضة في السويداء ضد الفرنسيين، واستهدف التحرك تحقيق استقلال البلاد أو بالأحرى التسريع بخروج الفرنسيين من سوريا. وقد قام الثوار برفع علم الاستقلال على المباني الحكومية، بعد اجتماع لهم في منزل النقيب الدكتور توفيق عز الدين أقسموا خلاله على «الخلاص من الأجنبي مهما بلغت التضحيات» يذكر ذلك فارس قاسم الحنّاوي في كتابه «صراع بين الحرية والاستبداد» (ص 44).
كما ذكر عارف حديفة وسيف الدين القنطار في كتابهما «شكيب وهّاب، سيرة كفاح» أن «اشتراك شكيب وهاب قائد الكوكبة الثامنة المتمركزة بالثكنة الكبرى في أي عمل ضد الفرنسيين كان عاملاً حاسماً من عوامل نجاحه، وذلك لأهمية الموقع الذي يحتلّه ولحسن تدبيره، ولشجاعته، ولأنه ظل عبر التجربة الوطنية الطويلة رجل المهمات الصعبة».
ولم يكن صيّاح الأطرش قائمّقام صلخد حينذاك ببعيد عما كان يجري في السويداء، إذ كان ينسق شخصياً مع الأمير حسن عبر رسل أمناء منهم أبو الخير رضوان وحسن رسلان، وكان التنسيق المسبق من قبل الأمير مع قائمّقام شهبا طرودي عامر قد بلغ غايته بطرد المندوب الفرنسي من شهبا.
وهكذا، فإن الفرنسيين فوجئوا بالثورة عليهم، ولم يتوقعوا أن تأتي أول بادرة لطردهم من سوريا من السويداء، وكان أبرز أولئك الذين شاركوا في تلك العملية فايز حديفة وصالح العطّار وهاني قطيني وسلمان الشعراني ويوسف شيّا.
وعندما أخذ شبلي حمد عزام ويوسف قرقوط ومرعي شجاع يطلقون العيارات النارية فوجئ سارازان ونظر إلى الجنود بلهفة واستعطاف قائلاً: أين أبناء فرنسا؟!. فما كان من المجاهدين صالح العطار وفضل الله ابو منصور وعلي جربوع وحسن رسلان إلا أن شدّوه من ذراعيه وقالوا له: «أرجع أحسن ما نهينك أو نقتلك»، فقال: «اقتلوني تحت علم بلادي». فنادى الثائرون رفاقهم: «اسمعوا يا شباب، يريد سارازان أن يموت تحت علم بلاده، فَلِمَ لا نموت نحن كلّنا تحت علم بلادنا؟!
هنا حضر الأمير حسن وسيق جميع الضباط الفرنسيين وجنودهم إلى بيته أسرى لمدة أربعة عشر يوماً، وهناك عوملوا مع عائلاتهم أكرم معاملة ــ بخلاف ما كان يفعله الفرنسيون مع السوريين من عسف وجورــ وتمّ نقلهم إلى دمشق في ما بعد. وبهذا فقد رفض بنو معروف الدروز مشروع الدولة الدرزية الطائفية لصالح الدولة الوطنية الجامعة.

عِرى اليوم
تبلغ مساحة أراضي عِرى نحو مئة وعشرين ألف دونم، ربعها لدار الإمارة، وذلك قبل أن يقتص منها «الإصلاح الزراعي». وتزرع في البلدة الحبوب على أنواعها في أراضٍ زراعية بعلية، ومن أهم المحاصيل فيها القمح، ومتوسّط إنتاجه نحو ثلاثة آلاف طن سنوياً، والشعير والحمّص والعدس وغيرها، كما تزرع الأشجار المثمرة في مساحة نحو ثمانية آلاف دونم، أغلبها تزرع بالزيتون الذي يبلغ متوسّط إنتاجه السنوي في عِرى نحو ستة آلاف تنكة من الزيت، هذا عدا الاستهلاك كبيساً، أمّا العنب فتصدّر القرية منه نحو ستّين طنّاً بينما يذهب الباقي للإستهلاك المحلّي فيباع في أسواقها يُصنّع زبيباً ودبساً.
وإلى جانب تربية الأغنام والماعز، يتم التركيز من قبل الأهالي على تربية الأبقار المحسّنة، ففي القرية نحو 350 رأساً من الأبقار، تنتج البقرة يومياً ما متوسّطه 18 كلغ من الحليب، وذلك حسب الجمعية الفلّاحية في البلدة.
ويبلغ عدد السكان المقيمين في بلدة عِرى نحو اثني عشر ألف نسمة، غالبيتهم من الموحّدين الدروز يتوزّعون على عائلات منها زين ودرويش وبكري وملاعب وحمزة والجرماني، وحامد وصقر والحلبي وعقل والأعور ورحروح والنمط وأبو سعد والخطيب وسريوي والحجار وغزلان والصفدي والزغبي والدعبل ورضوان وأبو سعدى وحرب وأبو حمدان والبحري وعبد الوهّاب ودعيبس ونصر وسيف والشبل والأشقر وأبو عبيد وعلوان وفياض وقطيش والكريدي الجوهري وأمان الدين والبني والسلمان ودقدوق ومجدلاني.
من العائلات المسيحية في عِرى: آل الفريحات والجودة وهم أصلاً أبو جودة من الذين يتصلون بعائلة أبو جودة اللبنانية، وآل الخوري وإسحاق ونويصر والدرويش والفارس والعوّاد والحميدية والحداد والنصار وغيرهم. ويؤثر عن مسيحيي عِرى تمسكهم القاطع بالعيش بين الموحدين الدروز وبقية طوائف عِرى، ورفضهم لمساعي قامت بها دوائر كنسية في لبنان في فترة الخمسينات من القرن الماضي (عهد الرئيس كميل شمعون) لدفعهم إلى الهجرة إلى لبنان، حيث وُعِدوا بالحصول على الجنسية اللبنانية. ويروي بعض كبار السن في عِرى قصة طريفة جاء فيها أن المطران «كْليلا» وهو الذي أوفدته الكنيسة إلى الجبل يومذاك يئس من تجاوب مسيحيي عِرى مع دعوته لهم للهجرة فما كان منه في أحد الأيام إلا أن طفح كَيله وصرخ بمساعده قائلاً: «مخايل! هات المبخرة، بدّي أجنّز هؤلاء المسيحيين أحياء»!
يذكر أن المسيحيين في عِرى كانوا أصلاً على المذهب الأرثوذكسي، ولكن التنافس التبشيري بين الكنائس أوجد بينهم كاثوليك وبروتستانت.
كما تسكن البلدة عائلات من السنة، منهم عائلات حورانية أصلاً، كآل الغوثاني والنقيب والطّه والغول، وهؤلاء من فلسطين، وسواهم، أمّا البدو فهم من قبيلة الشنابلة، كالصالح والسعيفان والزطيم والوهبان وغيرهم، ومن قبيلة الحسن هناك عائلة المطلق وسواها، وجميع هذه العائلات على تنوّعها الطائفي، تعيش حياة اجتماعية يسودها الوئام والتآلف الثقافي والاجتماعي.

مسيحيّو عِرى تمسكوا بالمواطنة والشراكة مع الدروز ورفضوا دعوة بعض الكهنوت لهم للهجرة إلى لبنان تمهيداً لتجنيسهم

مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال---Copy
مدخل-دار-الامارة-في-عرى-وتبدو-في-الاعلى-احجار-التماثيل-المنقولة-من-خرائب-سيع-وجرش-وام-الجمال

لخدمات العامة في بلدة عِرى
كان العثمانيون قد بنوا مخفراً للدرك منذ أواخر القرن التاسع عشر ولايزال هذا المخفر قائماً إلى يومنا هذا حيث يقوم عناصره بمهام الحفاظ على الأمن في البلدة.
وتوجد في عِرى مجموعة من المدارس الرسمية على اختلاف درجاتها: منها ست مدارس ابتدائية، ومدرسة إعدادية وأُخرى ثانوية. كما توجد مدرسة فنون نسوية، وهناك مدرسة صناعية قيد الإنشاء.
وفي البلدة اليوم مركز ثقافي يتضمن قاعة مطالعة ومحاضرات ومكتبة لإعارة الكتب للراغبين، وصالة تجارية تبيع الحاجيات بالتجزئة للمواطنين، ومقسماً للهاتف، ومكتب بريد، ومقراً لاتحاد الشبيبة، وفرقاً أهلية وبلدية لتنظيم أمور خدمات السكان والعمران، إذ تبلغ مساحة المخطط التنظيمي في البلدة ستة آلاف دونم، وأطوال الشوارع المعبّدة نحو أربعمائة كيلومتر.
وتوفّر البلدية خدمات الصرف الصحي لأكثر من 95 في المئة من مساكن البلدة، وتوجد أيضاً وحدة إرشادية زراعية لتقديم الإرشاد والنصح للمزارعين ومساعدتهم وإرشادهم على أصول الزراعة السليمة، ومصنع للسجاد اليدوي لكنه توقّف عن العمل بسبب انعدام الجدوى الاقتصادية، والمنافسة، كما توجد مطحنتان صغيرتان لطحن القمح والبرغل والكشك، وفي عِرى أربع صيدليات، وثلاث عيادات طبيّة، وثلاثة أطباء أسنان وطبيب بيطري واحد، وعلى مسافة أقل من كيلومترين من البلدة يوجد مطار زراعي لمكافحة الآفات التي تهدّد المحاصيل الزراعية. أمّا دور العبادة فهناك مجلس للموحّدين الدروز وثلاثة جوامع للسنة واحد منها للحوارنة واثنان للبدو.
وعموماً، فإن البلدة تعتمد، بالإضافة إلى الزراعة وما يتصل بها، على الوظائف في دوائر الدولة، وعلى الهجرة التي تستأثر بقسم كبير من العناصر الشابة التي يجتذبها الكسب السريع، وإغراءات الحياة المعاصرة والاستهلاك.

ابو جبر

قصّة واقعية لكنها أغرب من الخيال

الشّيخ أبو جبر سلامة الحمّود الأطرش و اغاثة الملهوف قي نراث الموحّدين الدّروز

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار

كان الأهل في مضافات جبل العرب يردّدون لقبه “سمّ الموت”، بإعجاب تمازجه الدهشة كلّما ذُكر اسمه، وذلك للدلالة على بطولته وكونه موتاً نازلاً على أعدائه.
يذكره الشاعر أحمد العلَيّان، وهو أحد أبرز الشعراء الشعبيين في القرن التاسع عشر فيقول فيه:
تلفي عا منـــزول مَلْفى لَلاِجْـواد لَلْغَضنــفرْ والنّمـــر،ْ إيضا الفــــــهدْ
تلقى (سَمّ الموت) مامِثْلَهْ أحَـــدْ عِزْ مَنْ ركب الفرس إيضا وْلَـــــــكَدْ
ولد سلامة (سم الموت) نحو أواخر القرن الثامن عشر، وبذا فقد عاش حياة حافلة استغرقت القرن التاسع عشر بطولِهِ، إذ ناف بعمره عن مئة عام، لكن حياة أبو جبر لم تكن إنفاقاً للسنين الرتيبة بل كانت سِجلاً من البطولات وإغاثة الملهوف لكنّه سجل امتزج في الوقت نفسه بمآسٍ موجعة قلّما تجد بطلاً سَلِم من معاناتها وامتحانها.
يتعرّض الأمير متعب الأطرش في مذكّراته لدور(أبو جبر) سلامة ــ وأبو جبر هو جد الأمير متعب لأمّه ــ، فيذكر بأنّه كان له الفضل الأوّل في تدعيم حكم إسماعيل الأطرش في الجبل، ذلك لأنّ أبا جبر كان من الفرسان الأشدّاء الذين تضافرت جهودهم في مجالات اجتماعية متعدّدة “لتوطيد الأسس الجديدة”، ولا بدّ أنه يقصد بالأسس الجديدة، إحلال الزعامة الفتيّة والفعّالة لإسماعيل الأطرش، والتي كانت تلبّي مصالح الموحّدين الدروز، محل الزعامة التي لم تستطع أن تتكيّف مع التغيّرات الاجتماعية في الجبل، من جهة أولى، وذلك بعد أن تزايدت أعداد المهجّرين من الموحّدين الدروز من جبل لبنان ووادي التيم وشمال فلسطين وديار حلب، وبعد أن تزايدت أطماع الولاة العثمانيين في خيرات المجتمع الجديد من جهة ثانية.

مؤامرة لقتل إسماعيل الأطرش
يستشهد الأمير متعب بحادثة جرت نحو سنة 1870م، تدلّ على حذر جدّه سلامة ــ ابن عم إسماعيل ــ وتوجّسه من العثمانيين، فيروي بأن الوالي العثماني في دمشق، تلقّى رشوة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية من الشيخ واكد الحمدان، شيخ جبل الدروز آنذاك، مقابل التخلّص من إسماعيل الأطرش، عدوّه الّلدود ومنافسه على زعامة الجبل، والذي كان يقود معارضة الدروز لزعامة الحمدان الإقطاعية المستبدّة.
كان الشيخ الحمداني قد صوّر للوالي أن لا مصلحة للدولة في بقاء نفوذ إسماعيل الأطرش المتعاظم في أوساط الدروز، وسائر لواء حوران الذي كان يشتمل على جنوب سوريا وشمال الأردن، كان إسماعيل قد نجح في عقد سلسلة من المصالحات والاتفاقيات بين فريقه من دروز الجبل وبين جماعات من عشائر حوران والبادية، وقد جعلت هذه المساعي منه الرجل الأقوى في جنوب سوريا حينذاك ــ وكان المستشرق البريطاني القس بورتر قد زار إسماعيل في قريته، القرَيّا، فأعجب بشجاعته، وباهتمامه بمن حوله، ونعته بـ” أشجع رجل في شعب شجاع”.
استدعى الوالي إسماعيل لمقابلته في دمشق، وكان سلامة بين أبرز من رافقه في تلك الزيارة المشؤومة، ولمّا قابله الوالي أعجب بما تنطوي عليه شخصيّته من مزايا، فلم تُسَوّغ له نفسه قتله، لذا كتب كتاباً ضمن مُغَلّف موجه إلى قائمّقام بُصرى يطلب إليه في ذلك الكتاب بأن يسقي إسماعيل السّمّ، وأعطى المغلّف إلى إسماعيل نفسه، وفي الطريق إلى بصرى قال سلامة لابن عمّه إسماعيل:”افتح الكتاب لنتعرّف ما به”، فأجابه إسماعيل:”كيف نفعل ذلك والرجل وثق بنا على كتاب نوصله لعامله على بصرى؟ هذا لا يجوز، والأمانة لا تسمح لنا به”، فقال له سلامة:” أنا أرى بأن الوالي قد أرسل هذا الكتاب معك لتطّلع على ما به، ولتتجنّب خطره، وأنت يا إسماعيل أصابنا بك مثل الذي حمل كتاباً على قطع رأسه”.
لم يقبل إسماعيل أن يفتح المغلّف، وحاول سلامة أخذه والاطّلاع عليه، فلم يرضَ إسماعيل، بل أصرّ على قراره بعدم فتحه، وفي بُصرى دخل الرجلان على القائمّقام الذي اضطرب لدى قراءته الكتاب ــ كما روى سلامة في ما بعدــ لكن القائمّقام لم يكن أمامه إلّا أن ينفّذ الأمر، فقُدّمَت القهوة المسمومة لهما، سكب سلامة فنجان القهوة ضمن لثامه تحت شفته السفلى، أما إسماعيل فقد شرب القهوة التركيّة، وما أن استقرّت تلك القهوة في جوفه حتّى نظر إلى سلامة قائلاً: “قم نعجّل بالعودة إلى ديارنا”.
أدرك سلامة أنّ ما توقَّعه قد حدث، فركبا جواديهما عائدين، وعندما صارا قرب قرية جْمَرّين ــ شمال شرق بصرى ببضعة كيلومترات ــ ظهرت أعراض السم على الشيخ إسماعيل، فأرسلا “ المفَزِّع إلى المجيمر وهي أولى قرى الجبل ممّا يلي سهل حوران، وشيخها من آل الحمّود الأطرش، نزلا بها للاستراحة، ثمّ انتقل إسماعيل إلى قريته عرى، ولم ينفع معه طبٌّ ولا دواء، فوافته المنيّة بعد سبعة أيّام من الزيارة المشؤومة للموظّفين العثمانيين، وسَلِمَ سلامة بحذره.

قصة أغرب من الخيال
في وقتٍ ما من سبعينات القرن التاسع عشر، وبحسب المرويّات الشفهيّة للأهل، أنّ تاجر أبقار شركسيًّا من قرية “الجويزة” في ديار الجولان، جنوب غرب دمشق بنحو خمسين كيلومتراً، قد اعتاد القدوم إلى جبل الدروز، ليبيع أبقاره الجولانية المشهورة بإدرارها للحليب، وبقوّة بُنْيَتها، وبُنْيَة ما تُنْجبه من عجول، تصير ثيراناً قويّة تجرّ المحاريث في أرض الجبل، وفي مثل هذه الحال، كان لابدّ لذلك التاجر وأمثاله من مرتادي جبل الدروز، من أن يعبروا قرى حوران التي تفصل بين الجولان وبين الجبل، وكذلك لا بدّ له من أن يحلّ ضيفاً على أحدهم في إحدى القرى الحورانية، لعلّه يبيع بعض ما يتجر به، ثمّ إنّ المسافة بين الجولان وجبل الدروز يصعب قطعها في يوم واحد على شخص في مثل حاله.

إسماعيل الأطرش “أشجع رجل في شعب شجاع” وطّد نفوذه على جنوب سوريا لكن الوالي العثماني اغتاله بقهوة مسمومة بناء على تحريض واكد الحمدان

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار.
حلّ الرجل في رحلته تلك ضيفاً على أحدهم في بلدة بصرى. دارٌ رحبةٌ مسوّرة، تتصدّرها بوّابة عالية، وفي تلك الدار أرزاق موفورة، ونسوة وأبناء ومرابعون.
رحّب صاحب الدار بالتاجر، ولمّا علم وجهةَ رحلته حذّره من أنّ الدروز قد يغدرون به، ونصحه بعدم متابعة طريقه إلى جبل أولئك القوم، لكنّ التاجر كان واثقاً من سلامة طريقه، فهو قد خَبِر الدروز في أكثر من مرّة، وجرّب معاملتهم، واستنتج أنّ رأي مضيفه يستند إلى حزازات سببها أخطاء بعض الأشخاص من حوارنة أو دروز من الجانبين، ويستغلّها العثمانيون من جانب آخر، وبهذا يسهل على هؤلاء التحكّم في الفريقين الضّحيّتين، الدروز والحوارنة.
لم يأخذ الشركسي بنصيحة مضيفه، وفي صبيحة اليوم التالي انطلق بتجارته مبكّراً نحو الشرق من بصرى، حيث قرى الجبل التي تتناثر على السفوح الوعرة. قال له المضيف:”إذا رجعت سالماً فلا تنسَ أن تمُرّ بي”.

غدر في هزيع الليل
بعد أيّام من الاتِّجار في الجبل وُفِّق الشركسي في بيع أبقاره، وملأ جيوب كَمَرِه ليرات ذهبية من ثمنها، عند ذاك قرر العودة إلى قريته في الجولان، ولكنه أحبّ أن يلبّي دعوة مضيفه السابق في بصرى، وكان الغروب قد أدركه قربها، وهو يعلم حق العلم أنّ السفر ليلاً لأمثاله ممّن يحمل ذهباً في ذلك الزمن غير آمن، والطرق مُخوِّفَة حتى في وضح النهار.
نزل الشّركسيّ ضيفاً عند البصراوي، فرحّب به واستضافه، وبُعَيْد هزيع من الليل تأكّد المُضيف أنّ ضيفه قد استغرق في نومه، فعمد إلى بلطة مسنونة أهوى بها على رقبة الضيف الغافي ففصل رأسه عن جسده، وكان قد أعدّ حفرة في جانب من باحة داره، رمى جثة القتيل بها، وأهال عليها التراب ورشّ التبن والقش فوقه، فبدت الأرض متماهية مع ما حولها، ونظّف مكان الجريمة فكأنّ شيئاً لم يكن.
هي الأيّام تمضي، وانقطعت أخبار الشركسي عن قريته في الجولان، وشُغِل أبناؤه وبناته، وذووه بأمره، وأيقنوا بعد متابعة وتقصٍّ أن فقيدهم ضاع أثره وفُقِدَ في جبل الدروز، ولطالما عزّز الحاقدون على الجبل مثل هذه الأقاويل.

ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب
ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب

حكمة الأقدار
وفي يوم من أيّام بؤس أسرة ذلك الشركسي المفقود، مرت بقرية “الجويزة” جماعة من غَجَر ذلك الزمان، كانت تتجوّل في قرى وأرياف الجولان، فاختطفت صغرى بناته، الطفلة “زينب “، وعلى عجل، فرّت بها تلك الجماعة إلى الأردن.
كانت زينب في السابعة من عمرها يومذاك، وقد بقيت عند خاطفيها نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبحت فتاة في العشرين من عمرها، صبية شقراء رائعة الحسن، خضراء العينين ممشوقة القد. ولما كان التّجوال سمة ثابتة في حياة الغجر، فقد شاء القدر لزينب أن تمرّ بها جماعتها في بصرى. هناك اشتراها أحد الرجال بأربع ليرات ذهبية ليتبنّاها، وصدف أن رآها الرجل قاتل ذلك الشركسي العاثر، سُحِر بجمالها، فغَصَب متبنّيها على بيعها له، وأخذها معه إلى بيته. أرادها زوجة رابعة له، بالإضافة إلى زوجاته الثلاث، فأبت زينب ذلك. وتمادت مع الأيّام في رفضها الزواج به، خصوصاً بعد أن علمت من كبرى زوجاته بمقتل تاجر شركسي كان عائداً من قرى جبل الدروز إلى دياره البعيدة.
أدركت زينب أنّ ذلك الرجل القتيل هو أبوها. كانت تلك المرأة قد حذّرتها بأنّه إذا استمرّت في عنادها له، سيقتلها كما قتل الرجل المطمور في تلك الحفرة من زاوية باحة الدّار، وحيث لا يعلم بسرّها غيرها بعد اثنين، هما: الله، وزوجها القاتل، كانت قد راقبته خِفْية عندما قتله وسلب ماله، وواراه التراب، ورشّ على وجه التراب التبن للتمويه، وكذلك أرشدتها إلى موضع حفرة المقتول.
تجاهلت زينب علمها بسرّ مقتل أبيها، وظلّت على رفضها الزواج بقاتله. تحمّلت صنوفاً من العذاب والإكراه، كان يذكّرها بأنّها ستظلّ خادمة في حريمه إلى أن تقبل به زوجاً لها، وعندها ستعيش حياة سعيدة، لكنّها لم تَلِنْ له، وقُدّرَ لها أن تتعرّف على امرأة بدويّة اعتادت المجيء إلى حريم ذلك الرجل، مالكها. أعْلَمَتها بأمرها، وباحت لها بسرّها، وبأنّها عرضة للإغتصاب من مجرم هو قاتل أبيها، فوعدتها البدوية بسبيل خلاص من محنتها.
كانت البدوية زوجة لراعٍ يرعى بأغنام وماعز لدروز قرية بكّا المجاورة، وتقع إلى الشرق من بصرى، على مسافة نحو سبعة كيلومترات منها، وشيخها سلامة الحمّود الأطرش.

زينب الحسناء الأسيرة اكتشفت أن سجّانها هو قاتل والدها فكشفت سرها لبدوية وطلبت منها تدبير نجدة تنقذها من أسر المجرم

استغاثة البدوية بالشيخ سلامة
خرجت تلك المرأة البدوية من دارة مُضيفاتها، فكّت رباط أتانها المربوطة في حوش الدواب، وانطلقت مسرعة إلى بكّا، وقد عزمت على أمر جَلَل، لقد عرفت تلك البدويّة كيف تبدأ به، أمّا خواتيمه فقد تجاوزت قدرات كل الأشخاص الذين مثّلوا أحداث هذه القصة الملحميّة.
ما إن أطلّت البدوية من على مشارف قرية بكّا حتى أخذت تصيح مستغيثة ــ وتلك من عادات الأعراب القديمة ، “آ..آ..آ سلامة، وين سمّ الموت؟” واستمرّت تكرّرها وهي تتّجه إلى بيت الشيخ سلامة، فما أن سمعها حتّى أسرع إليها، إلى باب دياره الواسعة ملبّياً: “أبشري يا بنت، لَكِ ما تريدين”. عند ذاك أخبرته بقصة الشركسية ومأساتها وأنّها تطلب نجدته، قال لها:” غداً صباحاً اذهبي إليها، أبلغيها أن تحضّر نفسها لأخلّصها، وعندما ينتصف الليل عليها أن تكون جاهزة لترفع لي رتاج بوّابة الدار، بحيث تكون قريبة منها، لتدلّني أين يكون الرجل، فأخلّصها وليكن بعدها ما يريده الله”.
الشيخ سلامة يعرف بصرى جيّداً، ويعرف الرجل وداره. انتظر حلول الظلام وانطلق إلى غايته على ظهر فرسه، سلاحه سيفه وبارودته المارتيني، وعبده يتبعه على فرسه، وله مثل سلاحه، كان قد اتّفق معه مُسْبَقاً، أن ينتظره جانباً قرب البوّابة، وما أن وصل حتّى ترجّل، ثمّ ناول العبد مقود فرسه، وتقدّم من البوّابة غير المُرْتَجة كما اتُّفِق. قليلاً قليلاً فتح ضلفة منها، وزينب شبح أسود يلطي قربها، كانت قد أطعمت كلاب الدار فأمنت منها بحيث لا تنبح، همست له:
ــ سلامة؟
ـــ هسّسّ
ـــ أينه؟
مشت أمامه إلى عِلّية في الدار بابها مغلق، أشارت له أن يتنحّى جانباً بحيث لا يظهر، رشّت نفسها بقليل من العطر، ثم طرقت الباب برقّة، لم يلبث أن فتح لها، كان شبحاً ضخماً متين البنيان.

المجرم ينال عقابه
ما إن رآها، عرفها، خَطَتْ أمامه خطوات فتبعها بلا سؤال. عندها تقدّم منه سلامة: “تخون الضيف وتسلب ماله وتغتصب ابنته؟، خذها…” كانت ضربة صاعقة بحيث بقيت صرخة القتيل محبوسة في حنجرته، وتدحرج الرأس إلى الأرض، أمّا الجسد فتمايل قليلاً وسقط أرضاً.
أشار سلامة لزينب فتبعته، ومضيا مسرعين، عَبَرا البوابة إلى الخارج، إلى حيث العبد والفرس ينتظران، تناول مِقْوَد الفرس من عبده ووثب على ظهرها، وكالبرق تناول بيمناه يد زينب اليمنى، ومدّ بقدمه اليمنى عَبْر الركاب بحيث تكون درجة، وضعت زينب قدمها اليمنى عليها وقفزت فكانت خلفه على ظهر الفرس، وانطلقا شرقاً إلى بكّا يتبعهما العبد.
شاع خبر إنقاذ زينب في البلاد، وأخذت السلطة العثمانية تلاحق الشيخ سلامة كقاتل، وأخذ الجنود العثمانيون من مركزهم في بصرى يلاحقونه ويقتفون أثره، أمّا زينب، فإنها صمّمت أن تظلّ إلى جانب عمّها سلامة، الذي أنقذها وحمى شرفها، فلبست لباس الرجال، وحملت سلاحاً وامتطت فرساً ولازمته كظلّه، كانا يتنقّلان بعيداً عن أنظار العثمانيين وجواسيسهم من مكان الى آخر ومن قرية الى أُخرى، ويعودان إلى بكّا في بعض الأيّام والليالي، إذْ لا بدّ للشيخ سلامة من أن يكون على بيّنة من شؤون قريته.

أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة
أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة

زينب تعثر على شقيقيها
وحلّ يوم نَكِد عليهما، إذ أحاط بهما الجند العثماني في خرائب قرية قديمة مهجورة، تقع إلى الشرق من مدينة القرَيّا الحاليّة ببضعة كيلومترات تُدعى”دَفْن”، كما تبعد شمالاً بشرق من بكّا ببضعة عشرة كيلومتراً. هناك قُبِضَ على الفارسين وسيقا مُكَبّلَيْن بسلاسل الحديد، وفي بعض الطريق إلى بصرى أخذ اثنان من الجنود يتكلّمان في ما بينهما باللغة الشركسية، وكان العثمانيون يتّخذون من الشركس وسواهم من غير العرب جنوداً في مخافرهم، ومواقع قوّاتهم على أطراف البوادي لقمع الحركات المناوئة لهم. فهمت زينب أن الشركسيين يريدان قتلهما قبل أن يصلا بهما إلى مخفر بصرى، وعندها نزعت لثام الفارس عن وجهها، وباللغة الشركسية ذاتها أفهمتهما قصّتها، وبأن هذا الرجل الذي معها هو مَنْ حرّرها، نخوةً وشهامةً منه، ولم يمسّها بسوء، وهو من أنقذ شرفها من قاتل أبيها التاجر الشركسي الذي انقطعت أخباره، واتّهم الدروز بقتله.
عندما سمع الشركسيّان كلام زينب، ترجّلا عن فرسيهما، وتعرّفا على شقيقتهما المفقودة، تعانقا بعد فراق، وفكّا القيود عن الأسيرين، وقبّلا يديّ الشيخ سلامة الذي ثأر لهما من قاتل أبيهما، وأنقذ شقيقتهما ممّا كانت تعانيه من محنة، وحين وصلا إلى قائدهما، عرضا عليه قصّتهما وقصّة شقيقتهما، زينب، ومن ثمّ تمّ الكشف عن الهيكل العظمي المدفون في دارة القاتل الذي استحق الجزاء العادل من سيف الشيخ سلامة.

مأساة الشيخ سلامة
كان مسعى البدوية لإنقاذ زينب الشركسية مسعًى فردياً، لكنّه ترك جرحاً عميقاً عند ذوي المقتول، قاتل الشركسي في بُصرى، صاروا يتحيّنون الفرص ليغدروا بالشيخ سلامة، فيُعتبرون أنهم أخذوا بثأرهم منه، وعلى الرغم من وجود مصالحة تمّت بين الدروز والحوارنة سنة 1896، فإن السلطات العثمانية جرّدت على جبل الدروز ماعُرِف بحملة ممدوح باشا ــ أو حرب عُرْمان ــ في أواخر ذلك العام، بدواعي فرض التجنيد على الشبّان الدروز، وتحصيل الضرائب، وبسط هيمنة الدولة. وبما أن تلك الحملة هُزمت هزيمة ساحقة أمام مقاتلي الدروز، إذ خسر العثمانيون أكثر من ألف قتيل، كما خسر الدروز أبطالاً بارزين منهم: عقاب البربور ومحمّد أبو خير، ومحمود غزالي ومنصور الشّوفي، وجبر الحَجَلي وحسين أبو خير ويوسف ياغي، وسليمان طربيه وحمد الصغير وعبّاس المتني، لذا فقد عمدوا سنة 1897 إلى إرسال حملة أخرى بلغ تعداد عناصرها نحو ثلاثين ألف جندي، وتمكّنت تلك القوات من احتلال السويداء، وفرض شروط قاسية على الدروز أقلّها نزع جميع الأسلحة، وتسليم عدد من الزعماء والوجهاء المطلوبين، ونفيهم وتهجيرهم مع أسرهم إلى الأناضول وجزائر البحر المتوسّط، ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة ذهبية كتعويض عن الجنود القتلى من العثمانيين في المعارك، يضاف إلى ذلك تجنيد ثلاثة آلاف درزي لمدة خمس سنوات، للمشاركة في معارك العثمانيين في بلاد البلقان. وكانت سياسة التجنيد العثمانية تعني إفراغ الجبل من رجاله، وتركه هدفاً للغزوات البدويّة، ولأطماع الطامعين.
ومع ذلك لم تنجح الحملات العثمانية في القضاء على المقاومة الدرزية،” حاربوا بضراوة لا مثيل لها”، على حد ما جاء في أحد التقارير الدبلوماسية، وباعتراف الأتراك العثمانيين أنفسهم، إلى درجة أنه في إحدى المعارك بالقرب من بلدة قنوات، إلى الشمال من مدينة السويداء، مركز الجبل، كان بين شهداء الدروز أكثر من ثلاثين امرأة ــ يذكر ذلك عبّاس أبو صالح وسامي مكارم في كتابهما” تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”.(ص 302)
في ذلك الظرف الحرج أخذ العثمانيون يستغلّون التباين المذهبي بين الحوارنة السنّة، وبين الدروز، فيوقظون العداوات النائمة، ومن بينها ثأر ذلك المُضيف من بصرى، الذي غدر بضيفه التاجر الشركسي، ثم شاء له الهوى أن يغتصب ابنته، وكان أبو جبر سلامة ( سمّ الموت)، على إيغاله في العمر، ومع ولديه جبر ونايف وحفيده، ابن ابنته، رشراش، من بين أولئك الفرسان من بني معروف الذين أفلتوا من النفي والقتل، فاستمرّوا في مقاتلة العثمانيين حيثما وُجدوا، فيهاجمونهم في مواقع قواتهم التي انتشرت في العديد من قرى الجبل، ثم هم يؤوبون في بعض الليالي إلى قراهم وبيوتهم خفية عن أنظار الجواسيس لتدبير أمور أُسَرِهم، وتسيير شؤونها، وفي اليوم التالي يلتحقون بسواهم من المجاهدين لشن الغارات على القوات العثمانية ومباغتتها. أمّا ابنه فارس فكان قد سيق إلى المنفى في جزيرة كريت التي كانت آنذاك من ضمن الممتلكات التي أضاعها العثمانيون في ما بعد.

ثأر قديم وتحريض من الولاة العثمانيين مهَّدا الطريق لعملية انتقام غادرة من البطل سلامة الأطرش وأفراد أسرته

نكبة الأسرة
في ذلك الزمن المظلم من الليل العثماني المخيّم على جبل الدروز، من سنة 1897، وفي ليلة ظلماء، قدم جماعة من أهل بصرى في زِي ضيوف إلى دار الشيخ أبي جبر سلامة في بكّا، كانوا يشكون إليه سنين القحط والجوع، ويطلبون منه المعونة والمونة لأُسَرِهِم، وهو المعروف بسعة رزقه وكرمه وجوده، فرحّب الشيخ بضيوف الليل، وكَرّمَهم وأطعمهم من زاده، وسقاهم من قهوته، وواعدهم أن يأتوا مع صباح اليوم التالي بجمالهم ودوابهم، فيعطيهم ما يطلبون من قمح وطحين وسمن ودبس ومونة.
ومع فجر الغد جاء ضيوف الأمس بنيّة الغدر، وخلعوا زيّ الضيوف هذه المرّة، قدموا مع مهاجمين آخرين بأسلحتهم، وفاجأوا أهل الدار الآمنين الذين هبوا على جَلَبَة المهاجمين، المفاجأة الغادرة أفقدتهم تنظيم المواجهة، قُتل نايف برصاصة مزّقت صدره قبل أن تمكّنه صولة الغادرين من أن يتناول بندقيته، وهو الفارس المغوار الذي طالما أقلق الأعداء في غاراته عليهم مع والده سلامة، ومع أخيه الأكبر جبر، وابن أخته رشراش، ولم يلبث أن قتل جبر ثم ألحق المعتدون بهما أبن أُختهما رشراش، دقائق صاعقة مرّت كالعاصفة، قتل جميع من في الدار من رجال، ما عدا الوالد سلامة، الذي أُصيب برصاصة في فخذه عطّلت قدرته على المقاومة، وحِيْد به إلى زاوية خَفيّة من الدار فنجا.
على عَجَل نهب القَتَلَة ما استطاعوا نهبه من مؤونة وُعِدوا بها في الأمس، ولم يَعِفّوا عن نهب الأثاث والمقتنيات، ثمّ فرّوا إلى بلدتهم بصرى تحت حماية السلطة العثمانية وأمام أنظارها.
سَلِم من القتل في ذلك الصباح المشؤوم جنين ذكر كان في بطن أمّه ــ ذلك هو صيّاح، الذي سيصبح أحد أهم رجال الثورة السوريّة الكبرى إلى جانب سلطان ــ، أمّا “ بكّا”، القرية المغدورة، فرجالها وشبّانها مُوَزّعون بين منافي الأناضول، أو المُساقين إلى الخدمة القسريّة في جبهات البلقان، أو من هم خارج القرية في مهمّات ليلية لمناوأة معسكرات القوات العثمانية التي احتلّت معظم قرى الجبل، والقلّة الآخرون نأت بهم الغفلة عن صدّ المعتدين.
سريعاً انتشر خبر وقعة بكّا بين أهل الجبل، انتشر كنارٍ في هشيم جاف، لكنّهم في ذلك الظرف العصيب كانوا محاصرين في جبلهم المُدَمّى بين مدافع ورصاص الجيوش العثمانية، وبين سندان الحوارنة والبدو والشركس والأكراد الذين تمكّن العثمانيون من تأليب معظمهم ضدهم، وذلك بهدف إخماد مقاومتهم وكسر شوكتهم.

كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق
كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق

حزن شبلي الأطرش
شاع خبر نكبة الحمّود الأطارشة في الحواضر والبوادي، وتناقلته الركبان بعيداً، وعبر أسلاك التلغراف وصل إلى المنفيين من الدروز في الأناضول، وفي جزائر البحر العثمانية، كان شبلي الأطرش زعيم الدروز الأسطوري ــ كما تصفه المؤرّخة الألمانية بريجيت شبلر ــ منفيّاً آنذاك في جزيرة سيناب، إحدى جزر البحر المتوسّط. وصله نبأ نكبة أبناء عمّه، وكان شاعراً شعبيّاً، عُرِف برقّة شعره وشفافيّته، وتوثيقه لأحداث عصره في قصائده التي تنبض عاطفة وحنيناً وألماً وصدقاً. بعث شبلي بقصيدة عُرِفت بـ “ قصيدة الحمّود “ إلى عمّه سلامة يستنكر فيها المأساة التي قُتِل على إثرها إبناه وحفيده، ومنها:
إن جيــــــــت “بَكّا” ريــــح يــــا طارش الفـــــــــــلا
ما غيـــــــر هـــــــــذي يــــــــا فتــــــــــــى ما عـــــــــــــــــادْ
نــــــــــوّخْ ذَلولك وانســــــــف الكــــــــور جانِبُــــــــهْ
وانطــــــــي المسَطّــــــــــــر فــــي حـــــــــروف مــــــــدادْ
لَيَدْ “ أبــــــو جبــــر “ الشّجيـــــــــــــع المسمــــــــــــّى
وْفــــارس تَمــــــــام أمّــــــــا زمانــــــــــــو بـــــــــــــــــــــاد
اَلشّـــــــــــيبْ عيّا عــــا ذياب ابــــن غانــــــــــــــــم
لا يـــــا خَســــــــارهْ شــــــــــــاخْ نمـــــــــر الــــــــــــــــــــواد
أمّـــــــــا (سلامــــــــه) ماضيــــــــاتٍ مضاربـــــُهْ
لــــــــولا الكَبَــــــــــــرْ زيــــــــــــــر الحــــروب وْكـــــــــــاد
علــــــــى فَقــــدْ (جَبــــْرْ) انْهَدْ حِيْلــــيْ وقوّْتــــي
وعلــــــــى (نايــــــــف) الفــــرسان بالمِــــــــطــــــــــراد
تــــــــرى فقـدهــــم يا عـم خلخل عزايمــــــــــــي
وإدعــــــــــــا همومــــــــــي عَ الفهــــــــود اطْــــــــــــــــواد
تــــرى فقدهـــم يا عم ضعضــــع جوانبــــــــــــي
كأنّـــــــــي من البلــــــــــــوى بغـيــــــــــــر رشـــــــــــــــــــاد
يـــــا حيف عــــا تلك السبــــــــاع البواســــــــــــــل
مــــــــــــع مقطــــــــــــــــعٍ أقســـــى مــــن البـــــــــــــــولاد
فرســــــــان باللّقــــــــا، كَريمــــــــين بالعــــــــــــطا
وِنســــــــــــــــــين بالمحــــــــيا عيــــــــــــــــــال طــــــــــراد
هذا كلامي يــــا “ سلامــــــــــــه “ وبلوتــــــــــــــــي
عَ البُعــــــــْد أعــــــزّيكـــــــــــــم بغيــــــــــــــــر مــــــــــراد
بعد ذلك الاعتداء الغادر بفترة وجيزة، لم يلبث الجدّ، أبو جبر سلامة أن توفّي بعد عمر مديد نَيَّف على المائة عام، أمضى معظمها في ميادين البطولة والكفاح، لكنّها انتهت بمقتل ولديه جبر ونايف، وحفيده رشراش، توفّي قبل أن يرى أو يعرف جنسَ، أو اسم المولود الذي ستنجبه زوجة ابنه الشهيد نايف.

الانتقام المخيف
أمّا فارس، الابن الذي أسلمه المنفى في جزيرة كريت من مذبحة الأسرة في قرية”بكّا”، فقد بقي على قيد الحياة، وعندما علم بنبأ ما حلّ بذويه من شؤم، صمّم على الفرار من منفاه، وبعد جهد، ومعاناة مريرة استطاع الهروب من الجزيرة، عبَرَ البحر، وقطع الفيافي والقفار متجنّباً رقابة العثمانيين، متحمّلاً الأهوال والصعاب، ومتحدّياً الأخطار، إلى أن وصل إلى قريته في نهاية الأمر، ومنها مضى مع ابن أخته قبَلان بن عبدي الأطرش يلاحقان المعتدين بثأر ذويهما للاقتصاص منهم، فكالا الصاع صاعين، وأصبحا شبحين مرعبين تتذرع بهما الأمّهات لتخويف الصغار، وتهديد الكبار، وبقيا على هذه الحال فترة من الزمن، إلى أن أدرك المعتدون أنّ شؤم ما فعلوه من غدر سيبقى عارُهُ يلاحقهم ما لم يطلبوا من أولياء الدم الصلح وحقن الدماء، وهنا تدخّل المصلحون بعد أن أصبحت صولات فارس وقبلان على الجناة حديثاً يتداوله أهل الحضر والبوادي، وعبرة يعتبر منها كلّ غادرٍ معتدٍ، فتوقّفت الملاحقات.

رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة-5
رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة

وصية فارس الأطرش
كان فارس قد حمل التركة الثقيلة من بعد وفاة أبيه سلامة، لكنّه لم ينجب أولاداً، كما أنّ القدر لم يمهله ليرعى تنشئة ابن أخيه، توفّي بعد أن وُلد صيّاح، وهو يحمل جرحاً لم يندمل من أثر العدوان على الأسرة ذات التاريخ العريق، لكنه ترك قصيدة يوصي فيها الأهل والأصدقاء والأصحاب برعاية الطفل اليتيم، ويأمل فيها أن تظل المضافة مفتوحة الأبواب للضيوف والمحتاجين، ويتمنّى أن يكبر الطفل ( صيّاح) ليملأ الفراغ الذي تركه الرّاحلون، وليجدّد الأمل المرتجى، يقول فارس في ما يقول من وصيّته:
أوّل وَصيــــّة يا هَلــــــــي وداعتـي لا تنسوهــــــــــــا
(بصيــــّاح) يــــا اللي ضاويــــــــاً فـي نواحيهـــــــــــــا
ثاني وَصيّة يا هلـــــــــــي المضافــــة لا تِخْلوهــــــــا
بالضّــــيف حَيــــــــّوا وبالترحيــــــب زيدوهــــــــــــــــــا
بَلْكي الزمـــــــان بْصَيّـــاح بيــعــــــــــــود ليــــــــــــها
وبلكـي يقــولوا بـــعــــــــد أصحابهــــــــا فيـــــــــــــــــــها

صياح الأطرش يعفو عن المعتدين
ولكن الجرح الذي خلّفه المعتدون لم يندمل، وظلّ جمراً تحت الرّماد إلى أن كبر حفيد سلامة ”صيّاح” إبن الشهيد نايف، وأصبح قائداً مشهوراً في معارك الثورة السوريّة الكبرى على الاحتلال الفرنسي لسوريا، في ذلك الوقت قدم إليه وفد من ذوي أولئك الذين غدروا بِجدّه وأبيه وعمّه وابن عمّته، وطلبوا منه أن يأخذ بثأره منهم دون سؤال أو جواب، فعفى عنهم قائلاً:” معاذ الله أن أقوم بعمل مشين، فالعفو عند المقدرة”، وأكرمهم، وهكذا عادوا سالمين إلى بُصرى.
كانت المعركة على أشدّها ضدّ الفرنسيين، ولم يكن الزمن زمن إحياء الثارات بين الدروز والحوارنة، وهم الجيران، وأهل الوطن، والظروف تتطلّب أن يكونوا في خندق واحد ضدّ المحتلّين، لكنّ ذكرى سلامة الحمّود الأطرش بقيت عنواناً للبطولات والنجدة في تاريخ بني معروف.

أبو جبر

قصّة واقعية لكنها أغرب من الخيال

الشيخ أبو جبر سلامة الخمود الاطرش و اغاثة الملهوف في تراث الموخدين الدروز

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار

كان الأهل في مضافات جبل العرب يردّدون لقبه “سمّ الموت”، بإعجاب تمازجه الدهشة كلّما ذُكر اسمه، وذلك للدلالة على بطولته وكونه موتاً نازلاً على أعدائه.
يذكره الشاعر أحمد العلَيّان، وهو أحد أبرز الشعراء الشعبيين في القرن التاسع عشر فيقول فيه:
تلفي عا منـــزول مَلْفى لَلاِجْـواد لَلْغَضنــفرْ والنّمـــر،ْ إيضا الفــــــهدْ
تلقى (سَمّ الموت) مامِثْلَهْ أحَـــدْ عِزْ مَنْ ركب الفرس إيضا وْلَـــــــكَدْ
ولد سلامة (سم الموت) نحو أواخر القرن الثامن عشر، وبذا فقد عاش حياة حافلة استغرقت القرن التاسع عشر بطولِهِ، إذ ناف بعمره عن مئة عام، لكن حياة أبو جبر لم تكن إنفاقاً للسنين الرتيبة بل كانت سِجلاً من البطولات وإغاثة الملهوف لكنّه سجل امتزج في الوقت نفسه بمآسٍ موجعة قلّما تجد بطلاً سَلِم من معاناتها وامتحانها.
يتعرّض الأمير متعب الأطرش في مذكّراته لدور(أبو جبر) سلامة ــ وأبو جبر هو جد الأمير متعب لأمّه ــ، فيذكر بأنّه كان له الفضل الأوّل في تدعيم حكم إسماعيل الأطرش في الجبل، ذلك لأنّ أبا جبر كان من الفرسان الأشدّاء الذين تضافرت جهودهم في مجالات اجتماعية متعدّدة “لتوطيد الأسس الجديدة”، ولا بدّ أنه يقصد بالأسس الجديدة، إحلال الزعامة الفتيّة والفعّالة لإسماعيل الأطرش، والتي كانت تلبّي مصالح الموحّدين الدروز، محل الزعامة التي لم تستطع أن تتكيّف مع التغيّرات الاجتماعية في الجبل، من جهة أولى، وذلك بعد أن تزايدت أعداد المهجّرين من الموحّدين الدروز من جبل لبنان ووادي التيم وشمال فلسطين وديار حلب، وبعد أن تزايدت أطماع الولاة العثمانيين في خيرات المجتمع الجديد من جهة ثانية.

مؤامرة لقتل إسماعيل الأطرش
يستشهد الأمير متعب بحادثة جرت نحو سنة 1870م، تدلّ على حذر جدّه سلامة ــ ابن عم إسماعيل ــ وتوجّسه من العثمانيين، فيروي بأن الوالي العثماني في دمشق، تلقّى رشوة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية من الشيخ واكد الحمدان، شيخ جبل الدروز آنذاك، مقابل التخلّص من إسماعيل الأطرش، عدوّه الّلدود ومنافسه على زعامة الجبل، والذي كان يقود معارضة الدروز لزعامة الحمدان الإقطاعية المستبدّة.
كان الشيخ الحمداني قد صوّر للوالي أن لا مصلحة للدولة في بقاء نفوذ إسماعيل الأطرش المتعاظم في أوساط الدروز، وسائر لواء حوران الذي كان يشتمل على جنوب سوريا وشمال الأردن، كان إسماعيل قد نجح في عقد سلسلة من المصالحات والاتفاقيات بين فريقه من دروز الجبل وبين جماعات من عشائر حوران والبادية، وقد جعلت هذه المساعي منه الرجل الأقوى في جنوب سوريا حينذاك ــ وكان المستشرق البريطاني القس بورتر قد زار إسماعيل في قريته، القرَيّا، فأعجب بشجاعته، وباهتمامه بمن حوله، ونعته بـ” أشجع رجل في شعب شجاع”.
استدعى الوالي إسماعيل لمقابلته في دمشق، وكان سلامة بين أبرز من رافقه في تلك الزيارة المشؤومة، ولمّا قابله الوالي أعجب بما تنطوي عليه شخصيّته من مزايا، فلم تُسَوّغ له نفسه قتله، لذا كتب كتاباً ضمن مُغَلّف موجه إلى قائمّقام بُصرى يطلب إليه في ذلك الكتاب بأن يسقي إسماعيل السّمّ، وأعطى المغلّف إلى إسماعيل نفسه، وفي الطريق إلى بصرى قال سلامة لابن عمّه إسماعيل:”افتح الكتاب لنتعرّف ما به”، فأجابه إسماعيل:”كيف نفعل ذلك والرجل وثق بنا على كتاب نوصله لعامله على بصرى؟ هذا لا يجوز، والأمانة لا تسمح لنا به”، فقال له سلامة:” أنا أرى بأن الوالي قد أرسل هذا الكتاب معك لتطّلع على ما به، ولتتجنّب خطره، وأنت يا إسماعيل أصابنا بك مثل الذي حمل كتاباً على قطع رأسه”.
لم يقبل إسماعيل أن يفتح المغلّف، وحاول سلامة أخذه والاطّلاع عليه، فلم يرضَ إسماعيل، بل أصرّ على قراره بعدم فتحه، وفي بُصرى دخل الرجلان على القائمّقام الذي اضطرب لدى قراءته الكتاب ــ كما روى سلامة في ما بعدــ لكن القائمّقام لم يكن أمامه إلّا أن ينفّذ الأمر، فقُدّمَت القهوة المسمومة لهما، سكب سلامة فنجان القهوة ضمن لثامه تحت شفته السفلى، أما إسماعيل فقد شرب القهوة التركيّة، وما أن استقرّت تلك القهوة في جوفه حتّى نظر إلى سلامة قائلاً: “قم نعجّل بالعودة إلى ديارنا”.
أدرك سلامة أنّ ما توقَّعه قد حدث، فركبا جواديهما عائدين، وعندما صارا قرب قرية جْمَرّين ــ شمال شرق بصرى ببضعة كيلومترات ــ ظهرت أعراض السم على الشيخ إسماعيل، فأرسلا “ المفَزِّع إلى المجيمر وهي أولى قرى الجبل ممّا يلي سهل حوران، وشيخها من آل الحمّود الأطرش، نزلا بها للاستراحة، ثمّ انتقل إسماعيل إلى قريته عرى، ولم ينفع معه طبٌّ ولا دواء، فوافته المنيّة بعد سبعة أيّام من الزيارة المشؤومة للموظّفين العثمانيين، وسَلِمَ سلامة بحذره.

إسماعيل الأطرش “أشجع رجل في شعب شجاع” وطّد نفوذه على جنوب سوريا لكن الوالي العثماني اغتاله بقهوة مسمومة بناء على تحريض واكد الحمدان

قصة أغرب من الخيال
في وقتٍ ما من سبعينات القرن التاسع عشر، وبحسب المرويّات الشفهيّة للأهل، أنّ تاجر أبقار شركسيًّا من قرية “الجويزة” في ديار الجولان، جنوب غرب دمشق بنحو خمسين كيلومتراً، قد اعتاد القدوم إلى جبل الدروز، ليبيع أبقاره الجولانية المشهورة بإدرارها للحليب، وبقوّة بُنْيَتها، وبُنْيَة ما تُنْجبه من عجول، تصير ثيراناً قويّة تجرّ المحاريث في أرض الجبل، وفي مثل هذه الحال، كان لابدّ لذلك التاجر وأمثاله من مرتادي جبل الدروز، من أن يعبروا قرى حوران التي تفصل بين الجولان وبين الجبل، وكذلك لا بدّ له من أن يحلّ ضيفاً على أحدهم في إحدى القرى الحورانية، لعلّه يبيع بعض ما يتجر به، ثمّ إنّ المسافة بين الجولان وجبل الدروز يصعب قطعها في يوم واحد على شخص في مثل حاله.
القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار.
حلّ الرجل في رحلته تلك ضيفاً على أحدهم في بلدة بصرى. دارٌ رحبةٌ مسوّرة، تتصدّرها بوّابة عالية، وفي تلك الدار أرزاق موفورة، ونسوة وأبناء ومرابعون.
رحّب صاحب الدار بالتاجر، ولمّا علم وجهةَ رحلته حذّره من أنّ الدروز قد يغدرون به، ونصحه بعدم متابعة طريقه إلى جبل أولئك القوم، لكنّ التاجر كان واثقاً من سلامة طريقه، فهو قد خَبِر الدروز في أكثر من مرّة، وجرّب معاملتهم، واستنتج أنّ رأي مضيفه يستند إلى حزازات سببها أخطاء بعض الأشخاص من حوارنة أو دروز من الجانبين، ويستغلّها العثمانيون من جانب آخر، وبهذا يسهل على هؤلاء التحكّم في الفريقين الضّحيّتين، الدروز والحوارنة.
لم يأخذ الشركسي بنصيحة مضيفه، وفي صبيحة اليوم التالي انطلق بتجارته مبكّراً نحو الشرق من بصرى، حيث قرى الجبل التي تتناثر على السفوح الوعرة. قال له المضيف:”إذا رجعت سالماً فلا تنسَ أن تمُرّ بي”.

غدر في هزيع الليل
بعد أيّام من الاتِّجار في الجبل وُفِّق الشركسي في بيع أبقاره، وملأ جيوب كَمَرِه ليرات ذهبية من ثمنها، عند ذاك قرر العودة إلى قريته في الجولان، ولكنه أحبّ أن يلبّي دعوة مضيفه السابق في بصرى، وكان الغروب قد أدركه قربها، وهو يعلم حق العلم أنّ السفر ليلاً لأمثاله ممّن يحمل ذهباً في ذلك الزمن غير آمن، والطرق مُخوِّفَة حتى في وضح النهار.
نزل الشّركسيّ ضيفاً عند البصراوي، فرحّب به واستضافه، وبُعَيْد هزيع من الليل تأكّد المُضيف أنّ ضيفه قد استغرق في نومه، فعمد إلى بلطة مسنونة أهوى بها على رقبة الضيف الغافي ففصل رأسه عن جسده، وكان قد أعدّ حفرة في جانب من باحة داره، رمى جثة القتيل بها، وأهال عليها التراب ورشّ التبن والقش فوقه، فبدت الأرض متماهية مع ما حولها، ونظّف مكان الجريمة فكأنّ شيئاً لم يكن.
هي الأيّام تمضي، وانقطعت أخبار الشركسي عن قريته في الجولان، وشُغِل أبناؤه وبناته، وذووه بأمره، وأيقنوا بعد متابعة وتقصٍّ أن فقيدهم ضاع أثره وفُقِدَ في جبل الدروز، ولطالما عزّز الحاقدون على الجبل مثل هذه الأقاويل.

ألقاه في حفرة في الحديقة وسوى فوقه التراب
ألقاه في حفرة في الحديقة وسوى فوقه التراب

حكمة الأقدار
وفي يوم من أيّام بؤس أسرة ذلك الشركسي المفقود، مرت بقرية “الجويزة” جماعة من غَجَر ذلك الزمان، كانت تتجوّل في قرى وأرياف الجولان، فاختطفت صغرى بناته، الطفلة “زينب “، وعلى عجل، فرّت بها تلك الجماعة إلى الأردن.
كانت زينب في السابعة من عمرها يومذاك، وقد بقيت عند خاطفيها نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبحت فتاة في العشرين من عمرها، صبية شقراء رائعة الحسن، خضراء العينين ممشوقة القد. ولما كان التّجوال سمة ثابتة في حياة الغجر، فقد شاء القدر لزينب أن تمرّ بها جماعتها في بصرى. هناك اشتراها أحد الرجال بأربع ليرات ذهبية ليتبنّاها، وصدف أن رآها الرجل قاتل ذلك الشركسي العاثر، سُحِر بجمالها، فغَصَب متبنّيها على بيعها له، وأخذها معه إلى بيته. أرادها زوجة رابعة له، بالإضافة إلى زوجاته الثلاث، فأبت زينب ذلك. وتمادت مع الأيّام في رفضها الزواج به، خصوصاً بعد أن علمت من كبرى زوجاته بمقتل تاجر شركسي كان عائداً من قرى جبل الدروز إلى دياره البعيدة.
أدركت زينب أنّ ذلك الرجل القتيل هو أبوها. كانت تلك المرأة قد حذّرتها بأنّه إذا استمرّت في عنادها له، سيقتلها كما قتل الرجل المطمور في تلك الحفرة من زاوية باحة الدّار، وحيث لا يعلم بسرّها غيرها بعد اثنين، هما: الله، وزوجها القاتل، كانت قد راقبته خِفْية عندما قتله وسلب ماله، وواراه التراب، ورشّ على وجه التراب التبن للتمويه، وكذلك أرشدتها إلى موضع حفرة المقتول.
تجاهلت زينب علمها بسرّ مقتل أبيها، وظلّت على رفضها الزواج بقاتله. تحمّلت صنوفاً من العذاب والإكراه، كان يذكّرها بأنّها ستظلّ خادمة في حريمه إلى أن تقبل به زوجاً لها، وعندها ستعيش حياة سعيدة، لكنّها لم تَلِنْ له، وقُدّرَ لها أن تتعرّف على امرأة بدويّة اعتادت المجيء إلى حريم ذلك الرجل، مالكها. أعْلَمَتها بأمرها، وباحت لها بسرّها، وبأنّها عرضة للإغتصاب من مجرم هو قاتل أبيها، فوعدتها البدوية بسبيل خلاص من محنتها.
كانت البدوية زوجة لراعٍ يرعى بأغنام وماعز لدروز قرية بكّا المجاورة، وتقع إلى الشرق من بصرى، على مسافة نحو سبعة كيلومترات منها، وشيخها سلامة الحمّود الأطرش.

زينب الحسناء الأسيرة اكتشفت أن سجّانها هو قاتل والدها فكشفت سرها لبدوية وطلبت منها تدبير نجدة تنقذها من أسر المجرم

استغاثة البدوية بالشيخ سلامة
خرجت تلك المرأة البدوية من دارة مُضيفاتها، فكّت رباط أتانها المربوطة في حوش الدواب، وانطلقت مسرعة إلى بكّا، وقد عزمت على أمر جَلَل، لقد عرفت تلك البدويّة كيف تبدأ به، أمّا خواتيمه فقد تجاوزت قدرات كل الأشخاص الذين مثّلوا أحداث هذه القصة الملحميّة.
ما إن أطلّت البدوية من على مشارف قرية بكّا حتى أخذت تصيح مستغيثة ــ وتلك من عادات الأعراب القديمة ، “آ..آ..آ سلامة، وين سمّ الموت؟” واستمرّت تكرّرها وهي تتّجه إلى بيت الشيخ سلامة، فما أن سمعها حتّى أسرع إليها، إلى باب دياره الواسعة ملبّياً: “أبشري يا بنت، لَكِ ما تريدين”. عند ذاك أخبرته بقصة الشركسية ومأساتها وأنّها تطلب نجدته، قال لها:” غداً صباحاً اذهبي إليها، أبلغيها أن تحضّر نفسها لأخلّصها، وعندما ينتصف الليل عليها أن تكون جاهزة لترفع لي رتاج بوّابة الدار، بحيث تكون قريبة منها، لتدلّني أين يكون الرجل، فأخلّصها وليكن بعدها ما يريده الله”.
الشيخ سلامة يعرف بصرى جيّداً، ويعرف الرجل وداره. انتظر حلول الظلام وانطلق إلى غايته على ظهر فرسه، سلاحه سيفه وبارودته المارتيني، وعبده يتبعه على فرسه، وله مثل سلاحه، كان قد اتّفق معه مُسْبَقاً، أن ينتظره جانباً قرب البوّابة، وما أن وصل حتّى ترجّل، ثمّ ناول العبد مقود فرسه، وتقدّم من البوّابة غير المُرْتَجة كما اتُّفِق. قليلاً قليلاً فتح ضلفة منها، وزينب شبح أسود يلطي قربها، كانت قد أطعمت كلاب الدار فأمنت منها بحيث لا تنبح، همست له:
ــ سلامة؟
ـــ هسّسّ
ـــ أينه؟
مشت أمامه إلى عِلّية في الدار بابها مغلق، أشارت له أن يتنحّى جانباً بحيث لا يظهر، رشّت نفسها بقليل من العطر، ثم طرقت الباب برقّة، لم يلبث أن فتح لها، كان شبحاً ضخماً متين البنيان.

المجرم ينال عقابه
ما إن رآها، عرفها، خَطَتْ أمامه خطوات فتبعها بلا سؤال. عندها تقدّم منه سلامة: “تخون الضيف وتسلب ماله وتغتصب ابنته؟، خذها…” كانت ضربة صاعقة بحيث بقيت صرخة القتيل محبوسة في حنجرته، وتدحرج الرأس إلى الأرض، أمّا الجسد فتمايل قليلاً وسقط أرضاً.
أشار سلامة لزينب فتبعته، ومضيا مسرعين، عَبَرا البوابة إلى الخارج، إلى حيث العبد والفرس ينتظران، تناول مِقْوَد الفرس من عبده ووثب على ظهرها، وكالبرق تناول بيمناه يد زينب اليمنى، ومدّ بقدمه اليمنى عَبْر الركاب بحيث تكون درجة، وضعت زينب قدمها اليمنى عليها وقفزت فكانت خلفه على ظهر الفرس، وانطلقا شرقاً إلى بكّا يتبعهما العبد.
شاع خبر إنقاذ زينب في البلاد، وأخذت السلطة العثمانية تلاحق الشيخ سلامة كقاتل، وأخذ الجنود العثمانيون من مركزهم في بصرى يلاحقونه ويقتفون أثره، أمّا زينب، فإنها صمّمت أن تظلّ إلى جانب عمّها سلامة، الذي أنقذها وحمى شرفها، فلبست لباس الرجال، وحملت سلاحاً وامتطت فرساً ولازمته كظلّه، كانا يتنقّلان بعيداً عن أنظار العثمانيين وجواسيسهم من مكان الى آخر ومن قرية الى أُخرى، ويعودان إلى بكّا في بعض الأيّام والليالي، إذْ لا بدّ للشيخ سلامة من أن يكون على بيّنة من شؤون قريته.

أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة
أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة

زينب تعثر على شقيقيها
وحلّ يوم نَكِد عليهما، إذ أحاط بهما الجند العثماني في خرائب قرية قديمة مهجورة، تقع إلى الشرق من مدينة القرَيّا الحاليّة ببضعة كيلومترات تُدعى”دَفْن”، كما تبعد شمالاً بشرق من بكّا ببضعة عشرة كيلومتراً. هناك قُبِضَ على الفارسين وسيقا مُكَبّلَيْن بسلاسل الحديد، وفي بعض الطريق إلى بصرى أخذ اثنان من الجنود يتكلّمان في ما بينهما باللغة الشركسية، وكان العثمانيون يتّخذون من الشركس وسواهم من غير العرب جنوداً في مخافرهم، ومواقع قوّاتهم على أطراف البوادي لقمع الحركات المناوئة لهم. فهمت زينب أن الشركسيين يريدان قتلهما قبل أن يصلا بهما إلى مخفر بصرى، وعندها نزعت لثام الفارس عن وجهها، وباللغة الشركسية ذاتها أفهمتهما قصّتها، وبأن هذا الرجل الذي معها هو مَنْ حرّرها، نخوةً وشهامةً منه، ولم يمسّها بسوء، وهو من أنقذ شرفها من قاتل أبيها التاجر الشركسي الذي انقطعت أخباره، واتّهم الدروز بقتله.
عندما سمع الشركسيّان كلام زينب، ترجّلا عن فرسيهما، وتعرّفا على شقيقتهما المفقودة، تعانقا بعد فراق، وفكّا القيود عن الأسيرين، وقبّلا يديّ الشيخ سلامة الذي ثأر لهما من قاتل أبيهما، وأنقذ شقيقتهما ممّا كانت تعانيه من محنة، وحين وصلا إلى قائدهما، عرضا عليه قصّتهما وقصّة شقيقتهما، زينب، ومن ثمّ تمّ الكشف عن الهيكل العظمي المدفون في دارة القاتل الذي استحق الجزاء العادل من سيف الشيخ سلامة.

مأساة الشيخ سلامة
كان مسعى البدوية لإنقاذ زينب الشركسية مسعًى فردياً، لكنّه ترك جرحاً عميقاً عند ذوي المقتول، قاتل الشركسي في بُصرى، صاروا يتحيّنون الفرص ليغدروا بالشيخ سلامة، فيُعتبرون أنهم أخذوا بثأرهم منه، وعلى الرغم من وجود مصالحة تمّت بين الدروز والحوارنة سنة 1896، فإن السلطات العثمانية جرّدت على جبل الدروز ماعُرِف بحملة ممدوح باشا ــ أو حرب عُرْمان ــ في أواخر ذلك العام، بدواعي فرض التجنيد على الشبّان الدروز، وتحصيل الضرائب، وبسط هيمنة الدولة. وبما أن تلك الحملة هُزمت هزيمة ساحقة أمام مقاتلي الدروز، إذ خسر العثمانيون أكثر من ألف قتيل، كما خسر الدروز أبطالاً بارزين منهم: عقاب البربور ومحمّد أبو خير، ومحمود غزالي ومنصور الشّوفي، وجبر الحَجَلي وحسين أبو خير ويوسف ياغي، وسليمان طربيه وحمد الصغير وعبّاس المتني، لذا فقد عمدوا سنة 1897 إلى إرسال حملة أخرى بلغ تعداد عناصرها نحو ثلاثين ألف جندي، وتمكّنت تلك القوات من احتلال السويداء، وفرض شروط قاسية على الدروز أقلّها نزع جميع الأسلحة، وتسليم عدد من الزعماء والوجهاء المطلوبين، ونفيهم وتهجيرهم مع أسرهم إلى الأناضول وجزائر البحر المتوسّط، ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة ذهبية كتعويض عن الجنود القتلى من العثمانيين في المعارك، يضاف إلى ذلك تجنيد ثلاثة آلاف درزي لمدة خمس سنوات، للمشاركة في معارك العثمانيين في بلاد البلقان. وكانت سياسة التجنيد العثمانية تعني إفراغ الجبل من رجاله، وتركه هدفاً للغزوات البدويّة، ولأطماع الطامعين.
ومع ذلك لم تنجح الحملات العثمانية في القضاء على المقاومة الدرزية،” حاربوا بضراوة لا مثيل لها”، على حد ما جاء في أحد التقارير الدبلوماسية، وباعتراف الأتراك العثمانيين أنفسهم، إلى درجة أنه في إحدى المعارك بالقرب من بلدة قنوات، إلى الشمال من مدينة السويداء، مركز الجبل، كان بين شهداء الدروز أكثر من ثلاثين امرأة ــ يذكر ذلك عبّاس أبو صالح وسامي مكارم في كتابهما” تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”.(ص 302)
في ذلك الظرف الحرج أخذ العثمانيون يستغلّون التباين المذهبي بين الحوارنة السنّة، وبين الدروز، فيوقظون العداوات النائمة، ومن بينها ثأر ذلك المُضيف من بصرى، الذي غدر بضيفه التاجر الشركسي، ثم شاء له الهوى أن يغتصب ابنته، وكان أبو جبر سلامة ( سمّ الموت)، على إيغاله في العمر، ومع ولديه جبر ونايف وحفيده، ابن ابنته، رشراش، من بين أولئك الفرسان من بني معروف الذين أفلتوا من النفي والقتل، فاستمرّوا في مقاتلة العثمانيين حيثما وُجدوا، فيهاجمونهم في مواقع قواتهم التي انتشرت في العديد من قرى الجبل، ثم هم يؤوبون في بعض الليالي إلى قراهم وبيوتهم خفية عن أنظار الجواسيس لتدبير أمور أُسَرِهم، وتسيير شؤونها، وفي اليوم التالي يلتحقون بسواهم من المجاهدين لشن الغارات على القوات العثمانية ومباغتتها. أمّا ابنه فارس فكان قد سيق إلى المنفى في جزيرة كريت التي كانت آنذاك من ضمن الممتلكات التي أضاعها العثمانيون في ما بعد.

ثأر قديم وتحريض من الولاة العثمانيين مهَّدا الطريق لعملية انتقام غادرة من البطل سلامة الأطرش وأفراد أسرته

كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق
كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق

نكبة الأسرة
في ذلك الزمن المظلم من الليل العثماني المخيّم على جبل الدروز، من سنة 1897، وفي ليلة ظلماء، قدم جماعة من أهل بصرى في زِي ضيوف إلى دار الشيخ أبي جبر سلامة في بكّا، كانوا يشكون إليه سنين القحط والجوع، ويطلبون منه المعونة والمونة لأُسَرِهِم، وهو المعروف بسعة رزقه وكرمه وجوده، فرحّب الشيخ بضيوف الليل، وكَرّمَهم وأطعمهم من زاده، وسقاهم من قهوته، وواعدهم أن يأتوا مع صباح اليوم التالي بجمالهم ودوابهم، فيعطيهم ما يطلبون من قمح وطحين وسمن ودبس ومونة.
ومع فجر الغد جاء ضيوف الأمس بنيّة الغدر، وخلعوا زيّ الضيوف هذه المرّة، قدموا مع مهاجمين آخرين بأسلحتهم، وفاجأوا أهل الدار الآمنين الذين هبوا على جَلَبَة المهاجمين، المفاجأة الغادرة أفقدتهم تنظيم المواجهة، قُتل نايف برصاصة مزّقت صدره قبل أن تمكّنه صولة الغادرين من أن يتناول بندقيته، وهو الفارس المغوار الذي طالما أقلق الأعداء في غاراته عليهم مع والده سلامة، ومع أخيه الأكبر جبر، وابن أخته رشراش، ولم يلبث أن قتل جبر ثم ألحق المعتدون بهما أبن أُختهما رشراش، دقائق صاعقة مرّت كالعاصفة، قتل جميع من في الدار من رجال، ما عدا الوالد سلامة، الذي أُصيب برصاصة في فخذه عطّلت قدرته على المقاومة، وحِيْد به إلى زاوية خَفيّة من الدار فنجا.
على عَجَل نهب القَتَلَة ما استطاعوا نهبه من مؤونة وُعِدوا بها في الأمس، ولم يَعِفّوا عن نهب الأثاث والمقتنيات، ثمّ فرّوا إلى بلدتهم بصرى تحت حماية السلطة العثمانية وأمام أنظارها.
سَلِم من القتل في ذلك الصباح المشؤوم جنين ذكر كان في بطن أمّه ــ ذلك هو صيّاح، الذي سيصبح أحد أهم رجال الثورة السوريّة الكبرى إلى جانب سلطان ــ، أمّا “ بكّا”، القرية المغدورة، فرجالها وشبّانها مُوَزّعون بين منافي الأناضول، أو المُساقين إلى الخدمة القسريّة في جبهات البلقان، أو من هم خارج القرية في مهمّات ليلية لمناوأة معسكرات القوات العثمانية التي احتلّت معظم قرى الجبل، والقلّة الآخرون نأت بهم الغفلة عن صدّ المعتدين.
سريعاً انتشر خبر وقعة بكّا بين أهل الجبل، انتشر كنارٍ في هشيم جاف، لكنّهم في ذلك الظرف العصيب كانوا محاصرين في جبلهم المُدَمّى بين مدافع ورصاص الجيوش العثمانية، وبين سندان الحوارنة والبدو والشركس والأكراد الذين تمكّن العثمانيون من تأليب معظمهم ضدهم، وذلك بهدف إخماد مقاومتهم وكسر شوكتهم.
حزن شبلي الأطرش
شاع خبر نكبة الحمّود الأطارشة في الحواضر والبوادي، وتناقلته الركبان بعيداً، وعبر أسلاك التلغراف وصل إلى المنفيين من الدروز في الأناضول، وفي جزائر البحر العثمانية، كان شبلي الأطرش زعيم الدروز الأسطوري ــ كما تصفه المؤرّخة الألمانية بريجيت شبلر ــ منفيّاً آنذاك في جزيرة سيناب، إحدى جزر البحر المتوسّط. وصله نبأ نكبة أبناء عمّه، وكان شاعراً شعبيّاً، عُرِف برقّة شعره وشفافيّته، وتوثيقه لأحداث عصره في قصائده التي تنبض عاطفة وحنيناً وألماً وصدقاً. بعث شبلي بقصيدة عُرِفت بـ “ قصيدة الحمّود “ إلى عمّه سلامة يستنكر فيها المأساة التي قُتِل على إثرها إبناه وحفيده، ومنها:
إن جيــــــــت “بَكّا” ريــــح يــــا طارش الفـــــــــــلا
ما غيـــــــر هـــــــــذي يــــــــا فتــــــــــــى ما عـــــــــــــــــادْ
نــــــــــوّخْ ذَلولك وانســــــــف الكــــــــور جانِبُــــــــهْ
وانطــــــــي المسَطّــــــــــــر فــــي حـــــــــروف مــــــــدادْ
لَيَدْ “ أبــــــو جبــــر “ الشّجيـــــــــــــع المسمــــــــــــّى
وْفــــارس تَمــــــــام أمّــــــــا زمانــــــــــــو بـــــــــــــــــــــاد
اَلشّـــــــــــيبْ عيّا عــــا ذياب ابــــن غانــــــــــــــــم

رحلة للتجارة انتهت بمأساة
رحلة للتجارة انتهت بمأساة

لا يـــــا خَســــــــارهْ شــــــــــــاخْ نمـــــــــر الــــــــــــــــــــواد
أمّـــــــــا (سلامــــــــه) ماضيــــــــاتٍ مضاربـــــُهْ
لــــــــولا الكَبَــــــــــــرْ زيــــــــــــــر الحــــروب وْكـــــــــــاد
علــــــــى فَقــــدْ (جَبــــْرْ) انْهَدْ حِيْلــــيْ وقوّْتــــي
وعلــــــــى (نايــــــــف) الفــــرسان بالمِــــــــطــــــــــراد
تــــــــرى فقـدهــــم يا عـم خلخل عزايمــــــــــــي
وإدعــــــــــــا همومــــــــــي عَ الفهــــــــود اطْــــــــــــــــواد
تــــرى فقدهـــم يا عم ضعضــــع جوانبــــــــــــي
كأنّـــــــــي من البلــــــــــــوى بغـيــــــــــــر رشـــــــــــــــــــاد
يـــــا حيف عــــا تلك السبــــــــاع البواســــــــــــــل
مــــــــــــع مقطــــــــــــــــعٍ أقســـــى مــــن البـــــــــــــــولاد
فرســــــــان باللّقــــــــا، كَريمــــــــين بالعــــــــــــطا
وِنســــــــــــــــــين بالمحــــــــيا عيــــــــــــــــــال طــــــــــراد
هذا كلامي يــــا “ سلامــــــــــــه “ وبلوتــــــــــــــــي
عَ البُعــــــــْد أعــــــزّيكـــــــــــــم بغيــــــــــــــــر مــــــــــراد
بعد ذلك الاعتداء الغادر بفترة وجيزة، لم يلبث الجدّ، أبو جبر سلامة أن توفّي بعد عمر مديد نَيَّف على المائة عام، أمضى معظمها في ميادين البطولة والكفاح، لكنّها انتهت بمقتل ولديه جبر ونايف، وحفيده رشراش، توفّي قبل أن يرى أو يعرف جنسَ، أو اسم المولود الذي ستنجبه زوجة ابنه الشهيد نايف.

الانتقام المخيف
أمّا فارس، الابن الذي أسلمه المنفى في جزيرة كريت من مذبحة الأسرة في قرية”بكّا”، فقد بقي على قيد الحياة، وعندما علم بنبأ ما حلّ بذويه من شؤم، صمّم على الفرار من منفاه، وبعد جهد، ومعاناة مريرة استطاع الهروب من الجزيرة، عبَرَ البحر، وقطع الفيافي والقفار متجنّباً رقابة العثمانيين، متحمّلاً الأهوال والصعاب، ومتحدّياً الأخطار، إلى أن وصل إلى قريته في نهاية الأمر، ومنها مضى مع ابن أخته قبَلان بن عبدي الأطرش يلاحقان المعتدين بثأر ذويهما للاقتصاص منهم، فكالا الصاع صاعين، وأصبحا شبحين مرعبين تتذرع بهما الأمّهات لتخويف الصغار، وتهديد الكبار، وبقيا على هذه الحال فترة من الزمن، إلى أن أدرك المعتدون أنّ شؤم ما فعلوه من غدر سيبقى عارُهُ يلاحقهم ما لم يطلبوا من أولياء الدم الصلح وحقن الدماء، وهنا تدخّل المصلحون بعد أن أصبحت صولات فارس وقبلان على الجناة حديثاً يتداوله أهل الحضر والبوادي، وعبرة يعتبر منها كلّ غادرٍ معتدٍ، فتوقّفت الملاحقات.

وصية فارس الأطرش
كان فارس قد حمل التركة الثقيلة من بعد وفاة أبيه سلامة، لكنّه لم ينجب أولاداً، كما أنّ القدر لم يمهله ليرعى تنشئة ابن أخيه، توفّي بعد أن وُلد صيّاح، وهو يحمل جرحاً لم يندمل من أثر العدوان على الأسرة ذات التاريخ العريق، لكنه ترك قصيدة يوصي فيها الأهل والأصدقاء والأصحاب برعاية الطفل اليتيم، ويأمل فيها أن تظل المضافة مفتوحة الأبواب للضيوف والمحتاجين، ويتمنّى أن يكبر الطفل ( صيّاح) ليملأ الفراغ الذي تركه الرّاحلون، وليجدّد الأمل المرتجى، يقول فارس في ما يقول من وصيّته:
أوّل وَصيــــّة يا هَلــــــــي وداعتـي لا تنسوهــــــــــــا
(بصيــــّاح) يــــا اللي ضاويــــــــاً فـي نواحيهـــــــــــــا
ثاني وَصيّة يا هلـــــــــــي المضافــــة لا تِخْلوهــــــــا
بالضّــــيف حَيــــــــّوا وبالترحيــــــب زيدوهــــــــــــــــــا
بَلْكي الزمـــــــان بْصَيّـــاح بيــعــــــــــــود ليــــــــــــها
وبلكـي يقــولوا بـــعــــــــد أصحابهــــــــا فيـــــــــــــــــــها

صياح الأطرش يعفو عن المعتدين
ولكن الجرح الذي خلّفه المعتدون لم يندمل، وظلّ جمراً تحت الرّماد إلى أن كبر حفيد سلامة ”صيّاح” إبن الشهيد نايف، وأصبح قائداً مشهوراً في معارك الثورة السوريّة الكبرى على الاحتلال الفرنسي لسوريا، في ذلك الوقت قدم إليه وفد من ذوي أولئك الذين غدروا بِجدّه وأبيه وعمّه وابن عمّته، وطلبوا منه أن يأخذ بثأره منهم دون سؤال أو جواب، فعفى عنهم قائلاً:” معاذ الله أن أقوم بعمل مشين، فالعفو عند المقدرة”، وأكرمهم، وهكذا عادوا سالمين إلى بُصرى.
كانت المعركة على أشدّها ضدّ الفرنسيين، ولم يكن الزمن زمن إحياء الثارات بين الدروز والحوارنة، وهم الجيران، وأهل الوطن، والظروف تتطلّب أن يكونوا في خندق واحد ضدّ المحتلّين، لكنّ ذكرى سلامة الحمّود الأطرش بقيت عنواناً للبطولات والنجدة في تاريخ بني معروف.

حكايــات حمّــــــود بشنــــــق

حمّــود وسارقو العنب

حمّود بشنق واحد من أولئك الرجال الذين يتميّزون ويثبتون جدارتهم أينما وَضَعَتهم الظّروف، أو حطّت بهم الأقدار. كانت «الرافقة» خربة قديمة ترقد على الحضن الشرقي لقمّة مشرفة من قمم السفوح الجنوبية لجبل الدروز، إلى الجنوب من مدينة صلخد. ومنذ قرون لم يشقَّ تربة تلك الخربة محراث، حوّلها الخراب المتمادي إلى مراعٍ للبدو يرتادونها في الربيع والصيف، وينأون عنها بعيداً عن براري الحماد في الخريف والشتاء هرباً من الثلوج وبرد الجبل. وقد زاد نشاط الرعي تلك البقعة خراباً، فلا زراعة ولا شجر، بل قفر ووحوش، وبريّة تذكّرك بالعصور الأولى.

لكن حال «الرافقة» تبدلت جذرياً منذ أن نزل بها حمّود وبعض أقاربه من آل عبيد وشرف، إذ قام حمّود وجماعته بحرث الأرض إلى الأسفل باتجاه الجنوب المشمس، وغرس كروم من عنب وتين، بعد أن سوّر الحقل المستحدث بسور من الحجارة الدّبش، وهو الأسلوب القديم الذي اختطّه الأنباط الذين كانوا أوّل من استزرع أرض ذلك الجبل قبل أكثر من ألفين من الأعوام، وأصبح كرم حمّود مضرب المثل بجودة عنبه وتينه، وحسن صيانته.

بعيداً من كرم حمود، إلى الجنوب منه ببضعة عشر كيلومترات، وراء تل الشيح، جماعة من البدو الرعاة، خيّم عليهم الظلام، وما من قمرٍ تلك الليلة من أوائل شهر أيلول، كانوا قد قرّبوا قطعانهم إلى بعضها بحيث تسهل حمايتها من غارات اللصوص أو الذئاب الكاسرة، هم قرروا بدورهم أن يكلّفوا ثلاثة منهم أن يغيروا على كرم حمود ليسرقوا من عنبه.

مشى الرجال مع ظلام الليل قاصدين هدفهم، وصلوه بعد نحو ثلاث ساعات من مسير عبر طريق وعرة؛ كانوا قد اقتربوا من سور الكرم، كفّوا عن الحديث إلاّ همساً ومشَوْا على رؤوس أصابع أقدامهم التي خشّنها الحفاء فما عرفت حذاءً، انتشروا ثلاثتهم على حافة سور الكرم الجنوبية متباعدين قليلاً، ظلمة حالكة تلفّ السفوح، والنجوم غائرة في الليل العميق.

أمسك أحدهم (ويدعى زيدان) حجراً ملء قبضته وقرع به حجراً آخر أعلى السور ضرب ضربتين، فعل ذلك ليختبر إن كان في الكرم مَنْ يحرسه، لحظة صمت مريب انقضت، أعاد زيدان قرع حجر السور بضربة ثالثة للتأكّد، برهة صغيرة، دوّى إثرها طلق ناريّ هشّم الحجر الذي ضُربَ عليه قبل لحظة إلى شظايا متناثرة، رُعِبَ الرجال لسرعة الرد ودقّة الرمي، صاح زيدان لشدّة الخوف: ” آ حمّود، حِنّا بوجهك” أي نطلب عفوك وحمايتك.
أجاب حمود : انزلوا

تسوّر الرجال حائط الكرم ومشوا باتجاه الصوت، لاقاهم حمود قائلاً: «والله لو لم تقولوها لكنت قنّصتكم واحداً واحداً ، هيّا اقطّفوا عنباً وكُلوا وخذوا ملء عباءة أحدكم وولّوا».

حمّود والولد خاطف البارودة

العام 1925، لم يتخلّف حمّود بشنق عن المشاركة في معارك الثورة السورية الكبرى. ذات يوم والوقت عند العصر كان الرجل عائداً على ظهر فرسه من إحدى المعارك ضد الفرنسيين بعد أن أصيب بشظية من قنبلة مدفع في رجله، لكنه ظلّ متماسكاً، وقد ضمّدوا له جرحه في الميدان على ما تيسّر ريثما يصل إلى أهله، لم يكن للثوّار من مستشفيات، وعندما صار قرب قرية العفينة جنوب السويداء أحسّ بثقل جرحه وبآلام تشتد عليه.

ربّما أصابه نعاس، كان يتّجه جنوباً إلى المقرن القبلي، بصحبة رتل من العائدين، جرحى ومتعبين، هم إلى قراهم، وهو إلى قريته. سقطت منه إحدى البارودتين اللتين غنمهما في المعركة، هو لا يستطيع النزول من على ظهر فرسه وتناوُل البارودة والعودة إلى ظهر الفرس ثانية، الجرح يصعّب عليه الأمر، نادى صبيّاً كان يلعب مع أترابه على جانب الطريق ليناوله البارودة، التفت الصبي إلى الرجل وركض قاصداً البارودة، انقضّ عليها كنمر غائرٍ على صيده، تناولها ومضى هارباً عبر الزواريب الضيّقة في القرية.

بادر بعض من كانوا في رتل العائدين يتبعون الصبي ليستردّوا البارودة، صاح بهم حمّود: «اتركوه، لو لم يكن يستأهلها لما هرب بها، هي حلال عليه».

الأمير شكيب إرسلان في أُم الرمّان

كان المغفور له الأمير شكيب إرسلان نائباً عن جبل الدروز في مجلس المبعوثان – المجلس النيابي العثماني – في الفترة الأخيرة من حكم بني عثمان في اسطنبول ( الآستانة ) وبقدر ما كان الرجل واسع الاهتمام بشؤون الأمّة العربيّة والإسلاميّة عموماً، إذ كان من أوائل المبشّرين بفكرة الجامعة الإسلاميّة قبل العربيّة، فقد كان يؤرقه ما حلّ ببلاد الإسلام من تأخّر، وما أصابها من أطماع استعماريّة أوروبيّة خاصة مع نزول الفرنسيّين في شمال أفريقيا (الجزائر وتونس والمغرب ) والطليان في ليبيا والإنكليز في عدن والبنجاب وأفغانستان …

كان الأمير التنوخي شريكاً لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في حمل هموم العرب والمسلمين، والبحث عن مخارج للمحنة التي وقعت بها الأمّة بسبب الهجوم الشرس للدول الأوروبية التي كانت منشغلة بتقطيع أوساط الدولة العثمانية والتسابق على الفوز بأطرافها شرقاً وغرباً في ما بدا أشبه بحرب صليبية جديدة تستهدف بلدان الشرق الغنية بثرواتها والمهمة جداً في موقعها ودورها في التجارة الدولية.

إلى جانب كل ذلك كان الأمير شكيب يكن محبة كبيرة لبني معروف، وهم قاعدته الاجتماعيّة وقومه الذين يعتز بدورهم وبتضحياتهم الكبيرة والتاريخية في نصرة العرب والإسلام.

وهنا حادثة لطيفة تضيء جانباً من شخصية الأمير الحماسية واهتمامه الشديد ببني معروف وحرصه على كل ما يؤلف بين قلوبهم ويبقيهم جبهة واحدة في مقاومة الأطماع والطامعين.

فقد علم الأمير شكيب أنّ أهالي قرية أم الرمّان، وهي قرية تقع على التخوم الجنوبيّة لجبل الدروز ( محافظة السويداء حالياً ) وقع بينهم خلاف، ولمّا كانت القرية في ذلك الزمان تواجه مع سائر الجبل علاقات متوتّرة مع الدولة العثمانية، بما في ذلك غزوات بدو الصحراء من جهة ثانية، فقد سارع الأمير شكيب إلى أم الرمّان، وأقام فيها أيّاماً حتّى أنجز المصالحة بين المتخاصمين من أهل القرية الذين أولموا ابتهاجاً بنجاح مسعاه، وقرروا على سبيل التكريم والتعظيم له إقامة «عرض» وسباق للفرسان في ميدان القرية الرئيسي.

وبالفعل، ومن على الرّجم الضخمة المشرفة على الميدان (الرجم كومة من الحجارة تشرف على ما حولها من أرض ) رُتّبت مقاعد حجريّة وفُرشت عليها البُسط، وجلس الأمير ووجهاء القرية والناس من حولهم يشاهدون السبق، ويروي الأحفاد عن الأجداد بأنّ الفرسان انطلقوا بأسلحتهم في باحة الميدان، وانعقد الغبار سحابة في السماء وصدحت زغاريد المبتهجين، ولعلع الرصاص في الجو.

في تلك اللحظة أخذ الأمير الحماس حتّى بدا وكأنّ طربوشه يرقص اعتزازاً فوق رأسه ورَبّت على كتف جليسه حمد الأطرش، شيخ أم الرمّان قائلاً له: « ليك إبن عمّي ليك، عز جبل لبنان معقود بحوافر خيل جبل حوران».

رسالة جبل العرب