الجمعة, آذار 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, آذار 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المسألة الدرزية في ضوء السياسات العثمانية في جــبـــل حــوران

دامَ حُكمُ العثمانيّين للعرب أربعة قرون ونَيِّف بين عامي 1516 و1918م، وعلى مدار هذه المدّة الطّويلة تغيّرت الامبراطوريّة، ومن ثم تغيّرت النّظَم. ففي أوّل قرن تلا الغزو لم تطالبهم القواعد التي وضعها العثمانيّون بالكثير، إذ لم يَكُن على العرب سوى الاعتراف بسلطة السّلطان، واحترام الشّريعة الإسلاميّة والسّلطنة، وسمح العثمانيّون للأقلِّيّات غير المُسلمة بتولّي شؤونها الخاصّة تحت إمرة قياداتها المحلِّيَّة وفقًا لقوانينها الدينيّة مقابل دفع جزية للدّولة. وبصفة عامة، بدا أنّ معظم العرب قد نظروا بعين الرّضى لوضعهم في ظل الامبراطوريّة العالميّة التي سادت في ذلك العصر على اعتبار أنّهم مسلمون في إمبراطوريّة إسلاميّة عُظمى. بيد أنّ تلك القواعد شهدت تَغَيُّراً جذريّاً في القرن الثّامنَ عشَر، بعد أن كانت الامبراطوريّة العثمانيّة قد وصلت إلى أوج عَظَمتها في القرن السابعَ عشَر. ففي عام 1699، فقدت لأوّل مرّة أرضاً تابعة لها في – كرواتيا والمجر وأوكرانيا – لصالح منافسيها الأوروبيين، ومن ثمّ بدأت تبيع بالمزاد المناصب الحكوميّة والأراضي الزراعيّة في الولايات التابعة لها كمزارعَ خاضعة للضّرائب حتى تولِّد الدَّخل. إذ كانت تعاني ضائقة مالية، وهذا مكّن ذوي النّفوذ في الولايات البعيدة من جمع الأراضي الشاسعة، مِمّا فتح لهم باب جمع ما يكفي من الثَّروة والسّلطة لتحدّي سلطة الحكومة العثمانيّة. حدث هذا في دول البلقان وشرق الأناضول، وفي أنحاء الولايات العربيّة وفي النّصف الثاني من القرن الثامنَ عشَر، مثّلت مجموعة من هؤلاء القادة المحلّيين تحدِّياً خطيراً للحكم العثماني في مصر وفلسطين ولبنان ودمشق والعراق وشبه الجزيرة العربية.

وبحلول القرن التّاسعَ عشَر بدأ العثمانيون عصر إصلاحات شاملة، بهدف القضاء على التحدّيات التي ظهرت داخل الامبراطوريّة وصدّ تهديدات جيرانهم الأوروبيين. أدّى هذا إلى ظهور مجموعة جديدة من القواعد، عكست أفكاراً جديدة بشأن مفهوم المواطنة، استعارتها من أوروبا. حاولت الإصلاحات العثمانيّة أن تضمن لجميع الرَّعايا العثمانيين – أتراكاً وعرباً على حدٍّ سواء – المساواة في الحقوق والواجبات على مستوى الإدارة والخدمة العسكريّة ودفع الضّرائب، وروّجت لهُوِّيّةٍ جديدة، تسعى إلى السّمو فوق الاختلافات العرقيّة والانقسامات الدينيّة في المجتمع العُثماني وتقوم على الولاء للدولة العثمانيّة، لكنّ تلك الإصلاحات فشلت في حماية العثمانيين من التدخّل الأوروبي، غير أنّها مكّنت الامبراطورية من إحكام قبضتها على الولايات العربيّة(1).
وزادت أهميّة هذا التّغيير، مع تسبّب النّزعة القوميّة في إضعاف وضع العثمانيين في البلقان. غير أنّ الأفكار التي ألهمت الإصلاحات العثمانيّة هي نفسها التي أدّت إلى ظهور أفكار جديدة عن القوميّة والمجتمع جعلت بعض أفراد العالم العربي غير راضين عن وضعهم في الامبراطوريّة العثمانيّة، فأخذوا يواجهون القواعد العثمانية، ويحمّلونها أكثر فأكثر مسؤوليّة التخلّف النّسبيّ؛ الذي بدأت إرهاصاته تظهر وتزداد مع ارتفاع وتيرة التّغلغل الاقتصادي الأوروبي في الأسواق المحليّة، وتحديده أسعار السّلع، لاسيّما الحبوب عالية الجَوْدَة المُنتَجة داخل الامبراطوريّة. وقارن الكثير من العرب عَظَمَة ماضيهم بما يعانونه من خضوع في ظلّ الامبراطوريّة العثمانيّة التي أخذت تتراجع أمام جيرانها الأوروبييِّن الأكثر قوّة، فأخذوا يطالبون بإصلاح مُجتمعاتهم، وطَمحوا إلى نَيْل الاستقلال عن السّلطنة العثمانيّة(2).
لقد حدثت عدّة محاولات لتقسيم لواء حوران إلى عدّة أقضية في عهد الإصلاحات، حيث جرت العادة على إلحاق أقضية جبل الدّروز بمراكز إداريّة تقع خارجه لإضعاف مقاومة الدّروز لهيمنة السّلطة. ولم يبدأ دور وتأثير الدّولة العثمانيّة يظهر في جبل حوران، إلّا بعد صدور التّنظيمات والإصلاحات في منتصف القرن التاسع عشر. وفي إثرها قُسِّم الجبل عام 1864 إلى ثلاثة أقضية تابعة لمُتصرِّفيَّة حوران، حيث كانت خلفيّة كلّ تلك التّقسيمات تنطوي على مُواجهة الاضطرابات والثّورة المستمرّة في الجبل. فاختيرت في أوّل الأمر بلدة المزيريب مركزاً لِلِّواء، ثم نُقِل المركز بعدها إلى بلدة (الشّيخ سعد) نظراً لوجود سكّة حديد فيها، ولسهولة سَوْق العسكر منها لقمع الاضطرابات شبه الدائمة في الجبل، وبالتالي لم تكن الغاية من التّقسيم الإداري الإصلاح كما يتبادر إلى الذّهن لأوّل وهلة. وبذلك التقسيم الجديد، باتت المنطقة خاضعة لولاية سورية. وكان أوّل نظام إداري حكومي دخل الجبل في سنة 1878(3).

بحيرة مزيريب
بحيرة مزيريب

ولكن برغم ذلك بقي النّفوذ العثمانيّ ضعيفاً في الجبل بسبب وعورته وبُعْدِه عن طرق المواصلات الرئيسيّة، ورغبة سكانه في الاستقلال والعيش على نمط اتّسم بالمزج بين اقتصاد الرّعي والزراعة المُعتمدة على زراعة الحبوب. وهذه كانت حال معظم مناطق الأرياف وبخاصة المناطق المجاورة للبادية والواقعة على الحدّ الفاصل بين المعمورة والصّحراء.
وقد أصبح جبل الدّروز بفضل موقعة المُتَميّز وعصبيّة سكانه، وأخلاقهم، مأوى لكل هارب من ظلم السّلطات العثمانيّة(4) ومركزاً حصيناً لمقاومة بطش الجيش العثماني، الذي سِيق في أواخر القرن التاسع عشر ومستهلّ القرن العشرين عبر سلسلة من الحملات لإخضاع الجبل، وسوق شبابه إلى الجندية، وتحصيل الضرائب، وفرض الإتاوات والغرامات المتنوّعة.
وتقبّل حكام الجبل من مشايخ آل الحَمدان السّياسات الإصلاحيّة الجديدة للسّلطنة العثمانيّة في القرنين الثامنَ والتاسعَ عشَر بمرونة عالية مكَّنتهم من إجراء الموازنة بين ضغوطها ومصالح سكّان الجبل الرّاغبين في التحرّر من دفع أيّة ضريبة أو تنزيل عبئها للحدود الدّنيا. وقد نجحوا في ذلك المسعى خلال قرن من الزّمن. الأمر الذي ساعدهم على مدِّ رقعة نفوذهم لتشمل السّهل والجبل معاً وتلبية طموحهم في تحصيل أكبر كمِّيَّة مُمكنة من الضّرائب والإتاوات من الفلّاحين .

وقد حافظ آل الحمدان على حكمهم للجبل حتى عام 1869، حيث خَلَفهم في المشيخة الأولى آل الأطرش، مُستغلِّين الأخطاء التي ارتكبها الشّيخ واكد الحمدان خلال سِنِيِّ حُكْمه(5)
وبالمُقارنة التاريخيّة نَجِد أنّ نظام المَشيخة في جبل الدّروز لا يشبه النّظام الإقطاعيّ الذي كان سائداً في جبل لبنان، حيث الإقطاعيّ هو مُجرّد أداةٍ تنفيذيّة أو شبه موظَّف، وغالباً ما يَسْتخدم العنف لينجو بنفسه من عقاب الوالي(6) أمّا الشيخ في الجبل فكثيراً ما تحالف مع الفلّاحين رافضاً دفع الضّرائب، كما أنّ نظام المشيخة في الجبل لا يشبه النّظام الإقطاعيّ المملوكيّ أو العثمانيّ في عهوده الأولى حيث كانت وظيفة صاحب الإقطاع تقتصر على حقّ جباية الضّرائب أمّا الشّيخ في الجبل فلم تكن جباية الضّرائب إلّا واحدة من صلاحيّاته وحقوقه المُتَعدّدة، فهو مالك ربع القرية ومتصرّفٌ بتوزيع الأرض على الفلّاحين، وهو فوق ذلك القائد الحربيُّ للقرية و يدافع عنها عند الخطر. وكثيراً ما لعب الشّيخ في جبل الدروز دور المُدافع الذي يجمع الفلّاحين وراءه من أجل الوقوف في وجه السّلطة العثمانية الغاشمة دفاعاً عن الأرض والعرض(7).

قوات عثمانية في سوريا
قوات عثمانية في سوريا

الانتفاضات الفلّاحية في جبل حوران
وكثيراً ما كان الشّيخ في جبل حورن يقف على رأس الانتفاضات الفلّاحيّة التي اندلعت في الجبل خلال القرن التاسعَ عشَرَ ومطلع القرن العشرين، ضدّ الاستغلال الإقطاعيّ العثمانيّ الذي كان يسعى جاهداً لفرض الضّرائب الباهظة وما يرافقها من غرامات وإتاوات مُتَخلّياً بالمقابل عن التزامه بحماية الإنتاج الزّراعي لفلّاحيّ الجبل بتسهيل أمور تسويق ونقل الحبوب المُنْتَجة داخل اللِّواء في السّوق العالميّة بسعرٍ مُجْزٍ. وكان ذلك الأمر غير مُتاحٍ بسبب ارتفاع أجور النّقل التقليديّة والتي لا يحلُّها عمليّاً سوى ربط المِنطَقة بأقرب منفذٍ بحريٍّ للتّصدير بواسطة سكّة القطار الحديديّة، وهذا هو جوهر المقاومة الفلّاحيّة في الجبل للّدولة العثمانية والتي تعود بالإضافة لِظُلمها وفسادها إلى كونها سلطنة مُتخلّفة وبطيئة الإصلاحات. أمّا الخلاف على حيازة الأرض ومُلْكيتها بين أهالي سهل حوران وجبله، وهو الخلاف الذي اتّخذته الدولة العثمانية ذريعة لتأديب العُصاة وجباية الضّرائب التي كانت تُنْفق على دوائر السّلطنة العثمانيّة فهو خلاف بين مِنطقتين مُتجاورتين نجد له شبيهاً في سائر مناطق بلاد الشام .
إنّ الانتفاضات الفلّاحيّة (1887 – 1890) التي حدثت في الجبل بعد تطبيق السّلطنة العثمانيّة سياساتها الإصلاحيّة تميّزت بوضوح الصّراع الطّبقي في حركتها حيث هناك طبقة فلّاحيّة تثور ضد سلطة طبقة المشايخ، أمّا الانتفاضات الفلّاحيّة قبل تلك الفترة وما بعدها والتي سنُعَدّد بعضها الآن، فقد اتّسمت بنضال الفلّاحين فقيرهم وميسورهم بمن فيهم المشايخ، ضدّ طبقة إقطاعيّة مُمَثّلة في أجهزة الدّولة العثمانيّة.

1- انتفاضة عام 1852
في ذلك العام سَيَّر والي دمشق حملة عسكريّة ضدّ الجبل (جبل الدروز) عُرِفت بحملة (صاري عسكر) في محاولة من جانب الدّولة لتجنيد شبّان الجبل ولجباية الخراج منهم بالقوة؛ فكان ردّ الفلّاحين عليها برفض دفع الضّريبة والذّهاب إلى الجنديّة أو الاشتراك في معارك لا تخدم إلّا الدّولة العثمانيّة وطبقتها الإقطاعيّة.وبالمحصّلة فشلت تلك الحملة في إجبار الثّائرين على الخضوع، وذلك بعد أن تمكّن الثائرون من دحرها وإبادتها في قرية إزرع الواقعة على هامش المشارف الشماليّة الغربيّة من الجبل وغنيمة كميَّة كبيرة من الأسلحة والذّخائر، مِمّا أجبر السّلطة العثمانيّة على التّراجع والقبول بالمفاوضة مع الثّائرين وبالتالي القبول بشروطهم(8).

مدينة شهبا في جبل العرب
مدينة شهبا في جبل العرب

الرُّؤية العُثمانيّة لإصلاح لواء حوران
قبل مجيء عهد الإصلاحات كانت الرّؤية العثمانيّة تنظر إلى الانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل على أنَّها عصيان أقلِّيّات مُتَمرّدة على سلطة الدَّولة تسعى لتوسيع مُلْكيّتها للأرض عن طريق الاستيلاء على أرض الدّولة الأميريّة. وبحلول العِقْد السّادس من القرن التّاسعَ عَشَر؛ أدركت السّلطنة عُقْمَ إخضاع التّمرّدات الفلّاحيّة في لواء حوران عن طريق تسيير الحملات العسكريّة ذات الطابع التّأديبي وبدأت تُقِرُّ بمُلكيّة العائلات الدُّرزيّة للأرض وتفرض عليها مقابل ذلك الضّريبة الأميريّة وقرّرت اتّباع سياسة جديدة أكثر موضوعيّة وحِكمة من السّابق تقوم على رؤية إصلاحيّة مُتكاملة حيث أدركت أنَّ السّبب العميق لتلك التّمرّدات الدّرزيّة هو الصّراع بين مجتمعٍ زراعيّ يحاول أن يطوّر أساليب حياته بحماية استقراره من تهديدات قبائل البدو القادمة من صحارى نجد والحجاز أي من جهات جنوب الجبل وقد حدّد الكتاب الهمايوني المُوَجَّه إلى ولاية سورية بتاريخ 18 آب لعام 1880 طبيعة هذه السّياسات الجديدة، وقد ظهر فيه لأوّل مرّة اعتراف رسميّ بتسمية جبل حوران بـ (جبل الدّروز) وكان هذا الاعتراف في الحقيقة ناتجاً عن التّغيير الدِّيموغرافي العميق في بنية الجبل السُّكّانيّة بسبب قيام الدّروز بنقل مساكنهم الموجودة في جبل لبنان ومن قراهم في جبل الشّيخ وأقاموا في جبل حوران حيث بقي مُصِرّاً على وصف ذلك التَّغيير بالاستيلاء. وهو التَّغيير الذي سعت السّلطنة لمنعه بالقوّة إمّا عن طريق الضّغط على رجال الإقطاع في لبنان لمنعه أو عن طريق تسيير قوّات تقطع طرق التّواصل بين تلك المناطق، ولكنها فشلت في كلّ التدابير المُتَّخذة من قِبَلها لوقفه .
وقد اعترفت السّلطنة أنه بسبب ذلك الانتقال ظهرت هناك مشكلة بدأت تواجه الدَّولة وسُكّان الجبل كمُجتمعٍ فلّاحيٍّ ناشئٍ يميل للتّحضُّر والتّمدُّن فتمنعهما معاً من استثمار أراضٍ شاسعة خِصبة لم يتمّ الاستفادة منها الاستفادة المطلوبة. والسبب في ذلك هو أنّ قبائل البادية الذين كانوا آنذاك يترحّلون في صحارى الحجاز ونجد يدخلون إلى المناطق المعمورة في بلاد الشام في موسم أواخر الرّبيع وأوان الصّيف وأنَّ الصِّراع كان ينشب بين الطّرفين عند مُحاولة الفلّاحين منع البدو من الدّخول بهدف حماية مزروعاتهم وليس لأيِّة أسباب أخرى، وقد وجدت السّلطنة الحلَّ باشتراط منع دخول هذه المناطق سوى بأذونات، وأن تقوم الدَّولة بواجبها في حماية الفلّاحين وبإجراءات رادعة ضد أولئك البدو.(9)
ولكن تلك الرّؤية بقيت قاصرةً عن معالجة جوهر المشكلة المتعلّق باستبداد وفساد جهازها الإداري واستغلاله المُفرط للفلّاحين ومحاولة الدّولة تحميل وِزْر الضغوطات الخارجية وتراجعها وهزائمها العسكريّة التي تتعرّض لها أمام تقدّم زحف القوى الأوروبيّة الطّامعة بالامبراطوريّة إلى السّكان المحلِّييّن سواءً عن طريق فرض المزيد من الضّرائب عليهم أو بِسَوق أبنائهم إلى الجنديّة وفرضها عليهم خوض حروب كانوا يرون أنّه لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
و منذ ذلك التاريخ؛ بات يُطرَح في الوثائق العُثمانيّة ما يُعَدُّ مُشكلة مُستعصية على الحلّ حملت اسم: (المسألة الدّرزيّة). ولكنّ تواصل الثّورات والانتفاضات الفلّاحيّة في الجبل أوصل الدّولة العثمانيّة في عهديّ السّلطان عبد الحميد والاتِّحادييِّن إلى القناعة بفشل سياسات احتوائها عن طريق تجذير الإقطاع الشّرقي العثماني وإيقاع الفتنة بين الفلّاحين والمشايخ، فبدأت تتحيّن بهم الفُرص وتستعدُّ بالتوجّه مُجدّداً نحو حسم الخلاف مع فلّاحيّ الجبل ومشايخهم بتسيير الحملات العسكريّة ضدّهم.

المقاتلون الدروز في الثورات السورية
المقاتلون الدروز في الثورات السورية

ب- انتفاضة 1895
في هذا العام بدأت تصل إلى الباب العالي تقارير عدّة عن حدوث تعدّيات من قِبَل أهالي الجبل على العساكر السّلطانيّة المُرابطين في ثُكنة السّويداء على أثر قيام أحد خيول جنودهم بدهس طفل بتاريخ 29 تموز من عام 1895 فحدث بسبب ذلك نزاع وضرب بين الطّرفين، كما تحدّثت عن مُهاجمة خمسين مُسَلّحاً من الدّروز بَغته على العساكر السّلطانيّة والتي أُرسلت بتاريخ 26 آب للمحافظة على قرية براق، وبرقية ثالثة في 1 تشرين أول من العام نفسه تطالب قيادة الجيش بسحب طابور العسكر من ثُكنة السّويداء نحو بصرى الحرير أو الشّيخ مسكين أو تعزيز الثّكنة بطوابير جديدة خوفاً من حصار (عُصاة) الدّروز له واستغلال انشغال الدّروز بخلافهم مع الحوارنة.
وقد استغلّت السّلطات العثمانيّة فِعلاً النّزاع العشائري بين فلّاحي الجبل وجيرانهم من فلّاحي السّهل في مُحاولة مُتَعمَّدة من جانبها لإثارة فتنة طائفيّة بين الجانبين، حيث تمّ على أثرها تجهيز حملة عسكريّة عام 1895 بقيادة أدهم باشا لتأديب فلّاحي الجبل، ونزع سلاحهم وسوقهم إلى الجندية (10)، فاحتلّت الحملة السّويداء بعد معارك عدّة في قرّاصة ونجران والسّجن وأمّ العلق، ثمّ قامت السّلطات العثمانية بتثبيت أقدامها عن طريق تعداد الغَنم والبدء بتطويب الأرض لأخذ الضّرائب وشرعت بتجنيد الشّباب ولكنّها لم تتمكّن من سحق المقاومة الفلّاحيّة بالكامل، حيث قام العثمانيون بنفي عدد كبير من الزّعماء بينهم شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز.

ج- انتفاضة عُرْمان 1896
سَيَّرت الدّولة في هذا العام حملتين على الجبل: الأُولى بقيادة أدهم باشا، والثانية بقيادة ممدوح باشا من أجل إخضاع الجبل بالقوّة لِسُلطة الوالي العثماني، وكان ذلك تحوُّلاً واضحاً وخطيراً في السِّياسات الإصلاحيّة العثمانيّة بالإقلاع عن التوجُّهات السَّلميّة المُهادنة لسلطة الأمر الواقع في الجبل القابلة باستقلاله النِّسبي عن سُلطة والي دمشق، خصوصاً بعد وصول معلومات لقائد الحملة ممدوح باشا عن وجود مباحثات سِرِّيَّة في الجبل واجتماعات تُعْقد في عُرمان في منزل (محمود أبو خير) تناقش فكرة الثّورة للتخلُّص من إرهاب ممدوح باشا، فبادر الأخير بإرسال مَفْرَزة مُكوّنة من ثلاثين جنديّاً يرأسها ضابط لاعتقاله، وعلى أثرها تمّ قتل محمود أبو خير من قِبَل جنود المَفرزة، فكان مقتله سبباً مباشراً في انطلاق شرارة الثّورة في الجبل ضدّ السّلطة العثمانيّة حيث جاء ردُّ الدّروز على الجريمة بقتل كامل جنود المفرزة بمن فيهم الضابط الكبير الذي يقودهم. وردّاً على انتفاضة عرمان أرسل القائد العثماني ممدوح باشا من جديد في أيار 1896 حملة من الجُنْد المرابطين في السّويداء للقضاء على انتفاضة عرمان، فأبادها الثّائرون في معركة خراب عُرمان، ثم زحفوا باتّجاه السّويداء، وحاصروا قَلعتها مدّة 28 يوماً. (11)
بعدها حَشدت السّلطات العُثمانية في عام 1897 حملة كبيرة تقدمت باتّجاه السّويداء تمكنت بداية من الانتصار على الثّائرين في معركة تلّ الحديد. وظنَّ قائد الحملة طاهر باشا أنّه حقّق الانتصار الحاسم على الثائرين، فدخل السّويداء، وشرع بالتّقدُّم باتّجاه بلدة قنوات، وهناك باغته الثُّوّار فأبادوا مُعظمَ جنوده، وخوفاً من الانتقام العثماني انسحبوا إلى اللَّجاة ومنها عملوا مناوشات مع العُثمانييِّن في شهبا، وكان من رجالهم أبو طلال وهبة عامر وسعيد نصر، وهما من المشايخ الذين دعموا العامِّيَّة.(12)
وفي عام 1898 تمكّن عدد من زعماء الجبل المنفييِّن في الأناضول من الهرب والعودة إلى الجبل، وسرعان ما نظَّموا المقاومة بقيادة وهبة عامر، وقد تحالف ثوّار الجبل مع البدو وفلّاحي حوران بعد اجتماع كبير مُشْتَرك في اللَّجاة سنة 1900، طالبوا فيه بإطلاق سراح المنفيين ورفع التَّجنيد الإجباري، وعدم الاستمرار في بناء القلاع والاعتراف بالقانون العشائري في الجبل.
فما كان من السّلطان عبد الحميد الذي كان يشعر بوطأة المُعارضة السرِّية لحكمه سوى قبول الوساطات بإطلاق سراح المَنفيين، وسمح لِشبلي الأطرش وعدد من المَنفيين بالعودة للجبل.
– وعلق محمّد كُرْد علي صاحب كتاب خطط الشّام وهو الذي كان يمالىء العثمانيين حينها؛ على ذلك الحدث بالقول: (لقد نَفَتهم من الشام ثم أرجعتهم مُكَرّمين من الآستانة. فابتاعوا بالدّراهم التي نالوها من إحسان الدّولة سلاحاً في طريقهم ليقاتلوا عُمَّالها(13)

السلطان عبد الحميد الثاني
السلطان عبد الحميد الثاني

ثَّورة الجبل عام 1910
– جاءت الأحداث المُمَهِّدة للثّورة على خلفيّة الخلاف الذي نشب في عام 1910 بين أهالي قرية ( بَكّا) وأهالي بُصرى المُجاورة لها وأدّى ذلك إلى قتل بعض الأفراد من الجانبين، ثم تبعها قتل أهل بصرى ثلاثة أشخاص من أهالي قرية الثَّعلة أثناء مرورهم فيها. هاجم الدّروز قرية بُصرى على أثرها ودخلوها بعد معركة عنيفة مع سكانها(14) وهذا الأمر يحدث عادة في أي مكان، ولكنّ الدّولة العثمانيّة اتَّخذت من هذا النّزاع وغيره ذريعة لإخضاع الجبل وجمع سلاحه. في تلك الأثناء كان حزب جمعيّة الاتَّحاد والتّرقَّي المُتَعصِّب للقوميّة الطورانيّة (التّركية) والمنتصر حديثاً على السّلطان عبد الحميد في ثورته سنة 1908 مايزال يحوز على ثقة معظم الأهالي الرّاغبين بالحُرّيَّة والتّقدم وبدعم الحركة القوميّة العربيّة النّاشئة التي خُدعت بتوجّهاته الإصلاحيّة من حيث ظاهر الأمر. لهذا لَقيت الحملة العثمانيَّة لإخضاع الجبل التَّرحيب من جانب مُختلف القوى السُّوريّة. ومعنى هذا أن ثوّار الجبل دخلوا معركة 1910 دون دعم أو مُسانده من محيطهم الاجتماعي العربي. وقد لاقى تجهيز الحملة تأييداً واسعاً في مُختلف المناطق، فعلى سبيل المثال: جريدة المُقْتَبَس الدِّمَشقية لصاحبها محمّد كُرْد علي؛ كتبت مقالاً ضد ثائري الجبل جاء فيه: “إنَّ هدفهم إيذاء من يخالفهم … اعتداؤهم على أبناء السبيل … يتعبّدون بإهلاك العباد والعبث بالفساد في البلاد”.(15)
ونتيجة هزيمة الثّورة في الجبل سنة 1910 تمّ شنق عدد من زعماء الدّروز وسوق الرّجال إلى التّجنيد، وكذلك تمّ إخضاع الدّروز للسّياسات المركزيّة التي سعى العثمانيُّون إلى تطبيقها على الجبل منذ منتصف القرن التّاسعَ عشَرَ وكانوا قبلها قد فشلوا في محاولاتهم المُتَكرِّرة تلك …
لقد كانت الحرب العالميّة الأولى بمثابة اختبار لنوايا الدّولة العثمانيّة ولِجبل حوران إذ إنّ المجاعة ومُتَطلّبات الحرب التّموينيّة جعلت لِقمح المنطقة قيمة عالية؛ توقّف العثمانيّون خلالها عن جمع الضّرائب، وتَخَلَّوْا عن التَّجنيد الإلزاميِّ في مِنطقة جبل حوران من أجل ضمان تعاون الدّروز، الأمر الذي شَكّل حافزاً إضافيّاً لأولئك الذين يعيشون في المناطق المجاورة للانتقال إلى المنطقة بحثاً عن الحماية من بطش الدّولة، وقد لفت وضع الجبل هذا اهتمام القوى الوطنيّة الشابّة في مدينة دمشق والمُتَطلِّعة إلى التّحرُّر من النَّيْر العثماني، والباحثة عن حلفاء لها في الرِّيف. لذلك كان من الطّبيعيّ قيام قيادة الثَّورة العربيَّة مُمَثَّلة بالأمير فيصل بن الحسين بالاتّصال بسلطان باشا الأطرش عن طريق الزّعيم الدِّمشقي نسيب البكري، حيث تمّ الاتِّفاق معه على إعلان الثِّورة في الجبل والمُشاركة في القوّة العربيّة التي حرَّرت دمشق من الحكم العثماني في خريف 1918.

سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد
سلطان باشا الأطرش أيام المنفى في وادي القرى /صحراء نجد

المجاهد عقلة القطامي

سِيرَةُ قائدٍ مَسيحيٍّ في الثّوْرةِ السُّوريّة الكبرى

عُقلة القِطاميّ

(1889ــ 1956)

رفيق سلطان في الجهاد والمنفى

حَقدَ الفرنسيّون عليه كثائر مسيحي فأحرقوا منزله
ومنحه بابا روما عام 1947 الوسام البابويّ تقديراً لجهاده

شارك عام 1918 في رفع العلم العربي
ورافق سلطان لِلّقاء بالملك فيصل الأوّل

قاتل الفرنسيين تحت بَيْرَق قريته «خَرَبا»
وكان بَيرقاً مُميّزاً يحمل في وسطه شَارة الصّليب

يحتلّ اسم المجاهد في الثورة السورية الكبرى، عُقلة القِطاميّ، مكانا بارزا في تاريخ تلك الثورة المجيدة، ليس فقط بسبب الدور المِحوري الذي لعبَه في أحداثها ومعاركها ومراحلها، بل لكونه كان أبرز شخصية مسيحية تتبوّأ موقعا قياديا فيها؛ وقد كان أحد المقربين من قائد الثورة سلطان باشا الأطرش ورفيق جهاد لم يترك قائده في أي لحظة ولم يساوم أو يهادن رغم الأضرار التي لحقت به من انتقام الفرنسيين؛ وقد حقد هؤلاء عليه أكثر من غيره لأن وجوده -مع مسيحيين آخرين- في صفوف المجاهدين عزز الطابع الوطني للانتفاضة على الاحتلال وأحبط خطة فرنسا لإظهار الثورة بمظهر “إسلامي” مناهض لمصالح المسيحيين التي كانت تدعي أنها “حامية” لهم؛ وقد كان هدفها بثّ الفرقة بين أبناء الوطن تسهيلا للسيطرة على البلاد وإلحاق الهزيمة بالثورة.
فمن هو هذا المناضل الشجاع؟ وما هو الدور الذي لعبه في الثورة وفي النضال الوطني السوري عموما؟

عُقلة القِطاميّ هو أحد وجهاء عائلة عربيّة عريقة من مسيحيّي سهل حوران، أولئك القوم من قبائل العرب الذين استوطنوا أواسط وجنوب بلاد الشّام قبل الفتح العربيّ الإسلاميّ بقرون.
كان ميلاده في قرية “خَرَبا” التي تقع إلى الغرب من بلدة “عِرى” في الجبل، وعلى مسافة نحو عشرين كيلو متراً من مدينة السّويداء. وقد أشار إلى تلك العائلة وأصولها الباحث يحيى عمّار في كتابه “الأصول والأنساب” الجزء الأوّل، ص 156، يقول: “آل القِطاميّ عائلة عربيّة عريقة” ويقول ابن حزم في “الجمهرة” أنّ جدّهم الأوّل هو عمرو بن شُيَيْم بن عمرو بن عبّاد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن جشم. من بني عمرو، ومن هؤلاء الشّاعر المعروف بالأخطل، وعمرو بن شُييم كان شاعراً أيضاً، والقِطاميّ لقبُه”.
ويذكر الدّكتور خليل المقداد في كتابه “حَوْران عبر التاريخ” في معرض حديثه على حوران في العصر المملوكي أنّ المجتمع الحورانيّ، المؤلّف من مسلمين ومسيحيين، “كان مجتمعاً بسيطاً ومركّباً، فسكّان القرية ينتمون لقبيلة واحدة وأحياناً لأكثر من ذلك، وعاش المسلمون متعاونين مع النّصارى على السرّاء والضرّاء أكثر، وكانت نسبة المسلمين في حوران تصل إلى مابين 70ــ80%”.
ويشير الباحث يحيى عمّار إلى أنّ آل القِطاميّ هم “عائلة أرثوذكسيّة المذهب حورانيّة المقام (..) وللعائلة فرع في لبنان هم آل مسلِّم منهم في زحلة ورشعين وزغرتا (في لبنان) وأم الفحم ( في فلسطين) قرب نابلس وفي الناصرة”.

عُقلة المجاهد العربيّ
لم يكن عُقلة القِطاميّ، ومنذ شبابه الباكر شخصاً منعزلاً عن هموم الناس ومعاناتهم في تلك الفترة من الحكم العثماني في بلاد الشّام، ولم يُغِرِهِ مَنْحُه وسام النّيشان العثماني الرابع والثالث والثاني مع ميدالية عثمانيّة وأخرى ألمانية ليسكتَ عن مظالم العثمانيّين، وعلى هذه الحقيقة يستند الباحث محمّد جابر في كتابه “أركان الثّورة السّوريّة الكبرى” فيذكر أنّ القِطاميّ “ اشترك في الثورة العربيّة ضدّ العثمانيّين، وكان أحد فرسان الجبل الذين دخلوا دمشق في 30 أيلول عام 1918، ورفعوا العلم العربيّ فوق دار الحكومة. و”كان بين من اجتمعوا من ثوّار الجبل برفقة سلطان باشا بالأمير فيصل بن الحسين بعد خروج العثمانيّين من دمشق في أوائل تشرين الأوّل في منزله بحيِّ المهاجرين”.

عقلة القطامي (إليى اليسار) مع سلطان باشا الأطرش في منفاهما في وادي السرحان في المملكة السعودية
عقلة القطامي (إليى اليسار) مع سلطان باشا الأطرش في منفاهما في وادي السرحان في المملكة السعودية

مهمة سِرّيَّة مع زعماء حوران
كان عُقلة القِطاميّ وَجيها مرموقاً في قومه ويتمتع بعلاقات طيّبة مع زعماء الثّورة في الجبل بصفته واحداً منهم، وكان له في الوقت نفسه علاقات طيّبة مماثلة مع زعماء سهل حوران بحكم مكانته الاجتماعيّة في قريته خَرَبا، وفي الوَسَط المسيحيّ في جنوب الشام بشكل عام بحكم مسيحيّته العربيّة الغسّانية الجذور، وموقع قريته الذي يشكل صلة وصل بين جبل حوران الذي كان مُنْطلَق الثورة السوريّة الكبرى وقاعدتها الرّئيسة، لذلك تمكّن عُقلة وبتوجيه من القائد العام للثّورة سلطان باشا الأطرش، في أيار 1926، من إقناع بعض المشايخ الحوارنة بشنّ هجوم على خطّ سِكّة الحديد بين إزرع وخربة غزالة، وقد تمّ هذا العمل الجريء ضدّ الفرنسيين وفرّ الثوّار المنفّذون إلى إمارة شرق الأردن. وكان على رأس هؤلاء المجاهدين كبيرهم الشيخ اسماعيل الحريريّ الذي سبَق أن سجنته السّلطة الفرنسيّة، لأنّه رفض استعمال السّلاح الفرنسيّ المُقدّم للحوارنة ضدّ ثوّار الجبل. يذكر المؤرّخ البعينيّ أنّ جُمْلةً من المجاهدين الّلاجئين إلى شرق الأردن، وفيهم من شيوخ حوران اسماعيل الحريريّ ومصطفى الخليليّ دمّرت جسر عَرار، وأحرقت مركزاً للدّرك، وأسرت جنوده، ودمّرت جزءاً من الخط الحديدي في أوائل تشرين الأوّل 1926. ثمّ وبعد أيّام من العمليّة الأولى، وفي 10 تشرين الأوّل، خاضَ خلف المُقْبِل وبعض مجاهدي آل الحريري وآل الزعبي موقعة مع الفرنسيّين بالقرب من نبع الدّلي”. ، وبالاستناد إلى أوراق المجاهد عُقلة القِطاميّ، وما أكّده ولده سليم فإنّ سلطان بعث بتاريخ 18 تشرين الأول 1926 رسالة إلى مشايخ وأعيان ووجوه حوران “يشكرهم على ما أظهروا من الغَيْرَة الوطنيّة والشّهامة العربيّة والهمّة العليّة”.

القِطاميّ في مؤتمر ريمة الفخور
كان دور عُقلة القِطاميّ بارزاً كواحدٍ أركان الثّورة في ذلك المؤتمر، وقد أكّد على هذا الدّوْر ما سجّله سلطان باشا في كتاب “أحداث الثّورة السورية الكبرى” حيث تمّ بحث مسألة التنظيم العسكريّ للثّورة، وقد ضمّ المؤتمر في حِينهِ ممثّلين من الحركة الوطنية بدمشق وَ “مَن كان يصحبهم من المجاهدين الذين انضمّوا إلى الثّورة، بالإضافة إلى عدد من أعيان الجبل وقادة الرأي فيه” وبنتيجة ذلك المؤتمر أُعلنت جملة من القرارات نصّت على: “متابعة الثّورة حتى تنالَ البلاد استقلالها التّام وتسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثّورة، وتولية الدّكتور عبد الرّحمن الشّهبندر إدارة الشّؤون السياسيّة، وتسميته ناطقاً رسميّاً لها، وتشكيل أركان قيادة الثورة من السّادة حمد عامر وفضل الله هنيدي ومحمّد عز الدين وعُقلة القِطاميّ وسليمان نصّار وحسين مرشد ويوسف العيسمي وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم، والدّعوة إلى حَمل السلاح والانضمام إلى الجيش السوري”.

الفرنسيّون ينتقمون
لقد صَدَق عُقلة القِطاميّ في جهاده ضدّ الاحتلال الفرنسيّ لسورية ولبنان، ولم تنطلِ عليه أحابيل الفرنسيّين ومحاولاتهم استمالة مسيحيّي الشام إلى جانبهم، لذلك فإنّهم حَقدوا عليه وقرّروا معاقبته، وسنحت لهم الفرصة عندما تقدّمت حملة الجنرال غاملان المُجهّزة بالدّبابات والمدفعيّة والمدعومة بسلاح الطيران بتاريخ 27 أيلول من عام 1925م باتّجاه السّويداء، مرّت الحملة في طريق تَقدُّمها على قرية “خَرَبا” مسقط رأس عُقلة القِطاميّ وأحرقت داره. غير أنّ الفرنسيّين لم يوفّقوا بعدها، ذلك أنّ الثوّار هزموا القوّات الفرنسيّة في سلسلة من المعارك العنيفة غربيّ قرية المجيمر، وفي قرية رساس التي تبعد عن السّويداء مسافة بضعة كيلومترات، وكان المجاهد عُقلة القِطاميّ مقاتلاً في تلك المعارك.
يذكر سلطان باشا أنّه دارت هناك “المعركة الرّهيبة المشهورة بتاريخ الثّورة باسم هذه القرية (رساس)، والتي دامت ثلاثة أيام متتالية، لم يَذُق الفرنسيون خلالها طعماً للنوم أو الراحة، مما اضطرّهم إلى التّقهقر باتّجاه قرية كناكر غرباً، مُتَخلّين عن خطّتهم المرسومة بمتابعة الزّحف شمالاً نحو مدينة السّويداء ودخول قلعتها الحصينة”.

عقلة القطامي مع سلطان - صورة أخرى في وادي السرحان
عقلة القطامي مع سلطان – صورة أخرى في وادي السرحان

موضع ثقة سلطان
كانت الثّورة السوريّة الكبرى موضع آمال السّوريّين عموماً في سائر بلاد الشّام آنذاك، وكان الشّعور الوطنيّ يعمّ البلا وكان الرّأي العامّ الشّعبي في فلسطين مؤيّداً للثّورة السّوريّة الكبرى التي كانت بحاجة للدّعم المعنويّ والماديّ في مجابهة المحتلّ الفرنسي، وفي هذا السياق تألّفت “لجنة القدس” برئاسة مُفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني بهدف جمع الأموال أو تلقّيها من الدّاعمين العرب ومن ثم تقديمها مع الأدوية والملابس لمجاهدي الثّورة السّورية، كما تكوّنت في القاهرة جمعيّة إعانة المنكوبين السوريّين، وكان المجاهد عُقلة القِطاميّ أحد أعضاء لجنة مختارة من الثّوار مؤلّفة من الأمير عادل أرسلان وعبد الغفّار الأطرش وحسين الهجري والدكتور عبد الرّحمن الشّهبندر مهمّتهم تَسَلُّم الإعانات من الخارج، وشراء الأدوية والمؤن بالإضافة إلى الأسلحة والذّخائر.
وبنتيجة تحالف بريطانيا مع فرنسا ضدّ الثورة، وتقلُّص العمليّات الحربيّة للثوّار وعودة الفرنسيّين إلى السّويداء وصلخد، فقد انعقد مؤتمر “شَقّا الثاني” وجرى انتخاب عُقلة القِطاميّ عضواً في المجلس الوطني للثوّار ومن مقرّرات ذلك المؤتمر: مصادرة كلّ ما يورّده أهل القرى إلى السّويداء وصلخد كي لا يستفيد منه الجيش الفرنسيّ، ووجوب المثابرة على الجهاد، وهدر دم المتطوّعين (من أبناء الأهالي) في الكتائب التي أنشأها الفرنسيّون، وهدم دورهم، ونهب مواشيهم، ومصادرة حبوبهم ومفروشاتهم. ومن المقرّرات أيضا انتخاب عَشَرةِ زعماء لِجَمْعِ المجاهدين وتوحيد تحرّكاتهم، وتنظيم شؤونهم وإدارة حركاتهم على أن يكون لكلّ مائة مجاهد قائد، وإنشاء مجلس وطنيّ، ولَجنة إداريّة، ولَجنة ماليّة وهيئة قضائيّة للفصل في قضايا الثّورة.

حياة منفى ومعاناة
في ربيع عام 1927 اضطرّ الثوّار للّجوء إلى الأردن، وبضغط من بريطانيا التي تعاونت مع فرنسا لإخماد الثّورة، خضعت الحكومة الأردنيّة التي كانت تحت الانتداب البريطاني لطلب بريطاني بترحيل الثّوار، الذين انتقلوا إلى منطقة وادي السّرحان الصّحراويّة الواقعة في الأراضي السّعودية، وذلك بعد موافقة الملك عبد العزيز آل سعود على استضافتهم في بلاده، ولم يتخلَّ عُقلة القِطاميّ عن الجهاد ضدّ الفرنسيين ولا عن رفاقه الثوّار الذين اعتبروا صمودهم في المنفى شكلاً من أشكال الضّغط السياسي على الاحتلال الفرنسيّ لسورية ولبنان، إلى جانب معارضة الدّاخل التي كانت تعمل بأسلوب المفاوضات. وكان القِطاميّ ناشطاً في ميادين القتال، وكذلك في مجال النّشاط السّياسي والاتّصالات مع معارضة الدّاخل.
وفي عام 1927 نزح القِطاميّ برفقة سلطان باشا إلى موقع النّبك في وادي السرحان، وعانى شظف العيش في الصحراء، وممّا جاء في مذكّرات صيّاح الأطرش يوم الأربعاء أنّه “جرت مذاكرة بشأن عائلة عُقلة بك، حيث تقرّر دَرْجها في جداول التّوزيع ــ المعونات ــ لأنّها أصبحت تقطن معنا في الحَديثَة (موقع في الصحراء السّعودية) وبالمناسبة فإنّ عُقلة هو مِنّا وفينا، نحبّه ونحترمه لأنّه شهم وغيور على المصلحة الوطنيّة، وقد انصهر في بوتقة العمل الوطني وفضّل أن يعيش معنا في المهجر رغم الإغراءات المادّيّة والمعنويّة التي قدّمها الفرنسيّين له”. ويذكر حفيده سليم أنّه وُلِدَ حفيدٌ لعُقلة من ابنه موسى في وادي السرحان في المنفى فسمّاه سلطانوذلك تَيَمُّناً بصديقه القائد العام.

استثناؤه من العفو الفرنسيّ
كان الفرنسيّون يتحايلون لإنهاء الثّورة السّوريّة، فيصدرون أحكاماً تصل إلى الإعدام على قادتها، ومن ثمّ هم يوقفون العمل بها بُغيةَ دفعهم للاستسلام وإيقاف المقاومة، لكنّهم كانوا يجابَهون برفض الثّوار الخضوعَ لتلك الأساليب. وحسب الدكتور البعيني فقد آثر المجاهدون “العيش خارج البلاد في عذاب وقهر وحرمان، على العيش داخلها تحت سيطرة فرنسيّة مُسْتبدّة حاولوا إزالتها أو التّخفيف من وطأتها، والعديدون منهم لم يرضَوْا بعفو فرنسيّ مشروط أو مذلّ، وبعضهم حُكم عليه بالإعدام أكثر من مرّة ومنهم سلطان، وبعد تأليف الحكومة السوريّة برئاسة الشّيخ تاج الدّين الحَسَني، أصدر المفوّض السّامي ( هنري بونسو) في 18 شباط 1928 قراراً بالعفو استثنى منه أكثر من 70 شخصاً”. وأمّا مِمّا كان يُدعى بـ “ دولة جبل الدروز” فقد كان المستَثْنَوْن، وعُقلة القِطاميّ واحدٌ منهم، حسب تسلسل أسمائهم في قرار الاستثناء من عفو المندوب السّامي هم: سلطان الأطرش وأخواه زيد وعليّ، وصيّاح الأطرش وفضل الله النّجم الأطرش وسلامة النجم الأطرش، وعُقلة القِطاميّ وفرحان العبد الله وعلي الملحم ومحمّد عز الدين الحلبي وسعيد عز الدين الحلبي. كما اسْتُثْنِيَ من جمهورية لبنان: الأخوان شكيب وعادل أرسلان، وسعيد حيدر، وتوفيق هولو حيدر وفوزي القاوقجي وشكيب وهّاب.

ناشط في مجتمع الثوّار المنفيّين
كان عُقلة القِطاميّ واحداً من وجهاء الثّوار البارزين، يؤكّد هذا تكليفه بمهام خاصّة ذات شأن من قبل القائد العام سلطان باشا، يقول سلطان في ص333 من “أحداث الثورة:” تلقّيْنا نبأ وفاة المغفور له الملك حسين بن علي فكتبنا إلى ابنه الملك علي مُعَزّين بجلالته مُشيدين بمآثره وقيادته الحكيمة لأحرار العرب في ثورتهم الكبرى على السّلطنة العثمانية، ثمّ شكّلنا وفداً لتمثيل المجاهدين في الحفلة التّأبينيّة الكبرى التي أُقيمت في حديقة المنشيّة بعمّان، يوم الثلاثاء 14 تمّوز 1931، من السّادة عُقلة القِطاميّ وكنج شلغين وفضل الله الأطرش وصيّاح الأطرش وأخي زيد”.
كما مثّل القِطاميّ بصحبة صيّاح الأطرش وزيد الأطرش القائد العام سلطان باشا الأطرش وثوّار المنفى في وفد ذهب إلى العراق لتهنئة الملك فيصل بن الحسين ورجال حكومته وشعب بلاده بمناسبة إلغاء الانتداب (البريطاني) على العراق ودخوله عضواً في عصبة الأمم.
وعلى أثر صدور قانون العفو عن الثوّار بعد معاهدة 1936، كان عُقلة القِطاميّ في 28 نيسان عام 1937 واحداً من أعيان لجنة من المجاهدين وهم حسب ما ذكره سلطان باشا في”أحداث الثورة”، عُقلة القِطاميّ وعلي عبيد وعبد الكريم عامر وقاسم أبو خير وعلي الملحم، وسلمان طربيه وأخيه زيد، وهؤلاء استلموا أوراق المرور لتوزيعها على المجاهدين العائدين إلى الوطن من وفد سوريّ رسمي قَدِمَ من دمشق إلى عمّان، مؤلّف من السّادة: صبري العسلي وفايق المؤيّد العظم مدير الأمن في حوران والجبل لهذه المهمّة، وقد سُلّمَت الأوراق في ما بعد إلى القائد العامّ.
وفي أيّار من ذلك العام 1937، كان القِطاميّ إلى جانب محمّد عزّ الدين وعلي عبيد وحسين مرشد أعضاء في لجنة مهمّتها تنسيق عودة المجاهدين إلى سوريّة بالتّعاون مع عزّة دَرْوَزَة مدير البنك العربي في عمّان…

دار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّوندار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّون
دار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّون

عودةُ المجاهد
عاد المجاهدون إلى سورية برؤوس شامخة عام 1937، فهم الذين بجهادهم في ميادين القتال مع إخوانهم المجاهدين الّلبنانيين، وبمنفاهم في ما بعد وبتنسيقهم مع معارضة الدّاخل، شكّلوا ضغطاً على الإدارة الفرنسيّة أفضى أخيراً إلى اعتراف فرنسا باستقلال سوريّة ولبنان، لكن عُقلة القِطاميّ عاد فوجد داره خراباً على أثر انتقام فرنسا منه، فاضطُرّ إلى السّكنى في خيمة في العراء إلى أن تمكّن من بناء دار جديدة.
وفي سنة 1939 انتُخب عُقلة القِطاميّ نائباً في البرلمان السّوري عن الجبل، وفي عام 1942، وحسب مجلّة “ألف باء” خَصّص له مجلس الوزراء مُرَتّباً شهريّاً بقيمة مائة ليرة سوريّة كتقاعد مدى الحياة لتضحيته بأملاكه من أجل وطنه. كذلك فاز في انتخابات المجلس النّيابي عن الجبل في عهد الرّئيس شكري القوّتلي.

إلى جانب سلطان باشا
يذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه “سلطان باشا والثّورة السوريّة” إنّ سوريّة، وبخاصة جبل الدروز، قدّمت القمح إلى لبنان خلال ما عرف بـ “أزمة الرّغيف” نتيجة نقص كبير في كميّات القمح في مطلع الأربعينيّات نتيجة اندلاع الحرب العالميّة الثانية. وقد تمّ ترتيب المساعدة السوريّة من خلال مجلس الميرة الأعلى السّوري اللبنانيّ، وتمّ ذلك بفضل مساعي سلطان الذي انتقل في مطلع آب 1942ــ من الجبل ــ مع يوسف وصيّاح الأطرش وعُقلة القِطاميّ إلى دمشق، وقضَوْا فيها عدّة أيام مع وزير الدّفاع السّوري حسن الأطرش من أجل الإجازة بنقل كميّات من القمح من جبل الدروز إلى اللبنانيّين، مقدارها 539 طنّاً. ثمّ أُرسلت كميّات أُخرى من الجبل إلى لبنان. “وبهذا ساهم الجبل في التخفيف من حِدّة أزمة الرّغيف في الحرب العالميّة الثّانية، كما ساهم في الحرب العالميّة الأولى في التّخفيف من وطأة المجاعة التي حصلت فيه”.

عُقلة القِطاميّ في نَكْبَة دمشق
في 29 أيار من عام 1945، وعلى أثر قصف الفرنسيّين للعاصمة دمشق بالمدفعيّة، يذكر سلطان باشا في ص 364 من “أحداث الثورة”، أنّه “قَدِمَ السيّد فخري البارودي ــ من أعضاء الكتلة الوطنية البارزين ــ من دمشق وبصحبته المجاهد عُقلة القِطاميّ، ووصلا نحو السّاعة الحادية عَشْرَةَ صباحاً إلى مكتب جريدة “الجبل” المجاور لدار الحكومة بالسّويداء، حيث أعلن الأوّل ــ فخري البارودي ــ على مَسْمَعِ الأمير حسن وجمهور كبير من المواطنين “إنّ العاصمة قد احتلّها الفرنسيّون إثر ضربهم للبرلمان، وأنّ الحكومة الوطنيّة ستنتقل منها إلى السّويداء ريثما تنفرج الأزمة السياسيّة القائمة!”. في ذلك الوقت كان الجبل لم يزل معقلاً للحركة الوطنية الاستقلاليّة في سورية، وبدا يومذاك أنّ المجاهد القِطاميّ كان على استعداد مع مجاهديّ الجبل للعودة إلى السّلاح وإعلان الثّورة مُجَدّداً على الانتداب الفرنسيّ.
ويذكر سليمان علي الصبّاغ في كتابه “مذكّرات ضابط عربي في جيش الانتداب الفرنسي” أنّ الأمير حسن الأطرش محافظ السّويداء آنذاك، قرّر وبموافقة قيادة فرقة الفرسان في الجبل تشكيل كتيبة مغاوير من عناصر الفرقة لإرسالها إلى ضواحي العاصمة للقيام بحرب عصابات ضدّ القوّات الفرنسيّة حتّى دون طلب من الحكومة الوطنيّة. وبالفعل فقد فَتِحَت القيادة مكتباً لتسجيل المتطوّعين في كتيبة المغاوير وخلال أربع وعشرين ساعة تطوّع أكثر من ثمانمائة ضابط وصفّ ضابط ورتيب وجندي فتشكّلت وجُهّزَت كتيبة المغاوير، ووقفت على أُهبة الاستعداد للسّفر في أيّة لحظة يُطلَبُ منها ذلك.

مواجهة مع حكومة الاستقلال
احتفلت الحكومة السّوريّة عام 1946 في دمشق بعيد الجلاء الأوّل واستقلال سورية، لكنّها تجاهلت دعوة سلطان باشا ومجاهديّ الجبل لحضور الاحتفال، وسلطان هو القائد العام للثورة السوريّة الكبرى التي لا يمكن تجاهل دورها التّاريخيّ في تحقيق جلاء الفرنسيين، وبالتّالي استقلال سوريا ولبنان معاً. رَدّاً على ذلك التّجاهل المُجحف نظّم سلطان ورفاقه احتفالات استقلال شعبيّة كُبرى في الجبل احتَفلَ بها مع سائر المجاهدين، فأُقيمت المهرجانات في السّويداء وشهبا وصلخد، ولبّى المجاهد عُقلة القِطاميّ الدّعوة إلى اجتماع عُقد في القريّا في 13 حزيران 1946، وحضره أعيان الثورة والجبل وأبرزهم محمّد عز الدين الحلبي، وعلي عبيد وحسين مرشد ويوسف العيسمي وقاسم أبو خير وعُقلة القِطاميّ، وتمّ على أثر ذلك عقد اجتماعات استمرّت بضعة أيام، وُضِعت فيها الخطط “لمواصلة العمل في سبيل الأهداف الوطنيّة والانتصار لوحدة الوطن”. وكانت تلك النّشاطات تمثّل احتجاجاً على الإساءة لقائد الثورة ومجاهديّ الجبل، ويعلّق المؤرخ البعينيّ في كتابه “سلطان باشا والثورة السورية” على سياسة الحكومة تلك بقوله: “ما جرى أصحّ ما يقال في تفسيره والحكم عليه أنّه عمل مقصود، وإساءة لا مبرر لها وخطأ سياسي فادح من حكومة يجب أن يكون عندها سلطان من أوائل مدعوّيها إلى حضور الاحتفال” وأضاف البعيني بأنّ أركان العهد الاستقلالي الأوّل الذين حَظَوْا بشبه إجماع السوريين عليهم في انتخابات 1943، أخذوا يتعثّرون في سياستهم بسبب وقوع سوريّة ضحيّة لتجاذبات القوى الإقليميّة المحيطة بها، وبدأوا يفقدون رصيدهم، ولهذا كان سلطان من النّاقمين على مسارهم ذاك، بالإضافة إلى “إهمالهم شؤون جبل العرب ولجنوحهم إلى التسلّط والاستبداد”.

السيدة هيام القطامي حفيدة المجاهد عقلة القطامي -عن موقع السويداء
السيدة هيام القطامي حفيدة المجاهد عقلة القطامي -عن موقع السويداء

تحذير لسلطان من غدر حسني الزّعيم
نفّذ الضّابط حسني الزّعيم انقلاباً عسكريّاً في 30 آذار1949، وحلّ مجلس النّواب وتولّى السلطتين التشريعية والتّنفيذية، ونصّب نفسه رئيساً للجمهورية، ثم أجرى استفتاءً صُوَريّاً، وتسلّم بعد ذلك رئاسة الحكومة، واحتفظ لنفسه بوزارتي الدفاع والدّاخلية. ويذكر مايلز كوبلاند في كتابه” لعبة الأمم” أنّ انقلاب الزّعيم كان من صُنْع الأمريكيين الذين أوحَوْا بأنه سيكون أتاتورك سوريّة، كما يذكر سليمان علي الصباغ في كتابه “مذكّرات ضابط عربي في جيش الانتداب الفرنسي” أنّه في فترة حكم حسني الزّعيم جرى توقيع الهدنة مع إسرائيل، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية التابلاين، وبسبب تشكّكه بمن حوله فقد اختار حرسه الخاص من المسلمين اليوغوسلافيين الذين” يُقْسِمون على الولاء له فقط” وهؤلاء بالأصل جماعة من الهاربين من يوغوسلافيا على أثر سيطرة الماريشال تيتو على الحكم فيها بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن حُسْني الزعيم نوى الإيقاع بسلطان، ليتخلّص من رجل قادر على قيادة انتفاضة ضدّه فطلبَ منه زيارته في دمشق، وتلك ذريعة يريد بها من سلطان باشا أنْ يُهنّئَه بالمناصب الجمّة التي اصطنعها لنفسه، لكنّ سلطان رفض تلك الدّعوة بادئ الأمر، وكان الزّعيم قد بعث بقوّة من الجيش إلى الجبل، وعمل بعض رجال الدولة، عن طيب نيّة، ومنهم محافظ السويداء عارف النّكدي على إقناع القائد العام بقبول الدّعوة، ويذكر البعيني أنّ سلطان باشا كان مُدركاً أنّ الخطر يتهدّده سواء بقي في الجبل ورفض دعوة الزّعيم (الذي حاول اغتياله بواسطة عسكري يوغوسلافي بعث به إلى صلخد لهذا الغرض) أو لبّى الدعوة إلى دمشق.
وأخذ الباشا قراره، ونزل من الجبل إلى دمشق، وقبيل وصوله إليها، في بلدة الكسوة على مسافة 18 كيلومتراً من العاصمة قدّمت حظيرة من العسكر التّحيّة بالسلاح له، وقدّر سلطان الأمر على أنه إجراء يجمع بين التّكريم والتّلويح بالعنف.
وفي دمشق استقبل حسني الزّعيم سلطان باشا بالزّي العسكريّ، وطلب منه أن يبقى في دمشق، في البيت الذي أُهدِيَ له أيّام وزارة سعد الله الجابري، وكان الزّعيم قد سلّمه إياه، واعتبر سلطان أنَّ في ذلك الطّلب إقامة جبريّة وتهديداً ضمنيّاً، فاعتذر، ولمّا كان عُقلة القِطاميّ، صديق سلطان المقرّب على عِلم بالزّيارة، وكان لا يثق بنوايا الزّعيم تجاه سلطان، صديقه ورفيق جهاده، فقد أبلغ محمّد بن مصطفى الأطرش وهو ابن أحد أوائل الشهداء في معركة الكفر عام 1925، وابن أخي سلطان، وكان ضابطاً في الجيش المرابط في دمشق حينها، أبلغه بوجود عمّه في قصر الضّيافة عند الزّعيم، فما كان من الضّابط، محمّد، إلاّ أن سَيّر خَمْسَ مُصَفّحات وتقدّم بها باتجاه القصر وأنذر بأنّه في حال وقوع أيّ مكروه لعمّه القائد العام فإنه سيتدخل بالقوّة، وبذلك تمّ إحباط نوايا الديكتاتور الذي أدرك أنّ الغدر بسلطان باشا سيكون أمراً غير مضمون العاقبة، وهكذا انتهت الزيارة بسلام، وخرج سلطان من ضيافة الزّعيم عائداً إلى الجبل من يومه.

وسام تقدير بابوي للقطاميّ
بعد الاستقلال، في عام 1947 فاز القِطاميّ بانتخابات المجلس النّيابي السّوريّ بالأصوات، ولمْ يُسَمَّ حينها نائباَ بسبب الأحداث التي نَجمت عن الحركة الشّعبية في الجبل.
وتقديراً لحجم نشاطه الاجتماعيّ فقد مُنِح عام 1947 الوسام البابوي، من بابا روما، وقد قَبِلَهُ راضياً، في حين أنّه رفض مُغرَيات وعروض التّعاون مع الفرنسيين المحتلّين لبلاده. ولكونه يكره الاستبداد كصديقه الأثير لديه، سلطان باشا، فقد كان من المعترضين على الحكم الدكتاتوري لأديب الشيشكلي عام 1954.
في العام 1956 توفي المجاهد الكبير عُقلة بك القِطاميّ ودفن في قريته خَرَبا. وانطوت بذلك صفحة أكبر ركن مسيحي في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين وقد كان بحق ركناً وطنياً وعربياً اعتبرَ مسيحيته جزءا من انتمائه العربي السوري المشرقي، واعتبرَ أنّ مشاركته في الثورة كانت الموقف الطبيعي لأيّ سوري بِغَضّ النّظر عن عقيدته، وذلك للدفاع عن الوطن ضد محتلٍّ أجنبي، لقد كان في حماسه واندفاعه في سبيل الجهاد تعبيراً ناصعاً عن وحدة المصير بين جميع السوريّين على اختلاف انتماءاتهم وهو ما لخّصه شعار الثورة الذي كان على كلِّ شَفَةٍ ولسان في تلك الأيام المجيدة: “الدين لله والوطن للجميع”.

العز عز العمايم

“خشيَ أهل أمّ الرّمان لجوء أهل الغارية للثأر من الخُرشان فأرسلوا مع قافلتهم 40 فارسا ليؤمنوا وصولهم حِمى قبيلتهم”

“أمسكَ زعيمُ الخُرشان بعمود خيمته وأقسم «بالعمود والرّب المعبود» أنْ يَحْفَظ ودّ الدّروز ولا يعتدي هو وذريته عليــهم أبداً”

“الخُرشان يرسلون 100 من فرسانهم لنجدة سلــطان ويعقدون تحالفا مع ثوار بني معــــروف ضدّ الفرنســــيين”

من ذاكرة الجبل

قِصّةُ شهامةٍ وصَفْحٍ وَوَفاء

بين بني معروف وعشيرة الخُرْشان

تناسى بنو معروف الثّارات وأكرَموا الخْرشان الجياع
فقامت بين العشيرتين صداقةٌ وحِلْف ضدّ الفرنسيين

شيخُ الخُرْشان يهاجم المُفترين على بني معروف في مجلس ابن سعود
العزّ عزّ اللهْ هُوْ وَليِّ النّاس والعزّ اْلآخَر لابْسينِ العَمايم

منذ نحو مائة عام أغار على الجبل فرسان من عشيرة الخُرشان، وهم فريق من قبيلة السّرحان، من بني صخر، الذين كانوا ينتقلون بمواشيهم في بوادي الحَمَاد الممتدة جنوب جبل حَوران إلى عمق شبه الجزيرة العربية بعيداً. يومَها لحق بهم جماعة من فرسان بني معروف المُوَحّدين، ولكنّ هؤلاء لم يًوفَّقوا في مطاردة الغُزاة وخسروا بعض فرسانهم في موقعة سمّيت بموقعة “الغَباوي”، نسبةً للأرض التي حصلت بها تلك الموقعة.
وفي واقعة أخرى، في أرض “الغباوي” ذاتها، ثأر المُوَحدون من الخرشان، وحَدثت بعدها قطيعة بين الطّرفين دامت نحواً من اثني عشرَ عاماً، ومرت سنوات من جفاف في البادية، لم يدخل الخرشان على أثرها حِمى الجبل بسبب العداوة والدّماء التي لم تجد سبيلها إلى المُصالحة.
وبما أنّ الحاجة الماسة لا ترحم ذويها، فقد جمع شيخُ الخرشان علي الحْنَيف وجهاء قومه، وقال لهم:”ها نحن جُعنا، وما عندنا مَيْر، لا قمح ولا شعير، وها أنتم ترَوْن أنّ بني عثمان هم أصحاب الكلمة العليا في سهل وحواضر البلاد ما عدا الجبل، وما من قافلة تعبر تلك الديار إلاّ ويجبي منها العثمانيّون الضّرائب الباهظة، ونحن على جوعنا لا قدرة لنا على دفع ضريبة للتّركي. مالنا حيلة إلا أن نبعث على بني معروف في الضّلع ونَطلب المَير منهم. (كانت قبائل البدو في القرون الماضية يطلقون على جبل حوران اسم “الضلع” لأنه يظهر للناظر إليه من الأفق البعيد في مدى البوادي المحيطة به مقوّساً كضلع أزرق).
تابع شيخ الخُرْشان كلامه فقال: “مع أنّهم عَدّو علينا، لكن المثل عندنا يقول “اِذبح ابن الدرزي وِاْنْصيه ( أي اطلب منه فترة سماح) يعطيك عَطْوَة( فرصة) خمسة أيام”، كان الشّيخ الحْنيف على حقّ، فَلِلْبدوي طبع يأبى سطوة السّلطة، فكيف بها إذا كانت سلطة جُباة ظالمة!.
اتّفق الحْنيف مع رجال عشيرته على إرسال قافلة من مائة جمل وفي حراستها عَشَرة فرسان تَصحبُهم عشرين امرأة لإبعاد شبهة القتال والعداوة عن الرّكب، وبالفعل، في اليوم التّالي انطلقت القافلة، وقد اتّخذت طريقها إلى جبل حوران.
بعد مسيرة أيام وصلت القافلة إلى حِمى الجبل، وصَعّدت في مسارها على السفح الجنوبي منه، إلى أنْ حطّت رحالها مع الفجر في جوار مُنبسَط من الأرض في الظاهر الجنوبي لقرية أم الرمان المواجهة للبادية. كان أهل القرية قد اتّخذوا من ذلك الموقع مدافن لموتاهم ( المكان اليوم هو محلّ المدرّج العام في القرية)، وكان مغزى نزول القافلة في جوار المدافن يعني طلب الحماية، والتوسّل بأرواح الموتى لتحقيق ما جاؤوا من أجله.
علم أهل أمّ الرمان بنزول الرّكب في جوارهم، وقد أدركوا أنّ غايتهم سلميّة، لكنهم أرسلوا رسولا منهم يسأل القادمين:
ــ وِشْ جابكم علينا؟
ــ والله ما جابنا غير الجوع، وِدْنا نكتال ــ أي نشتري كميات من الحبوب ــ من عندكم.
وبالفعل توزّعت القافلة على بيوت أهل القرية الذين كالوا لهم ما طلبوه من القمح والشعير وما طلبوه من حاجات أُخرى..
عَلِمِ أهل قرية الغارية المجاورة لأمّ الرّمان من جهة الجنوب الشّرقي، وفيها الفارس علي مقلد ( آل مقلد أصلاً ينتمون لآل المصري، قدموا إلى الجبل من قرية صليما في جبل لبنان)، كان الخُرشان قد أصابوه برصاصة في فخذه في إحدى الغزوات فكسروه كسراً شنيعاً رافقه طيلة حياته. أراد أهل الغارية الثأر لصاحبهم علي، فجمعوا جَمعهم للهجوم على الخُرشان النازلين في حِمى أم الرمان.
لكن عقلاء الغارية وفي طليعتهم الشيخ فارس فرج، عارضوا نِيَّة المُتحمّسين من ذويهم. كان فارس فرج قاضياً معروفاً بحصافة الرأي، قال لهم :”يا أهل الغارية! الخرشان صاروا في وجه أهل أم الرمان ــ أي في حِماهم ــ ضَعوا أنفسكم محلّهم، هل تقبلون بذلك، كُفّوا الشرّ، والزموا دياركم، ونحن وأهل أمّ الرمان وجهنا واحد، وكرامتنا واحدة، والأيّام بيننا وبين الخُرشان باقية، وحقّنا لن يموت”.
بِهذا تغلّب صوت العقل في الغارية على نزعة الانفعال…
أمّا في أمّ الرّمان فقد ملأ أصحاب القافلة أوعيتهم من الحبوب، وأخذوا ما يلزمهم من سواها، لكنّهم اعتذروا عن دفع ثمن ما اكتالوه وأخذوه، بل طلبوا أنْ يكونَ دَيْناً مؤجّلاً بسبب ظروف البادية، وعجزهم عن دفع الثمن حينها، فلبّى أهل أمّ الرّمان طلبهم. بعد هذا عزموا على الرّحيل والعودة بقافلتهم إلى باديتهم.
كان أهل أمّ الرّمان قد بلغهم ما جرى من محاولة أهل الغارية الثأر من ضيوفهم، وأدركوا أنّ هذه القافلة الكبيرة لن يحميها العشَرَةُ من فرسانها الذين قدموا معها، فيما لو هاجمها أهل الغارية، أو أيّ طامعٍ آخر في أمداء بادية يسودها قانون الأقوى!.
لهذه الغاية، ركب أربعون فارساً في طليعتهم شيخ قرية أم الرمان “أبو حمد سلمان الأطرش”، ومَضَوْا حَرَساً للقافلة عبر البادية حتى بلغوا موقعاً يقال له “رُجم المشنشل”. كانت قبيلة الخُرشان يومذاك تُخيّم قُرْبَه. كان شيخها علي الحْنيف يقلّب منظاره في الآفاق على قَلق، خيفةً من غارة ما على الحمى، لم يلبث أن رأى القافلة، لكنّه ارتاب بِخَيْلٍ وفرسانٍ أكثرَ من العدد الذي بعث به حمايةً لقافلته، لكنَّ أحدَ فرسان القافلة كان قد سبقها ليبلغَ قبيلته بوصول الرّكب، لاقاه الشيخ الحْنيف مُتلهِّفاً لاستطلاع حقيقة الأمر. قال له:
ــ علّمْ وِشْ معك؟
ــ عيال معروف خافوا علينا من الغدر، وما تركونا بالبرّية وحدنا، مرادهم يوصلونا بالأمان.
أطلق الشيخ الحْنيف عنان فرسه نحو الرّكب حتى اقترب من الفرسان الذين همّوا بالعودة. حيّاهم، وّرَحّب بهم، وأقسم عليهم بالله، وبمحمّد رسول الله، ألاّ يعودوا دون أنْ ينزلوا ضيوفاً على قبيلته. قال له الشيخ أبو حمد سلمان الأطرش :”أنت تدري اْلْلّي جرى بيننا بالماضي”. ــ يشير إلى الثارات السابقة .
قال الشيخ الحْنيف، وأشار بحركة من يده إلى الأرض:”حَفَار ودَفّان يا الأطرش “ (يقصد أنّه آن الأوان لدفن الماضي).
هنا، قَبِل فرسان أمّ الرّمان الدّعوة، ووسط ترحيب وجهاء القبيلة توزعوا ضيوفاً عليهم. كان الوقت عند العصر. طلب الحْنيف أن يُجري الفرسان من الفريقين ميدانَ سباق فروسية علامة على المصالحة التي يريدها، فكان ذلك بين زغاريد صبايا العشيرة، وإطلاق الرّصاص في الهواء، وغبار الميدان على صفحة البادية…
بعدها، قال الحنيف للمُضيفين من عشيرته، كلّ واحد منكم يعشّي ضيوفه، وغداً كل عيال معروف وأنتم معهم تُفطِرون عندي”.
كانت حصّة علي الحْنيف من الفرسان الضّيوف الشيخ سلمان الأطرش وشبلي الهادي وآخرون ناموا في مَضْرَبِه ــ أي بيت الشَّعر الذي يتّخذه البدويّ مسكناً له ولأسرته .
في الصباح التالي نهض الشّيخ الأطرش، فرأى رجالاً من البدو يسلخون جَزوراً(جملاً سميناً)، سنامه بطول إبطه ــ كناية عن ضخامته ــ قال متعجّباً ممّا يرى ــ”أيش بلاه هذا؟”، قال الحْنيف وكان يشرف على عملية الذبح والسّلخ “هذا بَلاه أنت يا شيخ”، وأردف وكأنّه يُحَدّثُ نفسَه “أمَا هوْ عيب على علي الحْنيف يضيف عنده الأطرش وعيال معروف، وتقول عنه العرب ما عَقَر لهم!”، ــ أي لم يذبح لهم جَزوراً ــ وهكذا كان فطور فرسان قرية أمّ الرمان عند الشّيخ الحنيف.
بعد ذلك الفطور، وعندما عَزم الضيوف على العودة إلى ديارهم، أراد منهم الحنيف المبيت ليلةً أُخرى، فاعتذروا منه، قالوا له “إن تأخّرنا سيحسب بنو معروف في الجبل أن مكروهاً حصل لنا، وسيصولون ببيارقهم وراءنا”، قبِل الحنيف اعتذارهم، ولما امتطَوْا ظهورَ خيلِهم أمام مضربه، أصَرّ على أن يسقي كل فارس منهم فنجاناً من القهوة بيده، كانت هذه منه مبادرة في التّكريم الزّائد والاعتراف بالفضل، ثم اتجه بعدها إلى مضربه، وأمسك بأقرب عمود من أعمدة البيت وهزّه، وأقسم قائلاً: “وحياة ها العمود، والرّب المعبود، ألْما عَنّهْ صدود، مادام علي الحْنيف ومن وَراه ــ أي ذرّيته من بعده على قيد الحياة ــ حرام عليّ قَوامة ــ أي معاداة ــ بني معروف”.

كان شيخ العشيرة علي الحْنيف يقلّب نظره في الآفاق خيفةً من غارة ما على الحمى
كان شيخ العشيرة علي الحْنيف يقلّب نظره في الآفاق خيفةً من غارة ما على الحمى

وفاء الشيخ علي الحنيف
مرّت بضعُ سنوات، ولم تلبث أنْ نشبت الثورة السّورية الكبرى عام 1925، وذاع صيت انتصاراتها الأولى في معركتي الكفر والمزرعة، وسمع الخُرشان وشيخهم الحْنيف بخَبَرها، فأرسل ابنه الشابّ “حديثة الخريشا”، إبراراً بقسمه يوم أمسك العمود الذي يرتكز إليه بيته، وحلف بالرّب المعبود ألا يعادي بني معروف وأنْ يكون وذرّيته صديقاً لهم. أرسله برفقة مائة من فرسان عشيرته إلى الجبل قاصداً سلطان باشا، مهنّئاً إياه بانتصار الثّوار في معركتي الكفر والمزرعة، ومعلناً تحالفه مع الثورة في قتال الفرنسيين لتحرير سوريا، وقد أشار سلطان باشا إلى ذلك الوفد في ص 126 من كتاب أحداث الثورة بقوله” في 16 آب عام 1925، وصل إلى قرية الثعلة حديثة الخريشا، على رأس قوة من بني صخر، مؤلّفة من نحو مائة فارس، وقد سارعوا إلى نجدتنا بعلم رضا الركابي، رئيس الحكومة الأردنية وتشجيعه”.
كان سلطان وثلّة من الثوار يوم قدوم وفد الخرشان في قرية الثعلة، وبعد أن استقبلهم مرحِّباً بوفادتهم، رغب الشيخ حديثة أن يرى على الطّبيعة موقع المعركة التي هُزم فيها الفرنسيون، فأرسل سلطان معهم دليلاً من مُقرَّبيه هو سلامة أبو عاصي، من قرية أم الرمان، وكان هذا يجمع الفروسية والبلاغة في شخصه، وفيما هم على الطّريق قرب تلة من رماد القرية، فاجأهم سِربٌ من طائرات الفرنسيين الذين كانوا يفتّشون عن فرصة لينتقموا لِهزيمتهم المدوية منذ بضعة أيام مضت. ألقت الطائرات قنابلها على الفرسان الذين تَحَثْحَثوا لرؤيتهم الطائرات، وتفرقوا شَذر مَذَر، بينما كانت امرأة تحمل على كتفها جرّة ماء، وبيدها الثانية تحمل طفلاً رضيعاً، وقد لفّته بمملوكها، ــ قماش أشبه بمئزر تشدّه المرأة بعروة متينة على خصرها بحيث يكون على مقدّمة ثوبها تحت الصّدر ــ كانت المرأة تعضّ على طرف قماش المملوك بأسنانها تثبّتُه كيلا يسقط الطّفل منها. خاطبتهم وهم ينتشرون هاربين من حولها: “أتخافون من فراشة؟”. ثمّ أردفت غاضبةً توجّه كلامها للطائرة، وقد رأت الغبار يملأ فضاء المكان :” الله يقطع عُمْرِك، غبّرتينا”، ومضت في وجهتها …
دُهش الشيخ الخريشا لموقف المرأة وقال” هيك ناس لا يحتاجون المساعدة من أحد”.
بقي الشّيخ الخريشا ورجاله مدة أيام في الجبل، واستمرّت الثّورة نحواً من سنتين حرباً سجالاً في مواجهة الفرنسيين الذين استقدموا قوات من مستعمراتهم في إفريقيا والهند الصينية، واضطر سلطان والثوار إلى اللجوء إلى إمارة شرق الأردن ( كما كانت تدعى آنذاك)، وهناك ضغط الإنكليز على الثوار ليتخلّوْا عن الثورة، أو يخرجوهم بالقوة من الأراضي الأردنية التي كانت تقع تحت سيطرة انتدابهم، وإزاء هذا الضغط قرر سلطان وأركانه إرسال وفد للملك عبد العزيز بن سعود، الذي كان حينها في زيارة لموقع قريب من الأراضي الأردنية التي وفد منها الرجال. كان الملك قد علم بقدومهم عبر الدروب الطويلة في الصحراء، فأمر لهم بغداء قبل دخولهم عليه.

وحياة ها العمود، والرّب المعبود حرام علي وعلى ذريتي معاداة بني معروف
وحياة ها العمود، والرّب المعبود حرام علي وعلى ذريتي معاداة بني معروف

الحنيف ينتصر لبني معروف
أقبل الموفدون على الفسطاط الكبير الذي يجتمع فيه حَشْد من الرجال حول الملك، وتوزعت مشاعر الحاضرين بين مُرَحّب ونافر من قدوم بني معروف، كان سلامة أبو عاصي بين أعضاء الوفد، قال بعد السلام الشّفوي بلا مصافحة: نحن رجال سلطان، جئناكم بسبب ضغط فرنسا وبريطانيا علينا لنسلّم سلاحنا يريدون منّا أنْ ننهي الثورة، ونحن لن نسلّم دون شروط تحفظ حقوق بلادنا، وغايتنا طلب الإذن بدخول بلادكم نبقى فيها ريثما تنفرج علينا”.
وقف الملك وقال: “الله يحييكم، اِن اشتهيناكم نرسل وراكم”،
(يقصد نطلب مجيئكم إلى بلادنا).
ما إن خرج الموفدون حتى التفت الملك عبد العزيز وسأل الوجهاء وزعماء القبائل الذين يلتفّون حوله: يا عرب، أسألكم بالله وبمحمّد رسول الله من يعرف حقيقة هؤلاء الدروز فلْيخبرني.
وقف أحدهم، وكان يُدعى “سلطان بن شرخي”. قال:” الدّروز!، لا أبْ ولا ربْ. ثمّ جلس.
تبعه آخر، وهو مبارك بن غدير، قال:”الدّروز لادين ولا مذهب”. وجلس.
وقف علي الحنيف، شيخ الخرشان، وكانت بادية وادي السرحان في الأراضي السعودية من بعض منازل قومه في حلّهم وترحالهم. قال: يا جلالة الملك، أنت تسأل بالله وبمحمّد رسول الله. أَهُوَ الكلام مسموع؟

قال الملك، نعم وكان يثق به :”كلامك رسالة”.
فأجابه الحْنيف بالقصيد (وكان شاعراً) مدافعاً بحرارة عن بني معروف الموحّدين وعن إسلامهم وشيمهم وشجاعتهم وعن إيمانهم، وكان لقصيدته وقْع فوري على الحضور وعلى الملك عبد العزيز الذي قبل في ما بعد بتقديم الملجأ لسلطان وقيادة الثورة وعدد كبير من الثوار وعائلاتهم. وفي ما يلي نص القصيدة التي ألقاها شيخ الخُرشان في حضرة الملك عبد العزيز وهي باللّهجة البدوية النّبطية، لذلك قمنا بوضع هوامش في أسفل الصفحة لشرح بعض مفرداتها الأساسية تسهيلا لفهم مغزاها من القارئ غير المُلِمّ بالشعر البدوي النّبطي. قال الحنيف زعيم الخرشان في شعره:
العــــــــــــــــزّ عــــــــــــــــــزّ الله هُـــــوْ وَلِــــــــــــــيّ النّـــــــــــــاس والعـــــــــــــزّ اْلْآخَــــــر لابْســـــــــــــين العمايــــــــــــــــــم
عزّك بني معروف عَ الخيــــــــــل فُـرّاس بمقـــابـــــــــــــل الجمعـــــــــــــــــين كلـــــــــــــــــــهم لزايــــــــــــــم1
دروزٍ تْعزّزهم علـى كـــــلّ اْلاْجْنــاس طِيبٍ وفعل نفوس شُمّخْ عظــايـــم
المَرْجَـــلَـــــــــــــهْ من دور آدمْ لَــهم ســـــــــــــاس عَـــــيــــــــــــّوا بــــهـــــــــــا بمصقّلاتٍ عـــــــــــجايــم2
ياما احتمى بِـــــرْبــاعْهُـــم كلّ مِحْتاس يْعِــــــــزّوهْ لَنَّـــهْ شـــــــــــارب الــدّم عايــــــــــــــــــــــم3
كم منْ أميرٍ يشرب الخمر بــالكاس خلّـــــوا عليه الطّيرْ يــــــــا مِيرْ حـايـم4
يــوم المعارك عَجّهــــــــــا تِقُـــــــــــــلْ حِنـداس وبزر الفْرَنْجي مِثل رَشق الغَمايــــــــم5
يْدوسوا العَراضي بْعَزِم كاللوح دَرّاس واللي مْقصّـــر عِـــدّوهْ أبو الهمايم6
إســلام يعطوا الحقّ أصفى من الكاس والحــقّ مِنْهم مِسِنْدينــوا بــدعايــم7
الصــــــدق مني شهــادةٍ تِـــــــــــــرْفــع الرّاس وْلاني مْــنَ اَلْلّـــي يِبِذْرُون السّمايم8
يا الله يا اللّي مـِرْتِقب كلّ الاجْـنــــاس وتْكفّ عَنْهم عـــايْلات المَظـــالــــــــــم9

1. – لزايم: أي أقارب
2. – المصقَّلات العجايم، أي السيوف الباترة
3. – المحتاس: الخائف، والمطارَد من أهل قتلى قتلهم وابتليَ بدمائهم
4. – المحتاس: الخائف، والمطارَد من أهل قتلى قتلهم وابتليَ بدمائهم
5. – أي تركوه مقتولاً طعاماً للطيور في البرّيّة
6. – العجّ: الغبار. والحنداس: ظلام الليل. و”بزر الفرنجي” هو الرصاص من صنع الأوربيين، إشارة إلى جودته وفتكه

7. – العراضي: الجيوش ــ عامية ــ أي يهزمون الجيوش. بعزم كاللوح درّاس أي كالنورج. أبو الهمايم: أي هو البطل ذو الهمة العالية.
8. – أي مدعوم بشواهد
9. – يبذرون السّمايم: أي ينشرون السموم ويقومون بإيذاء الآخرين والافتراء عليهم كذباً.
10. – هو يدعو الله أن يبعد الظالمين عن بني معروف

الغارية

الغارية عرين المجاهدين

أبو صالح فهد أبو لطيف بدأ رحلته إليها في مغارة
ثم توافد أبناء العشيرة وتعزز الحمى بالرجال

سليم الأطرش (الغول) أعيا العثمانيين في المعارك
فقتلوه وعرضوا رأسه في السويداء ثم نقلوه إلى والي دمشق

أسر مجاهدو الغارية الضابط العثماني رضا الركابي
فلما عرف سلطان أنه عربي أطلقه وأعاد فرسه إليه

الغارية قدّمت 45 شهيداً في الثورة السورية الكبرى
منهم نجيب نادر في راشيا ويحيى نادر في “رساس”

وجوه-من-مجتمع-الغارية
وجوه-من-مجتمع-الغارية

تقع بلدة الغارية في القسم الجنوبي من محافظة السويداء،على مسافة نحو 45 كلم من مركز المحافظة، وعلى ارتفاع 1125 متراً فوق سطح البحر، وهي مركز ناحية تتبع لها قرى عنز وخربة عواد والمغيّر. وتحدّها من الغرب قرية أم الرمان، ومن الشرق قريتا المغيّر وعنز ومن الشمال قرية الرافقة ومن الجنوب الحد السياسي الذي يفصل بين الأردن وسوريا.
يذكر خبير الآثار الدكتور علي أبو عساف في كتابه”الآثار في جبل حوران ــ محافظة السويداء” (ص 165) أن العمران في الغارية تأسس بعد العصر النبطي، وأنه نقلت إليها حجارات الخرب المجاورة، ومنها السواكف( العتبات) المنقوشة والمزوّقة والمذابح التي نشاهدها فيها، لكنه يعتقد أن الغارية نبطية التأسيس، والآثار المتناثرة فيها في عدة أماكن تؤكد ذلك.
يدعم ذلك الرأي ما أشارت إليه نشرة صادرة عن بلدية الغارية تقول:”ومن الغارية جلب تمثال كبير للإله بعل شامين ( إله السماء)، حسب رأي الباحث الفرنسي سوريل، يقف على قاعدة متصلة به وجهه ملتحٍ يحمل على كتفه قرن الوفرة وبيده اليمنى كأس، ولا بدّ أن عمرانها استمر في العصر الروماني البيزنطي الغساني، استناداً إلى ما فيها من آثار وكتابات، ويذكر المعمرون أن كنيسة قديمة
( ربما دير) كانت في البلدة، هي الآن مردومة.
وعلى الخريطة الجيولوجية لسوريا فالقان جيولوجيان ناجمان عن الانكسار الجيولوجي المسمى بالإنهدام السوري الأفريقي، يتجهان من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، أحدهما يمر شرق التل الشرقي للغارية، والآخر يمر في البلدة نفسها، وهذا يفسر غياب الصخر البازلتي وسط الغارية وتصدع جدران البيوت الواقعة في الغور الفاصل بين تلّي بركات غربها، والتل الشرقي شرقها.
أما متوسط كميات الأمطار التي تسقط فوق البلدة بين عام وآخر فقد بلغ خلال السنوات العشر الماضية نحو 223 مم، لكن هذا المعدل يعني أن كميات الأمطار قد تتفاوت بصورة ملحوظة وعلى سبيل المثال فإن معدل الأمطار لم يتجاوز في إحدى السنين 90 مم فقط.
ويخطئ من يظن أن عمراناً ما في الغارية يعود إلى ما دعاه البعض خطأ من حيث اللغة والتاريخ بـ “العصر الصفوي” إذ ليس هناك من عصر صفوي في الغارية، فالصفائيون،( صواباً)، سموا كذلك لأنهم سكنوا براري “الصفاة”، وهم جماعات من البدو الرعاة المتنقلين عاشوا شرق الجبل وعلى أطرافه الجنوبيه والشمالية الشرقية، ولم يتركوا عمراناً يذكر مقارنة بما تركه الأنباط من عمران وتحضّر.
أقدم عمران معروف في البلدة يعود الى عصر الأنباط، وقد عمد هؤلاء البناة إلى حفر بركتين كبيرتين في وسط غور القرية الأولى الواقعة بين التلّين الشرقي والغربي، ولعل وجود أكثر من نبع ماء في قرية شبيح القريبة منها وفّر على البناة الأوائل حفر المزيد من البرك؛ على خلاف ما هو الحال في أم الرمان المجاورة التي عُرفت فيها ست برك تعود إلى تلك العصور الغابرة. واستناداً إلى ما ذكره توفيق الصفدي في كتابه “جنوب الشام، صدى الإنسان والسنديان”، بشأن مساحة البرك وأعماقها في الغارية فإن كمية الماء المختزن في البركتين يصل إلى نحو 40,000 متر مكعَّب.
ويعتقد أن الغارية شأنها شأن سائر قرى جبل حوران مرت بمراحل من الخراب أكثر من مرّة، وذلك بسبب الجفاف، واضطراب الأمن وغياب دور الدولة المركزية، وموجات الجراد كما يشير إلى ذلك المؤرّخون والرحّالة الذين زاروا البلاد في القرنين الماضيين، وأبرزهم فتزشتاين قنصل بروسيا في أواسط القرن التاسع عشر.
وبسبب الصراعات السياسية والاجتماعية وموجات الهجرة التي قدمت من جبل لبنان بعد معركة عين دارة التي قضى فيها الشهابيون القيسيون على الحزب اليمني ومروراً بمراحل تالية شهدت اضطرابات وحملات اضطهاد كالتي جرّدها الأمير بشير الثاني الشهابي على أمراء الدروز وأعيانهم بدعم من الفرنسيين والإكليروس الماروني، فقد أطلقت الحروب وحقبات الاضطهاد موجات هجرة متوالية للموحدين الدروز من جبل لبنان إلى مختلف قرى حوران (كما كان يسمى آنذاك) واستمرت تلك الهجرات لأكثر من قرنين حتى الثلث الأول من القرن العشرين، وبذلك عمرت الغارية وغيرها من سائر حواضر الجبل التي كانت خراباً ومراعي لا حياة حضرية فيها.
ولكن سكن وإعمار بني معروف الموحّدين للغارية، ولكونها تقع في الجانب الجنوبي الأبعد من الجبل المحاذي لبوادي شرق الأردن جاء متأخراً عن إعمار سواها من الحواضر التي تقع إلى الشمال منها في ذلك الجبل.

زيد النجم باحث في التراث الشعبي
زيد النجم باحث في التراث الشعب

آل أبو لطيف..الرواد
يجمع المهتمون بتاريخ سكنى الموحدين للغارية ومنهم السيد حسن قماش أبو لطيف، وإسماعيل فرج، والأستاذ مشهور أبو لطيف (والأخير هو ابن حفيد القادم الأول للقرية) على أن أول من سكن الغارية من الموحّدين هو أبو صالح فهد أبو لطيف، وآل أبو لطيف أصلاً من عيحا في لبنان، وكان صالح قد أتى الغارية من صلخد، ترافقه زوجته،واسمها (مُرّة)، ــ وكانوا يسمون أسماء أبنائهم وبناتهم تبعاً لأحوال أيامهم ــ وكان معهما طفل رضيع، وذلك نحو العام 1854م، كانت الغارية آنذاك خربة لا سكان فيها، ولما ارتضى الرجل أن يتخذها موطناً جديداً له، فقد استبقى المرأة والرضيع في مغارة داخل دار قديمة على مدخلها باب حجري(حلس)، ورجع على دابته إلى صلخد ليجلب متاعه، وهناك حاصرته الثلوج، وبقيت الزوجة ورضيعها ثلاثة أيام تعاني الخوف بين الخرائب الموحشة إلى أن عاد الزوج بالمتاع والطحين.
في البدايات كانت حياة رائد إعمار الغارية عزلة في بيئة وحشية، وكانت الأسرة تشاهد من سطح الدار التي اتخذتها سكناً، قطعان الغزلان ومجموعات الذئاب ووحوش البرية ترد إلى البركتين. لكن ما لبث الأقارب من آل أبو لطيف بفروعهم العديدة أن بدأوا يفدون إلى القرية العديدة ــ لشد أزر بعضهم بعضاً، ومن تلك الفروع آل فهد وقماش وآل واكد ونكد وعسقول وغيرهم. وكانت تقاليد الغزو البدوية تهدد الوجود الحضري للموحّدين الذين حملوا معهم من لبنان تقاليد الزراعة والتحضر إلى بيئة غابت عنها سلطة الدولة وافتقدت للأمان قروناً.

العائلات المعروفية في الغارية
يذكر الأستاذ توفيق الصفدي في”جنوب الشام” (ص 268) قدوم مجموعة من العائلات إلى الغارية في ما بعد، منهم آل النجم ــ وهم أقارب آل الأطرش ــ كان لهم ربع أرض القرية، وآل فرج والصفدي ونادر وغزالة وصياغة، ثم قدم منصور بن إسماعيل الأطرش من قرية المنيذرة ليصير شيخاً في الغارية لكونه من أبناء الشيخ اسماعيل الأطرش، وجاء بعده آل البريحي وخداج والولي، وقيسية وكحل ومداح ونفاع وأبو رافع وأبو رشيد وأبو ديكار وصبح وفليحان والعنداري وغزلان والعقباني وعمار والبعيني، وأيم محمود مراد وعبد الوهاب وجمول ورزق وخليفة وسعيد وأبو رايد والبدعيش، وغالبية هذه العائلات تعود بأصولها إلى جبل لبنان.
ويذكر الأستاذ شفيق العودي من قرية أم الرمان أن أسرة مسيحية أرثوذكسية قدمت من عيحا من لبنان مع بعض آل أبو لطيف إلى الغارية وأن جده لأمه سعد زغيب كان في العشرينيات مختاراً لقرية الغارية، بعد أخيه يوسف.وقد ارتحل من تبقى من الأسرة في فترة سبعينيات القرن الماضي إلى مدينة قطنا في ريف دمشق الغربي.

فيلاّ من حجر البازلت
فيلاّ من حجر البازل

تاريخ كفاح
لعبت الغارية بموقعها المتقدم في الواجهة الجنوبية للجبل دور السد المانع للغزوات البدوية القادمة من الصحراء، تلك الغزوات التي كانت أبرز أسباب خراب الجبل وموات أرضه في ما مضى واجتناب الناس السكن فيه بصورة دائمة في الماضي. ويذكر توفيق الصفدي في كتابه (“جنوب الشام”..) أنه اشتهر من حملة بيرق الغارية صالح ومهنا الصريخي الصفدي، وجديع أبو لطيف.
وكان آل الصفدي قد استسهلوا سكنى الغارية المواجهة للبادية التي تفصل مواطنهم في شمال فلسطين حيث كانوا هناك قد عانوا من ظلم حكم محمد علي باشا لبلاد الشام ما بين العامين 1931 و1940، ومن سوق أبنائهم التعسفي للجندية في تلك الفترة. وقد شارك العديد من رجالهم في معارك الثورة السورية الكبرى. ومن مجاهدي البلدة المشهورين الشهيد نجيب نادر في معركة حصار قلعة راشيا، كما استشهد في معركة “رساس” الشهيد يحيى نادر. وممن استشهدوا في معركة خراب عرمان من رجال الغارية وفرسانها في المواجهة مع العثمانيين عام 1896 حمود النجم وعباس كحل، وفي معركة قنوات في تلك الفترة استشهد سلمان محمود البريحي.

“سليم الغول” يؤرق العثمانيين
إبان مرحلة تصدع الدولة العثمانية قام الموحدون الدروز في الجبل بعدة انتفاضات في الجبل ضد الوجود العثماني، وكان شيخ الغارية سليم الأطرش أحد أبطال الثورة التي قامت بمواجهة الحملة العثمانية التي قادها الجنرال سامي باشا الفاروقي على الجبل، وإلى هذا يشير سلطان باشا في كتاب “أحداث الثورة” ص 33، يقول:” في الأول من تشرين الأول عام 1910 جرت معركة حامية الوطيس حضرتها بنفسي وكنت بمعية والدي مع المشاة، في حين كان خالي سليم الأطرش مع الفرسان”، ويذكر سلطان أن خسائر العثمانيين في تلك المعركة ربما زادت على ألف قتيل، وعلى أثر سلسلة من المعارك لجأ الفاروقي إلى سياسة الوعود الكاذبة وفي هذا يقول سلطان باشا: “والجدير بالذكر أن خالي سليم الأطرش وفريقاً من الثوار لم ينخدعوا بوعود سامي باشا وعهوده، وإنما تابع الثورة في بعض القرى التي أمدتها بالمؤن والذخيرة، ففي العانات (قرية في جنوب شرقي الجبل قتلوا من القوات العثمانية التي كانت تطاردهم ستة جنود وأسروا قائد القوات سعد الدين الجباوي، فأطلق سليم سراحه لأنه عربي”، وكان الجباوي بعد أن بقي أسيراً لدى سليم مدة أحد عشر يوماً قد تعهد له إن هو أطلق سراحه بأن يسعى في إطلاق سراح سلامة أخي سليم وجدعان الأطرش قريبه من السجن العثماني في قلعة دمشق … لكن سلامة وجدعان ماتا في السجن بعد هذه الواقعة في ظروف مريبة، وذلك إثر تمكن العثمانيين من قتل سليم وبعض رفاقه في قرية الرضيمة الشرقية بالتعاون مع واشٍ محلّي، يقول سلطان: “في الرضيمة الشرقية واجهوا قوات أخرى بقيادة زكريا بك ونوري بك، فدارت معركة رهيبة عند الفجر، 18 أيلول 1911، قتل فيها خالي سليم وأسعد وذياب الصفدي، وأسر حمد الصحناوي كما قتل فيها أيضاً نوري بك وثمانية من جنوده” ويروي المعمرون أن ضباط الفاروقي أقدموا على قطع رأس سليم وعرضوه في السويداء ومن ثم نقلوه إلى الوالي التركي في دمشق للتأكيد على انتصارهم بعد أن أعياهم مراراً في قتاله مع ثلّة من رفاق جهاده.

أسر قائد في الجيش العثماني
في سياق حديثه عن الثورة العربية الكبرى عام 1918م، يذكر سلطان باشا الأطرش في كتاب “أحداث الثورة” (ص 52) الدور البطولي لفرسان الغارية في معركة تلول المانع، على المدخل الجنوبي لمدينة دمشق، يقول (ص 20) “لقد قمنا بحركة التفاف حول مواقع الأتراك، وباغتناهم بهجوم صاعق عطلنا فيه أكثر بطاريات مدفعيتهم، وقاتلناهم في خنادقهم بالسلاح الأبيض حتى استسلم لنا من بقي حيّاً منهم، وكان في مقدّمهم ضابط كبير هو رضا الركابي، الذي أسره فرسان قرية الغارية وأحضروه إليّ بصورة مهينة، فلما عرفت هوّيته العربية أمرت بإعادة سلاحه إليه، وأركبته فرساً، وعاد بصحبتنا إلى دمشق”.
ويذكر أن بلدة الغارية قدمت 45 شهيداً في الثورة السورية الكبرى عام 1925
وقال الشاعر مؤرخاً لبطولاتهم:
أهل الغاريـــــــــــــــــة صغـــــــــــــــــارها وكبارها يـــــــــــــــــوم الوغى فرسان تسعر نارهـــــــــا
وقلوبهم يـــــــــــــــــوم المعـــــــــــــــــارك صـامــــــــــــــــــدة سَـــــــــــــد المــدافـــــــــــــــــع بـــــــــــــــــالعمايم كارهــــــــــــــــــــا

نُموّ سكاني
نما عدد سكان الغارية مع الزمن ويشير سعيد الصغير في كتابه “بنو معروف في التاريخ”، أن عدد سكان الغارية بلع 4359 نسمة عام 1981، أما اليوم واستناداً الى ما ذكره الشيخ جاد الله أبو ديكار مختار البلدة حالياً فإن عدد سكانها يبلغ 7860 نسمة.

اقتصاد زراعي
تعتمد بلدة الغارية بصورة أساسية على النشاطات الزراعية وتبلغ المساحة القابلة للزراعة في البلدة 20,025 دونم. وأهم ما يشغلها زراعة الحبوب وخصوصاً القمح والحمص والشعير وكل هذه الزراعات تعتمد على مياه الأمطار. وتزرع الأشجار المثمرة مثل اللوز والزيتون والكرمة والتين والدراق والتوت.

الثروة الحيوانية
انقرضت تربية البقر الجبلي أو “البلدي” نهائياً في البلدة لصالح تربية الأبقار المحسّنة، وتربّى الأغنام والماعز بالتعاون مع رعاة من البدو .

آثار قديمة في البلدة القديمة
آثار قديمة في البلدة القديمة

الوضع التعليمي في الغارية
التعليم في الغارية: كافة المدارس ملك للوزارة ومبنية حسب المواصفات المناسبة، وفي البلدة مدرسة للتعليم الثانوي يدرس فيها تلاميذ الغارية والقرى المجاورة، وتتضمن فرعاً مهنياً فيها واحد لتعليم الإناث الخياطة، ويبلغ عدد التلاميذ 235 تلميذاً وتلميذة، وتتوفر في المدرسة أجهزة عرض سينمائي ومخبر حديث للتجارب للفرع العلمي وتتبع للمدرسة ملاعب كرة قدم وكرة السلة والكرة الطائرة. وتتألف المدرسة من 3 طوابق مساحتها 1,250 م2، وتبلغ مساحة عقارها العامة 5750 م2 .
وللتعليم الأساسي مدرستان إعداديتان، وثلاث مدارس إبتدائية، ويبلغ عدد التلاميذ العام في هذه المرحلة نحو 846 تلميذاً وتلميذة، وهذا بالإضافة إلى روضتي أطفال إحداهما تتبع لوزارة التربية والأخرى للإتحاد النسائي.

البلدية والعمران
تبلغ مساحة المخطط التنظيمي للغارية 4240 دونماً، وهي تشهد حركة عمرانية ناشطة بسبب عائدات الهجرة والاغتراب إلى بلدان الخليج ولبنان والدول الأجنبية، وتفيد مصادر البلدية أن الغارية تشهد استصدار 80 رخصة بناء سنوياً.
مركز الكهرباء: ويعمل فيه 8 من العاملين يرأسهم مساعد فني.

المركز الصحي
يقدم هذا المركز الحكومي التابع لوزارة الصحة خدمات طبية مجانية ويتضمن عيادة لتنظيم الأسرة ورعاية النساء وعيادة طب أسنان ويداوم في المركز 18 ممرضة وممرض واحد، وأطباء أسنان وهو يحتوي على مختبر لتحاليل الدم.

ابو حسين يوسف

سيرة الشيخ العابد الذاكر الزاهد

أبـــو حسيـــن يوســـف
عبــــــد الوهــــــــــــــاب

رحلة تعب وورع ومجاهدة من الشوف إلى جبل العرب

كان يتابع ليلة الجمعة واقفاً ذاكراً حتى الصباح
ويكره مظاهر التنعّم في الطعام أو في الملبوس

تعفف عن الزواج لكي يصرف أيامه في الذكر
وكان يقوم الليل ويعيش على القليل من القوت

لم يكن يُشهِر صيامه ومجاهداته رفقاً بالآخرين
وكان متواضعاً بشوشاً حسن الإستماع والنصيحة

تقدم سيرة حياة الشيخ العارف أبو حسين يوسف عبد الوهاب رحمه الله تعالى مثالاً ساطعاً على جيل من النساك الزاهدين العارفين الذين كرسوا حياتهم للتقرب من الله والغوص في بحر أسرار الدين واستكشاف سبل القربى من الخالق ونيل المأرب في العلوم النورانية والحياة السعيدة في مرضاة الله تعالى.
ومثل أقرانه من أكابر أهل الحق فقد اتسمت حياة هذا الشيخ العارف بنصيب وافر من العناء والفقر وضنك العيش وقد شاء القدر له أن يبدأ شبابه في خضم الحرب العالمية الأولى وما رافقها من جوع وسنوات عجاف وجراد، الأمر الذي جعله يوجه شطره شطر جبل الدروز في سوريا ليستقر في الغارية وليبني لنفسه مع الوقت سيرة حافلة نعرض لبعض أهم محطاتها وسماتها في هذا المقال ونحن نأمل أن تضيف هذه السيرة العطرة إلى ما سبقها من سير الصالحين الذين تهتم مجلة “الضحى” بعرض أمثولاتهم وإرثهم وتعليمهم من قبيل الذكر”فذكر لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين” وكم نحن في حاجة في أيامنا هذه لأن نتعرف على سير هؤلاء الصالحين وأن نتأمل فيها وأن نقتبس منها.

ولد الشيخ (أبو حسين) يوسف عبد الوهاب في عام 1895 في قرية «عين قني» الواقعة في الشوف الحيطي، وكان والده الشيخ حمود عبد الوهاب في الأصل من قرية بريح الشوفية ولكن زواجه بالسيدة الفاضلة فضة قاسم جمال، التي تنتمي لآل ماهر جعله يتخذ من عين قني موطناً له.
وفي تلك القرية، وفي ظل والديه الموحّدَين، ترعرع الطفل يوسف، أكبر أبناء الشيخ حمود، وعندما بلغ سن التعلّم، وحيث لم تكن من مدرسة في قريته، كان يمضي إلى مدرسة المختارة، ويذكر مؤلف سيرته، ابن أخيه الشيخ علم الدين عبد الوهاب، أن الفتى كان يتلقى تعليمه في كنيسة المختارة على يد« أساتذة نصارى، كما تعلّم في عماطور أيضاً”، ولما كانت صِلات الوالد الشيخ حمود لم تنقطع بالأسرة الأصل في بريح فقد كان الصغير يوسف يمضي برفقة والدته إلى بيت جدّه هناك لمساعدة أسرة الجد في موسم الحرير وتربية دود القز الذي كان يشكل مورداً يرفد اقتصاد الأسرة…
منذ سنوات يفاعه أظهر يوسف في شخصيته صفات جليلة من الميل الروحاني وحسن التقبل وقوة الهمة في السيطرة على نوازع النفس، وحسن المعشر والصدق، وكان لا يزال في صباه عندما برز ميله الواضح لسبيل التقوى التي تميّز الموحّدين، وكان يذكر أنه في توجهّه ذاك أخذ عن الشيخ أبو يوسف اسماعيل عبد الصمد من عماطور المجاورة لعين قني، ويذكر أن صديقاً له من مثل عمره من عين قني كان يرغّبه بالذهاب إلى الشيخ عبد الصمد، وأن ذلك الصديق كان يعتذر عن الذهاب إلى الشيخ عبد الصمد لكونه «لابس لبّادة والشيخ لا يحلم على اللبادة”، أي لا يتحدث في التوحيد وعلم الباطن لمن يعتمر اللبادة، لكنه قبل في نهاية الأمر، وذهبا معاً، وعند وصولهما استقبلهما الشيخ عبد الصمد بما يستحقان من التشجيع والتكريم، وأخذا بعد ذلك يترددان عليه وهو يرعاهما بصدق التوحيد، «حتى استقام لهما الأمر وقوي فهمهما لاستيعاب الذكر»، وكان الشيخ يوسف يقول إن ذلك الشاب، صديقه، «سبقني في الدين”، ويرجح الشيخ أبو سلمان محمود الشمعة أن ذلك الشاب صديق الشيخ يوسف قد يكون الشيخ أبو محمود أسعد الشعار رحمه الله، ذلك لأن مؤلف سيرة الشيخ يوسف نسي أن يسأله عن اسم ذلك الصديق.

مجاهدة حتى الصباح
وكان المرحوم الشيخ يوسف متأثراً بورع معلمه الشيخ أبو يوسف اسماعيل وتقواه، ومن ذلك أنه في ليالي الجمعة وبعد الوعظ وعند بدء الذكر كان يتابع ليله واقفاً وقد ضم قدميه ووضع يديه في زناره ويبقى في وقوف الذكر والمناجاة حتى الصباح. ويذكر عنه أنه عند ورود بعض الآيات التي تتحدث عن العقاب كان يتغير حاله من خوفه الباري تعالى، ويظهر ذلك على وجهه واضحاً… وعلى العموم فإنه يستدل من كثرة أحاديث الشيخ يوسف عن أستاذه الشيخ الصمدي عمق تأثيره الروحي في شخصه، وكان في تلك الفترة شاباً في أول طريق مسلكه التوحيدي…
لم تترك أحداث الحياة العامة للأيام أن تمرّ رخاء في حياة الشيخ الشاب يوسف، فالأب، الشيخ حمود أقعده المرض عن العمل، ولا بدّ للأسرة من معيل، وهكذا وقعت المسؤولية على عاتق الشيخ الشاب في سن مبكرة، وكان الأب المريض يدرك ذلك ويعبر عنه بمرارة، ومن ذلك أن يوسف ذهب لجلب حملة حطب فتأخر، فقال الأب متألّماً:« تأخّر ها الصبي، بدّو يلحقه الهم وهو صغير».
وفي آخر مرّة، عندما كان الوالد على فراش الموت، وكان يوسف قد رجع متعباً من ثقل حمل كان يحمله من مسافة بعيدة، عبر طريق جبلية عسراء، ناداه الأب، فاقترب منه، وعندها مسح على جبينه بيده قائلاً “ يابني، لحقك الهمّ وأنت صغير».
كان الشيخ الشاب هو الأكبر بين الأبناء الأربعة، وكانت الأسرة المؤلفة من سبعة أنفس في أمس الحاجة لمعيل قادر على تأمين ضرورات العيش، والأسرة في حالة من الفقر وضيق الحال، والأيام أيام الحرب العالمية الأولى، أيام سفر برلك، حيث المجاعة تحدق بالبلاد من جراء الحصار البحري الذي ضرب على لبنان في ذلك الحين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصاب البلاد جدب واجتاح الجراد المعمورة فلم يبق لا زرع ولا نبات، وبسبب هذه المصائب المتضافرة وقعت مجاعات مات فيها كثيرون، ونزح آخرون إلى جبل الدروز في سوريا. ومما يرويه ابن أخ الشيخ يوسف عن لسانه في سيرته أن بنتاً لا تتجاوز عدة سنوات رآها تحبو على الأرض تلتقط حبات شعير ساقطة وتأكلها من شدة الجوع. وفي أحد الأمكنة رجل وابنه يعملان في صنعة الأحذية، فحصل الرجل على رغيف من خبز الشعير وأخذ يأكله أمام ولده، ولما طلب الولد من أبيه أن يطعمه قال له:«أنت البارحة أكلت» .

صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية
صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية

الخير في جبل الدروز
في تلك الفترة اشتغل الشيخ يوسف بدار محمد زين الدين باشا، ولكن الأخير لم يعد يشغّل أحداً عنده حتى «بالمونة»، لأن عمل الشغيل طيلة نهار عمله لا يفي بقيمة طعامه بسبب شدة الغلاء في تلك الأيام الصعبة، وهكذا اضطر الشيخ يوسف إلى الهجرة منفرداً إلى جبل الدروز، بقصد العمل وإرسال ما يعيل الأسرة، وفي ذلك الزمان كان الجبل ينعم بفضل الله بسنوات غلال ووفرة، وقد ضعفت هيمنة العثمانيين عليه بخلاف لبنان وسائر بلاد الشام، حيث قاموا بمصادرة الحبوب والمواسم لصالح الجيش العثماني آنذاك، ذلك لأن العثمانيين كانوا منشغلين بجبهات قتالهم في الحرب إلى جانب ألمانيا وحلفائها، وبخاصة جبهة قناة السويس، ولم يكونوا راغبين باستفزاز بني معروف الموحّدين بعد أن كانوا في الماضي جردوا عليهم حملات عسكرية عديدة، وقد نزل الشيخ يوسف في قرية الغارية وهي من قرى الجبل الجنوبية، ويقول مؤلف سيرته أن الأقدار شاءت أن تسوق هذا الشاب الجليل الطاهر إليها حيث تعرّف على بعض الأخوان، وحصد حصدية، وحينما انتهى من عمل موسم الحصاد عاد إلى الشوف وهو يحمل على ظهره ثلاث رباعي ( نحو خمسة عشر كيلوغراماً)، من طحين جبل الدروز. ولما وصل عين قني قال الجيران «يوسف عبد الوهاب جلب لأهله لَكَنْ (وعاء كبير من النحاس) مليان طحين من جبل الدروز”.

هجرة الأسرة
كانت ظروف لبنان في تلك الأيام بالغة الصعوبة، فالجوع سيد الموقف، والحلفاء الغربيون شددوا الحصار على موانئ بلاد الشام بما فيها لبنان، وكان جبل الدروز بسبب من حرص الإدارة العسكرية العثمانية على تجنب الاصطدام ببني معروف هو الناجي الوحيد من المجاعة وويلات الحرب، ومن هنا فقد ناقش الشيخ وضع الأسرة مع السيدة والدته، وقررا الهجرة بالأسرة إلى ذلك الجبل، وقد وُجد تاريخ خروج الأسرة مكتوباَ بخط المرحوم الشيخ يوسف يذكر فيه التالي«طلعنا من البلاد ثاني يوم وفاة محمد زين باشا، وهو يوم خمسة شباط سنة سبعة عشر وتسعماية وألف، يكون مجيئنا يوم ستة شباط».
كانت الأسرة قد حملت ما يمكن نقله من متاع، وعندما صعدت في طريقها الى القمم الجبلية إلتفت الشيخ يوسف إلى أمه قائلاً : تودّعي من رؤية البلاد فلعلّك لن تريها بعد اليوم أبداً.
كانت الشيخة الوالدة تحس بما ستولّده الغربة من معاناة البعد عن الأهل والوطن، وهمّ العيال ومسؤولية مستقبلهم المجهول، ولكنها كانت مطمئنة لقضاء الله وقدره، والى أن الشيخ يوسف يشاطرها هذا العبء الثقيل على الأسرة النازحة عن الديار.
يقول كاتب السيرة إن المرتحلين”في أعلى الجبل أكلوا آخر ما معهم من الزاد، وساروا على التوكّل، وفي مسارهم التقوا بالشيخ أبي محمود سلمان الشمعة المقيم في خلوات القطالب فتبادلوا التحية والسلام وأعطاهم من زوادته، وبعد حديث قصير ودّعوه وودعهم وتابعوا سيرهم، وقبل وصولهم إلى قرية المحيدثة تعب أخواه الصغيران حسن ووهبي فحملهما الشيخ يوسف على ظهره فوق اللحاف الذي كان من نصيبه أن يحمله…

الشيخ في نحو الثلاثين من عمره
الشيخ في نحو الثلاثين من عمرهالشيخ في نحو الثلاثين من عمره

رحلة العذاب والأمل
وعند وصولهم المحيدثة قضوا فيها ليلة، ومنها انتقلوا إلى صحنايا، فالأشرفية، وهناك أقامت الأسرة ثمانية عشر يوماً، إذ وجد الشيخ سليمان وهو الأخ الذي يلي الشيخ يوسف عملاً في حراثة الأرض، لكنّ عين الشيخ يوسف ظلّت تصوّب باتجاه الغارية، فترك الأسرة مؤقّتاً واتجه قاصداً جبل الدروز كما كان يدعى حينذاك، وفي الغارية مهّد لوصول العائلة، فرجع إلى الأشرفية لتتابع الأسرة ارتحالها من جديد نحو محطتها الأخيرة، الغارية، وعلى الطريق، بعيداً عن الأشرفية، عند نقطة التقاء طريق الشام الجبل بالطريق الطالعة من الأشرفية توقفت الأسرة هناك، كانت الطرق في تلك الأيام مخيفة، خصوصاً لانقطاع العمران على الطريق، وكثرة قطاع الطرق، وبعد انتظار، أقبلت قافلة جمال بأحمالها ورجالها قادمين من الشام باتجاه موقع انتظارهم، فتفاءل الشيخ بقدومهم، وقال “إن كان هذا القَفل قاصداً الجبل فيكون قد وجدنا رفاقاً، ويتيسّر الحال”.
وصحّ ما توقعه الشيخ يوسف، فقد أناخ أحد الجمّالة جمله بقربهم، ودعاهم للركوب قبل أن يتعرّف عليهم، وقد نُقل عنه في ما بعد أنه قال: “حين وقع نظري على هذه الأسرة وهم جالسون حول بعضهم بعضاً قلت لا شك أن هؤلاء من أهل الخير”، وكان ذلك الرجل الديّان هو حمزة السبع من قرية صحنايا، وكان الشيخ يوسف يذكر فضله وغيرته المعروفية على أسرته.
كانت الطريق طويلة، وقد قطعوها مع رفاق القافلة على مراحل كما كانت عليه حالة الأسفار في ذلك العصر، وقد عانى المرتحلون الكثير من التعب والمشقة، وكان الشيخ يوسف يقول لمن يتذمّر أو يقصر من أخوته الصغار«اللي تعبان يجي يركب على ظهري».

” كانت حياته مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبســــــط على النول  “

نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل

إقامته في الغارية
ما إن وصلت الأسرة إلى الغارية بعد كل ذلك العناء، حتى أخذ الشيخ يوسف يتعرّف على الأخوان ويتعامل معهم بما يتطلّبه واقع الحال، وكان في سياق أعماله اليومية يمارس مهنة التعليم، ومن الذين تعلّموا على يديه، أشقاؤه وأخوانه في المذهب من أهالي القرية، وبالإضافة إلى عمل الشيخ يوسف بالتعليم، كان يقوم بأعمال الفلاحة والحصاد، وقد أخذ عدة حصديات في الغارية وخارجها في قرى مثل المغيّر وسهوة الخضر. وبصورة عامة كانت حياة الشيخ الورع مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا شباناً منتجين يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبسط على النول، وتلك حرفة مهمة كانت تتطلّبها حياة القرى في ذلك الزمن. وبالإضافة إلى أعمال زراعية أخرى، وبسبب اشتهارهم في مجال التعليم فقد صار أهل الغارية يلقبونهم بـ «الخطبان».
يذكر السيد اسماعيل فرج وهو من معمري الغارية وقد جاوز التسعين عاماً، أن الشيخ يوسف وأشقاءه كانوا علماء في الدين، علّموا وأرشدوا، وعملوا على نسخ الكثير من الكتاب الكريم. أما العقيد المتقاعد زيد النجم وهو من المهتمين بالتراث الاجتماعي للجبل، فيشير إلى أن آل عبد الوهاب في الغارية تميزوا بطبع روحاني.
يروي كاتب سيرة الشيخ يوسف أنه كان يفتش وينقب عن القابلين لمادته وتعاليمه حتى نشأ جمهور من شباب الغارية إلتفوا حوله وأحبوه وساندوه واستقوا من معينه الدافق الفياض وتمسّكوا بخواطره الشريفة الطاهرة وعملوا بما أمرهم به من الطاعات، وشيدوا مواضع العبادات، وهو بينهم كالأب الشفيق، والمربي الرفيق، يقوي ضعيفهم وينير طريقهم ويسهر على مصالحهم حتى غرس في نفوسهم آداب التوحيد في الحديث والمعاملات والأخذ والعطاء والبيع والشراء، ومعرفة الحلال والحرام، وآداب الجلوس والطعام، وكان إذا لاحظ شيئاً من المخالفات يطالب به، وكان مجلسهم يخلو من المخالفين حتى ولو كانوا بزي الدين. وقد استطاع بمساعدة أخوانه وتعاونهم إيجاد مفاهيم محددة وخط واضح مستقيم بعيداً عن السياسة الجسمانية حتى أثّروا في المجتمع من دون أن يتأثّروا به.
ولما كان همّ الأم التي جاءت بأولادها اليتامى إلى جبل الدروز هرباً من جوع لبنان أن ترى ابنها البكر، الشيخ يوسف، رب أسرة، فقد رغبت في تزويجه، خصوصاً وأنه غدا شيخاً دياناً ومرشداً للشباب ويحتل منزلة اجتماعية محترمة بين مشايخ القرية، وها هم أشقّاؤه يترعرعون في محيط اجتماعي موافق، وقد وجدوا أعمالاً تنسجم مع أعمارهم في بيئة الغارية ومحيطها المجاور.
لكن الشيخ الشاب الذي حمل هم الأسرة في سنّ مبكرة من حياته، اختط لنفسه نهجاً روحانياً متعففاً عن الزواج، ولم يفلح توسّط الأصدقاء المقرّبين في تبديل ما استقر عليه من رأي ونهج في الحياة والدين. لقد كان فكره مستغرقاً بواجبات عبادة الباري تعالى، وهمه ووقته منصرفاً إلى تلاوة الكتاب العزيز والمحافظة على أخوانه، كما كان الشيخ الذي أصبح رجلاً مكتمل الرجولة يكتفي بالقليل مما يقيم بأوده فكان بذلك ملتزماً نهج النسك والخلوة والتأمل والذكر في نهاره وليله.
وعلى الرغم من ترفّعه عن المشاركة في مظاهر العلاقات الاجتماعية، فإن راوي سيرته يذكر أنه شارك في بعض معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، وجرح في معركة «عِرى».
كان الأشقاء قد كبروا، وشغلتهم هموم العيش في مجالات أعمالهم، وكانوا يمارسون مهنة التعليم في بعض القرى خارج الغارية، تلك المهنة النبيلة التي علّمهم إياها، شقيقهم الشيخ يوسف، فأفادهم بها، وهم بدورهم أفادوا مجتمعهم الذي احتضنهم، وبعد نحو أحد عشر عاماً من وصولهم الغارية تمكّن الأخوة من تملك بيت مناسب لم يزل ماثلاً بطراز بنائه التقليدي القديم الذي يستحق أن يحظى بعناية مديرية الآثار …
أما شيخنا فقد كبرت نفسه عن المجريات الدنيوية، وانفصل عن أخوته ليعيش مع والدته في بيت واحد، لكنه ظلّ بالإضافة إلى دوره التعليمي في محيطه الاجتماعي، ملتزماً المشاركة في الأعمال الإنتاجية التي تفيد حياة الأسرة كالفلاحة والحصاد وتقليم دوالي العنب والأشجار، وغيرها، إذ كانت مسؤولية الأسرة من همّه الشخصي.

راعي الأسرة الشفوق
كان الشيخ يوسف يحسّ بمسؤولية الراعي الصالح لأشقّائه، يروي أخوه الشيخ حسن أنه كان ذات سنة يعلّم التلامذة في قرية الهويّا التي تبعد عن الغارية نحو ثلاثين كيلومتراً، والطرق في تلك الأيام جبلية وعرة، والسيرعبرها مشياً على الأقدام، وقد شاء الشيخ حسن أن يحضر بين مشايخ الغارية ليلة العيد، ويكون مع الوالدة والأشقاء بعدها، والفصل شتاء.
انقضت أيام العيد، ولا بدّ للشيخ حسن من العودة إلى الهويّا. ودّع الشيخ حسن الأسرة ومشى متجهاً نحو صلخد، والثلج يغطي وجه الأرض، وما إن اقترب من موقع خربة الرشيدة على مسافة بضعة كيلومترات إلى الشمال من الغارية والتفت خلفه، حتى أبصر شقيقه الشيخ يوسف يتبعه ماشياً على أثره، وقف وانتظر حتى اقترب منه وحيّاه قائلاً: “ليش متكلّف يا خيي؟» وطلب منه أن يعود، فأبى، وتابع مشيه معه إلى أن وصلا إلى مرتفع على الطريق، فتوقف هناك وظل يراقب أخاه الذاهب عبر طريق صلخد نحو الهويا إلى أن وارته شعاب الطريق.
وفي مناسبة ثانية، تطلّبت الظروف من أخيه الشيخ حسن وضيفهما الشيخ أبي سلمان هاني الصالح من قرية الهويا المضي إلى قرية المنيذرة التي تبعد عن الغارية مسيرة نحو ثلاث ساعات على الأقدام، وصادف أن كان الطقس مثلجاً، وأيام برد شديد، وفي الطريق التقيا برجل مسن من أهالي قرية سهوة الخضر كان ضيفاً لغرض ما في الغارية وهو عائد إلى قريته الأبعد شمال شرقي المنيذرة، طلب الرجل مرافقتهما وأبلغهما أنه يحمل أمانة كانت معه ورجاهما أن يوصلاها لصاحبها إذا حدث له شيء من أمر الله في الطريق، ويبدو أن الرجل كان يشعر بحال من الضعف والمرض. في منتصف الطريق اعترضهم ذئب، ولم يكن مع أحدهم سلاح، وهذه سنّة يسير عليها مشايخ الموحّدين، والثلج الكثيف يغطي سطح الأرض، فما العمل؟ شعر المشايخ بحرج، ولا بدّ أن الذئب جائع، وإلا فمن النادر أن يهاجم الإنسان. مرّت لحظات صعبة، وإذا بالشيخ يوسف مقبل نحوهم ماشياً، وفي الحال، ابتعد الذئب عنهم، فأقبلوا على الشيخ يسألونه سبب قدومه في أثرهم، فقال لهم :«انشغل بالي عليكم وأردت أن أطمئن عنكم. وبعد تلاوة ذكر من الكتاب الشريف شكروه، ورجوه العودة إلى القرية، فمضى عائداً إلى الغارية عبر طريق ثانية إلى أم الرمان لكونها صارت أقرب إليه من الغارية في ذلك الجو القاسي، أما هم فقد تابعوا مسيرهم باتجاه المنيذرة، وقبيل وصولهم المنيذرة بنحو بضعة كيلومترات زلقت رِجل الرجل المسن فسقط في بقعة ماء ضحلة، فساعدوه حتى خرج منها، كانت ملابسه المبللة بالماء قد تجمّدت من شدّة البرد، فعجز عن المسير، وكان حمله متعذراً عليهما، وما هي إلا لحظات حتى قدمت نجدة من الرجال من قرية المنيذرة، ساعدوا الثلاثة الذين كانوا عالقين في ورطة الطبيعة القاسية، من دون أن يكون بينهم وبين القرية من وسيلة اتصال لطلب النجدة، ولعل في هذا سر من أسرار الشيخ يوسف عبد الوهاب…

من هم أقارب الشيخ أبوحسين؟
يقول راوي سيرته: «كنا نتعرّض لسؤال بعض الناس إلينا: مَن أقاربكم؟ فنسأل الشيخ يوسف، فيقول لنا «نحن قرايبنا أهل الدين، والمؤمن أخو المؤمن من أمه وأبيه». كان يعتز بهذه القرابة، و«يشمئز من العائلية والعصبية».
كانت البساطة في كافة شؤون الحياة أهم مميزات الشيخ يوسف، فلم يكن ليهتم بتنويع طعامه، يقول راوي سيرته إنه كان إذا أراد أن يأكل فلا يهتم، وكنا نراه يحضر خبزاً وزيتوناً أو ما تيسّر بحيث يكون صنفاً واحداً ويجلس فيأكل ويرجع إلى فرضه، وإذا لاءم وأكلنا معاً نلاحظ منه التمهل في الأكل وصغر اللقمة وكان يمرر بحبة الزيتون حتى تنظف نواتها، وكان إذا لاحظ من أحدنا مخالفة يطالب بالتصويب، ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه. وكان ينزعج من أي حالة فيها تنعّم أو مظهر جسماني سواء في الطعام أو في الملبوس أو الكلام. وفي سائر أمور الحياة كان يطلب التواضع والتأدّب بآداب أهل التوحيد، وكان رحمه الله لطيفاً في حركاته وكلامه دقيقاً في ملاحظاته وانتباهه، حريصاً على حقوق أخوانه ويسأل عن أحوالهم ولا يرضى منهم بالتقصير.
وكان يستحسن أقوالأ وحكماً مختارة يتوجه بها لمن يقصده، منها: أحبّ للناس ما تحب لنفسك. و «ما من نجوى ثلاثة إلا والباري تعالى رابعهم، ولا خمسة إلا وهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا» أو «ما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة وعلم أنها من عند الله إلا كتب له حمدها من قبل أن يحمُدَه عليها. ولا أذنب ذنباً وعلم أن الله تعالى مطّلع عليه إلا غفر له من قبل أن يستغفره عليه».
وكان يردد كلمات بسيطة ذات معنى عميق تدل على تعلّقه بخالقه ومراقبته لنفسه، فيقول : نحن مطالَبون وغير متروكين. نحن موثوقون ولا مماطلة ولا تأجيل ، الله يجيرنا ويقينا…
وكان شديد الاهتمام بالمرحومة والدته، كثير الاحترام والتقدير لها، وكان يذكر الكثير من حسن تربيتها ورجاحة عقلها ويعترف لها بالفضل، وعندما كانت تمرض كان يسهر على خدمتها وراحتها، ويا لها من لحظات حميمة حينما كانا يجلسان معاً يتذاكران ويتحدثان بذكرى الأيام الماضية وقصة مجيئهما من لبنان.
وكان يحب اجتماع الأسرة من الأخوة وأبنائهم، وكانوا يتحلّقون حوله لحديث ما، وكان رحمه الله إذا أراد إنهاء ذلك الحديث يبتسم دلالة على رضاه، وإن كان الحديث لا يعجبه يظهر من جانبه الانكماش، فيعلم الحاضرون قصده، فيتجنبوا متابعة الخوض فيه، أو هم يذهبون عنه، أو هو يتركهم إذا كان خارج غرفته التي كانت بمثابة خلوته التي يتعبّد فيها لله تعالى. وكان سلوكه هذا دليلاً على تهذيبه وشفافية حضوره، كانت العبادة وتلاوة الكتاب الشريف تشغلانه معظم ليله وسائر نهاره، عدا فترات الراحة، وكان يُسمع له عند التلاوة نغمات شجية فيها الكثير من الحنان والحنين.

مدخل الدار القديمة_resized
مدخل الدار القديمة

“شارك في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنســــي لســــوريا ولبنــان وجرح في معــركة «عِرى»”

شهرته على الرغم منه
لم تخفَ على الناس المحيطين بالشيخ يوسف مكانته الروحية العالية، وسلامة منهجه، وصارت تقصده وفود الموحّدين من مختلف الأنحاء يطلبون النصح والإرشاد، من حيث النية والاعتقاد، وكان يستقبل وفود القادمين لزيارته بالبشاشة والترحيب ويقوم بواجبه نحو الضيف بنفسه إن لم يكن أحد من الأسرة يساعد في خدمته، وكان زواره يغادرونه وهم منشرحو الصدور مجبورو الخواطر، يدعون له بالخير رجالاً كانوا أم نساء، صغاراً أم كباراً، وكان بعض زائريه على غير ملّته يؤمونه للتبرك إعجاباً منهم بمسلكه وبساطة حياته وطيب نيّته.
كان الشيخ يبتعد بنفسه عن الدنيا ومتعها، وذلك بفضل ما آتاه الله تعالى من همة عليّة وعزيمة وإرادة وإخلاص. لكن برغم تعففه وزهده في الدنيا الفانية، فإنه كان حريصاً أشد الحرص على ألاّ يُشعِر أحداً بذلك لأنه كان يتقصد توجيه عمله لله تعالى مستعيناً ومستشفعاً بوليّه الهادي الأمين على بساطة مسلكه الروحاني، كان يُخيّل لكلّ امرئ أنه بمسلكه المتواضع البسيط يستطيع أن يفعل فعله، وكان يجيب سؤال من يقصده بزيارة أو مجابرة أو محادثة أو مجالسة، ولم يكن مترفّعاً ولا متأفّفاً، بل كان دائم الابتسام دلالة على الرضا والتسليم، واسع الصدر كبير القلب بعيداً كل البعد عن الكبر أو الاعتقاد بقيمة نفسه.

تعففه عن الزواج
لقد كان الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب نسيج حالة روحانية فريدة، فقد ترفّع منذ شبابه الباكر عن سائر ما يشغل أمثاله من الشبان، وتعفف عن الزواج وقد كانت المرحومة والدته تشعر بغصة عندما ترى ابنها الحبيب الذي أجهد نفسه من أجل تربية أخوته وتعليمهم حتى غدوا رجالاً وأصحاب بيوت وأرباب أسر فهم قد اندمجوا بيسر وسهولة في مجتمع الجبل، وكيف لا؟، فبنو معروف ساكنو الجبل يعودون بأصولهم وجذورهم إلى أسر وعائلات لم تزل تقطن في جبل لبنان، ولكن شيخنا من جانبه حرم نفسه الزوجة والولد، وكل ما يرى فيه لذائذ الدنيا. كانت الأم بعد يأسها من إقناعه بما تراه أي أم مؤمنة خيراً لولدها في أن يكون رب أسرة موحّدة على نموذج أسرتها، فتكلّف له الأصدقاء من أخوانه المشايخ، فيزداد تمسكاً بما ارتضاه لنفسه، ومما زاد في غيرتها على صحته أنه كان لا يأكل اللحم ولا الحليب، وكذلك العنب، مع أنه كان لدى الأسرة كرم من العنب، وقد جعله المرحوم من بين أفضل الكروم في الغارية، وكان ينام فيه ولم يكن يخطر ببال ذويه أنه لا يأكل العنب إلا بعد أن باحت السيدة والدته بالسر، وعندما شعر الشيخ أن الأمر انكشف عمل على إزالة الشك فصار إذا دعي يأكل شيئاً ما من تلك الأكلات التي شاع أنه لا يأكلها على أعين الناس لينفي عن نفسه ما أشيع عنه من عنت أو مبالغة في قهر النفس وحرمانها.

وفاة السيدة والدته
كانت المرحومة الوالدة تتمنى على الله تعالى إذا قضى عليها بالوفاة أن يكون ذلك وأولادها مجتمعون حولها، وبتقدير من الباري تعالى، وكأن منادياً جمع أبناءها من لبنان والسويداء في الغارية على غير موعد متفق عليه، كان ذلك في الرابع من كانون الثاني عام 1964 وقد توفاها الله وهي بكامل وعيها ولم يقعدها المرض.

خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب
خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب

“كان إذا لاحظ مخالفة يطالب بالتصويب ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه وكان يكره التنعّم في الطعام أو في الملبوس”

مرحلة الخلوة والاعتكاف
كبر حجم الأسرة، وتزوّج الأبناء، كان لا بدّ من بناء دار جديدة. عند التأسيس وقف على الموقع، وأشار بيده إلى موقع حدّده ليكون خلوة متواضعة له ( تلك هي الغرفة التي يوجد فيها مقامه الآن)، وهي ملاصقة لبناء الدار. وكان المرحوم بكل تواضع يساعد في كثير من الأعمال بسعيه، ورأيه وحسن دعائه. وبما أنه كان يستشعر تقدمه في السن وصار يلاقي في السعي إلى المجلس صعوبة، صار يقضي الوقت في خلوته، ومن فضل الباري تعالى عليه أنه كان يقرأ دون الاحتياج إلى نظارات، ولم يتأثر سمعه، وظل متمتّعاً بكامل وعيه وسلامة تفكيره وإدراكه العقلي، وكان يقدم المشورة الصائبة للأسرة ولمن يقصده بوضوح وبساطة وصوابية رأي.
كان أخوان التوحيد يزورونه من البلاد السورية وخارجها، وقليلاً ما كان البيت يخلو من المريدين والمحبين. وكان يلاقي الناس ويودعهم ببشاشة ورحابة صدر، ويلبي طلبات زواره على حسب قدرته وإمكانيته.
أما أخوان التوحيد في الغارية التي تميّزت بروحانيته وتقواه، فقد قرروا قراءة ما يتيسر من الكتاب الكريم عصر يوم الجمعة في خلوته، كما عيّنوا عنده أيضاً السهرة ليلة الاثنين، وكانت الأيام به وبهم أنيسة ومنوّرة، وكان كثير من الناس يقصدونه طالبين منه حسن الدعاء لقضاء حاجاتهم المتعددة، وكانت حوائجهم تقضى ببركته، ومنها أنه كان بعضهم يأتي إليه بالحيوان العاصي على العمل، فيمسح بيده الكريمة عليه ويدعو لهم، وعندما يذهب صاحب ذلك الحيوان يصلح شأنه بإرادة الله تعالى، وكأن حيوانه بُدّل بسواه.

كرامات الشيخ
يذكر أحد سائقي نقل الحجاج إلى بيت الله الحرام أنه حدث له أثناء عودته من رحلة الحج أن تعطلت حافلته ولما يئس من إصلاحها نادى الباري تعالى ببركة الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب وأدار محرّكها، فانطلقت بمن معه من الركاب إلى أن وصل دمشق متعجباً مندهشاً لما حصل معه من قدرة وكرم الباري…
ويحدّث أحد الثقاة من قرية مياماس أن شخصاً من قريتهم كان مغترباً في ليبيا وكان له مبلغ كبير من المال عند مشغّله الليبي الذي رفض أن يدفع له الحق، ومضى زمن كاد الرجل أن ييأس من أخذ حقه من الليبي، فأشار عليه أحد الأصحاب أن يوجّه بنيّته نذراً إلى شيخ الغارية، فنوى صاحب الحق ذلك، وفي اليوم التالي أعطاه الرجل حقّه وديناراً زيادة واعتذر عن التأخير.
ويحدّث أحد المغتربين إلى فنزويلا وهو من بلدة الغارية وكان يملك محطة بنزين هناك، وأنه حصل عنده حريق في المحطة، عندها أيقن أن جنى عمره سيذهب طعماً للحريق، ولكنه فطن أن لديه شيئاً ما من بركة الشيخ، فأتى به ورماه في النار، فانطفأت بقدرة الباري تعالى…
ويذكر أحد المغتربين من بلدة عرى في فنزويلا، أنه كان يسوق سيارة بضاعة في أحد الأماكن الخطرة فطلع عليه أربعة لصوص بقصد سلبه، فما كان منه إلا أن لوّح بمحرمة كانت معه من بركة المرحوم الشيخ، قائلاً «إن كان بصاحبك سرّ فليظهر الآن»! فما كان من السلاّبين إلا أن تفرّقوا كل اثنين إلى جهة، وأخلوا له الطريق، وتحقق له بالدليل القاطع ما كان يسمع من كرامات تخص الشيخ المرحوم، وأرسل كتاباً للأهل في الجبل يخبر بهذه الحادثة العجيبة.
وفي بلدته الغارية كانت البلدية قد أقرّت مخططاً تنظيمياً يقضي بشق طريق غرب دار الشيخ الحالية، وكان المخطط يقضي بجرف بعض أشجار الزيتون حيث يمر بجانب خلوته، وجيء بالبلدوزر لشق الطريق، وقبل أن يصل به السائق إلى موقع الزيتونات تعطلت الآلية، فما كان من السائق المصرّ على تنفيذ مهمته إلا أن أخذ دراجة نارية ومضى إلى مدينة صلخد على بعد بضعة عشرة كيلومترات من الغارية بقصد إحضار ورشة لإصلاح آليته ، ولما وصل إلى قرية عنز على طريقة نحو صلخد، اعترض دراجته كلب شرس ولم يتركه حتى هوى من على الدراجه، ولولا رحمة الله به لقضي عليه. وهذه الحادثة يعرفها أهالي بلدة الغارية ويتحدثون بها. وهنا تركت البلدية الزيتونات ولم تعد تحرك ساكناً بشأنها، ولم تزل تلك الأشجار ماثلة أمام خلوة الشيخ المرحوم التي يؤمها الزوار يومياً من الغارية وخارجها.
ويروي صاحب سيرته أنه كان مدعوّاً معه في إحدى المناسبات إلى صلخد، وهناك في بيت صاحب الدعوة كان من بين الحضور ضيف وزوجته من قرية سهوة الخضر، ومعهما طفل عمره واحد وعشرون يوماً،قد رفض الرضاعة من ثديي أمه، والأسرة في هم وغم لهذه الحال. أتوا بالطفل ووضعوه أمام المرحوم وطلبوا منه أن يمسح بيده عليه وأن يدعو له، فاستجاب لطلبهم بكل رضا، وتلا ما تيسّر من الكتاب، وهكذا حصل، فإن الطفل وبإرادة من الباري تعالى رضع من ثديي أمه وكأنه لم يسبق له أن رفضه من قبل.
وهذه الحوادث هي بعض مما كان يحصل مع الشيخ المرحوم وبكرامته عند باريه وخالقه نسوقها عبرة للمعتبرين بحسن سيرته.

بيت-الاسرة-عام-1928_resized
بيت-الاسرة-عام-1928

وفاته، رحمة الله عليه
عاش المرحوم الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب حياة كريمة قاربت التسعين عاماً، قضاها بالتقوى عابداً زاهداً عازفاً عن متع الدنيا ومتاعها إلا ما يفي بالحاجة الشخصية الضرورية للحياة، وكان مقتصداً في مأكله، ولا يميل إلى التخليط في طعامه، ولكن العمر المحتوم له نهاية مهما طالت به السنون، وهكذا ففي الرابع من حزيران نقل الشيخ إلى مشفى السويداء على أثر شلل نصفي في الجانب الأيسر من جسمه، وبقي هناك لثلاثة أيام حيث فارقت روحه الأنيسة جسده، تاركاً في نفوس مريديه أثراً صالحاً ووصايا توجه للمسلك التوحيدي القويم، وشيّع جثمانه في محفل مهيب يوم الجمعة في الثامن من حزيران عام 1984، وقد حضرته ألوف كثيرة من الجبل والغوطة والإقليم ولبنان وديار حلب، ولما وصلت الجنازة من خلال الزحام إلى مكان المحفل وسط سيل المشايخ والرجال القادمين للتعزية صُلّي على الجثمان الطاهر وانتهى المحفل نحو الساعة السادسة مساء، حيث دفن في الخلوة التي اعتاد الإقامة فيها.
وبهذا انتهت مرحلة من حياة شيخ تقي نقي طاهر كانت مليئة بالفضائل والعبر والكرامات والطاعات والأعمال الجليلة والمثل الصالح للأجيال وللسالكين في طريق المولى أهل الحق والطهر والعرفان.

فضل الله الاطرش

مآثر بطل من الثورة السورية الكبرى

فضل الله النجم الأطرش

المجاهد-فضل-الله-الأطرش
المجاهد-فضل-الله-الأطرش

قاتل الفرنسيين وهاجم قوافلهم واخترق حصونهم
وأسر ضباطـــــهم وهو جريح ينزف الدمــــــــاء

حطم قافلة إمداد الجنرال ميشو بزمرة من الرجال
فارتفعت المعنويات وكان النصر المدوي في المزرعة

مفاجأة سارة في اجتماع متوتر مع بدو الأردن
ولماذا ارتمى ضابط حملة الشيشكلي عليه شاكراً؟

«إن لله رجالاً إذا أرادوا أراد»
في التاريخ الحافل لجبل العرب في سوريا فصول بطولة ومآثر رجولة وشرف وحكمة أدهشت العالم وجذبت اهتمام المستشرقين وأثارت إعجاب ألدّ خصوم العشيرة المعروفية هناك ونعني بهم ضباط السلطة المنتدبة الفرنسية الذين قادوا حرباً حقيقية استهدفت إخضاع أهل الجبل وكسر عنفوانهم لكنهم فشلوا رغم ما تسببوا به من قوافل شهداء ودمار واسع وتجويع وتشريد ونفي. هؤلاء الضباط القساة الذين قاتلهم بنو معروف باستماتة وأوقعوا بهم هزائم منكرة تطور لديهم مع الوقت شعور إعجاب خفي واحترام لهؤلاء الرجال الأباة ولعنادهم ولاستهانتهم العجيبة بالموت، فكتب عدد من الضباط الفرنسيين في ما بعد شهادات عبروا فيها عن تلك المشاعر وإن كانت هذه اختلطت غالباً بشعور التفوق وعنجهية السيادة الأوروبية.
إحدى قصص البطولة التي سطعت خلال نضال أهل الجبل ضد الفرنسيين هي ولا شك قصة الفارس البطل فضل الله النجم الأطرش. قصة فيها الكثير من فصول الشجاعة المثيرة لكن فيها أيضاً مصادفات ومفاجآت تصلح في حد ذاتها أساساً لكتابة الرواية الدرامية. وهذه المصادفات ليست في الحقيقة مصادفات بل كرامات من الله تعالى لهؤلاء الأشاوس الذين أظهروا إيمانهم بالأفعال وقدموا صورة التسليم بمساكنة الموت وازدراء الجبن بكل مظاهره.
فضل الله نجم الأطرش، بطل من عرمان في جبل العرب قاتل الفرنسيين وصارعهم في مواقع كثيرة وهاجم قوافلهم منفرداً تقريباً واخترق حصونهم وأسر ضباطهم وهو جريح ينزف الدماء ويغالب شعور الإغماء، لكنه أيضاً رجل شهامة وشرف نصره الله ويسر له من المآثر ومظاهر التأييد ما جعل ألدّ أعدائه ينقلبون فجأة إلى محبين له مستعدين لبذل أي شيء تقديراً لخصاله وسمو أعماله.

فضل الله وجحيم معركة المزرعة
قبيل معركة المزرعة المظفرة وفي معركة شديدة جرت في عرى بين المجاهدين وبين القوات الفرنسية تمكّنت الحملة العسكرية الفرنسية بقيادة الجنرال ميشو من إلحاق هزيمة بالمجاهدين انتهت باحتلال بلدة عرى واتخاذها مركزاً عسكرياً ومنطلقاً لمحاولة فرض السيطرة على جبل العرب بكامله.
خلال تلك المعركة قتلت الفرس تحت المجاهد نسيب نصار من قرية سالة، وكان اسمها الدويرجية، ( نوع من خيول منسوبة إلى آل دويرج من ديار نجد في الأراضي السعودية)، وكان ثوار بني معروف يومها ينسحبون تحت النيران الغزيرة لحملة الجيش الفرنسي، وأثناء انسحابهم، شاهد فضل الله المجاهد كامل فرج الذي كان مرافقاً لزوج اخته نسيب نصار من قرية سالة، قال له: أين عمك يا كامل؟
قال كامل:«وقع هو والفرس على الجسر وراءنا، وما قدرنا نخلّصه تحت الضرب»، ومع أنّ ذلك الانسحاب يومها كان انسحاباً ممزوجاً بطعم الهزيمة، فقد انتفض فضل الله كمن لدغته أفعى، لوى عنان فرسه، وانطلق راجعاً باتجاه حملة الجيش المتقدمة التي كانت تلاحق الثوار، وكان ينشد وهو منطلق على ظهر فرسه «ما عند النّسيب إلاّ نسيبه»، كانت فرس نسيبه نسيب مصابة في صدرها برصاصات خمس، ونسيب هو زوج أخت فضل الله وقد تمكّن الأخير من الوصول إلى الرجل وإنقاذه وخلصه بذلك من ذل الوقوع في أسر مقدمة قوات الجيش الفرنسي الزاحفة وعاد به إلى حمى الثوار.
كان ذلك اليوم يوماً صعباً على ثوار بني معروف، فقد اضطروا الى التراجع بسبب القصف المدفعي وقصف الطيران الفرنسي، وزحف الدبابات بخطة حرب حديثة لا عهد لهم بها من قبل، فأسلحتهم كلها عبارة عن أسلحة فردية، وبعضهم كان يلتحق بميدان المعركة وهو يحمل السلاح الأبيض، بل والفؤوس، والعصي، أملاً في أن يغنم من العدو بارودة أو مسدّساً…
توزع الثوار عصر ذلك اليوم في القرى المتاخمة لجبهة الجيش الزاحف باتجاه الجبل، كان فضل الله وفريق من كبار المجاهدين منهم جاد الله سلاّم وأخوه هايل من قرية طربا، وحمزة درويش من الحريسة، ومحمد شرف من تيما، وفرحان زيتونة، وعبطان النجم من القريا، ومحمود أبو يحيى من شقّا، هؤلاء كان نصيبهم أن نزلوا ضيوفاً بُعيد عصر ذلك اليوم في قرية نجران في مضافة أبو فندي نايف نصر، ولما قدّم المضيف الطعام للمجاهدين، لم يتقدم لتناول شيء منه سوى شخص واحد، فقد كانت حلوق الرجال يومها ملأى بالتراب من غبار القصف وعجاج الخيل. وكان سلطان، قائد الثورة قد حلّ عصر ذلك النهار في قرية سليم، ذلك لأن أركان الثورة أصرّوا على أن يبعدوه عن خط المواجهة الأول حرصاً منهم على حياته.

مفاجأة عبر منظار عسكري
مع غروب الشمس صعد فضل الله وثلّة من المجاهدين فوق سطح مضافة مضيفهم، وأخذ ينظر من خلال منظاره الحربي ( لم يزل المنظار محفوظاً إلى يومنا هذا لدى حفيده، وراوي مآثره الشاب يوسف في بلدة ملح)، نظر غرباً، ومِنْ حوله استكشف المنطقة المحيطة به، كانت الطريق الممتدة من بصر الحرير إلى مخيم الجيش على عين المزرعة تبدو بوضوح في المنظار، وكانت الطريق ذاتها تمر أمام المضافة التي لجأوا إليها. فجأة رأى فضل الله الأطرش أعداداً لا حصر لها من البغال تنوء بأحمالها وهي تلحق بحملة ميشو الزاحفة للقضاء على الثوار.
لم يصدق عينيه. نظر مجدداً وحدق في المشهد أمامه وقد اعترته الدهشة لما رآه ونسي جوعه، اقترب من جاد الله وهايل سلاّم، حاملاً منظاره الحربي وكان يحدث نفسه بصوت عال ويخاطب في الوقت نفسه الرجال حوله: :« انظروا، يا الله ما هذا؟»
قال له جاد الله: ماذا ترى يا فضل الله؟
قال: «أرى ما لا يُعدّ من البغال بأحمالها تلحق بالحملة، لا بدّ أنها ذخيرة ولوازم الجيش، لو أغرنا عليها الآن لقطعنا ظهر ميشو، ها ها، يا النشامى»!
وهبط من على سطح المضافة وقد تبعه الآخرون.
في المضافة أخذ الرجال يتداولون الأمر على عجل، وكأن الوقت يداهمهم، كان أحد أبطال المجاهدين ممن خبروا الحروب السابقة لبني معروف جالساً متربّعاً بعد أن سدّ جوع ذلك النهار المرهق، وقد أحس بحركة غير عادية في المضافة. سأل: « شو، ما بكم؟
أجابه مجاهد كان نزل لتوه من سطح البناء: البغال الملحقة بالحملة قريبة منا، لو أغرنا عليها لقطعنا ظهر الجيش.
أجابه المجاهد القاعد:«يا أخي نحن مش بقدرة فرنسا، شفنا حالنا وشفناهم، اللي عامل بطل يروح يهجم عليهم ويقاتلهم، معهم جيش حديث وطيارات، ومدافع ودبابات، كلها بتضرب نار». صمت برهة، وخيم صمت ثقيل على الرجال، ثم أردف وكأنه يختصر العبرة:« لأوّل مرة منشوف صخر اللجاة يتحوّل علينا شظايا».
كان الرجل يشير إلى التقدم التقني الهائل للجيش الفرنسي وضخامة عدده وعديده في مقابل الثوار غير المنظمين وأسلحتهم الخفيفة، وكان مجاهدو الجبل مازالوا يستخدمون الخيل في الهجوم كما لو أن الحرب تدور بالسيوف بينما كانت النيران تنهال عليهم من استحكامات منيعة ومن أسلحة رشاشة أو مدافع أو طائرات وكان مؤدى حديثه أن الثورة عمل لا طائل منه وكل ما ينتج عنها هو فقد الرجال والممتلكات.
تحولت أنظار الحاضرين في مضافة نايف نصر من الرجال إلى فضل الله، وكانوا مترقبين لما سيقوله رداً على موقف المجاهد العتيق، وكان فضل الله أقرب الموجودين الى سلطان، وموضع ثقته وكان كل ما يقوله بالتالي يعبر عن موقف قائد الثورة.
لكن فضل الله لم يرد بالكلام، وأبى أن يرد على ما اعتبره موقفاً متخاذلاً. كان جوابه الفعلي أن رفع كفّيته من على رأسه، وثبّتها مع عقاله حول عنقه، وحمل بارودته وخرج ليواجه رتل الإمداد الفرنسي المتقدم عبر الطريق المارة من جانب القرية.
لحق به صديقه جاد الله سلاّم قائلاً: «لَوِينْ يا فضل الله؟»، لكن الرجل كان قد خرج من المضافة باتجاه رتل الإمداد.
في تلك اللحظة توجه المجتمعون في المضافة إلى المجاهد الكبير ولاموه على كلامه المثبط للهمم.
أما فضل الله فكان قد أخذ مكانه استعداداً لمواجهة الرتل، وكان يتابع باهتمام شديد حركة القافلة ويترصّد بين الصخور على جانب من الطريق التي لا بدّ أن يسلكها الرتل المدعّم بحراسة مشددة.
ما إن وصلوا إلى مسافة أمتار قليلة منه صاح بهم بصوت هادر:«ارموا سلاحكم وارفعوا أيديكم».
ردّ أحد الجنود بإطلاق النار في اتجاهه فهجم فضل الله عليه يريد أسره، وهو ما أثار الدهشة والخوف في نفس الجندي. في تلك اللحظة وصل جاد الله سلاّم وأوخوه هايل وقد رفضا أن يتركاه يواجه رتل العدو وحيداً. وكان آخرون من الثوار قد التحقوا بالثلاثة الأوائل، وتمكن الجمع من قطع خط سير الرتل بل وأسروا واحداً وعشرين جندياً معظمهم من المالاغاشي، وأربعين بغلاً محمّلة بالذخيرة والأدوية.
عاد المغيرون بغنائمهم وكان الليل قد خيم. وأمام مضافة أبو فندي نايف نصر، كان ذلك المجاهد الذي حذّر رفاقه من مجابهة فرنسا قد أصيب إصابة خفيفة في فخذه، قال لفضل الله في ما يشبه الاعتذار الخجول: «قرِّب مني، قرِّب. قسماً بالله، إني ما عرفت أنك صاحب رأي الهجوم على الحملة».
رفض فضل الله حجة الرجل وردّ عليه بالقول:«طول عمرك تقدم عذراً أقبح من ذنب، لا فرق بين فضل الله وغيره من بني معروف، كل عمرنا في هذه البلاد نقاتل العدو على مبدأ: «إنطح عند روحك»، ( أي دافع عن وجودك) وأرواحنا على أكفّنا».
تلك الليلة كان مجاهدو قرى المقرن الغربي من الجبل، وأولئك الرجال الذين سبق لهم أن توزعوا عصر ذلك النهار في قراه المتاخمة لخط سير الرتل الفرنسي البالغ طوله كيلومترات عديدة، قد استعذبوا تلك المبادرة الجريئة التي أقدم عليها رجال مضافة نايف نصر، فانقضوا على إمدادات جيش العدو واستولوا عليها، ووصلت البشارة عند منتصف الليل إلى سلطان في سليم، وقد نقلها إليه عبطان النجم وفرحان زيتونة.
استبشر سلطان ومن معه من أركان الثوار خيراً بالسيطرة على رتل إمداد العدو وكان إنجاز فضل الله ورفاقه سبباً مباشرة في صدور الأوامر من قائد الثورة بشن هجوم مباغت على الفرنسيين في فجر اليوم التالي، فكان يوم نصر المزرعة التاريخي الذي ضعضع خطط الفرنسيين الحربية وكسر معنوياتهم وعنجهيتهم.

” عرض الكابتن الفرنسي ساعته وخاتمه كبادرة شكر فانتفض فضل الله وأجابه: أنا عفوت وروح أســــيري أغلــــى عندي من كل شــيء “

دار-المجاهد--فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان
دار-المجاهد–فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان

فضل الله الجريح يأسر ضابطاً
في معركة عرى التي هزم فيها الثوار استشهد نسيب الأطرش شيخ بلدة صلخد المقرب من سلطان، وكان رجلاً من كبار ثوار بني معروف الذين يجمعون بين الفروسية والخبرة الفطرية بالشؤون السياسية والاجتماعية، وكان أكبر منه سناً، وكان سلطان يخاطبه احتراماً بكلمة «عمي» فهو إلى جانبه منذ انطلاقة الثورة وصاحب رأي يؤخذ به في الملمات.
في تلك المعركة ألقت الطائرات الفرنسية حمماً من القنابل على المجاهدين، فأصيب فضل الله بإحدى عشرة شظية، أشدّها كانت في خاصرته اليمنى، وقد جاءت هذه على آثار جرح قديم كان قد أصيب به قبل نحو اثني عشر عاماً في مواجهة مع البدو. كان جرح الخاصرة مؤلماً جداً وكان ينزف دماً باستمرار وكان بمثابة حفرة فاغرة في جسد البطل، لكن فضل الله قررالتجالد على جراحه والسعي في تلك اللحظة للانتقام من الفرنسيين، فعصب على الجرح بكوفيته واستعد للقيام بعمل ما.
قبل ذلك كان سلطان باشا الذي رآه مصاباً بجراح قد نصحه بأخذ قسط من الراحة في عرمان على ان يعود بعد تعافيه، لكن فضل الله رفض، إذ لم يكن هذا البطل يكره شيئاً مثل القعود والبعد عن مقارعة المحتل.
نادى رفيقه في الجهاد سليم الدبيسي، المجاهد الذي كان في معركة عرى يقاتل بالقرب منه، فأعطاه لجام فرسه قائلاً له:«عد بفرسي هذه إلى عرمان إن بقيتَ حيّاً» ثم تركه واتجه غرباً باتجاه مواقع الفرنسيين التي كانت تصب نيرانها على الثوار المتمترسين خلف الصخور في وضع دفاعي حرج».
دهش الدبيسي وهو يرى زعيم قريته مستميتاً للقتال وهو مثخن بالجراح، واعتبر سلوكه نوعاً من الانتحار العبثي. فناداه صائحاً به:
ـــ ما بك، أجننت يا رجل؟
إلتفت إليه فضل الله وقال:
ــ أنا بكامل عقلي، إفطن لما أقول، وأشار بيده: ذاك الشرق، وهذا الشمال، وهذا الجنوب، وهذا هو الغرب، وأدار ظهره لصاحبه، وانطلق ببندقيته، متسللاً بين أكوام من الحجارة والصخور متّجهاً غرباً، وهو يطلق النار باتجاه الجيش الفرنسي، لا يكترث لكل ما يواجهه من أخطار. في هذا الوقت اتجه سليم شرقاً مع جماعات الثوار المنسحبين إلى التلال المشرفة على قرية رساس ليمنعوا توغل الفرنسيين باتجاه المرتفعات التي تسهل سيطرتهم على الجبل.
تمكّن فضل الله بمناورته وإصراره على فِعْل شيء ما، من التغلغل في جبهة القوات الفرنسية، والتي كانت تربكها مقاومة الثوار ومدفعيتهم التي كانت عبارة عن ثلاثة مدافع غنموها من الفرنسيين.
استطاع فضل الله أن يتخفّى بحيث يرى ولا يُرى، تربّص في مكانه لا يتحرك، وعندما شاهد سيارة تاكسي سوداء ترفع العلم الفرنسي ومن خلفها سيارة جيب، كان الكابتن في التاكسي يجلس خلف السائق، اعتبر أن هذه فرصته لينتقم ويثأر لابن عمه نسيب، شدّ الأسد الجريح عقدة كوفيته فوق عقاله، وتركهم يتقدّمون إلى أن صارت المسافة بينه وبينهم نحو مترين، هبّ عندها في وجههم وكأنه مارد انبثق من بطن الأرض، وصاح بهم آمراً أن لا يبدي أي منهم حركة أو يقتل.
أُخذ السائق والضابط لهول المفاجأة غير المتوقعة، فهما كانا يظنان أنهما في أرض مسيطر عليها من قبل قواتهم، لم يبديا حركة، ومن سيارة الجيب خلفهما قفز جنديان اثنان لكنه كان أسرع منهما في المبادرة، فقتلهما قبل أن يتمكنا من إطلاق النار عليه، وصوّب على السائق الذي جمد وراء مقود سيارته، وكان فضل الله منذ مطلع شبابه قنّاصاً يصيد الطائر بالتسديد عليه إلى الخلف مستعيناً بانعكاس صورته أمامه في مرآة!، ولم يشأ أن يفرّط بما لديه من الطلقات، فكانت عيناه مركّزتين على صيده الثمين، وكان بإمكانه أن يقتلهما ويعتبر نفسه أخذ بثأر ابن عمه نسيب، واستوفى، لكن إلهاماً جعله يقرر الاحتفاظ بهما، وكان يرقب أدنى حركة تصدر من الرجلين في السيارة، وهنا رجاه السائق متحدثاً بالعربية:
ــ « دخيلك لا تقتلني، أنا سوري من حمص».
كان الكابتن في مقعده الخلفي يرتعد خوفاً، أمر فضل الله السائق:
« قل له أن يرمي مسدسه على أرضية السيارة وينزل يركب حدّك».
نفّذ الكابتن الفرنسي الأمر فأمر فضل الله السائق أن يرمي بمسدّسه هو الآخر على المقعد الخلفي ثم تقدم وجلس خلف السائق ومسدسه مصوّب على رأسيهما. وقد تناول بيسراه المسدسين ودسّهما في عبّه، وأمر السائق أن يناوله مفاتيح السيارة ورجع باتجاه الجيب، فوجد فيها ثلاث بنادق، تناولها مع ثلاث من جعب الذخيرة، ومطرات الماء، كانت إحداها ملطخة بالدماء وعيناه على صيده في التاكسي.
رجع إلى محله خلف الرجلين، ناول السائق مفتاح السيارة، وأمره بالتقدم شمالاً باتجاه قبر البكوات (وهي مدافن المشايخ الأطارشة من دار الإمارة في عرى)، وهو الذي يعرف المكان جيداً، كان ينوي ضرب الحاجز بمن معه من الرهينتين اللذين في السيارة، وكان الفرنسيون قد أقاموا موقعاً عسكرياً في المكان، اقتربت السيارة من الموقع، ورأى الحارس السيارة التي ترفع العلم الفرنسي فحيّاهم، وتراجع إلى الخلف مطمئناً، ومضى باتجاه دشم الخيرة، ولم يردّ الكابتن التحية.
على يمين السيارة كانت طريق ترابية تتجه شرقاً باتجاه قرية رساس، في تلك اللحظات الحرجة خطر ببال فضل الله أن يتجه برهائنه عبرها، وكان يلتفت بين حين وآخر إلى الخلف خيفة أن يتبعه العدو من جهة عرى.

” قال الكابتن الفرنسي ناصحاً: في سوريا لا يقاومنا أحد سواكم، وستقضي فرنسا أخيراً على ثورتكم، وحرام أن يقضى عليكم، فأنتم لا تســــتحقون الأذى “

كان-الجو-متوترا-وبدا-أن-البدو-لم-يكونوا-مرتاحين-لوجود-سلطان-ورفاقه-في-مورد-الماء
كان-الجو-متوترا-وبدا-أن-البدو-لم-يكونوا-مرتاحين-لوجود-سلطان-ورفاقه-في-مورد-الماء
مفاجأة في رساس
اقتربت السيارة من أراضي غرب رساس، كانت لم تزل ترفع العلم الفرنسي، شكّ الثوار بأمرها، فأخذوا يطلقون الرصاص عليها، خاف فضل على حياته وعلى حياة رهينتيه، أمرهما أن ينزلا وينبطحا أرضاً من جانب السائق عند باب السيارة، أما هو فنزل خلفهما، وانبطح أرضاً، وربط كوفيته السوداء بفوّهة بارودته، وأخذ يلوّح بها بين آونة وأخرى أثناء هجوم الثوار، ومع تواصل تلويحه لهم بالكوفية توقف إطلاق الرصاص، وسمع فضل الله الثوار المتقدمين نحوه يقولون لبعضهم:«لا تطلقوا النار، لقد سلّموا»!.
في تلك اللحظة؛ هبّ فضل الله واقفاً، ونزل الثوار عن خيولهم مذهولين، وأخذوا يقبّلونه وهم يقولون: أما ذهبت إلى عرمان؟، كيف صبرت على جراحك؟
أجابهم مازحاً: الباشا بسلامته يريد أن يبعثني إلى عرمان على ظهر الفرنسيين، ها هم قدموا لي «تاكسي وكابتن مرافق»!.
إتجه فضل الله بالسيارة والسائق والكابتن جنوباً بعد أن ودّع الثوار، ومن رساس انطلق بهم إلى القريا، ومنها باتجاه الجنوب، كان في طريقه إلى عرمان، ومقابل مزرعة نمرة، قبل مفرق بصرى صارت عيناه تقمّران (أي تغبّشان فلا يرى بوضوح)، وشعر بدوخة،  حدّث نفسه:»يا إمام الزمان، في الحرب سَلِمْت ولم أُقتل، والآن إن غبت عن الوعي فقد أصبح أسيرهما، فيتجهان بي إلى بصرى» وسلّم أمره.
في تلك اللحظة ظهر أمامه شابان يافعان أحدهما في السابعة عشر من عمره أو نحوها، والثاني لا يتجاوز الرابعة عشر، كان الفتى الصغير حافياً، وكانا يتجهان جنوباً أمر فضل الله السائق أن يتوقف عندهما، وناول الشاب الكبير بارودة مما غنمه، قائلاً له: راقبهما وترجّل من السيارة، ثم أردف: «هذا كابتن فرنسي أنا أسرته، لا تغفل عنهما، أنا جريح وأُحس بدوخة».
أمسك فضل الله مطرة الماء، لقف منها بعضه على وجهه، فَتَرَوْحَن وتمضمض، وحمد ربه وقال للشابين :
– إلى أين طريقكما ؟
– إلى عند عمتي إلى بكا.نحن من قرية جديّا من آل الحسين .
أركبهما فضل الله جانبه في السيارة إلى بكا ، وهناك ودّعهما بعد أن تناول بارودة مما غنمه وأهداها للشاب، وتابع المسير باتجاه عرمان.
مظاهرة إبتهاج ليلية في عرمان
كان الليل قد لفّ بلدات وقرى الجبل الثائرعندما أقبل ضوء السيارة إلى عرمان هب أهل عرمان للحدث المجهول، إذ لا ضوء سيارة في ذلك الزمن إلاَ لمسؤول فرنسي كبير، وما إن وصلت السيارة إلى ساحة عرمان، وعُلم من بداخلها، حتى حمله شباب عرمان مبتهجين، يروي فضل الله:«وحدا بي شباب عرمان، وغنّوا، لكن جراحي كانت تؤلمني وهي لمّا تزل تنزف وهم يحملونني غصباً عني معتزين بي».
كان سليم الدبيسي قد وصل مساء بفرس فضل الله إلى عرمان، ولكنه لم يجرؤ على أن يذهب إلى الشيخ نجم أخي فضل الله ليخبره بما أقدم عليه أخوه من مغامرة اقتحامه مواقع الجيش الفرنسي،  فأعطى الفرس لأخيه محمد الدبيسي، وطلب منه أن يوصلها لبيت نجم ويبلغه أن أخاه فضل الله يفداك(أي قتل)، لكن محمد تهيّب من إبلاغ نجم بمقتل أخيه، فتريّث وكان يريد جمع أقاربه ليذهبوا وفداً ويبلغوا الشيخ نجم باستشهاد فضل الله. غير أنه لما شاع نبأ عودة فضل الله حياً، وعلم محمد بالأمر، هجم على أخيه سليم الذي كان يغط في نومه متعَباً مغموماً من مجريات يومه في مواجهة الفرنسيين في رساس،  شده من شعره الطويل وقال له:
«الله لا يوفقك يا خريب البيت، كدت أن تورّطنا مع الشيخ نجم، قوم شوف فضل الله عاد سالماً وكسب سيارة، وجلب معه أسيرين».
هبّ سليم من نومه، ومشى كالممسوس تتناوبه حال من ذهول ودهشة وفرح بعودة صاحبه فضل الله سالماً، وانطلق إليه ليهنئه بعودته المظفّرة.
الكابتن جان؛ في سجن مضافة الشيخ
وضع فضل الله شخصين، حَرَساً على الكابتن الأسير، أحدهما أبو فوزي يوسف صيموعة، وأوصاهما أن يحذرا من هروبهما، وأن يحافظا على حياتهما من انتقام ما. قال لهما:» تناوبا على حراستهما، لا تناما قبل نومهما، واستيقظا قبلهما…
كان الكابتن وسائقه يعاملان كضيفين في مضافة الشيخ، وبقيا فيها مدة ثمانية وعشرين يوماً، ومنذ نزوله المضافة استخرج الكابتن حقيبة طبية من السيارة وأمر السائق أن يداوي جراح فضل الله، ويعتني بأمره.
بعد نحو خمسة وعشرين يوماً جاء الأمير حسن الأطرش ومعه أحد وجهاء عرمان من الثوار بتكليف من الصليب الأحمر، قال الأمير حسن لفضل الله:«أبلغنا الفرنسيون بأنْ سلِّمونا الكابتن إذا كان على قيد الحياة لنسلمكم الأمير حمد الأطرش ومعه بعض الأسرى من الثوار، ولديكم فرصة ثلاثة أيام لتبلغونا موافقتكم».
أحسّ الكابتن بارتياح عارم، إذ أدرك انه سيتم الإفراج عنه قريباً، وعاد الأمير حسن وصاحبه ليبلغوا الفرنسيين بأن الكابتن لم يزل حيّاً ويلقى أفضل معاملة.
كان الكابتن أثناء أيام أسره يراقب ما يجري في سجنه الحضاري، مضافة بني معروف، حيث تُجرى المناقشات في مسائل الناس العامة، وحيث يتم حل المشاكل والخلافات بين المواطنين، وبين المواطنين والبدو، فيترجم له السائق كل ما يجري أمامه، فيخبط الكابتن على ركبتيه ويقول « آه من فرنسا التي تحارب هؤلاء الناس المتحضرين».
قال الكابتن مرّة للحمصي: « أريد أن أنفرد بفضل الله خارج المضافة لوحدي فالمضافة دوماً ملأى بالزائرين ».
نزل الرجلان ومعهما المترجم إلى غرفة تقع تحت المضافة في الدار؛ جلسا على انفراد والمترجم الحمصي يترجم، قال الكابتن:«أنت عفوت عن روحي، ومن واجبي أن أقدّم لك ما أملك، ساعتي وخاتمي».
جفل فضل الله وقد فاجأه العرض، قال بإباء:«أنا عفوت، ولست بحاجة لساعتك وخاتمك، وروح أسيري عندي أغلى منهما».
لم يكن الكابتن يتوقع رفض فضل الله لعرضه وقد فوجئ بأنَفَة آسره ورفضه لما اعتبره مكسباً ماديّاً رخيصاً فردّ عليه بالقول:
«بما أنك عفوت عني، لك عندي موقف عظيم جداً، وسأرشدكم أنتم الدروز إلى طريق الخلاص، لكن أرجوك ألاّ تفهم بأنّني أخون بلدي، لئن أخذتم بنصيحتي فسوف تخلصون من ورطة محاربة دولة عظمى كفرنسا، ومن دون أن ترقى نصيحتي هذه إلى خيانة بلدي، فقبل أن تأسرني بمدة أحد عشر يوماً ، كنت أنا من جملة ضباط فرنسيين وبريطانيين وقّعنا على معاهدة لضبط الحدود السورية لصالح دولتينا.
ما المعنى
يعني هذا أن يتوقف وصول أي سلاح ومساعدات تأتي إليكم من الأردن وفلسطين. خلاص: هذه  ليست مزحة، بل اتفاق بين دولتين عظميين، فلا ذخيرة ولا بارودة ولا عواض لكم. في المقابل يحق لفرنسا بموجب ذلك الاتفاق أن تجلب إمدادات من كل المستعمرات التي تسيطر عليها في الشرق وفي الغرب، فمن أين يا دروز سيأتيكم الإمداد؟ وها نحن نقاتلكم بأبناء عمكم، المرتزقة،
( يقصد السكادرونات وهي قوات عسكرية من شباب الدروز الذين سلّم أهلوهم بالسيطرة الفرنسية على سورية). وأضاف: مطلبي الأخير منك أن تقسم لي يميناً بالشرف العسكري ثلاثاً، ألاّ تخبر بحديثي هذا شخصاً آخر غير سلطان، وأرجوك أن تطلب منه قَسَمَاً مثلّثاً وأن يعمل بنصيحتي». فوافقه فضل الله على طلبه.
كان الكابتن بين حين وآخر يرجو فضل الله ألاّ يفهمه خطأ، وإنما هو باح له بالإتفاقية كنوع من العرفان، ورد الجميل، قال:«إنني أقدم لك هذه النصيحة التي لا ترقى إلى درجة الخيانة، وها نحن في سوريا لا يقاومنا أحد سواكم، وستقضي فرنسا أخيراً على ثورتكم، وحرام أن يقضى عليكم، فأنتم لا تستحقون الأذى».
من الواضح أن الكابتن كان يحذّر بني معروف الذين احترمهم وينصحهم بالالتحاق بإمارة شرق الأردن، وهو الأمر الذي لم يقبل به سلطان، ولا غالبية بني معروف، وهم ظلوا على موقفهم من طرد الفرنسيين من سوريا إلى أن تحقق الاستقلال.
بعد أيام جاء رجال من قبل قيادة الثورة، وتسلّموا الكابتن الأسير من فضل الله، وقد ودع الكابتن فضل الله باكياً عرفاناً منه بجميله عليه، وخَيّرَ فضل الله السائق الحمصي السوري بين البقاء مع الثوار، أو الذهاب مع صاحبه الكابتن، فاختار البقاء مع الضابط الفرنسي.
وكان فضل الله في تلك الفترة قد شفي من جراحه إلى حد ما، وكان ينتظر بلهفة ليعود إلى صفوف الثوار.
وصاحت-المرأة-العجوز-مين-منكم-فضل-الله
وصاحت-المرأة-العجوز-مين-منكم-فضل-الله

فضل الله مع سلطان
عندما وصل فضل الله إلى سلطان، كانت عملية تبادل الأسرى قد تمت، ولكن سلطان هزأ من نصيحة الكابتن، وقال لفضل الله:
«قبل أيام طرقناهم، وخسّرناهم في عدة مواقع، نحن لن نذهب جنوباً ( يعني بذلك إلى الأردن)، وسنبقى على صدورهم ونقلق راحتهم إلى أن يخرجوا من بلادنا».
لكن سلطان اعترف في معرض الحديث بأن شيئاً ما تبدل في مجرى الثورة. قال لفضل الله: «ولك يا فضل الله، من أيام، لا عايد ( عايد هذا هو رجل بدوي كان يتاجر ببيع السلاح للثوار) ولا أحد من البدو الذين كانوا يأتون إلينا من ناحية فلسطين والأردن، ويبيعون لنا السلاح والذخيرة، ما عدنا شفنا أحداً منهم».
قال فضل الله: نحن بمعيتك يا باشا، سواء بقينا هنا، أو ذهبنا للأردن.

فضل الله في معركة قيصما
بعيد معركة الصوخر، انتقل الثوار إلى قيصما، أدرك نجم أخو فضل الله أن الفرنسيين الذين كانوا يتتبعون حركة الثوار علموا بانتقالهم إلى قيصما، تلك القرية التي تقع في الجانب الجنوبي الشرقي من الجبل، وخشي من أن يباغتهم العدو وهم غافلون، فما كان منه إلاّ أن كتب على ورقة صغيرة ما يلي:«قل نذير ولا نَبي منكم جمايل»، ( أي أنا أحذّركم دون منّة)، وطوى الورقة بحيث لا تثير شبهة في ما لو وقعت بيد أحد ما، وأعطاها لخادمه، وحفّظه كلماتها، وأوصاه: «اذهب إلى فضل الله في قيصما، وأعطه هذه الورقة، ولئن فقدتها فأبلغه الكلمات».
مع وصول الرسول والرسالة أدرك فضل الله سرّ التحذير، وأن الفرنسيين علموا بوجودهم، فأبلغ سلطان الذي قال له:«شو عرّفك؟».
ناوله الورقة وقال له:» هذه رسالة وردتني مع خادم دارنا، بعثها أخي نجم».
قال سلطان:«ما فهمت على أخيك نجم».
فأوضح له فضل الله أن العبارة مأخوذة من جوفية (نوع من الحداء النجدي من ديار الجوف)، وفيها :
يا راكبـاً من فوق طوع الراس حايــل
بَــكــــرَةً هـــي منـــوة الطـــــــــارش معنّـــــى
سلّموا عَ الساكنين قصور حايل
وان لفيتوا حْمُوْد ردوا العلم منّا
قُل نذيـــــر ولا نــبي منــكم جمايــــل
الهرب يا تايهــــين الشـــــور عنّـا
وبيّن فضل الله لسلطان أن هذه قصيدة نذارة قديمة من التراث البدوي، وأن نجم يريد من خلالها أن يبلغ الثوار أن الفرنسيين علموا بوجودهم في قيصما، وعليهم أن يهربوا من مواجهتهم، فهم في نظره لا قدرة لهم على مواجهتهم، ومن الواضح أن نجم في هذه الوصية ينتقد سلطان، ومن معه من الثوار، ويستخدم النعت الوارد في الحداء لوصفهم بفساد الرأي (تايهين الشور)!.
هنا، قال سلطان لفضل الله:«إذا كان أخوك نجم يريدنا أن نهرب، ما في هرب. إن إجوا بكرة، لنا ولهم الله، والتفت إلى من حوله من أركانه المقربين:« حسّنوا استقاماتكم (متاريسكم) على خشاع حمد (هي مواقع صخرية مشرفة على ما حولها من الأرض) والمستعان بالله».
يروي فضل الله:«مع بزوغ الضوء نهضت، أمسكت بمنظاري متوجّساً، فأبصرت اسكادرونات ( أي سرايا عسكرية تابعة للفرنسيين)، للوهلة الأولى، كان الثوار نائمين لكن بلباس الميدان، لحظتها كدت أعرقل خوفاً، لقفت ماء على وجهي من طاسة المضافة المطلة على ما حولها، فعدت رجلاً، وصحت بمن حولي منذراً إياهم، كان سلطان في موقع قريب منّا يصيح بالثوار الذين أخذوا كامل أهبتهم للمواجهة:
«عَ الخيل»، (أي أنه يريد من الثوار أن لا يطلقوا رصاصهم على الرجال بل على خيولهم، ذلك لأنه يعلم أن غالبية خيالة الإسكادرونات هم من أبناء الدروز الذين سلّموا بالحكم الفرنسي، وهو لا يريد أن تكون مذبحة فيهم».
بعد معركة قيصما كان الثوار منتشين بنصرهم، وقد أسروا ضابطاً فرنسياً هو الملازم «سيكر» وابتهج أهالي قرية قيصما بنصر الثوار، وبأسرهم الضابط الفرنسي، فأولموا لهم، ولما لم يكن من مضافة تتسع للعدد الكبير من المجاهدين، فقد قدموا لهم مناسف الطعام على سطوح المنازل.
كان سلطان يغسل يديه بعد الأكل، وهو في هَمّ نقص الذخيرة والسلاح لتوقف البدو الذين كانوا يمدون الثوار بما يلزمهم منها من فلسطين والأردن، التفت إلى فضل الله ودعاه أن يقترب منه، عندها قال له:
«رَح نرجع لرأي زلمتك ( يقصد أسيره الفرنسي الكابتن جان)، عَبِدَرّجنا تدريج، ( أي إنه تنبّأ بما نحن فيه)، بكرة (أي غداً) منعمل اجتماع بالدّبّاكية ( مغارة قديمة على مسافة نحو اثني عشر كيلومتراً شرق ملح، شرقي الجبل، في خلّة من الأرض تدعى«خلّة البراقية»)، ومن يرغب أن يسلّم لفرنسا من الثوار ويقبل بالعيش تحت البنديرة الفرنساوية ( يعني علم فرنسا) فهو حر، ومن يحب أن يبقى معنا وينتقل جنوباً للأراضي الأردنية فأهلاً وسهلاً.
بعد الغداء المتأخر على سطوح قرية قيصما هبّ رجلان من أهل قرية الهويّا القريبة من قيصما، هما أبونايف حسين العطا لله، وأبو حمد هلال البربور قائلين:
«نرجوكم يا باشا، قبل ما تروحوا بكرة ( أي غداً) إلى الدبّاكية غداكم أنتم والجميع عندنا في الهويا»، وأصرّ الرجلان على دعوتهما، فوعدهما.
أما فضل الله وأهل عرمان ( بلدته)، فقد غادروا إلى عرمان القريبة من قيصما إلى الغرب منها بعدة كيلومترات على أمل الحضور في اليوم التالي إلى الهويّا، في حين توجه سلطان والثوار الآخرون ليناموا في الهويّا، وبقي فريق آخر من الثوار في قيصما على أمل أن يحضروا في اليوم التالي إلى دعوة الغداء في الهويا.

كانت-مدفعية-الفرنسيين-وطائراتهم-تقصف-الثوار-بعنف
كانت-مدفعية-الفرنسيين-وطائراتهم-تقصف-الثوار-بعنف

” قال سلطان لفضل الله: سنأخذ برأي زلمتك (الكابتن جان) وسنرحل إلى الأردن ومن أراد العيش في ظل علم فرنســــا فالأمر يعود إليه  ”

ياديرتي مالك علينا لوم
في اليوم التالي توجه فضل الله إلى الهويّا مع فريق من ثوار عرمان منهم المجاهد نجيب رزق، وباتجاه الهويا عبروا من قرب خربة خضراء شرق عرمان، وفيما هم مقدمون إلى الهويّا على ظهور خيولهم طلع فضل الله بالحداء الذي مطلعه:
«ياديرتي مالك علينا لوم..لا تعتبي لومك على من خان»، والذي غنّته في ما بعد المطربة أسمهان، وكان نجيب رزق بصوته الجهوري ومن برفقتهم من فرسان عرمان يرددون الحداء من بعده.
كان الثوار قد توزعوا في الهويا بين مضافتي حسين العطا الله ومضافة هلال البربور، وكان سلطان وفريق من الثوار، ومنهم أخوه الفارس الشاعر زيد ضيوفاً في مضافة حسين العطا الله، وعلى صوت حداء فضل الله وفرسان عرمان «ياديرتي مالك علينا لوم» أطل زيد من شباك المضافة المشرف على القادمين وأشار بيده مستفهماً، أي من هو ناظم هذا الحداء؟ فأشار له فضل الله أنها له، وأنها ولدت الآن، أي اليوم. ويؤكد الشاب يوسف الأطرش، وهو حفيد المجاهد فضل الله أن هذا الحداء هو أصلاً لجده وإن تنازع عليه المتنازعون، وأن في مذكرات علياء المنذر والدة فريد وأسمهان ما يدعم حجّته.

فضل الله في العمري
(من يفعل الخيرَ لايعدم جوازيه
لايذهب العُـف بين الله والناسِ)
بنتيجة الاتفاقية التي وقعت بين بريطانيا وفرنسا تلك الاتفاقية التي كشف عنها الكابتن جان لفضل الله الأطرش، انقطعت الإمدادات التي كانت تصل للثوار، واضطر سلطان العنيد (كما وصفه الجنرال أندريا)، المصرّ على استقلال سوريا أن يلجأ إلى بادية الأردن ونجد في السعودية مع من رافقه من الثوار السوريين واللبنانيين الذين كان في طليعتهم الأمير عادل أرسلان وغيرهم.

اجتماع متوتر مع البدو
كان سلطان ومرافقوه مخيّمين في موقع العمري، وهو عبارة عن بئر ماء في البادية تتوارد إليها القبائل لإرواء مواشيها، ولما كانت هناك ثارات سابقة بين بعض تلك القبائل وبين بني معروف، بسبب التنازع التاريخي بين الحضر والأعراب، فإن العديد من رجال القبائل قلبوا كوفّياتهم التي يضعونها على رؤوسهم، وهذا كناية عن إظهار المجافاة والعداوة وعدم الرضا عن وجود الثوار في هذا الموقع الحيوي الذي يعتبرونه ماء خاصّاً بهم.
كان الثوار مسلّحين، والبدو كذلك، واحمرّت العيون من الجانبين، وهنا ارتأى أحد كبار زعماء قبيلة بني صخر أن يدعو الثوار للعشاء كمبادرة للتقارب ولتناسي الماضي، ولا بدّ أن الزعيم القبلي كان يقدر أن الثوار اضطروا إلى اللجوء إلى ذلك المكان بسبب وطنيتهم واضطهادهم من قبل عدو دخيل على بلاد العرب.
قَبِلَ الثوار الدعوة على حذر وترقّب لما سيحدث، كانت بواريدهم بأيديهم معمّرة، وجلسوا ( خَلف خلاف) أي ظهراً لظهر خوفاً من أن يباغتهم عدوٌّ ما من الخلف، وقد حضر عدد قليل من وجهاء البدو، وكانوا ملثّمين بحيث لا تبين من وجوههم إلاّ العيون!.
لكن خلف وقف يرحّب بالثوار، «يا هلا بكم، يا هلا بسلطان وفضل الله».
ما إن لفظ خلف اسم فضل الله حتّى انطلق صوتٌ مدوٍّ مديد لامرأة بدوية عجوز:«أخللللللف»
لم يعبأ خلف بنداء المرأة، وتوجه للثوّار يريد ترطيب الموقف الذي يسطر عليه الوجوم والجفاء، وقال:« يا النشامى، نريد الحديث» أي إنه يريد من يتكلّم منهم.
لكن من يتكلّم في هذا الموقف؟، وسلطان قائدهم، ولن يتكلّم أحد قبله، وسلطان رجل قليل الكلام، والموقف في نقطة ما منه على حافة من دم وهاوية مبهمة…
لم تنتظر المرأة جواباً من خلف، فقد دخلت مقعد الرجال الذين ضاق بهم فسطاط الشيخ خلف فجلسوا أمامه في الفناء الواسع الممتد على رمال البادية، تجاوزت العجوز الجالسين حتى وقفت في مواجهة خلف، قالت له بصوت مدوٍّ:«من هو فضل الله من الطرشان»؟
قال خلف:« ما بو غيره»، أي ليس من أحد بإسمه هنا سواه، كان خلف يريد أن يختصر الكلام معها، ويتخلص مما أقدمت عليه من تجرّؤٍ لم يدرك معه مقصدها.
قالت:« أهو فيد عرمان؟»، أي: أهو من عرمان؟.
قال خلف:«إي والله، هو فيد عرمان».
هنا، نفد صبر المرأة، فأزاحت أخاها من كتفه، ووقفت في مواجهة مَنْ في المقعد من الرجال، وصرخت بصوت يشوبه قدر كبير من جفاء البداوة وسجيتها:
ــ يا دروز، من هو فضل الله منكم؟.
وقف فضل الله الذي كان يجلس قريباً من سلطان، وقال:« علامك يا عجوز؟» أي: ماذا تريدين؟
هجمت عليه متخطّية الرجال، ويروي فضل الله أنه رعب في تلك اللحظات الحرجة، وما إن وصلت إليه حتى وضعت يدها على كتفه، وبيدها الأخرى وضعتها على قفا رأسه، وطبعت قبلات على جبهته وعلى شاربيه ثم ابتعدت منه خطوة، وقالت:
«وحياة محمد (هي تقسم بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم)، الغلام اللي فكّيت روحه يوم الباير (هنا تقصد أن فضل الله أنقذ حياة ابنها في موقعة الباير، والباير هذا اسم مكان في الصحراء)، هو وحيدي، مالي غيره، هو وحيّد على أربع بنيّات، وهو اليوم بيّات في البريّة مع البوش( أي الإبل)، وباكر( أي غداً) هو يجيْ ويحب على رأسك ( أي يقبّل رأسك)» .

من-مضافات-عرمان-القديمة
من-مضافات-عرمان-القديمة

البدو يكرمون فضل الله
من الواضح أن البدوية العجوز لم تنسَ جميلاً قديماً صنعه فضل الله مع ولدها قبل الثورة، إذ كان عدد من فرسان عرمان يتعقّبون غزواً بدويّاً أغار على مواشيهم وفرّ بها إلى الصحراء، وقد لحق الفرسان بهم، وبينما كان بعضهم يمسك بإبنها الشاب، من جدائل شعره، أقبل عليهم فضل الله، وأنقذ الشاب من أيديهم، وسمعهم الفتى وهم يقولون «هذا فضل الله أخو نجم»، فأدرك الفتى البدوي أنه اسم الرجل الذي أنقذ حياته. كانت فرسه قد قتلت تحته، فعجز عن الهرب، وقد تركه فضل الله يعود لأهله حيّاً، ولم يطلب من وراء ذلك مكسباً.
دهش الحاضرون لأمر العجوز وابنها، وأكبروا شهامة فضل الله ونبالته، وأخذ الحاضرون من البدو يطلقون النار في الهواء وحملوا فضل الله مبتهجين، ورحّب البدو الحاضرون بالثوار من جديد، وأفاضوا في الأيام التالية بالولائم والذبائح تكريماً لبني معروف وشيمهم العربية الأصيلة.
كان نهار بن جلباط ابناً لأحد زعماء عشيرة الزَّبْن، وهم شيوخ قبيلة بني صخر، هو نفسه الغلام الذي وقع بيد فرسان عرمان عندما كان في الخامسة عشر من عمره يوم وقعة الباير، لكنه اليوم أصبح شابّاً بالغاً في مطلع العشرينيات، هجم على فضل الله وأخذ يقبّل رأسه:
«أنت فكّيت رقبتي من عزرايل».
وهكذا أخذ الشاب نهار يتابع فضل الله كيفما اتجه، كما صار يدعوه بلقب «عمّي» تقرّباً منه، واعترافاً بفضله، ويأتي له وللثوار بجمال محمّلة زاداً وكثأ، ويجالسه كإبن بار بأبيه.

فضل الله وحملة الشيشكلي
كان ثوار بني معروف قد عادوا أعزاء بعد اثني عشر عاماً أمضوها في المنافي في بوادي الأردن، وصحراء نجد في السعودية، وقد ظلوا بالتعاون مع القوى الوطنية في داخل سوريا يشكلون ضغطاً اجتماعيّاً وسياسياً على سلطات الاحتلال الفرنسي إلى أن اعترفت باستقلال سورية ولبنان عام 1936، وعندما اجتمع الثوار في عمّان تمهيداً للعودة إلى سورية، أيد سلطان باشا تبديل تسمية «جبل الدروز» (كما كان يدعوه العثمانيون) بتسمية «جبل العرب»، لكن في العام 1954 عمد الضابط الانقلابي أديب الشيشكلي إلى مصادرة الحريات وفرض على البلاد حكماً دكتاتورياً مستبداً.
أرسل الشيشكلي قواته إلى جبل العرب بهدف اعتقال سلطان، ووأد الحركة الوطنية المطالبة بالديموقراطية في سوريا، واضطر سلطان لمغادرة سوريا، ولم يكن أمامه من خيار سوى اللجوء إلى الأراضي الأردنية، وتجنب المواجهة مع قوات الجيش السوري المرسلة لاعتقاله حقناً لدماء الجيش والمواطنين على السواء، ولكن القوات التي أرسلها الديكتاتور المستبد ارتكبت فظائع بحق مواطني السويداء.
كان فضل الله حينذاك مريضاً لا يقوى على مغادرة فراش مرضه، فوقع تحت رحمة جند الشيشكلي المكلّفين بالتنكيل ببني معروف، جاءه رقيب وهدده:«نقتلك أو تعطينا معلومات عن نشاطات سلطان وتحرّكاته».
قال له فضل الله:«من حقكم أن تفعلوا بنا ما تشاؤون، بل وأكثر من ذلك بكثير، فنحن من حررنا سوريا لتستلموها غنيمة باردة، لقد وصلت حوافر خيولنا في مقاتلة الفرنسيين إلى غوطة دمشق وراشيا وحمص وحماة وحلب، وهذا عملكم مكافأة لنا».
أجابه رقيب الشيشكلي معارضاً إياه:« أأنتم كنتم تدافعون عن تلك المناطق؟، لا والله، بل كنتم تدافعون عن الأبقار التي تحرثون عليها، أعطني اسم ثائر واحد من الغوطة إن كنت تعرفه. أنتم الدروز كل واحد منكم صار يعمل من نفسه ثائراً».
قال له فضل الله: اسمع يا بني وسجل عندك إذا كنت تريد أن تعرف حقيقة جهاد بني معروف، هذه أسماء بعض من عرفتهم من رفاق الجهاد في معارك غوطة الشام أيام الثورة التي تنكر جهدنا فيها، وها هم: «محمد المهايني وعبد الغني نجيب وحسن مقبعة وحسن الخراط وأبو عبدو الشيخ وشوكت العائدي وأولاد الأظن وخيرو اللبابيدي، وشخص من آل السمّان، غاب اسمه من بالي، والسمان هذا كان معه ابن عم له استشهد معنا في إحدى معارك الغوطة، دفناه تحت شجرة ضخمة، غرب ساقية ماء عليها جسر خشبي، كان أصلاً صندوق سيارة شحن، وكان ساعتها رصاص القوات الفرنسية ينصب علينا كالمطر، كان فريق منا يجهز المدفن، وآخرون يناوشون القوات الفرنسية، ولم نتركه في العراء للوحوش والطير…
لم يدع الرقيب فضل الله يكمل حديثه، وارتمى بصدره عليه يقبل رأسه وشاربيه وهو يقول:«سامحني يا عم، السمان هذا أبي، قسماً بالله لو قطعوا حنجرتي لن يؤذيكم أحد» .
هذه مختارات من وقائع ومواقف فضل الله النجم الأطرش البطولية، هي من تراث بني معروف الغني بالمآثر، ومن حق الرجل علينا أن ندوّن سيرته بأمانة لتكون مثالاً يقتدي به الأبناء والأحفاد.

وصية الشاعر رشيد نخلة ويوم وطني حافل في الباروك

الشاعر والأديب رشيد نخلة
الشاعر والأديب رشيد نخلة

زارني رجل دين مثقف تغزر ذاكرته بالمآثر الشعبية من بلدة الباروك وقال لي:«لقد أعجبني كتابك «مآثر وعبر» فوددت أن أقدم مساهمة متواضعة في تدوين تراثنا المجيد وحفظ القيم التي تميّز قومنا، وأنا أتحدث عن واقعة كنت شاهداً عليها وهي حرية بأن تحفظ في خزانة الذاكرة وأوراق الزمن، قال:

« كنت أواخر طفولتي، عندما توفي ابن بلدتنا الشاعر الكبير رشيد بك نخلة، ذلك الشاعر الخالد بشعره ووطنيته. والواقع إذا استعرضنا تاريخ نشاطه الأدبي الشعري، نرى أنه كان يجمع الإثنين معاً، الشعر الفصيح والشعر الزجلي، وإن يكن بحق قد تربّع على عرش إمارة الشعر الزجلي الشعبي لأمد طويل..

ومما يذكره الشاعر رشيد نخلة في مذكّراته عن الشعر الزجلي، يقول إنه زار لبنان وسوريا سنة 1914 الشاعر الفرنسي الشهير (موريس بارس)، والتقاه في بلدته الباروك، فقال: « الآن عرفت ما كنت أجهله. أنتم جماعة الشعراء الشعبيين تعيشون في بيوت الناس وذاكرتهم اليومية، أما نحن فنعيش في كتبهم ومكتباتهم الأنيقة، فلا عجب أننا نرى أنكم أشدّ حرارة وأكثر شعبية منّا».

 وعند وفاة الرئيس حبيب باشا السعد، ثاني رئيس للجمهورية اللبنانية، أقيم له مأتمٌ حاشدٌ في بلدته عين تراز، أمّته وفود غفيرة من جميع المناطق اللبنانية، وكان من جملة تلك الوفود، وفد العرقوب (القرى المحيطة ببلدة الباروك)، تتقدمها بيارق القرى المتداولة آنذاك، وخلفها الشاعر الكبير رشيد نخلة، يحوطه رتل كبير من الشباب، يرددون الندب. وعند مثول الوفد أمام النعش، توقف الشاعر وقال:

لبنــــــــــــان لــويـــــــــــــــن مـــــــــــــــفارقــــــــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ولـميــن مدشّــــــر فيالقهـــــــا

ولأجلــك العرقــــــوب صــــارت تنكّـــــــس اليــــوم بيارقـهـــــــا

فنُكّسـت البيارق، وساد الصمت التزاماً بقول الشاعر.

أمّا عن حياته في بلدته الباروك ومنطقة الشوف، فيقول الشيخ المذكور أنّ الشاعر كان على أوثق الروابط مع جميع العائلات على اختلاف انتماءاتها ومعتقدها، ولا سيّما مع زعيمة دار المختارة آنذاك السيدة نظيرة جنبلاط كذلك مع مشايخ آل عماد وآل أبو علوان وسواهما، حتى أنه أوصى في وصيته الشهيرة قائلاً: «أرجو من رجال الكنيسة المحترمين أن لا يقيموا الصّلاة عن راحة نفسي إلاّ في الباحة العامة لبلدة الباروك» وقصده من ذلك أن يتمكّن الجميع من الحضور والمشاركة وأن يكون مأتمه احتفالاً وطنياً خصوصاً لأهل الباروك.

ويكمل الشيخ فيقول: «لم يزل أمام مخيلتي مشهد لا يبرح ذاكرتي وهو عندما وقف المطران أوغسطين بستاني أمام سطوح آل أبو علوان ونادى على الجميع قائلاً:

«بناء على وصية الفقيد الكبير، تحذير، تحذير!! يمنع منعاً باتاً حمل النعش إلاّ من قبل دروز الباروك فقط».

وهكذا تمكّن دروز الباروك من حمل نعش من حمل معهم.

معركة مسيفرة

معركة المسيفرة

(كما رواها أحد الجنود الفرنسيين المشاركين فيها)

شهادة عسكري فرنسي عن بطولات تفوق الوصف
سطرها الثوار في أصعب معارك الثورة السورية

كان الدروز يقاتلون وهم جرحى، إلى آخر طلقة
ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية

بعد المعركة، خسائر الثوار كانت جسيمة

تعتبر معركة المسيفرة بين أكبر وأشرس المعارك التي خاضها مجاهدو الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وقد انتهت تلك المعركة بهزيمة للثوار وخسائر فادحة في الأرواح قدرت بنحو 250 قتيلاً وسقط عشرات الجرحي دون أن يتمكن الثوار من نقلهم فأجهز الفرنسيون عليهم. لكن معركة المسيفرة التي كانت قراراً غير حكيم من بعض المجاهدين المتحمسين ورغم معارضة واضحة من سلطان باشا الأطرش (الذي أدرك بخبرته العسكرية صعوبة الأرض وانكشافها) دخلت التاريخ من باب آخر هو حجم البطولات الأسطورية التي سطرها المجاهدون في وجه جيش أوروبي متفوق جداً عليهم في كل شيء ولاسيما عديد الجيش والأسلحة الرشاشة والثقيلة والمدفعية والطيران فضلاً عن الاستراتيجيا الحربية، وكانت شجاعة المقاتلين الدروز من النوع الذي لا يبالي بشيء ويقبل على الموت بإحساس الذاهب إلى نزهة، وقد عدّها البعض في ما بعد أقرب إلى التهور والحماس غير المنضبط بخطة حقيقية للنصر.
وإذا كان هناك أي شك في أن الدروز بالغوا في رواية البطولات التي سطروها في المسيفرة فإن رواية العسكري الفرنسي غوتيه الذي يعدّ الاستاذ نبيل أبو صعب ترجمة لكتابه «الفرقة الأجنبية» تقدّم تصويراً حياً من الخصم نفسه لتلك البطولات التي فاقت الوصف فعلاً بشهادة الجندي الفرنسي الذي شارك فيها.
رغم ذلك وكما سيتبين من رواية غوتيه عن هذه الملحمة المرعبة فإن الدروز كانوا من دون أن يدركوا على شفا الانتصار فعلاً لأن الفرنسيين المتمترسين خلف أعشاش الرشاشات (وكانوا فعلاً أكثر من أوقع القتلى والجرحى في صفوف المجاهدين) كانوا قد فقدوا معظم ذخيرتهم في انتظار النجدة الموعودة من غاملان وكانوا بدأوا يتحضرون لنهاية مروعة على يد الثوار في ما لو أدرك هؤلاء أن ذخيرتهم نفدت فعلاً وأن الطريق أصبح مفتوحاً أمام هجوم نهائي كاسح.
كان الجنود والضباط الفرنسيون في البدء واثقين جداً من تحصيناتهم بل كانوا مغتبطين بحجم القتل الذي كانوا يوقعونه في المهاجمين المندفعين كالأعصار في كل اتجاه على خيولهم أو زحفاً على بطونهم أو انقضاضاً على المتاريس التي تصليهم النار، كان المجاهدون الدروز في نظر هذا الجيش النظامي كائنات غريبة متوحشة تستحق القتل وليس أناس ذوو كرامة يدافعون عن وجودهم واستقلالهم، لذلك وكما يتبين من رواية غوتيه فإن الفرنسيين كانوا في متاريسهم المحصنة «يتسلون» بقتل المهاجمين ويتهكمون كما لو كانوا في حفلة صيد. وحسب مؤلف كتاب معركة المسيفرة الفرنسي فإن ذخائر الفرنسيين كانت فعلاً على وشك النفاد وأنهم بدأوا يخافون من أن يلحظ الدروز تراجع وتيرة إطلاق النار من جانبهم توفيراً للذخيرة وان يدركوا الوضع البائس الحقيقي للمدافعين فينزلون عليهم كالسيل ويبيدونهم عن آخرهم، بل إن الفرنسيين بدوا كما لو أنهم يعدون أنفسهم لتلك اللحظة الرهيبة عندما فوجئوا هم بانسحاب المقاتلين الدروز فقد بلغتهم أنباء تقدم جيش غاملان لفك الحصار عن القوة الفرنسية في المسيفرة فخشوا أن يقعوا بين نارين، نار المدافعين ونار الجيش الزاحف لنجدة القوة المحاصرة.
لهذا السبب ربما اعتبر المجاهد عبد الرحمن الشهبندر معركة المسيفرة «انتصاراً» لأن الدروز في نظره خاضوا فيها معركة ضارية زاخرة بالبطولات ولأنهم كانوا على وشك أن يقضوا على القوة الفرنسية لولا أنهم اتخذوا في اللحظة الأخيرة قراراً بالإنسحاب، لكن الشهبندر انفرد في رأيه عن كثيرين مثل الدكتور حسن البعيني من الذين اعتبروا موقعة المسيفرة نكسة لمجاهدي الثورة خصوصاً وأنها جاءت بعد نحو ستة أسابيع فقط من انتصار معركة المزرعة الساحق على الفرنسيين.

المعركة
كنا قد أمضينا ثمانية أيام في معسكر غزالة عندما تلقينا الأمر بالإنتقال إلى المسيفرة. كان المطلوب أن نقيم فيها مركزاً متقدماً وأن نصمد فيها بأي ثمن، وقد بتنا الآن مع سريتي الفرقة الأجنبية اللتين انضممنا إليهما في غزالة، نشكل كتيبة. ثمانية عشر كيلومتراً من السير في البلد متتبعين قمم الهضاب، نمشي وسط الغبار محمّلين بأمتعتنا الثقيلة تحت شمس حارقة وفي خط سير محروم من قطرة ماء.
تختلف المسيفرة تماماً عن غزالة فنحن هنا في قلب المنطقة غير الخاضعة. لم تكن القرية سوى تجمع محزن لمنازل بسطوح مستوية حول مسجد مركزي. سكانها القلائل البائسون الذين لم يهربوا كانوا ينظرون إلينا خفية، وسرعان ما سنعلم أنهم يضعون يدهم بيد العدو وبأنهم يزودون الجواسيس الدروز بكل التفاصيل المتعلقة بتحركاتنا وبأعدادنا وعتادنا.
كان الماء يُنقل إلينا من مكان بعيد بواسطة قافلة من الجمال، وكان أسوأ ماء شربته في حياتي، آسناً ونتناً، وكنا حينما يبلغ بنا العطش أشده، نقوم بتصفيته بمناديلنا – حيث كنا نجد عليها بعض الديدان. ما إن وصلنا حتى جلجلت الصرخة المخيفة : «إلى الأسوار ! «
هذه المرة، لن نقيم سوراً وحيداً كما هو الحال في بصرى، بل ستة معسكرات صغيرة متباينة والتي ستحيط بالقرية تماماً بالإضافة إلى معسكر في الوسط. وسوف تُرتب هذه المعسكرات بطريقة تستطيع معها تبادل الدعم في حال الهجوم، وكل معسكر تدافع عنه فصيلتان، بينما سيستقر القائد وهيئة أركان الكتيبة في منزل حصين مبني من الحجارة بالقرب من المسجد، في حين أن سرية الخيالة التي ترافقنا – من فرقة الخيالة الأجنبية، المؤلفة بغالبيتها من القوزاق – سوف تقيم في القرية ذاتها. وبالقدر ذاته تشكل المعسكرات وحدات مستقلة ويجب أن تسهر على أمنها الخاص. فعلى كل مدافع من خلف فتحة رمايته أن يحمي جبهة من خمسة أمتار تقريباً. وبسبب النقص في الأسلاك الشائكة، لن نستطيع مدَّ إلا شبكة رفيعة جداً منها خارج المتراس.
أية مهمة صعبة كانت مهمة بناء الأسوار! كان الطقس حاراً جداً ولم يكن لدينا إلا القليل جداً من الماء، أما الظل فلا وجود له في أي مكان، وحتى داخل الخيمة كان سعيراً حقيقياً. كانت الحصة اليومية من المياه أربع مطرات من سائل آسن وفاسد تحدثت عنه سابقاً. وبما أن نصف الكمية كان يذهب إلى المطبخ فلم يكن يبقى لكل رجل إلا أربعة لترات من الماء يومياً لأجل شربه وغسيله والعناية بعتاده، لم نعد نحلق ذقوننا أو نغتسل مطلقاً. وفي الواقع كنا نفقد نصف الماء في محاولة تصفيته. وسرعان ما أصبح منظرنا مخيفاً بذقوننا الشائكة وشعورنا الطويلة. كان الهواء محمّلاً دائماً بالغبار، كنا نعيش وسط القذارة، لكن بنادقنا كانت مصانة بشكل رائع.
بعد انجاز بناء المعسكر صدرت الأوامر بإعداد مهبط للطيران، فكان ينبغي أن نقتلع الحجارة لمسافة طويلة ونردم الحفر، كنا ونحن المتعبين والعراة حتى الخصر نبدو كقطاع الطرق.
ومن موقعنا، كنا نرى بوضوح موقع السويداء المحاصر بعيداً جداً في الجبل. وما بدا لي، أول مرة، نقطة مضيئة تحت ضوء الشمس، يأخذ اليوم شكل مدينة قوية ترفع فوق إحدى القمم أسوارها العالية. في الوسط القلعة المحاصرة، عالية وبيضاء تحت الراية الثلاثية الألوان، وهذه لا تبدو بالنسبة الى موقعنا أوسع من منديل جيب يخفق مع النسيم بما يشبه الفرح. كنا على اتصال دائم مع الحامية، نهاراً بواسطة المبرقة الشمسية، وليلاً بواسطة منارة ومضية. كنا نستطيع ونحن نعمل، تتبع الإشارات. ولكننا، ونحن الجنود مرتبة، كنا نجهل معاني كل هذه الرسائل، لكننا كنا نعرف أن المدافعين محاصرون حصاراً شديداً وكنا نتخيل المراحل المأساوية – نفتقد الماء أو الغذاء، الجرحى يُحتضرون الخ. . . . وكانت الرسائل تستدعي أحياناً استنفاراً مباشراً، إذ تنطلق من غزالة طائرات قاذفة، تمرّ من فوق رؤوسنا وتذهب لتحوم فوق الموقع، وترمي قذائفها حول القلعة. عندئذ تختفي المدينة والقلعة وسط عواصف من الغبار والدخان ترتفع نحو السماء.
غداة وصول الكتيبة إلى المسيفرة، قمنا باستطلاعنا الأول، ثمة هضبة تواجه معسكرنا، وكانت قنابل طيارينا قد دمرت قرية على السفح المعاكس. كان على مفرزة ما الوصول إلى تلك القرية ومراقبة تحركات العدو. كان الاستطلاع يضم سرية (التاسعة عشرة) وسرية من الخيالة. أما السرية التاسعة والعشرون فقد ظلت في المعسكر.
وما إن اجتازت المفرزة القمة حتى لم نعد نعرف ما الذي يحصل. فقد سمعنا فجأة إطلاق نار كثيف، ثم كانت عودة الاستطلاع حاملين عدة جرحى، وحُمِّلت جثةُ رقيب فوق سرج حصان بالعرض، فقد صادفوا فريقاً قوياً من الأعداء ووقعت معركة حامية. وقد رفض الملازم أول الذي كان يقود المجموعة بحكمة دفع المعركة إلى مدى أبعد وأن يورط رجاله فيها إلى النهاية. وقد قتل الرقيب على الفور فوق ظهر حصانه برصاصة في الرأس. دفناه بعيداً قليلاً عن المعسكر، ووضعنا صليباً بسيطاً على القبر تعلوه قبعته العسكرية.
هذه الطلعة أثارت حماسنا: شعرنا أنها الحرب جدياً. زادت الحراسة ثلاثة أضعاف ونام رماة الرشاشات بالقرب منها ونمت مثل بقية الجنود أسفل السور عند فتحة الرمي الخاصة بي، سلاحي فوق ذراعي، وكمية من القنابل اليدوية عند قدميَّ.
كنا ننام دائماً هكذا، البندقية مربوطة بالذراع، لأن الدروز كانوا ذوي مهارة لا مثيل لها، وتصل الجرأة بهم حد التسلل زحفاً تحت جنح الظلام إلى قلب المعسكرات لينتزعوا بندقية أحد النيام المطمأنين، ثم يختفون بعد ذلك مع غنيمتهم، وليس دون أن يحزّوا تماماً، عنق المسروق. لم نكن نكتفي فقط بإدخال الذراع في الحمالة، بل كنا ننام بالمعنى الحرفي فوق أسلحتنا.
السور المنخفض والمبني على عجل كان يأوي فصيلتين من الكتيبة ورشاشين أي حوالي سبعين مقاتلاً. وكان كل معقل من المعاقل الأخرى محمياً بعدد مساو من المقاتلين. في القرية، القائد وأركان قيادته كانوا يتحصنون في منزل حجري محاط بشبكة من الأسلاك الشائكة بالقرب من المسجد، وكان للخيالة معقلهم الخاص. في الإجمال، ستمائة رجل على الأكثر.
عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، اعتقد رقيب، كان يقوم بجولة على المواقع المتقدمة، أنه سمع دحرجة حجر على السفح الذي يتجه نحو معسكرنا. وضع أذنه على الأرض، وتبين ما يشبه الضجة: أحجار تتدحرج، وجمال ترغي، فأطلق صيحة:« إلى السلاح !».
وطارت الصرخة من فم إلى فم. نهضنا، بنادقنا في فتحات الرمي، كنا ننتظر مستعدين في عتمة ليل جليدي.

بلدة المسيفرة اليوم
بلدة المسيفرة اليوم

في البداية لاشيء
في الليلة السابقة، جرى استنفارنا خطأً. فقد أطلق شاب برتغالي، لا أطول من جزمة، متخلف عقلياً، وهدفه المزاح، صيحة التحذير أثناء نوبته، أطلق رصاصة من بندقيته. فهرع الجميع إلى المتاريس، وأُطلقت القنابل المضيئة، كل ذلك كان بسبب كلب مسكين، هرب يجر ساقه.
واعتقدنا أن الأمر ذاته سيتكرر هذه الليلة، وبدأ الرجال، من بين أسنانهم، ينهالون بأوصاف غير لائقة على أسلاف ذاك الذي أيقظهم. « أقطع يدي إن كانت ستقع أصغر معركة ! « كنت أفكر، في اللحظة ذاتها اخترق الظلمة بريق وأزّت رصاصة فوق رأسي. وفجأة، اشتعل الليل بوميض الطلقات النارية، وغردت سحب من القذائف فوق المعسكر أو انزلقت ناعقة فوق المتاريس. واستطعنا أن نرى في ضوء قنبلة مضيئة، أن سفح التلة والسهل الذي يفصلنا عنها، أي كل الأرض أمامنا اختفت تحت سيل من الأشباح الصامتين، الذين أفرغنا فيهم مخازن بنادقنا، وما إن أدركوا أن القنبلة المضيئة كشفت أمرهم حتى انفجروا في صيحات وحشية.
ونحن أيضاً، أخذنا نصرخ. في المعركة يصرخ المرء دون أن يعرف لماذا. في البداية كنت عصبياً، فالبندقية تحتوي على دافع يجب إعادته للخلف من أجل ملء المخزن، وبعد أن أطلقت رصاصاتي الثماني الأمر الذي لا يستغرق وقتاً طويلاً، أردت إعادة تعبئة المخزن، لكنني نسيت الزر، كل خرطوشة كنت أضعها في بيت الطلقات كانت تُقذف نحو الخارج، أدركت غلطتي أخيراً وبفعل احتدام وهيجان المعركة، كنت أطلق، وأطلق إلى أن صار أستون البندقية يحرق أصابعي. كنت أظن نفسي صامتاً تماماً، ومع ذلك فما زلت أرى الملازم اول فيرنو يقترب مني ويدعوني لعدم الصراخ عالياً مقدماً لي هذه الملاحظة المحقة :«عندما تصرخ على هذا النحو فإنك تدل العدو على موقعك».
كانت المعركة في البداية شديدة الغموض، فالقليل جداً من القذائف المضيئة أطلقت والعتمة حالكة جداً. ولأن العتمة كانت تخططها طلقات العدو بخطوط مضيئة، فقد كنا نردّ باتجاه مصادر تلك الخطوط. وقد نجحت مجموعة من الأعداء في شق طريقها بين المعسكرات واجتاحت القرية. صمد المعسكر المركزي ومقر هيئة القيادة بقوة لكن مقر الفرسان تمّ اقتحامه وجرى ذبح الحامية المؤلفة من تسعة وعشرين قوزاقياً والاستيلاء على جياد سرية الفرسان.
يمكن أن تستولي على الجياد إما أن تقودها خارجاً فهذه قصة أخرى. حينما كان القبليون المتوحشون يعدون عبر أزقة القرية كان الفجر قد بدأ ينشر ضوءه المخضر وبدأنا نرى عبره. الحصان أضخم من رجل ويعرض لأن يكون هدفاً آخر، فكنا نصوب نيران أسلحتنا نحو الأشباح المرئية مع طلوع الضوء. صحيح أنها خيولنا لكن قلما همنا ذلك، فبعد سقوط الحيوان كنا نصوب على الفارس الذي سقط عن ظهره. بالتأكيد تمكن بعضهم من الإفلات من رمينا المتواصل، على الرغم من انشغالنا بأخوتهم الذين كانوا يمطروننا من فوق التلة بوابل من النيران.
طلع النهار تقريباً، وساد جو من السكون. في معقلنا الصغير، أفضل الرماة فقط ظلوا متشبثين بفتحات رميهم حيث كانوا يتبادلون إطلاق النار مع رماة منعزلين، في حين أننا خلدنا نحن الآخرون، إلى الراحة جالسين مستندين إلى المتراس وقد ظن بعض الجنود الجدد أن المعركة انتهت. في الواقع، لم تكن تلك إلا مناوشة بسيطة، مناورة ابتدائية، والتي لاقت بالنسبة الى المهاجمين نصيباً وافراً من النجاح لأنها جعلتنا من دون خيالة.
في اللحظة التي انبلج فيها ضوء النهار تماماً، دوّت مجدداً صرخة « إلى السلاح! » وهرعنا إلى فتحات إطلاق النار.
المشهد الذي ينتظرنا كان خارقاً وقادراً على إثارة الرعب فينا لو لم تكن نشوة المعركة قد أثملتنا سلفاً. فمن أعلاه إلى أسفله، كان سفح الهضبة كله مغطى بموج متلاطم من الدروز الذي بدا وكأنه يسحب الأرض معه في مدّه الجارف. كانوا، ما بين فارس وراجل، خمسة آلاف على الأقل. وكان المشاة يسيرون في المقدمة، تتبعهم مباشرة الخيالة المستعدون للهجوم من خلال الفتحات ما بين المشاة لاستثمار النجاح. كانوا جميعهم يحملون عتاد معركة خفيفاً، دون برنس، فقط جلباب قصير، غطاء رأس ملون يخفق خلف الرقبة. كانوا يلوحون بأسلحتهم ويتقدمون هادرين، يتقدمهم الأمير محاطاً بأربع رايات سوداء واسعة.
حسبت، بداية، أنني أحلم. كان الأمير في المقدمة وسط أربع رايات سوداء، فوق حصان أصيل، يحمل أسلحة تعود للقرون الوسطى: زرد وخوذة مشبكة، كما نرى في المتاحف – أسلحة استخدمت ربما منذ قرون عديدة في الحرب ضد الصليبيين الفرنجة!
وعلى الرغم من دويّ الرشاشات وفرقعة بنادق الليل، فإن مدّ المهاجمين ظل يتمدد بموجات متلاحقة وحملوا بحماس شديد وهم يزأرون مثل الجن: «لا إله إلا الله ! لا إله إلا الله !»
كان هجومهم يشمل كل المعسكرات لكن بدا لنا أنه علينا وحدنا، على معقلنا الصغير ورجاله الستين أو السبعين، تنقضُّ هذه الآلاف من المتحمسين، لم يكونوا مجرد متحمسين، في نهاية المطاف، إذ لم تكن تنقصهم البنادق الجيدة، والذخائر الممتازة وقنابل ألمانية على شكل يد الهاون، يخال للمرء أنه يشهد مباراة بكرة القدم : فثمة سلسلة من الهجمات المتكررة التي لم تترك لنا الوقت لالتقاط أنفاسنا. ومن دون انقطاع، كان زبد أمواج الهجمات ينتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا. كنت أطلق إلى أن تصبح بندقيتي حارقة وتدخن بين يديَّ، عند ذلك أتركها لأقذف القنابل اليدوية بانتظار أن تبرد ثانية.
في غضون ذلك، استطعت أن ألمح مشهداً غريباً ومهيباً. لم يؤد الهجوم الأول إلى الاستيلاء على أيٍّ من مواقعنا، لكنه أوصل المهاجمين حتى القرية على يميننا. تقريباً في وسط القرية، ومن جهتنا كانت تقوم تلعة خندق مشكلّة موقعاً متميزاً. ومثل موجة تتدفق نحو الشاطئ تسلق الأمير الربوة مع راياته السوداء الأربع. هناك، وبعد أن جعل حصانه يدور واقفاً على قائمتيه الخلفيتين أخذ موقعه في مواجهتنا بينما كان حراسه يقومون بغرس الرايات بقوة في الهضبة، تعبيراً عن احتلال نهائي لها. ثم ترجل، وتسلم، هادئاً، تحت الرايات الخفاقة، إدارة المعركة. وسرعان ما امتلأت السطوح المستوية بالرماة المنفردين الذين كانوا يخرقوّننا بالطلقات التي لم نكن نستطيع الرد عليها، لأننا كنا مشغولين بالتصدي للهجمات القادمة من السهل.
من دون انقطاع، كانت الموجات تتلو الموجات، وكان المنحدر الذي يسهل اندفاعهم مزروعاً بالصخور ومحصناً بالحيطان الواطئة التي كان الخصم يلوذ خلفها قبل القفزة الأخيرة في العراء. كالسيل الكبير كان الدروز يهبطون السفح من حجر إلى حجر ومن حائط إلى حائط ليندفعوا بأقصى جهدهم حتى قاعدة متاريسنا، على الرغم من نيراننا القاتلة وقد مات بعضهم في ظلها حرفيا. وقد وجدنا، بعد انتهاء المعركة، أحد هؤلاء المتعصبين متشبثاً ميتاً على المتراس ذاته. إذ لا بدّ أنه هاجم، ودون أي سلاح بيده، مربض الرشاشات، وقضى ويديه المتشنجتين تتعلقان بالحافة الداخلية للمتراس، وكان المتراس مغطى ببقايا دماغه المتناثرة من جمجمته، وقد أحصينا على الجسد المتشنج ثلاثين جرحاً واضحاً.
تمَّ ذلك بعد المعركة بالطبع.
في وطيس المعركة، لم نكن نشغل البال بأي شيء ولم نكن نلقي بالاً للقتلى، فالأحياء هم من كانوا يستأثرون بكل اهتمامنا. فالمدُّ غير المنقطع يهدد في كل لحظة باكتساحنا. لقد كان حصننا الصغير (وهو سور بسيط من الحجر بارتفاع صدر الرجل، مبني على عجل في العشية، ويدافع عنه حوالي سبعين رجلاً تقريباً) يشبه زورقاً صغيراً يتأرجح فوق بحر هائج.
استخدمنا بنادقنا إلى أن وصل المهاجمون إلى مسافة قريبة جداً، عندئذ انحنينا لالتقاط القنابل اليدوية عند أقدامنا ورميها عن كثب على الأعداء، وخلال فترات السكون القصيرة ظل الدروز يطلقون متحصنين خلف الصخور أو الحيطان الواطئة – التي كان أحدها لا يبعد أكثر من عشرين متراً عنا. ثبتنا على طرف أستون البندقية قمع الفوهة الذي يتيح إطلاق القنابل اليدوية وأزحناهم من خلف ملاجئهم، مع دوي الإنفجارات الرهيبة التي كانت تطوح أحياناً في الهواء بأذرع وسيقان مختلطة مع التراب والحجارة. لقد كانت الجلجلة مرعبة: طقطقة رشاشينا التي لم تنقطع ، أزيز رصاص البنادق، صفير القذائف المنزلقة، دوي القنابل اليدوية المرعب ، ودائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينية مبهمة تتعلق بالعذابات الشديدة التي تنتظرنا. وفي المقابل كنا نشتمهم بكل العبارات واللغات المختلفة ونتحداهم للحضور إلى معسكرنا لنريهم ماذا سنفعل بهم.

الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين
الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين

“كانت الهجمات المتلاحقة تنتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا، وكنت أطلق النار إلى أن تصبح بندقيتـي حارقة وتدخن بين يديَّ”

شيئاً فشيئاً، بدأنا نظهر هدوءاً أكثر، وصار الأداء أفضل. كنت أصرخ دون أن أنتبه إلى أن جاء الملازم أول ونبهني للأمر. رميت في هذه اللحظة نظرة خاطفة نحو بودنيي، وهو مجند جديد مثلي، فكان يطلق النيران، وبأعصاب هادئة، من زاوية إحدى تحصينات المدخل، والسيجارة في فمه، فأشعلت انا السيجارة بدوري. ودائماً، بعد ذلك، ظلت السيجارة في فمي. أحيانا، قد يكون عقب سيجارة منطفئ. في ذلك اليوم تزودت بست علب من التبغ وكان كل الرفاق يدخنون وهم يقاتلون.
وبدا أن الوضع بات ميؤوساً منه أكثر فأكثر. صحيح أننا أنقذنا حصننا الصغير، لكننا لم نستطع منع عصابات المتوحشين من الوصول إلى داخل القرية التي امتلأت بهم الآن. وهناك رماة يعتلون السطوح ويمطروننا برصاصهم دون أن نستطيع الرد عليهم، لأنه يتحتم علينا أساساً مواجهة الهجمات المنطلقة من الهضبة أو من السهل، وكانت طوابير المهاجمين المندفعة من أزقة القرية تتحد مع تلك التي كانت تهبط من المرتفعات، ونحن لم نكن نوفر جهداً. فعندما كانت البنادق تحرق أيدينا كنا نرمي القنابل ريثما تبرد ثانية.
وحينما كانت نيراننا تصدّ هجوماً كان الدروز يتراجعون إلى خلف الحجارة والحيطان الواطئة ويوجهون نحونا نيراناً غزيرة. وما إن يرتاحوا قليلاً حتى يستعيدوا حماسهم ومع نخوات قادتهم يندفعون ثانية بعزيمة متجددة، وهكذا لساعات وساعات. وكنا نسمع في القرية فلول الفوج يدافعون شبراً شبراً عن المنازل التي تحصنوا فيها. أما المقر المحصن لهيئة القيادة فكان يطلق النار من جميع فتحات الإطلاق فيه. وكانت الصرخات المخيفة تجعلنا نخشى أحياناً أن يكون القائد وهيئة القيادة قد تمّ اجتياحهم وذبحهم. وكنا ندرك، للحظات، أن المعاقل الأخرى لا تزال صامدة، هي أيضاً -زوارق مسكينة تتراقص وسط المحيط. لكن، في غالب الأحيان، لم نكن نرى إلا ما كان يجري قريباً جداً منا – ومرات عديدة، كانت عيون مقلوبة غارقة تعاني سكرات الموت. وقد استغرقت بعض الوقت قبل أن أعي الواقع تماماً. في البداية، اعتقدت أنني كنت لا أحسن التسديد، لكنني لاحظت أن هؤلاء المتعصبين يستمرون في الهجوم على الرغم من جراحهم ليسقطوا ميتين على أسلاكنا الشائكة. ولم يكن حتى الجرحى منهم يتوقفون عن القتال. فعلى الرغم من جراحهم القاتلة، كانوا يستمرون في إطلاق النار لائذين خلف صخرة، أو حتى في العراء، يطلقون حتى نزعهم الأخير.
عندما تبهرك معركة بين رجلين فإنك تنسى أحياناً المعركة العامة. أتذكر درزياً لم أتمكن من قتله إلا بعد وقت طويل وجهد جهيد. فقد كان يمتطي أحد خيولنا المستولى عليها، كان يعدو منحنياً فوق عرف الحصان مثل هندي أحمر. وبدوت عاجزاً عن إصابته. كنت أطلق عليه دون توقف، ويبدو، دون جدوى. أخيراً، سددت نحو الحصان فأرديته، لكن الدرزي الذي كان سليماً كما يبدو، اختطف بندقيته وأخذ يزحف بأسرع ما يمكنه نحو ملاذ ما. كانت رصاصاتي تثير الغبار من حوله – هل كنت عديم الخبرة إلى هذه الدرجة ؟ لكن مشيته تباطأت أكثر فأكثر: لقد ضبطته، مع ذلك فقد استمر في الزحف حتى انتهى إلى الاختفاء خلف صخرة، وأطلق نحوي، في الحال، رصاصة مسّت وجهي. ومن مكمنه، لم يتوقف عن تسديد ناره نحوي. ركّبت على بندقيتي قمع إطلاق القنابل وأطلقت، في المرة الثالثة، سقطت القنبلة خلف الصخرة تماماً، فأثار الانفجار المرعب بركاناً من التراب والدخان، وعرفت هذه المرة أنني نلت منه.
أتذكر أيضا دقيقة عشتها كما لو كنت في حلم. فقد خرجت فجأة، من أحد الأسوار الحجرية على بعد حوالي ثلاثين متراً على الأكثر، مجموعة صغيرة من عشرة دروز تقريباً وشنّت هجوماً عنيفاً ومزمجراً ومباشراً نحو فتحتي. ما شل قدرتي تقريباً هو أنهم كانوا جميعاً شيوخاً فانين، وكانت لحاهم تصل إلى ما دون أحزمتهم، وعلى الرغم من نيراننا المتضافرة، فإن هؤلاء الغريبين ظلوا يتقدمون، يحرسهم سحر ما. كنت أطلق دون جدوى، وأطلق دون توقف، كنت كما لو كنت أطلق النار على أشباح. ولم تكن نيران جيراني من اليمين ومن اليسار أكثر فاعلية. ووصل المسنون إلى شبكة أسلاكنا الشائكة التي يرثى لها – هي كل ما استطعنا مدّه مساء الأمس – وحاولوا اجتيازها، وعلى حين غرة تهاووا جميعاً. لا شك أنهم كانوا يتلقون الرصاص منذ انطلاقهم من مخبأهم، وأراهن على أن عدداً منهم ماتوا واقفين أثناء هجومهم. وها هم يتمددون الآن متكومين بعد أن كتمنا اختلاجاتهم الأخيرة بعدد من القنابل.
ولأن الذهن كان مشدوداً نحو الخارج لم يكن لدينا الوقت بالتأكيد لملاحظة ما الذي كان يجري داخل المعسكر. أرى ثانية مع ذلك، وبأكبر قدر من الوضوح، القامة النحيلة، والكتفين المتهدلين للملازم أول فيرنو، وجهه المحفوف بذقن لم تحلق منذ عدة أيام، يتنقل ببرود منتصباً مستخفاً بكل ملجأ، يد في جيبه والأخرى تقبض على مسدس آلي ضخم. يصل ويقف خلفك ويشير إلى الرجال الذين يكون من المناسب أن تصرعهم، وحين تنجح في عملك، يربت برفق على كتفك، قائلاً بلهجة راضية : « حلو، إصابة جيدة !» ثم ينتقل إلى آخر، في غضون ذلك يصعد إلى المتراس ويفرغ رشيشه. المساعد الأول كان يتجول بالطريقة ذاتها موجهاً الرمي نحو الجهات الأشد خطراً والتي تأتي منها النيران الأشد إزعاجاً، وكان ضعيفاً أمام القنابل اليدوية، بدلاً من الرشيش كان يحمل حفنة من القنابل يلقيها هو بنفسه حينما توشك الأمور أن تسوء، وحينما يبدو أن الهجوم لا يمكن التصدي له، أو بكل بساطة لتمضية الوقت بين حديثين مع الرجال.
كان المسعف –لم يكن عندنا إلا مسعف واحد– قد حفر مركز إسعاف وسط المعسكر في ظل سور من الصناديق. كان يجتاز البقعة التي أصابها الرصاص لينقل الجرحى ويجرهم إلى حفرته.

“كان هناك دائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينيــة عن العذاب الشــديد الذي ينتــــظرنا”

دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة
دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة

ثم حمل عتاده وجاء مزمجراً يقاتل إلى جانبنا: فأخو الرحمة تحول في الحال إلى شخص فظّ متعطش للدماء. كانت أطقم الرشاشات ترمي بلا انقطاع، وكانوا يعانون من النيران المركزة للرماة المتمركزين فوق السطوح.
حتى الآن كنت أقاتل وإلى يساري الإيطالي مورغاردي وعازف البوق بوهل، وثمة ألماني إلى يميني. وكان كل واحد منا يدافع عن جبهة من خمسة أمتار تقريباً. كنا نقاتل منذ ساعة تقريباً عندما وصل الرقيب راث. كان يقف خلفنا ويوجه طلقاتنا. وخلال إحدى الهجمات، سقطت قنبلة درزية مصنوعة في ألمانيا، عامودياً على السور، وسط المجموعة التي كنا نشكّلها.
رأيت مورغاردي غارقاً في سحابة من دخان أسود، أطلق صرخة، رفع يده إلى عينيه وسقط على الأرض جثة هامدة، وقد انُتزعت قبةُ الجمجمة وانكشف دماغه. الرقيب راث سقط هو أيضاً وأخذ يزحف، مسربلاً بالدم ومصاباً بجرح خطير. بوهل إلى يميني كان ينزف من جرح في الرأس لكنه ظل متشبثاً بموقعه بشراسة.
كان عنف الانفجار قد أطار البندقية من بين يدي. انحنيت لالتقاطها فلاحظت أن عقبها قد تطاير شظايا. وهكذا، فإن جاري إلى اليسار قُتل، وجاري إلى اليمين جُرح، خلفنا، أصيب الرقيب إصابة بالغة، بندقيتي دُمرت، بينما لم أصب أنا بخدش. التقطت بندقية مورغاردي وبدأت بإطلاق النار لأدافع عن جبهة زادت اتساعاً.
أصرّ عازف البوق بوهل لبعض الوقت على البقاء في موقعه على الرغم من الدم الذي كان يسيل على وجهه ويمنعه من الرؤية. عاد المسعف، بعد أن وضع راث في مكان آمن في مركز الإسعاف، لأخذ عازف البوق بوهل على الرغم من احتجاجاته ومقاومته. اختطفت عندئذ بندقيته، أفضل بندقية في الفصيل كله، بندقية جديدة تقريباً كان بوهل يصونها كما حدقة عينه. للحظة، كنت، وسط هذه المعمعة، سعيداً مثل طفل حصل للتو على لعبة جديدة.
بعد مغادرة مورغاردي و بوهل اتفقت مع باريسي صغير يدعى فيري، كان يقف إلى يساري، على إعادة تقسيم الجبهة في ما بيننا نحن الاثنين، الجبهة التي كان يدافع عنها أربعة مقاتلين حتى الآن. كنا نذهب من فتحة إطلاق إلى أخرى لكي نخدع رماة الأعداء وسرعان ما شكلنا فريقاً ممتازاً. كان فيري من سكان ضاحية مونمارتر، كان قصيراً ومربوعاً، وكان القتال يجعله مسعوراً، عيناه جاحظتان، وشارباه منفوشان، كان يكافح بلا كلل، رشيقاً مثل سنجاب – باختصار، كان مقاتلاً رائعاً. بخصوص البندقية، لا يعرف إلا الرمي القاتل، وهو رامي قنابل يدوية لا يقهر، وحركاته سريعة كالبرق، كما ظل سلارسكي، وهو بولوني جريح، لا يستطيع الوقوف على قدميه والرمي، ظل طوعاً إلى جانبنا، جالساً على الأرض، يمرر لنا الخرطوش والقنابل ويكمل الفريق بصورة مدهشة.
لاحظت أيضاً كيف تتفاعل مع المعركة طبائع القوميات المختلفة. فالفرنسيون – مثل صديقي الباريسي الصغير – يبدون ممتلئين حماسة واندفاعاً، لكن تحت مظهر التأثر الشديد، في وطيس المعركة، يظلون في أعماقهم باردين برودة الفولاذ. الألمان يواجهون كل شيء بهدوء أحمق ويتشبثون بعنف ببندقيتهم بقدر ما يتشبثون بصاحبتهم. الروس، قدريون، ولا ينشغلون بالحياة أكثر مما ينشغلون بالموت. أما في ما يتعلق بالطبع الأميركي، فقد كان لدي من الأعمال أكثر مما كان يسمح لي الاهتمام به.
أعود إلى قصتي. سيمون، المساعد الأول تلقى رصاصة في ذراعه الأيمن. تابع، لامباليا بجرحه، جولته وتوجيه رمينا ولأنه لم يعد يستطيع رمي القنابل، فقد تزود برشيش خفيف كان يتسلى من وقت الى آخر بشده إلى كتفه بذراعه الأيسر. الرقيب فيشر، ألماني، أصيب بطلقة في رأسه، ظل يحتضر لفترة طويلة، كان يفتح فمه ويغلقه مثل سمكة أُخرجت من الماء. ضابط آخر، الرقيب الألماني كريريخ، جُرح بطريقة جعلته لمدة طويلة مثار مزاح الفصيل. فقد كان يقف خلف المتراس، كان يوجه أمراً حينما دخلت رصاصة درزية فمه وخرجت من خده الأيمن. ظل واقفاً، يشتم ويبصق بعض أسنانه وحطام فكِّه، رافضاً قبول مساعدة المسعف، قبضته ممدودة نحو العدو، ومصراً على الاستمرار في القتال. وقد لزم ليس أقل من ثلاثة رجال لأخذه إلى مركز الإسعاف، وكم مزحنا معه، منذئذ، بسبب هذه الرصاصة التي ابتلعها وهو يفتح فمه لتوجيه أمر ما.
وكان هناك أيضاً الكثير من الأمور المحزنة. أحد جنود الفرقة والذي أُصيب في صدره، قضى النهار بطوله ليموت، ممدداً فوق التراب. جاء من فصيل آخر قبل الهجوم تماماً، ولم يتعرف إليه أحد. بين حين وآخر، في الوقت الذي كنا نظن أنه فارق الحياة، كان أحدنا يسمعه يغمغم يقترب منه زاحفاً عبر منطقة القصف ليسأله ما الذي يريده و كان الماء باستمرار هو ما يريد: « ماء، ماء ! « ظل يكرر. كان لدينا القليل جداً من الماء، وكنا نموت عطشاً بالمعنى الحرفي. لكن كان هناك دائماً من يُجلسه، يسنده، ويسقيه من مطرته، ثم يعود زاحفاً إلى موقعه. استمر النزف طيلة النهار: كان نزفاً داخلياً يفرغه ببطء من كل دمه. في كل مرة اعتقدنا أنه مات فعلاً، كانت شفتاه تتحركان حركة ضعيفة والرفيق الذي كان يصل إليه زاحفاً كان يسمع الشكوى ذاتها دائماً : «ماء، ماء ! «وهكذا طوال النهار لقد استغرق اثنتي عشرة ساعة ليموت.
نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ( كنا نقاتل منذ الثالثة صباحاً)، توقف العدو، بعد أن صدته نيراننا، فتوقف القتال. إذ توقفت الهجمات الجماعية واكتفى الدروز بالرمي من خلف حجر أو حائط قصير أو من فوق السطوح المستوية.
وبينما ظل أفضل الرماة يحرسون المتراس، خلدنا نحن للراحة متمددين عند أسفل السور. لقد كنا مرهقين بشكل فظيع، وكنا ونحن عراة حتى الخصر، نشبه القراصنة. انقطعنا عن البئر التي كانت تقع في الجهة الأخرى من القرية ولا يمكن الوصول إليها. لم يبق لدينا إلا القليل جداً من الماء في مطراتنا وقد جعلنا العطش مسعورين تقريباً. استكشف الملازم فيرنو الصناديق التي استخدمها المسعف لحماية مركز الإسعاف المعدّ على عجل، فوجد القليل من الماء بين احتياطي الطعام القليل فعمل على توزيعه. وتطوع هيرشكورن، الشاب الفرنسي، للذهاب لإحضار بعض النبيذ. فزحف تحت نيران الرماة من القرية، يحمل سطلاً كتانياً في كل يد، حتى البرميل، ثم عاد بسطليه المليئين تقريباً. وحصل كل رجل على ربعية نبيذ شربها في الحال.
في أثناء هذا الوقت، ركّز رماة النخبة كامل انتباههم على قناصة العدو الذين كانوا قد أهملوا أمرهم كثيراً لسبب بديهي. هؤلاء القناصون الماهرون هم هيرشكورن، فرنسي، بريكس، نمساوي – سيقتل في رساس – ، قسطانوفيتش، روسي أكثرهم طولاً، بولز، ألزاسي، الألماني كوبه، و فيري الباريسي الصغير من مونمارتر، رفيقي في المعركة. وكان هؤلاء كلهم جنوداً قدامى أمضوا ما بين خمس وعشر سنوات في الخدمة وهم فخورون بمهارتهم، ولا يبددون ذخيرتهم هباء. كانوا لا يطلقون إلا إذا رأوا، وكانوا يصيبون هدفهم في كل طلقة، والرجل الذي يصيبونه لا بد رجل ميت.
انضممت إليهم بعد أن تناولت طعامي وسعينا لإجلاء الدروز عن سطوح القرية. لم يكن من السهل إصابتهم لأنهم كانوا دائبي الحركة، لا يظهرون إلا ليقفزوا من سطح إلى آخر. ومع ذلك فقد كان رفاقي ينجحون في إصابتهم إذ كنا نرى عندئذ جثثاً تتدحرج أو أذرعاً تومئ عند حافة سطح مثل دمى مسرح العرائس.
ويقترح أحدهم بأن «نسقط» الأمير. صحيح أن حصانه قد اقتيد بعيداً، لكنه هو نفسه لا يزال واقفاً فوق التلة، محاطاً بحرسه، بينما تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. وافترضت أن الإتيكيت أو آداب السلوك لا تسمح لحراس الشرف لأي أمير أن يبحثوا عن مخبأ لهم ، لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى بتعويذاتهم، أو التعصب الذي يبقيهم هناك. وتحت النيران المحكمة للمونمارتري الصغير وقسطانوفيتش وهيرشكورن وكل الرماة المهرة والكثيرين غيرهم الذين بذلوا أقصى ما لديهم، بدأ الحراس يتساقطون واحداً تلو الآخر. لقد قاوموا جيداً رغم ذلك بمن فيهم الأمير الشبيه بأسلحته بقطعة في متحف. وعندما أصيب بدوره تردد لحظة قبل أن ينهار لم يبق على الهضبة إلا أجساد مختلجة تحت خفقان الرايات الأربع السوداء.
فجأة، تفاقم الوضع سوءاً. فقد تفقد الملازم فيرنو مخزون الذخائر وأصدر الأمر بتوفير رصاصاتنا، ثم جاء هو نفسه يتفقدنا:« اقتصدوا، وحتى كونوا مقترين بطلقاتكم ولا تطلقوها دون جدوى، فقط لتقتلوا. في حالة الهجوم، انتظروا إلى أن يصبح العدو قريباً جداً، فلم يعد لدينا ذخائر.»
يا لها من أخبار مفرحة، في وقت طفق فيه الدروز يستعدون لتجديد هجماتهم! في هذه اللحظة، ثمة هدير في الأجواء يشير إلى وصول سبع أو ثماني طائرات ترمي القنابل على الدروز، ثم تهبط أكثر وترشّ أرض المعركة برشاشاتها. نحن نعرف أن هذا مثير للانطباع أكثر مما هو فعال على الأرض. التصق المحليون بالصخور أو بالحيطان الواطئة، وقوسوا ظهورهم كما تفعل القطط تحت المطر. بعد ذلك رسمت الطائرات دورات أكثر فأكثر انخفاضاً طارت فوق معسكرنا في حين كنا نحن نصرخ مثل المجانين ملوحين بقبعاتنا. والآن وهي تختفي شيئاً فشيئاً في البعيد، متجهة نحو غزالة، نعرف أنها استطاعت تقدير خطورة حالتنا، وأنها بعد عدة دقائق سوف تقدم تقريرها إلى القيادة العامة، سوف يتم إرسال تعزيزات من غزالة. وحسبَنا عشرين كيلومتراً من المسير، أي أن النجدة يمكن أن تصل عند الساعة الرابعة، الساعة الرابعة! لقد بدا ذلك بعيداً بشكل مرعب! وأدركنا أن قدرنا هو رهن لعبة حظ حيث يتعلق الأمر بالعمل على إطالة عمر طلقاتنا الأخيرة حتى وصول التعزيزات. بيد أن الهجوم بدأ ووضع حداً لحساباتنا.

القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين
القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين

 

“دون أدنى شك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونـــــا ً”

أيّا ً يكن المُخطط الذي رمى بالدروز إلى الأمام، من الهضبة المواجهة، فإنه يمتلك ذكاء مرهفاً ويعرف كيف يستخلص العبر من التجربة. فالهجوم الأول مع الفجر شنته فرق في تشكيلات متراصة تركت فيها نيرانناً آثاراً رهيبة. طريقة الهجوم هذه تغيرت. التلة الطويلة الممتدة ما بين الجبال ومعسكرنا التي تنتشر الحملة فوقها تقطعها تماماً حيطان حجرية واطئة، تفصل ما بين الحقول وتشكل وقت السلم أسواراً لحماية أغنام الفلاحين. هذه المرة كان الدروز يستخدمون كل غطاء ممكن. وحدات صغيرة في تشكيل منتشر تلقي بنفسها خلف أحد هذه الحيطان، تطلق النار لبعض الوقت، ثم تندفع أو تزحف نحو الملجأ الأقرب. هكذا كان آلاف المهاجمين يتقدمون غير مرئيين تقريباً مثل نهر تحت الأرض.
كنا حريصين على تنفيذ الأوامر التي يقتضيها الوضع، وكنا نوفر خرطوشنا، ولا نطلق إلا ببطء شديد وحرص أشدّ. معظم الأحيان لم نكن نلمح إلا شكلاً غامضاً يقفز من حجر إلى حجر وكان الباريسي الصغير، الذي لا يزال إلى يساري – بات القطاع المولجون بحمايته واسعاً جداً – يسقط بعض الدروز «على الطائر».
عند أسفل التلة، تمتد مساحة مكشوفة من الأرض يجب اجتيازها قبل الوصول إلينا. حينما صار الدروز فيها فتحنا عليهم ناراً في منتهى العنف دون أن نهتم للذخائر المستهلكة. وقد سقط بعض المهاجمين فوق الأسلاك الشائكة، وحتى عند أسفل متراسنا. عندها كان يجب أن ترى الباريسي الصغير. صحيح أنه كان يرمي بشكل جيد من البندقية، لكن لا مثيل له في رمي القنابل اليدوية. كان الناجون من الهجمات المشتتة يحاولون أن يقاتلوا متراجعين ويختبئون خلف الجدران الأقرب. كان صاحبي الباريسي يحدد موضعهم بعناية ويزيحهم منه برميهم بالقنابل:« ممتاز!» كان يهتف كل مرة. «ممتاز! ».
حينما لم يعد العدو شديد التهديد، التفتنا إلى القناصة الجاثمين فوق سطوح القرية، إلى يميننا. كانوا يتصيدوننا من الأعلى على مهل كان يستحيل أن تفلت منهم. على العكس من هجمات السهل، التي كانت أسوارنا تحمينا منها، وكنا نطلق مختبئين خلف فتحات الرمي، مع خطر أن ينقضّ علينا مع ذلك هجوم نهائي، ويسحقنا في معقلنا الصغير.
كانت الساعات تمضي، مرهقة، في قتال دون توقف، تحت شمس قائظة، وسط الفرقعة والموت والدماء، وقد قلّت ذخائرنا. وسألنا بعضنا بعضاً كم بلغت الساعة. أخيراً حلت الساعة الرابعة، الوقت المحدد في أذهاننا لوصول التعزيزات، واحسرتاه ! لم يصل أي دعم، ولم يتغير شيء. ظل الدروز يطلقون دون توقف. وظل الجحيم ذاته. الساعة الرابعة والنصف. بدأ الرجال يجدّفون بمرارة. ألن يصل الدعم إذاً؟ كان الملازم الأول ينقّب، قلقاً، الأفق بمنظاره من جهة غزالة. هجوم جديد ينطلق من القرية؛ نصدّه. الدروز الجرحى المتناثرون في أرض المعركة يستمرون في إطلاق النار، فنجهز عليهم واحداً واحداً، بعناية دون أن نضيّع طلقة. لكن الذخيرة استُهلكت تدريجياً، على الرغم من الإطلاق المتباطئ، وكان الملازم يرفع أغلب الأحيان منظاره نحو غزالة، لكنه لم ير شيئاً يأتي من غزالة.
تجاوزت الساعة الرابعة بوقت طويل، ودائماً من دون أن تصل التعزيزات. يحصي الملازم الذخيرة للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة يتفحص الأفق، ثم يطلب منا أن نغرز حرابنا في الأرض.
جرّد كل منا حربته من جرابها وغرزها في التراب إلى جانبه،

“كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك”

لتكون تحت يده وليثبتها على نهاية أستون بندقيته، عند تلقي الأمر الأخير حينما سيبدأ الفصل الأخير. أخرج الملازم ذخائر الاحتياطي الأقصى ووزعها على الجميع. وأُخرجت جميع الرشاشات من المعركة، وانتُزعت الطلقات من أشرطتها وجرى تقاسمها أيضاً. حينما انتهى كل ذلك كان معي خمس وعشرون طلقة، بينما كان البعض لا يمتلك نصف هذا العدد، وكان كل منا يملك بعض القنابل اليدوية. وظلت حرابنا المغروزة في متناول أيدينا تنتظر تثبيتها على البنادق، حينما سيصبح العدو في المعسكر وتبدأ معركة المجابهة بالسلاح الأبيض النهائية. وراجت على طول السور كلمة السر التالية: « احتفظ بآخر طلقة لنفسك!» فقد قاتل كل جنود الفرقة القدامى في المغرب ورأوا كيف عُذبَ جرحاهم. وليس من المؤكد أن الأمر سيكون كذلك مع الدروز، لكنهم لا يريدون تجريب حظهم.
وكأن الدروز أدركوا وضعنا الميؤوس، فقد أخذوا يتجمعون من أجل الهجوم الحاسم وكنا نسمعهم عبر أزقة القرية، يصرخون، يهزجون، ويهيجون بجنون رداً على تحريض قادتهم. خلف الحيطان فوق الهضبة، كان يجري الاستعداد ذاته. وكان المشايخ ينتقلون من جماعة إلى جماعة فترتفع النخوات من كل مكان. وبدأ الفرسان المتجمعون خلف المشاة، فوق قمة الهضبة تقريباً، وبعد أن انتظروا ساعتهم هذه طوال النهار، يتشكلون تشكيلاً قتالياً ويهبطون السفح ببطء.
توقفنا عن الرد على نيرانهم نهائياً، ثم تركنا بعض الحراس فقط عند فتحات الرمي لتحذيرنا عند بدء الهجوم النهائي. وجلسنا عند أسفل السور نتروّح بقبعاتنا، غير مبالين تحت قصف كان عنفه دعوة أكيدة للرد عليه. كنا نستند بظهورنا إلى المتراس نتهوى وكأن العدو غير موجود محتفظين برصاصاتنا الثمينة ونعد أنفسنا بربع ساعة أخير سنلعبه بحماس شديد.
هذه السلبية، وهذا الصمت، هما ربما، من ولّدا الشك، والخوف من الوقوع في كمين وأخّرا طلقة الخلاص. ودون أدنى ظل من الشك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونا. لكنهم ظلوا هناك في المرتفعات مستمرين في تحركهم البطيء، بينما كان المشاة منهم يحمسون أنفسهم بالصراخ وبالأهازيج.
إذاً كنا جالسين نتهوّى، حينما أصخنا السمع فجأة، ننظر في وجوه بعضنا بعضاً.
خلفنا، من الجهة المقابلة للهجوم، كانت فرقة ممتدة طويلاً تتسلق نحو إحدى القمم. ومن خلف هذه القمة، البعيدة، كان يصلنا صوت مخمّد، موسيقى خافتة، صوت معدني، ثمة نافخو أبواق هناك! إنهم يدقون نفير الهجوم، بنغمات متسارعة، رشيقة، أخاذة :«إلى الأمام ! » .
يرتفع الصوت ويصبح أكثر وضوحاً. كان يتدفق من فونوغراف ويصبح حقيقياً، يقترب، يتصاعد تدريجياً، ننتفض واقفين مطلقين صرخة قوية. خلف القمة، هناك، أبعد قليلاً، لكن أقرب فأقرب دائماً، كانت الأبواق تردد نشيدها: «إلى الأمام! إلى الأمام! إلى الأمام ! » .
ثم يبدأ إطلاق النار وطقطقة الرشاشات. يسّرع الخيالة الدروز من حركتهم نحو الأمام. فجأة، تسقط مع صفير طويل قذيفة مدفع من عيار 45 مم في قلب معسكرنا تماماً وتنفجر دون أن تجرح أحدا. أهلاً وسهلاً، استقبلت بداية بضحكات صاخبة» هل يحسبون الذين هناك أننا متنا؟ « ندمدم ساخطين. الآن سيل من القذائف كما لو أن بطارية مدفعية تحُكم رميها.
في هذه الأثناء، يضاعف نافخو الأبواق المتجمعون في مكان ما خلف القمة، من صخبهم: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام !» كان الصوت يتضح أكثر، ويزداد قوة، ويقترب أكثر: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام ! »
وفجأة، تحيط بالقمة، في تشكيل منتشر، كتيبة الرماة الجزائريين الثامنة عشرة التي جاءت من غزالة في سير حثيث لنجدتنا. هبطت التلة، وكنست الدروز. خلف الكتيبة لا تزال الأبواق تصدح، تصدح بجنون :» إلى الأمام! إلى الأمام !إلى الأمام! على الأمام ! «
كان الرماة بهيئاتهم الفخمة، واقفين حيناً، منبطحين حيناً آخر، يتقدمون بطريقة لا تقاوم. وكما الدروز، كانوا هم أيضاً يرفعون، وهم يتقدمون، صلاواتهم إلى الله. لكن هذا الإله الذي كانوا يضرعون إليه كان إلهاً فرنسياً، ذا فرق عسكرية منتظمة ومزودة بالرشاشات، في حين أن الدروز المساكين كانوا يتوجهون بنداء واهن إلى إله فارغ اليدين. اجتاح الرماة الآن السهل، وأولئك الذين واجهوا القرية دخلوها وبدأت المجزرة، منزلاً منزلاً، بينما انتشر الآخرون يميناً ويساراً وتسلقوا الهضبة التي شنّ الدروز عبرها هجومهم ولاذوا بالفرار.
بعد أن أطلقنا على الهاربين، في تبادل مسعور لإطلاق النار، رصاصاتنا الأخيرة والثمينة، فتحنا أبواب معسكرنا وتجولنا متسكعين، وأيدينا في جيوبنا.

ما بعد المعركة
ترك الدروز عند انسحابهم قوة لحماية مؤخرتهم ظلت تقاتل بعنف. وقد خاض دروز القرية الذين انقطعوا عن جماعتهم، ساعات طويلة من القتال الدامي : وكان على الرماة، وقد حلّ الليل، متابعة تقدمهم البطيء من بيت الى بيت. كنا نسمع صوت إطلاق النار، والصرخات ونتخيل بسهولة كيف يدور هذا القتال بالسلاح الأبيض حيث لن يرحم فيه أحد أحداً.
أثناء الليل، تمّ تزويدنا بالأقوات والمياه والذخائر واستعاد المعسكر حياته المألوفة. في تلك الليلة، اتخذت الحراسة طابعاً مأساوياً. ففي كل لحظة كانت بضع طلقات نارية، وصرخة، قادمة من جهة القرية، تخبرنا أن الإبادة المرعبة، لكنها الضرورية، ما تزال مستمرة في العتمة. وفي كل لحظة، يبرز شبح : إنه أحد الدروز الناجين من المجزرة ويسعى للحاق بأخوته. لكن عبثاً، لأن طلقات من جميع الجهات سرعان ما تمزق الظل، ويتلاشى الشبح في العدم.
خارج ساعات الحراسة، نغرق منهكين في سبات عميق. ولم تحمل الشمس الطالعة الراحة لنا. فهناك الكثير مما يجب القيام به بعد كل معركة. وقد لاحظت، مع ذلك، أن الجنود المسنين يستيقظون متوقعين حصول أمر ممتع جعل فتحات خياشيمهم تتراقص. وعرفت في ما بعد أنه الأمل بالنهب. من المؤكد، أن العمل لا يعدم بعد المعركة، لكن ليس لجمع الغنائم في ما لو كانت تُراعى أصول القتال.
كنا نبدو كالفزاعات وكانت عيوننا المحتقنة بالدم تغمض من التعب وكان يغطينا مزيج من الغبار والدم وكانت ثيابنا ممزقة، ولم يكن لدينا لا الوقت ولا الوسائل للحصول على شيء من النظافة لأن الحصة الفردية من الماء قد جرى تقليصها أكثر من أي وقت مضى بسبب وصول التعزيزات. عند توزيع مهمات السخرة، كُلفتُ بالموتى، موتانا نحن، داخل المعسكر.
تفقدت إذاً ثياب الموتى من جنودنا الذين سقطوا وهم يقاتلون. أخرجنا من جيوبهم وجمعنا كل تذكاراتهم الفقيرة: مطاو، غلايين، أوراق، وفتشنا أيضاً أمتعتهم. ووضعنا الكل في علب صغيرة سوف يجري إرسالها إلى أسرهم مع قصة موتهم -قصة الهجوم المرعب تحت الشمس الحارقة- أخيراً تمّ نقل الجثث في سيارات شاحنة إلى مقبرة غزالة.
كُلفتُ بعد ذلك بسخرة التموين، فعملت حمالاً، أنقل اللحوم والبطاطا والبصل والفاصولياء ! وبما أنني كنت أطول وأقوى من بقية الجنود فكان يُحكم عليّ غالباً بهذه السخرة الكريهة، السخرة التي يحمل المرء فيها حقاً أثقل الأحمال. وفي الوضع الراهن، كان لهذه السخرة جانبها الحسن وهو إتاحة الفرجة، لذلك جعلتها تطول إلى أقصى وقت ممكن.
ما ظهر لعينيَّ جلياً، بداية، هو العدد الكبير لجثث القتلى الدروز. فقد كانت معزولة في أرض مكشوفة، وكانت مكومة خلف الحيطان والمخابئ مثل ثلج دفعته الريح. وكان يجب أن تروا بأعينكم لتصدقوا. ففي كل لحظة، كان أحدنا يصرخ: هذه كومة جديدة من الأموات خلف هذا الحائط.
في القرية، كان ثمة استعداد قوي بناء على أمر العقيد قائد فوج الرماة الثامن عشر – منقذنا. فقد أمر العقيد أندريا بأن تُصَّفَ كل جثث الأعداء خارج القرية وحولها كلها لتكون درساً قاسياً، وعقاباً لهذه القرية الخائنة التي كانت ادعت الخضوع فتظاهرت بقبول السلطة الفرنسية ودفعت الضريبة، استعان الرماة بأسرى الدروز وتركوا لهم المهمات الأصعب. فالجثث التي أنزلت من فوق السطوح أو رفعت من الخانات( أو الأقبية ) سُحبت عبر أزقة القرية حتى مكان العرض المشؤوم. وفي الوقت ذاته، حُمّلت بقايا التسعة والعشرين جندياً قوزاقياً الذين فاجأهم الدروز وذبحوهم، في شاحنات وأُرسلت إلى غزالة. كذلك سُحبت جيف الأحصنة التي ذبحت في الإسطبلات إلى خارج القرية لتضاف إلى الصفِّ المرعب.
كان اسرى الدروز يعرفون المصير المرسوم لهم وقد ماتوا برباطة جأش، دون أن يرتجفوا أو أن يطلبوا الرحمــة.
هذا العمل أُوكل كما أسلفت إلى الأسرى الدروز، وتحت رقابة الرماة. سمعنا في ما بعد أصوات رشقات داخل القرية. وقد عرفت آنذاك أنه بعد أن أنهى الأسرى عملهم جرى رميهم بالرصاص عن آخرهم بناء على أمر قائد فوج الرماة.
ولا يسعني إلا تقديم تفسير لهذا التصرف. كانت القرية قد خضعت، وأكدت صداقتها، لذا فلا بدّ من النظر إلى هجومها على أنه خيانة. ومن جهة أخرى، فإن الدروز لا يرحمون أحداً وبالتالي لا ينتظرون الرحمة من أحد. فهم يتابعون القتال، حتى وهم جرحى، إلى آخر طلقة لديهم، ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية. كنت الشاهد كذلك على مأساة رهيبة أخرى ارتكبها نصف – مجنون. جندي ألماني، رامي رشاش في السرية الخامسة عشرة، كان «زميله» قد قُتل أثناء المعركة الليلية. ظل طيلة الصباح يقّلب وجوه ثأره. عند الظهر، ملأ مطرته ماء، وحشا مسدسه وقام بجولة في ميدان المعركة، كان يعثر أحياناً بين جثث القتلى على درزي جريح. كان هذا المعتوه يقترب مظهراً كل علامات التعاطف، يُجلس المسكين، يسنده ويقدم له مطرته. وفي اللحظة ذاتها التي يمسك فيها الجريح، الهاذي عطشاً، الوعاء بلهفة، يقوم الآخر بتفجير دماغه بطلقة من مسدسه.
وقد مرَّ وقت طويل قبل أن ينتبه أحدهم للأمر، وأن يلحق أحد الرقباء بالجندي ويعيده. ولن يتمَّ له ذلك بسهولة: فقد لزم زمرة كاملة للسيطرة على المجنون الهائج الذي كان يزبد مسعوراً لأنه لم يستطع أن يثأر لزميله كما يشتهي.
لم يظل زملائي عاطلين عن العمل خلال هذا الوقت. فقد عرفوا، وهم المجربون، كيف يبذلون نشاطاً زاخراً بالوعود – وبالنتائج. فمن المتبع أن يتمَّ بعد كل معركة جمع أسلحة الأعداء المقتولين، لكي لا يستفيد منها الأحياء من رفاقهم.
لم يكن يكفي جمع البنادق، بل يجب عدم ترك أي سلاح مثل المسدسات والخناجر، وحتى المطاوي الصغيرة، الأمر الذي يقتضي زيارة جيوب الأموات. فإذا ما ساعد الحظ يمكن للمرء أن يجد شيئاً آخر، ومن هنا نجاح هذه السخرة لدى ملعوني سريتي العجائز، لذا كنت تراهم يعودون إلى المعسكر محملين بالغنيمة: خناجر دمشقية، سيوف، تحف مختلفة، ساعات وقطع نقدية – كانوا يعرضونها بالدور، بفرح الأطفال!. وكان ديلابورت، صديقي «أبو» المطرتين الذي أنقذني بمهارة كبيرة من تلك الورطة في غزالة، أكثرهم سعادة، على الرغم من أن هيرشكورن وبولز قد حققا نجاحاً كبيراً من جهتهما، وأن سيلفيستر بودنيي، المجند الجديد، لم يكن أداؤه ضعيفاً بالنسبة الى مبتدئ. فقد عثر ديلابورت على مال مدفون في إحدى زوايا الخان: قطع نقدية وجواهر تبلغ قيمتها أكثر من خمسة آلاف فرنك. ولأشهر عديدة، وحيثما أُتيحت له الفرصة، فإنه سيثمل ببذخ ملوكي إلى أن بدد تماماً كل ما كان ربحه على الريق، ذات صباح.
لكن البطل الحقيقي كان صديقي فلوري، الباريسي الصغير الذي قاتل طوال الليل إلى جانبي، فقد كان أنموذجياً تماماً، إذ انطلق في حملته مدفوعاً بالرغبة في تحقيق مجده الشخصي أكثر مما كان مدفوعاً بالطمع بالربح. عاد في المساء محملاً مثل جمل، يجر بجهد بالغ غنيمته : ست بنادق خلفه، وترسانة من السيوف والخناجر وعلى وجه الخصوص البيارق السوداء العتيدة التي قاتل الأمير تحتها حتى الموت.
وقد أثار فعله هذا إعجاب الملازم فيرنو أيما إعجاب، فقدم للفرنسي الصغير نصف مطرة من النبيذ. وسرعان ما أجهز فلوري على جائزته تماماً، وكان محمر الوجه، مترنحاً، عندما دخل إلى المعسكر الكولونيل اندريا، قائد فوج الرماة الثامن عشر الذي كان قد جاء لنجدتنا، ليقوم بزيارة قصيرة لنا. وفي الحال، جمع فلوري، مملوءاً بالحماسة الساذجة التي يبثها النبيذ في طبع خشن، راياته وتوجه نحو الكولونيل مباشرة، قائلاً: « صباح الخير، مون كولونيل» وأضاف قائلاً بصيغة المخاطب المفرد وبلا تكلف: «شفْ لي هذه، مون كولونيل، أليست ظريفة راياتي هذه ؟» فردّ العقيد ضاحكاً: «آه بلى! إنها فعلاً ظريفة وأنت جندي شجاع» وتوجه إلينا: «صباح الخير أيها الجنود، هل كل شيء على ما يرام؟ فيجيب الباريسي الصغير نيابة عنا جميعاً -نحن على أحسن حال، وأنت تعلم، إذا كنت تريد المزيد منها، فما عليك إلا أن تخبرنا». ابتسم العقيد، ثم وقف باستعداد، وقدم لنا التحية الرسمية وتابع جولته ضاحكاً في سره.
في ذلك المساء نعمنا فعلاً بقسط وافر من الراحة. فقد كانت الليلة السابقة مضطربة، مليئة بالصراخ والتحذيرات، وبطلقات نارية يطلقها الرماة على ظلال هاربة. لقد نمنا هذه المرة بفضل الهدوء النسبي نوماً عميقاً.
عندما استيقظنا وجدنا أننا أصبحنا أبطال المعسكر. كانت التعزيزات تتدفق دون انقطاع، وتقوم بحفر الخنادق، كان ثمة تحرك كبير يجري التحضير له. بطاريات مدفعية، قوافل من الشاحنات أو من الجمال تجوب السهل، وكذلك فرق من مختلف صنوف الأسلحة : صباحيون، رماة، قناصة، سنغاليون، فوج سورية والأنصار – فرسان سوريون وحتى فرسان روس من مسلمين شراكسة بقبعات من الفرو. وكانت هناك أيضاً بطاريتا مدفعية من عيار 75 مم مع جنود مدفعية فرنسيين، وبطارية مدفعية جبلية وسدنتها من الملاغاش.
وكنا، وسط كل هذه الفرق، نتفاخر، متسخين: ذقون طويلة، صدور عارية، مسربلين بمزيج من التراب والدم والعرق، وكيبية مائلة نحو الأذن. وقد جاء عقداء وجنرالات لمشاهدتنا : فقد أصبحنا أُلهية المعسكر. لقد حملت الجمال الماء من الآبار الواقعة على بعد عشرة كيلومترات وملأت الخزان الإسمنتي الكبير القريب من القرية، لكن بسبب كثرة القادمين الجدد، ظل الماء شديد الندرة وظل نصيب الفرد اليومي منه قليلاً جداً كما كان يوم المعركة. ولكي لا نبدده كنا لا نغتسل، مفاخرين – وبتُّ أدركُ الأمر اليوم – بسلوكنا الغريب. وقد جاء المجندون الجدد القادمون من فرنسا مع وحدات المدفعية، لمشاهدتنا وكانوا مشدوهين. كنا نروي لهم قصصاً مرعبة ونبيعهم بعض التذكارات. كان الجميع راغبين في ذلك لكن بعضهم فقط كانوا يمتلكون النقود. فقد بعنا سيفاً قديماً بسبعين فرنكاً، وخنجراً بعشرين، لقد اغتنى نهابو السرية.
كنا سعداء بالمغادرة. ففي كل مكان كانوا يكيلون لنا الكثير من الإطراء. وكانت صحف دمشق تروي عن معركتنا قصصاً غزيرة وحماسية ونوَّه الجنرال ساراي بكل الكتيبة على مستوى الجيش ونوّه تنويهاً خاصاً بالسرية التاسعة والعشرين القديمة والصلبة، بينما كنا نعيش نحن متسخين بثياب رثة وسط ركام من الجثث. فأكوام الدروز التي تغطي السهل، والصف المأساوي لإرعاب الخونة عند مدخل القرية، وجيف الأحصنة، كان كل ذلك يسهم في جعل الهواء غير صالح للتنفس.
ألا تقومون إذاً بدفن القتلى من الأعداء؟ سألني أحدهم. فأجبت: لا. وذلك لسبب وجيه هو أن القيام بذلك كان مستحيلاً. فالحملة – ومثل كل حملة استعمارية – كانت مزودة بقوات لا تتناسب مطلقاً مع الهدف الذي ينبغي تحقيقه لدرجة أننا لم نكن نستطيع دفن موتانا نحن إلا بجهد كبير، فما بالك بجثث الأعداء. كانت وحدات المؤخرة تقوم بحرقها حينما تمتلك الوسائل المناسبة.
وماذا عن الجرحى؟ يضيف أحدهم. لم نكن نهتم كذلك بجرحى الأعداء، بسبب استحالة القيام بذلك مطلقاً. فسيارات الإسعاف كانت لا تكاد تكفي لنقل رجالنا. كان الدروز يموتون في أماكنهم أو في الزوايا التي كانوا يزحفون نحوها، من دون أية مساعدة.
يضاف إلى ذلك، أنها كانت حرباً ضارية. فمن الذي اتخذ هذا الإجراء الرهيب؟ أنا لا أعرفه، لكنه كان إجراء ساري المفعول عند دخولنا في المعركة. لم يكن الدرزي ليرحم أحداً وهو لا يطلب الرحمة من أحد. فعلى الرغم من جرحه العميق يستمر في إطلاق النار حتى الخرطوشة الأخيرة، ثم يطعنك بعد ذلك بخنجره، وعندما لا تعود لديه القوة لفعل أي شيء، يموت – ونحن كنا نتركه يموت. تلك كانت طريقتنا في القتال، وحينما أنظر إلى الخلف، أقدر، وحتى الآن أيضاً، أنها كانت الطريقة الوحيدة الممكنة.
كنا إذاً سعداء للخلاص من ركام الجثث، وقد طُرد سكان القرية منها نهائياً، لأنهم شاركوا العدو وناصروه. نحن إذاً، كنا ندير ظهرنا لمكان خال من السكان ومشؤوم، عند انطلاقنا لنجدة حامية السويداء.
ترجمته حالياً.

المسيفرة اليوم
المسيفرة اليوم

” كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك  “

ام الرمان

أم الرمان ملجأ الأحرار

تناوب عليها الهجر والخراب عبر العصور
وأعمرها الموحدون الدروز وحموا حياضها

60 من فرسان القرية الأشداء كانوا يرابطون دوماً تحسّباً لرد أي غزو مفاجئ من أطراف البـــــــاديـة

أولم فارس بن جبر لزعيم غزاة وِلد علي وذبح له النعاج
فأغمدت السيوف وفرشت الموائد وحقنت الدماء

تقع قرية أم الرمان في القسم الجنوب الغربي من محافظة السويداء، وتبعد جنوباً عن مدينة السويداء مركز المحافظة نحو 37 كيلومتراً، على ارتفاع 1160م فوق سطح البحر عند وسط القرية تقريباً، على سفح هضبة ذات تربة زراعية خصبة متحلّلة من البازلت تغلب عليها الوعورة، وتنحدر أراضيها انحداراً تدرّجياً لطيفاً باتجاه الغرب نحو أراضي بلدة ذيبين التي تعتبر أراضيها السهلية امتداداً لسهل حوران ضمن محافظة السويداء. أما باتجاه الجنوب، فيكون الإنحدار أشدّ ميلاً باتجاه الحدود الأردنية التي تبعد عنها نحو عشرة كيلو مترات، تلك الحدود التي أقرّتها معاهدة «سايكس بيكو» عام 1916 وقد اقتطع بموجب تلك المعاهدة من أراضي أم الرمان الزراعية نحو 5500 دونم ضُمّت إلى أراضي شرق الأردن.
تتبع أم الرمان إدارياً لناحية ذيبين التي تقع إلى الغرب منها على مسافة نحو سبعة كيلو مترات أما مساحة القرية العامة فتبلغ نحو 63000 دونم،(أي نحو63 كلم مربع).
أم الرمان في التاريخ
لم تحظَ قرية أم الرمان بدراسة آثارية من قبل دائرة الآثار في محافظة السويداء، إذ لم يُشر إليها صاحب كتاب الآثار في محافظة السويداء ومدير آثارها في حينه عام 1997 الدكتور علي أبو عساف، على الرغم من وجود عدة معالم ظاهرة للعيان فيها، وكان قد أشار إلى تلك المعالم رحالة عابرون سبق لهم أن زاروا القرية بعشرات السنين، واكتفى المؤلف يومها بذكر مغارة بركانية ( مغارة الهوّة) تقع في مجالها الزراعي إلى الشمال من القرية بنحو كيلومترين، كما تحدث عن آثار القرى الخربة التي تقع في خراجها.

مضافة آل الهادي قديمة أعيد عمرانها
مضافة آل الهادي قديمة أعيد عمرانها

وفي تقرير مترجم عن الإنكليزية نحو عام 1900 ورد ما يفيد بأن أم الرمان قرية كبيرة يسكنها الدروز، وأنه فيها منزلان أو ثلاثة مغرقة في القدم، ثم جرى عليها تعديلات، وذكر التقرير أنه ينتصب أمام مضافة الشيخ عامودان يعودان إلى العصر المسيحي( أي البيزنطي ــ الغساني)، وإلى جانبهما ركيزة حجرية ملقاة على الأرض تشبه النمط السائد في بصرى، وهذا يدلّ أن القرية كانت عامرة آنذاك، أي قبل نحو ألف وسبعمائة عام، وفي حقيقة الأمر، فإن التحضّر الجدّي في جبل حوران، كان قد سبق الحكم الروماني لسوريا عام 63 ق.م، والعصر المسيحي والغساني في زمن البيزنطيين، إذ يعود إلى عصور الأنباط، وهم قوم من قدامى العرب كانوا قد اتخذوا من صلخد وبصرى قاعدتين حضريتين لهم قبل ميلاد المسيح.
وفي الوسط القديم للقرية لا تزال الآثار التي تعود إلى العهد البيزنطي ماثلة من خلال بقايا كنيسة يدعونها بـ « القيسارية»، ومن المؤكد أن العديد من الآثار في القرية تعرضت للسطو من قبل لصوص الآثار، ويذكر المعمرون أنه توجد لوحة فسيفساء مطمورة في قيسارية قديمة هي اليوم ملك للشيخ نصر معروف.
وفي المساحة العقارية من الأراضي الزراعية التابعة للقرية، تتواجد آثار لخمس قرى خربة، أهمّها: الخرائب، ( الخريّب)، وهي آثار لبلدة كانت عامرة منذ عصر الأنباط وما تلاهم حتى ظهور الإسلام، وقد تعرّضت آثارها للتخريب والنهب ولم تزل!!
لكن الخراب طاول أم الرمان في ما بعد، ويبدو أن انشغال العرب المسلمين في الفتوحات التي امتدت من كاشغر على حدود الصين شرقاً، وإلى ما وراء جبال البيرينيه بين إسبانيا وفرنسا غرباً في العهد الأموي ساهم في التخفيف من التوطن في سائر جبل حوران في ذلك العصر، على الرغم من اهتمام بعض أمراء بني أمية بـ« جبل الريان». فالسويداء مثلاً كانت إقطاعة لعبد العزيز بن مروان، وقد ورثها عنه ابنه الخليفة عمر بن عبد العزيز غير أن البلاد عادت لتشهد توسّعاً للتوطن من جديد برزت سماته أكثر وضوحاً في العهد الأيوبي والمملوكي… ولكنها رجعت إلى الخراب إبان العهد العثماني في بلاد الشام ومصر في القرن السابع عشر، واشتد هذا الخراب في ما بعد ليصل إلى حالة من الخراب الشامل عام 1810م، كما يذكر المستشرق بيركهاردت المكلّف باستطلاع المنطقة العربية من قبل بريطانيا.

“برك المياه التاريخية غُطيت جدرانها البازلتية بالإسمنت! وأكثر آثار العصــــور الغـــابرة جرى نهبها عبر السـنين”

أهمّ الزراعات في أمّ الرمّان

1. القمح: ويشغل ما مساحته 7,000 دونم، وتتراوح إنتاجية الدونم ما بين: 120 و30 كلغ بحسب تساقطات الأمطار.
2. الشعير: مساحته 5,000 دونم، وكما القمح تتذبذب إنتاجيته بحسب الأمطار.
3. الحمّص: مساحته نحو 6,000 دونم، وإنتاجيته ما بين 20 إلى 50 كلغ بالدونم سنويا .
4. الزيتون: مساحته نحو 1,000 دونم، بالإضافة لما يزرع في حدائق المنازل وعدد أشجاره نحو 11,000شجرة،
5. اللوز: مساحته نحو 800 دونم، وأشجاره نحو4,000 شجرة.

أم الرمّان أصلاً: ريمونا
يذكر المستشرق الأميركي بتلر الذي زار المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر بأن إسم «ريمونا»، كان يطلق على أم الرمان في أيام الرومان، ولعلّ إسم «أم الرمان» جاء من كثرة أشجار الرمان في العصور الغابرة في القرية، لكننا لا نرى أثراً لثمرة رمان واحدة منحوتة في آثار القرية، بل هناك أثر لعنقود عنب منحوت بفنية متقنة من العصر البيزنطي ــ الغساني، لا يزال ماثلاً في سقف البناء الأثري المعروف بـ « قاعة الشيخ في أم الرمان»، في دار آل الأطرش، وهذا يرجّح أن إسم أم الرمان قد يكون محوّراً من الإسم القديم للقرية« ريمونا».
وفي العصر القديم كان في القرية ست برك لجمع مياه الشتاء لأيام الجفاف في الصيف والخريف، ولم تزل أربع من تلك البرك بحالة جيدة، لكن حصل تسرّع في عملية ترميمها، إذ تمّ استخدام الإسمنت لتغطية الجدران، الأمر الذي أخفى الحجر البازلتي الأثري المميز والمقصوب بعناية، وبالتالي جمالية الجدران وأضاع بالتالي الكثير من قيمتها الأثرية.
وفي القرية عدد من الآبار التي كانت مخصصة لجمع المياه التي كانت وإلى عهد قريب تُستجر من أعالي قمم جبل العرب على مسافة نحو خمسة وعشرين كيلو متراً لملء مناهل القرية، ومن الثابت أن ثلاثاً من تلك الآبار تعود لعصور الأنباط، أي لما قبل نحو ألفي عام، ذلك أن سقوفها سابقة للزمن الذي صار فيه الإنسان يستعمل الأقواس الحجرية في السقوف ، ولم تزل تلك الآبار بحالة جيدة.

إعمار أم الرمان
ظل الخراب يرين على أم الرمان قروناً، وذلك يعود لأسباب أبرزها إنعدام الأمن بسبب غياب سلطة الدولة العثمانية آنذاك على المناطق البعيدة عن دمشق عاصمة الولاية، وشيوع تقاليد الغزو البدوية التي كانت تهدّد الحواضر حتى القريبة منها من مركز الولاية، وسنوات الجفاف التي تتكرر عامين كل عشر سنوات استناداً إلى الدراسات المناخية، تضاف إلى ذلك موجات الجراد التي كانت تجتاح المنطقة بين فترة وأخرى.
آل النبواني
كان آل النبواني الذين يعودون بأصولهم إلى آل البتديني الذين نزحوا من موطنهم في بيت الدين وسكنوا في أواخر القرن الثامن عشر قرية كفرنبرخ القريبة منها، وفي ما بعد ارتحل بعضهم إلى قرية «نبيا» القريبة من قطنا، كما يشير يحيى عمار في كتابه «الأصول والأنساب» (ص 32 و 33)، ومنها لحقت بهم كنية «النبواني»، ومن ثمّ ارتحلت العائلة إلى جبل حوران، وهم أول عائلة معروفية حاولت التوطن في أم الرمان نحو عام 1845م، لكنهم لم يلبثوا أن تعرّضوا لمحاولة غزو من ابن سمير شيخ قبيلة ولد علي، وكانت قبيلته من القبائل الأقوى في البادية وسائر جنوب دمشق.

.

قاعة الشيخ الأثرية منذ نحو 1600 عام
قاعة الشيخ الأثرية منذ نحو 1600 عام
منظر عام للقرية من جهة الجنوب
منظر عام للقرية من جهة الجنوب

 

 

 

 

 

 

 

 

نذر مواجهة فمسالمة
سكن القاطنون الجدد في دار الشيخ الحالية، تلك الدار القديمة التي تعود بعض غرفها الأقدم والبئر القريبة منها لعصر الأنباط، أما القاعة البرجية المؤلّفة من طابقين فوق الأرض وآخر تحتهما فمن الأرجح أنها تعود إلى العصر الروماني البيزنطي ــ الغساني، ولم تزل معظم معالمها ماثلة إلى يومنا هذا.
كان عدد الغزاة أربعة عشر خيالاً بسلاحهم، أما آل النبواني فكانوا ثلاثة أخوة ومعهم خالهم سلمان الهادي. أصعدوا نساءهم وأطفالهم إلى سطح مبنى القاعة الذي يرتفع نحو عشرة أمتارعن سطح الأرض، وأوصوهم أن يرموا بأنفسهم إلى الأرض إن هم هزموا أمام الغزاة، وكلفوا أحد الفتية اليافعين أن يرمي الأنثى التي لا ترمي بنفسها إلى الأرض لكي لا تؤخذ سبية.
كانت المواجهة جنوب خرائب القرية، على بعد قليل من الدار التي احتمت بها النسوة والأطفال ومواشي العائلة من ماعز وأغنام ودواب نقل.
من جانب آخر، وضع كبيرهم، فارس بن جبر، خطة أولى بديلة للمواجهة القتالية مع المهاجمين، إذ تقدّم من عقيد الغزو، ابن سمير، وقال له:
ــ «أيش تبغى منّا؟، أنا عازمك ضيف أنت وربعك، واللي انت عليه انت عليه»، كان فارس يريد تجنّب مواجهة انتحارية.
قبل زعيم الغزو دعوة فارس على طعامه، وكان في ذلك بادرة طيّبة وحقن لدماء كانت ستهدر لو رُفضت دعوته.
نكس الرجال طبنجاتهم، وأغمدوا سيوفهم وتقدّموا إلى بيت مضيفهم الذي انعطف إلى زريبة مواشيه يذبح لهم المزيد من الذبائح لإطعامهم. قال ابن سمير مستغرباً ومُكْبِراً لما يفعله فارس:«الله، الدرزي عثا بحلاله».

كانت النسوة اللواتي احتمين بالسطح العالي قد نزلن بعد أن رأين أمناً، وأخذن يصنعن الطعام للذين كانوا قبل قليل غزاة وأصبحوا ضيوفاً لا بدّ من إطعامهم…
بعد أن أكل الضيوف طعام فارس الطيب، قال ابن سمير:«يا فارس من هذا فعله لن يؤخذ (أي لن يُعتدى عليه)، أنا أضع حدّاً بيني وبينك، مسيل الماء جنوب القرية وغربها، وكل ما يتعدّاه هافٍ(أي منهوب ولا يحق لك أن تسأل عنه).
لم يتردد فارس بقبول الحل الذي وضعه الرجل الأقوى، وتهادى الرجلان، وكانت هدية ابن سمير لفارس سيفاً، وخرزة حيّة (فقرة من عظم الأفعى يحكّونها مع الحليب في طاس ويقال إنّ الحليب عندها قد يشفي من عضة الأفعى).
رغم هذا السلم الهش فإن إقامة آل النبواني في أم الرمان بقيت محفوفة بالأخطار، لأن البادية إلى الجنوب من البلدة مرتع للقبائل، والسيطرة للأقوى، والغزو البدوي والنهب حالة تكاد تكون يومية في ذلك الزمن حيث لا دولة إلاّ في دمشق والحواضر الكبرى من الولاية، فاضطر النباونة للرحيل إلى قرية عنز شرق أم الرمان بنحو سبعة كيلو مترات، وعنز لها سور يحتمى به، وهناك تجمع من أبناء عمومتهم يقوون بهم، وعادت أم الرمان خربة لا يجرؤ الناس على سكانها.

العودة للعمران
بعد فترة من ارتحال النباونة من أم الرمان، نحو عام 1849 عند منتصف القرن التاسع عشر، جرت المصالحة المعروفة في القريا بين اسماعيل الأطرش ومن معه من بني معروف من جهة، وابن سمير وقبيلته (وِلْدْ علي) من جهة أُخرى، وعلى أثرها توسع التوطن في المقرن القبلي من الجبل، بعد أن أصبح الموحّدون أكثر عدداً وأوفر قوة، وخفّ أثر الغزوات البدوية، وكُلّف الشيخ حمد (إبن شقيق اسماعيل الأطرش الشيخ الأقوى آنذاك في الجبل وصهره) ليكون شيخاً في أم الرمان، وهكذا عُمّرت أم الرمان بقدوم عدد من العائلات المعروفية، ومن ثمّ عاد بعض آل النبواني إلى البلدة.

جانب من دار الشيخ سلمان الأطرش. استقدم لبنائها بنائين شويريين من لبنان. وللأيام دولات.._
جانب من دار الشيخ سلمان الأطرش. استقدم لبنائها بنائين شويريين من لبنان. وللأيام دولات.._

أبرز عائلات أم الرمّان
من العائلات التي سكنت أم الرمان في ذلك الزمن إلى جانب آل الأطرش، والعنتير (أصلاً من آل شجاع)، وآل البربور والنبواني والهادي وآل ملاّك الذين كانوا حملة بيرق أم الرمان ( منهم أجود ملاّك)، قبل أن يعودوا إلى قريتهم الأولى(عين قني بين المختارة وعماطور) في لبنان، وأبو فخر، والمِنْوِر(أصلاً عزام)، وفليحان وأبوطافش وجابر وأبو خير( وهؤلاء ينتمون لآل أبوشقرا) ومعروف (أصلاً آل سيف وأبوعلوان) وجريرة والعقباني والعاقل وآل أبوعاصي (حملوا بيرق أم الرمان بعد آل ملاّك)، ويقظان والحرفوش ( أصلاً من بعقلين) وعزّام وطربيه والشاهين والمغربي (من كفرسلوان في جبل لبنان) والحسنية ( من عين وزين في جبل لبنان) وأبوشقرا، وكحل
( أصلاً : حاطوم) وآل شنيف وقد رجعوا إلى لبنان، وآل أبو طريّة وقد نزحوا إلى الأردن، وآل سيف وقد نزحوا إلى المجيمر ومصاد.
وإلى جانب العائلات المعروفية، وبعد أن أصبحت المنطقة أكثر أمناً، قدمت إلى أم الرمان عائلات مسيحية غسانية الأصل منها آل العودي، والندفة وعصفور والياس واللابد والجابر، بالإضافة إلى آل الحْمود السنّة.( والمسيحيون والسنة هم أصلاً من أهل سهل حوران القدامى) ومن العائلات السنية التي سكنت أم الرمان بعد توطن الموحّدين بها آل الصبيحي وصنيج وقد ارتحلوا منها إلى جهات حوران ودمشق منذ نحو مائة عام.

دور كبير في الثورات الوطنية
منذ أعيد إعمارها على يد بني معروف الموحّدين، كان لأهل أم الرمّان دور فاعل في تثبيت التوطن الحضري في القسم الجنوب الغربي من الجبل الذي طاله الخراب قروناً، وقد أقام أهل أم الرمّان علاقات تحالف مع بدو الجبل والبادية القريبة كقبائل الشنابلة والمساعيد والعظامات والسردية والعيسى وبني صخر ضد الغزوات التي كانت تمارسها قبائل الصحراء أو بعض النهابين منها، وكانت هذه الخطة الجادة قد تم إرساؤها في الجبل منذ توطن بني معروف في ربوعه على يد الشيوخ الحمدانيين، والشيخ اسماعيل الأطرش وذويه من بعده. وعلى قمة تل الشيح جنوب أم الرمّان بنحو 7 كلم، والمشرف على البادية الأردنية كانت ترابط مجموعة من فرسان القرية يصل عددهم إلى الستين فارساً أحياناً تحسّباً لرد أي غزو مفاجئ قد تسوقه إليهم البوادي المحيطة.
وفي الثورات المتعاقبة على الاستبداد العثماني، حيث يشير الدكتور حسن أمين البعيني في ص220 من كتابه «جبل العرب، صفحات من تاريخ الموحّدين الدروز» إلى تجلّي ذلك الاستبداد في» تصرفات القادة العثمانيين وفسق بعضهم وتكاثر طلباتهم غير المعقولة». لهذه الأسباب وما شابهها حدثت مواجهات في المقرن القبلي من الجبل بين بني معروف والعثمانيين عشية القرن التاسع عشر، وفيها تمكّن مجاهدو أم الرمّان من أسر 31 جندياً عثمانياً في معركة خراب عرمان عام 1896م، وقد جيء بهم إلى مضافة شيخ القرية أبو قاسم حمد الأطرش، وأطلق سراحهم في ما بعد.

” رغم مصادقة ابن سمير بقيت إقامة آل النبواني في أم الرمان محفوفة بالأخطار، لأن البادية إلى الجنوب من البلدة بقيت مرتعاً للقبـــائل والســــيطرة للأقوى  “

ملجأ الثوار
إلى أم الرمان في مطلع القرن العشرين، كان يلجأ رجال الجمعيات العربية الذين يئسوا من إمكانية إصلاح الدولة العثمانية المتهاوية مثل أعضاء الجمعيات العربية والثوار الهاربين من ملاحقات السلطات، ومن أحكام جمال باشا السفاح التي استندت إلى سياسة التتريك واضطهاد العرب وغيرهم من شعوب الامبراطورية العثمانية. ومن أبرز هؤلاء طلال حريذين ومطلق المذيب من زعماء سهل حوران، ونسيب البكري وعبد الرحمن الشهبندر من زعماء دمشق.
وفي مضافة حمد البربور ومضافة قاسم النبواني وجد هؤلاء الأحرار حمى لهم بعيداً عن يد الظلم العثماني، كما وصل متخفياً ضمن قافلة من الجمال ومعه زوجته وابنته؛ برفقة ابراهيم علي العاقل قادماً من دمشق الصحافي الغزاوي حمدي الحسيني؛الذي أصبح بعدها صديقاً حميماً لبني معروف، وقد ارتبط بعلاقة مودة بالصحافي والمجاهد المعروفي اللبناني عجاج نويهض الذي يصفه في ص 95 من مذكّراته «ستون عاماً مع القافلة العربية» بأنه «قلعة وطنية» وكان له في ما بعد دور بارز في فلسطين في مناهضة الإنكليز واليهود. كان الحسيني هارباً من سيف جمال باشا، وقد شُنق من أقربائه الشيخ أحمد عارف الحسيني مفتي غزة، وذلك على مرأى من ولده الضابط مصطفى الحسيني، ثم أعدموا الابن بعده رمياً بالرصاص.(ص 176 من المذكرات)، وقد نزل الحسيني في مضافة آل العاقل في أم الرمان، وأفرد له بيت (لم يزل قائماً إلى يومنا هذا)، أقام فيه مع أسرته إلى أن خرج الحكم العثماني من بلاد الشام ودخلت جحافل الاستعمار الفرنسي والبريطاني.
تمت عمليات لجوء أولئك النخبة من الثوار إلى أم الرمّان وحيث لكل عائلة مضافة أو أكثر كانت بمثابة فنادق مجانية للقادمين إليها، وكان استقبال المعارضين والأحرار يتم بالتنسيق مع سلطان باشا الذي كان يدرك أن الأتراك الطورانيين الذين قضوا على السلطنة العثمانية وتخلوا عن رابطة الإسلام كانوا يؤججون مشاعر التعصب التركي الطوراني ولم يكونوا يكنون للعرب إلا مشاعر الغطرسة والإستعلاء القومي.
شهداء الثورة
يذكر الشاعر صالح عمار أبو الحسن، وهو المعروف بالشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى أسماء شهداء قرية أم الرمّان، وكذلك أشار إليهم سعيد الصغير في ص 536 من كتابه «بنو معروف في التاريخ»، وهم حمد وأجود ونصار وأحمد ومحمود ونهاد البربور، وهاني وابراهيم وسليم وسلمان أبوخير، وسليمان وسعيد وداود وفارس أبوطافش وحسن جابر وحمد النبواني، وهلال وهاني الهادي وفارس ونسيب وأسعد معروف، وحسين ونواف ويوسف ومحمد العقباني، وسليمان جريرة، وعلي الحمّود، وسليمان أبو شهدة، ووحيد ونسيب المغربي وابراهيم العاقل وعلي الشعراني، وسليمان أبوعاصي، ومحمد النجم عمّار، وحسن وحمود الشاهين، وعقيل الجودي وعطالله العودي وحنّا الرحال (وهؤلاء الثلاثة شهداء مسيحيون)، ويوسف عامر ومحمد منذر وسليمان مزهر وعوض الحْمود (من آل الحمود السنّة)، ذكره توفيق الصفدي ص 342 من كتابه «جنوب الشام، صدى الإنسان والسنديان».
وفي معركة أم الرمّان عام 1926 استشهد بنتيجة القصف المدفعي، وانهيار المنزل على الأسرة زوجة سليم جودية وأولاده الأربعة، ولا تزال آثار الدمار ماثلة في بعض الدور القديمة من القرية إلى يومنا هذا… وفي ما بعد وعلى أثر عدوان الشيشكلي على الجبل عام 1954 استشهد أحد أبرز أبطال الثورة السورية الكبرى الملقّب بدبابة الدروز، وهو أبو حمد سلمان الأطرش شيخ قرية أم الرمّان المشهور بكرمه وجوده إلى جانب شجاعته الفائقة في معارك بني معروف.
ويشيد الشاعر صالح عمار بجهاد أهالي قرية أم الرمّان في تلك الثورة وتسابقهم إلى ساحة الحرب (الكون)، فيقول:
بأم الرمّان سباع رابي بوسط غاب شجعان من حرب الأعادي ما تهاب
ان ثارت الهـــــيجا وعلاّ غْبـــــــــــــارها يتســـابقوا عَ الكــون شبّــان وشباب

الوضع البلدي
يبلغ عدد سكان أمّ الرمّان نحو 3780 نسمة، ثلاثة أرباعهم من الموحّدين ونحو ثلثهم من المسيحيين الأورثوذكس. ويبلغ عدد المساكن في القرية نحو500 مسكن، وتبلغ مساحة المخطط التنظيمي 280 هكتاراً، من أصل 6300 هكتار هي المساحة الإجمالية للقرية، وأطوال شوارعها على المخطط نحو 50 كلم، المنفذ منها نحو 25 كلم، وتقوم البلدية بإدارة أعمال النظافة في القرية ونقل النفايات على مدار أربعة أيام أسبوعياً بواسطة جرار خاص بالبلدية إلى مكبّ يبعد جنوباً عن القرية نحو 6 كلم باتجاه الحدود الأردنية، وذلك بهدف الحفاظ على النظافة العامة وسلامة البيئة في أم الرمان، إلى جانب الخدمات البيئية والعمرانية الأُخرى، ويرأس بلدية القرية حالياً الأستاذ مروان أبو طافش، وهو يقول إن النظافة من معايير حضارة الشعوب ونحن نرتقي بالخدمة الممتازة التي يقوم بها عمال النظافة في قريتنا».

الوضع التربوي
في القرية مدرسة ابتدائية واحدة، وتحمل إسم الشهيد يوسف العودي، من مسيحيي أم الرمان، وقد استشهد في حرب حزيران عام 1967، ويبلغ عدد تلاميذها 168 تلميذاً وتلميذة، وعدد العاملين التربويين فيها 21 منهم 6 في الإدارة والباقون معلمات، أما المدرسة الإعدادية فتحمل إسم الشهيد نسيم الهادي، ويبلغ عدد تلاميذها 186 تلميذاً وتلميذة، والموظفون التربويون فيها 26 موظفاً وموظفة، منهم 10 إداريون، و16 مدرّساً ومدرّسة، كما توجد في القرية روضة للأطفال من سن الثالثة حتى الخامسة.
وفي القرية متخرّجون من تخصصات متنوعة علمية وأدبية 100 مجاز جامعي، و200 خرّيج معهد فوق ثانوي (ذكور وإناث)، و500 موظف وموظفة يعملون في وظائف في الدولة، و1000 شخص يعملون في الزراعة والأعمال الحرة.

المركز الصحي
أُنشئ في القرية مركز صحي حكومي، يقدّم الخدمات الصحية المجانية لروّاده، ويعمل فيه نحو 20 موظفاً وموظفة من أبناء القرية، منهم 16 من الإناث يعملن في اختصاصات مختلفة، كالصيدلة والتمريض لتقديم الخدمات الطبية والإسعافات الأولية وتضميد الجروح وتقديم أدوية السكري والأمراض الالتهابية والمسكنات وقياس الضغط، والقبالة حيث تتم زيارات دورية للإشراف على صحة الحوامل، كما يعمل في المركز ثلاثة أطباء أسنان.

الوضع الزراعي
تبلغ المساحة العامة لعقار القرية نحو 63500 دونم، منها 600 غابة محمية مزروعة بالصنوبر المثمر والكينا واللوز والسرو، على ارتفاع نحو1250م فوق سطح البحر على الطريق باتجاه الرافقة ــ صلخد، وتشرف مديرية الزراعة على حمايتها من التعدي بواسطة 8 حرّاس يتناوبون على حمايتها وسقيها.
وتبلغ مساحة المستثمر من عقار القرية في الزراعات البعلية المختلفة 34000 دونم، مساحة المشجّر منها نحو 2000 دونم، وقد تراجعت زراعة العنب في العقود الأخيرة بسبب تعاقب سنوات الجفاف، أما ما تبقّى فيتم استزراعه حسب الدورة الثلاثية: ثلث للقمح والشعير، ومثله للحمص والبقوليات، وآخر سبات للراحة.

الوضع المائي
تتذبذب كميات الأمطار بشكل ملحوظ من عام إلى آخر على أطراف جبل العرب حيث تقع قرية أم الرمّان على الهامش الجنوب الغربي منه، واستناداً إلى مقياس التهطال السنوي على مدى 16 عاماً فإن المتوسط السنوي بلغ 219.3 ملم ولكن التفاوت الكبير بين المتساقطات المطرية بين عام وآخر يؤثر سلباً على انتظام ونوعية المحاصيل الزراعية في البلدة. ففي عام 1999 كانت كمية الأمطار السنوية الهاطلة 70 ملم فقط وهذه كمية لا تفي بالحاجة، فالشعير يلزمه كحد أدنى مثلاً 125 ملم من المطر، يضاف إلى ذلك عدم توزّع المتساقط المطري على أشهر الشتاء والربيع، الأمر الذي يضرّ بالمحصول السنوي. وبهذا فإن الزراعة في أم الرمّان وسائر القرى الواقعة على محيط جبل العرب تعاني من عدم ثبات كميات الأمطار السنوية وتفاوت الكميات في الشهور الماطرة. هذا بالإضافة إلى قلّتها في سنين عديدة عن المعدل العام المناسب لزراعة القمح وهو 250 ملم بالسنة. يضاف إلى كل ذلك عدم وجود زراعة تعتمد على الري لعدم وجود مياه جارية أو آبار أرتوازية ذات غزارة تفي بحاجات زراعة مروية وقد عمدت الدولة في العقد المنصرم إلى حفر آبار إرتوازية على أعماق تتجاوز 600 م وتأمين مياه الري لأعداد من المزارعين بحيث تكون حصة كل مزارع ما يكفي لري ثلاثة دونمات.
هذا، ونجد في الحدائق المنزلية والكروم نحو1,000 شجرة تين، 400 شجرة فستق حلبي، و300 شجرة تفاح، 50 شجرة توت شامي.

عمود أثري منقول من مكانه القديم أمام القاعة الأثرية.._
عمود أثري منقول من مكانه القديم أمام القاعة الأثرية.._

لثروة الحيوانية
إن موقع أم الرمّان المتصل بالبادية الأردنية من جهة الجنوب، وبالمرتفعات الجبلية من الشمال والشمال الشرقي حتّم توجه مزارعيها إلى تربية الماعز والأغنام على هامش الزراعة، وذلك لتوفّر الأراضي الواسعة والمراعي، هذا، وتبلغ أعداد الأغنام المرباة في القرية نحو 3,000 رأس، والماعز نحو 1,200، والأبقار من الأنواع المحسّنة 60 بقرة حلوب متوسط إنتاج الواحدة منها سنوياً نحو 3,500 كلغ.
الدواجن: من دجاج وحبش عددها 2.000 طير.
ويتم العمل بالأرض اعتماداً على الآلات الزراعية الحديثة، إذ يبلغ عدد الجرارات في القرية 40 جراراً تتراوح قوة كل منها ما بين 28 و70 حصاناً، بالإضافة إلى 70 محراثاً آلياً يدوياً يدار باليد (فرّامة) و80 مرشّة يدوية ومرشة آلية، لرش أشجار الحدائق والكروم، وتقوم الدولة برش المحاصيل الحقلية عند اللزوم بالطائرات الزراعية.
وفي القرية درّاستان آليتان، وحصادة آلية واحدة.
الوحدة الإرشادية الزراعية: يعمل بها 19 موظفاً وموظفة، منهم مهندسون زراعيون: 3، ومراقبون زراعيون :2، كتبة:2، سائق جرار:3، مستخدمون: 3، حارس ليلي:1، طبيب بيطري: 1، مراقب بيطري: 3، وفيها دراجتان ناريتان لتنقل الموظفين المختصين في الحيز الزراعي للقرية.
الأماكن الدينية: في القرية مجلس للموحّدين الدروز، ومدرّج عام لإحياء المآتم مشترك لكل أهالي البلدة، وفيها كنيسة للمسيحيين من طائفة الروم الأورثوذكس.

الشيخ يوسف العيسمي

المجاهد يوسف العيسمي

رجل المهمات وسفير الثورة

أوفده القائد سلطان إلى مصر لاستنهاض التأييد للثورة
وفاوض السعوديين لتأمين إقامة الثوار في البر السعودي

سُرّ أمير الشعراء أحمد شوقي بزيارة المجاهد العيسمي
وقال له :«يستحق الدروز أن يُخَلّد التاريخ أعمالهم المجيدة»

إبراهيم العاقل

عرّف به المؤلّف والمؤرخ السوري أدهم آل جندي، صاحب كتاب «تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي» الصادر سنة1960 بما يلي:» هو المناضل المجاهد الوطني المعروف الشيخ يوسف حمد العيسمي، ولد في قرية امتان ورغم ما يملكه من أملاك واسعة يستثمرها بالأعمال الزراعية فإنها لم تشغله عن واجباته الوطنية، فقد اشتهر بالنضال والكفاح الوطني ضد الفرنسيين المستعمرين منذ وطأت أقدامهم البلاد.
ولما اندلعت نيران الثورة السورية كان من أركانها البارزين وخاض معاركها الوطنية ببطولة وإقدام. ومن السجايا التي امتاز بها هذا المجاهد الكبير أنه لم يستسلم بعد انتهاء الثورة بل آثر النزوح مع زعيمه سلطان باشا الأطرش حيث شاطره الحياة المرّة في وادي السرحان وكفاه شرفاً واعتزازاً أنه كان ولا يزال موضع ثقة القائد العام لما اتصف به من أمانة وإخلاص وتضحية، وقد كلّفه بمهام خاصة بالمجاهدين فسافر إلى مصر وفلسطين وقام بمهمته على أكمل وجه.
وفي عام 1937 عاد مع المجاهدين إلى وطنه وأسهم في الأعمال الشعبية وكان من المناوئين المعارضين لحكم الشيشكلي وتعرّض للملاحقة والتنكيل كغيره من المعارضين».
فمن هو المجاهد يوسف العيسمي؟ وما هي النضالات التي خاضها في معارك الثورة السورية الكبرى؟ وما هي طبيعة الدور الذي اضطلع به في تلك الأحداث التاريخية ثم في مرحلة الاستقلال؟

مهمة إلى مصر
بالنظر إلى تضييق الإنكليز والفرنسيين المتزايد على الثوار السوريين الذين اضطروا للجوء إلى الأردن في صيف1927 اتصل سلطان باشا الأطرش بالأمير علي بن محمد بطّاح معتمد الملك عبد العزيز آل سعود على «قريّات الملح» في وادي السرحان ( من أراضي المملكة العربية السعودية)، وكان سلطان في تلك الأيام الحرجة راغباً في أخذ موافقة الملك السعودي على لجوء الثوار إلى مملكته، لأنها بنظره دولة عربية لا يرتفع في سمائها علم دولة محتلة في ذلك الحين. يقول سلطان في ص 327 من كتاب «أحداث الثورة السورية الكبرى»، بأن الأمير السعودي ابن بطاح» وافانا برسالة جوابية، بعثها مع جراد بن ضبيعان الشراري، أبدى لنا رغبته في الاتصال بنا والتفاهم معنا، وكان طبيعياً أن نبحث عن مأمن لنا ولأفراد أسرنا في حمى الأسرة السعودية».
ولتجنّب المحذور، والإيغال بهم أكثر في الأراضي السعودية، يقول سلطان:«قررنا إيفاد يوسف العيسمي لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز، وإعطائه الأدلة الثابتة على حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وآدابه، فحاول الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر» .
في مصر رفضت السلطات السعودية السماح له بدخول المملكة بدعوى أنه شخص غير مرغوب فيه، لكن العيسمي تابع نشاطه واتصالاته لحشد الدعم المصري للثورة والتقى بالعديد من قادة البلاد، لكنه اصطدم في بداية جولته بموقف غير ودي من الثورة من قبل الأمير عمر طوسون أحد الأمراء النافذين وعضو الاسرة المالكة في مصر. وكان ابن طوسون مثقفاً درس التاريخ والجغرافيا والزراعة والتأليف وعلم الآثار، وكان قلقاً من الهجمة الأوروبية على الدولة العثمانية، ويعتبر السلطنة مقر الخلافة الإسلامية المهدّد وكان نشطاً بالتالي في تأييدها وتأييد الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار الأوروبي، لذلك فقد بذل جهوداً كبيرة في جمع التبرعات لثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، ضد الفرنسيين، لكنه لسبب ما كان يحمله في صدره من ضغينة ضدّ دروز الجبل فإنه – في موقف نمّ عن تناقض كبير- رفض دعم الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر نفسه ربما لكونها بقيادة سلطان باشا الأطرش والأسرة التي قاومت المصريين في السابق وقتلت الآلاف منهم أثناء الحملة المصرية على سوريا ولبنان، ولهذا السبب فقد وضع الأمير مؤلفاً بعنوان «محاربة الجنود المصرية للدروز في حوران» على سبيل التوثيق لتلك الفترة.
هنا تذكر الأحاديث المتداولة في الجبل أن مواجهة حصلت بين الأمير المصري والعيسمي بسبب كلام قاله عمر طوسون ضد الموحدين الدروز، وهو كلام استدعى رداً قاسياً من العيسمي مبعوث سلطان باشا إلى مصر. وتقول الروايات إن المواجهة حصلت أثناء مأدبة دعا إليها رئيس وزراء مصر مصطفى النحّاس باشا لتكريم العيسمي كممثل لسلطان باشا ولتكريم الثورة السورية، لكننا لم نجد مصادر تاريخية مستقلة توضح ملابسات حصول الحادثة، كما إن سلطان باشا الأطرش في مذكراته لم يشر إلى مواجهة بين الأمير والعيسمي وإن كان ذكر أن طوسون لم يتجاوب مع طلب العيسمي تقديم مصر مساعدات للثوار في نضالهم ضد المحتل الفرنسي. لكن مهما كانت حقيقة ما جرى فإن الرواية أريد بها إظهار قوة شخصية العيسمي وجرأته في الدفاع عن قضية الثورة السورية وكذلك حنكته الدبلوماسية والتي جعلت سلطان باشا يختاره للسفر إلى مصر وإلى المملكة السعودية.
يقول زيد سلمان النجم في ص 113 من كتابه» أحداث منسية وأبطال مجهولون»، إنّ العيسمي استغل وجوده آنذاك في مصر ليشرح للمسؤولين المصريين الظروف الصعبة التي يتعرّض لها الثوار في منفاهم الصحراوي في وادي السرحان، وكان يرافقه حينها الصحافيان اللبنانيان تيسير ذبيان، وعباس المصفي، ومن الزعماء المصريين الذين قابلهم في القاهرة مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء مصر آنذاك، وأحمد زكي باشا، وعلي الطاهر، كما زار أمير الشعراء أحمد شوقي، ونقل إليه شكر القائد العام والثوار على قصيدته العصماء» نكبة دمشق»، وعلى إشادته بثوار بني معروف حيث يقول:
ومــــــــــــــــــــــــا كــــــــــــــــــــــــــــان الـــــــــــــــــــدروز قبيـــــــــــــــــــلَ شـــــــــــــــــــــرٍّ وإن أُخِــــــــــــــــــــــذوا بـــــما لـــــــــــــــــــم يستحقّــــــــــــــــــــــوا
ولـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــن ذادةٌ وقُــــــــــــــــــــــــراةُ ضيــــــــــــــــــــفٍ كينبوع الصـــفـــــــــــــــا خشنـــــــــــــــــــوا ورقّـــــــــــــــــــوا
لهــــــــــــــــــــــــــم جبــــــــــــــــــــــــــــــلٌ أشـــــــــــــــمّ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه شــعـــــــــــــافٌ مواردُ في السحاب الجــــــــــــــون بُلـــــــــــــــــــقُ
لــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــلّ لـــبـــــــــــــــــــوءةٍ ولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــــلّ شــبـــــــــــــــــــلٍ نـــــــــــــضـــــــــــــــــــــالٌ دون غـــــــــــــــــــابتــــــــــــــــــــــه ورشـــــــــــــــــــقُ
كـــــــــــــــــــأنّ مـــــــــــــــــــن السّـمـــــــــــــــــــَواَلِ فيـــــــــــــــــــه شيئــــــــــــــــــــــــــــاً فـــــكـــــــــــــــــــلُّ جهاتـــــــــــــــــــه شــــــــــــــــرفٌ وخُلـــــــــــــــــــقُ
وقد سُرّ شوقي بزيارة العيسمي، وقال له: «يستحق الدروز، المدافعون عن وطنهم وشرف أمتهم، أن يهتم بهم الأدباء والمؤرّخون، وأن يُخَلّد التاريخ أعمالهم المجيدة».
ساهمت زيارة العيسمي الى مصر في شرح الأحوال الصعبة والمريرة التي يواجهها الثوار وقادتهم في المنفى الصحراوي في وادي السرحان، وقد تجاوب أحرار مصر فتنادوا إلى دعم المجاهدين وأرسلوا بتبرّعاتهم للثوار السوريين واللبنانيين، الذين كانوا برفقة سلطان عن طريق فلسطين، بواسطة الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس.
ومع أن السلطات السعودية لم تسمح للعيسمي بدخول المملكة عبر مصر لإتمام مهمته، إلاّ أنه اجتمع مع المجاهد شكري القوتلي الذي كان في القاهرة آنذاك، وقد بادر القوتلي على أثر ذلك بالسفر إلى السعودية، وفي هذا الصّدد، يقول سلطان باشا بأن القوتلي اجتمع بالملك عبد العزيز، والتمس منه «وقف الإجراءات المتخذة ضدّنا وعدم التضييق علينا وإعطاءنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده».
وهكذا، نجحت وفادة العيسمي إلى مصر، وكان للمجاهد شكري القوتلي فضل في إيصالها إلى غايتها.
في تلك الآونة أخذت البرقيات تتوالى على الملك عبد العزيز بن سعود، من سوريا، وعدد من الأقطار العربية، تأييداً لوساطة القوّتلي، ومن أبرز تلك البرقيات، برقية من هاشم الأتاسي، وقد ورد فيها:«إن معاملة سلطان الأطرش، القائد العام للثورة السورية، ورفاقه المجاهدين بالحسنى، لمن الواجبات التي تمليها علينا روابطنا الدينية والقومية، نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم، وأن تعملوا على حفظ حياتهم، وصيانة كرامتهم، ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة».

مصطفى النحاس باشا كان متعاطفا مع الثورة السورية
مصطفى النحاس باشا كان متعاطفا مع الثورة .السورية

من هم آل العيسمي؟
يتحدر المجاهد يوسف العيسمي من عائلة كريمة هاجرت من جنوب لبنان في بلدة الكفير إلى بلدة أمتان في جبل العرب، وآل العيسمي والعائلة منتشرة في لبنان وسوريا، كمعظم عائلات جبل العرب، وقد جاء في الجزء الأول من كتاب الأصول والأنساب ليحيى عمار، ص 138 أنهم «كانوا في قديمهم من سكان قرية عيسم القريبة من قطنا في الجمهورية العربية السورية، ومنهم من ارتحل إلى جهات حوران ــ السهل ــ وسكنوا هناك في قرية داعل الحورانية، هذا الفصيل عاد إلى مذهب السنة، ومنهم جماعات ارتحلت إلى وادي التيم وسكنوا حاصبيا، ومنهم من ارتحل إلى الغوطة ــ غوطة دمشق ــ وسكن الأشرفية.
ارتحل اجدادهم من وادي التيم إلى جبل الدروز وما زال هناك خلوة قائمة في البياضة قرب حاصبيا، تحمل إسم الشيخ أبو حسن وهبي العيسمي.
تاريخ من الجهاد
في قرية أمتان، شرق صلخد، ولد يوسف حمد العيسمي، نحو عام 1885، كان أبوه حمد من الثوار البارزين الذين قاوموا حملات الجيوش العثمانية على الجبل في أواخر القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، كما كان حمد العيسمي أحد قادة حركة العامية الثانية التي انطلقت من المقرن الشرقي في الجبل عام 1888، ضد مشايخ آل الأطرش، وقد أدت تلك الحركة إلى إصلاح نظام الملكية في قرى الجبل وتنازل مشايخ الطرشان عن حصتهم التاريخية من الأراضي للفلاحين. فصارت الثُّمن بدلاً من الربع، وكما جرى إلغاء حق الشيخ بترحيل الفلاح الذي يخالفه من القرية.
يذكر الأستاذ الباحث محمد جابر في كتابه «أركان الثورة السورية الكبرى 1925 ــ 1927» (ص 281) أن يوسف العيسمي شارك في معارك المواجهة ضد الحملة العثمانية التي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910، وكان أحد فرسان الجبل الذين أوفدهم سلطان إلى العقبة الأردنية عام 1917، دعماً للجيش العربي بقيادة فيصل بن الحسين.
وفي 30 أيلول عام 1918 كان يوسف العيسمي، في طليعة فرسان بني معروف الذين دخلوا دمشق ورفعوا العلم العربي فوق دار الحكومة فيها، وذلك قبل وصول الجيش الفيصلي إليها، وقبل دخول الجيش البريطاني الذي كان يقوده الجنرال اللنبي وقد أثار سبق فرسان بني معروف له إلى دمشق حنقه الشديد.
ويذكر المجاهد علي عبيد، في مذكراته، بأنه في عام 1920 وعلى أثر احتلال الفرنسيين لسوريا، عُقِد اجتماع كبير ترأسه الضابط والسياسي، اللبناني العروبي، رشيد طليع، وأقسم المجتمعون يمين الإخلاص للوطن، والعمل على التمهيد للثورة على الاحتلال الفرنسي، وكان يوسف العسيمي أحد أولئك المجتمعين..
كان سلطان يثق بيوسف العيسمي الذي كان أحد المقرّبين الذين يعتمد على مساندتهم، لما كان له من مزايا كان أبرزها الجمع بين صواب الرأي وشجاعة الفارس، وقد كان العيسمي الشاب في طليعة فرسان بني معروف المحاربين، الذين أرسلهم سلطان باشا لملاقاة الجيش العربي في العقبة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، ويروي المهندس كمال العيسمي أن الشريف فيصل أعجب بحصافة العيسمي وحنكته فلقبّه بـ «أبي مسلم»، نسبة إلى الداهية أبي مسلم الخراساني الذي كان من أبرز الممهدين لصعود حكم بني العباس وإسقاط حكم الأمويين.
ويذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه « سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى»، أن يوسف العيسمي كان جزءاً من حلقة يرأسها سلطان ورشيد طليع. يقول الدكتور البعيني:«إن اتصالات سلطان انحسرت مع خارج الجبل برشيد طليع رئيس وزراء الأردن سابقاً
( الذي ترك منصبه ليلتحق بالثورة)، وكان يطلع أيضاً على المحادثات السرّية التي تدور حول الأوضاع في سوريا، وضرورة إشعال نار الثورة بين زعماء دمشقيين وزعماء من الجبل يقيمون في دمشق و يزورونها وهم حمد ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش، ويوسف العيسمي، إلاّ أن قرار الثورة وتاريخ البدء بها لم يكونا مجال بحث بين سلطان باشا وبين أحد، بل كانا رهناً بتطوّر الأوضاع ، ورهن إرادته وحده».
في ذلك الوقت الذي كان يحتاج لاتصالات مكثفة مع زعماء دمشق وفي طليعتهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، كان العيسمي ناشطاً في اجتماعات سرية تعقد بين موفدي سلطان، يذكرهم الدكتور البعيني ص 211، وهم «نسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش ويوسف العيسمي».
في الحادي والعشرين من أيار عام 1921 اختير اثنان وأربعون وجيهاً نواباً في أول مجلس نيابي في دولة جبل الدروز، في حكومة رئسها الأمير سليم الأطرش، كان من بينهم يوسف العيسمي. وفي عام 1923 أقسم العيسمي يمين الولاء لمبادئ الثورة المرتقبة ضد الاستعمار الفرنسي ، في أحد الاجتماعات السرية التي رئسها سلطان الأطرش. وفي عام 1925 نقل رسالة خطية من رشيد طليع في فلسطين، وفي ضمنها مساعدة مالية من مغتربي سوريا في المهجر الأميركي إلى سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز تتعلّق بالثورة ضد الفرنسيين؛ ورد ذكر ذلك في ص 65 من مذكرات المؤرخ والكاتب عجاج نويهض.

“الأمير المصري إبن طوسون رفض دعم الثورة السورية بسبب محاربة الدروز لأجداده محمد علي وإبراهيم باشا”

الأمير عمر طوسون كان حاملا لضغينة ضد المجاخدين بسبب قتال أجدادهم لجيوش إبراهيم باشا في سوريا -2
الأمير عمر طوسون كان حاملا لضغينة ضد المجاخدين بسبب قتال أجدادهم لجيوش إبراهيم باشا في سوريا -2

حصافة ورجولة
كان من أوّليات اهتمام الفرنسيين بعد احتلالهم سورية، سحب الذهب من أيدي السوريين وتبديله بعملة ورقية، وفي تلك الفترة من حكم كاربييه للجبل، وكان هذا يعتمد على جواسيس من معلّمي المدارس وظّفهم لينقلوا له خفايا الناس وأسرارهم، عَلِمَ بأن عليّاً ابن شيخ قرية امتان المرحوم مصطفى الأطرش ورث عن أبيه مائة وخمسين ألف ليرة ذهبية عثمانية.
أقدم كاربييه على زيارة امتان، وحاول إقناع علي الشاب بتبديل الذهب بالعملة الورقية، كما طلب إلى أهالي القرية المجتمعين في مضافة الشيخ تبديل ما لديهم من ذهب بالورق الفرنسي، وكان يوسف العيسمي في مقدمة الرافضين لمطلب كاربييه، ولم يكتفِ بذلك بل طلب من كاربييه أن يقوم بدفع حصة جبل الدروز من ضريبة الجمارك حسب اتفاقية (أبو فخر ــ دو كيه) المتفق عليها مع فرنسا عام 1921، ولم تلتزم بها إدارته، واتهمه بالخداع وسلب أموال الناس بعملية تبديل العملة، فاستشاط كاربييه غضباً منه، وغضب هو بدوره من كاربييه، وخرج من المضافة ساخطاً مسرعاً إلى منزله، لحق به ابراهيم العيسمي ابن عمه، فوجده قد أعدّ فرسه وسلاحه، كان ابراهيم يعرف مدى صلف كاربييه الذي كان يفاخر بأنه امبراطور جبل الدروز، ولكنه يدرك أن يوسف، وقد غضب فلا بدّ من ثورته…
وبالفعل امتطى العيسمي فرسه وتوجّه إلى الساحة أمام منزل الشيخ علي مصطفى الأطرش، هناك التقى بجماعة من الرجال كان كاربييه قد أرسلهم للتوسط لديه ليعود، وقد أوضح لهم أنه سيأخذ برأيه. كان الفرنسي يدرك أن خصمه في ذلك المجلس هو أحد محرّكي الرأي العام في منطقته.
في ميدان القرية، أمام مضافة الشيخ، ترجّل يوسف، وناول مقود فرسه وبارودته لإبن عمه الذي كان يتبعه، وهدّأ من غضبة نفسه، كان الرجل داهية بحق، قادراً على التحكم بزمام ثورته عند اللزوم. دخل المضافة مع الوسطاء، وجلس في الجانب المواجه للحاكم الفرنسي، كاربييه، كان الصمت مطبقاً في مضافة الشيخ علي الأطرش الذي لم يزل فتى بعد، ولكنه بنباهته أدرك أنه لا بدّ من كسر الصمت الذي غشى على المجتمعين. أمر بتقديم ضيافة بسيطة من الحلوى، هي عبارة عن البسكويت والراحة بادئاً بالحاكم الضيف.
تناول كاربييه مكعّبين من الراحة ورصّهما بين قرصين من البسكويت، بحيث صارا كلاًّ متماسكاً، ومشى إلى العيسمي، ثم جلس إلى جانبه، وقدم إليه سندويشة الحلوى، فاعتذر، لكنه ألحّ عليه ليسترضيه، فتناولها منه، ولم يأكلها كما تقضي عادة الضيافة. وأراد كاربييه التخفيف من التوتر المسيطر على المجلس، فقال له مراوغاً: إن موضوع تبديل الذهب بالعملة الورقية قد تجاوزناه، أما حصة الجبل من المكوس، فلا تعودن إلى ذكرها لأن لها شأناً آخر.
لم يكن الموقف يحتمل سجالاً مع كاربييه، ويقول الدكتور حسن البعيني في كتابه إن يوسف العيسمي كان يدرك بذكائه أن أي موقف عنيف في وجه خصمه حينها كان مخالفة لما قرره سلطان باشا وإن قرار الثورة رهن بتطور الأوضاع ونضجها ، ورهن إرادة القائد العام سلطان وحده.
ومما ذكره الباحث محمد جابر في ص 284 من سيرة العيسمي أنه قبيل الثورة بقليل اعتقل مع رفيق جهاد آخر له، هو علي الملحم من قرية ملح، وكانت التهمة قيامهما بنشاط سياسي ضد كاربييه…
وعندما قرر سلطان القيام بالثورة في 17 تموز 1925 واتجه بصحبة نخبة من فرسان القريّا إلى بكا حيث كان صياح الأطرش شيخها ينتظره مع فرسان منها واجتمع له عدد من المجاهدين من قرى مجاورة ومرّ هؤلاء بقرى عنز ثم المشقوق، ومنها اتجهوا إلى امتان متجنّبين المرور بصلخد، وكانت تلك حركة تعبوية ذكية، فصلخد قائمقامية تتواجد فيها قوة فرنسية تتشدّد في مراقبة البلدة، فاتجه إلى امتان ليؤمن عدداً أكبر من الفرسان لتحريرها. في تلك المرحلة الدقيقة لعب يوسف العيسمي دوراً مهماً في حشد التأييد لقرار سلطان إعلان الثورة وأظهر فعالية كبيرة على الأرض.

المقرن الشرقي مقرن الصّولات
يذكر سلطان في عرضه لأحداث الثورة ص101 أنه« عندما اتجهنا من امتان إلى قرية ملح لم يكن عددنا قد تجاوز الثلاثين خيّالاً، وقد استقبلهم اثنان من قادة الرأي في ملح هما علي الملحم وخليل الباسط، وكان في القرية سريّة تعدادها نحو مائة خيّال من الحرس الفرنسي السيار، يقول« لكي نرهب القوة، ونستثير النخوة في نفوس الأهالي، فقد عقدنا في ميدان القرية حلبة سباق، وراح بعض فرساننا يتصايحون أثناء الطراد ( سباق الفرسان)، ويطلقون الرصاص في الفضاء.. فلم تمضِ دقائق معدودة حتى خرج نساء القرية ورجالها لاستقبالنا والبيرق يخفق بألوانه».
لم يعبأ نورمان برسل سلطان، أبلغهم بواسطة ترجمانه السوري الملازم يوسف الصايغ، وبصلف المستعمر، وهو منبطح في خيمته ومعه بعض ضباط الحملة، دون أن يعدّل من جلسته :«سألقي القبض على سلطان وأعوانه، وأعيد الأمن إلى نصابه في سائر أنحاء الجبل خلال بضعة أيام!…».ولما نصحه أسعد مرشد شيخ قرية الكفر بقوله: «إنني أنصحك يا حضرة القائد بصدق وأمانة أن تغادر المكان قبل وصول سلطان ورجاله لأن قوتك هذه لا تستطيع أن تقف طويلاً في وجه الثوار». ثارت ثائرته، وقال:» ألا تعلم أن عندنا من السلاح والذخيرة هنا ما نحارب به الدروز ثلاثة أشهر؟! من هم هؤلاء العصاة الذين تخوّفنا بهم؟!.. إن الملازم يوسف الصايغ هذا يستطيع أن يسوق الدروز بعصاه من الصورة الكبيرة شمالاً إلى العانات جنوباً!»
وهنا التفت نورمان إلى رسل سلطان وقال: «اذهبوا إلى سلطان وقولوا له: إنني بانتظاره على أحرّ من الجمر في هذا المكان».

“قاتل العيسمي ببطولة في معركة تل الخروف وهاجم على رأس مجموعة فرسان موقعاً معادياً وأخمد نيـــرانه”

يوسف العيسمي ( أبو لْوَيْ)
في معركة«الكفر» 21 تموز 1925، كانت المواجهة الحربية الأولى مع جيش فرنسي حديث، تشكّل هاجساً مقلقاً للثوار الذين كانوا نحو خمسمائة مقاتل بينهم بعض الفرسان من بدو الجبل، أكثرهم كما روى قائدهم سلطان لا يحمل من السلاح سوى السيوف والمُدى، والبلطات. أما البنادق فكان أحدثها من النوع الإنكليزي، والألماني الطويل والقصير والعثماني القديم بأنواعه. لذا، فقد ابتدع العيسمي رسالة من خياله، وحمّلها لبدوي جريء شقّ صفوف المجاهدين المتجمهرين في موقع العَيِّنْ، وتقدّم من سلطان ليبلغه إياها بصوت جهوري، قائلاً :«إن 200 مقاتل من بدو ابن لوي رهن إشارتكم للإلتحاق بالثورة، وكان يوسف العيسمي بين الجمهور، فأثارت هذه الرسالة حماسة الثوار، ومنذ ذلك الحين عُرف يوسف العيسمي بـ«أبو لوي».
في ذلك اليوم، وكما ذكر محمد جابر في سيرة العيسمي ص 285، أنّ الرجل كان في طليعة المهاجمين أثناء الهجوم الصاعق من أعلى التلة المطلة من جهة الشرق على موقع رماة الرشاشات حيث اشتبكوا معهم بالسلاح الأبيض، وتدحرجت رؤوس كثيرة للأعداء.
ولم يتخلّف بعدها عن معارك الثورة اللاحقة إذ اشترك في معركة بصر الحرير، في 31 تموز، وكانت هذه المعركة قاسية الوقع على الثوار الذين اضطروا إلى التراجع أمام حملة ميشو الزاحفة بأحدث أسلحة ذلك العصر.
وفي اليوم التالي لمعركة بصر الحرير، شارك في موقعة تل الخروف جنوب قرية الدور، التي كانت مكيدة وقع فيها الثوار، يقول فيها سلطان:«لعب التهور وعدم الحذر من خطط العدو الماكرة لعبتهما الخطيرة في استنزاف قوتنا وذخيرة أملنا في النصر، فقتل عدد من فرساننا المشهورين».
في تلك الموقعة سقط نحو ثلاثين شهيداً، إذ وقع الفرسان بشرك كمائن أُعدّت لهم، شرق التلّة الصغيرة بعد أن تراجعت خيّالة العدو متظاهرة بالهزيمة أمام غارة فرسان الثوار الذين وقعوا ضحية عدد كبير من القناصة ورماة الرشاشات الذين كمنوا خلف متاريس حصينة، يذكر سلطان بأنه:«انصبّ عليهم الرصاص كإنصباب المطر».
كان يوسف العيسمي واحداً من فرسان تلك الموقعة، ومما جاء في سيرته أنه حين تكاثفت النيران لم يعد يحتمل الإنتظار، وكان ممتطياً جواده، فانتزع البيرق من يدّ حامله فهد العيسمي، وكرّ على موقع مقابل للعدو، فتبعه فرسان امتان (كان المقاتلون يتوزعون مجموعات بحسب قراهم)، فأخمدوا نيران ذلك الموقع، وكان ممن استشهدوا حوله : حسين ملاعب ونجم أبوسعيد، ورغم ما حل بالثوار من مصيبة في ذلك اليوم، فقد تمكّن بعض الفرسان من خرق خط الخنادق والتحصينات التي أقامها الجيش الفرنسي عند أقدام تل الخروف وصعدوا بخيولهم إلى قمة التل الذي كان يتمركز فيها مقرّ إدارة العمليات القتالية، ومن هؤلاء أجود البربور أخ حمد الذي استشهد على تلك القمة! وبتاريخ 2 و3 آب شارك العيسمي في معركة المزرعة المظفرة التي حقق فيها الثوار نصراً ساحقاً على القوات الفرنسية.

العيسمي في موقعة العادلية
شارك المجاهد العيسمي في موقعة العادلية التي جرت في أواخر آب، وهي موقعة لم تبلغ المرجو منها، لأن القوات التي وعد بها القادة الدمشقيون لم تحضر الى المكان المتفق عليه، وهكذا وجد ثوار الجبل أنفسهم في سهل مكشوف، في مواجهة قوات فرنسية مدعومة بالمدفعية والطائرات تلاحقهم على ارتفاع منخفض بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وتسد عليهم طريق دمشق، ومع ذلك فقد أخذ الثوار مواقع لهم على السفوح، وانزلوا بخيالة الفرنسيين خسائر كبيرة، في حين سقط منهم نحو خمسين شهيداً، وعدد من الجرحى، ومع كل ذلك فقد تمكّن حوالي مائة فارس من فرسان الحملة من الوصول إلى الغوطة حيث تغلغلوا في بعض قراها وبساتينها الكثيفة الأشجار، فيما تراجع الباقون إلى حدود الجبل مما يلي قرية براق…
في تلك الفترة من عام 1925، كُلّف يوسف العيسمي وكل من نصري سليم وذوقان حاطوم وشخص من آل أبي صعب، من قبل سلطان باشا، بالاتصال بالأمير عادل أرسلان والمذاكرة معه بأمور تتصل بنشاط الثورة وآفاقها السياسية. ولا بدّ أن ذلك أعطى نتيجة إيجابية، إذ يقول سلطان باشا في ص 133 إنه «في تلك الأثناء بدأت النجدات تصل إلينا تباعاً من أخواننا في لبنان، ومن مناطق أخرى، فكان على رأس القادمين منهم الأمير عادل أرسلان، ورشيد طليع والعقيد فؤاد سليم، الذين أفادوا الثورة بخبراتهم ومؤهلاتهم العالية، واشتد بهم أزرنا إثر انضمامهم إلى هيئة أركان القيادة العليا للثورة».
وبحكم موقعه في هيئة أركان الثورة، كان العيسمي رائداً في النشاط السياسي، وبطلاً يتقدم المقاتلين في معارك القتال التصادمي، يذكر محمد جابر، ص 287 من سيرة ذلك المجاهد، أنه في 17 أيلول من عام 1925 اشترك في معركة المسيفرة، واستناداً إلى رواية المجاهد محمود خليفة العيسمي «أنه كرّ على مواقع العدو مرات عديدة ونحن معه، وأوقعنا بها خسائر كبيرة، وأثناء الانسحاب عاد إلى موقع كان قد سمع فيه أنين جريح، فحمله أمامه على جواده وأوصله إلى قرية أم ولد وسلّمه الى من يتكفّل به، كما اشترك في معركة السويداء الأولى والثانية عام 1925.
وعندما قررت قيادة الثورة إبعاد الأُسر والمواشي، وإخلاء القرى والانتقال إلى منطقتي اللجاة والصفاة، انعقد مؤتمر في خربة عيون قرب صلخد، واتخذ قرار بمفاوضة الحكومة الأردنية بهدف الحصول على موافقتها لاستقبال بعض أسر الثوار داخل الأردن، وقد كُلّف العيسمي بترؤس الوفد الذي توجّه إلى عمان لهذا الغرض، ونجح في مهمته تلك.

أحد قادة المجاهدين مع سلاحه
أحد قادة المجاهدين مع سلاحه

شهادة الصحافة المصرية
في بطولات الثورة السورية
كان المجاهد يوسف العيسمي شريكاً في تلك الثورة التي أثبت ثوارها جدارة أذهلت معاصريهم، ويذكر سعيد الصغير في كتابه «بنو معروف في التاريخ» شهادة مجلة المصوّر المصرية في تلك الثورة التي تحمّل بنو معروف عبئها الأكبر. قالت المجلة بعد أن خبت نار الثورة وتمت السيطرة على الفرنسيين:
« إن الدروز لم تهدأ ثورتهم لأنهم هزموا في الميدان، بل لأن السلاح لم يعد متوفّراً لديهم بعد أن نازلوا الجيش الفرنسي في معركة المزرعة الكبرى التي هي من الطراز الأول، وفي 16 معركة كبيرة و62 معركة صغيرة، ما عدا المناوشات والمطاردات العادية.
وهم حاصروا المدن والقلاع والحصون ثلاثين مرّة، واشترك في محاربتهم من الجانب الفرنسي عشر قادة كبار برتبة جنرال على رأسهم ساراي وهو برتبة قائد جيش، وهاجموا الدبابات في أكثر من 40 موقعة وفي شوارع دمشق (كان ثوار الجبل قد دخلوا إلى العاصمة دمشق وقاتلوا الفرنسيين فيها)، وكبّدوا العدوّ خسائر كثيرة بالأرواح والسلاح»،
وقد خسر الجيش الفرنسي 30 ألف مقاتل نتيجة المقاومة البطولية للموحدين الدروز في الجبل الأشمّ.

الجيش الفرنسي يهدم بيته في امتان
يقول الجنرال أندريا في مذكراته في خصوص احتلال قواته لصلخد القريبة من امتان:«جمع سلطان أشدّ محاربي الجبل تحت السلاح، فأصبح لزاماً علينا أن نخوض معارك قاسية، وأن نمرّ بجيشنا في سائر أنحاء الجبل، وقد نصل صلخد قاعدة الجنوب في الرابع من حزيران… حملتنا الزاحفة التي كان يبدو منظرها مهيباً، وهي تشكل ذلك المستطيل من البشر( الجيش) والحيوانات بطول ثلاثة كيلو مترات وعرض كيلو مترين، في وسطه المدفعية والتموين ومختلف التجهيزات» حقّاً إنه جيش دولة عظمى».
وفي تلك المعركة على أبواب صلخد، قاتل يوسف العيسمي ببسالة. القوة الفرنسية كانت متفوقة عدة وعدداً وتمكّنت من احتلال صلخد، ومن ثم تابعت طريقها شرقاً فاحتلت امتان، قريته، وعاقبه الجنرال أندريا بتدمير داره…

وفادة إلى الملك فيصل
كانت داره في امتان قد هدمت على يد القوات الفرنسية انتقاماً منه، إلا أنه لم يستسلم وشارك بعد هدم داره في معارك اللجاة عام 1926، وكان واحداً من جماعة من الثوار استولت على قطار للفرنسيين وأحرقته، ونظراً إلى جدارته في المحافل فقد كان أحد أعضاء وفد مؤلف من بعض رجال الثورة البارزين ومنهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ونسيب البكري ونزيه المؤيد العظم وعقلة القطامي وعلي عبيد، والأمير حسن الأطرش ومتعب الأطرش وسلامة الأطرش وعلي الأطرش (شقيق سلطان) لمقابلة الملك فيصل الأول ملك العراق عند عبور الأردن متجهاً إلى أوروبا، لعرض المطالب السورية في المحافل الأوروبية.
وفي 23 آب من العام نفسه شارك يوسف العيسمي في معركة «قَيْصَما» التي أوقع خلالها الثوار هزيمة كبيرة بالفرنسيين ثم في معركة أبو زريق وفي موقع «جبَيّة» جنوب قرية العانات وفيها تمكّن الثوار بقيادة سلطان باشا من دحر تلك الحملة التي كان عديدها 1500 مقاتل.

النزوح إلى الصحراء السعودية
بعد انحسار الأعمال القتالية للثورة السورية على الفرنسيين ظل العيسمي وفيّاً لقيم تلك الثورة، إذ إنه قرر في صيف سنة 1927 النزوح مع سلطان باشا والمجاهدين السوريين واللبنانيين الذين رفضوا الاستسلام من الأزرق في الأراضي الأردنية إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية بعد أخذ موافقة الملك عبد العزيز آل سعود،
وعندما نزل الثوار في موقع النبك الصحراوي من وادي السرحان اختيرالعيسمي عضواً إلى جانب محمد باشا عز الدين، وعلي عبيد وعبد القادر آغا سكّر، وسلامة النجم الأطرش، في اللجنة العليا للمنكوبين التي رئسها الأمير عادل أرسلان، ويذكر سلطان باشا أنه كان من أعضاء اللجنة المالية التي شُكّلت في الحديثة ( المنفى)، والمؤلّفة من «حسين مرشد، كنج شلغين، عبد الكريم عامر، يوسف العيسمي، ونايف العطواني»،( المؤرّخ البعيني: مسيرة قائد، ص 363) ولما كان يوسف العيسمي شخصية مرموقة، فقد لفت نظر الشاعر والمجاهد السوري خير الدين الزركلي عندما زار الثوار في منفاهم ذاك، فوصفه:«أبو حمد يوسف العيسمي من أكابر دروز الجبل، ومن شجعانهم ومن شعرائهم، وأهل الرأي فيهم، وهو عضو اللجنة العليا»، ويصف الزركلي سُرى الليل بصحبة العيسمي فيقول:«واستهدينا ببروج السماء التي كان يحسن البدو والدروز معرفة منازلها. فكان العيسمي يعيّن لنا وجهة السير جاعلاً الثريّا عن يمينه ومستهدياً بنجوم أُخرى».
في عام 1928 كلّفه القائد العام بالذهاب إلى مصر بهدف محاولة حلّ الخلافات بين قادة الأحزاب السورية اللاجئين إليها.

الرحيل مع سلطان باشا إلى الحديثة
كان يوسف العيسمي مقرباً من سلطان، وهذا ما نلمسه في ص 332 من «أحداث الثورة»، إذ يذكر « كنا نتحاشى الصدام في تلك الأثناء مع قوات الأمن السعودية التي أخذت تشعرنا من جديد بشدة مراقبتها لنا… مما جعلني أوثر الإنتقال إلى الحديثة في صيف عام 1929 مع فريق من المجاهدين، كان في جملتهم: حسن وعبد الكريم عامر، عقلة القطامي، حسين مرشد، يوسف العيسمي، شكيب وهاب، هلال عز الدين، ناصر حمشو، علي محرز، كنج شلغين، نايف وفارس وجابر أبو لطيف، حسين وابراهيم وهزاع العطواني، سليم الدبيسي وولداه مزيد وجدعان، إبراهيم ومهنا ويوسف الدبيسي، نجم وأسد وفضل الله عماشة، محمد المعاز، محمود منذر، نجيب ملاعب، فارس أبو محمود، فايز الحمصي فرحان زيتونة، درويش وسلمان طربيه، عبطان النجم، نايف وعباس البلعوس، وأقاربي من الطرشان، وغيرهم».
وفي ذلك العام أوفده القائد العام إلى عمان بمهمة البحث واتخاذ الموقف المناسب من طلب الملك عبد العزيز ابن سعود ترحيل الثوار من الحديثة إلى عمق السعودية بهدف إبعادهم عن الحدود الأردنية، ومن ثم أوفده إلى الحجاز لمقابلة الملك السعودي لإقناعه بالعودة عن طلب الترحيل الآنف ذكره إلى داخل المملكة، أو مغادرة الأراضي السعودية، فسافر عن طريق مصر، لكن السلطات السعودية رفضت السماح له بدخول المملكة، بدعوى أنه شخص غير مرغوب فيه، ولعلّ ذلك عائد لكونه من المنتمين إلى حزب الشعب الذي يرأسه الشهبندر، المناوئ لحزب الإستقلال المقرّب من السعودية…
وقد ذكر صياح النبواني أنه في 30 حزيران عام 1929 وصل إلى النبك من وادي السرحان ( منفى الثوار في حينه)، السيد يوسف العيسمي عائداً من مصر بعد غياب سبعة أشهر وأن سلطان الأطرش كان قد كلّفه بأن يتكلّم بإسمه، بتفويض منه، لأجل فضّ الخلافات بين حزبي الشعب والإستقلال…

ضد الدولة الطائفية
يذكر محمد جابر، ص 298 من «أركان الثورة السورية الكبرى» (استناداً إلى أوراق المجاهد فضل الله النجم الأطرش)، أن العيسمي، وبسبب من تضارب آراء أهالي الجبل بشأن موضوع انفصال (جبل الدروز) عن سورية، أو انضمامه إليها، كتب مقالة في 11/12 من عام 1931، رفض فيها الإنفصال وأيّد الوحدة السورية، مستنكراً التجزئة الطوائفية التي كان الفرنسيون يعملون عليها مع مؤيدين محلّيين… ولا شك أنه في موقفه ذاك دلّ على بعد نظره كرجل حرب وسياسة ووطنية.

يوسف العيسمي، عودة الثوار إلى الأردن
نزل يوسف العيسمي في السلط برفقة فريق من الثوار هم حسن وعبد الكريم عامر وحسين مرشد وعلي عبيد وعلي الملحم وقاسم أبو خير ومحمد النبواني وغيرهم…
واستمرت إقامته في الأردن إلى 19 أيار من عام 1937، حيث عاد إلى الوطن عن طريق درعا ــ دمشق، برفقة سلطان باشا الأطرش ورفاقه المجاهدين.
ويذكر سلطان باشا في ص 250 من «أحداث الثورة» أنه في يوم الأحد23 أيار غادر الثوار دمشق إلى السويداء عن طريق الشيخ مسكين ــ إزرع، وعلى طول ذلك الطريق استقبلهم الأهالي عام 1937في كل قرية من قرى سهل حوران والجبل المحاذية لذلك الطريق، وكانوا يضطرون الى التوقف أثناء عبورهم لذلك الطريق لتناول القهوة والمرطّبات، والاستماع إلى القصائد الزجلية وخطب الخطباء وكلمات الترحيب…
ولما كانت وحدة البلاد السورية تمثّل هماً من هموم أولئك الثوار الذين قاتلوا الفرنسيين من أجلها، وفي طليعتهم العيسمي، فإن ما رآه سلطان على حدود الجبل مع حوران من بقايا نصب إسمنتي يذكّر بالتجزئة التي اصطنعها الفرنسيون اثناء تسلّطهم المطلق على البلاد جعله يطلب التوقف عند ذلك النصب ليساعدهم بدوره على إزالة بعض المعالم من بقايا ذلك النصب المشؤوم …
وعندما وصل المجاهد أبو حمد يوسف العيسمي إلى بلدته امتان «استقبله أهل قريته استقبالاً رائعاً» على حد تعبير محمد جابر صاحب سيرته، ولم يكتف العيسمي في المساهمة بالنشاط الاجتماعي، فالرجل وطني وله طموحات اجتماعية، فقد اسهم في نشاطات الحركة الشعبية في الجبل (بغض النظر على أن تلك الحركة لها مالها، وعليها ما عليها)، وتسامى العيسمي فوق ما تركته الحركة الشعبية من إرث انقسامي في تأجيج النزاع المحلّي في الجبل، وظل قريباً من سلطان باشا في حراكه الوطني، فكان من أعضاء الوفد الذي مثّل الجبل في مؤتمر حمص للقوى الوطنية، وقرأ كلمة الإفتتاح باعتباره ممثلاً لسلطان باشا الأطرش.
وإبان الحكم التعسفي لأديب الشيشكلي صدر بحقه حكم بالإعدام، ولكنه ظل يعمل سرّاً ضد حكم الدكتاتور، إلى حين سقوطه عام 1954.
وقد ذكره أدهم الجندي في ص 243 بقوله:«أسهم يوسف العيسمي بعد عودته إلى الوطن في الأعمال الشعبية في عهد العدوان الفرنسي وكان من المناوئين المعارضين لحكم الشيشكلي، وتعرّض للملاحقة كغيره من المعارضين، وفي تأبينه قال سلطان باشا كلمات قليلة لكنها ذات دلالة تشير إلى دوره التاريخي في الجهاد الوطني، وهي مايلي:« أبو حمد علم انطوى، وسيف أغمد، وله فضل كبير في الثورة».

فرسان المجاهدين في الطريق إلى إحدى الموقعات مع الفرنسيين
فرسان المجاهدين في الطريق إلى إحدى الموقعات مع الفرنسيين

احتفالات كبرى في دمشق
بعودة سلطان ورفاقه من المنفى
في ص 249، يصف سلطان باشا استقبال دمشق للمجاهدين الذين كان المجاهد يوسف العيسمي في طليعتهم إلى جانبه، فهو واحد من أركان الثورة السورية الكبرى،يقول في ص 349 من « أحداث الثورة:» لقد كان استقبالنا في العاصمة الأموية منقطع النظير، إذ يعجز الإنسان عن وصف شوارعها المزدانة بأبهى حلّة من أقواس النصر، وأنوار المصابيح الكهربائية الساطعة، وفاخر السجاد، وبمئات الآلاف من المواطنين والمواطنات الذين كانوا يموجون فيها ويرددون الأناشيد الوطنية والهتافات المدوية بحياة المجاهدين!..»
نزل الثوار في فندق الشرق ( أوريان بالاس)، بضيافة الحكومة السورية، وانقضى يوم الخميس وهم يستقبلون الوفود التي قدمت للترحيب بهم والسلام عليهم، من مختلف أحياء مدينة دمشق، ومن سائر أنحاء البلاد.
وفي صباح اليوم التالي، الحادي والعشرين من أيار، وكان يوم الجمعة، قاموا بأداء فريضة صلاة الجمعة بصحبة فخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي، وأركان الدولة وأعيان المدينة، تبع ذلك احتفال الحكومة بهم رسمياً بدار البلدية…

مذكرات سلطان باشا

من مذكرات سلطان باشا الأطرش

معاناة المجاهدين في وادي السرحان

الملك عبد العزيز منح حمايته لنا بعد أن اطمأن
إلى عدم مساندتنا خصـــــوم الأسرة السعودية

عرضت بريطانيا علينا وقف الثورة فقلنا: «حرية شعبنا أولاً ولو أردنــا عيش القصور لكنا صالحـــنا الفرنسيين»

تعرض «الضحى» في ما يلي لفصل مهم من كتاب سلطان باشا الأطرش «أحداث الثورة السورية الكبرى» يتعلق بصورة خاصة بالظروف الصعبة التي عاشها المجاهدون في المنفى والصعوبات التي واجهتهم نتيجة للإتفاق الفرنسي البريطاني على تقاسم المنطقة، إذ أدى ذلك إلى التضييق عليهم في المنفى الأردني ما اضطرهم إلى استئذان الملك عبد العزيز آل سعود الإنتقال إلى وادي السرحان في المملكة السعودية حيث كان عليهم أن يواجهوا قيظ الصحراء ونقص الأمطار والمرعى وأن يقتاتوا أحياناً من بعض النباتات والأعشاب الصحراوية عند نقص التموين، وكان على المجاهدين أيضاً مواجهة خطر غزوات البدو، إلا أنهم كانوا قد اعطوا حق الإحتفاظ بسلاحهم للدفاع عن أنفسهم وعن نسائهم وأطفالهم من جرّاء أخطار من هذا النوع.
لكن إقامة الثوار في السعودية بدت محفوفة بتحرشات من قبائل بدو المنطقة التي لم تتخلّص بعد من تقاليد الغزو والثارات القديمة، ومع أن سلطان باشا كان حريصاً على أن يظل بمنأى عن النزاع التاريخي بين الهاشميين والسعوديين، إلاّ أن السعوديين كانوا يتخوّفون من احتمال ميل القائد العام إلى أخصامهم الهاشميين، وهو الذي كان قد انضم إليهم في الثورة العربية ضد العثمانيين عام 1916، وبسبب تخوّف السعوديين من ذلك الامر فقد سعوا إلى ترحيل المجاهدين عن وادي السرحان (القريب من الأردن الذي كان قد أصبح هاشمياً) إلى عمق البر السعودي ، بل إن السلطة السعودية أبلغت سلطان باشا في أحد الأوقات بضرورة تسليم المجاهدين لسلاحهم، وهو ما رفضه قائد الثورة السورية بإصرار، وقد تبع ذلك مفاوضات شارك فيها مستشار الملك عبد العزيز إبن بلدة عبيه فؤاد حمزة وتدخل شخصيات عربية مثل المناضل شكري القوتلي (أصبح رئيس الجمهورية السورية في ما بعد) وهاشم الأتاسي (كذلك أصبح رئيساً لجمهورية سوريا) وأدت تلك المساعي والمفاوضات إلى طمأنة الملك عبد العزيز إلى نوايا الثوار وولائهم للمملكة، وأدى ذلك إلى استقرار العلاقة مع السلطة السعودية واستقرار المجاهدين في وادي السرحان حتى صدور العفو الفرنسي وعودتهم إلى سوريا عودة مظفرة في العام 1937 أي بعد عشر سنوات من حياة المنفى القاسية.
في ما يلي رواية سلطان باشا الأطرش لتلك المرحلة الدقيقة من مسيرة الثورة السورية الكبرى.

عندما طلبت بريطانيا المسيطرة على الأردن ترحيلنا منها قلنا إننا مستعدون أن نلبي رغبتكم, شريطة إعطائنا مهلة كافية نتمكن خلالها من إتمام عملية نقل نسائنا وأطفالنا ومواشينا إلى مكان آخر مناسب جاء جواب المعتمد البريطاني بالموافقة على طلبنا, ولكنه اقترح علينا مقابلته بالأزرق لبحث أمور هامة تتعلق بالموضوع نفسه, فانتقلنا من فورنا إلى الأزرق وجرت المقابلة في جلسة دامت نحو ساعتين, حاول خلالها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتسليم للأمر الواقع من دون قيد أو شرط, ومما عرضه علينا في نهاية الجلسة وضمن لنا تحقيقه دون أبطأ قوله (أن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفل بتقديم قصر خاص لإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة) فأجبته شكراً وقلت له:إن سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنا بقينا في دورنا الرحبة واستجبنا لدعوة الفرنسيين المتكررة بالاستسلام:
إن طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلا على أساس صلح مشرف تتحقق به المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخص بحرية الشعب واستقلال البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبية عنها.
القوتلي يتوسط مع السعودية
وفي أعقاب المقابلة إتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم وشرحت لهم ما آلت إليه أخيراً أوضاعنا بالأردن فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الإتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوتلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية من أجل التفاوض مع جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلاده لاجئين سياسيين.
إعتذر الملك بادئ ذي بدء عن قبول الطلب لكنه عاد فأعلن موافقته وأرسل إلينا برقية جاء فيها:
كانت مشاهد رحيل الثوار وعائلاتهم من الأزرق في صيف 1927 مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانية، وقد ارتضوا بإباء وشمم أن يفارقوا الديار التي كانوا يستأنسون بسكانها قريباً من الأهل والأحبة في ربوع الجبل فسارت قوافلهم المؤلفة من نحو اكثر من الف نسمة باتجاه العمري جنوباً, بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد، الذين قرروا العودة إلى الجبل إثر صدور قرار المفوض السامي (بونسو) بالعفو عنهم وعددهم نحو ثلاثة آلاف نسمة.
في العمري علم الإنكليز أن المملكة العربية السعودية قد وافقت على إقامتنا في ربوعها فأرسلوا إلينا وفداً برئاسة الكولونيل (سترا فورد) للتفاوض معنا من اجل عودتنا إلى الأزرق, فرفضنا عرضهم هذا وقلنا لرئيس وفدهم: لم تعد لنا رغبة في العودة لأنكم لا تحترمون العهود وسوف نقيم بالصحراء التي خرج منها أجدادنا. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتع بحريتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأمم علينا وصيّرتم الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن.
مكثنا في العمري فترة قصيرة ثم انتقلنا إلى غدير الحصيدات (يقع على بعد 20 كيلو متراً عن النبك بوادي السرحان) حيث بتنا ليلة واحدة وفي اليوم التالي توجّهنا إلى (النبك) بوادي السرحان وبرفقتنا مجاهدون من الجبل وكان عددهم 232 مجاهداً بالإضافة الى سبعين مجاهداً من لبنان والمجموع كان 302 مجاهد مع اسرهم وكان المجموع 1360 نفساً، وكان على رأس مجاهدي لبنان والإقليم الذين ارتحلوا معنا الأمير عادل ارسلان.
وصلنا إلى النبك بوادي السرحان في أواخر شهر تموز عام 1927 وجدنا الأرض صحراوية مقفرة، ما خلا نبع ماء عذب يسمى (جوخه) وبضع من أشجار النخيل تضفي على المنطقة جمالاً طبيعياً أخاذاً تبعث بالنفس بتمردها على الجفاف المسيطر- من إرادة المقاومة وعزيمة الصمود.
كان نزولي في الجهة الشرقية من المكان حيث جاورني أقربائي وفريق من المجاهدين ونزل في الجهة الغربية منه رفاقنا الآخرون بينهم الأمير عادل ارسلان، محمد عز الدين، علي عبيد، قاسم أبو خير، وعلي الملحم والمسافة الفاصلة بين الحيين لا تزيد على ثلاثمائة متر.
لقد آوينا أنفسنا في الخيام القليلة التي كانت بحوزتنا ثم اضطر الكثيرون منا إلى استخدام قطع (اللبن) الذي صنعوه من التراب لبناء مساكنهم البدائية الصغيرة واستيراد خشب الحور والقصب بأسعار باهضة من عمان لسقفها.كان علينا أن نتآلف مع المناخ الصحراوي في حياتنا اليومية, وان نعيش متاعب البادية وشقاءها, إلى جانب المتعة بصفائها وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، وأكثر ما كنا نعاني منه في الفصول الإنتقالية (الربيع والخريف) رياح السموم الهوجاء التي تهب عادة من الشرق والجنوب الشرقي فتبدّل من معالم الأرض وتغدو الرؤية خلالها مستحيلة, ثم تكاد عملية التنفس تتعطل لدى الإنسان والحيوان على حد سواء بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء والتي كانت تكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان. استطاع بعضنا استخراج الماء بالحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيل والماشية, واحتطبنا من نباتات (الرّتم) لمواجهة برد الليالي، وكنا نقتات بورق (الطرقة) و(القطف) وثمر (الاصمع) وكل هذا عندما يضعف المدد ويتأخر التموين.
أما الأغنام التي كان أطفالنا بحاجة ماسة إلى لبنها فكانت لا تجد أمامها سوى الحمض والشيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع, تشاركها في الرعية الخيول والإبل التي لم يبق في حوزتنا سوى العدد القليل منها.

موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937
موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937

“عرض الكولونيل الإنكليزي السماح للثوار بالعودة إلى الأردن فقال له سلطان : نفضل العيش في الصحراء التي انطلق منها أجدادنا لأنكـــــم لا تحترمـون العهود “

معاملة كريمة من السلطة السعودية
وبعد أن مضى على إقامتنا حوالي الستة أشهر في وادي السرحان عوملنا خلالها من قبل ممثلي السلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة معاملة طيبة ولقينا من حفاوة استقبالهم وكرم أخلاقهم ما لا يمكن نسيانه مدى الأيام. قدم إلينا الأمير سليمان الشنيفي مندوباً من العاهل السعودي فرحبنا به واكرمنا وفادته ثم فاجأنا بقوله: (امرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها لجمعه وتسليمه ثلاثة أيام) فأجبته قائلاً:سلاحنا شرفنا أيها الأمير فهل من المعقول أن نسلم به ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظروف القاسية والأحوال السيئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة. قال: (إنني مأمور بهذه المهمة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال) وعندئذ قلت له بحزم وتصميم:
«لا نسلّم سلاحنا ما دام فينا عرق ينبض، لقد كنا نتوقع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضد الفرنسيين لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرضونا بالتالي لخطر الغزوات البدوية المألوفة في هذه الأرض القفراء»
وبعد أن تكونت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه فجاءت التعليمات بالإتفاق عليه معنا على ما يلي:
1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحق نقله ضمن المنطقة من دون معارضة.
2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأي نشاط يخل بالأمن أو يخالف الأنظمة والقوانين المعمول بها في المملكة.
وفيما كنا نعمل على إقامة علاقات حسن جوار مع العشائر بالمنطقة حاول شبيب بن كعير شيخ عشيرة السرحان أن يستغل ظروفنا الراهنة فرفض تأدية الحق الذي كان لآل عطا الله عليه قبل نشوب الثورة وكنا نحن كفلاء عقد راية الصلح الذي تم وقتذاك بين الفريقين بل حاول أن يتحدانا بقوله (إذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون أن تتصرفوا هنا في وادي السرحان كما لو كنتم في الجبل فذلك خطأ فادح ووهم كبير يجب أن تتبينوه!) فاضطررنا بعد أن رفض نصح الناصحين إلى احتجاز فرسه ووضع القيد في رجليه إلى أن اعترف بالحق ودفعه إلى صاحبه وهو ثمن بعير (جمل).
لقد كنا نشعر باستمرار أن العراقيل توضع في طريق تمويننا والخطر يتهدد وجودنا في كل لحظة من قبل العشائر المجاورة، فذات يوم أوقف علي عبيد في عمان بأمر من القائد البريطاني (غلوب باشا) وكان مكلفاً بشراء لوازم الثوار وإعاشتهم ولم يطلق سراحه إلا بعد بضعة أيام غير أن أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرت بنا بل كانوا يتحملون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين، ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر فنضطر إلى إلتهام ورق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفي ما كنا نواجه تلك الأزمة الحادة، إذا بالسادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشربالي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة (صرة) من الليرات الذهبية فلم يتمالك المير عادل ارسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها بحدة أمامهم وخاطبهم قائلاً: إن الذهب كله لا يتساوى مع رغيف واحد ينقذ حياة الذين يتضورون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال. أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء. وعلى الرغم من أن أولئك الأخوان لم يكونوا على علم بأننا وصلنا الى تلك الدرجة من العوز والفقر فقد تأثروا غاية التأثر وطيبوا خاطر الأمير وقرروا أن يبقى السيد القوتلي عندنا لنتباحث في إيجاد حل لمثل هذه الأزمة المعيشية التي كنا نعاني منها، في حين عاد العظمة والشرباتي وأديب خير من فورهم إلى عمان ليرجعوا في اليوم التالي ومعهم عدة سيارات مليئة بأكياس الطحين والمواد الغذائية الأخرى التي وزعت بالتساوي على اسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى مقادير العلف للماشية والدواب.

سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو
سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو

نجاح سياسي في سوريا
لقد كانت أخبار ما يجري في سوريا ترد إلينا تباعاً في الصحف أو عن طريق من كان يزورنا ويتفقد أحوالنا من الأخوان. فمن تلك الأخبار قيام الكتلة الوطنية على أنقاض حزبي الشعب والاستقلال اللذين كان اكثر أعضائهما خارج الوطن. يوم ذاك وقد انتمى إليها بعض المستقلين وكذلك موافقة المفوض السامي (بونسو) على انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد فتراجع بذلك عن شروط المفوضية السابقة التي كانت تقضي باستلام الثوار قبل البحث بهذه الأمور وقد فاز مرشحو الكتلة الوطنية بأكثرية مقاعد الجمعية في الانتخابات ثم حصلوا على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة وضع الدستور، ولكن ما إن انتهت هذه اللجنة من وضع مشروع الدستور وتقرر موعد عرضه على الهيئة العامة للجمعية في 7 آب 1928 حتى تدخل المفوض السامي وطلب حذف ست مواد منه والتي لها أهميتها البالغة في تأكيد وحدة البلاد واستقلالها. ولما رفضت الجمعية طلبه في الجلسة المنعقدة بتاريخ 10 آب 1928 اصدر قراراً بتأجيل جلساتها لمدة ثلاثة أشهر ثم انتهى به الأمر إلى تعطيلها إلى أجل غير مسمى، فذلك ما آثار اهتمامنا وجعلنا نوجّه دعوة إلى المجاهدين المقيمين في مصر والأردن لحضور المؤتمر الوطني الذي قررنا عقده بوادي السرحان في 25 تشرين الأول عام 1928 حضره معنا عدد كبير من المجاهدين الذين قدموا من الأردن وفلسطين وخاطبتهم في كلمة الافتتاح قائلاً (وليعلم المستعمرون أن المناورات والمؤتمرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إن الشعب مصمم على الصمود وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية، وكلما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياً في البلاد ازددنا نحن تمسكاً بحقوقنا المشروعة والعمل والصبر على مكاره التشرد والحرمان).

أنباء مقلقة عن غزوة قبلية
ومن الحوادث المروعة التي عشناها بوادي السرحان وكان لها أثر بالغ في نفوس الثوار الحادثة التالية:
خرجت مبكراً من منزلي صبيحة أحد أيام الربيع قاصداً التنزه في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات (الرنم) والأنصع وإذا بإعرابي يقطع البادية على ذلول فلما رآني توجه نحوي وحيّاني وقال: أريد رؤية سلطان قلت له (ماذا تبغي من سلطان تكلم وأنا أوصل أخبارك أليه) قال أنا قاصد سلطان بالذات واحب أن أراه بعيني أكلمه بنفسي قلت له تكلم أنا سلطان. فنزل عن ذلوله وصافحني بحرارة وقال مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أن فرحان بن مشهور (من شيوخ عنزة الرولا) قد قرر غزوكم بستمائة مردوفة (أي بألف ومائتي مقاتل يمتطون ستمائة ناقة أو جمل) وقد أرسلني (بشير بن ضبيعان) الشراري نذيراً لكي لا يأخذكم الغزاة على حين غرة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم) هدّأت من روعه وعدت به إلى البيت ليتناول معي طعام الفطور ثم قلت له: (سلّم على بشير وقل له ابن مشهور لا يجرؤ على غزونا.. وإذا كابر وظل مصمماً على ذلك فسوف لا ينال بغيته ولن يفرح بما سيأتي من اجله. وما إن غادر الإعرابي منزلنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يوم ذاك لا يتجاوز الثلاثمائة مسلح فأحطتهم علماً بالأمر ورحنا نعدّ العدة لمقابلة فرحان بن مشهور.
لقد مرت بنا محن قاسية وخضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤولياتها كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنوية لمواجهة تلك الغزوة الهمجية المفاجئة. أجل لقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين تماماً عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي وكنا نتساءل: هل لفرحان بن مشهور وأشباهه علاقات مشبوهة مع دوائر الاستعمار الفرنسي العليا في الشرق فأغرّتهم بنا ودفعتهم لغزونا؟ وبعد أن رفضنا عروضها بالإستسلام على أساس الإكتفاء باستقلال الجبل وتأكد لها إصرارنا على تحقيق مبادئ الثورة بكاملها؟ كنت أظن وأنا اقلّب أوجه النظر في تلك المسائل مع بعض القادة ورفاق الجهاد أن حالة البؤس والعوز والفاقة التي انتهى أمر المجاهدين إليها في وادي السرحان بالإضافة إلى النقص الكبير في عدد الخيول الأصيلة ومخزون العتاد والذخيرة الذي كنا نشكو منه وصعوبة تعويضه نظراً الى ضعف قدرتنا الشرائية بصورة عامة، إن كل ذلك سيكون له أثره الفعال في مجرى المعركة فأخذت تنتابني الهواجس وأنا أتخيل النهاية المفجعة التي سننتهي إليها نحن وسائر أطفالنا ونسائنا في تلك الصحراء النائية وإذا ما قدر لنا أن نعجز عن صدّ أولئك الغزاة الشرسين ومع ذلك فلم يتظاهر أحد منا بتلك المخاوف والظنون خلال الاجتماعات التي كنا نتدارس فيها مع بقية المجاهدين الخطط الدفاعية الكفيلة بدحر المعتدين. مكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق الممض والتأهب المستمر وإذا بطلائع الغزاة قد بدأت تطل علينا من جهتي الجنوب والشرق مثيرة في سيرها الحثيث غباراً كثيفاً حجب عن كمائننا الاستطلاعية الرؤية الواضحة.
وما هي إلا دقائق معدودات حتى ضج المكان بأهازيج رجالنا الحربية ونخواتهم المثيرة التي كانت تسمع كقصف الرعد من بعيد وبصيحات نسائنا اللواتي خرجن من المنازل وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال الذين لم تتجاوز اعمارهم الرابع عشرة استنفروا وتهيأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة غير آبهين. أما أعيان المجاهدين وقادتهم فقد أخذ كل منهم يتوسط مجموعة مقاتلة لينقل إليها تعليماته الأخيرة المقررة التي يتوجب على بعضها عدم التراجع قيد أنملة عن الموقع المخصص لكل منها ولو بقيت لوحدها في مواجهة الغزاة ويقضي بعضها الآخر تنفيذ خطة هجومية صاعقة تقوم بها مجموعات ثلاث صغيرة من الخيالة لضرب ميمنة الغزاة وميسرتهم ومؤخرتهم في آنٍ واحد عندما يشتدّ وطيس القتال كما سارع فريق مدرب من أبطال المجاهدين إلى مرابض الرشاشات الثقيلة (الهوشكيس) التي أقيمت في مواقع مناسبة على أمل أن يكون دورهم رئيسياً حاسماً في تقرير مصير المعركة، وفيما كنا نتخذ تلك الإجراءات ونقوم بتلك الإستعدادات وسط ذلك الجو الصاخب من الأهازيج الحربية والنخوات الحماسية وإذ بنا نفاجأ قبل أن ينتصف النهار بإنسحاب القوم من مواقع تجمعهم وتواريهم عن الأنظار في أعماق الصحراء. قيل لنا في ما بعد إن فرحان بن مشهور قد هاله ما كنا عليه من يقظة وحسن استعداد لمقابلته فتحول عنا خشية أن يصاب بهزيمة نكراء وقصد فريقاً من قبيلة الشرارات يتزعمه (بخيت درويش) وتقع مضاربه على بعد عشرة أميال من منازلنا بالتقريب فنال منه واستولى على ابله وأغنامه.
وفي أعقاب تلك الحادثة أغارت عشيرة أخرى من الشرارات على مراعي ابلنا فاستاقت عدداً منها قبل أن يتمكن الرعاة من إيصال الخبر إلينا فعقدنا اجتماعاً مع بعض المجاهدين تقرر فيه إرسال حسين العطواني وكنج شلغين للاتصال بحاكم الجوف الأمير عبد الله الحواسي وأحاطته علماً بذلك ثم وجهنا وفداً آخر إلى مدينة الرياض برئاسة أخي علي وعضوية معذى الدهام ونزال أبو شهيل فقابلوا إبن مساعد أمير نجد واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قبل الشرارات وقد اعتذر هؤلاء عن فعلتهم بقولهم: لقد توهمنا أن الإبل عائدة إلى أهل الجبل من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم..أما بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم.

الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان
الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان

“كنا نستجمع قوانا لمواجهة تلك الغزوة الهمجية وقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي”

مساع لترحيلنا عن الوادي
غير أن ابن مساعد هذا لم يلبث أن أرسل قوة بقيادة سالم الشيخ لترحيلنا إلى داخل المملكة بحجة المحافظة علينا وتجنبنا خطر العشائر البدوية المعادية لنا فلم نوافق على ذلك وقلنا للأمير المذكور إننا نفضل الإقامة هنا في الحرّ والقرّ على سكن المدن والتمتع بالحياة الهادئة وسوف نتحمل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كي لا ننسى قضيتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا، ولمّا أصرّ الرجل على تنفيذ مهمته بعناد وتصميم طلبنا منه مهلة قصيرة ندرس خلالها أوضاعنا ورغبات رفاقنا فاستجاب لطلبنا بعد أن استشار رؤساءه وسارعنا بإرسال وفد مؤلف من محمد عز الدين وقاسم الحسنية وفواز حاطوم إلى الحجاز حيث حظوا بمقابلة العاهل السعودي الذي أحاطهم بعنايته وتكريمه وهو أصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته, ولكنهم لم يلمسوا منه تغيراً في سياسة حكومته المقررة. ولعل أسباب إصرار السلطات السعودية على ترحيلنا من مكان تجمعنا بالنبك وتوزيعنا في المناطق الداخلية للمملكة هي الآتية.:
1. الصلات الحسنة التي كانت قائمة بيننا وبين الأسرة الهاشمية منذ نشوب الثورة العربية الكبرى وكذلك علاقاتنا مع عشائر بني صخر وبوجه خاص مع شيوخ العشائر الأردنية كحديثة الخريشي ومثقال الفايز اللذين كانا غير موالين للأسرة السعودية وسلطان العدوان وحمدي ابن جازه وآخرين وقد قدموا معونة تقدر بحمل اكثر من ثمانين جمل تمويناً.
2. ثورة الشيخ ابن رفاده في بلاد نجد وتخوف السعوديين من أن نلعب دوراً مماثلاً لحساب الهاشميين بوادي السرحان.
3. الاستجابة لضغط الدبلوماسية الفرنسية في الشرق التي كانت ترى أنها لا تقوى على قهر الحركة الوطنية المناوئة للانتداب الفرنسي داخل سورية ما دامت على اتصال مستمر بهيئة أركان القيادة العليا للثورة في وادي السرحان وبالشخصيات السياسية التي كانت تعمل بالأردن وفلسطين ومصر والمهجر لصالحها وصالح الثورة السورية الكبرى.
لقد وجب إذاً العمل على إيجاد تقارب فرنسي سعودي على غرار التقارب الإنكليزي الهاشمي ليقوم بنوع من التوازن بين القوى المتصارعة في الشرق يكفل للمملكة العربية السعودية الناشئة أسباب قوتها ومنعتها وبخاصة بعد أن ازدادت الروابط السياسية متانة بين الإنكليز والهاشميين بتتويج الملك فيصل ملكاً على العراق، وبذلنا جهوداً صادقة لإقناع الملك عبد العزيز والسلطات السعودية بأن إقامتنا في وادي السرحان لا تتعدى اللجوء السياسي وان الواجب يدعونا إلى التزام الحياد التام بالنسبة للنزاع الهاشمي-السعودي وان مصلحتنا الشخصية تقتضي ذلك بالإضافة إلى مقتضيات المصلحة العامة وبأن كل ثورة أو حركة عصيان على النظام القائم بالسعودية نستنكره ونعتبره خيانة وطنية تستوجب العقاب الصارم وبأن صداقاتنا لحديثة الخريشي ولغيره من شيوخ العشائر الأردنية لا تعني تحالفاً مقصود به مناهضة الأسرة السعودية. ولما باءت جهودنا تلك بالفشل وظل الشك بأمرنا يساور المراجع العليا قررنا إيفاد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز وإعطائه الأدلة الثابتة على حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وأدبه، فحاول الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطات السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة انه من الأشخاص غير المرغوب بهم فأخذ يتصل عندئذ بالزعماء المصريين شارحاً لهم أحوالنا السيئة بوادي السرحان والأوضاع المؤسفة التي آل إليها أمرنا هناك وكان الصحفيان تيسير ذبيان وعباس المصفي يرافقانه في تنقلاته بين القاهرة والإسكندرية فقابل بالقاهرة مصطفى النحاس باشا واحمد زكي باشا ومحمد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء احمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف الدروز بها في قصيدته الشهيرة التي نظمها في أعقاب ضرب الفرنسيين لمدينة دمشق عام 1925.

احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937
احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937

“خرجت النساء وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد اإارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال دون الرابع عشرة إستنفروا وتهيــّـأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة”

سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان
سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان

عبارات تقدير من أمير الشعراء
فأجابه أمير الشعراء قائلاً: يستحق الدروز المدافعون عن وطنهم وشرف أمتهم أن يهتم بهم الأدباء والمؤرخون وان يخلّد الشعراء ذكرى أعمالهم المجيدة.
وفي الإسكندرية قابل الأمير عمر طوسون وحاول إقناعه بتحويل التبرعات التي جمعت بمصر بإسم ثورة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي إلى أطفال المجاهدين بوادي السرحان فلم يستجب لطلبه. وقد حاولنا في تلك الأثناء أيضاً أن نتصل بفؤاد حمزة كتابة ليبذل ما في وسعه من جهود لدى الحكومة السعودية في سبيل تبديد تلك التهم والشكوك التي كانت تحوم حولنا وتسبب لنا المتاعب المشار إليها فأجابنا بكتابه هذا نصه:
تحية وتكريماً وبعد, فقد تشرفت بكتابكم وسعيت بواسطة بعض رجال جلالته بما كلفتموني به ولي الرجاء بأن تجاب رغائبكم وقد فهمت أن سبب هذا الأمر هو خطيئات وقعت من بعض أناس هناك أساءت لجلالته فالأمل أن لا يصدر من احد ما يعكر الخاطر وأرى انه من اللائق إجراء ما يلزم لمقابلة أو مراسلة جلالته لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب عطفه ويمكنكم تأمين الاتصالات التي كان يوسف العيسمي قد قام بها في مصر، فقد رأينا أن ينضم إثر عودته إلى أخي زيد وعلي عبيد اللذين أنطنا بهما مهمة الإتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبغيرهم من الشخصيات العربية التي كانت تعمل في نطاق المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا جميعاً على إيجاد حل مناسب للازمة التي كانت تواجهنا نحفظ به كرامتنا ويجنبنا الصدام مع أخواننا وبني قومنا في السعودية.
وفي أعقاب ذلك سافر شكري القوتلي على متن طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطاءنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ثم أخذت البرقيات تتوارد على العاهل السعودي من سوريا وبعض البلدان العربية دعماً لوساطة القوتلي كان في جملتها برقية من هاشم الأتاسي جاء فيها ما خلاصته ومؤداه:
إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى ورفاقه المجاهدين بالحسنى لمن الواجبات التي تمليها علينا روابطنا الدينية والقومية نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وان تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة.
لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك مما ساعدنا على الاستقرار.

عند سلطان

عند سلطان باشا

نص يُنشر لأول مرة بالعربيـة من كتــاب للكابتن كاربييــه
الحاكم الفرنسي على الجبل مابين العامين 1922 و 1925

تعتبر النصوص التي دوّنها قادة الحملات الفرنسية على جبل العرب في سورية في الفترة ما بين 1922 و1926 من أهم المراجع التاريخية التي بقيت لنا عن تلك المرحلة الخطيرة والحافلة من تاريخ الموحدين الدروز ونضالهم ضد المستعمر ومن أجل استقلال سورية ووحدتها. ومن النصوص المهمة المنشورة كتاب الكابتن أندريا الذي وضع له عنوان «انتفاضة الدروز» لكن هناك عدداً من القادة الفرنسيين الذين كتبوا بدورهم عن تلك الفترة وقد أثار فيهم الموحدون الدروز في الجبل مشاعر متناقضة من الإعجاب الشديد بشجاعتهم الأسطورية ومن الخوف ورغبة التنكيل بهذا القوم الذي كان يقاتل قتال رجل واحد تحت زعامة سلطان باشا الأطرش، ولم تنفع مختلف مناورات الفرنسيين وتهديداتهم وإغراءاتهم في تثبيط عزيمته ودفعه للإستكانة للأجنبي.
أحد الذين كتبوا عن تلك المرحلة هو الكابتن كاربييه Carpier الذي عيّن حاكماً للجبل بعد الوفاة المفاجئة للأمير سليم الأطرش (قيل إنه مات مسموماً من قبل الفرنسيين)، وأظهر في وقت قصير سوء فهم وتقدير لظروف الجبل ولمشاعر أهليه، فكان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الثورة في العام 1925 والتي بدأت درزية قبل أن تنتقل نيرانها إلى أنحاء عدة من سورية ومن جنوب لبنان وتتحول إلى ثورة سورية وعربية على المستعمر الفرنسي.
النص التالي للكابتن كاربييه هو من كتابه الذي ترجمه الأستاذ نبيل أبو صعب ويتوقع أن ينشر قريباً، وهو يعود كما سيلاحظ القرّاء إلى الفترة التي كان كاربييه يحاول فيها خطب ودّ سلطان باشا لأنه اعتبره الرجل الوحيد القادر على تهدئة الجبل والقادر أيضاً على إشعاله، كما اعتبر كاربييه –والقادة الفرنسيين – جبل الدروز المنطقة الوحيدة في سورية التي يمكن أن تسبب لفرنسا مشاكل خطيرة فكان همهم كله منصباً على محاولة استمالتها أو إخضاعها.
والنص الفرنسي يمثّل شهادة موضوعية ومن قبل قائد فرنسي في شخصية سلطان باشا وشيمه التي كانت تفسر الولاء الذي حاز عليه بين دروز الجبل والإحترام الكبير الذي حازه في طول العالم العربي وعرضه، كما يتضمن النص وصفاً عن قرب للحياة في محيط سلطان باشا وأشقائه ونمط ضيافته والحياة اليومية، كما كانت تجري في الخيمة التي أقامها في منطقة بعيداً عن القريا بعد أن فجّر الفرنسيون بيته ومضافته عقاباً على دوره في انتفاضة السويداء عام 1922. وسنرى أن كاربييه حمل إلى سلطان باشا مشاعر تصالحية متسلحاً بالعفو الذي أصدرته فرنسا عنه، وكيف حاول جاهداً مصادقته، لكن جهود كاربييه الشخصية لم تكن كافية لأن سياساته وسياسة الفرنسيين سرعان ما كشفت عن نوايا مختلفة، وقد فشل كاربييه في مهمته لدرجة أن مواطني الجبل سعوا –دون جدوى- لدى المندوب السامي الفرنسي لإقالته وتعيين حاكم أكثر تفهماً واحتراماً لتقاليد الجبل وكرامة سكانه.

كانت الساعة تقارب الخامسة مساء، عندما غادرنا بكا متجهين إلى بيت سلطان باشا الأطرش ولم نتوقع أبداً الوصول إلى مخيمه قبل حلول الظلام . فالزعيم الكبير الذي تمرد عام 1922 يعيش تحت خيمة في قلب الريف ، ومع أن فرنسا قد منحته الأمان L’aman، فإن سلطان باشا لم يثق بمثل هذا الكرم وظلّ يعيش كذئب متشكك وسط الصخور بعيداً عن قريته، وفي جزء من «الجبل» لا يمكن الوصول إليه تقريباً كان يعرف تماماً أن فرنسا لم تلق به في السجن حينما حضر يوم 5 نيسان إلى السويداء ليطلب الأمان، لكنه كان يعتقد من دون شك أنها لم تجرؤ على القيام بتلك الخطوة وسط الأربعة آلاف فارس الــذين هتفوا، وقد تجمعوا للاحتفال بالعيد، لـ «بطل الاستقلال» .
كان يظن أنه من الحكمة أكثر، وقد عاد الفرسـان الدروز إلى قراهم، عدم الإقامة ثانية في قريته، ذلك أنه لم ينس خيانات السلطات التركية التي كانت قد استدعت والده إلى دمشق، فذهب إلى هناك بناء على إعطائه الأمان فغدرت به وشنقته.
قرّر سلطان باشا لذلك أنّه من الأفضل الإستمرار بإتخاذ الإحتياطات على الرغم من أن أربعة أشهر كانت قد انقضت على منحه الأمان من قبل فرنسا، والتي لم تطلب في الواقع حتى إعادة كاملة للأسلحة المنتزعة من أيدي أمواتنا. ومن الواضح أنني سأجد صعوبة في تدجين هذا السلطان باشا الشجاع، ولهذا السبب تقريباً أجدني وحال وصولي إلى الجبل أقوم بزيارته اليوم، وقد حرصت من جهة أخرى على أن اصطحب معي صياح بك مدير القريا، والذي استخدم سلطان سلوكه المخلص لنا، مبرراً للقيام بالعصيان عام 1922 . فصياح بك هو في الواقع من اعتقل، في أرض القريّا، وهي البلدة التي كان سلطان باشا زعيمها السياسي، أدهم بك الذي كان في عام 1920 أحد المحرضين وأحد المشاركين الرئيسيين في الاعتداء المدبر على الجنرال غورو .
وقد طلب سلطان باشا، في امتحان لقوتنا، إطلاق سراح أدهم بك بحجة أن هذا الأخير قد «اعتقل على طريق بيته» وبالتالي فهو ضيفه، وكان قد جمع بعض الفرسان وأمام رفضنا، تظاهر بالخضوع وبالعودة إلى القريّا، في الوقت الذي كان ينصب كميناً لإحدى تشكيلاتنا ويقتل لنا ضابطاً محبوباً جداً من رفاقه هو الملازم الأول بوكسان وبعض الرجال وضباط الصف، وقد طوردت عصاباته بشدة خلال أكثر من ستة أشهر، وشيئاً فشيئاً هجره أنصاره واضطر للبدء بمفاوضات لأجل السلام . وأخيراً، في خطوة جريئة، قدم إلينا في السويداء، يوم 5 نيسان، يوم عيد الإستقلال، ضاغطاً علينا بذلك، ومحولاً استسلامه إلى مجد حقيقي له . ومرّة أخرى بتنا المهزومين بنصرنا لأن سلطة سلطان باشا تعاظمت نتيجة لتسامحنا .
هذا هو الواقع الذي وجب أن آخذه في الاعتبار عند استلامي لقيادة الجبل ولاسيّما وأن الوسائل العسكرية الموضوعة تحت تصرفي كانت شبه معدومة في الواقع «سرية واحدة من كل شيء ولأجل كل شيء»، وكان عليّ إذًاً واجب محدد ينبغي القيام به : ينبغي لي، من دون أخذ عواطفي الخاصة التي تربطني بذلك البوكسان المسكين، أن أجعل من سلطان باشا، باعتباره الرجل الوحيد القادر على إثارة الجبل، صديقاً لي بهدف تحييده، ولهذا، فالمهمة الأولى التي مثلت أمامي هي : أن «أعود به إلى العالم المتحضر» أي أن أقوده إلى الإقامة ثانية في قريته، لكي أشدّه إلى الحجارة وإلى مصالح أقوى من جاذبية البريّة والمغامرات، وحتى لا يبدو تصرفي هذا ضعفاً جديداً في عيون السكان، فقد أحضرت معي صياح بك، لأظهر للجميع أن فرنسا تكرّم دائماً أولئك الذين يخدمونها بإخلاص .
كانت الطريق من بكا إلى القريا مقبولة نسبياً في قسمها الأول لكن بعد اجتيازنا لهضبة سكة الحديد التي خطط الأتراك لتنفيذها بين بصرى وصلخد، ووصولنا إلى أراضي القريا، أصبحت الطريق، التي بالكاد نفّذ قسما منها شعب اتصف بعدائه لهم عداء خاصاً، لا تصلح للسير تقريباً، كنا نقفز من صخرة إلى صخرة، ولم يتم بناء عبّارات فوق الأودية، كما حُرص على تعرية الحجارة الكبيرة التي بات علينا الآن أن نقفز من فوقها مع ما يسببه ذلك من ضرر شديد لسياراتنا. على الرغم من كل هذه الصعوبات وصلنا قبل حلول الظلام إلى القريا، وبالطبع فليس ثمة استقبال، ذلك أنّ غالبية السكان من الدروز لم تعد إلى القرية بعد، كما إن القسم المسيحي منهم وهو كبير العدد لم يجرؤ على إظهار فرحه الحقيقي . اجتزنا شارعاً عريضاً بدرجة كافية تحيط به الخرائب الكبيرة لبيت سلطان باشا ومضافته اللذين فجرتهما وحداتنا عام 1922، ثمّ وصلنا إلى ساحة حيث ثلاثة صفوف من الأعمدة الرومانية تتراءى في مياه البركة . كانت الأعمدة قصيرة ثخينة ذات تيجان دورية، وتربط بينها عتبات قويّة، ولا بدّ أن سوقاً كانت تقام هنا، فالدرجات التي توحد بينها أعمدة الصفّ المجاور للبركة كانت تُستخدم من دون ريب مراقاً للباعة .
في هذه الساحة، كان بعض الفرسان الذين يمسكون بأزمّة عدد من الخيول بأيديهم، ينتظرون، وكان علي بك أخ سلطان باشا، يرافقهم وهو من سيقودنا إلى معسكر القائد . امتطينا صهوات أفراس أصيلة فخمة، وسرعان ما سلكنا درباً صعباً كدرب الماعز مليئاً بالأحجار العارية المتقلقلة حيناً أو الغارقة عميقاً في الأرض حيناً آخر. كانت ثمّة أدراج حقيقية ينبغي لنا تسلّقها ولولا مهارة هذه الخيول ذات الخطوات الثابتة التي كانت، حال ولادتها، تتبع أمهاتها في مثل هذه الدروب، فإنّ الأمر كان سيستحيل علينا . وهكذا صعدنا تدريجيّاً في أرض قاتمة مقفرة، حيث كانت مطايانا تمدّ، من دون انقطاع ساقاً ثمّ تقفز من فوق حجر بازلتي، وفي أحيان أخرى كنا نهدم من فوق صدر الحصان تخاريم حقيقية من الحجارة التي صُفّت فوق بعضها بعضاً بتوازن دقيق لتشكّل جدراناً شفافة تحدّد الملكيات في هذه البلاد، ثم نمرّ من هذه الثغرة المفتوحة. وأقسم أنّني لم أعرف أغرب من هذه الجدران الدرزيّة، فإن المرء ليعتقد جازماً أن من بنوها لا بدّ أن يكونوا بهلوانات انقطعوا عن السيرك، فهي قد ترتفع أحياناً لتصل إلى أكثر من مترين وترتسم على صفحة السماء كتلك التقطيعات التي كنا نعملها في طفولتنا أيام المطر، بإستخدام الجرائد المطوية والملفوفة . كان في الجدران شيء أثيري وكانت السماء تبدو ذات زرقة أشد كثافة من خلال الفتحات المتروكة فيها، بسبب هذه الأحجار السوداء المختلفة الأشكال والحجوم .
كنا نتقدم وسط ضوء النهار المتلاشي، منتبهين إلى سير مطايانا . وفي لحظة معينة اجتازت الدرب إحدى الملكيات وقد حُرثت ثمّ اقتُلعت حجارتها في ما بعد . حثّ الفارس الذي كان خلفي حصانه فأخذ مكانه إلى جانبي ، كان الفارس طفلاً تقريباً، بيد أن صفين من الرصاص كانا يتقاطعان فوق ثوبه ذي البياض الناصع ويحمل بزهو بندقية من طراز موزر مثل بقية الرجال الذين كانوا يرافقون علي بك .
وبصوت صادح تقريباً، صوت تلميذ يلقي عن ظهر قلب، غارساً في الوقت نفسه في عينيَّ نظرة رجولية، فإنّ هذا الطفل ذا الأعوام العشرة والشعر الطويل المضفور حيّاني بالفرنسية :
«- أهلاً وسهلاً Mon Capitaine
ودهشت بعض الشيء لأنه سيكون أمراً غريباً أن أجد عند سلطان باشا طفلاً يتكلم الفرنسية، وعلمت أنه ابن أخت سلطان باشا، ومن الذين قدمنا لهم منحة دراسية في المدرسة اللعازرية في دمشق عند وصولنا إلى الجبل، كانوا حوالي العشرين طفلاً درزياً من أبناء أو أقرباء الزعماء توزعوا على مختلف مدارس دمشق وبيروت . في عام 1922 وعند أول خبر عن انتفاضة سلطان باشا شعروا بالقلق، وبدأ هؤلاء الذئاب الصغار، الذين لم يُدجّنوا تماماً بعد، يضيقون بثقل القفص . وكما لو أنهم اتفقوا في ما بينهم، فقد هربوا جميعاً من دمشق وبيروت، وعادوا سيراً على الأقدام إلى الجبل حيث البارود يغني . هايل بك على الأخص التحق بعصابة سلطان باشا في كل جولاتها، وأظهر فيها آيات من الشجاعة لدرجة أنه بعد عام من وصولي إلى الجبل، فإنّ بعض الدروز المعتقلين إثر حوادث درعا والقنيطرة، كانوا يغنون في سجنهم مساء أغنية طويلة تمجد أفعال هايل بك . عضو العصابة الطفل . أما اليوم فقد كان في غاية الرقّة وتملأ الابتسامة وجهه وقد رأيت فيه ذلك الطفل الفخور بإطلاع الغريب على علومه الطفولية، ولكن ما أن يبدأ القتال في الغد فإنني متأكد بأنه سيكون محارباً رهيباً يشدّ بندقية الموزر إلى كتفه، ويصوّب بدم بارد إلى خصمه.
حلّ الليل فجأة تقريباً، واتخذت كتل الحجارة البركانية أشكالاً أكثر فأكثر غرابة لحد القول إنها أبراج خربة أو بلدات مهدمة . وعلى حين غرّة لمحنا عدداً من المشاعل الصغيرة . إنه معسكر سلطان باشا، أخذت المشاعل تتضح شيئاً فشيئاً، فهنا ثمة نيران متقدة تشتعل تحت قدور نحاسيّة كبيرة في مواقد الجمر . فهل تكون تلك الأنوار الضبابيّة الباهتة المتسللّة هي ما تسمح خيام سلطان بتسربها ؟ أتكون تلك النجوم التي تتراقص في ظلمة الليل هي شعلات المصابيح الكبيرة التي تتمايل فوق حدائد طويلة ومعقوفة مغروسة في مداخل الخيام أو تلك التي يحملها بعض الخدم ويسبقون سلطان باشا الذي يتقدم لإستقبالنا مع وجهاء آخرين ، وترجّلنا مسرعين من فوق خيولنا .
وتقدّم سلطان باشا بخطوات طويلة ورحّب بنا بكبرياء وبشيء من البرودة..كان رجلاً في الثلاثينات من عمره، ذا قامة مديدة ووجه شديد الرجولة لكنه ذو نظرات صوفية قليلاً ومشرقة . له شاربان أسودان ثخينان ومنتصبان، وكغطاء للرأس، كان يضع الكوفية، لكن علمت في ما بعد، ومن مصدر موثوق جدّاً أنه ليس أقل « اطلاعاً « وأنه ذو مرتبة رفيعة في الدين . كان يلبس ثوباً حريرياً طويلاً ذا خطوط طولية، وفوقه صدرية ملونة من دون أكمام، وجاكيتاً أسود طويلاً وكلا القطعتين من طراز أوروبي . وكانت عباءة سوداء، تحيط بياقتها حبكة دقيقة من خيوط ذهبية وتتدلّى في شريط رفيع حتى الخياطة الأمامية، تغطّي كل ملابسه، بحيث لا يبين من ملابسه الأوروبية سوى جزء ضئيل من الصدرية ذات اللون الفاتح مما يعطي لمجموع الزّي مظهراً شرقياً .

الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة
الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة

في خيمة سلطان باشا
قادنا سلطان باشا إلى خيمة الإستقبال، وهي خيمة مربعة من الطراز الإنكليزي ذات حواجز قائمة يرفعها عامودان من الخيزران، غُنمت بعد صراع شديد، في إحدى الغزوات الناجحة في الحرب الكبرى وكانت سجّادات في غاية الجمال تغطّي الأرض ، بينما تشكّل صناديق مغطاة بفرشات ضيقة طويلة ومستقيمة دكات بحذاء حواجز الخيمة . في الوسط وضع إبريقان زجاجيان داكني اللون وبعض الأقداح في ترتيب واضح فوق طاولة مغطاة بسجادة . وثمّة مصباحان بتروليان بخزّانين من البورسلين السميك ذي اللون الأزرق يقفان فوق الطاولة ذاتها.
جلسنا فوق الدكّات وبعد الحركات المألوفة من بعض الوجهاء، أو أقارب سلطان باشا الذين قاموا بقصد لفت الأنظار إليهم، بتكديس العديد من المخدات تحت أذرعنا وخلفنا، قدّم لنا سلطان باشا أفراد عائلته . أولاً، علي، وهو أكبر أخوته، ذو قامة مديدة ووجه يطفح بالقوّة، إنـــه محارب العائلة، وقد أُصيب بجرح عام 1922 في حملة مثيرة ضدّ مصفّحات الملازم أول بوكسان ، إنه لأمر محيّر فعلاً، فسلطان باشا لا يشارك نظرياً في الأعمال التي خطط لها، بل أخوه علي من يقود الفرسان إلى المعركة : وفي هذه الشروط قد يخطئ الإنسان في تفسير شعبية سلطان باشا. ولكنه إذا عاش فترة في هذه البلاد فلن يحار في الأمر .سلطان يمثّل « السّلطة « وله يجب الخضوع وإلاّ تعرض المرء لقمع شديد . فهو من يجمع المترددين لأنه عُرف عنه تنفيذه لوعيده، وهو الذي يعاقب سكان القرى المناهضة له، أولئك الذين لم يقدّموا حصتهم المحددة من الفرسان، أو لم يرسلوا الجمال المحمّلة بالحبوب، وهو من يتحدّث في اجتماعات القادة عن متابعة الحرب، ويفرض بعد النقاشات الطويلة المملّة إرادته التي ينحني الجميع أمامها، إنه الوحيد المؤهّل، في هذا الجبل، لجعل الزّعماء يطيعون له، وذلك بسبب حزمه. وفي المقابل فإنّ الأمر الذي يشدّ إليه قسماً من الشعب هو أنه ربما كان الزعيم الوحيد « الكريم « حقاً من بين كلّ الزعماء ، من المؤكد أن بعض الزعماء الآخرين كانوا يرمون « النقود من النوافذ « بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنّ هذا العمل كان في أغلب الأحيان من أجل التفاخر، أو من أجل منفعة شخصية، وفي حقيقة الأمر، كان الزعماء طمّاعين ويستغلون فلاحيهم، ويسرقون الأرض التي استصلحها هؤلاء، ولا يكون لديهم سوى هدف واحد : تكديس « النابليونات الذهبية « في تنكاتهم» أي صفائح بترول قديمة تستخدم كخزائن مالية .
سلطان باشا كان على العكس من ذلك، يستقبل ضيوفه بكرم شديد، ويصرف جزءاً من ثروته في مضافته، وأي بدوي كان يجد فيها الأرز بكميّات وفيرة دائماً ، وكان عادلاً ولهذا كان البعض يتخذه قاضياً في ما بينهم، ولم يستغل ذلك ليكسب بعض الليرات الذهبية التركية من كلا الطرفين .
بالطبع لم يكن سلطان باشا يلعب دوراً نشطاً في المعركة وهو أمر يدهش الغريب دائماً، عند هذا الشعب المحارب، بيد أن الدروز لم يكونوا منزعجين لهذا الأمر، ذلك إن المعركة بالنسبة لهم لم تكن سوى غزوة، والحال، إن من التقليد الثابت لدى هذا الشعب المشاركة في غنائم غزوة من دون المشاركة فيها مشاركة مباشرة، ويكفي لذلك مجرّد إعارة فرس أصيل. فالدروز يعترفون بالفضل دائماً لمن يمنحهم الفرصة للمشاركة في الغزوات المربحة، ويجب الاعتراف أيضاً أن الحظ قد خدم سلطان باشا دائماً، وأن العمليات التي أمر القيام بها عادت بكسب لا بأس به على هؤلاء الناس الفقراء .
يضاف إلى ذلك أن روح العصبية « المحلية « ما زالت تحرّك المقاتلين، وكل قرية تريد القتال على هواها تحت طيّات « رايتها الحربية «، ولم يبعد الوقت الذي كانت فيه القرى تتحارب في ما بينها . ولقد كمُل دور سلطان باشا إذاً حين عرف كيف يجبر قرية بعينها على المشاركة بمعركة ما، وحينما فرض فرضاً على مختلف الوحدات تمركزاً محدداً في خطوط القتال الأولى مطابقاً قدر الإمكان لوضع القرى الجغرافي. وكمُل دوره حينما أشعل فوق الأمكنة العالية، فوق قمّة جبل القليب خاصة، مشاعل اللهب المعدّة من قبل، والتي تعلن الحرب في اليوم التالي، كمُل دوره حينما عرف كيف يوزّع مياه الينابيع والبرك في التجمعات السكانية لأن الأصدقاء أنفسهم سرعان ما يشتبكون بالأيدي من أجل هذه القضايا الحيوية في هذه البلاد المحرومة من المياه . فالقرية الفلانية ليس لديها من الحظ سوى نبع صغير متدفق أو بركة عميقة يتقاسم السكان الماء وفق تعويضات مرتفعة . ويأتي سلطان باشا أيام العطش ليفرض على هذه القرية ذاتها أن تستقبل وتروي الكثير من الحيوانات ، لكن يبقى أنه في يوم المعركة، ومع وجود العقلية الاستقلالية عند مختلف مجموعات المحاربين، لا يتضح تماماً الدور الذي يمكن لسلطان باشا أن يلعبه . ويبدو أن أخوة سلطان كانوا المختارين دائماً للهجوم على رأس مجموعات الفرسان وأضاف إلى ذلك أن مستشاري سلطان باشا الأذكياء وبحكمة كبيرة منهم، رأوا أن هذا الأمر قد يبدو غريباً في نظر المحاربين الدروز مع الوقت، فاستصدروا من مشايخ الدين الأربعة للجبل فتوى تمنع سلطان باشا ولمصلحة « القضية « من المشاركة في المعركة . علي بك هو إذاً وبقوة الواقع محارب العائلة .
مصطفى بك، العملاق القوي ذو الوجه الغليظ، كان فلاح العائلة، فهو من يدير الأعمال الزراعية، يذهب إلى قبائل البدو ليشتري الجمال منها، يوقظ الحصادين ويدفعهم إلى العمل ويحسّ المرء أمامه بطاقة كامنة لا محدودة.
وها هو الأخ الأصغر زيد بك، كــان ذا شعر طويل مضفور ومسرّح بعناية ، وكانت ثيابه بكاملها ذات زرقة باهرة، وتزيّن سترته البوليرو الفضفاضة شرائط مبرومة وتشبيكات مزهّرة وبراندبورية من الحرير الوردي، وكانت أطراف ثوبه الأزرق الطويل تتباعد عند سيره لتكشف عن سروال أبيض، تعلو أسفل ساقيه تطريزات دقيقة تشبه التطريزات الرومانية، وينتعل خفّاً فاخراً ذا صفرة فاتحة، ويلبس جوارب حريرية زرقاء تربطها بما تحتها حمّالات من اللون ذاته، يرسم شاربه الأسود الدقيق حدود شفتين شهوانيتين، ويخطف من الوجه ذلك المظهر الأنثوي الذي قد تشي به العينان المكحولتان والشعر الحريري المضمّخ بعطر مستورد، ولم يكن زيد بك يقدم بمظهره هذا انطباعاً بأنه ذلك المقاتل الجريء، وإنما مجرّد زعيم قرية همّه البحث عن المغامرات العاطفية . بيد أن هذا الـ زيد بك نفسه هو من سيقود في شتاء 1925 العصابات الدرزية في الحرمون برجولة وشراسة جعلتانا نقدم الكثير من الضحايا .
بعد التعارف أدار علينا خادم، يضع في قدميه بزهو كبير جوارب مثقوبة عند العقبين، ربما تركها له زيد بك الساحر، في فنجان واحد، وبالدور القهوة البدوية المعطرة بالهيل ذات المذاق المبرّد للغليل والمهيجة كما يشاع، ثمّ بدأ بعد ذلك تبادل الكلمات والتصريحات الحارة عن الولاء وعبارات متحمسة عن فرنسا التي « قامت بالثورة وبنت برج إيفل». ولحسن الحظ جاء الأرمني الذي كان يرتدي ثياباً أوروبية بائسة ذات لون داكن، ويقوم بدور مشرّف الخدم عند سلطان باشا، ليعلن أن العشاء جاهز، فنهضت لكن أيّاً من الوجهاء لم ينهض تواضعاً وقبل أن يُدعى من قبلي للجلوس إلى الطاولة ، ودائماً عبارات : « داري دارك » و«بيتي بيتك» المألوفة المستعملة بكثرة في بلاد الدروز .
انتقلنا إلى الخيمة المجاورة المزيّنة أيضاً بالسجاد، وقد مدّت في وسطها مائدة على الطريقة الفرنسية، وكانت ثمّة مقاعد ذات صناعة دمشقية حديثة قويّة المظهر بيد أنها معدومة المتانة وقابلة للتفكك تحيط بالمائدة.
كانت صحون «ريولز» جديدة تحيط بطقم مائدة خزفي وكان مصباح كاز مضغوط، ذو ذبالة غير قابلة للإحتراق يضيء المكان بضوء ساطع قليلاً، بالطبع لم أكن أتوقع مثل هذا البذخ هنا وما أدهشني بعض الشيء، أن أيّاً من هذه الصحون لم يكن مثلوماً على الرغم من التنقلات المفاجئة والسريعة فوق ظهور جمال رحّل خلف العصابات وقدّم لي مترجمي مفتاح اللغز : « كل هذه التجهيزات لم تتعرّض لأي خطر أثناء العصيان، ذلك أن سلطان عمل على حفظها عند وجيه مسيحي في القريّا وقد امتنع هذا، خوفاً، عن إطلاع السلطات على ذلك» .
ولسوء حظي، أنا من لا تزال تجثم على معدته بعد ثلاث وجبات منذ الصباح، فقد قدّمت الخدمة على الطريقة الفرنسية، أي تقدّم الأطباق بالتتالي، وتقتضي اللياقة أن أتذوّق كلاً منها و الله يعلم كم كان عددها، ها هي الكبّة، الصحن الوطني السوري، وهو كرات ثقيلة من اللحم المفروم والقمح ثمّ النقانق الصغيرة الممتازة حيث لفّ اللحم بورق العنب ثمّ تلت الفراخ التي تسبح في مرق اللبن الحامض الفراخ المشويّة .
ثمّ حمل خاروف كامل على صينية نحاسية كبيرة، ومعجنّات صغيرة على هيئة معينات تتكدّس فوق رفوف خدمة التحلية، كما طفحت صحون الحساء بلبن رائب ممتاز.
عدنا بعد الإنتهاء من تناول الحلويات، إلى خيمة الاستقبال حيث قُدمت لنا، وهو بذخ لا يجارى حتى الآن، القهوة الحلوة في طقم من الفناجين المذهبة الأطراف، ومن جديد خطب وأحاديث مملة .
هرعنا إلى الخارج، ولاحظنا في عتمة الليل، وفي كل مكان تقريباً، أضواء ساطعة محمرة تتأرجح في كل الاتجاهات، وتنتزع انعكاسات داكنة من الصخور البازلتية الزرقاء المعتمة. وفي العتمة كانت ثمّة ظلال ترتسم على صفحة السماء وهي تقوم برقصات رائعة على ايقاع أصوات الطبول، وتقطعّها النوتات الحادة للنايات، كما تموّجها تموّجاً غريباً سحبات المجوز ذي الأنبوبتين الريفيّة .
إنهم البدو « السرديّة « ، التابعون الحقيقيون لهذا السيد الحقيقي الذي هو سلطان باشا، تركوا خيامهم المنسوجة من وبر الجمال، وجاءوا يشاركون في الإحتفال، والتأمت في كل زوايا المخيم حلقات من الراقصين الذين كانوا يطلقون من حناجرهم نغمة خشنة وقوافلية تتفق مع جنون أجسادهم التي كانوا يرجحونها في فترات متساوية، ويرقصون بجنون، ويمدون أيديهم المضمومة نحو بدويّة كانت تدور باتساق أمامهم وفق حركات بطيئة جداً، جعلت أطراف العباءة التي تتلفع بها، والتي كان قد قدمها لها أحد الوجهاء، تطير كأجنحة رايات النصر القديمة، وكان يتأرجح من فوق رأسها سيف طويل محني، إنّ هذه الرقصة وهي رقصة طقسيّة حقاً تأخذ بهذا المظهر طابعاً حربيّاً . أمام مجموعة أخرى حيث تتشابك أذرع الراقصين وتتماسك أكتافهم، كان درزيّان يلوحان بالخنجر القصير القويّ يقلدان معركة، ولم يكن في حركاتهما أي شيء مفاجئ ولم تكن الرقصة التي تحيط بهذا المشهد تشبه في شيء الرقصة المجاورة .
أمام مجموعة أخرى جاء هايل بك المثير للقلق يرقص، يتدفق شعره ويتطاير حول وجهه اللطيف المحبب، بينما كان ينزلق بخطوات رشيقة من جهة إلى الجهة المقابلة في حلقة الرّاقصين . يمدّ نحوهم كفيه المتّحدتين اللتين كانتا تنفتحان وتنغلقان في حركة تحد، ويقفز من دون توقف، أمام البدو الذين كانوا بوجوههم السوداء وأسنانهم البيضاء كالذئاب الضامرة المتّقدة العيون ، التي تستعدّ للإنقضاض على الفريسة . بيد أن هايل بك، تلك الفريسة الساحرة لا ينوي جعلهم يفترسونه، إذ كان فجأة يجمد في مكانه، ثم برقّة بالغة يستدير ببطء شديد بينما يداه المتباعدتان عن جسده تتلويّان بأّبهة، ثم يحلُّ الهدوء، فقد أشدّ الراقصون إلى بعضهم بعضاً بالأكتاف، وأخذوا يتأرجحـون يميناً وشمالاً، يدقون الأرض دقاً خفيفاً بأقدامهم العارية ذات المفاصل الدقيقة، في حين كان أحدهم ينغّم الرقص بغناء أغنية حزينة، ولم تســـتمر هذه الاستراحة طويلاً، إذ سرعان ما تندفع ثانية الحشرجات الموقعّة من الصدور، وتمتد الأيدي في حركة امتلاك بينما تنفتح وتنغلق أيد أخرى في حركة جنونية، ويميل البدو من جديد بأجسادهم مقابل هايل بك الفاتن الذي عاود إنزلاقاته أمام نصف الدائرة الثمل بالحركة . وإكراماً لهايل بك و( « تشريفاً» له بالفرنسية ) يقوم بعض الخدم من دون أدنى خوف من وقوع حادث ما، بدلق البترول فوق مشاعلهم الملتهبة التي تتألف من قضبان حديدية طويلة غُرست في نهايتها قطع من الوقود المحلي الذي تصنعه النساء، وذلك بدعك روث البقر المخلوط بالتراب لمدة طويلة، ويجعلن من هذا الخليط العجيب كتلاً صغيرة يلصقنها بحركة سريعة على جدران المنازل، أو يجعلن منها كرات ذات حجم متوسط ويضعنها على جدران أملاكهم حتى تجفّ تماماً . كانت هذه المشاعل تنشر في أنحاء المخيم أشعة ذات حمرة نحاسية شديدة تلون تلويناً جميلاً أثواب الشبان الدروز الطويلة وتزيد من بريق الحبكات الذهبية لعباءات الوجهاء. أحياناً، كانت تنفصل إحدى هذه القطع وتتدحرج ملتهبة وسط الراقصين الذين يبتعدون بسرعة، ثم يلتئمون من جديد ويلعبون مع كرة النار، يخطفونها أو يتراشقون بها بحماس أو يجعلونها تقفز فوق الأحجار الكبيرة التي تنزرع وسط أرض المضارب، وكل ذلك تحت خطر حرق الأثواب والقمصان التي كانت تتطاير في كل اتجاه وسط هذا السباق المتهوّر المجنون، وسوف تستمر هذه الرقصات والألعاب ردحاً طويلاً من الليل، وسنسمع المزيد من هذه الحشرجات الوحشية وأصوات الطبل الكبير الصمّاء بعد أن انسحبنا إلى الخيمة – الصالون – حيث جهّزت على عجل عدّة أسرّة باستخدام بعض الصناديق . كان الصندوق الأعلى مغطّى بقماش ملوّن حُبك على شكل نخاريب النحل، ووضع عند طرف السرير، في طيّات متقنة، لحاف ريش أميركي مخرم ورقيق جدّاً من الحرير ذي اللون البراق، بينما وضعت عند رأسه بعض المخدّات الدرزية، التي يتركز نقشها في كونه قطعاً قماشية مقطعة تقطيعاً غريباً ومصفوفة وفق موازيك بسيطة تخلو من أي إبداع، لكنه ذو مظهر جميل جدّاً، ولم نستطع النوم من دون عناء بالطّبع وسط كل هذا الضجيج، ولا حاجة لي للقول إنني لم أستطع وسط كل هذه الرقصات تبادل أيّة كلمة مع سلطان باشا . ولهذا استيقظت في ساعة مبكّرة آملاً أن أستطيع محادثته على انفراد، وخرجت من الخيمة، كان سلطان المضيف الفطن قد استيقظ قبلي ويراقب باب الخيمة، وخدمتني الظروف فاستطعت التحادث معه مدّة طويلة، شكرته لاستقباله الكريم ودعوته لزيارتي في السويداء، وطلبت منه أن يعتبرني صديقاً له، وأن لا يتردد في مقابلتي عند أدنى صعوبة تواجهه .
« يجب أن نقرر أن لا نسمح أبداً لأي سوء تفاهم أن يفرّقنا، وأن نظل مستعدين دائماً للتفاهم بكل صدق حول أي موضوع يطرح . إن أعداء فرنسا سيحاولون عبر التقوّلات غير الصحيحة والمغرضة دوماً، تفريقنا، وهذا ما لا يجب أن نسمح به، ما فات مات ولقد دملنا الجراح ولن يفرقنا شيء ولا ينبغي أن نسمح للآخرين بمحاولة إقامة العراقيل الجديدة في ما بيننا» .
فأجابني سلطان باشا بأنه لن ينسى أبداً سلوك فرنسا الكريم اتجاهه . وقال لي : « لن أغدر بكم أبداً، لأنه بعد الوعود التي قطعتها لممثلي فرنسا فإنني سأشعر بقلّة القدر في عين نفسي، وسوف نصبح أصدقاء رائعين « .
لم ألحّ كثيراً، ولكنني كنت أحسب أنه منذ الآن وحتى بضعة أيام سأستطيع إقناعه بهدوء بالعودة إلى قريته وإلى كسر شبه القطيعة هذه.
وسيكون الأمر صعباً خصوصاً وأن البعض جعلوه يأمل أن تقوم
« فرنسا التائبة » بتقديم النقود له لإعادة بناء مضافته .
وقادني سلطان إلى القريّا، وهناك أشار إلى منهل رائع كان قد أمر ببنائه، ولسوء الحظ فإن الساقية التي تجلب الماء كانت تصل إلى مستوى أدنى من مستوى المنهل . سأقوم بإصلاح ذلك، وهكذا سأستطيع التقرّب من سلطان باشا .
من المؤكد إن الله يرعاني اليوم .
* *
/1924/ – ها قد انقضى عام على الصداقة التي عقدت أواصرها مع سلطان باشا. وليس هناك ما يدعوني إلاّ لأن أحمد فعلي : صارت مدرسة قريته من أفضل المدارس إدارة في الجبل، وتمّ تلقيح فلاّحيه ضدّ بعض الأمراض من دون صعوبة، وصارت شوارع قريته هي الأوسع والأقل وعورة في المنطقة . إلى الأمام فكل شيء على ما يرام، بيد أنني كنت قلقاً، إذ كان يجري الإعداد للإنتفاضة السورية في كل مكان، وتحت أنظار حلفائنا السابقين المتسامحة، كان رضا باشا الركابي رئيس وزراء الأمير عبد الله ينظّم في شرق الأردن العصابات التي كان عليها القيام بالاضطرابات على حدودنا الجنوبية، وكانت إحدى هذه العصابات قد قتلت في المزيريب عدداً من الجنود وجرحت زوجة ضابط، وفي القنيطرة قُتل عدد من رجال الدرك، وهوجمت إحدى المفوضيات في قلب دمشق، واغتيل عدد من رجال الشرطة . وظلّ الجبل هادئاً، وقد غادره ثلاثة زعماء دروز منشقين بيد أن أحداً لم يتبعهمم. لكن قادة اللجنة السورية زادوا من التحريض، لأنهم كانوا يعرفون أنه من دون مساندة هذا العنصر المحارب، فإن حركتهم ستؤول إلى إخفاق مؤكد . فوق ذلك كله تردد في كل مكان أن الجبل سوف يثور، ولم يكن يمرّ يوم من دون أن يأتي زعماء القرى المجاورة في حوران الذين كانوا يخشون نتيجة لخبرتهم بالغزوات الدرزية، للتعبير عن قلقهم أمام زميلي مسؤول مكتب استخبارات درعا ، ومن جهة أخرى كنت أعلم ومن مصادر موثوقة أن سلطان باشا قد أودع أثاث بيته وسجاده عند بعض الوجهاء المسيحيين . فهل كان سيمضي ثائراً هو الآخر على الرغم من ادعاءاته المتجددة بالصداقة ؟ وكنت أعلم أيضاً أنه بدأ يضطرب لأن خصومنا جعلوه يخاف من احتمال اعتقاله، ولذا فقد أقام مراكز مراقبة حول قريته، لتجنّب مثل هذا الإجراء . هيا، يجب أن نطمئن سلطان مجدداً، ونمنع الوحش، وقد دُجّن بكثير من الصبر، من الهرب بنتيجة حركة غريزية . فكتبت له رسالة طويلة أنهيتها بما يلي :
« إنك صديقي الحميم وقد عملنا سويّاً دائماً، وأعتقد في هذه الفترة أنه من واجبنا نحن الاثنين العمل لإعادة الهدوء إلى البلد، وربّما تطلب ذلك جهوداً كبيرة ولكنني متأكد أن إرادتي الطيبة المطلقة وصداقتك التي خبرتها مرّات عديدة ستكفيان لإنجاز هذه المهمة « .
ولم يتأخر الرّد : إذ سارع سلطان باشا منذ الغداة، مخدوعاً بالتعاون الذي عرضته عليه، إلى إرسال أخيه علي إليّ ليؤكّد لي إخلاصه . وأستطيع الآن تأجيل العملية التي كنت قد أعددتها مع ذلك من أجل أن أختطف زعيماً من الانتفاضة السورية المرتقبة، بعد عدة أيام دشنت وسلطان باشا في احتفالات لا تنسى ميدان السباق في صلخد، في حين كانت درعا لا تزال تردد صدى طلقات رجال العصابات .
وفشلت الانتفاضة السورية .

كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..
كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..

1925 أنا في فرنسا
سلطان، المرتعب من بعض الإجراءات السياسية ومن اعتقال بعض أقاربه، وهو الأمر الذي كان له ما يبرره على كل حال، يهرب معلناً الثورة . إنه لأمر لا يصدق ولكنه يُفسر بالنجاحات المتحقّقة في الجبل، ذلك أن سلطان وجد صعوبات جمة في جمع سبعة وعشرين فارساً، لكن الحظ يخدمه بصورة غريبة. فقد التقى في طريقه بسرية من الجنود أرسلت إلى الريف على غير هدى، وبالنسبة لمحاربي سلطان لم يتعدّ مجرد اللعب أمر إبادة هؤلاء الرجال الذين كانوا يفاخرون بارتداء البذلات العسكرية ويناورون بطريقة مثالية جدّاً لكنهم لم يكونوا يطيقون استنشاق رائحة البارود . وجلبت الغنيمة المكتسبة بعض الأنصار له، ثم وقعت بعد ذلك العملية المؤلمة في 3 آب حيث أباد ثمانمئة درزي طابور ميشو المسكين الذي يتكون في غالبيته من جنود إما غير مجربين وإما دون قيمة قتالية . ثم كانت مغادرتنا للسويداء والجبل أخيراً هي الأمر الذي سمح لقادة سلطان بقيادة الجماعات الدرزية « لاجتياح قرى في حرمون وضواحي دمشق. لقد استيقظت غرائز الغزو الدرزية القديمة وها هم ستة آلاف محارب من الجبل يهتفون الآن للزعيم الذي أتاح لهم تلك الفرصة .

رسالة جبل العرب