الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المرحوم القاضي الشيخ حَليم تَقِيِّ الدِّين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد المرسلين وآله واصحابه الطاهرين الطيبين

سماحة رئيس محكمة الاستئناف المذهبية الدرزية العليا المرحوم الشيخ حليم تقي الدين، ذكراه باقية حاضرة في وجداننا ووجدان أبناء العشيرة والوطن. فمن مثال القاضي الذي عمل جاهداً في إعلاء شأن القضاء المذهبي الدرزي تنظيمًا واجتهادًا وتأليفًا وقولًا للحق، الى الرجل الحكيم المتابع في الزمن الصعب لمجريات الأحداث الخطيرة التي عصفت في بداية الثمانينيات من القرن الماضي في جبلنا العزيز، مبديًا للقاصي والدّاني قامةً وطنيَّة ذات أصالة ووفاء لكلِّ القيَم، دفاعًا عن الكرامة بحقّ وعدل، وموضحًا التباسات الواقع ببصيرة نافذة، وقلب نقيّ، وبلاغة مستنيرة، ليس دفاعًا عن قومه وحسب، بل عن وطن الرسالة والعيش المشترك، مجسِّدًا امتثاله الصادق لحقيقة تاريخ الموحدين الدروز ودورهم السياسي والاجتماعي والثقافي بكل صراحةٍ وجرأةٍ حتى الرمق الأخير الذي به كانت شهادته.
إنَّ رجلا كالمرحوم الشيخ حليم تقي الدّين لا يُخمد الموتُ له حضورا طيّبًا باقيًا في ضمير شعبه، ولا يمحو له ذكرى مشعَّة من صفحات التاريخ الوطنيّ الأثيل.

شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

نعيم حسن


اليوم وفي كلِّ يوم تتداعى الذِّكريات، وتتزاحم المعاني لترسمَ بمِدادٍ من نور سيرة شهيد الحريّة والعدالة ووحدة الإيمان الإسلامي المغفور له الشيخ حليم تقيِّ الدّين.

كان رحمه الله، علَماً من أعلام القضاء والفِقه الإسلامي، وواحداً من رجالات الفكر والثقافة البارزين. تميَّز كاتباً، وخطيباً ومُحاضراً، وأستاذاً جامعيّاً، ورائد وطنية، وداعية محبَّة، ومحاوراً من الطّراز الأوّل. وأُثِرَ عنه حبُّه للعلم وأهله، وشغفه بالتراث العربي الإسلامي، وميله الطبيعي إلى اكتناه المعرفة الكُلِّيَّة، والاشتغال بالأعمال الحضاريّة عبر مجالس الثقافة ومراكز الأبحاث.

جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك. يضفي على جلسائه فيضاً من لباقته ومرَحِه وتفاؤله… ولطالما ردّد على مسمع أصدقائه وفي مواجهة محاوريه أنَّ لبنان هو الإنسان فإن مات إنسانُه ظلماً وقهراً وعدواناً فأيّ وطن يبقى لنا بعد ذلك؟ كان الشيخ حليم مثال الرجل الجَدِّي الرّصين، ومن شعاراته في الحياة العملية: “ما تريد أن تقولَه افعلْه”، و”قيمة الإنسان ما يُحْسِنُه”.

جمع في ذاته مواصفات جمّة، فكان ذا شخصية فذّة، وأخلاق نادرة ومناقب عالية، حاضِرَ النّجدة، ظاهر المروءة. لطفه ودماثة أخلاقه قرّبته من القلوب وجمعت حوله نخبةً من المحبِّين، فإذا هو دائماً لولب الاجتماعات وعصبها المُحَرِّك.

نشأته وبيئته

وُلِدَ الشّيخ حليم تقي الدين في بعقلين، الشّوف، في 18 كانون الأول سنة 1922 وتوفِّي شهيداً، اغتالته يد الغدر والخيانة في أوّل كانون الأول 1983.
والده القاضي والشاعر الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين.

عاش مع إخوته العشرة، حياة أُلفة ومحبّة ورعاية من الوالدين: رعاية الوالد كانت في إعطائه المثال في التواضع والاستقامة والقدرة على التعامل مع الناس جميعاً، بصدق وإخلاص، ورعاية الوالدة كانت في حُسن التربية والتوجيه الأخلاقي والوطني مع عطف وحنان. فشبَّ مُجتهداً طموحاً، وقد رافقه الاجتهاد والطموح خارج المدرسة في حياته العملية. تأثّر بعوامل البيئة التي نشأ وترعرع فيها وكانت مثاليّة: أبٌ قاضٍ وشاعر، وأعمام وأخوال أدباء وشُعراء، وعائلة لها تاريخ طويل تميَّز برجال الدين، من مؤلِّف كبير في الدين، إلى شيخ عقل يرعى شؤون الطائفة دينياً واجتماعياً إلى رجال في القضاء المذهبي والعدلي، كانوا قدوةً في نهجهم وسلوكهم. فتأثيرات البيت والمدرسة والبيئة كانت كبيرة وعميقة جعلت منه رجلاً عصاميّاً يعرف حدَّه ويعطي جهده، مؤمناً بما يقول واثقاً بما يعمل.

علومُه ونشاطُه
  • تلقّى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة اليسوعية في بيروت، ومدرسة الجامعة الوطنية في عاليه، ومدرسة الحكمة في بيروت. تابع دراسته الجامعية في الأكاديمية اللبنانية (1950 – 1951) حيث نال شهادة في الحقوق العامّة وشهادة في التاريخ الدبلوماسي.
  • نال من الجامعة اللبنانية إجازة تعليمية في التاريخ والجغرافيا سنة 1955 وإجازة في الحقوق سنة 1962.
  • عُيِّن أستاذاً متعاقداً في الجامعة اللبنانية؛ معهد العلوم الاجتماعية، ابتداء من العام 1960 ولغاية 1981 حيث حاضر في التاريخ الاجتماعي والنّظم السياسية في البلاد العربية وفي الجريمة وأشرف على الرسائل والأبحاث التي قام بها طلاب الماجستير في المعهد المذكور.
  • مارس المُحاماة ابتداء من عام 1963 محامياً بالاستئناف وحتى تعيينه رئيساً لمحكمة الاستئناف العليا عام 1968، واستمرّ في هذا المنصب إلى يوم استشهاده في أول كانون الأول عام 1983.
  • رَشَّح نفسه للانتخابات النيابية – عن قضاء الشوف – عام 1964.
  • انتُخِب عُضواً في المجلس المذهبي للطائفة الدرزية ثم أميناً لسرّ هذا المجلس بالإجماع سنة 1966 وحتى 1968.
  • أسهم في تأسيس المجلس الدرزي للبحوث والإنماء وانتُخِب عضواً في مجلس أمنائه.
  • شارك في وضع الثوابت الإسلامية العشر مع سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وعدد من كبار رجال الفكر الإسلامي والوطني- وشارك في تأسيس المكتب الدائم للمؤسّسات الدرزية عام 1982 وكان أحد أركانه العاملين بفعالية ونشاط.
مؤلَّفاته
    • “ديوان الشيخ أحمد تقي الدين – شاعر القضاة وقاضي الشعراء”، الطبعة الأولى 1967، والطبعة الثانية 1982.
    • “قضاء الموحدين الدروز في ماضيه وحاضره” 1979.
    • “الأحوال الشخصية عند الدروز وأوجه التباين مع السُنَّة والشيعة مصدراً واجتهاداً”.
    • “الوصيّة والميراث عند الموحّدين الدروز ومئة مثال في تقسيم الإرث”، صدر عام 1983. وشارك في تأليفه قاضي المذهب يومذاك الشيخ مرسل نص.

وللشيخ حليم عدد من المحاضرات والندوات في مواضيع مختلفة منها في الأحوال الشخصية، وتنظيم الأسرة، والقضاء بوجه عام، وتنظيم القضاء المذهبي الدرزي، ومنها حول قضايا وطنية مُلِحّة، وقد ألقيت هذه المحاضرات والندوات في مؤسسات تربوية وروابط اجتماعية ومؤتمرات دولية داخل لبنان وخارجه. وله أحاديث ومقابلات إذاعية وتلفزيونية وصحفية متنوعة، عالج في بعضها قضايا اجتماعية، وتطرَّق في بعضها الآخر إلى قضايا وطنية، ورؤىً مستقبلية. وفي الأشهر الأخيرة قبل استشهاده، كانت له تصريحات صحفية يومية، أدلى من خلالها برأيه، بصراحة ووضوح واعتدال، وبموضوعية رصينة، بعيداً عن التشنُّج الطائفي، مُقوِّماً الأمور بمنظار القاضي العادل والوطني المخلص النزيه.

الشيخ حليم تقي الدين إلى جانب مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد وسماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، السيد حسين الحسيني رأيس مجلس النواب، الدكتور سليم الحص رئيس مجلس الوزراء ورؤساء وزارات ووزراء سابقين
تنظيم القضاء المذهبي

عندما تسلَّم الشيخ حليم تقي الدين القضاء المذهبي الدرزي عام 1968 كانت السجلّات في بيوت القضاة، فأكَبّ على تنظيم القضاء، يعمل فيه ليلاً نهاراً. وبعد سنتين أُصيب بنوبة قلبية، بسبب الإرهاق والجهد والسهر والعطاء في ميدان التنظيم، حتى غدا القضاء المذهبي الدرزي بشهادة عدد كبير من المحامين والقضاة اللبنانيين من أرقى المحاكم المذهبية في لبنان والعالم العربي. حتى أنّ بعضهم تمنَّى لو كان القضاء العدلي كالقضاء الدرزي. كان في أحكامه ينسى كلَّ من حوله لدى تصفّحه الأوراق المعدّة للدرس. حتى إذا فرغ من دراستها كتب الحكم بكل ضمير حيّ، لا صديق ولا قريب يعرف سبيل الوساطة إليه، كان يقول: “أنا لم أُعطِكم شيئاً من عندي، الحقُّ مُلْكُكم أنتم”. أحبّ رسالة القضاء وأكبرَها إيماناً وثقة، إيماناً بالله وثقة بالنفس، كما أحبَّ رسالة القاضي وأكبرها عدلاً وإنصافاً، عدلاً مقروناً بالقناعة وإنصافاً مقروناً بالمساواة. وكما قال ذات مرة رحمه الله لدى سؤاله عن مشاعر القاضي وهو يقضي بين الناس: “إنّ من أولى واجبات القاضي، العُصمة في ضميره فإذا تحقّقت هذه العُصمة كان مثالاً وقدوة بين الناس، وفي إيماني أضاف: “إنّ المساواة بين الناس بالقانون، هي روح الحقّ ومُقتضى العدل، وإنّ المساواة بينهم بالمحاكمات، هي روح القانون ومُقتضى الشريعة.

مؤلَّفاته القضائية

بعد أن انتهى من عملية تنظيم القضاء واطمأن إلى استمراره بقضاته وموظّفيه، شرع في التأليف في موضوعات من صميم عمل القضاء المذهبي، وكانت غايته من ذلك تسجيل التاريخ وحفظ التراث. وأوّل ما كتبه في هذا المجال: “قضاء الموحِّدين الدروز” وهو من أهم المؤلفات في تاريخ القضاء المذهبي وأدب القاضي. جمع في هذا الكتاب الكثير عن تاريخ القضاء الدرزي وتطوره ورجالاته، آخذاً بعين الاعتبار مروره بمراحل زمنية كان خلالها قضاء متميِّزاً في تقاليده وسلوكه. استند فيها إلى اجتهادات المذهب في الأحوال الشخصية، وبخاصة في الزواج من جانب وحدانية الزوجة وفي الطلاق وواجب المساواة بين الرجل والمرأة، وفي الميراث وتقسيمه حسب مشيئة المُوصي. والمؤلف يذكر في معرض شرحه لأهداف الكتاب “إننا أردنا من هذا المؤلَّف إعطاء المثال في أنَّ هذا القضاء ما يزال مستمرَّاً في نهجه وسلوكه من حيث تحقيق العدالة بالاستناد إلى العلم والقانون بالإضافة إلى الاقتناع والضمير وهذه أكثر المزايا توافقاً مع مهمّة القضاء وتاريخ هذا القضاء.

وكتب الشيخ حليم أيضاً عن الأحوال الشخصية الدرزية ومقارنتها مع المذاهب الإسلامية الأخرى، وذلك لتعريف الدروز بنظام الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، وواجبات الموصى لهم وواجبات المورِّث وحقوق الوُرَثة، ولتعريف رجال الفقه والقانون من قضاة ومحامين وطلاب حقوق بمصدر الوصية والميراث وأحكامهما وشروطهما، فهو مصدر إسلامي في أصله الديني، يتَّخذ من اجتهادات المذهب أحكامه الخاصة التي تبقى متَّصلة بأصله وعائدة إليه مع اجتهاد متطوِّر.

مواقفه التقدّمية والإصلاحية

كان في كل ما يؤول إلى المجتمع العربي أُسرةً وأفراداً مُصلحاً اجتماعياً من الدرجة العالية، وكان النصيب الأكبر لجهده واجتهاده في مصلحة وخير المرأة الشرقية بصورة عامة والمرأة الدرزية بصورة خاصة.

واستناداً لروح القانون ونصّه الصادر في 24 شباط 1948 ومبادئ العدل والإنصاف، أصبحت المرأة الدرزية ومن خلال عمل القضاء الدرزي وممارساته واجتهاداته متساوية في حقوقها وواجباتها مع الرجل، فبيدِها أمر الطلاق، كما بيد الرجل، تَطْلُب التفريق منه، كلَّ مرة يُسيء إليها بقصد إيقاع الضّرر بها. وحقوق المرأة الدرزية لم تَعُد مقتصرة على ما يكتب لها في صداقها المؤجَّل عند طلب التفريق منها. فحقوقها تُقاس بمقياس ما يلحق بها من ضرر مادي وأدبي وهذه القواعد القانونية والأخلاقية مُستمَدَّة من شرح الإمام السيد قدس الله سره الذي يُوْلي المرأة الموحِّدة جميع حقوقها. والشيخ حليم كان في كل المناسبات، وبالنظر إلى حريّة الإيصاء عند الموحدين الدروز الصّرخة المُدَوِّية من أجل إنصاف المرأة الدرزية في تَرِكة زوجها ووالدها عند الإيصاء.

مواقفه الوطنيّة والإسلاميّة

خاض الشيخ حليم تقي الدين مُواجهات ومناقشات متعدّدة ومتنوّعة بشأن الإصلاح السياسي والنظام الطائفي والامتيازات، وكان له دور كبير في الرَّد على الآراء الفاشية ومُخطَّطات التسلُّط والهيمنة. وكانت مساهمته في وضع “الثوابت الإسلامية العشر” وفي الاحتفالات المُشتركة للطوائف الإسلامية جزءاً من عمله الجاد لتوحيد كلمة المُسلمين ونُصرة الحَق. فبتاريخ 21/9/1983 اختتم اللقاء الإسلامي الموسّع الذي عُقِد في دار الفتوى وصدر عنه بيان بثوابت الموقف الإسلامي. حضر اللقاء مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين ورئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين. والرؤساء: عادل عسيران، وصائب سلام، وسليم الحص، وحسين الحُسيني والوزير السابق سامي يونس. حذَّر البيان الذي أذاعه شمس الدين من الخطر الذي يشعر به المسلمون نتيجة السياسات والمواقف والممارسات الطائفية والفئوية ومحاولات الهيمنة الحزبية (الكتائبية) على الدولة وإداراتها ومؤسساتها، من دون أن تحزم السّلطة أمرها أو أن تُفيد محاولات النّصح والتحذير من عاقبة هذا النهج في وجودها في منطقة وغيابها في منطقة، وممارسة السلطة بأسلوب في منطقة وبأسلوب مُغاير في منطقة أخرى. وأكّد على وجوب تحقيق الذاتية الوطنية الصادقة وتعزيزها، وحدّد ثوابت الموقف الإسلامي بلبنان وطناً نهائياً بحدوده الدولية. سيِّداً، حرَّاً، مستقلاً، عربيّاً، مُنفتحاً على العالم ولجميع أبنائه، لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات ومبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. التزام النظام الاقتصادي الحرّ، والإنماء الاقتصادي والاجتماعي. إعطاء القضايا الاجتماعية حقَّها الكامل في العناية لإزالة التفاوت بين المناطق والفئات.

التمسّك بلبنان متلازم مع التمسّك بوحدة غير منقوصة، ورفض أي شكل من أشكال اللامركزية السياسية، وترحيب باللامركزية الإدارية. إلغاء الطائفية السياسية بكل وجوهها. ورفض كل ما يتعارض مع الشرعية، والإقرار بحقّ المهجرين منذ بداية أحداث 1975 بالعودة إلى مساكنهم ومناطقهم والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتأمين انسحاب القوات غير اللبنانية وفق قرار الأمن مع رفض أيّة محاولة لفرض معاهدة صلح أو تطبيق علاقات مع إسرائيل. وشَكَّل اللقاء الإسلامي الموسّع لَجنة من خالد وشمس الدين وتقي الدين لمواصلة المساعي في شأني الجبل وإقليم الخروب اللذين يبعثان على القلق الشديد.
وفي الثامن والتاسع من شهر تموز عام 1983، تواصلت الاتصالات واللقاءات لإقامة صلاة عيد الفطر في باحة الملعب البلدي في الطريق الجديدة فأعلن رئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين أنّه سيشارك في صلاة العيد، وقال في تصريح صحفي: “إنّنا نرى أن الواجب الإيماني والموضوعي، يدعونا للمشاركة في صلاة عيد الفطر المبارك إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد ونائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمّد مهدي شمس الدين وذلك تأكيداً على وحدة الصف الإسلامي سياسياً ووطنياً، وأضاف: إنّها لمناسبة كبيرة في عيد ديني كبير، أن يلتقي المسلمون إيماناً ومحبة وتسامُحاً في صلاة هذا العيد المبارك، إنني أتمنى توحيد موعد إقامة هذه الصلاة الدينية المباركة بين المذاهب الإسلامية الثلاث، السُنّة والشيعة والدروز، وأن يكون هذا التوحيد مُنطلقاً مستمرَّاً في هذا الاتّجاه الديني السليم.

الشيخ حليم تقي الدين في صلاة الجمعة في الملعب البلدي- بيروت إلى جانب سماحة مفتي الجمهورية الشهيد الشيخ حسن خالد، والرئيس سليم الحص، ورؤساء حكومات ووزراء سابقين

وفي الخامس عشر من أيلول 1983 أجرى المُفتي الشيخ حسن خالد اتصالاً هاتفياً برئيس القضاء المذهبي الدرزي الشيخ حليم تقي الدين دعاه فيه لحضور صلاة عيد الأضحى، وعلى أثر الاتصال قال الشيخ تَقي الدين: اتّصل بي مفتي الجمهورية ودعاني إلى صلاة عيد الأضحى المبارك، وقد لبيت الدّعوة بكل سرور، إيماناً مني بأن استمرار الصلاة الموحِّدة هو استمرار للموقف الإسلامي المُوَحَّد، فلقد توحدنا إيماناً وعلينا أن نتوحد فكريَّاً ووطنيّاً، وأضاف: إنّ إقليم الخرُّوب هو جزء من قضاء الشوف، كان عبر تاريخه واحداً بين مسلميه ومسيحييه. وإنّ التقاء أهالي إقليم الخروب هو التقاء السُنّة والدروز والموارنة حيث كانوا يشكِّلون عبر تاريخهم وحدة وطنية اجتماعية. وكانوا دائماً على وفاق وتعاون وهم جميعاً من بناة هذه المنطقة التي هي من أساس لبنان، وتأثيرها تأثير وطني في كيان لبنان ووحدته. ونحن نقول للقوات الغريبة من اللبنانيين ومن غير الشوف، الآتية من بيروت ومن الأشرفية وكسروان وغيرها من المناطق، أن تعود إلى قواعدها سالمة، وتترك أهالي إقليم الخروب والشوف الأصليين على تآلفهم وتعاضدهم ووحدتهم. وقال: نحن لم نكن نعرف تفريقاً، لا بين سُنَّة ولا بين شيعة وموارنة ولا بين كاثوليك وأرثوذكس في كلّ من إقليم الخروب والشوف وعاليه. حتى بدأت نغمة حماية المسيحيين، وكأن الحماية تتطلَّب هذه القوات المسلَّحة، مع أنَّ الحماية هي في الألفة والمحبة والصلات الاجتماعية التي كانت قائمة وسائدة في هذه القرى التي جُبِلَت على حب الوطن وحب الآخرين بدون تفريق بين مذهب ومذهب وكلّنا تابعون إلى أديان سماوية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فكفانا وكفى المسلَّحين المتطرفين فتنةً بعد فتنة في كل بقعة من بقاع لبنان، وفي كل قرية منه، فليعودوا سالمين إلى قواعدهم في بيروت والأشرفية وكسروان وجرود العاقورة وليدافعوا هناك عن الكرامة التي يتحدثون عنها وعن العنفوان الذي يتباهون به. إذ ليست الكرامة ولا العنفوان في الاعتداء على المناطق الدرزية والدروز، ولا على ممتلكات الدروز ومواقعهم السياسية والوطنية فيها، ولا على إقليم الخروب.
وأكد طوال الفترة التي انقضت على الاتفاق اللبناني الإسرائيلي أن البديل لاتفاق 17 أيار 1983 غير المكتوب هو اتفاق الهدنة 1949 المكتوب. وهو الذي رفض أن يُبنى الوطن على المكاسب الفئوية والامتيازات، ولم يترك مِنْبَراً إلّا وأفاد منه لطرح فكرة الحلّ الديموقراطي للأزمة من غير تشنّج أو تعصّب ذميم، ومن غير تشبث إلَّا بأرض الوطن ووحدته وهُوِّيَّتِه العربية، والتآخي بين بنيه مُصِرَّاً على ضرورة الإصلاح الجذري للنظام السياسي.

لقد عرفه القريب والبعيد في صدقه وثباته، وفي حبه للتآخي الحقيقي بين بني الوطن، في تغليبه سلاح المنطق على سلاح الغرائز.

وآخر تصريح له قبل اغتياله قال فيه: “إنَّ القنابل مهما تنوعت وكثرت فلن تثني هذا الجبل وأهله وقادته والقادة الوطنيين في كلّ لبنان، عن تحقيق الوحدة الوطنية والسيادة لحكم مسؤول وعادل على مثال الأمير فخر الدين المعني الكبير الذي يجب أن يعود من أجل لبنان الجديد، وليس على مثال الحكم الطائفي للأمير بشير الثاني… تكلَّم الشيح حليم تقيِّ الدين بصوت عال، وإلى آخر لحظة من حياته عن انتفاضة الجنوبيين البطولية معلناً أن الجنوب ينتفض ذوداً عن حقِّه المُماثل لحقِّ الجبل في أرضه وكرامته ووجوده.

وآخر الذين زاروه قبل استشهاده، مُهَجَّرو كفرمتَّى واعبَيْه والبنيَّه وبعورته، حيث خاطبهم بقوله: لا يجوز تحميل وِزْر المجزرة هناك إلى الطائفة المارونية، وإنَّما لفئة ضالَّة حاقدة… والذين لم يعرفوا رئيس القضاء المذهبي الدرزي في عمله الرّوحي وفي رعايته لشؤون أبناء الطائفة ومعاملتهم، عرفوه في حرصه على رعاية الوطن كَحَدَقة عينه، فكان قاضياً باسم الشعب كلّه، وكان محامياً عن حقوق الناس الطيّبين والمقهورين في لبنان كلّه، وكان في نشاطاته المتنوِّعة العطاء كشمعة مُنيرة وسط ظلام حالك.

وبعد هذا هو الشهيد الشيخ حليم تقي الدين، وهذه بعض من ملامح سيرته العطرة. رجل كان في مستوى المرحلة، وعبقريٌّ مُتعدّد الميزات والمواهب، راهنَ على لبنان الإنسان فاكتملت في مبادئه وبواعثه التجربة الإنسانية، توحُّداً في الجوهر وتوجُّهاً غيريَّاً، وإيماناً بالعطاء الخَيِّر مقياساً لقيمة الرجال. لم يَخُن يوماً ذاته المتوهجة بروح الحق والعدل، والزاخرة بقيم الحريّة والتّوحيد. فكان دائماً أميناً على المبادئ حريصاً على إيقاع الانسجام بين ما يقول وما يفعل… لم يترك لحظة “الميزان” الذي التزم به ولم يدع لحظة واحدة الرّاية التي حملها، راية وحدة المسلمين ووحدة اللبنانيين وشراكة التاريخ والوطن – على حدّ قوله – بين الدُّروز والموارنة في الجبل… إنَّه وإن غاب عن مسرح نضاله جسداً وطبيعة بشرية، فهو حي بمبادئه السّامية… والمبادئ لا تموت.

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان
 
السيرة الذاتية والجهادية

نقول «الذاتية والجهادية» معاً، لأن شكيباً ومنذ بواكير العمر كان قد نذر نفسه لقضايا استقلال أمته، ووحدتها، وتقدمها، فغدت سيرته الجهادية سيرته الذاتية بكل ما للكلمة من معنى.

هو شكيب، ووفق النسب الذي يقدّمه الأمير في «روض الشقيق»، «إبن الأمير حمود… إبن الأمير حسن… إبن الأمير يونس…». وتعود جذور النسب ليبلغ أيام الإسلام الأولى «إبن الأمير بركات المتوفي سنة 106 هجرية، إبن الأمير المنذر الملقب بالتنوخي المتوفي سنة 78 هجرية، إبن الأمير مسعود المتوفي سنة 45 هجرية، إبن الأمير عون، شهيد معركة إجنادين التي جرت يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأول سنة 13 هجرية». (روض الشقيق، ص 145-146 و 244). ولِد الأمير شكيب، وهو الإبن الثاني للأمير حمود بن حسن، وكما يؤكد في كتابه «سيرة ذاتية» في الخامس والعشرين من شهر كانون أول، (الموافق لأول ليلة من شهر رمضان، لسنة 1286 هجرية)، في بلدة الشويفات، وهي على مبعدة عشرة كيلومترات جنوب العاصمة اللبنانية، بيروت.

تتلمذ شكيب وأخوه نسيب في فترة مبكرة، في منزل العائلة أولاً، في الشويفات على يد الشيخ مرعي شاهين سلمان، وصيفاً في المنزل العائلي في عين عنوب على يد المربي أسعد فيصل، حيث تعلم عليهما القراءة والكتابة، ومبادئ اللغة العربية، وحفظ جانباً من القرآن الكريم. لكن الوالد سرعان ما ألحقه بعد ذلك في مدارس نظامية عدة. في المدرسة الأمريكية في حي العمروسية في الشويفات، حيث تلقن الحساب والجغرافية ومبادئ اللغة الإنجليزية. وفي سنة 1879، وكان شكيب قد بلغ العاشرة من عمره، أدخِل شكيب مدرسة الحكمة في بيروت، وكانت الحكمة يومذاك بإدارة المؤرخ والعالم واللاهوتي يوسف الدبس، وقد ضمت في فترات مختلفة أشهر معلمي العصر، من مثل الشيخ عبد الله البستاني، ثم مارون عبود، وكان للمدرسة تلك ومعلميها الأثر الكبير في تربية شكيب النحوية والأدبية والنهضوية عموماً.

صرف شكيب في «الحكمة» سبع سنوات (1879-1886) كان فيها شكيب مبرزاً، وطليعة أقرانه، ومن المصادفات أن يزور الشيخ محمد عبده، المنفي إلى بيروت بعد ثورة عرابي في مصر سنة 1882، مدرسة الحكمة، فقدّم شكيب الفتى في حضور الشيخ، الذي سيصبح بعد عودته من المنفى مفتي الديار المصرية، بوصفه مفخرة إخوانه، وكانت بداية معرفته بالشيخ عبده وانتقلت الصداقة إلى والده الذي استضافه في المنزل العائلي غير مرة وكلن شكيب يلقي أمامه بواكير قصائده، وكانت كلمة الشيخ المعروفة: «ستكون من أحسن الشعراء»، ولم يُخب الأمير توقع الشيخ عبده بالتأكيد، بدليل قول الأديب الكبير مارون عبود فيه بعد صدور ديوانه سنة 1935: «لو لم تشغله السياسة، لكان هو أمير الشعراء لا شوقي!».

في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة 1890، وكان قد توفي والده قبل ذلك بزمن قصير، استقال شكيب من منصب مدير ناحية الشويفات التي كلفه بها متصرف جبل لبنان واصا باشا، يمّم شكيب شطر مصر، صرف فيها نحواً من عام كامل، فالتقي الشيخ عبده العائد من المنفي، وشخصيات سياسية وأدبية مصرية عدة، من أبرزهم الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة «المؤيد» وأحمد زكي باشا، صاحب «الشورى» وآخرين، وحيث تأسست الخطوط الكبرى لحياته الفكرية والجهادية اللاحقة.

أواخر سنة 1890، سافر شكيب إلى فرنسا. ثم توجّه من فرنسا مطلع سنة 1892 إلى الأستانة، حيث التقى الداعية والمصلح العظيم جمال الدين الأفغاني، ولزمه فترة طويلة من الزمن وذلك قبل خمس سنوات من موت الأفغاني سنة 1897. عاد شكيب إلى بيروت أواخر سنة 1892، بعد سنتين من الترحال والاستشفاء والتعرّف إلى أحوال الشرق ومقارنتها بأحوال أوروبا. عيّن سنة 1908 قائمقاماً للشوف، فسلك المسلك الذي يرضي قناعاته لا العثمانيين، ما أدى إلى مواجهة المتصرفين العثمانيين الغارقين في فسادهم، وليستقيل من المنصب بعد أقل من سنتين. أختير في مجلس «المبعوثان» في الاستانة بعد إصلاحات سنة 1908 نائباً عن «حوران»، فكان مدافعاً نشطاً عن مطالب بلاده، آخذاً عليهم موجة التتريك المتصاعدة وتخليهم عن اللغة العربية لغة رسمية، ولكن من دون أن ينجر إلى الحملة الغربية المعادية للعثمانيين.

في سنة 1911، وفي إثر الغزو الإيطالي لليبيا، يقول الأمير في سيرته الشخصية: «لما شنّت إيطاليا غارتها على طرابلس الغرب، كنت في عين صوفر، وأخذت أكاتب أصحابي بمصر ومنهم الشيخ علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، في إعانة السنوسية بالأموال من أجل المقاومة». لكن شكيب لم يكتف بالإدانة اللفظية، بل سعى إلى جمع عشرات المتطوعين من جبل لبنان، إن لم يكن أكثر، وسار بهم قاصداً الأراضي الليبية ليشارك في رد الغزوة الإيطالية، فبلغ ليبيا بعد صعوبات تسبب بها الإنجليز، وقضى فترة هناك مع قادة عثمانيين كبار من مثل مصطفى كمال وأنور باشا ونوري باشا، وقادة مصريين من مثل عزيز المصري الذائع الصيت. وحين سألته جريدة بمصر عن السبب الذي جاء به إلى ليبيا، كان جوابه الذي غدا مثلاً: «إن لم نقدر أن نحفظ صحارى طرابلس الغرب، لم نقدر أن نحفظ جنان الشام.»

“لقد مات الذي ليس فوقه فوق من رجالات العرب……” (الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، من حفل تأبين شكيب في يافا سنة 1947)

استغل الأمير شكيب حظوته لدى القادة العسكريين العثمانيين الذين دخلوا لبنان مطلع الحرب العالمية الأولى في طريقهم للدفاع عن قناة السويس في وجه الإنجليز، لإنقاذ الكثير من القادة اللبنانيين من بطش جمال باشاً، وبينها نجاحه في منع جمال باشا من دخول البطريركية المارونية في بكركي. لم يسلم الأمير نفسه من كيد جمال باشا، لكن الأخير كان عاجزاً عن النيل منه نظراً لموقعه في الاستانة، فقال (جمال): «حاولت أن أطوّق رقبة شكيب بحبال المشنقة، فم أجد منها ما يحيط بعنقه.» وحين اتهمه «جوفنيل»، المفوض السامي الفرنسي بعد ذلك، أنه قاد متطوعة لبنانيين للقتال تحت أمرة جمال باشا، جاء رد شكيب في «اللومانيتيه» الفرنسية حاداً ومفحماً، قال: « … أما قوله أنني كنت على رأس المتطوعين اللبنانيين لمقاومة الدول التي اقتسمت بلادنا سراً فيما بينها، فهذا ما افتخر به ولست بنادم عليه، ولكن وجودي تحت أمرة جمال باشا، وهو قائد الفيلق الرابع، فلا يوجب أن أكون من أخصائه.»

أحمد جمال باشا (1873 – 1922)

بعدما استتب الأمر لفرنسا في لبنان وسوريا سنتي 1918-1919، اختار شكيب النفي الطوعي، فغادر إلى أضنة سنة 1919، ومنها إلى برلين، التي كانت قد خرجت مهزومة ومنهكة من الحرب العالمية الثانية، فأقام فيها حتى سنة 1925. في سنة 1922، اجتمع في القاهرة عدد من قادة العمل الوطني في سوريا وفلسطين، واختار المؤتمر بوضوح مطلب الاستقلال الوطني الكامل. ومن جملة قراراتهم تشكيل وفد يعرض مطلب الاستقلال أمام عصبة الأمم. لم يشترك شكيب في المؤتمر، إذ كان في منفاه وكان ممنوعاً عليه دخول مصر (وسائر البلدان المحتلة من إنجلترا وفرنسا) لكن المؤتمرين كلفوه وآخرين بتولي المهمة تلك، وأرسلوا إليه في برلين قرار تكليفه سكرتيراً أول للوفد، بل طلبوا إليه تأليف الوفد.

وفي أعقاب انتفاضة جبل العرب سنة 1925 ضد الاستعمار الفرنسي، ترك شكيب برلين إلى جنيف ليكون أقرب إلى مقر عصبة الأمم وأعمالها وليتمكن من الدفاع عن الحركات الاستقلالية العربية، في المشرق والمغرب، أمام عصبة الأمم (وكان يحمل تواقيع أربعين جمعية استقلالية عربية ليمثلها أمام عصبة الأمم).

في 14 شباط سنة 1926، سافر شكيب إلى روما مترئساً الوفد السوري أمام «لجنة الانتداب» التي نجح شكيب في جعلها تجتمع في روما التي لم تكن على وفاق مع فرنسا وإنجلترا، وقد نشر بياناً صحافياً مؤثراً حول همجية الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي لاقى صدى واسعاً. وبسبب من خبرته السياسية الواسعة، وصفاء غاياته، نبّه الشريف حسين وأولاده من بعده أن لا يأخذوا الوعود البريطانية التي أغدقت له على محمل الجد، بل اعتبرها مجرد إسفين تدقه بريطانيا لشق العالم الإسلامي، وستتخلى عنه لاحقاً وهذا ما حدث فعلاً. ويقول الدكتور سامي الدهّان المحاضر في معهد جامعة الدول العربية للدراسات: «وقد عرف الملك فيصل إخلاص شكيب للقضية العربية وآمن بخدمته لها وسعيه في سبيلها…لذلك كان فيصل يعرف منه ما كان الناس يجهلون، ويقدره حق قدره، ويبادله الود والتحية.» وبعدما أزيح فيصل عن عرش العراق أرسل لشكيب رسالة تظهر تقدير فيصل وثقته العالية بشكيب وتحليله للأمور، ويختمها بالقول: «أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية.»

ومن باب تقدير شكيب لأهمية الرأي العام الأوروبي، وضرورته إعلامه بالحقائق التي لا يعرفها، أسس سنة 1930 من منفاه في جنيف مجلة La Nation Arabe «الأمة العربية»، كان يدفع تكاليفها من جيبه ومن خلال بيعه أراض له في لبنان، وغدت منبراً لكل الاستقلاليين العرب في المشرق والمغرب وكتب فيها أهم الاستقلاليين الذين سيصبحون لاحقاً قادة البلدان العربية المستقلة.بعد اندلاع النزاع الحدودي السعودي – اليمني، تشكل وفد عربي إسلامي ذهب إلى البلدين، وكان شكيب في طليعة الوفد، وقد تكللت مساعيه بوقف الحرب تلك والتحول إلى المباحثات المباشرة السلمية والأخوية. بنتيجة جهوده، ولسمعته التي كانت طبقت الآفاق، عرض عليه الملك عبد العزيز أي منصب وزاري أو سفارة يختارها، يقول رشيد رضا مؤسس المنار: «وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغب إاليه أن يبقى لديه في الحجاز دائماً أو ما شاء وطابت له الإقامة ليقوم ما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء الإصلاح في حكومته فاعتذر… على أن يخدم القضية العربية بما شاء جلالته… إلا في الوظائف الرسمية.» كما يقول د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء أن شكيباً كان أول من حدّث إمام اليمن بضرورة التحديث وخروج اليمن من ظروف القرون الوسطى، بل جاء صنعاء ببضعة شبان لبنانيين (منهم نجيب أبو عزالدين) ليكونوا طليعة مشروع التحديث ذاك.

“أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية”. (الملك فيصل الأول)

بعد توقيع معاهدة 1936 بين الكتلة الوطنية السورية والانتداب الفرنسي، سمح له الفرنسيون بعودة قصيرة إلى سوريا، ليلقى والدته أولاً، وليتسلم رئاسة المجمع العربي العلمي بدمشق ثانياً، وليلقي محاضرات عدة في غير مدينة سورية حول مستلزمات النهضة واللحاق بالعالم المتقدم. لكن المقام لم يطل بشكيب في وطنه، إذا سرعان ما غدرت فرنسا بالوطنيين السوريين وألغت المعاهدة، فعاد شكيب إلى مناصبة الاحتلال الفرنسي كما الإنجليزي العداء الشديد. كان شكيب، ولموقفه المتصلبة ضد الاستعمارين الفرنسي والانجليزي، مطارداً من السلطات المحتلة، وكانت زياراته النادرة لدمشق والإسكندرية وطنجة، التي أخرجه الفرنسيون منها بالقوة، موضوع ملاحقة لصيقة من شرطة المحتل، وصودرت كتبه، بل كان في غير مرة موضع مؤامرات تدبّر في ليل لتنال من سمعته وسمعة مريديه وأصدقائه.

ولم يفت الصهاينة أن يلتحقوا بالفرنسيين والإنجليز في محاولة النيل من سمعة شكيب، إذ كانت صداقته ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وغيره من رجالات المقاومة الفلسطينية للمشاريع الصهيونية في فلسطين مصدر إزعاج دائم للسلطات البريطانية كمل للدوائر الصهيونية، ويشهد وايزمن في نص له بأن شكيباً كان أكثر العرب تصلباً في رفضه للمخططات الصهيونية في فلسطين.

تحققت أمنية شكيب بالعودة إلى أرض الأباء والأجداد وقد غدت مستقلة من كل احتلال أجنبي، فكانت عودته إلى مرفأ بيروت في الثلاثين من نوفمبر سنة 1946. كان شكيب قد بلغ السابعة والسبعين، وقد نال المرض منه كل منال، بفعل سنوات المنفى الطويل وأيام وليالي عمله الذي لم ينقطع في كل مجال، فلم يطل به المقام في بيروت حتى اشتد مرضه. وينقل عبد الله المشنوق عنه قوله وقبل أيام من رحيله: «إني مرض وأشعر بدنو الأجل، وأنا أحمد الله عز وجل الذي سهل لي أن أفارق الحياة على أرض هذا الوطن بعد أن أتم الله نعمته عليه فشهدته سيداً عزيزاً مستقلاً…».

أسلم شكيب الروح ولفظ أنفاسه الأخيرة في منزل عبد الله المشنوق ليلة الإثنين في التاسع من كانون الأول 1946، أي بعد أقل من أربعين يوماً من عودته من منفاه الطوعي. وكان آخر ما كتب قبيل وفاته، قصاصة ورق سلمها لعبد الله المشنوق والحاضرين وفيها: «أوصيكم بفلسطين». انطفأت بموت شكيب شموع سنواته السبع والسبعين، لكنها كانت قد حفرت عميقاً في الوجدان اللبناني، والعربي، والإسلامي. كان الأمير شكيب أرسلان شخصية طبّقت شهرتها الآفاق، وقويت بالتالي على صنوف النسيان عبر الزمن، ويستحق تراثه الذي نحتفي به أن يكون نبراساً لنا في هذا الزمن أيضاً.


السيرة العلمية والأدبية

 بدأ الأمير حياته شاعراً مجيداً وكان لم يبلغ السابعة عشرة من عمره، وبواكير شعره التي نشرت كاملة في مرحلة لاحقة تشير كما قال دارسو شعره أنها كانت عفو الخاطر، عن طبع ويسر لا عن اصطناع وتكلف. وهو ما جعل الناقد والأديب الكبير مارون عبود يقول فيه، «لو لم تشغله السياسة لكان هو أمير الشعراء لا شوقي».

استمر شكيب يقرض الشعر، ولكن على انقطاع، إذ أخذته مشاغل المهام العلمية والجهادية التي تصدى لها بعيداً عن الشعر. فقيل وبحق، بدأ شاعراً وانتهى ناثراً مترسلاً. تحول شكيب من الشعرإلى النثر لأنه لم يكن بوسع الشعر أن يقوم بالمهام الدقيقة الجسام التي كتب على شكيب أن يقوم بها، من إدارة إلى سفارة إلى وساطة إلى صحافة إلى تمثيل الجمعيات العربية الاستقلالية في جنيف وأوروبا إلى المحاضرات والخطب الدقيقة التي كان عليه أن يملأ بها فراغاً في الحركة العربية الوطنية مطلع القرن العشرين وصولاً إلى مرحلة مجلته «الأمة العربية» التي أصدرها في جنيف ثم نقلها لسنة واحدة إلى فيينا، بعدما ضاق الحلفاء ذرعاً بهجوم المجلة على سياساتهم في البلدان العربية المشرقية والمغربية، فضغطوا على حكومة سويسرا المحايدة آنذاك التي طلبت بدورها من شكيب إما توقف المجلة أو مغادرتها سويسرا وهكذا كان.

كذلك ابتعد شكيب أكثر عن الشعر نحو أنواع أدبية أخرى، من مثل المقالة، والخطابة، والرواية، والترجمة، وكانت كلها موقوفة للأغراض الوطنية أو السياسية أو الأخلاقية التي التزم شكيب بها طوال عمره. لكن الأنواع الأدبية تلك كانت مرآة أظهرت باعه الطويل في الفنون البيانية والبلاغية والتعبيرية بعامة، والتي ندر أن جاراه فيها معاصر، وكان أثر تتلمذه في «الحكمة» لكبار معلمي العربية في عصره بادياً بوضوح، إضافة إل تنقيبه في كنوز العربية، إلى ما حباه الله من مهارات وملكات جعلت اللغة والبيان طوع مشيئته، يجبل منهما خطابه فتأتي أفكاره على أعمق نحو وأدقه، وفي أعلى الصور البليغة المؤثرة. والباب الثالث والأخير، هو الجانب العلمي الدقيق في شخصيته والذي بدا جلياً في أعماله.

مارون عبود (1886-1962): كاتب وأديب لبناني كبير

رغم الجانب الأدبي المجلّي الذي لحظه كل متتبع لسيرة الأمير شكيب منذ بواكيرها (كما فعل الشيخ محمد عبده حين استمع إلى قصائده)، والذي عاد فلحظه كل قارئ لأعمال شكيب الفنية النثرية اللاحقة، لكن الأمير أظهر في السنوات اللاحقة روحاً علمية لها خصائص الروح العلمية الموضوعية والعقل العلمي البارد اللذين يتمتع بها العلماء المتخصصون في العادة. وتمثلت علمية الأمير شكيب في الأبواب التي طرقها:

1- التحديد الدقيق لموضوع البحث أو التحليل أو المراجعة،

2- منهجية المقاربة وموضوعيتها،

3- سعة الاسناد والمصادر والمراجع،

4- استعراض ما قيل في المسألة سابقاً،

5- الركون إلى الحجة والدليل القويين لا غير،

6- القدرة على المناقشة والجدل وتبادل الأراء والأفكار واحترام الرأي الآخر،

7- قبول النقد واحتمال الخطأ،

8- وبعد ذلك الدقة في العبارة العلمية التي يصوغ بها خلاصاته ونتائجه.

تلك هي متطلبات أي بحث علمي دقيق موثوق بنتائجه، كائناً ما كان موضوعه أو مادته، وقد أبدع شكيب في بحوثه العلمية أيما إبداع، فغدت أعماله مراجع لبحاثة آخرين في البلاد العربية كافة؛ وهو ما أهّله ليرشحه البعض لرئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق وليفوز بالرئاسة، وهو مجمع علمي ضم خيرة بحّاثة العربية الموجودين في بلاد الشام يومذاك.

أما المجالات العلمية الدقيقة التي ترك الأمير شكيب آثاراً فيها مكتوبة وعالية المستوى وباتت مرجعاً للبحاثة كما للقراء، فهي مجالات متعددة، وأهمها: علوم اللغة العربية على أنواعها المختلفة من نحو وبيان وبلاغة وما إلى ذلك، علوم الفقه، علم التاريخ، تحقيق المخطوطات القديمة، الترجمة، علم الأصول والأنساب القبلية، الزوايا والتكايا في البلاد المغربية؛ ناهيك بمهنة الكتابة الصحافية التي مارسها حتى التخمة وفي أهم المجلات والجرائد من مثل «المؤيد»، «الشورى»، «الأهرام»، «الفتح»، «المنار»، وسواها في مشرق الوطن العربي ومغربه، إضافة إلى تحرير مجلته التي واضبت على الصدور منذ سنة 1930 وحتى سنة 1944، أي حين أخرج من جنيف وبدأت صحته بالتهور، عدا المشاكل المالية المتفاقمة. وسيظهر ثبت مؤلفات الأمير شكيب مقدار ما كتب وأنجز ونشر في المجالات تلك كافة. وفي وسع المرء أن يتخيّل الجهد الشخصي، العقلي واليدوي، الذي كان يبذله شكيب في تأليف وتحرير وكتابة مئات المقالات والمحاضرات، مع كاتب مساعد حيناً ومن دون كاتب يساعده أحياناً أخرى. ويروي الذين رافقوا شكيب في حله وترحاله أنهم كانوا لا يفارقونه مساء إلا وهو يكتب، ولا يأتونه صباحاً إلا وقلمه وأوراقه أمامه على طاولته يدبج مقالة أو نصاً.

أضف إلى الفنون تلك، إصرار الأمير على الرد الشخصي على كل كتاب أو مراسلة تأتيه، من علية القوم أم من عموم الناس. وهو ما جعل رسائله، وبخط يده في الغالب، تزيّن كل بيت في لبنان تقريباً كما في الكثير من بقاع العالم العربي. وبحسب الناقد الكبير جبور عبد النور، فلو جمعت رسائل شكيب لبلغ وزنها طنّاً من الورق! هي ذي بعض ملامح شخصية الأمير شكيب أرسلان الأدبية والعلمية المنقطعة النظير.

“كان والدي من أشد محبّي المِير شأن أبناء جيلِه ممّن فتحوا أعينهم وعقولهم على كتاباته، بوصفه واحداً من الروّاد العظام.” (د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء في اليمن)


خاتمة

لو أردنا سرد كلّ ما قيل في الأمير شكيب أرسلان، لاحتاج الأمر إلى مجلّد كبير مستقل، لذلك نكتفي بعينات من مشرق العرب ومغربهم:

هذا الـــــــذي رفـــــــــع اليـــــــراع منــــــــارة غمــــــــرت سمــــــــــاء الشـــــمــــــس بالأنـــــــوار
لــــــــــــو دان أحــــــــــرار البــــــــلاد لــــــسيّد نــــــــــاديتــــــــــه يـــــــــــا ســــــــيّد الأحـــــــــرار

بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير)

 

«بوركت أرض الإسلام التي أنجبتك يا شكيب» المصلح السيد جمال الدين الأفغاني

 

«أمير العروبة الكبير، وطنه الصغير بلاد الشام، ووطنه الأكبر بلاد العرب قاطبة» السيد عبدالله بن علوي الجعفري

 

هذا نزر يسير من الكثير الكثير الذي قيل في ما صنعه وأنجزه وتركه من آثار باهرة وأعمال جسام، أمير البيان، شيخ العروبة والإسلام، المفكر والمجاهد: الأمير شكيب أرسلان.


المؤلفات المنشورة وغير المنشورة [su_list icon_color=”#c5143f”]

 

  • بواكير شعر الأمير شكيب أرسلان
  • المختار من رسائل أبي إسحق الصابي
  • الدرر اليتيمة لإبن المقفع، تحقيق الأمير شكيب
  • آخر بني سراج، رواية شاتوبريان، ترجمة الأمير شكيب
  • روض الشقيق، ديوان أخيه نسيب، تحقيق الأمير شكيب
  • حاضر العالم الإسلامي، جزءان، تعليقات وحواشي من الأمير بلغت ضعفي الأصل
  • أناتول فرانس في مباذله، لبروسون، ترجمة الأمير شكيب
  • مقدمة الأمير شكيب لكتاب «النقد التحليلي» لمحمد أحمد الغمراوي وقد بلغت 56 صفحة
  • الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف،
  • محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي، تحقيق الأمير شكيب
  • ديوان الأمير شكيب أرسلان، حققه السيد محمد رشيد رضا
  • الحلل السندسية في الأخبار والأثار الأندلسية، في ثلاثة أجزاء
  • شوقي أو صداقة أربعين عاماً
  • السيّد رشيد رضا، أو إخاء أربعين عاماً
  • تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
  • تعليقات على إبن خلدون
  • النهضة العربية في العصر الحديث
  • لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم
  • مجلة الأمة العربية
  • عروة الاتحاد بين اهل الجهاد
  • رسالة البلاشفة او رحلة روسيا
  • رسالة رحلة المانيا
  • رسالة عن ضرب الفرنسيين لدمشق
  • المسألة السورية
  • مقالات أخرى منشورة في كثير من صحافة زمنه الأدبية والسياسية
مخطوطات لم تنشر حتى الآن [su_list icon_color=”#c5143f”]
  • بيوتات العرب في لبنان
  • البيان عما شهدت بالعيان
  • تاريخ بلاد الجزائر
  • ما لم يرد في متون اللغة
  • حياة شكيب (بقلمه)
  • حث في طرابلس وبرقة
  • الحلة السنية في الرحلة البوسنية
  • اختلاف العلم والدين (ترجمة)
  • مدنية العرب
  • الجيش المعبا من تاريخ أوروبا
  • قضيتنا مع سمو الخديوي
  • تاريخ لبنان
  • إصلاح العامية
  • التعريف بمناقب سيدي أحمد الشريف السنوسي
  • رسائل الأمير التي لم ينشر كثير منها حتى الآن

بين الرئيس الراحل بورقيبةَ والأمير شكيب أرسلان

بين الرئيس الراحل بورقيبةَ والأمير شكيب أرسلان
جهاد مشتركٌ في سبيل إسلامٍ مُستنير
يجهلُ كثير من التونسييّن، والعرب لا يختلفون كثيراً عنهم، صلات الصداقة الوثيقة التي شدّت الزّعيم الرئيس الحبيب بورقيبة رحمه الله، بالعديد من المفكّرين والسياسييّن والإعلامييّن المشارِقة، والتي تكونت سواء في فترة إقامة المجاهد الأكبر في القاهرة، التي قدم إليها عبر ليبيا سنة 1945، فارًّا من اتّهامات فرنسية بالتّعامل مع المِحور، أو من خلال مؤسّسات الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار، التي أقامها الوطنيّون المغاربة والعرب في عدد من الدول الأوربية.
وقد حرص الزعيم بورقيبة على الوفاء لهذه العلاقات، حتى بعد تولّيه مهام رئاسة الدولة وتكاثر التزاماته وانشغالاته، إذ حرص على تكريم كثير من أصدقاء الأمس وشركاء الجهاد الأصغر، ممّن بقَوا على قيد الحياة، كما فعل على سبيل المثال مع الصحفي الفلسطيني المصري محمّد على الطاهر، وكنيته أبو الحسن الطاهر (1896-1974)، الذي كان أوّل من استقبل المجاهد الأكبر في المحروسة وبذل معه جهوداً في التعريف به لدى قادتها ونُخَبها و سائر الوافدين إليها طلباً للعَون والنّصرة، وكان ردّ الجميل بتقليده أرفع الأوسمة التونسية، واستغلال كلّ فرصة متاحة لاستقباله في القصر الجمهوري أو زيارته في بيته المتواضع، وتسمية أحد شوارع العاصمة التونسية باسمه.
الحبيب بو رقيبة (3 آب 1903 – 6 نيسان 2000)، الأب المؤسس وأول رئيس للجمهورية التونسية
ولمحمد علي الطاهر، الذي كان يقال في وصفه أنّ الشمس لا تغرب عن شيئين، الإمبراطورية البريطانية والجريدة التي يصدرها أبو الحسن، كتاب نادر لم يُعَد طبعه إلى حد الآن مرة ثانية، ضمّنه رسائل الزّعيم بورقيبة إليه خلال فترة الكفاح الوطني، رسائل تفيض بالمشاعر الإنسانية النبيلة، فضلاً عمّا تحتويه من توضيحات للمرجعية الفكرية والسياسية التي يستند إليها المجاهد الأكبر في حركته، وهي مرجعية مشتقّة بلا ريب من أدبيّات حركة الإصلاح العربية الإسلامية التي نهضت على أيدي الطهطاوي ومحمّد عبده وخير الدين التونسي و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وخلافاً لما يعتقد البعض في تونس وخارجها، من أنّ فترة إقامة بورقيبة المشرقية، كانت في خلاصتها سلبية، وأنها خلّفت في نفسه مرارة و موقفا معادياً للمشرق، فإن دراسة متأنيّة لوثائق ومصادر تلك الحقبة التاريخيّة، تثبت خلاف ذلك تماماً، بل لعلَّ العَتَب والتشويش الذي حصل في علاقة المجاهد الأكبر بالبلدان المشرقية، مرجعه الأزمة الناشبة بين الرؤيتين البورقيبيّة والناصريّة خلال الستينيّات، بعد خطاب أريحا الصريح، ولربما كانت لبعض المؤامرات الداخلية التي استهدفت الزعامة البورقيبية بتشجيع من بعض ساسة المشرق دور في توسيع الفجوة.

لقد كانت زعامة بورقيبة في القاهرة بَيِّنة، وقد قام بالعديد من المَهام الناجحة في التعريف بالقضيّة التونسية، وساهم في تأسيس مكتب المغرب العربي بمشاركة عدد من زعماء الحركة الوطنية المغربية والجزائرية، وعلى رأسهم الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، كما كان أيضا محل إعجاب وتقدير لدى كثير ممّن عرفه عن قرب كما هو شأن محمّد علي الطاهر الذي قال إنه من أوائل من لحظ شخصيّة بورقيبة الفريدة ونظرته الثاقبة، فقد كان المجاهد الأكبر موسوعيّ الثقافة، نقديّ الرؤية، لمّاحاً وواثقاً من نفسه وقضيّته، مُتقنا للغتين العربية والفرنسية على حد سواء، ومستوعباً لنقاط القوّة والضّعف في الحضارتين الإسلامية والغربية.

غير أنّ أكثر الشخصيات المشرقية حظوة وتأثيرا لدى الزعيم الرئيس بورقيبة، كان المفكر والسياسي اللبناني الدرزي الكبير الأمير شكيب أرسلان، الذي كان أوّل من أولى عناية استثنائية للقضايا المغاربيّة، و قيل أنّه لعب دوراً رئيسيًّا من خلال علاقاته الوطيدة بقادة العمل الوطني المغاربي، في حسم إشكالية الهوّية التي أثارها المرسوم الاستعماري المُكَنَّى «الظهير البربري» (1930)، لصالح اعتبار الشمال الأفريقي مغربا للأمة العربية الإسلامية.

لقد التزم (بو رقيبة) سياسة آمنت بدور الدّين لصالح العملية التنمويّة.

ويعود أوّل لقاء للزعيم بورقيبة بالأمير شكيب أرسلان لسنة 1937، وكان ذلك على هامش مؤتمر لجمعية الطلبة المسلمين لشمال أفريقيا، التي كانت بمثابة الجناح الطلابي للحركة الوطنية المغاربية. وقد انعقد اللقاء بعد ثلاث سنوات فقط من تأسيس المجاهد الأكبر للحزب الحرّ الدستوري (الذي سيحتفل البورقيبيون بالذكرى الخامسة والسبعين له يوم 2 مارس القادم)، وجاء بمثابة اعتراف من أمير البيان وداعية العروبة والإسلام، بالحزب الجديد ممثّلا أساسيًّا للحركة الوطنيّة التونسية.

وبحسب المؤرّخ الأوربي «وليام كليفلند» صاحب كتاب « إسلام ضد الغرب، شكيب أرسلان ودعوته للقومية الإسلامية»، فإنّ إعجاب الزعيم بورقيبة بأفكار الأمير الإصلاحية كان كبيراً، كما أنّ الصلة التي قامت بينهما، وتخصيص المجاهد الأكبر عدداً كاملا من صحيفة العمل لسان حال الحزب الحرّ الدستوري، الصادر بعد لقاء باريس الآنف، كانت خير سند للدستوريين الجدُد في مواجهتهم السياسية والفكرية الحاسمة مع الدستوريين القدامى، وقد عاد زعيمهم الشيخ الثعالبي في حينها إلى البلاد بعد ما يقارب الأربعة عقود من المنفى.

ويشير المؤرّخون إلى أن الأمير شكيب أرسلان، الذي اشتُهر بعلاقات متميّزة مع قادة الرايخ الألماني و حلفائه الإيطاليين، قد تدخّل لدى قيادة المحور من أجل إطلاق قادة الحزب الحر الدستوري الجديد، وقد تحقق له ذلك أواخر سنة 1943، تماماً كما طلب منه الزعيم بورقيبة من أجل إقناع المحور باستصدار وعد لمنح تونس الاستقلال بعد انتهاء الحرب، من أجل كسب ثقة التونسيين، ونجح الأمير مرة أخرى في تحقيق الطلب، غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت خلافاً لما ظهر في بدايتها، ولم يكن من بديل إلّا الصبر عقداً آخر من الكفاح حتى تتحقّق الرؤية.

إلّا أنّ أبلغ ملمح لتأثير الأمير شكيب أرسلان في شخصية الزعيم بورقيبة، كَمن بلا شك في النظرة للإسلام وتأويل نصوصه بما يتفق مع مصالح المسلمين ومتطلبات الحداثة، فقد التزم المجاهد الأكبر بعد نيل تونس الاستقلال وتسلّمه مقاليد الحكم، سياسة متميزة، آمنت بدور داعم يلعبه الدين لصالح العمليّة التنمويّة، وهي سياسة جعلت البورقيبيّة مختلفة عن الأتاتوركيّة التي عملت على إلغاء أي دور للدين، رغم التقائهما في الإيمان بضرورة التحديث، كما جعلها مختلفة عن السلفيّة، رغم انطلاق كليهما من النَّصّ المقدس. وقد نُقِلَ عن الزعيم بورقيبة قوله « أنه نجح في تشريع كل ما تقتضيه الحداثة، إلا مسألة المساواة في الإرث، لأنّه لم يجد مخرجاً لتأويل النّص الخاص به». وما يجدر ذكره هو أن المجاهد الأكبر لم يخطُ خطوةً تحديثية واحدة دون سند من الشريعة وتأويل للنص، بما في ذلك توصيفه لمرحلتي الكفاح ضد المستعمر والاستقلال بالجهادين الأصغر والأكبر، وإفطاره جهراً في رمضان عندما استشار العلماء فأجازوا له ذلك أسوة بالرسول (ص) الذي ثبت أنّه أفطر جهرا سنة الفتح وأمرَ أصحابه بأن يفعلوا. و البيِّنُ أنَّ شكيب أرسلان، ولم يكن في هذا الأمر شاذًّا عن بقية رواد الإصلاح، قد غذّى النزعة التأويليّة وعمّقها في نفس الزّعيم الشاب آنذاك، فقد كان الأمير المُنحدر من بيئة درزيّة يرى غالبية المسلمين أنّها خارجة عن المألوف والملّة، رمزاً للفهم العميق لجوهر الدين، ومثالاً لقدرة مجدِّد ديني ومفكِّر إصلاحيّ على تجاوز كلّ دوائر الحصار الفكري والعقدي المضروبة منذ قرون على بني قومه.

إنَّ هذا التوجه الواقعي والعملي المُلتزم بالنتائج، لا المتعصب للشعارات، في التعامل مع الإسلام، هو الجامع بين الأمير شكيب أرسلان والزعيم الحبيب بورقيبة، غير أنَّ وفاة الأول دون ممارسة للسلطة وتصدّي الثاني لمهام الحكم، جعل صورة كلّ منهما لدى العامة وبعض الخاصة، تبدو وكأنها متباعدة أو متناقضة، بل لعلّ حركات الإسلام السياسي المُهيمنة على الشارع حاليًّا، قد سعت جاهدة إلى أن تضم تراث الأمير إلى أعمالها، أو تجعل من نفسها امتداداً له، في حين ناصبت المجاهدَ الأكبر أشد العداء واشتغلت آلتها الإعلامية جاهدة لتشويه صورته الناصعة. والحاجة اليوم أكيدة، لاستئناف معركة التأويل، تلك التي آمن بها أرسلان وبورقيبة وبذلا عمراً في إدارتها والعمل على الظفر بها وآمنا بضرورة خوضها حتى لا يُترَك الدين الحنيف ونصوصه لأولئك الذين يريدون أن يشتروا به ثمناً قليلاً أو يعملون على أن يكون وسيلة لتعميق مشاعر الكراهية وأفكار الانغلاق والرّفض والظّلام ونشر الرّعب والموت والدمار والأزمات في كل مكان حلُّوا به. فلنقرأ من جديد إذاً السّيرة البورقيبية والأرسلانيّة ولنأخذ منهما عبقرية التأويل.

President Bourguiba and Prince Chakib Arslan

Majority of the Tunisians are unaware, similarly bulk of Arab citizens, of the deep friendships that linked Tunisia’s leader and first president Habib Bourguiba to plenty of educated elite, politicians, and journalists in the Levant region. Bourguiba established these relations during his residency in Egypt that he reached in 1945 through Libya. He escaped the French authority which accused him of collaborating with the Axis Powers. The leader also got introduced to national anti-colonialism institutions established by Levant and Maghreb Arab nationals in several European countries.

Bourguiba showed loyalty to the mentioned friendships, even after he resumed Tunisian presidency accompanied by related commitments and duties. He wisely honored plenty of his alive friends and anti-colonialism partners. This can be clearly realized with the Palestinian-Egyptian journalist ‘Mohamed Ali El Taher’ well-known by his traditional Arab nickname ‘Abou El Hassan’ (1896-1974). El Taher was the first figure to welcome the Ultimate Mojahed (Bourguiba) in Cairo and exerted substantial efforts to introduce him to Egyptian leaders, elite, and residents seeking support for their national crises. Bourguiba, in return, honored and awarded Abou El Hassan with premier Tunisian medals, welcomed him in the presidential palace, and visited him in his humble residence. The President has also named a Tunisian street in the honor of Abou El Hassan.

Mohamed Ali El Taher’s newspaper was compared to the British Empire in a way that the sun never sets on his newspaper. He has written a matchless book -never been republished- and included Bourguiba’s letters during the period of his national struggle. The letters exhibit the leader’s noble and humanitarian affections, besides clarifying the political and intellectual references that his movement relied on. This reference is definitely derived from the works of Arabic and Islamic reform movements initiated by (Rifa’a) El-Tahtawi, Moḥamed Abduh, and Kheyr El Deen El Tunisi.

Some, being Tunisians and other nationals, negatively perceive Bourguiba’s residency in the Levant. They wrongly consider that this residency caused him a bitter attitude and a hostile outlook against the Levant. While in reality, a watchful interpretation of the documents and resources of that historic period proves the contrary. Probably, the different perceptions of Bourguiba and Abdul Nasser during the sixties emerged the mentioned blame and confusion between the leader and Levant countries, besides Bourguiba’s speech in Jericho. In addition, certain internal conspiracies in Tunisia that targeted Bourguiba’s leadership that were encouraged by some Levant politicians, had an undesirable impact on the relationship between Bourguiba and Arab leaders.

Bourguiba’s leadership in Cairo was obvious. His attempts successfully introduced the Tunisian issue to Levant figures. In participation with Arab and Maghrab leaders, Bourguiba contributed to initiate an office for the Arab Maghreb countries, specifically Prince Mohamed Bin Abdul Kareem El Khattabi. The leader has been appreciated and recognized by those who directly contacted him, such as Mohamed Ali El Taher, who was a pioneer to recognize Bourguiba’s unique personality and precise insight. Bourguiba was an encyclopedic intellectual, critic visionary, extremely confident in himself and his issue, mastered Arabic and French languages, and clearly recognized the strength and weakness points in the Islamic and Western cultures.

The most distinguished and influencing figure in the Levant to Bourguiba was the Lebanese Druze Islamic intellectual and politician Prince Chakib Arslan. The Prince was the first figure from the Levant region to exhibit exceptional care to Maghreb countries issues. It is said that he has played a major role through his firm relationships with Maghreb national leaders to determine the identity issue triggered by the colonial decree ‘El Thaheer El Barbari’ (1930), and to consider North African countries as the Maghreb area of Islamic and Arabic nation.

Bourguiba adhered to a policy that believed in religion’s role to enhance modernity process

The first meeting between Bourguiba and Prince Chakib Arslan took place in 1937, marginally during the conference of North African Muslim students’ association. The association was considered an equivalent to the scholar wing of the Maghreb national movement. The meeting took place after three years of Bourguiba establishing the ‘Constitutional Liberal Party’ (where Bourguiba’s followers will celebrate its 75th anniversary this March). The meeting showed that ‘Amir El Bayan’ and the Arabic and Islamic campaigner recognized the new Tunisian party as the main representative of the Tunisian national movement. According to William L. Cleveland, a European Historian and author of “Islam against the West: Chakib Arslan and the Campaign for Islamic Nationalism”, Bourguiba highly appreciated the Prince’s reform thoughts. A strong link tied the two figures where Bourguiba allocated a full issue of his party’s newspaper ‘L’Action Tunisienne” after the mentioned Parisian meeting. The link was an unsurpassed support from the Prince to the neo-constituents in their political and intellectual confrontation with the early constituents, especially after the return of the latter’s leader ‘Sheikh Thaalbi’ to Tunis after an almost four decades of exile.

Historians indicate that Prince Chakib Arslan has used his well-known ties with German Reich leaders and their Italian allies, to successfully liberate the leaders of the new Constitutional Liberal Party at the end of year 1943. Bourguiba also requested the Prince to convince the Axis powers to deliver a promise which provides Tunisia its independence post WWII. Although the Prince succeeded in this matter, the post-war outcomes seemed to be absolutely different from what was anticipated at its beginnings. As a matter of fact, no other option was available for Bourguiba, but an additional decade of struggle to attain his independence vision.

Habib Bou Rguiba (3 August 1903 – 6 April 2000), founding father and first president of the Tunisian Republic

The most distinctive hint that indicates how Prince Chakib Arslan has influenced Bourguiba’s personality and thoughts was the perception to Islam and the interpretation of texts in way that meets both Muslim’s needs and modernity requirements. Bourguiba adhered, after Tunisia gaining its independence and being in power, to a distinguished policy that believes in a supportive role of religion in the development and modernity process. This policy differentiated Bourguiba’s insight from the Ataturkism as the latter sought to eliminate any role for religion, regardless of their convergence for the essentiality of modernity. It also differed from Salafism although both referred to and relied on the sacred text. It has been known that Bourguiba said that he “succeeded to constitute all modernity requirements except for equality in inheritance among the two genders where no text can be identified to interpret this matter”. It is worthwhile mentioning that Bourguiba did not take any step towards modernity without a Sharia evidence and a textual interpretation. This includes his description for the two phases of his struggle against colonialism and seeking independence as ‘highest and marginal’ Jihad. Bourguiba explicitly broke his fasting in Ramadan after consulting religious authorities who permitted the matter, imitating the Prophet (S.A.A.W) and the Sahaba during the year of Fat’h. It is obvious that Chakib Arslan, being a reform pioneer, has enriched and developed the interpretation trend within the personality of the young leader. This can be attributed to the Prince being a Druze descendent, that majority of Muslims consider it beyond the norms of the sect. This gave the Prince a character of profound religious understanding to play the role of a modernizing and reforming religious intellectual model, thus enabling him to overcome intellectual and doctrinal block set against his society for centuries.

The practical and realistic orientation that seeks results in dealing with Islam, away from dogmatism and slogans, was the common ground between Prince Chakib Arslan and Leader Habib Bourguiba. However, the death of the Prince without practicing authority and Bourguiba encountering power responsibilities, have created a contradictory and confronting image among the majority of Tunisians and other groups. Moreover, the current dominant Islamic movements have struggled to relate the Prince’s heritage to their legacy, and portray their movements as an extension to it. While in reality, they have been opponents to Bourguiba as their propaganda campaigned to distort his clear image. It is a necessity today to resume the interpretation model believed by Arslan and Bourguiba, who both have spent considerable years to manage the interpretation process. They have also believed that there is an obligation not to leave the Religion and its texts controlled by those who seek materialistic results. They can use it as a method to deepen hatred, rejection and darkness, spread horror and death and destruction, and crises wherever they settle. I suggest to read the Bourguiba’s and Arslan’s heritages to yield interpretation geniality.

التّحنان لِصِلَة أمير البيان بجبل عامل

لأمير البيان شكيب أرسلان في ذاكرة جبل عامل مكانة خاصة؛ لا زالت محفوظة في وجدان الناس تترى، فوق الموجود والمحفوظ في التراث المكتوب١. باكراً توطّدت العلاقة بين الأمير شكيب أرسلان مع معظم علماء وأعلام جبل عامل، وأدبائه وسياسييّه، حتى الجماهير، لِما كانت لزيارات ولقاءات الأمير من شغف في اللقاء والتوادّ والحميميّة وأنس في الرأي، وتطابق في الموقف والتوجّه العربي الإسلامي نحو الحريّة والاستقلال، والنضال في كافة أنواعه وأشكاله الفكرية والأدبية، والمقاومة للمستعمر الأجنبي.

تظهر صداقاتُ أمير البيان مع أعلام عاملييّن – إذا عزّ اللّقاء – بالمراسلة فيما بينهم، وما حوته من عناوين في الوحدة واللّحمة الاجتماعية والسياسية، وإن بدا
بعض خلاف بالرأي، فهو التنوّع في الوحدة والغنى في التنوّع. فشكلت قِمّة في تراث الأدب العربي وتلاوينه من الشعر والسياسة والدين والتاريخ… وفي طليعة هؤلاء الشيخ أحمد عارف الزّين صاحب مجلة «العرفان» التي كانت إحدى منابر وصدى رأي وفكر الأمير شكيب أرسلان والتي كَتَبَ فيها وكُتِبَ فيها عنه وعن مآثره. وكوكبة ممن جمعتهم الزمالة في المجمع العلمي العربي في دمشق ومنهم الشيخ أحمد رضا أحد أعلام اللّغة العربية٢، والشيخ سليمان ظاهر الشاعر والأديب والصديق الحميم للأمير، والسيد محسن الأمين نزيل دمشق وكبير فقهاء سوريا ولبنان وصاحب موسوعة أعيان الشيعة٣. والمجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين والعلّامة السيد حسن يوسف مكي، وزعيم جبل عامل كامل بك الأسعد زميله في مجلس المبعوثين. والنائب الدكتور علي بدر الدين طبيب الفقراء، والشاعر محمّد علي الحوماني صاحب جريدة العروبة، والشاعر محمّد كامل شعيب، والمؤرخ محمّد جابر آل صفا مؤلّف تاريخ جبل عامل… وغيرهم كثر.

أُولى الوثائق التي أود طرحها ويظهر فيها سمو أدب وأخلاق وفكر ومواقف أمير البيان في المناظرة والحوار والبحث التاريخي، لمّا كتب الشيخ أحمد رضا عام 1910 في مجلة المقتطف المصرية٤؛ ومصر تشكل ملتقى أو واسطة العقد٥ بين أعلام بلاد الشام وغيرها من البلدان العربية والإسلامية وأرض الكنانة. والمقال بعنوان: المتاولة أو الشيعة في جبل عامل.

أُعجب الأمير بالمقال فعقّب عليه ببحث حمل نفس العنوان «المتاولة أو الشيعة في جبل عامل»٦، وبدأه بالقول: «اطّلعت في المقتطف على ما كتبه حضرة الفاضل الشيخ أحمد رضا من أدباء جبل عامل…»، وكان جل النقاش يدور حول تقدّم التشيّع في بلاد الشام عنه في بلاد العَجَم/إيران، وذلك على يد الصّحابي الجليل أبي ذر الغفاري منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام، واستتبابه فيها منذ ظهوره إلى الآن٧. ثم أردفه ببحث آخر حمل عنوان: التشيّع أيّهما أقدم الشام أم العجم؟٨، بدأه بالقول: « طالعت ما ورد في المقتطف من أحد فضلاء تبريز جوابا على ما سبق لي ولأحمد أفندي رضا من أدباء جبل عامل بأن التشيّع هو في الشام أقدم منه في كل قطر حاشا الحجاز»٩، حشد فيه الأمير أرسلان الكثير من حيثيّاته ودلالاته، وذلك بعد أن ناظرهما من تبريز في إيران «المجتهد الكبير ثقة الإسلام – علي بن موسى – التبريزي الذي استُشهد بيد الروس [شنقا يوم عاشوراء]١٠ عندما دخلوا أذربيجان بعد ذلك التاريخ بأشهر قلائل»١١.

ثم أعادت مجلة العرفان نشر المقالات١٢، وكذلك أدرجها الأمير شكيب أرسلان ضمن تعليقاته على كتاب حاضر العالم الإسلامي١٣. الذي أشار فيه إلى مقالة « الأستاذ الشيخ أحمد رضا في [موسوعة] خطط الشام بعنوان: «الشيعة»١٤ بلا توقيع١٥. ليدعم موقفه بالتأكيد القاطع على «رواية مسندة إلى [الصحابييّن الجليلين] عمّار بن ياسر وزيد بن أرقم تدلّ على أنه كان زمن خلافة علي عليه السلام قرية في الشام عند جبل الثلج [جبل الشيخ أو جبل حرمون] تسمى «أسعار»١٦ أهلها من الشيعة١٧. وأسعار هذه خرابة بين مجدل شمس وجبّاتا الزيت، وهناك نهر يعرف بنهر أسعار، وهي على طريق القادم من الشام إلى جبل عامل»١٨.

وتظهر رسالة مؤرخة في لوزان 5 نوفمبر/ت2 1929، وجّهها أمير البيان إلى صاحب مجلة المنار رشيد رضا مدى متانة أواصر الصداقة والاحترام الذي يكنّه للعاملييّن وعلى وجه التحديد للشيخ أحمد رضا الذي انتقد الأمير في مجلة «العرفان»، والتي يبدو فيها جدل لغوي فيقول: «[…] فأنا موافق للشيخ أحمد رضا تجويزه مناولة الطعام ومظاهرة الشعب، ومخالف للشيخ المنذر في منعها، لا بل متعجّب من قول فاضل مثله بعدم جوازهما، فقال أحمد رضا: والصواب حذف لا، لأن كليهما حرف عطف…»١٩.

والحقيقة هي أنّ الأمير ردّ من على صفحات مجلّة المجمع العلمي العربي بدمشق تحت عنوان «مطالعات لغوية»٢٠ على «كتاب المنذر» وملاحظات الأستاذ أحمد رضا٢١، مبتدئاً كلامه بالقول: «كل من الجهبذين المنذر ورضا من فرسان العربية المجلّين، وإني لَأوافق الأستاذ رضا على ما وفّره من حق الأستاذ المنذر وما نوّه به من فضله، وأضع ختمي في هذا التنويه بجانب ختمه»٢٢. هذه المطارحات والمطالعات التي تتدفق منها روح الأخلاق والنبالة هي من صفات رجالات كان أميرها شكيب أرسلان. خصوصا إذا ما لاحظنا رد الأمير على انتقادات الشيخ أحمد رضا له بالقبول حينا واستخدامه مصطلح «فأعترض»٢٣ حينا آخر، ولم يقل أرفض أو كلاما آخر. يبقى القول أن اجتماعاً في دارة الأمير خالد شهاب في بيروت، وبحضور الأمير عادل أرسلان، طلب من الشيخ أحمد رضا كتابة ترجمة مفصلة لفقيد الأمّة العربية، نظرا للصلة والصداقة والزمالة التي
كانت تجمعهما، لكنه اعتذر لأنّ الكتب التي دارت بينه وبين الأمير فقدت من أيام عاليه٢٤، وهي بيت القصيد بكل أسف٢٥.

ولما انتقل الأمير إلى لوزان كتب إلى الشيخ أحمد رضا طالباً منه نسخة عن مقالات المقتطف أو العرفان، فوصلته وأدرجها في الطبعة الجديدة من حاضر العالم الإسلامي. وحيث من الثابت أن أمير البيان كان همّه الوحدة العربية والإسلامية، ولمّا قرأ للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء كتابه «أصل الشيعة وأصولها» أبدى إعجابه وكتب له رسالة بتاريخ 5 محرّم 1352هـ/1933م، يثني عليه بالقول: «ثم إنّكم باجتهادكم تقرّبون بين الفريقين (أهل السنة والشيعة) وتضيقون فرجة الخلاف». وأرفق بالرسالة المجلدات الأربعة من الطبعة الجديدة لحاضر العالم الإسلامي٢٦.والجدير ذكره هنا أن أمير البيان كان قد أثنى على الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء لحضوره المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931، وعبّر عن بالغ سروره «أن تكون أول صلاة أقيمت [في المسجد الأقصى] بجماعة المؤتمر قد كانت بإمامة الشيخ الأكبر محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، كبير مجتهدي الشيعة، فإنّ هذا ما كنّا دائما نتمناه من الاتحاد…»٢٧. مثنياً على الشيخ ظاهر ورضا لحضورهما المؤتمر الذي كان الأمير ممّن أعدّ لانعقاده مع الحاج أمين الحسيني٢٨. وما كان تخلف الأمير عن حضور هذا المؤتمر «إلا لحيلولة السلطة البريطانية»٢٩.

وجاء في رسالة من الشيخ أحمد رضا للأمير بتاريخ 16 شعبان 1354هـ/ 13 ت2 1935م مطلعها:

سيدي المجاهد الكبير والعلَّامة النّحرير أمير البيان الأمير شكيب أرسلان حرس الله مهجته وأطال للأمة بقاءه. لقد طلع عليَّ كتاب الأمير من البدر في النصف من شعبان، فكان الكتاب أزهر، ونوره أكثر، ولا عجب فالأمير أعزه الله واحد الدّهر، ونادرة الفلك في غرّ صفاته، وزاكي أخلاقه وأعراقه. من غير منتقدة في سياسة حكيمة، إلى علم جمّ في أدب رائع… وقد قرّت عيني بما أسبغ الله على الأمير أعزّ الله به العرب والإسلام من نعمة الصحة، فلا يبالي معها بكيد الكَيَدة، ولا بحسد الحَسَدة…

أن يحدوني على أن لا نظير لهم         وهل رأيت عظيماً غير محسودِ

وقد سمعنا ما لقي المرسلون وهم رسل الإصلاح، وما لقي سيدنا المصلح الإلهي الأعظم سيد العرب والعجم من قومه حتى في أمسّ الناس به رحماً… ورأيت أيّدك الله ما لقي نابغة العرب في السياسة والأخلاق الملك فيصل رحمه الله. وما كان يفضي به إليك، فصبراً صبراً يا سيّدي على كيد الكائدين، فالحقّ أحقّ بالإشراف والباطل أولى وأجدر بالإزهاق، والعاقبة للمتقين. وإنّ ما جاء به الأمير – حيّاه الله – من إيضاح سياسته الحكيمة المؤسسة على الغَيْرة الفاضلة، والحمية الباسلة في سبيل أمته ووطنه، في هذه الفتن الضاربة بأطنابها العالقة بأنيابها لم يزدني إلّا علما بأصالة رأيه، وسعة اختباره، وجَوْدة طريقته في جهاده…»٣٠.

من علماء جبل عامل الأجلاء في مطلع القرن الماضي: (من اليمين إلى اليسار) الشيخ احمد رضا , السيد حسن يوسف مكة، والشيخ سليمان ضاهر.

ويبدو من طيّات الرسالة أن الأمير كلّف الشيخ بأمور ثقافية أو علمية لصديق مشترك هو نجيب الريّس صاحب «القبس» الدمشقي. ويشكره على إرساله له كتاب حاضر العالم الإسلامي بالقول: «فقد قبلته وقابلته بالشكر والدعاء»، ويختم بتحيات من الشيخ سليمان ظاهر «الذي ملأت محبّة الأمير قلبه، وأثني بسلام صهري أبي حسن كامل الصبّاح»٣١ وكلّ إخوانه وأصدقائه في جبل عامل.

ثم اشتدّت على الأمير المصائب التي مرّت بها الأمّة، فدعا للجهاد والمقاومة في سبيل عزتها واستقلالها ضد المحتل الأجنبي، ورأيه: «إن الذي نحن فيه هو جهاد، والجهاد هو الحرب…»، والجمعيات أو التشكيلات هي طريق الخلاص؛ سواء كانت سرية أو علنية قانونية في فلسطين وكل العالم الإسلامي «فالتشكيلات هي قوة كل أمة فقدت حكومتها وكيانها السياسي. وهي الزعيمة، مع الثبات والعزم وإتقان العمل وروح التضحية، بإعادة ذلك الكيان السياسي»٣٢. ويسجل الأمير عتبه لجهة «الواجب الذي تقتضيه الأصول الاجتماعية»، على أبناء بعض البيوتات العاملية التي كانت تربطه بهم علاقة محبّة وود وصداقة واحترام، متأسّفاً حيث لا يجد «منهم خلفاً يشبه سلفاً»٣٣.

الأمير شكيب أرسلان ودوره في النهضة الحديثة لليمن

بداية العلاقة

تعود علاقة الأمير شكيب باليمن إلى زمن اختياره عضواً في مجلس «المبعوثان» عام 1913م عن حوران وفي فترة إعادة العمل بالدستور العثماني.

فقد بدأ المندوبون العرب ومنهم مندوبو اليمن يلتقون ويتعارفون ويتبادلون هموم الواقع العربي في ظل سلطنة وخلافة عثمانية في طريقهما إلى الزوال. صحيح أن عمل المجلس لم يكن فاعلاً ولم تدم أعماله طويلاً ولكن العلاقات بين أعضائه استمرت خاصة أن هؤلاء النواب «المبعوثين» كانوا نخبة العالم العربي والإسلامي في الأراضي التابعة للسلطنة.

وفي عام 1911م عقد اتفاق بين ممثل السلطنة العثمانية في اليمن رئيس الأركان اللواء أحمد عزت باشا وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين اعترفت بموجبه السلطنة للإمام بسلطته على المناطق الجبلية في اليمن وعلى أبناء الطائفة الزيدية المتواجدة في ولاية اليمن. وكان هذا الاتفاق بداية اعتراف بأول استقلال ذاتي لليمن وبداية مسيرة سياسية وعسكرية تكرست بعد انهزام تركيا في الحرب العالمية الأولى.

ومن المعروف أن الأمير بقي إبناً باراً للسلطنة والخلافة العثمانية وظل يدافع عن وحدتها وينادي بضرورة بقاء منصب الخلافة الإسلامية جامعاً للشعوب العربية والإسلامية التي كانت في كنف السلطنة. وراح يقارع إخوانه العرب طلاب الاستقلال أو اللامركزية وكتب موضوعاً مطولاً أثناء رحلته إلى المدينة المنورة قبل الحرب العالمية الأولى وذلك رداً على المؤتمر الذي عقدته الجمعيات والشخصيات العربية في باريس 1913م وقد صدر هذا الرّد في كتاب عن الدار التقدمية عام 2009م. وفي هذا الكتاب يفرد الأمير لليمن صفحات كثيرة وأهمية غير قليلة سواء من حيث الموقع والرجال والإنتاج الاقتصادي والتاريخ.

وفي رسالة مطولة كتبها الأمير شكيب من المدينة المنوّرة إلى وزير داخلية السلطنة طلعت بك في عام 1915م وموجودة نسخة منها في مركز الوثائق في صنعاء وبعد اجتماعه بمندوب الإمام يحيى شرح ولاء الإمام للسلطنة مقابل إغراءات من خديوي مصر لباقي أمراء القبائل في الجزيرة العربية وذلك مقابل مساندته للحصول على منصب الخليفة. فقد كان الخديوي ينافس الشريف حسين بن علي أمير الحجاز على الفوز بالمنصب قبل أن تحسم إنكلترا موقفها لصالح الشريف حسين وذلك في طور التحضير لمّا أصبح يسمّى فيما بعد بالثورة العربية ولما يتمتّع به الشريف حسين من مركز ديني في الأماكن المقدسة.

وفي جزء آخر من الرسالة يتمنى الأمير شكيب أن يكافأ الإمام على ارتباطه «ارتباط الصدق والجد والوفاء» بالسلطنة أثناء انعقاد مجلس المبعوثان، وذلك بمساعدته على أمير عسير آنذاك محمّد الإدريسي وإبعاد أمير مكّة عن الخديوي! كما يقترح مدّ سكة حديد الحجاز من المدينة إلى مكة ثمّ إلى اليمن. ومن المعلوم أن السلطنة كانت قوية آنذاك وطردت لاحقاً القوات البريطانية من لحج تمهيداً لإغلاق باب المندب وإشغال البريطانيين عن التوجّه إلى البحر المتوسط.

صنعاء، اليمن

ومن مؤشرات التفات الأمير شكيب المبكر إلى اليمن العلاقة التي جمعته بالموظف العثماني يوسف حسن ابن قرية بتلون من متصرفية جبل لبنان آنذاك. فقد التحق يوسف بك بوظيفة قائم مقام في متصرفية تعز إحدى ألوية اليمن في مطلع عام 1910م وكان قد التقى غير مرة بالأمير شكيب وشيخ العروبة أحمد زكي باشا المصري أثناء إقامته في اسطنبول وخاصة عام 1909م حين كانت عاصمة السلطنة تمور ‏بحركة ديمقراطية وليدة بعد إعادة إحياء الدستور وبشخصيات عربية متنورة أملت خيراً في تطبيق إصلاحات عثمانية تعطي لولاياتهم بعض الاستقلال والهوية، ولا ضرورة التوسع في هذه المرحلة.

ويقول يوسف بك في أوراقه ومذكراته الغنية عن التاريخ اليمني بين عامي 1910 و1921م حين خرج برتبة متصرف لواء الحديدة يقول عن الأمير شكيب «إنه أستاذي السياسي ودافعي إلى اليمن بمهمات سياسية». كما نعثر بين رسائل يوسف بك على رسالة من الأمير تعود إلى عام 1915م يهنئ فيها «ولده» يوسف بك بانتصار القوات العثمانية على البريطانيين وحلفائهم أتباع محميّة لحج في جنوب اليمن، وقد كان القائمقام أحد أفراد القيادة العثمانية في الحملة ويشرح‎ ‏ الأمير في كتاب آخر ليوسف بك عن حملته لمحاربة الطليان في طرابلس الغرب بعد احتلالها عام 1911م حين قاد مجموعة من المجاهدين الموحدين الدروز وتوجه من مصر غرباً إلى الحدود الليبيّة فتعرّف على القائد أنور باشا أثناء هذه الحملة وما تلاها من صداقة دائمة…

فمن وصل به حماسه واندفاعه لقيادة فريق مجاهد دفاعاً عن السلطة العثمانية ومركز الخلافة ليس من المستبعد أن يدفع مستنيراً إلى الذهاب إلى اليمن لتولي منصب يخدم فيه السلطنة ويحافظ على اعتبارها في تلك الولاية النائية وينقل عن المجاهد الصحفي عجاج نويهض المعاصر لتلك الفترة أن الأمير شكيب وأحمد زكي باشا كانا يعتبران يوسف بك رسولهما إلى اليمن وذلك من أجل الحصول على استقلال ذاتي لليمن تحت مظلة السلطنة، وقد لا يخلو الأمر من مبالغة في هذا التقدير.

الأمير شكيب أرسلان اللّغوي

يعتقد الأمير شكيب أرسلان اعتقاداً راسخاً بأن اللغة، أيّاً كان موطنها، تقوم على الحركة، وبالتالي فإن نموَّها يكون في مسالك الاستعمال. وهو يرى أن لهذا «الاستعمال اللغوي» مسلكين أو مظهرين اثنين : هما الكتابيّ والشفاهيّ. أما الأول فيشتمل على ما أثر وورد في الكتب القديمة شعراً أو نثراً، وكان عزوه، في النقل مباشرة، إلى أهل الجاهلية فالإسلام، وتدرّجاً إلى القرون التالية، تلك التي تميز نتاجها بمتانة التركيب، وفصاحة الكلمة، وأناقة الأسلوب. وأما الثاني فما يندرج في مسائل اللفظ المولّد، والعاميّ، أو ما روي عن الناطقين بالضاد، من أهل البوادي و سواهم، ودوّنه عنهم الكتبة.

ثم، إن مظهري هذا «الاستعمال» من الوجهة الغرضية، يعنيان الاهتمام باللغة، وهو مسلك إلى الحفاظ على شخصية مستعملي هذه اللغة، أو لنقل شخصية الأمة الناطقة بالعربية. ويمكن القول، إن هذا التوجّه يشكّل في عمقه دعوة إلى إحياء التراث، باعتباره المصدر الأصيل في تحقيق الأهداف التي تسعى إليها «الأمة» لتحديد معالم شخصيتها، وصولاً إلى مرحلة الرشد والإحياء. والأمير شكيب مؤمن أن بلوغ تلك المرحلة لا يمكن تحققه إلا بإيجاد الوسائل المفضية إليها، وأن الوسائل لا تخرج عن إطار الدراسات المباشرة لكنوز التراث، من قِبَل العلماء العرب، ﻓ «أسنى ما تخدم به هذه اللغة الشريفة، لهذا العهد، إثارة دفائن كنوزها، ونفض كنائن رموزها، واستخراج جواهرها التي أحرز منها النزر اليسير، وبقي الجمّ الكثير».

وهنا نتساءل: هل هذا التوجه، أو هذا الانصراف إلى الاعتناء بكنوز التراث، يتأتّى متوافقاً مع حالات الإحساس بالتحدي والشعور الذي كان يسري في داخل «الأمير» بأن هناك وضعاً غريباً تتعرض له اللغة العربية، أو لنقل «الأمة»، وأن أشكالاً دخيلة من الألفاظ، وصوراً من التراكيب، وأقداراً من التأثيرات تهدد كيان «الأمة»، وتعرّض وجودها للضياع أو الانحسار؟

في الإجابة عن هذا السؤال نعرض نصّين للأمير شكيب، عبّرا – بوضوح – عن مخاوف كبيرة يعيشها «الشرقيون» عموماً، سببها التوجّس من ناتج حملهم على «التغرّب».

“لو لم تشغله السياسة لكان هو أمير الشعراء لا شوقي.”
(الأديب والناقد اللبناني الكبير مارون عبود)

يقول في النصّ الأول: «فسواد الشرقيين ما برحوا، بالرغم ممّا يتدفق على الشرق من الغرب، منذ أول القرن الماضي من الأفكار والآراء والمناهج والأساليب والمؤثرات والعوامل المختلفة، يرتاحون إلى البقاء على القديم البالي، وإنهم يعتقدون فوق هذا، أن من أكبر مبتغيات الحكم الغربي حملهم على التغرّب عاداتٍ و مجتمعاً وعلى تبديل الموروث من منازعهم وأساليب معايشهم، الأمر الذي يحملهم على مقاومة التيار الغربي، ما استطاعوا إلى المقاومة سبيلا»1.

ويقول في النص الثاني، تعقيباً على مقال لمصطفى صادق الرافعي، عن «الجملة القرآنية»؛ بمقال عنوانه: «ما وراء الأكمة» : «منهم (أي المجدّدون) من يريدون هدم الأمة في لغتها وآدابها خدمةً لمبدأ الاستعمار الأوروبي، ومنهم من يشير باستعمال اللغة العامية بحجّة أنها أقرب إلى الأفهام. ولكن منهم من لا يحاول هدم الأمة في لغتها وآدابها، لا حبّاً باللغة والآداب، ولكن علماً باستحالة تنصّل العرب من لغتهم وآدابهم. ولذلك ترى هؤلاء دعاة إلى اللغة والآداب، على شرط أن لا يكون ثمة قرآنٌ ولا حديثٌ، وأن تكون الصبغةُ لا دينية. وحجتهم في ذلك حب التجدّد، وكون القرآن والحديث وكلمات السلف كلّها من القديم، الذي لا يتلاءم مع الروح العصرية في شيء (…)»٢.

ما حمله النصّان من توجّس تجاه ما يحمله «التغريب»، وما يدعو إليه «المجددون» من تغيير في ميادين أربعة، دار النزاع فيها، وهي : قضية تحرير المرآة، والزّي، والتعليم، والأدب واللغة، كل ذلك، غدا ينمو في أذهان «المحافظين» كصورة طموحة تغذّي خيالهم الاجتماعي للدفاع عن شخصية «الأمة» المهدّدة بالتغريب، ولا سيما الدفاع – بحماس – عن اللغة العربية، التي استُهدفت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتعرّضت إلى دعوات، يمكن حصرها في ثلاث مسائل: ونستعرض في الصفحات الآتية ما كتبه الأمير شكيب في ثلاث قضايا لغوية، هي:

  1. المطالبة بإصلاح قواعدها: ويطالب فريق آخر، بحجة صعوبتها بالتحول منها إلى العامية؛
  2. الكتابة: فيدعو البعض إلى إصلاح قواعدها، ويدعو بعض آخر، إلى التحوّل عنها إلى الحروف اللاتينية؛
  3. الأدب: فيدعو إلى تنشئة جيل يتذوق أساليب البيان الغربي وموضوعاته، في الوقت الذي يغضّون، فيه، من قدر التراث.

وهي، قضايا تندرج في إطار الدفاع عن التراث، وصون العربية، والعمل على ترقيتها، في آن.

  1. قضية تنقية اللغة من شوائب الزلل؛
  2. قضية «العامية»؛
  3. العمل على استثمار العاميات، من خلال الكشف عن جذورها، وتوظيفها في تيسير الفصحى من خلال كتابه «القول الفصل في ردّ العاميّ إلى الأصل»

السّويداء

[su_accordion]

[su_spoiler title=”السويداء ابنة التاريخ في أيامها السّود” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الدواعش يعاقبون السويداء لأنها وقفت ضد الإرهاب

السويداء هذه المدينة الأثرية التي تعود بتاريخها إلى أكثر من ألفين وثلاثمائة عام يوم دخلت تاريخ العمران كقرية نبطية أولى، ثم حملت مؤثّرات من فترة الاحتلالات الإغريقية (حضارة هيللينية) فـ: (رومانية) على أرضية عربية من ضجاعمة (قبيلة الضياغم) فسُلَيْحيين فغساسنة مسيحيين (بالتعارض مع مسيحية بيزنطة) تحت الحكم الرومي البيزنطي. فعربيّة مع الفتح العربي الإسلامي حيث كانت من إقطاع عمر بن عبد العزيز يوم كان أميراً قبل أن يصبح خليفة… ومرت بها الأيام السّود بعدها على يد تيمورلنك المغولي آن غزوه للبلاد وتدميره لها وتغويره ينابيعها مع مطلع القرن الخامس عشر الميلادي ــ عام 1401…).

نعم رزحت السويداء بعد ذلك في خراب مقيم وإلى أواخر القرن السابع عشر حيث دخلت ظلمة التاريخ ثم نكصت إلى قرية رعي صغيرة منسيّة(1) ولم تعد إلى الحياة الفاعلة إلّا بعد أن سكنتها عائلات الموحّدين الدروز في مطلع القرن الثامن عشر بُعيد انتقال الزعامة الحمدانية المعروفية إليها…

تفجير سوق الحسبة

هؤلاء الموحدون الذين أحْيَوا الموات في أرض السويداء لم يختاروها موطناً لهم برضاهم، فهم عبر الألف عام من تاريخ ظهور مذهبهم في مصر (1017م) كانوا ضحية الاستبداد المملوكي (1260 ــ 1516) الذي عجز عن مجاراة عصر النهضة في أوربا، وظل المماليك يأنفون الحرب إلا بالسيف والتّرس والرمح حيث سقطوا متهالكين تحت سطوة مدافع السلطان العثماني سليم “العابس”(2) ولكن العثمانيين ليسوا بأفضل من المماليك إذ سريعا ما انحدرت دولتهم إلى الانغلاق على نور الحضارة الذي أخذ ينتشر في أوروبا بينما هم دخلوا حالة من نكوص ماضوي؛ وفي عهدهم تقلّص انتشار الدروز وضُيّق عليهم خاصة بعد القضاء على ثورة الأمير فخر الدين المعني الثاني عام 1633م، وفيما بعد اضطرّ قسم كبير من العائلات الدرزية إلى اللجوء إلى جبل حوران بنتيجة التنازعات الاجتماعية في لبنان تلك النزاعات التي كانت تدعمها فرنسا الاستعمارية بالتعاون مع المارونية السياسية اللبنانيّة وأنانية الحكم الشهابي الحاقد والتواطؤ العثماني الذي كان يهدف إلى التخلّص من الدروز والموارنة معاً…

الموحّدون يقيمون مجتمعاً متماسكاً في السويداء

منذ مطلع القرن الثامن عشر وما تلاه نجح الموحدون في استزراع أراضي السويداء وأقاموا مجتمعاً زراعيا حضرياً متماسكاً، وكانوا سدّأً منيعاً في وجه الغزوات البدوية التي كانت تهدد سكان سهل حوران وغوطة دمشق لدرجة أنّ العثمانيين كانوا قبل منتصف القرن التاسع عشر يعفون أبناءهم من الخدمة العسكرية (القُرعة) للقتال في حروبهم في مستعمراتهم…
وفيما بعد اضطُرّ الموحدون للدخول في مواجهة مع العثمانيين عبر سلسلة متتابعة من الحملات العسكريّة شنّوها ضدهم بهدف تطويعهم وسحب شبّانهم إلى ساحات حروبهم الفاشلة، والحؤول دون استقلاليتهم النسبية التي حققوها بحيث أصبحت ديارهم ملجأ لكلّ هارب من الاستبداد العثماني في امبراطورية كبرى لم يحسنوا إدارتها والدخول بها إلى العصر الحديث.

معاناة الموحدين الدروز بعد خروج العثمانيين من سورية

قاتل الموحدون ضد العثمانيين في جيش الدولة العربية عام 1918من أجل دولة عربية حديثة متحرّرة من الاستبداد ومن التمييز الديني والمذهبي والقومي الذي مارسه العثمانيون على رعاياهم ولمّا جاء الاستعمار الفرنسي كانوا أكثر المتضررين من تقسيم البلاد فهم أسرة واحدة تنتشر في كافة أنحاء بلاد الشام التي تناولها تقسيم سايكس بيكو إلى أربعة أقطار؛ هي سورية الحالية ولبنان وفلسطين والأردن.
ثار الموحدون في وجه فرنسا من أجل الحريّة والكرامة والاستقلال عام 1922 وعام 1925ــ 1927 بما عُرِف بالثورة السورية الكبرى التي نادت بدولة ديموقراطية عصرية حرّة على أساس ما جاء في بيان الثورة الذي أعلنه قائدها العام سلطان باشا الأطرش؛ أنّ الدين لله والوطن للجميع، وقدموا الشهداء الأكثر من أجل استقلال سورية طلباً لهذا الهدف الجليل…

الموحدون وسواهم يعارضون  استبداد الشيشكلي

وبعد الجلاء عام 1946 لم تتحسن أحوال بني معروف مع دولة الاستقلال فكانوا بقيادة سلطان باشا في طليعة السوريين الذين رفضوا الانقلابات المتتابعة واستبداد أديب الشيشكلي الذي أقام من نفسه دكتاتوراً طاغية فكانوا مع سائر السوريين المطالبين بالحكم الديموقراطي في مؤتمر حمص عام 1953 والخلاص من الحكم الكيفي والطغيان الذي عطّل نعمة الاستقلال، ومما ورد في كلمة سلطان باشا إلى ذلك المؤتمر مطالبته بالحد من الأعمال غير الدستورية والتصرفات غير المشروعة واحترام إرادة الشعب الحقيقية بإعادة السلطة المُصادرة إليه. وقد مثّل سلطان باشا في ذلك المؤتمر شخصيات اجتماعية من الجبل ذات تاريخ وطني عريق هم السادة أبو حسن فضل الله جربوع وأبو حمد يوسف العيسمي وأبو يوسف حسين مرشد(3).
وبعد سقوط الطاغية الشيشكلي أيّد الموحدون الدولة الوطنية الديموقراطية التي قامت في البلاد بعد سقوط الطاغية ومن ثمّ أيّدوا خطوة الرئيس جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس عام 1956 كما أيّدوا دولة الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 وكذلك التوجهات التي جرت في سورية تحت شعار الوحدة والحريّة والاشتراكية وتحرير فلسطين تلك الشعارات التي تبنّـتها الدولة السوريّة…

السويداء في مواجهة الدواعش، 25 تموز 2018

المحنة السورية التي بدأت عام 2011 أوقعت سورية في حمّام من الدماء خسرت فيه سورية وشعبها، واستفاد من ذلك كله أعداء الشعب السوري…
ولقد نشطت في سورية حركة متطرّفة إرهابية هدفت إلى تخريب سورية تلبس لباس الإسلام والإسلام منها براء هي منظمة داعش..
ومع أنّ الدواعش يمرّون في فترة أفول فقد نظّموا هجومهم على محافظة السويداء عبر ثلاثة محاور هي:
1ــ الهجوم على القرى الشرقيةّ وهي الشبكي والشريحي والعجيلات وطربا والكسيب ورامي وغيضة حمايل وتيما ودوما وعراجة…، وصلوا إلى بعضها والبعض الآخر فشلوا في اقتحامه بسبب المقاومة الباسلة لبعض نقاط المراقبة والحماية…
ولكنهم نجحوا في اختطاف نحو ثلاثين شخصاً من النساء والأطفال (للمساومة عليهم) وقتل نحو 250 شهيداً وشهيدة.
2- الخروج من معاقلهم الكائنة في وعرة اللجاة الحصينة التي اتخذوا منها معاقل لهم مستفيدين من تجربة الموحّدين التاريخية في مواجهتهم للجيوش المعتدية عليهم عبر تاريخ سكنهم لمحافظة السويداء (وفي ذلك يقول الشيخ أبوعلي قسام الحنّاوي أحد أبطال الدروز في ملحمته أيام مواجهة الدروز لقوات محمّد علي باشا:

هَذي قَلعِتْنا وهَذي لجاتنا       وتربة عِدانا مَنْ دَخَلْها حار

ولكنّ الدولة السورية فيما بعد كانت قد ألحقت اللجاة بمحافظة درعا).
نعم، حاول الدواعش بهجومهم الاختراق عبر قريتي المتونة والسويمرة المتاخمتين للّجاة العبور إلى طريق دمشق السويداء لعزل المحافظة كليّاً عن العالم الخارجي إذ ما من طريق آخر يصل السويداء بما حولها.
3- اقتحام مدينة السويداء (سكانها نحو أكثر من200000 نسمة بينهم نحو خمسين ألفاً من النازحين (أرقام تقديريّة) إليها من الجوار السوري وهي مركز المحافظة) بخمسة انتحاريين مُتَسَلّلين قاموا بتفجير أنفسهم في مواقع متفرقة من قلب المدينة وقام بعضهم بإطلاق النار عشوائيّاً لقتل أكبر عدد من المواطنين وإرباك الناس وإشغالهم عمّا يجري على أطراف المحافظة (ولربما كان من خلفهم عناصر إسناد لعملياتهم لكنّ التماسك الاجتماعي في المدينة ويقظة رجالها وعدم وجود حواضن فاعلة حال دون إنجاز مخططهم).
وقد أوردت الوكالات الخارجية الأنباء بنبض بارد وكأن الأمر يحدث على كوكب آخر، غير أنّ يقظة المواطنين واستهانتهم بالموت أدت إلى تضييق الخسائر إلى حدّها الأدنى، فبعد التفجير الذي جرى في سوق الحسبة وهو المكان الأكثر اكتظاظاً بالناس نحو الخامسة صباحاً حيث يحضر المزارعون من القرى لبيع منتوجاتهم من الخضار والفواكه فما كان من الإرهابي إلّا أن اعتلى سيارة بيك آب محمّلة بالخضار في ظاهر الأمر ووقف صائحا يدعو الناس للاقتراب منه والشراء بأرخص الأسعار ثمّ فجّر نفسه بحزامه الناسف بالتزامن مع إطلاق نار عشوائي ولكن يقظة الناس في مكان الحدث أربكت مُطلق النار فلم يحقّق هدفه وذهب ضحية التفجير نحو أربعة أو خمسة قتلى.
التفجير الثاني كان عند دوار المشنقة، قام أحد الثلاثة بتفجير نفسه فأصاب عدداً من الجرحى.
التفجير الثالث والرابع: هرب الإرهابيان الآخران من مكان دوار المشنقة لاشتباه الناس بهما باتجاه الجنوب على خط المقرن القبلي في حي الجلاء أمام ملاحقة عشرات الشبان اليقظين لحركتهم وبعد مسافة نحو مئتي متر انعطفا في شارع جانبي شرقاً أحدهم صادف الشاب يامن جمال أبو عاصي الذي تصدّى له للقبض عليه فما كان من الداعشي وقد يئس من المقاومة إلّا أن فجّر نفسه بحزامه الناسف فقُتل. واستشهد الشاب يامن أبو عاصي بسبب التفجير ولكنه بعمله هذا افتدى بحياته حياة أناساً آخرين كُثُراً، وكذا فعل الشهيد البطل ماهر غرز الدين على دوار الحسبة حين تمكن من الإمساك بالإرهابي والابتعاد به عن الناس المجتمعين.
التفجير الخامس كان عند دوار النجمة في الجانب الغربي من منتصف المدينة إذ تسبب باستشهاد الشاب خالد أبو شقرا المقاتل في أحد الفصائل الوطنية مع إصابة عدد من الجرحى، بينما كان ثلاثة من الانغماسيين الدواعش يتجولون بحثاً عن أهداف أُخرى لهم ولكن يقظة المواطنين كشفتهم فتمت مطاردتهم وقتلهم بعد أن تسببوا قتل الشهيدين عماد السلمان وإياد الشعّار.

محصّلة الهجوم على السويداء كانت إحباطاً لداعش

خاب فأل الدواعش في توقعهم نجاح هجماتهم على السويداء، ففي المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو الثلاثمئة ألف (مع النازحين إليها) لم يحصل الإرباك الذي كانوا يتوقعونه بل إنّ الآلاف من شبّان الفصائل المسلّحة والمشايخ وحتى الشيوخ المسنين تفازعوا سراعاً إلى القرى التي تعرّضت للعدوان الداعشي في شرق الجبل وشماله فكان حضورهم السريع إلى مواقع الاشتباكات حالة أسطورية من سرعة الحشد للمقاتلين في عمليات ما تدعوه الأكاديميات العسكرية بـ: (التعرّض المعاكس) لهجوم العدو المباغت بحيث تم إحباط المخطط الداعشي في احتلال مواقع ارتكاز له في قرى الجبل، أو إيقاع حد أقصى من الإيذاء (وهو الأمر الذي حصل في قرية الشبكي مثلاً). ويقدّر المراقبون بأنّه خلال ساعة ونصف الساعة حضر إلى قرى الاشتباكات نحو خمسين ألفا من الرجال لنجدة أهالي القرى المُعتدى عليها.


المراجع:

(1) مقابلة شخصيّة بتاريخ 25 نيسان وحديث مع المحامي المعمر ماجد الأطرش.
(2) جانكارلو كازالي، تر: مصطفى قاسم، رُيّاس البحر الهندي، ساسلة عالم المععرفة الكويت آب 2018، ص 11.
(3) الحناوي، فارس قاسم، صراع بين الحريّة والاستبداد، ط1، 2000، ص 94ــ 95.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”مواقف واعتصامات شجباً للاعتداء الغادر وتضامناً مع الضحايا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لم تتأخر المواقف الشاجبة للاعتداء الإرهابي الهمجي، في مواكبة التصدي البطولي لأبناء جبل العرب والجيش العربي السوري للإرهابيين منذ اللحظة الأولى، مدعومين من كل المسؤولين الرسميين، والمرجعيات الدينية، والقيّمين على الشأن العام والشرفاء في سوريا، كما من المسؤولين والمرجعيات الدينية في لبنان وسائر البلدان العربية، وبخاصة في لبنان وبدعوة من سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن، ومن المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، ومن نواب ووزراء وفاعليات وجمعيات نسائية واجتماعية وثقافية في بيروت والجبل ومناطق لبنانية عدة. كذلك سجلت اعتصامات ووقفات تضامنية للجاليات العربية في بلدان الاغتراب والانتشار. اما في سوريا نفسها، فكان في مقدمة المواقف الشاجبة ما تضمنته البيانات الصادرة عن الرئاسة الروحية ومشايخ عقل الموحدين الدروز في سوريا، سماحة الشيخ حكمت الهجري وسماحة الشيخ يوسف جربوع وسماحة الشيخ حمود الحنّاوي والتي شددت على أن “طائفة الموحدين الدروز في سوريا لها إرث تاريخي ونضالي مشرّف ضد الغزاة والمستعمرين تميّز بالبطولات وتقديم التضحيات إلى جانب كافة الشرفاء في الوطن”. كما شددت البيانات على ضرورة “التيقظ التام لغدر هذا العدو الجبان”، وضرورة التمسك والتشبث بالأرض، وعدم التصرف الفردي، بالإضافة إلى مؤازرة عائلات الشهداء والجرحى والعائلات المتضررة.
وإلى المواقف المذكورة أعلاه داخل سوريا، جرى تسجيل حالة غضب شاملة لاهالي الضحايا والمخطوفين واهل جبل العرب عموما ضد الاعتداء الإرهابي الهمجي، وبخاصة عملية الخطف الجبان التي جرت في بلدة شبكي لنساء وأطفال، على نحو غادر وعلى غير ما عرفته الحروب. لقد استفز العدوان الإرهابي، وعملية خطف النساء والأطفال على وجه الخصوص، كل الشرفاء والوطنيين في لبنان والعالم العربي وحتى عالم الاغتراب، و تقدّم في هذا الملف عينة فقط من بين عشرات الوقفات الاعتصامية والتضامنية التي جرت في لبنان والوطن العربي وفي الجاليات الاغترابية.

  • دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت غصّت بالشخصيات والوفود المعزية بشهداء السويداء

شهدت دار طائفة الموّحدين الدروز في فردان تقبلا للتعازي “بشهداء الغدر والظلم والإرهاب في جبل العرب” في السويداء، من قبل سماحة شيخ عقل طائفة الموّحدين الدروز الشيخ نعيم حسن، والمجلس المذهبي الدرزي. وقد حضر معزياً ممثل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الوزير نقولا التويني، وممثل رئيس مجلس النواب نبيه بري النائب محمد الخواجة، وممثل الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري النائب نزيه نجم. الرئيس ميشال سليمان، الرئيس تمام سلام، ممثل الرئيس فؤاد السنيورة الدكتور عمّار حوري.
كما شارك ممثل البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي المطران بولس مطر، وممثل مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان الشيخ محمد الأروادي، ومتروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأورتوذكس المطران الياس عودة.
كما حضر وزير السياحة اوايس كيدانيان وقدم التعازي أيضا باسم اللجنة المركزية لحزب الطاشناق، والوزير السابق آلان حكيم باسم رئيس حزب الكتائب اللبنانية النائب سامي الجميل، والنائب عدنان طرابلسي على رأس وفد من الاحباش، والنواب، هنري حلو، وائل أبو فاعور، هادي أبو الحسن، والوزراء والنواب السابقون، عاطف مجدلاني، إبراهيم شمس الدين، صلاح الحركة، فادي الهبر، أنطوان سعد، غازي العريضي.
وحضر سفير الامارات في لبنان الدكتور حمد الشامسي، والقائم بأعمال السفارة السعودية وليد البخاري، وممثل سفير دولة فلسطين أشرف دبور المستشار الأول حسان شتنية، وسفير لبنان في روسيا شوقي بو نصّار، ومثّل قائد الجيش العماد جوزيف عون العميد صبحي أيوب على رأس وفد من الضباط. ورئيس الأركان اللواء حاتم ملاّك، وقائد الشرطة القضائية العميد أسامة عبد الملك، ورئيس جهاز الامن القومي العميد وائل أبو شقرا، واللواء وليد سلمان.
وشارك امين عام تيار المستقبل احمد الحريري، ووفودا من قيادة حركة امل، والكتائب اللبنانية، ومن قيادة الحزب التقدمي الاشتراكي والمفوضين ووكلاء الداخية، ونائب رئيس حركة التجدد الديموقراطي أنطوان حداد. وقضاة المذهب الدرزي، ورؤساء لجان وأعضاء المجلس المذهبي، ومدير عام المجلس مازن فياض، السيدة حياة ارسلان على رأس وفد كبير من سيدات منطقة الجبل، والقيادي حليم بو فخر الدين، والقاضي عفيف الحكيم، والعميد جورج البستاني، تجمع جمعيات سيدات الجبل، ووفد كبير من منطقة السويداء، ووفودا روحية وزمنية وعسكرية واهلية الى وفود من مناطق الجبل وحاصبيا والبقاع والجنوب.

وتلقى سماحة شيخ العقل سلسلة اتصالات وبرقيات تعزية من لبنان والخارج، ابرزها اتصالات من رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، ورئيس المجلس العام الماروني وديع الخازن، والمفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان، وبرقيات من الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين اتباع الأديان والثقافات فيصل بن عبد الرحمن بن معمّر، معزيا “بضحايا التفجيرات الإرهابية التي شنّها تنظيم داعش الارهابي في محافظة السويداء”، ومعتبراً، “ان العالم يشهد صراعات تصنّف في خانة الجرائم ضد الإنسانية والتي تستهدف اتباع كل دين وتهدد نسيج كل مجتمع وتثير الفتنة بين أبنائه، مؤكدين على أهمية الحوار لإيجاد سبل التعاون المشترك من اجل تعزيز المواطنة وبناء السلام والوقوف معا لمناهضة العنف باسم الدين ولكل اشكال العنف”. وبرقية من منصة الحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية في العالم العربي، توجّهت لسماحة شيخ العقل بالعزاء الخالص لطائفة الموحدين الدروز، ودانت “مجزرة السويداء النكراء ضد الإنسانية، كما دعت الشعب السوري والشعوب العربية للاتحاد بوجه الجماعات الاجرامية المتطرفة”، وبيانا من مرصد الإفتاء المصرية يدين هجوم السويداء، وبرقية تعزية واستنكار من رئيس الاتحاد العمالي العام بشارة الأسمر.

ألبوم صور لمواقف واعتصامات:

[Best_Wordpress_Gallery id=”11″ gal_title=”مواقف تضامنية مع السويداء”]

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”العدوان الداعشي على قرى السويداء” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تقع القرى التي استهدفها اعتداء الدواعش على الحافة الشرقية لجبل العرب حيث تنحدر تلك الحافة بحدّة باتجاه الشرق وتطل على بادية شاسعة تمتد شمالا إلى الفرات وشرقاً إلى العراق وجنوباً حيث تتصل ببوادي الأردن.
وتبدأ من الجنوب إلى الشمال بقرية الشبكي فقرية الشّريحي وتبعد عنها نحو1 كلم فقرية رامي 2,5 كلم وغيضة حمايل نحو 2 كلم فالعجيلات 1 كلم فالكسيب 3 كلم وإلى الغرب منها طربا نحو 1 كلم وإلى الشمال منها تيما نحو 3 كلم ودوما نحو 6كلم وعراجة نحو 1 كلم. وقد هوجمت هذه القرى بتوقيت يكاد يكون واحداً فيما عدا قرية الشبكي التي هوجمت بوقت أبكر بقليل حسب أكثر من شاهد نحو الثالثة والربع أو الثالثة والنصف ولعلّ هذا عائد إلى معرفة المهاجمين بالقرية ورغبتهم بقتل عدد أكبر من سكانها ذبحاً بدون إطلاق نار لترويع سكانها وطردهم منها والتمركز فيها على الطريقة التي سبق للصهاينة أن تدبّروها في فلسطين، وفيما يلي سرد لوقائع الاعتداء على القرى.


الشبكي

تقع هذه القرية (1340م فوق سطح البحر)، على حافة الكتف الشرقي للجبل الذي ينحدر بسفح شديد الانحدار باتجاه الشّرق، عدد سكانها حسب دفتر النفوس 1510 نسمة، أمّا المقيمون فيها يوم العدوان الداعشي فيبلغ نحو 400 نسمة، لكون الأغلبية من مواطنيها إمّا مسافر خارج القطر أو هم يسكنون في السويداء أو يعملون في دول الخليج ولبنان وغيرها من المغتربات ومعظم الشبان منهم خارج القرية في المهاجر أو هم يعملون في السويداء لإعالة أسرهم التي تعاني جرّاء تردي الأوضاع المعاشيّة، فالأرض لم تعد تكفي الأسر لتأمين وسائل العيش خصوصاً خلال السنوات الثماني من عمر المحنة السوريّة.

وتطلّ الشبكي من عليائها الجبليّة على بادية شاسعة إلى الشرق منها حيث تمتد لتتصل ببوادي العراق شرقاً وبالبادية السورية التي تصل شمالا إلى نهر الفرات، وأمّا جنوباً فتتصل ببادية الحماد الأردنيّة. وفي الشبكي عُمران قديم يعود لعصور الأنباط والصفائيين قبل الميلاد وبعده بقليل وعصور الرومان والروم البيزنطيين والغساسنة العرب المسيحيين.
أبعاد عمرانها نحو 800 م من الشمال إلى الجنوب، ومثلها من الشرق إلى الغرب وفيها ينتصب شامخاً نُصب على ضريح المجاهد رشيد طليع أحد قادة الثورة السورية الكبرى البارزين عام 1925 إلى جانب سلطان باشا الأطرش.
بدأ الهجوم على القرية نحو الساعة 3,40 فجراً إذ اقتحم الدواعش وسط القرية معتمدين على خبرة سابقة بالمنطقة والتي كانت مَمَرّاً لنشاطاتهم وعلى بعض أدلّاء من البدو المتعاطفين معهم.

العدوان

بدأ تنفيذ الاعتداء يوم الأربعاء في 25 تموز نحو الثالثة والنصف صباحاً إذ هاجموا القرية على شكل صندوق مفتوح قاعدته من الشرق وضلعاه الآخران من الشمال والجنوب، وتراوح عدد المُقتحمين بين 70 و100 من الدواعش المدرّبين على أعمال النحر والقتل والقنص والقتل والقتال بأنواعه، وكان قد اشتد أزرهم في قواعدهم في البادية المحاذية بالدواعش الذين تمّ نقلهم من ريف دمشق إلى بادية السويداء الشرقية قبل أسابيع قليلة من عملية دهم القرى.
من المؤكد أن أعداداً أخرى بقيت منهم كاحتياط في الخلف من المهاجمين لتلقّي الأشخاص المنوي اختطافهم وكإسناد خلفي للمقتحمين.
بدأ الدواعش عدوانهم أوّلاً بالقتل الصامت بدءاً من الحارة الشرقيّة من القرية، كانوا يظنون أنّ ذلك يُخْلي القرية بل المنطقة كلها من السكّان أمامهم.

وقد كانوا بفضل أدلّائهم من رعاة القرية البدو وعددهم ثلاثة وهم أبو بَكر (اسمه صايل الحمّود من بدو بلدة المزرعة أصلاً يعمل راعياً لأغنام وماعز مواطني القرية بالمُحاصصة بينه وبينهم منذ نحو سنتين، قبلها كان صايل يعمل في وظيفة حكوميّة في الإنشاءات العسكرية، ولكنه طُرد من الوظيفة بسبب عملية اختلاس، فانتقل لقرية الشّبكي وسكن في بيت على طرف القرية من جهة الشرق ممّا يلي البادية وكان يعمل في التآمر مع الدواعش والتجسّس على المواطنين) وابنه بَكر وراعٍ آخر اسمه كاين العميرات، وهؤلاء لهم خبرتهم بالمنطقة بحكم كونهم رعاة أغنام وماعز لأهلها، كانوا ينادون على صاحب البيت باسمه وما أن يفتح لهم الباب حتى يبادروه بالقتل نحراً ومن ثم يُجهزوا على بقية أفراد الأسرة في البيت نفسه وقد يتركون طفلاً حيّاً ليروي ما رأى من رُعب لمن بَعده، أو هي ربّما عقيدة ما يتبعونها.
لكنهم وبعد أن فتكوا ببعض البيوت وسحبوا عدداً من الرهائن من النساء والأطفال ودفعوا بهم إلى الخلف لإنجاز عمليّة الاختطاف، حتى رِيع الناس من شرورهم وسَرَت من بعض البيوت التي تنبّه أصحابها لغدرهم اتصالات تحذير من بطشهم فاضطرّوا لإطلاق النار في مواجهة المقاومين لهم وأخذ بعض الذين استيقظوا على هول ما يجري يطلقون عليهم النار.

دور ابناء القرية

كان عدد مسلّحي القرية نحو 30 مسلّحاً، لديهم رشاشان وقناصة واحدة وبعض البواريد الروسية والباقي بواريد تشيكية ذات الـ (طلقة طلقة) وبنادق صيد غير أنّ عدداً منهم استشهد ومن بقي يقاتل لا يتجاوز عددهم الـ 17 شخصاً وغالبيتهم يحملون بواريد تشيكية.. بعضها ملك خاص وآخر للحكومة، كلّ هذا بمقابل سلاح الدواعش الأحدث من البنادق الآلية والرشاشات والقناصات والقنابل والأحزمة الناسفة حيث كان الداعشي عندما يتضايق يفجر نفسه.
مع التنبُّه لما يجري بدأت المقاومة فالاشتباكات، وصار سائر المواطنين يسمعون إطلاق النار في أرجاء القرية.
أمّا في الحارة الغربية من القرية وعندما سُمع إطلاق الرّصاص الكثيف شرق القرية ووسطها، أدرك الأقارب أنّ ذويهم في خطرٍ ما. وأمّا الدواعش فقد ظنُّوا أنهم سيطروا على القرية، إذ كانت تكبيراتهم تتردد أصداؤها بين البيوت وهم يصيحون بالناس: ” الله أكبر، الدّولة الإسلاميّة دخلت القرية، سلموا أسلحتكم أيها الدروز ” ومن ثم يكيلون الشتائم..
وتداخل المشتبكون فيما بينهم وصار القتال من بيت إلى بيت وظلت بعض البيوت تقاوم رغم إحاطة الدواعش بها إلى خط دفاع أخير في البيوت الغربية والجنوبية الغربية من القرية.

خرق من الداخل

كان أبوبكر الذي طالما أكل وشرب واعتاش من خير أهل الشبكي من بين الأدلّاء الذين سهّلوا للدواعش الدخول إلى القرية. وهو قد استعار في الليلة السابقة مصباحا يدويّا (بيل) من جاره الدّرزي لطفي الجباعي بحجّة أن بعض الأشخاص معه يبحثون عن الذّهب والمخبآت الأثرية، وهذه حالة شائعة في البلاد منذ ثمانينيّات القرن الماضي وما سبقها، يتواطأ فيها أخلاط من الناس يتبادلون المنافع من هنا وهناك…
نحو الساعة الثانية من صبيحة يوم العدوان سمعت امرأة لطفي الجباعي صوت جارهم البدوي أبو بكر يتصل على الموبايل بأحدهم ويقول له: أهل القرية نيام وأنتم تستطيعون الدخول، وظنت المرأة على بساطتها بأن المقصود بذلك هم من يبحثون عن الذهب والآثار الدفينة…
عند الثالثة والنّصف صباحاً قَرَع أبو بكر الباب على لطفي جاره، يصحبه عدد من الدواعش ولما تأخّر لطفي بفتح الباب أطلقوا عليه النار عبر الزجاج وقتلوه قبل أن يفتح لهم، عندها أدركت امرأة لطفي بأن خيانة ما حصلت وأنّ العدوان وقع، فاتصلت بثلاثة بيوت في القرية وأبلغتهم أنّ إرهابيين اقتحموا عليهم الدار.
كان الإرهابيون قد توزّعوا في القرية قبل الهجوم بوقت وقد اقتحموها على شكل صندوق مفتوح من جهة الشرق والشمال والجنوب وانتشروا فيها فكانوا يقتحمون البيوت على شكل مجموعات بين ثلاثة أو خمسة مسلّحين وفي البيوت المهمة التي يخشونها بين الـ 10 وال 15 داعشيّاً وهم يصيحون بالتكبير، ويزعقون بأنّ “الدّولة الإسلاميّة احتلّت القرية، سلّموا أسلحتكم…”.

اتّصالات لطلب النّجدة

يفيد أحد الناشطين في المواجهات بقوله: “بدأنا الاتصال بكلّ الغيارى والنّشامى في كثير من القرى، وبمدينة السويداء اتّصلنا بقائد الدفاع الوطني والجهات المعنية في المحافظة، كنّا واثقين من النصر على الهجمة الداعشية لأنّنا على حق ولا نعتدي على أحد وإنّما نَرُدّ الضّيم عن أنفسنا. وقد وصلت فزعة النّشامى (الفزعة: أي التعرّض المعاكس بالمفهوم العسكري) من القرى قرابة الخامسة والنصف صباحاً وبعضهم قبل ذلك، لكنهم لم يقدروا على الدخول عبر مداخل القرية التي سيطر عليها قناصو الدواعش الذين تحكّموا بالحركة داخل القرية ووسطها وعلى مدخلها الشمالي، وسقط لنا شهداء وجرحى نتيجة ذلك. كان عدد من شبان القرية قَدِموا من السويداء ومعهم مَدَد من القرى المجاورة ومن ريف دمشق وبلدة حَضَر في الجولان وقد وصل (الفازعون) إلى مدخل القرية الشّمالي الغربي ودفعوا بالدواعش إلى الخلف شرقاً.

القتال يتواصل داخل القرية

مدخل البلدة بعد دحر الدواعش

داخل القرية كان الرجال الذين صمدوا يقاتلون في ظروف صعبة، في مواجهة القنّاصين المُعادين المتمركزين على السطوح، وصَوْلات القَتَلة المجرمين بأسلحتهم الحديثة وقنابلهم وسكاكينهم على الأرض..
جُرِح ثلاثة أخوة من بيت واحد وهم يقاتلون مُعْتصمين بجدران بيتهم، أحدهم قتل خمسة من الدواعش وشاب آخر تمكن من قتل خمسة آخرين أيضاً.
كان يوجد رامي رشّاش في بيت أحدهم صمد مع مؤازرين له ودافعوا عن القرية ببسالة.
عند الخامسة والنّصف صباحاً تمكّن عدد من شبان القرية وبدعم من المساندة التي قَدِمَت من قرى الجوار ومن السويداء، ومن المشايخ وغيرهم وقرى المقرن القبلي من عرمان وسائر الجبل، تمكّنوا من كسر حدّة الهجمة الداعشية وقد تميز بين المقاتلين بشجاعة فائقة شاب من آل الحلبي، وآخرون بالطبع.
كان الضغط على الدواعش قد أجبرهم على التقهقر إلى القسم الشمالي الغربي من القرية ثم إلى الشرق منها، رغم خَشيتهم من التّراجع شَرَقاً لأنّ التضاريس عندها لن تكون في صالحهم، ولكنّ فزعة القرى دفعت بهم للتراجع قسراً مع اتّجاه السفح المنحدر، وكان يحمي انسحابهم بعض القناصين منهم الذين صمدوا على السطوح وهم الذين أوقعوا المزيد من الشهداء والجرحى في صفوف الموحّدين.
كانت الساعة قد بلغت الحادية عشرة ظهراً، ولكن بعض البيوت في الجانب الشرقي من القرية وهي المشرفة على الطّرق الذاهبة إلى عمق البادية ظلت بيد الدواعش ويخرج منها رصاص القنص بغزارة من رشاشاتهم بهدف إعاقة حركة من يندفع لإنقاذ المخطوفين. كانت مواقعهم تلك تتيح لهم عرقلة الملاحِقِين، ولكن ضغط التعرض المعاكس (الفزعة) أحاط بهم فقُتِل من قُتِل منهم، وفَجَّر أنفسَهم آخرون.

لكنّ الخاطفين كانوا قد ابتعدوا باتجاه الشّرق بالمخطوفين الذين أسروهم منذ دقائق المفاجأة الأولى في الصّباح الباكر هاربين بهم عبر وديان وتضاريس صعبة وكهوف ومغاور يسهل الاختباء فيها والمناورة عبرها لتضليل الملاحِقين لهم ولم يكن من الممكن التحرك خلفهم إلّا بعد تحرير القرية التي سيطروا على سطوحها خلال النّصف الأول من النهار وهذا أتاح لهم الانطلاق بعيداً بالمخطوفين باتجاه قواعدهم وبيئتهم البدوية الحاضنة.
استمرَّ القتال في القرية حتى الساعة الخامسة والنّصف عصراً، فقد كانت الجيوب والمغاور التي تمركز فيها القناصة الانتحاريون خِفيَة لمراقبة طرق البادية شرقاً ليحولوا دون ملاحقة الخاطفين، ذلك بعد إزاحة أو قتل الذين سبق لهم أن تمركزوا على السطوح…
بلغ عدد شهداء القرية 60 من الرجال والنساء والأطفال و30 من المخطوفين.
أمّا الشهداء من الفازعين فعددهم 32 شهيداً من الرجال …
كانت تقديرات قتلى الإرهابيين لا تقلّ عن ال 55 إرهابياً وصل منهم إلى مشفيي السويداء وسالة 38 جثة، وتمكن الإرهابيون الخلفيّون من سحب نحو 15 جثة إلى قواعدهم في البادية التي يتمركزون فيها…


الشّريحي

تقع قرية الشريحي على خط المواجهة مع الدّواعش المتمركزين في البادية شرقي الجبل وعلى تخوم القرى، وهم الذين اتخذوا من بادية السويداء قاعدة لهم للعدوان على قرى الجبل الشرقيّة، والشريحي قرية قديمة تعود بعمرانها لما قبل الميلاد، غير أنّها خَرُبت فيما بعد الفتح العربي الإسلامي، وظلت كذلك إلى أن تمّ إعمارها على يد الموحدين الدروز الذين قدموا من لبنان في أواخر القرن التاسع عشر بسبب القلاقل التي واجهوها مع الشّهابييّن المدعومين من قبل الفرنسييّن والمرتكزين إلى التواطؤ العثماني خلال القرن التاسع عشر وما قبله .

تتموضع القرية الأولى على تلّ فيه مغاور طبيعيّة وبيوت قديمة وبركة ماء بقربها خرائب قديمة إلى الشمال من قرية الشبكي على مسافة أقل من 2 كلم منها، ويبلغ عدد سكان الشريحي على دفتر النفوس نحو 1400 نسمة تقريباً (المتواجد منهم في القرية يوم العدوان الداعشي نحو 800 نسمة).
ترتفع الشريحي 1450 متراً فوق سطح البحر، وتشرف من مرتفعها على بادية الحماد والصفا إلى الشرق منها وقد تداخل عمرانها القديم مع الحديث بأبعاد نحو 500 م من الشرق إلى الغرب ومثلها من الجنوب إلى الشمال.
يزرع سكانها القمح والشّعير وهي زراعة معيشية لا تسدّ حاجة الاكتفاء الذاتي لمواطنيها الذين يهتمّون بتربية الماشية من ماعز وأغنام، ويهاجر العديد شبّانها إلى دول الخليج ولبنان وغيرها من المُغتربات..
هاجم الدواعش القرية يوم الأربعاء في 25 تمّوز نحو الرابعة صباحاً عبر ثلاثة محاور رئيسة من الشرق والجنوب الشرقي ومن الشمال، وحاولوا التمدّد إلى جهة الشمال الغربي، ويقدّر عددهم نحو خمسين مقاتلاً.
يقول شاهد عيان “أتَوْنا مُشاة، ولكن ورد في شهادات من القرى المجاورة أنهم أتَوْا بسيارات تمّ ركنُها عند حدود القرية وقد هاجموا بثقة توحي بأنهم واثقون بقوّتهم”، أمّا عناصر الدّعم والإسناد الخلفي فلا يمكننا تقدير أعدادهم.

الهجوم الغادر

في رواية شاهد عيان يقول: “صَحَوْنا الساعة 4 و10دقائق على إطلاق نار كثيف وتكبيرات تقول “أتتكم الدولة الإسلامية “، “الدولة الإسلامية تتمدّد، الله أكبر سلّموا أنفسكم “، لم نكن نتوقع أو يخطر لنا على بال هجوماً كهذا الذي حصل، فنحن نعلم أنّهم موجودون في البادية القريبة والبعيدة شرقاً باتجاه قاعدة التنف الأمريكية، غير أنهم أصبحوا أقوى عندما تمّ ترحيل الإرهابيين من الحجر الأسود وريف ودمشق ومع تسرّب من ريف درعا نحو بادية السويداء إلى الشرق منّا”.
كنّا ما يقارب المائة والثلاثين شابّاً تقريباً وكلٌّ منّا هبَّ لمواجهتهم من تلقاء نفسه بسلاحه المتوفّر. تسعون منّا يحملون السّلاح منها 80 بارودة روسيّة و4 تشيكية، كان سلاحنا بنسبة 90% منه ملك خاص اشتريناه على حساب لقمة عيشنا وعيش أطفالنا، و10% من الدفاع الوطني، وكان الله معنا.

عنصر المفاجأة منحهم ميزة مؤقتة ضدّنا

ساعد عنصر المفاجأة والتوقيت المدروس الذي اختاره الدواعش للهجوم علينا في سيطرتهم على قسم هام من القرية بادئ الأمر، ففي الجنوب الشرقي من القرية سمعنا تكبيرات التكفيريين. توجّهتُ وشاب معي بخفّة نحوهم باتجاه الشمال، كانت أصواتهم قريبة منّا وكانت مجموعة منهم في طريقنا متمركزة وسط الشارع وبين البيوت وفاجأناهم واشتبكنا معهم نحو ثلث ساعة فانسحبوا باتجاه وسط القرية إلى الشمال من موقع الاشتباك.
كنّا نشتبك معتمدين على سماع ورؤية مصدر إطلاق النار لكونهم باشروا الاعتداء في الفترة التي يَغرُب فيها القمر؛ حيث تسود ظلمة قبيل الفجر ولكنّه قبل وصولهم حارتنا في الجنوب الغربي من القرية، كانوا قد قتلوا كلّ من خرج من باب بيته إذ هم يمتلكون أسلحة أحدث من أسلحتنا وأجهزة رؤية ومناظير ليليّة، وتجهيزهم هذا مكّنهم من السّيطرة على نصف القرية بادئ الأمر. وبسبب من عنصر المفاجأة الذي توفّر لهم فقد تجوّلوا بين البيوت والناس نيام، لكنّهم لم يتمكّنوا من احتلال أي بيت أي بيت سوى بيت واحد شمال القرية؛ هو بيت وليد صعب، حيث قتلوا الأسرة كلّها وتمركز قنّاص منهم على سطح البيت. ولم تَسْلَم البيوت التي تجوّلوا بينها من التخريب من الخارج، إذ قاموا بتكسير زجاج النوافذ، ورمي القنابل لتنفجر داخل البيوت على الأسر النائمة، حيث قُتل في أحد البيوت الأب فوزي صعب وزوجته مها صعب وطفلتاهما… كان واضحا أنهم يريدون إرعاب السكان وتطفيشهم والحلول محلّهم كما فعلوا سابقاً في الرّقة والموصل وغيرها من مناطق عَيثهم وتخريبهم..

الفزعة (التعرّض المعاكس)

بدأت عناصر الفزعة تصل إلينا تباعاً من القرى المجاورة أوّلاً ومنذ الساعة السابعة وصل إلينا شُبّان من قرية مجادل التي تبعد منّا إلى الشمال نحو خمسين كيلومتراً ووصل إلينا فيما بعد شبّان من بلدة حضر في الجولان ومن قرية طربا القريبة، ومشايخ وغيرهم من الفازعين من شتّى مناطق المحافظة، وفي ذلك الوقت كان الدواعش يخوضون معركة يائسة داخل القرية فقد تمكّن رجالنا من الإحاطة بهم، وتمّ حصرُهم وقاوموا إلى أن قُتلوا جميعهم”، “وجدنا في جيوب عدد منهم حبوب الهلوسة الفارغة وشيفرة للتواصل بينهم، وأجهزة اتصال حديثة “مترولّا” وغنمنا أسلحتهم التي كانت معهم ووجدنا بحوزة بعضهم علبة مياه شرب مع قنينة عصير وكيس أندومي وَوُجِدَت بعض الإبر (الحقن الطبيّة) المخدّرة وقد أدركنا الغاية منها، لأننا كنّا عندما نرمي عليهم لم يتأثروا بخرق الرصاص لأجسادهم إلا إذا كانت الإصابة بالرأس أو بمكان قاتل فيقع أحدهم ميتاً، ولم نجد أسماءً ولا أوراقاً ثبوتية في جيوب القتلى، أمّا من فقد حيلته بالهرب من الدواعش الذين اقتحموا القرية وأُحيط به فقد قام بتفجير نفسه..”.
وقد فشل الدواعش في عمليّات اقتحامهم البيوت في الشريحي، و “ذكرت مصادر عبر النت أن الدّواعش فشلوا في قرية الشريحي وهم يتوعدون لها في المستقبل شرّاً”.

مواجهات وجهاً لوجه

“كانت المواجهات تحدث وجها لوجه في بعض الأحيان، ففي شمال القرية كان قنّاص داعشي يتمركز مُحتمياً وراء حائط من الحجارة وأدرك أحد شبّاننا ذلك فمشى نحوه ولم يتمكّن القناص من إصابته إلى أن تواجها فكانت الطّلقة القاتلة من الشاب الصديق فوقع الداعشي ميتاً.. “.
أحد مقاتلي الضّيعة استُشهد كلّ أفراد أسرته وأصيب بكتفه وظل يقاومهم. صعد إلى السطح وقتل ثلاثة من الدواعش.
وفي بيت وليد صعب الذي تمكّن الدّواعش من اقتحامه وتمركزوا فيه؛ تمكّن أحد شبان المشايخ من حصارهم نحو ساعة ونصف الساعة، لكن الشيخ لم يُطِق صبراً فمشى هاجماً نحوهم، وأثناء تبادل إطلاق النار تمكّن من إصابة جرّة غاز في البيت فانفجرت؛ فاضطرّوا من شدة اللّهب إلى الخروج من البيت حيث كان رجالنا لهم بالمرصاد..
بلغ عدد شهداء قرية الشريحي 37 شهيداً من مختلف الأعمار في الهجوم الغادر،.
وقد انتهت المعركة في الثانية عشرة ظهراً، وقتل من الدواعش نحو خمسين قتيلاً إذ لم يخرج أحدٌ حياً منهم من قريتنا. وكان آخرهم قناصَيْن تمركز أحدهما في خزان ماء بلاستك فارغ على أحد السطوح وأخر خلف رجم من الحجارة تمّ الإجهاز عليهما وقتلهما.
وتجري الآن عملية حراسة جادّة ومنظّمة لكيلا يتكرّر العدوان، كما تقوم وحدات من الجيش السوري بملاحقتهم في القواعد التي انطلقوا منها في البادية السورية مدعومين بالطيران الحربي السوري الذي يقصف تجمّعات الدواعش أينما وُجِدوا.


رامي

كانت رامي قرية خَرِبَة قبل أن سكنها الدروز القادمون من لبنان على أثر الحرب الأهلية في عام 1860 وهي قرية أثريّة قديمة العمران تتبع لناحية المشنف، فيها مغاور وبيوت قديمة مسكونة ومُحَوَّرة، وهي القرية رقم 3 التي استهدفها العدوان الدّاعشي على خط النار الشرقي من الجبل من جهة الجنوب بالنّسبة إلى قرية الشبكي، وهي واحدة من قرى القِمَم الشرقية العالية من الجبل إذ يبلغ ارتفاعها 1490 متراً فوق مستوى سطح البحر، وعدد نفوسها المسجلون فيها 2510 نسمة. وقد توسّع عمران رامي عمّا كانت عليه القرية الأثريّة الأولى بحيث امتدّت على شكل مستطيل أبعاده 1000×1500م على جانبي الطريق العام الذي يحزم قرى الجبل الشرقية من ملح جنوباً حتى الرّضيمة الشرقيّة شمالاً.

رامي يوم العدوان الدّاعشي

المقيمون في القرية نحو 1000نسمة يوم العدوان، ويُعزى هذا الفارق الكبير إلى هجرة الأيدي العاملة المزمنة من المحافظة إلى دول الخليج وأولاها الكويت، والمغتربات الأخرى، واختيار العديد من الأسر سكنى السويداء. ويزرع المقيمون من السكان القمح والشعير والحمّص… ويربّون الماشية بالمشاركة مع البدو.
روى شهود عيان أنّهم رأوا ظهر يوم الثلاثاء أي يوم 24 تموز 2018، قبل الهجوم بيوم ثلاث شحّاذات (يعملن بالتبصير) جُلْنَ في وسط القرية ويُعتقد أنّه كان لهنَّ صلة بالرّصد والتجسّس تمهيداً للهجوم الذي جرى في اليوم التالي.
ويرجّح أحد شهود العيان قدوم المعتدين من منطقة الصّفا والرحبة والزلف القريبة من الحدود الأردنية ومنطقة الكراع ولحف الهرميّة والهبّارية التي تبعد عن رامي نحو 50 إلى 60 كلم وهي عبارة عن أراضٍ ووعور بركانية ومعاصٍ يسهل الاختباء بها، هذا فضلاً عن تواجدهم في مواقع قريبة من القرى التي استهدفها العدوان في بيئتهم البدوية الحاضنة لهم والتي كانت تتعاطى التهريب بمختلف أنواعه بالتعاون مع مهرّبين من القرى المُعتدى عليها بالذّات، وقد عرفنا من أوراق وُجدت في جيب أحد قتلاهم أنّه قدم من مخيّم اليرموك جنوب دمشق.
بدأ هجوم الدواعش نحو الرّابعة والنصف صباحاً من فجر 25 تموز ويقدر عدد المهاجمين نحو 25 داعشياً اقتحموا البيوت الواقعة في الجهة الشرقية من القرية تحت جنح غبش الفجر، على الرغم من أنّ مجموعة عناصر مراقبة كان على أفرادها أن يكونوا متواجدين في مركز حراسة على مسافة 1 كلم شرق القرية لكن عناصر تلك المجموعة لم يكونوا متواجدين ليلتها بسبب الإهمال وعدم توقّع مثل ذلك العدوان وبسبب الشعور بالأمن والاطمئنان الوهمي لتوفّر الحماية، رغم ورود تحذيرات صديقة من خطر وشيك…
يضاف إلى ذلك أنّ بعض المُزارعين كانوا متواجدين نياماً على بعض البيادر لحراسة محاصيلهم وهم مطمئنون..

الدواعش يقتحمون

بداية؛ قامت مجموعة من 10 دواعش باقتحام منزل منصور مهاوش مقلد، (وهو رجل وامرأته متقدمان في السن)، عن طريق كسر الزجاج وخلعهم الباب وأثناء دخولهم ذاك رنّ جرس التّلفون فتناول أحد الدواعش السماعة ورد على المتصل على الجانب الآخر من الخط وكان شخص اسمه لؤي حمد مقلد، قال له الداعشي بصلف: “معك الدولة الإسلامية (وْلا) حيوان، سلّموا القرية أو سنقتلهما ونقتلكم كلّكم” وأقفل الخط. لكنّ لعلعة الرّصاص من جانب مقاومي القرية كانت قد أخذت تتزايد من حول المنزل ،فاضطرّوا لأن يطلقوا سراح المرأة بعد أن طلبوا منها أن تُبلغ الناس أن لا شيء خطراً، وذلك تمويهاً منهم ليتسنّى لهم الانتشار والتّمركز في القرية، واتّخذوا من الرجل رهينة لديهم بعد أن أشبعوه ضرباً ومن ثم اتّخذوا منه درعاً بشريّة يحتمون به من مقاومي القرية الذين أخذوا يشددون الحصار عليهم، ولكن عندما أخذت مقاومة رجال القرية تتزايد بشكل لم يتوقعوه، ودارت الاشتباكات عنيفة، (يرجّح بعضهم أنّ عدد المهاجمين كان نحو الـ 50 داعشيّاً وليست لدينا معلومات عن عدد عناصر الإسناد الخلفيّة لهم) قُتِل أربعة منهم في باحة الدار، وآخر فجّر نفسه مخافة أن يؤسر عندما حوصر، وخمسة آخرون حاولوا الفرار إلى الدار المجاورة فانشغلوا عن الرجل المُحتجَز الذي وجد فرصته في الإفلات منهم، وأمّا هم فقد هلكوا جميعاً قتلاً في مواجهات دامية لم تكن في حسبانهم.

في التوقيت الصِّفري للهجوم قامت مجموعة أُخرى بالدّخول إلى أحد المنازل المتطرّفة وقتل الأبرياء، وفي غمرة ذلك كان قد علم بعض شبّان القرية بوجود هجوم في القرى المجاورة فقاموا بإطلاق النار في الهواء تحذيراً لإيقاظ السكان وعندها تفاقمت المعركة ووصلت الفزعة بعد نحو ساعة من بدء الهجوم تقريباً نحو السادسة أو قبلها بقليل.
وعموماً فقد كان الهجوم مفاجئاً للسكّان الغافلين الذين لم يتوقعوه، رغم تحذير البعض من السلوك المشبوه لبعض العابرين للقرية أو الداخلين إليها، بل جرت محاولة اغتيال لأحد مسؤولي الدفاع الوطني من أبناء المنطقة لأنه نبّه مسبقاً إلى تحرّكات بعض المهرّبين المشبوهة.
كان السلاح المُستخدَم بأيدي مقاومي العدوان في رامي نحو 15بندقية من قِبَل الدفاع المدني و5 بنادق ملك خاص هذا في بدء الاشتباك وفيما بعد وصل عدد المشاركين في القتال من أهل الفزعة وأهل القرية إلى أكثر من 50 مسلّحا ممّن قدموا من القرى المجاورة ومن مختلف قرى الجبل ومن جرمانا في ريف دمشق والجولان.
يقول شاهد عيان: “إحدى مجموعاتهم دخلت أحد البيوت وقتلت فرنجية مقلد وولديها راشد وراما، وأظن أنّ لديهم أدلّاء من البدو ولكنّني لم أعرف أحداً منهم وقد يكونون أوصلوهم ونأوا بأنفسهم بعدها، لأنّ حركة المهاجمين في القرية تدلّ على خبرة بها، وهم قد دخلوا الجهة الشرقية من القرية وهي الجهة التي تلي البادية الشرقية ثم عادت وانتشرت في أماكن قنص مشرفة تكشف لهم مقاتلينا على الطريق وما حوله”.

فارق الأسلحة والتّدريب كان لصالح الدواعش

كانت أسلحة الدواعش قنّاصات مُتَطوّرة 5,5 مم ، ورشاشات وبنادق رشاشة وقنابل ومناظير ليليّة وأحزمة ناسفة، ويقال أنّه شوهدت سيارة تابعة لهم، نوع تويوتا سوداء غادرت من شرق القرية أثناء الاشتباك باتجاه البادية.

مُعظم الشهداء كانت لهم مواقف خارقة منهم سجيع مقلد ورأفت وأيمن ورواد مقلد والفتى دانيال مقلد الذي أنقذ أهله، فعندما أحسّ بقدوم الدواعش تناول بندقية آلية كانت لوالده وصعد صحبة جاره شاكر مقلد إلى سطح المنزل، وقاما بإطلاق النار على الدواعش ومع الاشتباك أصيب شاكر الذي اضطرّ للنزول من على السطح وبقي دانيال يقاتل الدواعش وحده، وقيل أنّ ثلاثة من الدواعش قُتلوا بنتيجة المواجهة تلك إلى أن صعد إليه الإرهابيون وأجهزوا عليه انتقاماً منه.
ولم يقدر الدواعش على خطف أحد من أهالي رامي، كما أنّ الوقت وتتابع الفزعات لم يمكّنهم من الاستمهال وممارسة الذّبح والخطف كما فعلوا في الشّبكي مثلاً.
يقول شاهد عيان: “كان هدفهم الاحتلال والخطف والتّرحيل؛ لكنّهم فوجئوا بمقاومة شبابنا الذين امتصّوا هجومهم وحاصروهم. وهكذا فقد لقي بعضهم مصرعه وفجّر الآخرون منهم أنفسهم عندما حوصروا وبقيت جثث 17 قتيلاً منهم مُلقاة في المواقع التي قُتلوا فيها نُقلت فيما بعد إلى مشفى السويداء.
كان واضحاً أنّ المعتدين يمتلكون خبرة وممارسة قتاليّة كبيرة، إذ تميّزوا بمهارتهم وقدرتهم على المناورة ولا بدّ أنّ تلك المهارات العالية هي نتاج تدريب مستمرّ، ولولا بسالة رجالنا ومقاومتهم لعاثوا فسادا في القرية واحتلوها.
كان عدد الشبان المسلّحين من القرية نحو الـ 20 مقاتلاً في بدء المواجهة قبل وصول الفزعات، وقد قتل المعتدون السكّان الأبرياء فبلغ عدد الشّهداء 20 شهيداً وشهيدة كلّهم من آل مقلد، وقد استشهد 7 شهداء آخرون من الفزعة.
استغرق القتال حتى تمّ طرد الدواعش من القرية نحو الـ 5 ساعات، ويُروى أنّه شوهدت بحوزة أحد قتلاهم وثيقة تشير لمخطّط احتلال تكون قرية الشّبكي مركزاً لإمارتهم الداعشيّة، وقرية رامي مركزاً للتّشريع، وقرية الغيضة مركزاً للتّحقيق والسَّجن. وقد كانت لديهم قوّة من عناصر دعم خلفيّة في مؤخرة هجومهم ولكن عنف مقاومة الأهلين والحشود التي فزعت من القرى أجبرتهم على الانسحاب والتراجع تجنُّباً للأسوأ.
كان في القرية نحو عشرة من البدو المسالمين الرّعاة للمواشي وكانوا على كثير من الود مع أهالي القرية واستمروا كذلك.
وبعد العدوان تمّ تنظيم الحراسة على شكل مجموعات بأكثر من 10 نقاط حراسة حول القرية.


غيضة حمايل

تقع هذه القرية إلى الشّمال الشّرقي من رامي على مسافة نحو 1 كلم منها، وإلى جانبها في قعر وادي الشام نبع ماء عذب يُدعى “عين القنطرة” كانت تُسقى منه القرية، ويعني اسم “الغيضة”، أجمة الشجر الكثيف الملتف على بعضه البعض ونُسِبت القرية لآل حمايل الذين اتخذوا منها موطناً، ويبلغ ارتفاعها 1437 متراً فوق سطح البحر، والقرية عبارة عن حارتين يفصل بينهما وادي الشام العميق، ولكنهما تُعتبران قرية واحدة، وكانت الحارة الجنوبية من القرية الأكثر تعرّضاً للعدوان.

يبلغ عدد سكان القرية بحارتيها 556 نسمة (المتواجدون منهم يوم الهجوم نحو 170 نسمة، بسبب ظروف الاغتراب والهجرة والسكن في السويداء) وعمرانها وآثارها قديمة تعود لما قبل الميلاد وبعده في العصر الروماني والبيزنطي وتحتاج إلى دراسة. مساكنها القديمة من حجر البازلت ويزرع سكانها القمح والشّعير والحمّص والأشجار المثمرة ويهتمون بتربية الماشية. أمّا القرية الحديثة فقد بُنيت على المرتفع الجبلي على جانبي الوادي المسمّى بـ وادي الشام الذي يتجه شرقاً ويفصل بين حارتين متقابلتين وبعمران يمتد بشكل بطول 1000م × 200م، وقد سكنها آل حمايل الموحدين الذين نزحوا امن راشيا الوادي في لبنان في أعقاب منتصف القرن التاسع عشر عام 1860 إلى جبل حوران ونزلوا بادئ الأمر في قرية أم رواق ثم انتقلوا بعدها إلى خربة الغيضة فأحيوا موات القرية التي كانت خربة مهجورة، وأقاموا فيها حياة زراعية حضرية نحو عام 1890بعد أن كانت المنطقة خربة مهجورة، وتُعرف بمغاورها الكبيرة.

العدوان الدّاعشي على الغيضة الجنوبيّة

هي قرية واحدة يشقّها وادٍ عميق إلى حارتين، يقول شاهد عيان إنّ الهجوم بدأ نحو الساعة الرابعة والنّصف صباحاً من جهة الجنوب الشرقيّ على شكل قوس نصف دائرة وكان المعتدون يكبّرون بصيحات دولة الدواعش ويزعقون بالناس باستكبار: سلّموا أنفسكم. كانوا أكثر من ثلاثين داعشياً مسلحين بالأسلحة الحديثة من بنادق ورشاشات وكنّا نحن مقاتلي القرية ثمانية وكان عند الهجوم منا 3 شباب مستيقظين يقومون بجولة في القرية أقرب إلى جهة الشمال وقد ساعدهم الله فتمكّنوا من الصعود إلى السطوح قبل أن يسبقهم الدواعش الذين بدأوا بمهاجمة البيوت التي فيها شباب، ممّا دل على وجود أدلّاء بدو بينهم يَعرفون السكّان، وعندما استلم شبابنا مواقعهم على السطوح منعناهم من استلام مواقع مهمّة، كان سلاحنا روسيّاً؛ بنادق كلاشينكوف فقط، أمّا هم فكانت أسلحتهم أكثر تطوراً وغزارة نيران، ومعهم قناصات أمريكيّة ورشاشات وقنابل وأحزمة ناسفة ومناظير ليليّة…

شهادات المقاتلين

روى أحد المقاتلين: “نهضنا صباحاً على لعلعة الرصاص. طَوَّق بيتي نحو ثمانية دواعش، بيتي طابق أرضي (قوّسوا) علينا من الشّبابيك، ولمّا عجزوا عن اقتحام البيت أخذوا يرمون القنابل، كانت زوجتي النّفساء تعبّئ لي المخازن بالخرطوش أما ابنتي وعمرها 14 سنة فكانت تتّصل بالأهل والأصدقاء وتستنجد (تُفَزّع) أيّ شخص تجد اسمه في دليل الهاتف، وعندي طفلة مُعاقة كانت تضع كتاب الله في حجرها وترفع يدها مشيرة إلى السماء تدعو الله تعالى أن يرفع هذه الغمّة عنا.

مواجهات تجري بين البيوت

الشاب علاء حمايل حمى أمّه وقتل ثلاثة من الدواعش؛ منهم اثنان على باب بيته، لكنهم مع حقدهم المسعور أحرقوا البيت، غير أنّه سحب أهله إلى السطح وتمّ إنقاذهم لكنّه قضى شهيداً في المعركة.

في تلك المواجهات كان عدد مقاتلينا المسلّحين ثمانية فقط، 4 سبق لهم أن خدموا في الجيش وأربعة لم يسبق لهم ذلك، ولكن الجميع أبدوا شجاعة منقطعة النّظير في مواجهة المعتدين، وعثرنا على ألغام زرعوها أثناء هروبهم، قتلنا منهم ثمانية .
ولما ضاق الحال بالباقين هربوا إلى الوعور الشرقية في البادية عبر الوادي العميق باتجاه الشرق، ووجدنا بطريق هروبهم معدّات إسعاف وقناني ماء. جمعنا ثمانية جثث ورأيناهم يسحبون الجرحى، ولا ندري إن كان من قتلى بينهم، ووجدنا بطاقات هويّة تشير إلى أنّ بعضهم قَدِمَ من الحجر الأسود، ومن مُخَيّم اليرموك. كان القتال قد استمرّ حتى العاشرة صباحاً حيث كنّا قد حسمنا المعركة بهزيمتهم.
استشهد منّا ثمانية شهداء، و5 جرحى وكانت مواقف شجاعة من كافة مقاتلينا على قلّة عددهم؛ فشبابنا مغتربون في الخليج ولبنان وغيرها من بلدان الاغتراب، ولم يكن الدواعش يتوقّعون المقاومة التي واجهوها في الغيضة، وممّا ساعدنا على كشف تحرّكاتهم المسافات المتباعدة بين البيوت، وهذا عنصر أثّر في إفشال الهجوم علينا، بالإضافة إلى أثر الفزعات المتتابعة التي قطعت آمال الدواعش بإحراز أي مكسب كانوا يهدفون إليه.

العدوان على الحارة الشّماليّة من قرية الغيضة

تنبّه أهل الحارة الشمالية على قلّتهم لهجمة الدّواعش على أثر اشتباك جرى بين عناصر نقطة الدفاع الوطني المكلّفة بحماية آبار الماء شرقي القرية فكانوا حذرين، وأخذوا متاريسهم المناسبة لحماية حارتهم المفصولة عن الحارة الجنوبية بالوادي العميق، ولم يستطع الدواعش الدخول إلى الحارة الشمالية التي أخذ مسلّحوها يطلقون النار عليهم من مواقعهم المرتفعة فلاذوا بالفرار. ومن البطولات التي حصلت في القرية أنّ اثنين من الأخوة من آل حمايل تمترسوا على سطح بيتهم ذي الطابقين أطلقوا أكثر من 2500 رصاصة على الدواعش الذين كانوا يحاولون اقتحام قريتهم فصدّوهم عنها خائبين، لكنّ بيتهم لم يسلم شبر واحد من جدرانه من رصاص الدواعش وقذائفهم… ومن الجدير ذكره أنه لم يسقط شهداء من سكّان الحارة الشماليّة.

دور العديد من البدو المتعاونين

لم يكن معظم البدو عنصراً محايداً فقد وُجدت على أثر التفتيش مع أحد أفراد البدو وهم راحلون على أحد الحواجز خريطة يد تبين مواقع التلول والطرق الترابية والمعبدة وعلامات مميّزة من مزارع ومداخل ومخارج القرى من دوما وطربا ورامي والشريحي والشبكي… وقد تمّ تسليم البدوي مع الخريطة في موقع شهبا.
ومع كلّ التجاوزات التي جرت من جانب بعض البدو المتعاونين مع الدواعش وما نتج عن كل ذلك من تقتيل بحق المواطنين فلا يوجد موقف عام عدائي ضدّهم في مجتمع محافظة السويداء، وبخاصة أن بدوا آخرين كانت مواقفهم وطنية وتحفظ حق الجيرة والخبز والملح، وهذا يدل على تسامح المجتمع وتعاليه على القتل والغدر.
وأخيراً نجح مقاتلو الغيضة في دحر الدّواعش عن قريتهم، ولكنهم لم يزالوا حذرين ساهرين على تنظيم حماية الغيضة والحفاظ على أمنها ليلاً ونهاراً لكيلا تتكرّر المحنة التي عبرت.


العجيلات

تقع قرية العجيلات على خط النار الشرقي للقرى المنكوبة بالعدوان الدّاعشي وتتبع لناحية المشنّف؛ وقد بُنيت القرية الأولى على قِمّة تلٍّ عالٍ، وحالياً ينتشر العمران الإسمنتي الحديث على السفح الجنوبي والغربي للتلّ الذي هو عبارة عن مخروط بركاني مرتفع (1560م فوق سطح البحر) شديد الانحدار من جهتي الشرق والشمال بين وادي أبو زرير من الغرب ومسيل الخِنْفَة من الشمال ووادي برعور من الجنوب وتلتقي هذه الأودية إلى الشرق من التل. سكانها نحو 1504 نسمة وفيها كهوف صفائية قديمة وآثار رومانية ويبدو أنها خربت لقرون مديدة إلى أن أعيد أعمارها على أيدي الموحّدين الدروز نحو أواسط القرن التاسع عشر على أثر نزوحهم القسري من لبنان.

يزرع أهلها القمح والشّعير والحمّص ذا النّكهة المميّزة المشهور باسمها “حمّص العجيلات” بالإضافة إلى تربية المواشي بالمشاركة مع البدو قبل العدوان، لكنّ مصدر الدّخل الرّئيس هو الهجرة والعمل في لبنان والخليج وغيرها من بلدان الاغتراب وتقيم أسر عديدة في السويداء لذا فإنّ عدد سكان القرية يوم الهجوم لم يكن ليتجاوز الـ 700 نسمة وهذا الفارق الكبير في عدد السكان من شأنه أن يضعف القدرة الدفاعية للمجتمع في حال تعرّضه للعدوان كما جرى.. إذ إنّ الذين شاركوا في القتال والفزعة من العجيلات هم في حدود الـ 60 مسلّحاً.

يقظة أهل القرية حَمتها من العدوان

لم يستطع الدواعش أن يصلوا في عدوانهم إلى قرية العجيلات، وكان ذلك بسبب يقظة أهل القرية وتحفّظ معظمهم عن التعامل التجاري والتهريب مع الدواعش، هذا بالإضافة لدور نقطة المراقبة التابعة للدّفاع المدني المتقدّمة إلى الشرق من القرية باتجاه خربة الدّياثة، ولأداء مقاتليها المميّز وصمودهم الأسطوري في صد الهجوم الداعشي.
كانت نقطة الدّفاع الوطني (نقطة العجيلات ـ الدّياثة) في موقع يُدعى بـ “الحريق” وتبعد شرقاً عن العجيلات 5 كلم، و2 كلم عن خربة الدِّياثة شرقيّها، حيث لم يتهاون عناصرها بالمراقبة، وكان يقودها قائد يقظ من أبناء المنطقة، كان قد عمل على تحذير القرى من خطر وشيك قبل يوم العدوان بعشرة أيام، وقبلها فعل الأمر نفسه في شهر حزيران 2018. يقول شاهد عيان: ” كان الدواعش حينذاك قد حاولوا التقدّم من جهة البادية باتّجاه قرى الموحّدين وتمركزوا شمال الدّياثة بنحو 3 كلم (الدياثة خربة تبعد عن العجيلات نحو 7 كلم وكان الدواعش يعتبرونها ضمن حدود دولتهم الإسلامية المزعومة) تظاهروا بادئ الأمر أنهم رعاة أغنام، “لكنّنا أدركنا أنّهم دواعش بامتياز وتعاملنا معهم آنذاك بالرمايات من السلاح المتوفّر لدينا. وفي واقع الحال لم تكن من سيطرة فعليّة محقّقة على أبعد من 3 كلم شرق قرى الأهالي التي تمّ العدوان عليها. أمّا اليوم وبعد المذبحة فقد صارت الدولة تطاردهم بقواتها وطيرانها بعيداً إلى الشرق، لكن انتشارهم وضبط تحرّكاتهم عبر أراضٍ شديدة الوعورة يصعب اجتثاثه ما لم تُرْدَم الآبار الموجودة في البادية وتُجرف المغاور التي يتّخذون منها مستودعات لأسلحتهم وقواعد لكمائنهم بهدف منع تكرار عدوانهم على القرى”.

شاهد عيان يروي وقائع المعركة

يقول أحدهم: “وصلنا خبر الساعة الثالثة صباحاً من صديق بدوي أنهم سيهجمون علينا (قبل ساعة من موعد الهجوم تقريباً).
وقد هاجمونا نحو الساعة الرابعة وعشر دقائق، من أربعة محاور من جميع الاتّجاهات بعدد نحو 50 داعشيّاً مهاجماً وأما العناصر الخلفيّة المساندة لهم فلا نستطيع تقدير أعدادهم، فهم كانوا يتأهّبون للسيطرة على قرانا متى أُتيح لهم ذلك…
كان المهاجمون يكبّرون صارخين ” جاءتكم الدولة الإسلاميّة، سلّموا أنفسكم يا كفار… ومفردات كثيرة بذيئة ومماثلة” كنّا نردّ عليهم “نحن أحفاد سلطان يا كلاب”.
كان عددنا في مركز المراقبة 27 مقاتلا. في المرحلة الأولى من الهجوم هاجمونا وكان معهم 6 سيارات نقل عناصر وثلاث سيّارات قتال حربيّة واستخدموا ضدّنا رمايات نارية غزيرة من أسلحة مختلفة منها الـ bkc والرشّاشات 14,5، عدد2، والمدفع الرشاش 23 عدد 1، وقنّاصة 12,7عدد3 والآخرون كانوا يستخدمون ضدّنا البنادق الآليّة. هاجمونا أوّلاً من جهة الشرق قبل أن يعملوا على محاولة الالتفاف حولنا.
استخدموا في هجومهم علينا ما يُدعى بأسلوب هجوم العقرب، أي عبارة عن رمايات غزيرة من الرّشاشات المتوسطة كتغطية نارية كثيفة بحيث يتمكّن عناصر الهجوم بالتقدم باتجاه الهدف وعند بلوغهم إيّاه تتوقّف الرمايات ويبدأ المهاجمون بتطهير المنطقة المُستولى عليها.
وردّاً على الهجوم الداعشي ومع بدء الرّمايات خرج مقاتلان منّا من مدخل المركز باتجاة الغرب وبدأا بالتّغطية النارية في مواجهة العدو الذي أخذ عناصره في الالتفاف من خلفنا.
من جهة الشمال تمركز الدواعش في منطقة (خلّة الجمل) كانوا يرموننا بقناصة bkc وقاذف rpg ومدفع هاون60 ومن الجنوب كان يرمي علينا bkc وقناصون آخرون، ومن الغرب 20 داعشياً أسلحتهم 5,5 مم و bkc وقاذف RPG وبنادق آلية بالإضافة إلى استخدامهم القنابل الهجوميّة، وقد اتبّعنا معهم بدايةً أسلوب القتال بالرمي دراكاً بهدوء، وبالثبات في مواقعنا وضبط النفس…

نقاتلهم ونغني

ولرفع معنويّات زملائنا صرنا فيما بعد نقاتل ونغنّي ورفاقنا يردون علينا ونحن نطلق النار ” من عاين النشامى/ ربعي بني معروفِ/ سيروا يرعاكم اللهْ/ يا عنوان الشموخِ… ” إلخ، كان همّنا مواجهتهم وصدّهم، وفي الوقت نفسه الحفاظ على ذخيرتنا بعدم التفريط بها، والرّمي على الهدف العدو مباشرة. كان مع أحد المقاتلين ترمس قهوة مُرَّة، شربنا القهوة مُناولةً ونحن نجابه الأوغاد، ونُحْبِط هجومَهم (العقربيّ).
فيما بعد شدّدوا من هجومهم علينا، بالرّمايات النارية من جهة الشرق وقد رمَوْنا بكافة أنواع الرّمايات بالإضافة إلى قذائف الهاون عيار 81 وصواريخ تُدعى (لاوِ) صنع إسرائيلي وقواذف الـ RPG وفي هذه الأثناء تحمّس رفيقنا المقاتل أكرم شحاذة الخطيب (هو من قرية طربا) يريد الالتفاف خارج المبنى باتجاه الغرب، وقد حاولنا منعه من فعل ذلك بسبب كثافة النيران التي تنصبّ علينا، كان ينوي كسر الحصار من حولنا بمبادرة وبشجاعة فردية منه، لكنّه لم يصغِ لنا، فلم يلبث أن استشهد وبعدها بعشر دقائق رمَوْا علينا أربعة قذائف صاروخيّة الأخيرة منها دخلت المبنى فأصيب بنتيجتها مُسعفنا الحربيّ البطل في رأسه بشظايا، وأصيب مقاتل آخر كان إلى جانبي في صدره… كنّا نقاتل عبر نوافذ المبنى.
طلب المسعف الحربي الجريح منّي أن أناوله الحقيبة الطبيّة، مسح وجهه من الدّم الذي صبغه وضمّد جراح رأسه بنفسه وغسل نظّارته الطبيّة وعالج جراح صدر زميلنا المصاب الآخر وكان هذا هو رامي الـ bkc الأصلي الذي أعجزته إصابته عن متابعة الرّمي…

قتال تحت الحصار

كان الرّجال يقاتلون على مسافات متباينة بين عشرة أمتار ومئتي متر تقريباً من حول مبنى المركز ويعرقلون تقدم الدواعش المُصَمّمين على اقتحام المبنى الذي تتمّ من خلاله عملية توجيه وقيادة المعركة.
يقول أحد المقاتلين: “في تلك اللّحظات الحرجة تناولت قناصة نوع (شتير 12,7) وأخذت بالرّمي منها عبر شباك المبنى وعند إطلاق كلّ طلقة كنت أصرخ من أعماقي فرحاً وأنا أطلق على السيارة الداعشيّة التي كانت تتقدّم نحونا وتومّن التغطية الناريّة للدواعش الذين يتقدمون باتجاهنا تحت تغطيتها الناريّة، وهنا كانت المفاجأة الكبرى لنا بأهمّية هذا السّلاح النوعي ( قناصة شتير) الذي أمّنته لنا قيادة الدفاع المدني في السويداء والذي شكّل صدمة للمهاجمين من رُماة الدواعش الذين كانوا يتقدمون إلينا بثقة أكانوا من على ظهر سياراتهم أم مشاة.
عندما رميت عليهم أعطبت المدفع 23 فاضطُرّت السيارة التي تقلّه للانسحاب من أرض المعركة، وتعاملت بالقناصة ذاتها مع السيّارات المتبقية التي تحمل رشاشات 14,5 ومن خلال المناورة بين نوافذ المبنى إذ استهدفت رماة الهاون المعادي وعددهم اثنان على مَيْسرتنا”.
تمّ ضرب مجموعة الهاون الداعشية التي تواجدت على الميمنة لكنهم كانوا متحصّنين بشكل جيد وفي هذه الأثناء “ناداني أحد مقاتلينا بواسطة جهاز اتصال معه وهو مُتحصّن على الساتر التّرابي يقول لي بأن عناصر داعش وصلوا إلى مسافة 100م شرق الساتر من جهة الشّمال من الطّريق الرئيسي وأنّ أحدهم اختبأ خلف عامود الكهرباء، طلبت منه تحديد أي عامود، قال العامود الثاني من اتجاهك.
ركّزت قنّاصتي باتجاه جانب العامود الذي يلوذ به الداعشي وانتظرت حتى انطلق من مكانه باتجاهنا. رميتُه وانحنيت أتّقي غزارة الرّمايات خلف حافة النافذة، لحظتذاك تواصل معي المقاتل الصديق نفسه، وأبلغني بأنّي قتلت الداعشي.

كنت مُتعباً، فطلبت من رامي الـ bkc الذي حلّ محلّ الرامي الأصلي الجريح؛ التناوب معي على الرّمايات وكانت رمايته دقيقة جدّاً، بقي من المهاجمين باتجاهنا ثلاثة مسلّحين تمّ رميهم من قِبَلِه بسلاح الـ bkc وقام زميلنا المقاتل رامي الدّوشكا بالرمي باتجاه العدو بكثافة نيرانيّة عالية مع أنّه لدينا في هذه الزاوية رشّاشان 14,5 محمولان على سيارتين لم يتسنّ لنا استخدامهما. إذ كانت ساحة المعركة الضيقة حول المركز وكثافة النيران المنسكبة على المقاتلين قد حرمتنا من ميزة المناورة باستخدام سياراتنا القتالية الثلاث والأسلحة المحمولة عليها وهي مدفع رشاش 23 ورشاشان 14,5، فبقيت مركونة على مسافة نحو 40 متراً من مركز قيادة المعركة في المبنى؛ سيارتان في الزاوية الشرقية الجنوبية وسيارة واحدة في الزاوية الغربية الشمالية عند السواتر الترابية.
يقول الشاهد “طلبت من مقاتلينا منذ بداية المعركة أن يحتموا بالسواتر التّرابية وبالسيارات وقلت لهم “أهم شيء سلامتكم يا شباب، الله لا يرد السيارات”.
في تلك اللحظات الحرجة قام المقاتل رامي الرشاش مع رفيق آخر لنا بالتّغطية النارية من جانبنا باتجاه الشرق وكان بجانبي مقاتل لم يفارقني أبداً، إذ كان يقدم لي الذخائر أثناء قيامي بالرمي لكيلا نضيّع ثانية واحدة في مواجهة أولئك الوحوش.

فزعة غير موفّقة من قرية الكسيب

في تمام الرابعة والنصف صباحاً تواصل أحد المقاتلين يبلغني بأنّ مجموعة من أهلنا من قرية الكسيب يريدون أن يفزعوا لنا، فاعتذرت عن قبول ذلك لأنّ وضعنا بخير، ولكنهم كرّروا عرضهم، وبعد ثلاثة اعتذارات، وفي المرّة الرابعة وافقت على عرضهم، فقبلت أن ينزلوا في الرّكن الشمالي الغربي من موقعنا، وبعد ربع ساعة من وصولهم تلقَّوْا نبأً من قريتهم بأنّ الوضع لا يطمئن عندهم؛ فقرروا العودة إلى قريتهم وطلبوا من رامي المدفع الرشاش 23 الرمي باتجاه شرقي قريتهم القريبة من موقع الاشتباك عندنا وهي على مرمى نيران رشاشاتنا لقطع الطريق على الدواعش المهاجمين، وأثناء عودتهم باتجاه الغرب ومن على بعد نحو 100م من النقطة التي كانوا متمركزين فيها تمّ رمي سيارتهم من قبل كمين من عناصر داعش الذين كانوا يترصدوننا من على بعد نحو 700 م من مركزنا ولم نكن نعلم بموقعهم قبل ذلك، فاستشهد البطل مَكْرَم شبيب سلّام ومازن صياح المتني وخالد فواز المتني وأصيب بجراح ثلاثة آخرون من عناصر الفزعة, كانت الحادثة كارثة لجميعنا.
نحو الساعة الحادية عشرة صباحاً كانت المعركة قد انتهت في قطاعنا الذي كنا نقاتل فيه وانسحب الدواعش شرقاً متقهقرين، وكان الطيران السوري قد ظهر في سماء مناطق القتال نحو الساعة العاشرة حيث ضرب في مسارب الوديان والطرق التي سلكها الدواعش في شرق القرى التي هوجمت.
صمدنا لهم وكسرنا هجومهم، وقتلنا منهم 31 داعشيّاً ولم تنفعهم تكبيراتهم الكاذبة ولا آلياتهم الحربيّة الثلاث التي زجّوها في المعركة ضدّنا، ولا رشَّاشاتهم الـ 14,5 ومدفعهم الـ 23، فقد أعطبنا واحدة منها وخرجت من المعركة وقد سحبوها في الساعة 10 من اليوم الثاني بعد الهجوم.

لم تنفعهم حيل القتال ضدّنا

لقد استخدموا معنا أسلوب التّخويف والحرب النّفسية، ومحاولة عزلنا؛ إذ هاجموا القرى الواقعة إلى الخلف من موقعنا (الشّْبِكي والشّْرِيحي) أوّلاً مُعْتَبرين أنّ نجاحهم في اقتحام القُرى خلفنا سيجعل من مركزنا بحكم الساقط عسكريّاً، وقد استفادوا في ذلك من سرعة إنجاز هجومهم علينا بنقل قواتهم بسياراتهم الصّحراوية السريعة عبر طريق العجيلات الدّياثة المعبّدة والمتّصلة بمواقعهم المتقدّمة في البادية، فشدّدوا من هجومهم باتّجاهنا من جهة الشرق والجنوب حيث يبعد الطريق المعبّد إلى جهة الشمال عن مركزنا نحو العشرة أمتار فقط، التفّوا خلفنا من جهة الغرب ليقطعوا صلتنا بِقُرانا وتركوا لنا ثغرة مفتوحة من جهة الشّمال إذ وضعوا فيها كميناً من القنّاصة ورماة الـ bkc والهاون في منطقة مُشرفة على طريق انسحابنا المفترض على مسافة 700 م منّا ولم يُحرّكوا أيّة قوات من المشاة في تلك الثّغرة بهدف توريطنا في الانسحاب عبرها ومن ثم أسرنا أحياءً… ولكنهم خسروا في حسابهم الخادع ذاك، وكنّا شوكة في من حلوقهم.
في الجهة الشّمالية من موقعنا كان ينتشر بضعة عناصر من مجموعة مساندة لنا على مسافة 200 م من المبنى وقد لاحظت أنّهم قصّروا في المواجهة وعندما سألتهم لماذا لم ترموا، برّروا فعلتهم: لا نريد أن نكشف موقعنا وقصدنا أن نشكل مفاجأة للدواعش عند احتلالهم المكان!، وكان ذلك حساباً خاطئاً منهم.
كان رجال موقعنا الأبطال قد رفضوا أية دعم من الفزعات، ولدى سؤال أحدهم أجاب: “طُلب منّا الموافقة على مجيء (الفزعات) لدعمنا فلم نقبل إذ كانت معنوياتنا عالية، فنحن مسيطرون على الوضع، ولأننا نعلم بحجم الهجوم الجاري وعمليّات القنص الغادرة والالتفاف والكمائن التي تشكل خطراً على الفازعين، ولعلمنا بحاجة أهل القرى المستهدفة للفزعة أوّلا قَبْلَنا..”.
وعلى أرض المعركة حول الموقع؛ تَرَك الدواعش بعد انسحابهم من ساحة القتال في الجهة الغربية خلفنا، حيث كانوا قد عملوا على الفصل بيننا وبين قُرانا وفي الجهة الجنوبية أيضاً جثث 23 قتيلاً منهم، أمّا من الجهة الشّرقية فقد سحبوا جثث قتلاهم بالآليات الموجودة معهم.

قتال بخط نار متحرّك

قاتلناهم من داخل المبنى (البالغة مساحته 50 م2 وهو مؤلّف من غرفتين وموزّع وحمّام، وبمحاذاته تصوينة ارتفاعها 60سم) ومن حوله عبر التّحصينات التي كنّا أعددناها، وكان الرفاق ينتشرون انتشاراً قتالياً مُنَظّما حول المبنى في حدود المئة متر إلى مئتي متر، وكنّا نتواصل بواسطة اللّاسلكي، وكان خط النار والمجابهة يتذبذب بيننا وبين عناصرهم تراجُعا وتقدّماً إذ كان الاشتباك وجها لوجه يكاد يكون مباشراً أحيانا بين المتقاتلين، وعلى مسافة الـ 10 ــ 15 متراً في أحيان أخرى.
ــ ما كانت أسلحتكم؟
ــ داخل المبنى كان معنا bkc وقناصة الشتير وكلاشينات، أمّا أسلحة شبابنا في الخارج فكانت الكلاشينكوف.

دور مجموعاتنا المقاتلة في الاشتباك

المجموعة أ، وهي أول مجموعة تشتبك مع الدواعش الذين كانوا يصرخون بوحشيّة “سلّموا أنفسكم، جاءتكم الدولة الإسلامية…”
ومع إطلاق النار على سيارتنا التي تحمل المدفع الرشاش 23 تحطّم زجاجها الأمامي، وكان مقاتلونا قد أخذوا السواتر الترابية وأخذوا يطلقون النار مع التهديف.
وعندها صار مقاتلونا يغنّون بغناء الدروز الحربي فَجُنَّ جنونُ الدّواعش وطاش صوابهم وأخذوا يرشّون علينا نيراناً غزيرة، ولم يعبأ شبابنا بهم، وكانت العبارات والشتائم ونيراننا الصائبة التي لم يتوقعوها تزيد من حقدهم وغضبهم علينا، وكان الدور الأكبر في الزاوية الشمالية الغربية إلى قائد هذه المجموعة؛ كان مع رجاله فريقاً من العناصر المُمَيّزين (كان بينهم مقاتل عمره 17 سنة يحمل بارودة كلاشينكوف أخمص خشبي!) لقد كان صمودهم المعنوي أحد ركائز النّصر في تلك النقطة.
وفي الزاوية الجنوبية الغربيّة أدار القتال مع المجموعة (ب) أحد مقاتلينا الأبطال الذي اقتحم نيران العدو عندما طُلب منه التقدّم باتجاه المركز للاشتباك مع المسلحين الذين يحاولون اقتحامه ممّا أدى لإصابته بطلق ناري في صدره…
وفي الزاوية الشّرقية الجنوبيّة كانت المجموعة (د) وقد اشتبكت هذه المجموعة مع العدو من مسافة قريبة تصل إلى 15 متراً أحياناً.
أمّا مجموعة التأمين الخلفيّة (ج) وتبعد عن المركز 500 م في مزرعة هناك فقد كانت مهمّتها حماية المركز ودعمه من جهة الغرب وتأمين طريق إمدادنا وحتى انسحابنا عند الاضطرار، ولم يكن الدواعش يعلمون بهذه المجموعة لأنّنا كنّا نمركزها في الليل ونسحبها مع الصباح الباكر بحيث لم يتمكّنوا من رصدها قبلاً، وعددها خمسة أشخاص ولم تشتبك هذه المجموعة مع العدو مباشرة في المعركة بالمستوى المطلوب بسبب فقدان الاتصال بهم وعدم القدرة على التواصل والتوجيه من غرفة القيادة، ولأنّ المسافة التي تفصلهم عنّا تجعلهم مكشوفين للعدو في حال تحرّكهم لدعمنا، فعندما حاول اثنان منهم وهما الشهيد رامز سليم أبو زيدان والشهيد سميح حسين أبو زيدان التقدم باتجاهنا بدون التنسيق معنا تم قنصهما فاستشهدا.

دور الشهداء الفعّال في المواجهات

عند بدء الهجوم الدّاعشي، بادر المقاتل أكرم شحاذة الخطيب مستعجلاً (ثلاثيني العمر) قاصداً الالتفاف من شرق المبنى إلى جهة الغرب فاستشهد من فوره، أمّا المقاتل رامز سليم أبو زيدان (ثلاثيني العمر) استشهد بعيدا عن المبنى غرباً على مسافة 250 متراً أثناء تقدّمه لمؤازرتنا وكان معه سميح أبو زيدان (نحو 45 سنة)،
صالح نور الدين أبو زيدان (50) سنة استشهد غرب المبنى على مسافة نحو 200م، وكان قادماً من العجيلات بهدف مؤازرتنا من جهة الغرب.
مكرم سلّام وخالد المتني ومازن المتني استشهدوا داخل سيارة كانت تقلّهم (على مسافة 170م غرب مبنى قيادة المعركة)، وهم من مجموعة فازعين جاؤونا من الكسيب ولم نكن نرغب بمجيئهم إلينا لكنّهم أصروا على المجيء فكان ما كان.

التّراجع إلى تلّ مسلّم

بقي المقاتلون في نقطة دفاعهم حتى الساعة الرابعة عصراً ثم تراجعوا غرباً إلى نقطة تل مسلّم إلى الغرب من موقعهم على مسافة 2 كلم منه فقد كان العناصر بحاجة للرّاحة كما كان هَوْل الأخبار التي وردت للجميع من الشبكي والمجازر الجماعية خصوصاً، ومن الشّريحي ورامي وغيرها بالإضافة أنّ خط الإمداد في تل مسلّم أقصر وأكثر أمناً والتضاريس هناك تؤمن للمقاتلين حماية أفضل كما أنّ فقدانهم لعدد من الشهداء جعلهم أكثر حذراً وتحسّباً من ردود فعل معادية ممّا جعلهم يختارون مكانًا يسهل الدفاع عنه.
ولدى سؤالنا: لما ذا لم تلاحقوهم بعد انسحابهم وتستفيدوا من نصركم عليهم؟
أُجِبنا: في ذلك اليوم كانت ملاحقة المهزومين مُقامرة قتالية غير محسوبة النتائج، لأخذنا بالاعتبار:
1- أنهم ينشرون قناصيهم على شكل كمائن في مواقع وعرة خفيّة علينا وفي مناطق يصعب تطيهرها وعبورها خلفهم وهم متمركزون فيها منذ سنوات.
2- احتمالنا أنّهم زرعوا ألغاماً في طرق انسحابهم وليست لدينا عناصر هندسة تقوم بإزالة الألغام.
3- قلة عديدنا قياساً لأعدادهم فلديهم في المواقع الخلفيّة آلاف من الدواعش الذين خَبروا المنطقة يكمنون في المغاور والآبار الجافّة التي يرتادونها بالسلالم الحديدية … ويتربّصون بالجروف الصخريّة وهم يتقنون أساليب القتال في البادية عموماً… وكل ذلك يكبّدنا خسائر بشرية كبيرة.

الهجوم الداعشي لم يكن مفاجئاً

يقول أحد الناشطين في مواجهة الدواعش: “بتاريخ 15/6 تمّ تبليغ كافة القرى باحتمال هجوم داعشي على جميع قرى المنطقة الشرقية، وتمّ إعلام الناس في بعض القرى بواسطة مكبّرات الصوت وبناء على ذلك تم تشكيل نقاط عسكرية للدفاع عن المنطقة ومنه نقطتنا هذه لكنّ معظم الناس في القرى، كانت تأخذ تحذيراتنا تلك بشكل استهتاري وكان من أسباب ذلك الاستهتار وقلة الحرص والشعور بأمان وهمي وأمور أخرى معروفة.
أمّا بالنسبة للتّبليغ ليلة الهجوم فلم يكن من علم لأحد بذلك ولكن قائد أحد قطاعات الدفاع المدني بُلّغَ شخصيًا بواسطة صديق بدوي بأنّ داعش ستُهاجم النقطة العسكرية التي تتمركز فيها وحدته قبل وقت الهجوم في الساعة الثالثة بينما وقع الهجوم في الرابعة وعشر دقائق.
وعموماً فقد كان يتواجد لدى كثير من الناس بنادق الكلاشنكوف وقد تم إحداث 7 نقاط للدفاع الوطني في المنطقة للتّصدّي لأيّ هجوم مُتَوقّع أو غير متوقّع، لكنّ الدفاع الوطني اضطرّ لإلغاء نقطتين لعدم وجود شبان ملتزمين بالدّوام فيهما، وقد قامت قيادة الدفاع الوطني في السويداء بإمداد النقاط العاملة المتعاونة بسلاح متوسط وثقيل.

الشّْبِكي والشّرِيحي الأكثر تضرّراً

يقول شاهد عيان: “كانت الضربات الداعشية في قريتيّ الشّبكي والشّريحي أكثر إيلاماً لأنّ نقطتي الرّصد والدفاع الخاصتين بهما لم تلتزما بالعمل الجدّي في المراقبة، وذلك تسبّب بدخول المسلحين عبر طريق معبّدة بطول 8 كلم تتصل بعمق البادية بين قريتي رامي والشّريحي في منطقة أم حسن”، وكانت البادية حينها منطقة خارجة عن السيطرة يتمرّح فيها الدواعش على هواهم وقد فرضوا بيعتهم على البدو الذين خيّروهم بين القبول بدولتهم الإسلاميّة المزعومة أو القتل أو الرّحيل عن المنطقة..”.


طَرْبا

تقع طربا على مُنْبَسَط سهلي على كتف وادٍ يحمل اسمها وتطلّ من موقعها ذاك على البادية إلى الشرق منها ويبلغ ارتفاعها 1450 متراً فوق سطح البحر وعدد سكانها 3118 نسمة (أمّا في يوم العدوان فالعدد نحو ألفي نسمة) وهي قرية أثريّة إعمارها قديم ومن أهم آثارها بقايا سور قديم ومبانٍ مُتَهَدّمة من قناطر ونقوش وأساسات وبقايا معبد وثني روماني تحوّل إلى كنيسة مسيحيّة مع تحوّل الرّومان إلى النصرانيّة في القرن الرابع الميلادي.
مساكنها القديمة مبنية من الحجر البازلتي ومسقوفة بربد محمول على قناطر وأمّا الحديثة منها فمبنيّة من الحجر الإسمنتي والسقوف من الإسمنت المسلّح.
وتزرع طربا الحبوب، من القمح والشعير والحمّص بالإضافة إلى أشجار الكرمة والتفاح واللّوزيات ويهتمّ السكان بتربية المواشي ويهاجر العديد منهم إلى دول النفط وغيرها من المغتربات وتكثر فيها الينابيع ويشرف عليها تل أبو العز الذي تكسوه الثلوج طوال فصل الشتاء.

هجوم الدواعش على طربا

هوجمت طربا من جهة الشّمال ويقدّر عدد عناصر الهجوم الداعشي نحو خمسين أمّا عناصر الدعم الخلفية فما من معلومات عنها، وحسب شهود عيان فإن المهاجمين أوقفوا سياراتهم وعددها 7 سيارات شمال شرق التل القريب بمسافة 1500م، وتوجهوا بعدها إلى طربا ودوما، وانسحبوا من المكان ذاته بمعونة أدلّاء من البدو.
هاجم الدواعش طربا عبر هجومهم من نقطة الحماية والمراقبة في تل بصير شمال شرق القرية (تبعد قمّة التل عن أقرب بيت نحو 400م) وكان عدد عناصر الدفاع في النقطة 6 عناصر (من أبناء المنطقة) مسلّحين ببنادق وسيّارة دوشكا كانوا قد شاهدوا الاشتباك من موقعهم المرتفع على تل بصير إلى جهة الشمال منهم ببضعة كيلو مترات في قرية دوما نحو الساعة الرابعة والربع صباحاً فأخذوا شيئاً من الحذر، لكنهم فوجئوا بالدواعش أمامهم على بُعد خمسين متراً وهم يفتحون نيران رشاشاتهم عليهم باتجاه غرفة الدفاع الوطني وأثناء الاشتباك مع المهاجمين قُتِل 3 من الدواعش واستُشهد مبارك الخطيب وجرح 3 عناصر من الموقع ، واستطاع أحد الناجين من العناصر بعد نفاذ ذخيرته سحب المصابين والنزول عن التلّ، في حين بقي مقاتل آخر في التلّة مختبئاً في أحد الكهوف حيث كان المسلّحون فُوَيْقَ مخبئه بعشرة أمتار من جهة الشرق المشرف على قرية الكسيب التي فزع رجالها ليشاركوا بمواجهة الدواعش من قريتهم التي تبعد عن التل نحو 1كلم فقط، الأمر الذي جعل الدواعش يتحصّنون بالمرتفع الذي حوصروا فيه بنتيجة رمايات الفازعين فحرمهم انشغالهم ذلك من وقت البحث عن مكان العنصر المختبئ القريب جداً منهم والذي بقي فيه ملتجئاً حتى نهاية الاشتباك..
لكنّ الدواعش أمطروا بيوت القرية في طربا برشقات من رشاش الـ bkc الذي غنموه من عناصر المراقبة على التلّ. ولم يعد سرّا ما جرى لنقطة المراقبة في التل فصحا الناس على أثر الاشتباك واتخذ الأهالي المقاومون للهجوم من حيطان القرية الشرقية الشمالية خطّاً دفاعياً وهم غير عالمين بأنّ الدواعش قد سيطروا على التل المشرف على القرية إلاّ عندما وجّه الدواعش نيران أسلحتهم وذخيرة رشاش الدوشكا الذي استولوا عليه في النقطة وأفرغوا قذائفهم ونيرانهم رشّاً عشوائياً على بيوت القرية.
عندها نزل نحو 16 مسلّحاً إلى الكروم شمال القرية وتقدموا باتجاه التل إلى مسافة مئتي متر وتمكّنوا بعد مجابهه قصيرة من قتل ثلاثة من الدواعش وسحبوا جثة أحدهم نحو القرية ووجدوا خلفهم 3 بنادق و3جعب وحزامين ناسفين.

فضل عناصر المراقبة!

إنّ عناصر نقطة الدفاع الوطني كانوا بفضل مواجهتهم وعلى قلّتهم سبب فشل الدواعش رغم استيلائهم على الموقع في اقتحام طربا، التي تنبّه أهلها فأخذوا بالتّصدّي لهم فقصفوها بقذائف الهاون وقذائف الـ RPG وضربوا على بيوت السكان من مكان السيارات شرق التل من المدفع الرشاش 23 انتقاماً منهم.
أمّا بقية المسلّحين الدواعش فإنهم بعد صدمتهم بخسارة القتلى الأوائل منهم والذين قُدّر عددهم بثلاثة ما عدا الجرحى وشعورهم بالمقاومة التي لم يتوقعوها فقد انسحبوا تحت تغطية كثيفة بنيران غزيرة من رشاشات الـ bkc وبنادقهم الآلية ساحبين معهم قتلى وجرحى لم يتم معرفة عددهم.

طربا على جبهة قتال مع الدواعش

دام الاشتباك على التلّ جهة الشمال الشرقي من القرية نحو نصف ساعة فقط، أمّا من جهة الشرق فقد استمرّ نحو 4 ساعات وكان الأعنف ويُقَدّر عدد المهاجمين نحو 50 داعشيّاً. فيما عدا عناصر الإسناد الخلفي الذين يصعب تقدير أعدادهم، يقول أحد شهود المعركة: ” كانت أسلحة الدواعش قناصات وبنادق آلية ودوشكات 23 وهاون وآر بي جي وضربوا على التلّ صاروخاً صغيراً وجدنا أنبوبه على التل لا أعرف ما هو”.

يقول أحد أهالي البلدة: “كانت طربا جاهزة لمواجهة أي عدوان غير أنها فوجئت كغيرها من القرى” ولا بدّ أنّ المفاجأة تحقّقت بسبب الاستسهال والميل الفطري لدى الناس للإحساس بالأمان الزائف والاطمئنان غير المبرّر في زمن الاضطرابات والتدخّلات الخارجية رغم التحذيرات السابقة من قيادة الدفاع الوطني للأهالي.
ويقول آخر: طربا مستعدّة وفيها أكثر من 300 مقاتل، وسيارتا دوشكا و RPG وbkc عدد 4.
كان قناصة الدواعش قد تمركزوا من جهة شرق البلدة أيضاً بأعداد من رماة الرشاشات والبنادق وكانوا قد تموضعوا في أماكنهم في خط المواجهة الأول قبل بزوغ الفجر.
وفي الفترة التي كان فيها الدواعش يُمَشّطون النقطة التي على التل سكت الرصاص نحو بضعة دقائق، في تلك الفترة من قبيل الفجر وصل إلى خط مواجهة الدواعش نحو 25 شاباً من طربا وكانت أقرب نقطة اشتباك تبعد عن التل 350 إلى 400م، وعند طلوع الفجر تمكّن الدواعش من قنص عاهد الغوطاني فاستشهد من فوره، وجرح حسن سلام وضياء سلام من قبل القنّاص ذاته، ولم يستطع بعدها أحد من الشباب الاقتراب من خط المواجهة مع الدواعش بسبب تحكّم قناصيهم بالطريق فرموا على البلدة نيراناً غزيرة فأصابوا البيوت وكسروا زجاج النوافذ وخزانات المياه …
يقول شاهد عيان: “أخذ رجالنا يرمون عليهم كلٌّ من موقعه باتّجاه التل وكان مع أحدنا منظار مركّب على سيمينوف، استطاع أن يرى القنّاص مموِّهاً نفسه ببطانية(حرام) فتمكن من قتله هو ومن حوله من رماة الـ bkc فأتى أحد الدواعش وقام بحمل جثّة القنّاص مع البطّانية فصبّ الكلّ النيران عليه فقتل بينما قام الآخرون بسحب جثث القتلى الّذين بقيت دماؤهم واضحة على التراب”.
من زاوية أخرى كان مقاتلو طربا يشاهدون الدواعش وهم يسحبون جثث قتلاهم مستترين بحائط من حجارة كرم، بينما قامت مجموعة من خمسة أشخاص من مسلّحي طربا بالبنادق الرّوسية بالرمي عليهم فقتلوا منهم ثمانية، وكان عنصر الدفاع المدني المختبئ في الكهف يسمع صيحاتهم وعويلهم.
يقول من شهد المعركة أنّ الطيران السوري ظهر في السماء وضرب ثلاث ضربات فلم يحقّق إصابات مباشرة لخوفه على الأهالي بسبب أنّ الاشتباك مع الدواعش كان من مواقع يصعب التمييز فيها بين الصديق والعدو الداعشي، لكنه ضرب سيارات المسلّحين شرقيّ التل في إحدى الطّلعات وأصاب واحدة منها.
وقد حاولت إحدى سيارات الدوشكا التابعة لنا الاقتراب والرمي على الإرهابيين المتمركزين على التل فأصيبت بطلق من قنّاص إرهابي في شبّاك السائق ممّا اضطرّ سائقها للانسحاب إلى مكان بعيد نسبيّاً والرّمي منه، أمّا سيارة الدوشكا الثانية فقد أُحدثت لها فتحة عبر سور كرم وتموضعت في محل يمكنها من الرمي مع تحاشي نار القنص المعادي. ولمّا نفذت الذّخيرة من المقاتلين تمكّن شاب شجاع من الزّحف مسافة نحو مئة متر وتوصيل الذخيرة لهم.

يقول أحد شهود المعركة: إنّ مجموعة من رماة الـ RPG الصديق قاموا بالرّمي ممّا خفف عنّا من حدّة صبيب نيرانهم، والطريف أنّهم رمَوْا على التل وكانوا لأول مرّة يقومون بالرّمي، فأصابوا القنّاص العدوّ وأربكوا الدّواعش الذين عندما قُتل صاحبهم، قام أحدهم بسحبه وفي تلك الآونة “استطعنا بكل برودة أعصاب أنا وال 5 الذين كنّا معاً أن نصّحح الرمي لبعضنا بعضاً من خلال الطّلقات الخطاطة وحققنا إصابات”.
هكذا تحوّل الصياد الدّاعشي إلى طريدة فَمَنْ أتَوْا مُهاجمين أصبحوا بعد الفجر مُدافعين مشغولين بسحب جثث قتلاهم وجرحاهم.
في الجهة الشّمالية استطاع الدواعش سحب قتلاهم وجرحاهم بواسطة درّاجتين ناريتين أخذوهما من أحد بيوت البدو شمال التل ولم يتمّ التعامل معهم قتاليّاً بسبب الظنّ أنهم من بدو طربا ويحاولون الهرب.
يقول أحد أهالي طربا ما يلي: “إنّ مِنْ سكان طربا من البدو (يقدّر عدد المتبقين منهم نحو 50 نسمة) من هو مع الدواعش وآخر ضِدّهم وهذه الشكوك لم تزل محطّ بحث وهناك من كان منهم قائداً في داعش والبعض عاد وعمل تسوية والبعض الآخر مازال معهم والبعض قُتل والأهالي منقسمون بين من يريد ترحيلهم وبين من يأمن جانبهم”.
كانت حارة البدو من سكان القرية هي الأقرب للتل ولم يشارك أهلها في صدّ الهجوم مع الأهالي ولم يصابوا بأذى من الدواعش وكان بعضهم قد اتّصل الساعة الرابعة قُبيل الهجوم مباشرة مُحَذِّراً من العدوان.
يقول آخر: “كانت خطة الدواعش كما اعترف بعضهم قتل أكبر عدد من الناس وأسر 1500 ليبادلوهم بدواعش حوض اليرموك الذين كانوا محاصَرين في درعا ولكن الجيش السوري كان قد أنهى أمر من كان في حوض اليرموك منهم..”.
وقد تواصل معنا الفازعون والعديد من أهالي القرى المُستهدَفة بالعدوان مع الصباح الباكر، ولكن الطريق كان محكوماً بقنّاصة الدواعش، نصحنا بعض الفازعين بالذهاب لنجدة قرية دوما، كما وجّهنا دفعات أخرى منهم إلى قرى رامي والشّريحي والشّبكي لأنّ الاشتباك عندنا في طربا كان قد انتهى نحو الساعة السابعة إذ قاموا بحرق سيارة الدّوشكا التي سبق لهم أن سيطروا عليها في التل وبدأوا بتغطية انسحابهم. وفشلوا في اقتحام البلدة فأقرب جثة لهم سقطت على مسافة 200م منها.
لكن آثار رصاصهم وعدوانهم لم تزل ماثلة على زجاج النوافذ المحطّم وجدران البيوت وخزانات المياه على السطوح وأجهزة الطاقة الشمسيّة …


تَيْما

تقع قرية تيما بين قريتي طربا ودوما على خطّ النار من القرى التي استهدفها عدوان الدّواعش شرقي الجبل، ويبلغ عدد سكانها إحصائيّاً 1700 نسمة، تبعد عن شهبا إلى الغرب منها 13 كلم، ويعود إعمارها لعصر الأنباط قبل الميلاد بقرون وحتى القرن الأوّل الميلادي، واستمرّ إعمارها في العصر الروماني والبيزنطي، وبها بيوت قديمة تعود لتلك العصور… وقد خَربت بعد الفتح العربي الإسلامي قروناً طويلة إلى أن أعاد إعمارها الموحدون الدروز المهجّرون من لبنان نحو عام 1820م*، وعائلات تيما هم آل شرف وزين الدّين وطَحْطَح وعلبة وشرّوف وأبو عين وهزيمة وبهاء الدّين وزيتونة وفهد.
يعمل سكّانها بزراعة القمح والشعير والبقوليّات وأشجار الكرمة والتين والزيتون واللوزيّات ويهتمون بتربية المواشي، ويهاجر شبّانها إلى دول الخليج وغيرها من المُغْتَربات، وتعمل الفتيات بصناعة السجّاد اليدوي ويشرب سكّانها من مياه الينابيع.
وأمّا في يوم العدوان فقد كان عدد سكان تيما نحو 1250 نسمة.

توقيت العدوان

هوجمت تيما بالدواعش نحو الساعة الرّابعة من صباح يوم 25 تموز 2018 من جهة الشرق حيث يستوطن الدّواعش في بيئة بدوية فرضوا عليها أن تبايعهم وتحضنهم، وتقدّم لهم قسراً الملجأ الآمن.
قَدِم المهاجمون من قواعدهم القريبة ومنها تل الحِصْن وتل رَزِين (على مسافة 8 كلم شرق تيما) ومن منطقة “الطّمثونة” وغيرها من المواقع والمغاور.
أمّا قواعدهم الأبعد فهي في التّنف على الحدود الأردنية السّورية العراقية على مسافة نحو 130 كلم شرق القرى المُستَهدَفة كسند تدريب وتسليح وتمويل لهم…
كان عدد المهاجمين نحو 30 داعشيّاً فيما عدا عناصر الإسناد الخلفيّة…
دخل المهاجمون بادئ الأمر بين البيوت، وتوغّلوا وسط القرية حتى الموقف العام لبيت الضيعة مُسْتَغلين الإهمال الأمني من أهالي القرية الآمنين.

المواجهة والاشتباك

كان أحد الأشخاص قد أستنهض صديقه من شبّان الدّفاع الوطني الناشطين مُنبّهاً إياه أنّ هجوماً قد وقع على القرية، فبادر الشابّ باستنفار رفاقه وانطلق بسلاحه في غَبَش الفجر باتجاه ضوضاء الذين تغلغلوا داخل القرية وعلى لعلعة الرصاص وتكبيرات الدواعش تبشيراً بدولتهم المزعومة.
باتجاه مصدر الضوضاء وسط القرية تقدّم الشابّ بِحَذَر يتبعه آخرون من رفاقه الذين هبّوا بأسلحتهم، كان الدواعش المهاجمون يتحرّكون بِحُرِّية في المكان تحت تغطية نارية من مجموعة إسناد تابعة لهم شرق القرية…

كما وصل إلى تيما مع الدقائق الأولى من الهجوم شابّان أخوان من قرية عراجة التي تبعد عن تيما بضعة كيلومترات إلى جهة الشّمال، كان قد طلب فزعتهم شيخ من آل شرّوف تنبّه لما يجري من هجومٍ على القرية، وفي حال وصول الشابّين صَعَدا إلى سطح آل شروف…
قبالتهم هناك أسفل السطح بيت مُجاور قريب، كان ثلاثة من الدّواعش يطرقون بابه، وكان الصّباح قد اتّضح قليلاً. تعَمّدَ أحد الشابّين إطلاق النار عليهم فنهاه أخوه:
ــ مهلاً، لعلّهم من أهل الضّيعة.
اشتدّ الطّرق على الباب وسمع الشابّان صوت الدّاعشي يكبّر ويقول:
افتح الباب، جاءتكم الدّولة الإسلاميّة، افتح أو نُفَجّر البيت خلال 20 ثانية، ما كان من أحد الشّابين إلّا أن رماهم برصاصِهِ ففوجئ ثلاثتهم والتفتوا إلى الجهة التي أتتهم منها نار الأخوين من على السطح يريدون أن يردّوا بنارهم هم الآخرون، لكنّ نار الأخوين كانت قد سبقتهم فوقع أحدهم قتيلاً، (ويبدو أن القتيل كان هو قائد الهجوم على القرية). كان من خلفهم عناصر حماية لهم، فتبادل الجميع الرّمي بغزارة نارية لم تكن من قبل، وتفازع الرجال من مختلف أطراف القرية وأخذ الدواعش بالتّراجع شرقاً أمام المُدافعين عن القرية مُنسحبين باتجاه بيوت البدو الذين كانوا يخيّمون يومها على مبعدة 1,5 كلم من القرية وقد تبين فيما بعد أنّ جريحين آخرين غير القائد القتيل أصيبا في الاشتباك القصير الذي جرى وقد تمّ سحبهما مع جثته من قِبَل عناصر الدّعم التي كانت تغطي إجرامهم…

مقتل القائد الداعشيّ حسم المعركة في تيما

استنتج كثيرون أنّ القتيل وهو أحد الثلاثة الذين كانوا يطرقون الباب هو قائد عمليّة الهجوم على تيما فقد وجدوا في المكان الذي سقط فيه مقتولاً جهاز اتصال نوع تياترا، وهذا في العادة يحمله العناصر القياديون في الدّواعش، كما وُجِدت خلف المهزومين جعبة وقد ثَقّبها الرصاص في أكثر من مكان وفيها ستّة مخازن محشوّة بالرّصاص وعليها كتلة من لحم القتيل؛ فالرّصاصة القاتلة كانت قد اخترقته من بطنه وخرجت من ظهره، ونقعة من الدم خبصت فيها قدمٌ عاريةٌ وقد رُمِيت جواربه وخفّافته جانباً وهذا يدلّ على أنّ رصاصات كثيرة أصابته بجسمه وقدمه، كما وجدوا بارودة روسيّة اخترق الرّصاص أخمصها الخشبيّ، وقد ترك الدواعش المندحرون في تيما لغمَيْن ضدّ الآليات غير منصوبين، ويبدو أنهم كانوا يُعدّانهما للنّصب خلفهم عند الانسحاب، لكنّ مقتل قائدهم والمواجهة الحامية التي لَقَوْها، كلّ ذلك جعلهم ينهزمون بجثّة قائدهم، وعدد من الجرحى لا نستطيع تقديره تاركين خلفهم ما تركوه.ويبدو من روايات شهود العيان أنّ ترابُطاً مُنَظّماً كان بين المُهاجمين على قريتي تيما ودوما معاً في وقت واحد…

ففي الحارة الجنوبية من دوما وأثناء المعركة سُمِع قائد الدواعش الجريح ينادي على جهاز الاصال مباشرة فيقول: نحن خَسرنا في دوما، انسحبوا… وذلك قبل أن يُقتل فيما بعد، ويبدو أنّ هذا كان سبباً آخر لانسحاب الدواعش من تَيما بالإضافة إلى مقتل قائدهم هناك (في دوما) في نصف الساعة الأولى من الهجوم.
يذكر أحد المقاتلين: كنّا قد طردناهم وطهّرنا القرية منهم نحو الساعة السادسة صباحاً. لكنّهم لم يتركوا في تيما قتلى ولا جرحى.
ويقول شاهد عيان: كانت قد وصلتنا فزعات بالإضافة إلى أَخَوَي عراجة، منها فصيل من قرية نمرة وصلوا في الساعة السادسة والنصف وفزعة أخرى من مدينة شهبا وعدد من القرى… غير أنّ المعركة كانت قد انتهت تماماً نحو السادسة والنّصف صباحاً، إذ توقف إطلاق النار علينا من جهة الشرق وهي الجهة التي انسحبوا إليها.
كانت تيما قد واجهت أولئك المهاجمين بعدد نحو 45 رجلاً من أبنائها، منهم 16 مقاتلاً من عناصر الدفاع الوطني معهم رشاشان وبنادق روسيّة، والآخرون أسلحتهم بنادق روسية وبنادق تشيكيّة وأسلحة صيد.

المعركة في تيما جزء من معركة القرى

يقول أحد قادة الدفاع عن تيما: بعد دحر الدّواعش من القرية وصلنا نبأ أنّ جماعة منهم استولَوْا على تل بصير المشرف على قرية طربا فتوجّهنا من فورنا نحن مقاتلي القرية، وتابعنا مناوشتهم فاشتبكنا معهم أكثر من 40 دقيقة شرقي تيما للجنوب بنحو 800م. وعند وصولنا قرب تل بصير رأيناهم ينسحبون من هناك فتمّ الاشتباك معهم مدّة أكثر من 40 دقيقة أُخرى وكان معهم بعض الجرحى… وكان بودنا ملاحقتهم لكنّ تدخّل الطيران الحربي السوري مَنَعَنا من ذلك لكيلا يحدث تداخل بيننا وبينهم يعرقل عمليّة ضرب الطيران لهم، وكان أول ظهور للطّيران الملاحق للدّواعش نحو الساعة 7,30 بعد اتّضاح الرؤية.


دوما

هي من القرى الشّماليّة في المقرن الشرقي للجبل، وتتبع ناحية شَقَّا وتتموضع فوق سفح جبلي على أطراف البادية السوريّة الجنوبيّة التي تمتدّ بعيداً إلى الشرق منها، وفي دوما إعمار قديم يعود للعصور الرّومانية، فمعبدها الوثني تحوّل إلى كنيسة في القرن الرابع الميلادي مع تحوّل الرّومان إلى الديانة المسيحية إلّا أنّ دوما خَربت قروناً مديدة إلى أن أعادت إعمارها أولى العائلات الدرزية من آل حرب القادمة من غريفة الشوف، فقاموا بإحياء مواتها وإعادتها للحياة الحضرية نحو العقدين الأوليين من القرن التاسع عشر.
وهي قرية قديمة فيها عدد من المباني الأثريّة والقناطر والكهوف.
يعمل سكّانها البالغ عددهم نحو ألفي نسمة بالزراعة وتربية الماشية وتنتشر فيها صناعة السجاد اليدوي ويهاجر شبّانها إلى دول النّفط وغيرها، ويشربون من مياه الآبار الارتوازية ومن الينابيع وأشهرها “عين الغربيّة”. أمّا في يوم العدوان فقد كان عدد سكانها نحو 1500 نسمة.

الوضع العام في دوما قُبيل العدوان

لم يكن العدوان على القرية الآمنة خِدعة حربيّة عبر المواجهة بين عَدوّين؛ بل كان غدراً مخالفاً لقيم الإسلام وتقاليد العرب، بل وقيم الإنسانية عامّة، إذ لم يكن السّكان يتوقّعون أيّة مباغتة أو عدوان
وفي تلك الفترة قُبيل العدوان كانت الحكومة تسلّم السلاح للمواطنين لحماية أنفسهم وأرزاقهم شرط الالتزام بالحراسة وتنفيذ المهمّات، إلّا أنّ بعضهم كان قليل الالتزام بمطالب الدولة بسبب حاجته لكسب رزقه؛ فالمنطقة فقيرة الموارد، والأزمة المعاشية خانقة ولا دخلَ ثابتاً لهم.

عناصر نقطة المراقبة؛ الضحيّة الأولى للعدوان

يقول شاهد عيان: وصل الإرهابيون لجميع القرى بآلياتهم التي ركنوها على مسافة بعيدة من القرى وتابعوا مشياً حيث تمركزوا وراقبوا ووزّعوا المهام فيما بينهم ورتّبوا خططهم ثم هاجموا، ويثبت ذلك بقايا ما تناولوه من فوارغ الطعام وغيره في الكروم حيث كانوا يتربّصون…
وقد هاجموا نقطة المراقبة نحو الساعة الثالثة والنّصف صباحا، من جهة الجنوب عبر منطقة مرتفعة وعرة مليئة بالرُّجَم الحجريّة وكثيرة الأشجار فهناك طريق زراعية معبّدة تعبيداّ اقتصاديّا، يصل إلى قرية الكسيب، وبين الكروم هناك طريق ترابيّة فرعية تصل إلى الحقول شرقاً شقّتها البلدوزرات وبهذا فقد استفاد الدّواعش من ذلك في تنقّلاتهم لاتّصالها بمعاقلهم.
” آنذاك كان في نقطة المراقبة التي تبعد عن القرية نحو 1500م على “تل الهش” تسعة من العناصر، سلاحهم دوشكا محمول على سيارة ورشاش تشيكي والباقي كلاشينات، ولم يكونوا في حالة ترصّد ويقظة لما حولهم… بينما كان مهاجموهم يعملون بتخطيط مُتْقَن فهم يعرفون مواقعَهم مُسبقاً عبر الجواسيس والنمّامين والمتعاملين المدسوسين الانغماسيين كعيون للدواعش، وهو ما جعل مهمتهم سهلة كما ظنوا وقبل أن يفاجئهم التصدي البطولي لأبناء القرى والنجدات السريعة التي خفّت إلى المكان.
هاجموا نقطة التل أوّلاً، (لجاهزيّة مسلّحيها افتراضيّاً)، ومن ثمّ للقضاء عليهم ليتسنّى لهم السيطرة بسهولة على دوما. كان العناصر غافلين ومطمئنين رغم أن بدويّاً انغماسيّأً من الرّعاة المألوفين لديهم في المنطقة؛ كان قد صعد إليهم قبل نحو أسبوع من العدوان إلى قِمة التل مُتجسّساً عليهم؛ وأطعمهم وأكل معهم ذبيحة جَدْيٍ أكلوه شواءً وقال لهم هازئاً: “وليمتكم أكبر بعد أسبوع”.
وكان الاعتداء عليهم هو الوليمة الكبرى الموعودة،إذ اقتحم الدواعش مركز النقطة على التلّ وقتلوا خمسة شهداء بادىء الأمر وجرحوا أربعة، (كان عددهم نحو 20 داعشيّاً).
وفي الجوار على مسافة 1 كلم منهم كانت نقطة مراقبة البادية اليقظة على تل بركات قرب قرية عراجة، (وعراجة هي القرية التي رفض مُعظم أهلها بحزم التّعاطي مع المهرّبين من بدو ومن مهرّبين مَحَلِّيين ومن دواعش) قد اكتشفت نقطة عراجة الدواعش المُهاجِمِين بواسطة المنظار اللّيلي والكاميرا الحرارية التي في حوزتهم وهم يقتحمون على تل الهش وافتُضِح أمر تنفيذهم جريمتهم). وكان جواب نقطة تل عراجة عليهم ناراً حامية.
وفي رواية لشاهد محايد؛ أنّ الاتصال بين نقطة تل الهشّ كان مقطوعاً مع نقطة عراجة المجاورة إلى الشمال على مسافة نحو 1000م (بسبب الاستهتار الأمني من قبل عناصر الحراسة هناك) وفي آخر لحظة وعلى أثر الاشتباك الشديد على النقطة المُستهدَفة بين العناصر المدافعين عن التل الذين فاجأهم الهجوم وبين الدواعش؛ تلقّى ناصيف ناصيف حرب (وهو من عناصر تل الهشّ)اتّصالاً بالموبايل من أحد عناصر نقطة تل بركات، فطلب ناصيف من صاحبه في تل عراجة قصف المركز على تل الهش الذي يتمركز هو فيه، وضرب كلّ متحرك أكان عدواً أم صديقاً؛ لمعرفته بأنّ النقطة التي هو من عناصرها قد سقطت بيد الدواعش، وذلك بعد معاينته استشهاد وجرح غالبية رفاقه. وانقطع بعدها اتصال ناصيف بالرّفاق في تل بركات.
عندها حوَّل رجال نقطة تل بركات عراجة نيران رشاشاتهم إلى تلّ الهش وقاموا بتمشيطه ناريّا بالقذائف والرّصاص باتجاه الدواعش الذين هربوا من على التل وهم الذين لم يتوقعوا النار الفجائيّة التي جاءتهم من نقطة تل بركات عراجة…
أمّا البطل ناصيف ناصيف حرب فيُرجّح أنه استُشْهد أثناء الاتصال أو بعده مباشرة.
كان تدخّل نقطة عراجة مؤثّرا في مسار الاشتباك على التل ضد الدواعش إذ أصابتهم نيرانها فانسحب من بقي منهم حيّاً مُنْسَلّاً بين صخور أرض وعرة أكان جريحاً قادراً على الهرب أم سليماً، وقد وُجدت بعض جثثهم بعيداً شرقيّ تل الهش على مسافة ألف متر منه، وهذا يدل على تحمّل جرحى الدواعش آلام جراحهم عبر مسافة طويلة لتعاطيهم حبوب الكبتاغون المُخدّرة التي وُجدت في جيوب بعضهم، فعلى سفح التلّ وُجدت بعد هزيمتهم جثّتان كما وُجدت جثتان أُخريان بعيدا عن التل إلى الشرق ولا يمكن تقدير عدد القتلى الذين قد يكونون سحبوا جثثهم من أ رض المعركة.

القتال داخل دوما

نحو الرابعة كانت قد هوجمت الحارة الجنوبية من دوما، ويذكر أحد شهود المَوقعة “هَبّ قسم من شباب القرية للمشاركة في المواجهات ضد الدواعش في الحارة الجنوبية للقرية (بعد ما فضحت لعلعة الرصاص سرّيّة ما رتّبه الدواعش من خطّة) فأسقطوا منهم اثني عشر مسلّحاً مع خمسة قُتلوا على يد شهدائنا قبل استشهادهم، على التل) وكان غالبيّة قتلى الدّواعش يحملون أحزمة ناسفة”.
كان رجال دوما الذين أيقظتهم لعلعة الرصاص وانفجارات القذائف يسرعون فازعين إلى مواقع سماعهم إطلاق النار، لكنّ الدواعش كانوا قد تمكّنوا في بداية هجومهم من اقتحام أربعة بيوت مُتَطرّفة جنوبيّ القرية وأصحابها نيام وغدروا بهم قتلاً فكانت حصيلة ذلك ثمانية شهداء (شهداء البيوت هم كُلٌّ من صايل مخيبر وابنه الطفل ريّان وعمره نحو 15 سنة، وواثق شبلي جَمّول، وابنه رسلان وعمره نحو 17 سنة، وكمال محمّد النّجم حرب وأنيس زعل النجم حرب وشادي النجم حرب، وجلال علي الحسين).
كان معظم رجال القرية قد دخلوا المعركة دون أن يتوقّعوا أنّ العدوان داعشيّ!ّ!، لشعورهم الوهميّ السابق بالأمان لسنوات) وقد بلغ عدد أهل دوما الفازعين لقتال الدواعش أكثر من الخمسين رجلاً استطاعوا محاصرتهم والحدّ من انتشارهم، وخاصّة باتّجاه الغرب من القرية باعتبارها منطقة مرتفعة وتشكّل مدخلاً رئيسياً باتجاه شهبا.
ورغم سقوط عدد من الشهداء في أرض المعركة والالتحام مواجهةً في البداية، وقَتْل رؤساء مجموعاتهم الذين يرتدون الأحزمة الناسفة فقد سارع مقاتلو دوما لاعتلاء السطوح القريبة من المواقع التي يدور عليها القتال وأَصْلَوْا المهاجمين بنيرانهم الغزيرة فقُتِل 12 داعشياً من نيران السّطوح ونيران المواجهات على الأرض حيث يدور القتال وجهاً لوجه… وقد سَمِع أشخاص عديدون قول قائد الهجوم الذي أُصيب قبل أن يُقتل يصيح على جهاز الاتصال بعناصره “نحن خَسِرنا في دوما انسحبوا” وفُسّر هذا بارتباط الهجومين على دوما وتيما معاً”.
ومع طلوع الصباح ولَّى الدواعش هاربين تحت تغطية نيران قوية بالرشاشات من مجموعاتهم الخلفيّة التي يقدّر عددهم بالخمسين مُسَلّحاً.
– ما كان هدف الدواعش من العدوان على دوما؟
– قتل أكبر عدد من الرّجال وسبي النّساء.
– ألا تظنون أنّهم كانوا ينوون الاحتلال والتّمركز وإجلاء السكان؟
– الدواعش يعتقدون أنّ لجوءهم إلى القتل الهمجي يبثّ الرّعب في نفوس الأهالي وهروب من يبقى حيّاً، وبالتّالي فإنّ هذا يساعدهم على احتلال القرى.

حِيَل غادرة

لجأوا إلى حيل غادرة لا تقرّها أخلاق، فعندما كان يقرع أحدهم الباب كان صاحب البيت يفتح مُرَحِّباً متوقّعاً طلب إغاثة أو مساعدة ما، فيفاجئونه برصاصة في صدره،
بعد أن قتلوا ربَّ أحد البيوت ودخلوا إليه، سأل أحد الدواعش المرأة وهو يشير إلى شخص نائم في فراشه: من الذي ينام هنا؟
قالت المرأة باكية مُوَلْوِلَة:
– هذا ابني الوحيد، ولما حاولوا قتله تصدّت لهم وطلبت منهم قتلها بدلاً منه فأطلقوا عليه النار وهو نائم، فقتلوه، وأمروها أن تخرج من البيت وتصيح بأعلى صوتها كي يأتي الأهالي لنجدتها ونجدة أسرتها ليرشوهم بنارهم…
كان صوت الرّصاص قد أيقظ النّاس وبينما كان اثنان من الأشقَّاء ينطلقان تحت جنح الظلام تنبّها إلى ثالث غريب في مواجهتهما، فقتله أحدهم من فوره.
وهناك من هبّ للنّجدة دون أن يدري من يُنجد فينادي أينكم؟ وما أن يُحدّد الدواعش مصدر الصوت فيقنصونه بقنّاصة رُكِّبَ عليها منظار ليلي.
واجه أهالي دوما المعتدين لوحدهم، وكانت أسلحتهم الكلاشن، بعضها من قبل الدّولة، والأغلب ملك خاص والبواريد التشيكيّة وأكثرها بتسليم من قبل الدّولة (لكلّ بارودة مخزن واحد فيه عشر طلقات)، ومنهم من فزع بمسدس أو بارودة صيد، (لم يتأخر الحال حتى وصل بعض الشبّان من قرية عراجة فازعين للنّجدة)، وتمّت ملاحقة الإرهابيين وقُتِل بعضهم بينما هرب الباقون، وعند السابعة تقريباً وصلت الفزعة من السويداء وغيرها من قرى الجبل وبدأت عمليّة إسعاف الجرحى ونقل جثث الدواعش الذين كان بينهم العديد مِمَّن قدموا من مخيم اليرموك ومن الحجر الأسود.
“قدّمَ رجالنا في هذه الموقعة داخل دوما (عدا موقعة تل الهش التي فقدنا فيه ستة شهداء) خمسة عشر شهيداً وثلاثة جرحى وقد دامت المعركة قرابة الساعة والنصف كسرنا هجومهم ودحرناهم قبل وصول فزعة القرى”.
وقد انتهت الموقعة بالقضاء على كافة المهاجمين نحو السادسة صباحاً، ولم نتمكّن من تحديد عدد قتلاهم بالضّبط، لكنّنا سلّمنا اثنتي عشرة جثةً للأمن العسكري، ثمّ وجدنا شرقيّ تل الهشّ على مسافة 1 كلم ثلاث جثث بعد واحدٍ وعشرين يوماً من المعركة.


المتونة

هي إحدى قرى المَقْرن(1) الشّمالي وتتبع لمنطقة (قضاء) شهبا. تقع على حافة على مرتفع صخري عند الكتف الشرقيّ لِلّجاة على الضفة اليسرى لوادي اللّوى وعلى الطريق القديمة بين السويداء ودمشق. يبلغ ارتفاعها 845 م فوق سطح البحر.
عدد سكانها 2668 نسمة، وهي قرية أثريّة رومانيّة فيها مبانٍ قديمة مُتَهدّمة، وأبواب حجريّة من الحَلَس وقناطر دائريّة وبقايا كنيسة متهدّمة تعرف بالـ “قيصريّة”. عليها رسوم من الصّلبان، وحولها عدد من الخرائب الأثريّة منها خربة المتونة، وخربة رجم العيس، وقد وُجدت فيها لُقىً فخّاريّة تعود إلى عصر البرونز الوسيط.

تؤلّف أبنيتها القديمة القسم الغربي من القرية، أما الحديثة منها فهي مبنية من الحجر الإسمنتي والإسمنت المسلّح وتمتدّ شرقاً باتجاه الطريق العام.
يزرع سكّانها القمح والشّعير والبقوليّات وأشجار الكرمة والزّيتون واللّوزيّات ونصف أراضيها (الغربية منها؛ صخري رعوي ترعى فيه الحيوانات كالغنم والماعز والبقر الحلوب) ويهاجر العديد من شبانها للعمل في دول النفط وغيرها من المهاجر، بينما يعمل قسم آخر في وظائف الدولة وتعمل بعض الفتيات في صناعة السجّاد اليدوي كما تتزوّد القرية بمياه الشرب من الآبار الارتوازية بواسطة شبكة من الأنابيب تصل إلى منازلها(2).

الوضع قُبيل العدوان

يُقدَّر عدد المتواجدين في المتونة يوم العدوان بـ 1500 نسمة. ويقول شاهد عيان من القرية: “سُحب بعض السلاح الذي كان مُوَزّعاً علينا من قِبَل أحد الفصائل المسلّحة الصديقة قبل يوم الهجوم بأربعة أيام فقط… ولكنّ الفصيل نفسه وبعد الهجوم علينا وفي يوم الهجوم نفسه أعاد النظر بإجرائه، ووزّع السلاح مرة ثانية”.
– هل قصّرتم بالحراسة حتى سحبوا السلاح منكم؟
– “بالنسبة للحراسة؛ البعض كان يلتزم والبعض كان غير ذلك… كما في كل مكان ولكن ليس من مبرّر لسحب السلاح من الـ كلّ، لكنّنا لم نعلم السبب الذي جعل ذلك يحصل”.
أمّا من حيث وضعنا في القرية فنحن لم يكن في قريتنا تهريب ولا منّا من شارك بالتعفيش الذي جرى وتلوّث به كثيرون …
ويذكر أحد الشهود أنّه كان في المتونة بعض البدو والرّعاة البدو من المشكوك بأمرهم.
كما أنّه في يوم الهجوم لم تكن لدينا مراقبة للجوار ولا نقطة حراسة…

العدوان على القرية

هجم المعتدون على القرية من الجهة الشماليّة الغربيّة في الساعة 4,48 من فجر يوم 25 تمّوز 2018، مستغلّين غياب الحراسة. كانوا نحو 15 داعشياً (اقتحموا الحارة التي تليهم أوّلاً)، عدا عناصر الإسناد الخلفيّة لهم والتي تعمل لتغطية هجومهم على القرية، وكان يغطيهم عدد من القنّاصين كانوا على أقواس اللّجاة (وهي عبارة عن تلال صخريّة من اللّافا البركانية المُتحجّرة، صغيرة الحجم مشرفة على ما حولها تقع على مسافة 200 م من الحارة التي استهدفها الهجوم في القرية).. وقد قَدِموا من منطقة ندعوها بـ: كتف اللجاة، أي الجانب المرتفع من منطقة هي عبارة عن بحر من الصخور الصلدة مساحتها 600 كلم2 ينتشرون في قراها وكهوفها ومغاورها المتناثرة فيها. عملوا بشكل عدائي منظّم، إذ هم توزّعوا في أماكن حسّاسة من الحارة التي داهموها فاقتحموا أربعة منازل على غفلة من سكانها النيام، وكانوا أشبه بوحوش بدائية؛ قاموا بقتل خمسة أشخاص في المنزلين الأوّلين؛ وهما منزل المرحوم سلمان طربيه حيث استشهد فيه الشاب عُدَي طَرَبيه (24 سنة) (وقد نجت عمّته من القتل)، واستشهدت السيّدة إقبال حمد نوفل (أرملة عمّه 30 سنة)، ومنزل فريال الحلبي (51سنة) زوجة المغترب عفّاش الحلبي التي استشهدت هي وبناتها هناء (27 سنة) وهبة (25 سنة). وفي المنزلين الآخرين أصابوا سكّانهما بجراح.

يقول من شهد الوقيعة: “سمعنا أنا وزوجتي أصوات لعلعة رصاص وصراخ نساء، كان عندي ضيوف نيام في المنزل، حملت مسدسي وقبل خروجي من باب المنزل نادتني زوجتي قائلة: “لا تشيل همنا يا… عندك إياهم، (أي قاتلهم) وكان في يدها قنبلتان، وقالت لي: قنبلة لهم، والثانية لنا لكي نموت قبل أن يأسرونا”
في الباحة أمام المنزل فوجئت بهم، كانوا أكثر من ثلاثة مسلّحين غرباء في باحة الدار وعلى الطريق نحو 10 آخرين، سألت نفسي: مَنْ هؤلاء الأشرار!؛ وماذا يريدون؟ وأدركت نيّتهم عند إطلاقهم النار عليّ وعلى منزلي. وحيث يوجد عند مدخل الدار حديقة فيها أشجار كثيرة واجهتهم بينها، كانوا يشتمون الدّروز ويكفّرونهم وينادون علينا للخروج إليهم لمواجهتهم، كانوا يعرفون المنطقة ومداخل بيوتنا بشكل جيد، وذلك من خلال خبرة وحركات البدو من رعاة القرية المتعاونين أو العابرين لغايات التجارة والبيع والشراء في ظاهر الأمر، واستطلاع المنطقة في واقع الحال.
كنّا ندرك أنهم ينوون قنص من يبادر إليهم بدون أن يواجههم بالرّصاص، وفي تلك اللحظات الحرجة كانت لعلعة الرصاص تعلو على أصواتهم.
رميت بنفسي تحت شجرة زيتون تمويهاً بجانب الحيط وحمتني رعاية الله. كنّا نواجههم ثلاثة أنا وأخي حمزة وعمّي حامد الحلبي الذي يقع منزله جوار منزلَيْنا. وأثناء الاشتباك خرج من بيته جارنا الشاب فيصل عامر ليستطلع حقيقة الأمر فأصيب بقدمه إصابة بالغة، وكان أعزل من السلاح. كان موقفنا الدفاعي حَرِجاً… أحد الإرهابيين كان متّكئاً على عامود الكهرباء ويطلق النار على منزل جارنا زحفت سريعاً حتى صرت قريباً منه، فرميته من مسدّسي، وقد أصبت آخر بعده. وذعروا لمفاجأتي إياهم عندما رأَوْا أنّ أحدهم سقط قتيلاً والآخر جريحاً، فصاروا ينادون بعضهم “مقاومة مقاومة” وازدادت شراستهم فأخذوا يرمون القنابل اليدويّة ويطلقون النار عليّ وعلى منزلي وعلى المنازل المجاورة. أخي حمزة ومنزله لصق منزلي كان يواجههم عبر نافذة منزله (أنا وهو منزلنا واحد بمدخلين). وكان قد احتمى في منزل أخي حمزة؛ الشاب أمجد الحلبي الذي دُوْهِمَ بيته غدراً وهو ابن الشهيدة فريال وأخو الشهيدتين هبة وهناء. كان هارباً من القتل المحقق الذي شاهده في بيته أثناء مداهمة الإرهابيين للأسرة التي أُبيدت، ولم يكن لديه من سلاح ليقاوم المعتدين به.
أمّا عمي حامد الذي كان مُدَرِّباً أيام الوحدات الخاصة (عمره 56 سنة) في فوج العميد نايف العاقل؛ فقد كان يقاتل من منزله المجاور لمنزلينا أنا وأخي. وفيما بعد هجم إلى عرض الشارع لتتسع دائرة قتاله لهم؛ فيدافع عن منزله وعن منزل أرملة جارنا تركي ركاب أبو لطيف وبناتها الثلاث، إذ قام بقتل الإرهابي الذي كان يعمل على خلع أبواب المنزل الذين يقطنون فيه….
كان عددنا في تلك المواجهة ثلاثة مسلّحين ببارودة تشيكيّة مع عمي حامد وروسية مع أخي حمزة الذي كان يواجههم عبر نافذة منزله المجاور لبيتي ومعي مسدس 10,5،
وشعرت بقدوم الفزعة من شباب القرية فقوي عزمي أكثر … كان قد مضى على الاشتباك نحو ربع ساعة أو أقل بقليل شعرت بوجود قوّة تساندنا، إذ كانت الفزعة التي كنت أتوقّعها من الشيخ ناصر ركاب والشاب رمزي حسن اللذان نادياني باسمي للاطمئنان عليّ ومن ثمّ لحق بنا الشيخ إياد الحلبي والشيخ هيسم جعفر وتتابع الرجال حتى أصبحنا قوّة نحو 40 مسلّحاً. ومن ثم فزعات من قرى الجوار.
تراجع الإرهابيون بعدها تاركين خلفهم جثتين ورشّاش BKC (كان مرمياً بالاتجاه الآخر من منزلي أمام بيت عمي حامد)، وجعبتين واحدة فيها رصاص كلاشينكوف والثانية فيها رصاص M16 وحبوب كبتاغون وشاش وأدوية جروح… وقد سحبوا معهم ما لا يقلّ عن ثلاثة جرحى.
بعد تراجع الإرهابيين أخذنا نلاحقهم خارج الحارة باتجاه اللّجاة وتذكّرت أنّ ذخيرتي نفدت فعدت مسرعاً إلى المنزل لأخذ بعض الطّلقات. فوجئت بأخي حمزة يخرج من المنزل وبيده بندقيته ويده الأخرى التي صبغها الدّم يضعها على خاصرته يسدّ بها جرح رصاصة أصابته، فأخذت منه البندقيّة وذخيرتها وأكمّلت المهمّة باتّجاه عمق اللّجاة برفقة عدد من شبّان القرية والفازعين… وعند عودتنا من ملاحقة الإرهابيين بعد أكثر من ساعة ونصف علمت باستشهاد عُدَي وإقبال وفريال وبناتها، وعلمت بأنّ عمي حامد (وهو أب لأربع بنات وشاب) استبسل في مقاومتهم وهو جريح. وكانوا قد نقلوه بعد الاشتباك إلى المشفى الوطني في السويداء (تبعد السويداء عن المتونة نحو 33 كلم) وبعد ساعتين وصلنا نبأ وفاته شهيداً.
وقُتِل من المهاجمين في موقع الاشتباك اثنان (واحد منهم عرفناه من منطقة الشياح بدوي، والآخر من مخيّم اليرموك… وهما من تركيبة مهاجمي المقرن الشرقي فمن لهجاتهم أثناء المواجهات عرفنا أنّ بعضهم من البدو ولكن الآخرين لم نتمكّن من معرفة لهجاتهم…
كانت قناصات الإرهابيين المتحصّنين داخل وعر اللجاة تعرقل وصول الفزعة بالسرعة المطلوبة فهم يتمركزون في مواقع وَعْرِيّة حصينة بينما نحن كنّا نلاحقهم في سهل منبسط نسبيّاً وهذا سبب تأخّر وصول الفزعة من رجال القرية لملاحقتهم عند انسحابهم وأخيراً طاردناهم في اللّجاة لمسافة 2,5 كلم وقتلنا ثلاثة منهم بسلاحنا الفردي الخفيف.

كانوا نحو 20 إرهابيّاً ولابدّ أن الزيادة عن العدد الأولي للمهاجمين الـ (15) جاءتهم من التحاق بعض عناصر الإسناد الخلفيّة بهم لحمايتهم وهم ينسحبون أمامنا.
وسُئِل شاهد عيان آخر: هل تظن أنّ قصدهم الاحتلال؟
– أكيد؛ لأنّ البطش بالسكّان الآمنين كان يهدف لترويع الآخرين واحتلال القرية. وكانوا يحاولون الصعود إلى سطوح المنازل والتّمترس فوقها وإيقاع القتل بالناس لكنّهم فوجئوا بما لم يتوقّعوه من مقاومة.
– كم دامت المعركة داخل القرية؟
– دامت المعركة ضدّهم نحو 17 دقيقة ولكنّ المطاردة في اللّجاة دامت أكثر من ساعة ونصف.
– ما القرى التي فزعت لكم.
– قرى اللّوى من لاهثة وحزم وأم حارتين وغيرها حتى الصورة الكبيرة، وعندما وصلت أولى الفزعات كانت المعركة داخل القرية قد شارفت على نهايتها
– من أيّة قاعدة هاجموكم؟
– البعض يقول أنهم جاؤوا من المنطقة الشرقية والبعض الآخر يقول من جدل وما حولها من مغاور وكهوف في الصخور إلى الغرب منّا على مسافة نحو 10 – 20 كلم من المتونة، وجدل عبارة عن قرية بدويّة تشكّل معقلاً حاضناً للإرهابيين.
– هل تضرّرت المنازل جرّاء الاشتباك؟
– نعم تضررت جدران المنازل في الحارة حيث جرى الاشتباك وحاليّاً تقوم ورشات عمل من قبل المحافظة تعمل على ترميم الأضرار وإصلاح ما جرى تخريبه.
– كم عدد شهداء المتونة؟
– عدد شهداء المتونة ستّة أشخاص، شابان و4 نساء.
– هل تظنّ أنهم سيعيدون الكرّة على المتونة؟
– لا أستبعد، فهم غدارون ولا أمان لهم، ونحن نراقب المنطقة باستمرار ونرصد تحرّكاتهم الليليّة والنهاريّة التي هي غير خافية علينا ولا على الدّولة.

(1) الـمقرن: كلمة يُقصد بها مجموعة من القرى في محافظة السويداء ومواقع هذه القرى بالنسبة لمدينة السويداء مركز المحافظة، فهناك المقرن القبلي وهي القرى والحواضر جنوب السويداء، ومثلها المقرن الشمالي والشرقي والغربي…
(2) نصر، إسماعيل متعب، السويداء بين الزمان والمكان،2012، ص 142 ــ 143.


السُّويَمرة

تتبع السّويمرة منطقة (قضاء) شهبا، (تبعد عن السّويداء إلى الشمال 30 كلم وعن شهبا 8 كلم شمالاً) وتقع على الحافّة الشرقيّة لصبّة اللّجاة البازلتية التي تشكل الضفّة اليسرى لوادي اللِّوى. ترتفع عن مستوى سطح البحر 870 م، ويمر من شرقها طريق السويداء دمشق، وبها عمران قديم ومبانٍ مُتَهَدِّمة على شكل خرائب ومنها بقايا معبد قديم بُنِيَ على أنقاضه مزار القُرَشيّ (يُنسَبُ لأبي عبد الله محمّد بن وهب القُرَشِيّ وهو أحد دعاة التوحيد البارزين أيام الخليفة السّادس؛ الحاكم الفاطميّ).
وفيها بئر أبو قناطر الأثري وبركة ماء وُجِدَت فيهما لُقىً فخاريّة من عصر البرونز المُزامن للكنعانيين في الألف الأول قبل الميلاد.
وقد خَرِبَت القرية قروناً مديدة إلى أن أعاد إعمارها بعض آل عامر نحو عام 1858م بعد أن كانوا قد وطّدوا وجودهم في شهبا. وغالبيّة القرية اليوم تنتمي لآل عامر عدا بيت واحد من آل الداهوك، وبيت آخر من آل الأوس….
يشرب سكان السويمرة من بئرٍ ارتوازيّة بعمق 425 متراً وتتوزّع مياه الشرب على سائر بيوت القرية. وتُزرع في أراضيها السّهليّة شرقي القرية الحبوب من قمح وشعير وبقوليّات بالإضافة إلى أشجار الكَرمة والزّيتون واللّوزيّات، أمّا الأرض غرب السويمرة فهي جزء من وَعرة اللّجاة، عبارة عن مَراعٍ صخريّة تصلح لرعي الماشية. وتكثر في أراضيها تلك أشجار البُطْم ونبات السّوس .. وتهتمّ فتيات القرية بصناعة السجّاد اليدوي وأطباق القش …
والقرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها الـ 500 نسمة أمّا المتواجدون منهم فيها يوم الهجوم الداعشي فهم نحو الـ 350 نسمة، والشباب الموجودون في القرية نحو الثلاثين شابّاً يومها.
يقول أحد مواطني السّويمرة: “منذ بدايات الأحداث وعندما لاحظنا تعاطف العديد من البدو مع الإرهابيين كحاضنين لهم وأدلّاء قمنا بطردهم من القرية وطلبنا ممّن عندهم مَواشٍ من مواطنيّ قريتنا أن يتدبّروا أمورهم بأنفسهم، وبالنّظر لقلّة أعداد المواشي في القرية فقد تجاوب الناس معنا حِرصاً على أمن ضيعتنا، واعتمدنا راعياً من شبّان السّويمرة. لكنّ البدو على سبيل المثال يقيمون بجانبنا في قرية أمّ الزّيتون، وكذلك في قرية المتونة المجاورة (2,5 كلم إلى الشمال منّا) يتواجد بدو ورعاة كان مشكوكاً بأمرهم ويا للأسف”.

العدوان على السّويمرة

هوجمت السّويمرة في الساعة 4,45 صباح يوم الأربعاء في 25 تموز 2018 وفي وقت مُتزامن تقريباً مع الهجوم على المتونة المُجاورة التي تقع إلى الشمال منها، ويذكر شاهد عيان أنّ عدد المهاجمين بلغ نحو15 داعشيّاً أو يزيد، هجموا عبر اللّجاة من الجهة الغربيّة للقرية، وحيث لم تكن من نقطة مراقبة أو حماية ضد أي هجوم مُحْتَمَل، لأنّ الناس كانوا مطمئنين إلى أنّ المواجهات مع العدو الإرهابي قد انتهت، لدرجة أنّ أحد الفصائل المسلّحة العاملة على مقاومة الإرهاب في محافظة السويداء قد سحب السلاح الموزَّع للحماية من بعض الرّجال يوم الاثنين السابق ليوم الأربعاء الذي تمّ فيه الهجوم، غير أنّ السلاح المُسَلَّم للآخرين من رجال القرية من قبل الدفاع الوطني لم يتمّ سحبه، وبعد المعركة أعاد الفصيل الذي سبق له أن سحب السلاح تسليم 18 بارودة ، كما قام الدفاع الوطني بتسليم 11 بارودة أُخرى زيادة على ما كان قد وزّعه سابقاً، وكلّ ذلك كان من أجل مزيد من التَّحَرُّص خوفاً من هجمات مُرْتَدَّة لأنّ الدّواعش لم يتمّ اجتثاثهم الكلّي من اللَّجاة بعد…

غدر مخالف لقيم الإسلام والعروبة والإنسانيّة

هاجم الدّواعش القرية مُشاةً مُنطلقين من قواعدهم التي تبعد نحو 20 كيلو متراً في قرية جَدْل البدوية اللّجاتية الحاضنة لهم وما حولها من مغاور وأوكار اتّخذوها ملاجئ لهم.
وقد زيّن لهم شيطانهم أن يبدأوا الهجوم على خمسة بيوت مُتَطَرِّفة عن الحارة الشمالية في القرية؛ حيث تبعد تلك البيوت عن بيوت السويمرة نحو مئتي متر شمالاً، وتقع إلى الغرب منها مزرعة صغيرة فيها مدجنة بسيطة لتربية الفرّوج لمالكها الشاب عاصم صايل عامر (32 سنة).
اقتحموا المزرعة أوّلاً، وفي غرفة الإدرة كان عاصم نائماً بانتظار وصول دفعة من الصيصان (في يوم تنفيذ الهجوم!) حيث يعمل على تسمينها وبيعها فرّوجاً فيما بعد. تلصّصوا عليه من شبّاك الغرفة؛ ثمّ قنصوه وهو نائم على سريره، وتوجّهوا بعدها لاقتحام البيوت الخمسة المجاورة للمزرعة..
استخدموا في هجومهم أسلحة مُتنوّعة، منها الـ RPG، ورشّاشات الـ BKC وقناصات 5,5 مم وبواريد روسيّة وقنابل يدويّة، ومتفجّرات… ومن خلال استهدافهم للبيوت كانوا يُطلقون النار على سائر القرية القريبة منهم برصاص متفجّر لدرجة أنْ شعر سكّان كلّ بيت وكأنّ المعركة تستهدف بيته بالذّات، ويبدو أنّ هدفهم كان تطفيش الناس من بيوتهم تمهيداً لاحتلالها.

فشل الدّواعش في اقتحام أيّ بيت

كانوا في هجومهم ذاك يهدفون إلى احتلال البيوت والتّمركز فيها أوّلاً، ومن ثمّ لينتشروا في القرية بعدها، لكنّ المقاومة التي لَقَوْها من نضال ممدوح عامر (41 سنة) الذي كان قد صحا من نومه (مع أسرته الصّغيرة المؤلّفة من زوجته وابنته وابنه الصغير) على صوت الطلقات التي قتلت عاصم، فتهيّأَ لهم، وما أن نظر من شبّاك بيته حتى رآهم يطوّقون البيت فاندفع ببارودته التشيكية وقنبلته اليدويّة التي لا يملك غيرها إلى خارج باب البيت ولمّا رآهم في مواجهته رمى قنبلته على جمهرة منهم كانوا يتقدمون باتّجاهه ثمّ ارتّد داخلاً إلى منزله متحصّناً فيه، وأخذ يقاتلهم ببارودته التشيكية عبر نوافذ المنزل، كانت قنبلته تلك قد خففت من حدّة اندفاع المهاجمين الذين تراجعوا قليلاً ليصبُّوا المزيد من نيرانهم على المنزل، ويبدو أنّ القنبلة التي رماهم بها، ومقاومته لهم بعد ذلك أدّيا إلى قتل وجرح عدّة مهاجمين…
وفي حصارهم لمنزل نضال فشلوا في اقتحامه بادئ الأمر، كما فشلوا في اقتحام المنازل الأخرى، وانتقاماً من عجزهم ذاك قاموا بقصف المنزل بالقنابل والـ RPG ورشقه بالرشاشات، ومن ثمّ خلعوا باب المنزل بالرّصاص، واقتحموا البيت غير أنّ الزّوجة نجت بالأسرة إذ احتمت بأولادها داخل حمّام الأسرة، واستشهد نضال وهو يدافع عن المنزل بعد أن رمَوْا القنابل داخله فاشتعلت فيه النيران؛ ومن كثرة الدخان والنار عميت أبصارهم عن الأسرة المُحْتمية بالحمّام. كما رَمَوْا قنابل ورشقات من نيران أسلحتهم على بيت ابن عمّه جواد عامر (29سنة) الذي كان يقاتلهم ببارودته الروسيّة التي كان قد تسلّمها من فصيل الدّفاع الوطني.

فزعة القرية وقرى الجوار تدفع بالدواعش للتراجع

في تلك الآونة الشديدة الحرج على جواد الذي بقي وحده في المواجهة وصلت طلائع الفزعة من القرية التي استنفرها رصاص المعركة الأمر الذي اضطرّ الدواعش للانسحاب دون أن يتمكّنوا من سحب آخر جثة لأحد قتلاهم بقيت في أرض المعركة أمام بيت نضال (وُجِد في جيب القتيل الإرهابي مُغَلَّف من النايلون يحتوي على مادّة مُقوّية صناعة الباكستان، مكتوبٌ على غلافه كلمة عنوان “قُدرتي” ومسواك. كما وُجِدت خمس جثث من قتلاهم متروكة في طريق انسحابهم على أثر قيام الجيش بتمشيط المنطقة وتثبيت منطقة أمان فيما بعد).
كانت قاطنو البيوت الأخرى عُزَّلاً من السلاح، أحدها تسكنه أسرة لوافد من النازحين هرباً من الحرب في غوطة دمشق، وقد استشهد والدا الوافد أثناء الهجوم على البيت الذي يسكنونه، ذلك أن الوالد المسنّ عندما سمع لعلعة الرصاص مع الصباح في الخارج فتح الباب مُسْتَطْلِعاً فناولوه رصاصة قتلته، ثمّ اقتحموا المنزل وقتلوا الزّوجة العجوز في فراشها. وقد استُهدفت سائر البيوت الخمسة بالعدوان، لكنّ المقاومة الباسلة من قبل نضال وجواد عامر ساهمت في تعويق اقتحامها إلى أنْ وصلت فزعة القرية التي كان سلاحها يقتصر على بواريد تشيكية نحو 12 بارودة، وبواريد روسيّة نحو 14… وقد نجحت الفزعة في دفع المهاجمين بعيداً باتجاه اللّجاة التي قَدِموا منها وتوغّلت تطاردهم نحو 2 كلم بين الصّخور بينما كانت جماعات من الإرهابيين في الخلف منهم تغطي انسحابهم بإطلاق النار على الفازعين لتعويق ملاحقتهم لهم، وكذلك على سائر القرية التي فشلوا في الوصول إليها، وقد استمرت معركة المواجهة نحو ثلاثة أرباع الساعة.
يقول شاهد عيان: “ومن طرائف المواجهه أنّ بعض الشباب الفازعين كانوا يهاجمون بيننا بدون أن يكون معهم أيّ سلاح، ولمجرد المساعدة ورفع المعنويات، أو تقديم ما يطلب منه.”
استُشهد في ذلك الهجوم الغادر على السّويمرة أربعة شهداء: شابّان هما عاصم عامر ونضال عامر، كما استشهد الرّجل المسنّ النّازح من قرية دير سلمان من غوطة دمشق إلى القرية ومعه الشهيدة زوجته.

تنظيم الحراسة على القرية

بعد الهجوم على السّويمرة تمّ تنظيم حراسة مُشدّدة بسبب الخطر المُحتمل من تجدّد العدوان، وذلك لأنّ اللّجاة بمساحتها الصّخرية الواسعة وكهوفها ومغاورها والقرى البدويّة الحاضنة للإرهابيين كلّ ذلك يشكّل مصدر خطر إلى حين القضاء عليهم نهائيّاً، ولهذا فإنّ الدَّولة أرسلت قوّة من الجيش تمركزت إلى الغرب من القرية، كما يقوم شبّان القرية ورجالها بحراسة ومناوبات منتظمة حِرصاً على أمن السّويمرة المتاخمة بشكل مباشر لبؤر الإرهابيين.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”شهداء الغدر” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشبكي – 60 شهيد

سلمان اجود الجباعي ابتسام فوزات مقلد
نسيب فواز الجباعي أدهم مهنا أبو عمار
نصر الدين محمد الجباعي أسامة شافع أبو عمار
نوال متعب الجباعي إسماعيل زيدان الجباعي
هلال ناصيف أبو عمار أمين عطا الجباعي
هنا فيصل أبو عمار أيمن سليمان أبو عمار
ورد الشام مقلد بنية سامي أبو عمار
ياسر مهنا أبو عمار توفيق جديع الجباعي
يحيى قاسم الجباعي ثامر جاد المولى أبو عمار
يوسف زيدان الجباعي جهاد علي أبو عمار
كمال أسعد أبو عمار خالد حسن الجباعي
مشرف توفيق الجباعي خالد ثليج الجباعي
معن جاد الكريم أبو عمار راما سعيد الجباعي
منتهى فهيد الجباعي روان سعيد الجباعي
منصور مهاوش الجباعي ريدان سالم الجباعي
منهال صالح أبو عمار ريدان منصور الجباعي
مهند نوفل أبو عمار زيدون ثليج الجباعي
ناظم عز الدين الجباعي سعيد جاد المولى أبو عمار
سمية حسين الشاعر شوقي جاد المولى الجباعي
آية ثامر أبو عمار صالحة هاني الجباعي
جاد المولى ثامر أبو عمار عاقل فيصل أبو عمار
ربا ثامر أبو عمار علي هاني أبو عمار
سناء عز الدبن أبو عمار غصن حسن أبو عمار
حسن علي الجباعي فاضل عطا الله أبو عمار
برزان سعيد أبو عمار فايز عطا الجباعي
هندي فهيد الجباعي فرحان أسد الجباعي
مأمون علي أبو عمار ضحى نصر الدين الجباعي
زاهية فواز الجباعي فايز بهاء الدين الجباعي
ضحى هنيدي الجباعي لطفي فهيد الجباعي
لطفي فهيد الجباعي ألماسة ثليج الجباعي
الشريحي – 39 شهيد
إقبال زيد صعب رعد بسام صعب
أيسر أيمن صعب أمين سلامي سلاّم
بسام فوزي صعب بشار منعم صعب
بشير فندي سلاّم جمال لطفي صعب
حسام ماجد سلاّم حلا وليد صعب
ربيع رسلان صعب زاد الخير جابر سلاّم
نورا أجود صعب هيلة وليد صعب
هشام منصور صعب واصف صالح صعب
وجدي شاكر سلاّم وليد أنيس صعب
تميمة حسين صعب بهجت عطا الله صعب
زاهي جاد الله صعب مقبولة حسين صعب
لطفي أحمد صعب بهجت بسام صعب
محمد قاسم سرحان معين مزيَد صعب
مقبولة عبد الحميد حمايل منصور أحمد صعب
مها فوزي صعب مهران راضي صعب
مهيب نضال صعب ناجي متروك سلاّم
صالح هاني صعب صياح هاني صعب
عتاب منصور علبة عدنان قاسم سرحان
تميمة حمود صعب عاصم زاهي صعب
فرج احمد صعب
دوما – 21 شهيد
أنور محمد ناصيف أنيس زعل حرب
جاد الكريم معذى ناصيف جلال علي الحسين
خضر منعم حرب راجح فرحان ناصيف
رسلان واثق جمّول رياض صايل مخيبر
زياد يوسف الحسين زيد زياد ناصيف
زيد سالم ذيب مخيبر سامر يوسف حرب
واثق شبلي جمّول وهيب نزيه مخيبر حرب
كمال محمد حرب مدحت سلامة ناصيف
معذى سليم حمزة منور أنور ناصيف
ناصيف حمادة ناصيف شادي نجم الدين حرب
صايل جايد مخيبر
رامي – 20 شهيد
أسامة نزيه مقلد افرنجية سعدو مقلد
أكرم سعدو مقلد أيمن مقلد مقلد
دانيال ناصر مقلد راشد شاكر مقلد
رأفت شفيق مقلد راما شاكر مقلد
رواد صابر مقلد سجيع فضل الله مقلد
نورس فؤاد مقلد هاشم حمد مقلد
هاشم منصور مقلد معين عبد الكريم مقلد
طارق يوسف مقلد طليع يوسف مقلد
فارس مرسل مقلد فداء جاد الله مقلد
فرحان رشراش مقلد فندي شفيق مقلد
المتونة – 6 شهداء
إقبال حمد نوفل حمد سالم الحلبي
فريال راغب الحلبي هناء عفّاش الحلبي
هبة عفاش الحلبي عدي طربيه طربيه
طربا – 6 شهداء
أكرم شحاذة الخطيب سهيل سليم سلاّم
بسام ماجد الغوطاني كامل ذيب سلاّم
مبارك شبلي الخطيب عاهد رجا الغوطاني
المزرعة – 3 شهداء
إبراهيم جاد الله المنصور إياد محمد العقباني
يوسف محمد العقباني
الرحى – 4 شهداء
إبراهيم زياد الغضبان خالد عماد مسعود
وائل نزيه الجغامي يحيى فواز الأعوج
السويداء – 25 شهيد
أدهم سعيد الخطيب إياد نسيب الشعّار
بشار طلال حيدر جمال حسين زيتون
خالد فواز أبو شقرا رأفت صياح الراشد
ربيع مرسل الظاهر عزّام سلمان هندي شرف الدين
هندي يوسف أبو سعيد وائل يحيى بدران
وليد جميل صعب يامن جمال أبو عاصي
حلوة نمر عطعوط لؤي صلاح مسعود
مأمون عبد السلام زاعور ماهر عطا الله غرز الدين
محمد علي دندل محمود طالب إبراهيم
زاهي جاد الله الجباعي شاهر حسن عبيد
صفوان بدر اللبان عامر سلمان نصر أو عامر سلمان علي
قصي فيصل رستم يامن محمود خضير
نجا مفيد أبو شاهين
شهبا – 3 شهداء
إيهاب ريدان الصحناوي سعيد مزيَد خداج
صقر أنور الخطيب
الكفر – شهيد واحد 
بهاء حسن الشعّار
غيضة حمايل الشمالية والجنوبية – 5 شهداء 
جابر قاسم حمايل محسن فواز حمايل
معين فوزي حمايل صابر قاسم حمايل
علاء مفيد حمايل
ملح – شهيد واحد 
جمال إحسان عبيد
تعارة – شهيدان 
جوليان إياد الحسين عزّام كنان إياد الحسين عزّام
ريمة اللحف – 3 شهداء
حمد جاد الكريم الخطيب أبو فخر يعرب فيصل أبو فخر
عدنان فوزي عبد الحي أبو فخر
المجيمر – شهيدان
حمد زيد الجباعي هزّاع زيد الجباعي
الكسيب – 3 شهداء
خالد فواز المتني مازن صياح المتني
مكرم شبيب سلاّم
عتيل – شهيدان
خلدون فواز العربيد طلال خير النصّار
العجيلات – 3 شهداء
رامز سليم أبو زيدان سميح حسين أبو زيدان
صالح نور الدين أبو زيدان
داما – شهيد واحد 
رائد فهد القنطار
القريا – شهيد واحد
ركان طلال حديفه
ساله – 3 شهداء
رمّاح جمال كمال سامر صياح نصّار
عدنان غزلان
نمرة شهبا – 3 شهداء
سامر برجس الأباظة بسام جاد الله الأباظة
مزيد سليم دلال
صلخد – شهيد واحد 
سامر منصور غرز الدين
عرمان – شهيد واحد
نبيل أنيس صيموعة
السويمرة – شهيدان
نضال ممدوح عامر عاصم صايل عامر
عرى – شهيد واحد
وليد إسماعيل زين
سعنا – شهيد واحد
وليد محمد علبة
قنوات – شهيدان 
يوسف فهد أيوب فيصل كمال شلهوب
أم الزيتون – شهيد واحد
كمال عفّاش حيدر
الحريسة – شهيد واحد
ماهر خلف زين الدين
رساس – شهيد واحد
محمد هزّاع البدعيش
العفينة – شهيد واحد
مهنا زياد النمط
طليلين – شهيد واحد
شادي فيصل أبو مغضب
بوسان – شهيد واحد
عبّاس حمد الشاعر
الجنينة – شهيد واحد
عدنان رضا الحامد
رشيدة – شهيد واحد
عطا الله شجاع
المجدل – شهيد واحد
عماد فواز السلمان
حوط – شهيد واحد
عماد محمود الصالح
الدور – شهيدان
ناظم سالم أبو فخر الشعراني وائل صلاح مسعود
المنيذرة – شهيد واحد
إياد سلاّم خضر
الغارية – شهيد واحد
حارث طلال نادر
عنز – شهيد واحد
فواز سامي الأطرش
المشقوق – شهيدان
ماهر فوزات عزيز عاهد حسن عبيد
صما البردان – شهيد واحد 
عبيدة ناظم الشوفي

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خاتمة الملف” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

وبعد…. فـالضّحى، التي عوّدت قراءها وأصدقاءها أن تكون معهم في الأفراح والأتراح، قد هالها اتساع الهجمة الإرهابية التي طالت محافظة السويداء، فأهلوها وطنيون مضيافون، والسويداء ونواحيها مقصد كل مستغيث وضيف، كما كانت دائما، وبخاصة في الأحداث الأخيرة التي عصفت بسورية منذ ثماني سنوات.
وعليه، حرصنا أن نقدّم هذا الملف احتراماً لأرواح الشهداء، ودعاء للمخطوفات ظلماً، وتحيةً للأبطال الذي ذادوا عن الحمى: مشايخ وشباناً ونساء، استعادوا تقاليد جبل العرب في تقديم التضحيات وإظهار الشجاعة بل البطولة دفاعاً عن الأرض والعرض والحق.
وأخيراً، فـالضّحى ملزمة أن تقول، مهنياً، أن الروايات الحيّة التي تقدّمها من أمكنة الأحداث هي على ذمة رواتها وكتّابها، ومصادرهم؛ مشكورين على كل الجهد الاستثنائي الذي بذلوه، لكنها وبالشجاعة نفسها لا تتردد في الاعتذار إذا حصل أي خطأ غير مقصود، أو إغفال لإسم أو مكان؛ فالخطأ كما قلنا غير مقصود، وهو متوقع في حالات شديدة التعقيد وبعيدة مكانياً ومهنياً عن إمكانية التحقيق والتدقيق من قبل أسرة المجلة، وهو ما نفعله في كل المواد التي تردنا.
نختم بتكرار الوقوف مع الأهل في السويداء وقراها، ونجدد الدعوة والدعاء بإطلاق سراح المخطوفات ظلماً من قرى المقرن الشرقي في المحافظة: فخطف النساء والاستمرار في احتجازهن ليسا من تقاليد الحرب في شيء، عدا مخالفتهما الصارخة للمبادئ والنواهي الصريحة في العقيدة والسلوك الإسلاميين. فعسى يصل هذا النداء إلى من بيده الحل والربط في الموضوع.

رئيس تحرير الضّحى

[/su_spoiler]

المُخَدِّرات آفة العصر!

تقديم:

نبدأ الملف بتوصيف سماحة شيخ العقل لظاهرة انتشار المخدرات باعتبارها “آفة العصر”. وهي حقاً كذلك. لا نظن أن مرضاً (حتى السرطان) فتك بناس عصرنا كما فعلت المخدرات، بأنواعها المختلفة. لم تفعل الحروب، بمآسيها وضحاياها، ما فعلته آفة المخدرات.
كيف لا، والمخدرات تستهدف الأجيال الشابة على وجه الخصوص. وهي بذلك لا تقتل حاضر الجماعة والمجتمع فقط، بل تقتل مستقبلهما قبل ذلك وفوقه. هل رأيت آفة أخرى تحيل الحي ميتاً فيما هو على قيد الحياة؟ وتحيل الشاب كهلاً، فيما هو في ريعان صباه؟
هل رأيت آفة أخرى إذا أقفلت الباب في وجهها دخلت من النافذة؟ وإذا أحكمت إقفال النافذة تسللت عبر مسام الجدران؟
هل رأيت آفة أخرى تتمكن من مريضها، إلى الحد الذي يفقد معه كل إرادة للمقاومة، فيستسلم لها استسلام العبد الخانع الذليل؟
هل رأيت آفة أخرى تنسي مريضها أهله، أمه وأباه، وأخوته، بخيالات وصور وهمية مرضية من عالم اللاوعي؟
هل رأيت آفة أخرى تفقد مريضها اتزان العقل، والوعي السليم، والإحساس بالعيب وسائر قيم مجتمعه، وتحيله مريضاً مرمياً على الهامش يتحرك ب 10 بالمئة لا أكثر من طاقته وقدرته ووعيه وإمكاناته، وهو القادر على أن يكون منتجاً فاعلاً وعضواً نشطاً في أسرته ومجتمعه؟
هذا بعض ما دفع، ويدفع، كل المجتمعات لفعل ما تستطيع لدرء هذه الآفة الفتّاكة عن مجتمعها وشبابها وناشئتها؛ وعن مدارسها على وجه الخصوص.
وهو أيضاً بعض ما دفعنا في لإعادة فتح الملف المؤلم، بل الخطير، وبخاصة على شبابنا وناشئتنا، عدة المستقبل وعتاده.
يصح في المخدرات القول، إذا أردت أن تقتل شعباً على نحو ناعم، ومن دون دماء، فوزّع فيه المخدرات على أنواعها، من الحشيشة إلى حبوب ’ الكبتاغون’ إلى سواهما مما تجود به العقلية الشيطانية لشبكات المنتفعين بتجارة المخدرات، دولاً (ربما)، وشركات، ورؤوس أموال، وشبكات اتجار وموزعين. ألم تحاول دول استعمارية أن تفرض المخدرات بالقوة على مستعمرات لها كي تضمن “موت” شعوب المستعمرات تلك، وتأبيد استعمارها بالتالي؟
يبدأ الملف يتقديم تعريف علمي للمخدرات وما تحتويه من عناصر مكوّنة، وما تنطوي عليه من أضرار قاتلة.
ولأن الملف يتزامن مع “شهر الحرب على المخدرات”، شهر آذار، من كل عام. لذلك جعلنا أولى فقرات الملف ثبتاً سريعاً بأهم الندوات التي دعت إليها لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، واللجنة الدينية واللجنة الإجتماعية تخصيصاً، لإظهار مخاطر آفة المخدرات، إلى أنشطة أخرى. ونختم الملف بمقالتين/محاضرتين لكل من:
– العميد أنور يحي، الرئيس السابق للشرطة القضائية، في قوى الأمن الداخلي، في لبنان،
– والشيخ سلمان عودة، عضو اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.
وغايتنا من ذلك كله التحذير ثم التحذير من هذه الآفة الفتّاكة، والحضّ على التعاون في درء مخاطرها، وبخاصة عن شبابنا.


تعريف المخدرات

المخدِّرات هي كلّ ما يمنع الجهاز العصبي عن القيام بعمله وهي مادّة تسبّب تسكين الألم والنّعاس أو غياب الوعي. ويعرّفها القانون على أنّها مواد تُسمّم الجهاز العصبي وتسبّب الإدمان وتُمْنَعُ زراعتُها أو صناعتها أو تداولها إلّا لأغراض يُحدّدها القانون وتكون فقط بواسطة من يُرَخَّص له.

أنواع المخدّرات

تُصَنّف المخدِّرات تبْعًا لمصدرها إلى:

مخدِّرات طبيعيّة:

وهي من أصل نباتي فهي تُسْتَخرَج من أوراق النّبات أو أزهاره أو ثماره.
أ- الخشخاش: تتركّز في الثّمار غيرِ الناضجة.
ب- القنّب: تتركّز في الأورق والقمم الزهرية
ج- القات: تتركز في الأوراق
د- الكوكا: تتركز في الأوراق – جوزة الطيب: تتركز في البذور
ويمكن أن تُسْتخلَص المواد المخدّرة باستعمال المُذيبات العضويّة: الحشيش والأفيون والمورفين والكوكايين.
مُخدِّرات نصف صناعيّة:
وهي مواد مُخدِّرة مستخلَصة من النباتات المخدرة متفاعلة مع موادّ أخرى فتتكوّن موادّ أكثر فعالية من المواد الأولية، على سبيل المثال: الهيرويين ينتج من تفاعل مادة المورفين مع مادة أستيل آلورايد.

مُخدِّرات صناعية:

تنتج من تفاعلات كيميائية معقدة بين المركبات الكيميائية المختلفة في معامل شركات الأدوية أو معامل مراكز البحوث. ويمكن أن تُصنَّف تبعًا لتأثيرها على النشاط العقلي للمتعاطي وحالته النفسية إلى مُهبّطات ومُنشّطات ومُهلوسات. الحشيش باعتباره مُهبّطًا بالجرعة الصغيرة ومهلوسًا بالجرعة الكبيرة.
وإذا ما أخذنا الأساسين السابقين سويّة فيمكن أن نصنفها إلى مُهبّطات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، ومنشّطات طبيعية أو صناعية، مهلوسات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، والحشيش.


تاريخ:

إنّ استخدام المواد المخدّرة يعود إلى عصور قديمة ولكن البدايات المعاصرة لاستخدام المخدرات خاصّة في الغرب بدأت بالاستخدام الطبّي للمخدرات وكان الأطبّاء يصفون مركّبات الأفيون كعلاج. وكتب أحد الأطباء كتابًا يبيّن للأمهات كيفية استخدام المخدّرات لعلاج أطفالهنّ وكان جهل الأطباء حينئذ بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن إدمان هذه المواد قد جعلهم يستخدمونها على نطاق واسع لعلاج العديد من الأمراض والآلام وقد اتّسع نطاق استخدامها إلى أن دخلت في كلّ مهدّئات الأطفال. وقد استخدم في الحرب الأهلية الأمريكية لعلاج حالات الإصابة حتّى سُمِّيَ الإدمان على المورفين آنذاك بـ “مرض الجُندي” وفي سنة 1898 أنتجت شركة باير في ألمانيا مادة مخدرة جديدة على اعتبار أنها أقل خطورة وكانت هذه هي مادّة الهيرويين التي تبيّن أنها أكثر خطورة في الإدمان من المورفين. وعندما أدرك الأطبّاء وعموم النّاس مخاطر الإدمان كانت المخدّرات قد انتشرت بشكل واسع جدًّا.


الإدمان:

وهو التعوّد على الشّيء مع صعوبة في التخلّص منه. لكنّ هذا التعريف لا ينطبق على كافّة المخدرات وعقاقير الهلوسة، لذلك رأت هيئة الصحّة العالمية في عام 1964 استبدال كلمة إدمان واستخدام الاعتماد الفسيولوجي (أو الصحّي) والاعتماد السيكولوجي (أو النّفسي).
الاعتماد الفسيولوجي يُستخدَم للدلالة على أنّ كيمياء الجسم حدث بها تغيّرات معيّنة بسبب استمرارية تعاطي المواد المخدِّرة، فيتطلّب الأمر زيادة كميّة المخدِّر دومًا للحصول على نفس التأثير، والانقطاع عن تعاطي المخدّر دفعةً واحدة ينجم عنه حدوث نكسة صحية وآلام شديدة قد تؤدي إلى الموت في النهاية.
أمّا الاعتماد السيكولوجي فيدلّ على شعور الإنسان بالحاجة إلى العقاقير المخدّرة لأسباب نفسية فقط والتوقّف عنها لا يسبب عادة نكسات صحيّة أو عضويّة.
يعود سبب الاعتماد الفسيولوجي إلى دخول هذه السموم في كيمياء الجسم فتُحدث تغيّرات بها. ثمّ لا تلبث بالتدرّج أن تتجاوب مع أنسجة الجسم وخلاياه. وبعدها يقلّ التجاوب لأنّ أنسجة الجسم تَعْتَبرُ المادة المخدّرة كأحد مكونات الدّم الطبيعيّة، وبذلك تقلّ الاستجابة إلى مفعولها ممّا يضطر المُدمن إلى الإكثار من كميّتها للحصول على التأثيرات المطلوبة. فإنْ لم يستطع المدمن لسبب ما الاستمرار بتعاطيه، تظهر بعض الأمراض التي تُسمّى بالأعراض الانسحابية. وتبدأ هذه على شكل قلق عنيف وتدميع العيون، ويظهر المريض وكأنّه أصيب برشح حادّ، ثم يتغيّر بؤبؤ العين، ويصاحب كلّ ذلك ألم في الظهر وتقلّص شديد في العضلات مع ارتفاع في ضغط الدم وحرارة الجسم.


أضرار المخدرات:

الأضرار الجسمية:

1- فقدان الشهيّة للطعام ممّا يؤدي إلى النحافة والهزال والضعف
العام المصحوب باصفرار الوجه أو اسوداده لدى المُتعاطي، كما تتسبّب في قلّة النشاط والحيوية وضعف المقاومة للمرض الذي يؤدّي إلى دُوار وصداع مزمن يصحبه احمرار العينين، ويحدث اختلال في التوازن والتآزر العصبي في الأذنين.
2- يُحدِث تعاطي المخدّرات تهيّجًا موضعيًّا للأغشية المخاطية
والشُّعَب الهوائية وذلك نتيجة تكون مواد كربونية وترسبها في الشُّعَب الهوائية حيث ينتج عنها التهابات رئويّة مزمنة قد تصل إلى الاصابة بالتدرّن الرئوي.
3- يحدث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الجهاز الهضمي والذي
ينتج عنه سوء الهضم وكَثرة الغازات والشّعور بالانتفاخ والامتلاء والتُّخمة التي عادة ما تنتهي إلى حالات الاسهال الخاصّة عند تناول مخدِّر الأفيون والامساك. كذلك تُسبب التهاب المعدة المزمن فتعجز المعدة عن القيام بوظيفتها وهضم الطعام، كما تسبب التهابًا في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها في هضم الطعام، وتزويد الجسم بهرمون الأنسولين الذي يقوم بتنظيم مستوى السكر بالدم.
4- كما تُتلف الكبد وتُليِّفه حيث يُحلِّل المخدّر؛ الأفيون مثلًا خلايا
الكبد، ويُحدث بها تليُّفًا وزيادة في نسبة السكر، ممّا يسبّب التهاباً وتضخماً في الكبد وتوقّف عمله بسبب السموم التي تُعْجِز الكبد عن تخليص الجسم منها.
5- تسبب التهابًا في المخ وتحطيم وتآكل ملايين الخلايا العصبية
التي تكوّن المخ ممّا يؤدي إلى فقدان الذاكرة والهلوسات السمعية والبصرية والفكرية.
6- بالإضافة إلى اضطراب في القلب، ومرض القلب الحولي
والذّبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، وانفجار الشرايين، وتسبب فقر الدم الشديد وتكسُّر كريات الدم الحمراء وقلة التغذية، وتسمّم نخاع العظام الذي يصنع كُريات الدم الحمراء.
7- التأثير على النشاط الجنسي، حيث تُقلّل من القدرة الجنسية
وتُنقص من إفرازات الغُدد الجنسية.
8- التورّم المنتشر، واليرقان وسيلان الدم وارتفاع الضغط الدموي
في الشريان الكبدي.
9- الاصابة بنوبات الصّرَع بسبب الاستبعاد للعقار، وذلك بعد
ثمانية أيام من الاستبعاد.
10-إحداث عيوبٍ خَلْقيّة في الأطفال حديثي الولادة.
11-مشاكل صحيّة لدى المدمنات الحوامل مثل فقر الدم ومرض
القلب، والسكري والتهاب الرئتين والكبد والاجهاض العفوي، ووضع مقلوب للجنين الذي يولد ناقص النّمو، هذا إذا لم يمت في رحم الأم.
12-تعاطي المخدّرات قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان
13- تعاطي جرعة زائدة ومُفرطة هي انتحار.

الأضرار النّفسيّة:

1- يُحدِث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الإدراك الحسّي العام
وخاصة إذا ما تعلق الأمر بحواس السمع والبصر، بالإضافة إلى الخلل في إدراك الزّمن فيصبح بطيئًا، واختلال في إدراك المسافات فتصبح طويلة، واختلال إدراك الحجم فتتضخم الأشياء..
2- يؤدي تعاطي المخدرات إلى اختلال في التفكير العام وصعوبة
وبطء به، وبالتالي يؤدي إلى فساد الحكم على الأمور والأشياء والهلوسة والهذيان.
3- يؤدي تعاطي المخدرات إلى آثار نفسية مثل القلق والتوتّر
المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والشعور بالانقباض والهبوط مع عصبيّة وحِدّة في المزاج وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
4- تُسبّب المخدرات اختلالًا في الاتزان والذي يُحدِث بدوره بعض
التشنّجات والصعوبات في النطق والتعبير عما يدور في ذهن المتعاطي بالإضافة إلى صعوبة المشي.
5- يؤدي تعاطي المخدّرات إلى اضطراب في الوجدان، حيث ينقلب
المتعاطي بين حالة المرح والنشوة والشعور بالرضا والراحة بعد تعاطي المخدر وحالة ضعف في المستوى الذهني وذلك لتضارب الأفكار لديه فهو بعد التعاطي يشعر بالسعادة والنشوة والعيش في جو خيالي وزيادة النشاط والحيوية ولكن سرعان ما يتحوّل ذلك إلى ندم وواقع مؤلم وفتور وإرهاق مصحوب بخمول واكتئاب.
6- تُسبب المخدرات حدوث العصبية الزائدة والحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم والذي ينتج عنه بالضرورة ضعف القدرة على التّواؤم الاجتماعي.

الحشيش
الحشيش هو مخدِّر يُصنع من القِنّب الهندي (Cannabis Sativa) وتتمّ زراعته في المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة، والماريجوانا هي أوراق وأزهار القنّب الجافة. والسائل المُجَفّف من المادّة الصمغية هو الحشيش.
وهو أكثر المخدّرات انتشارًا في العالم لرخص ثمنه وسهوله تعاطيه فلا تلزمه أدوات معقّده مثل “سرنجات” الإبر أو غيرها. وأوراق نبات القنّب تحتوي موادَّ كيميائيةً tetrahydrocannabinol THC وكميّات صغيرة من مادة تشبه الأتروبين تسبّب جفاف الحلق. ومادة تشبه الأستيل كولين تسبب تأثير دخان الحشيش المهيّج. والحشيش من المواد المهلوسة بجرعات كبيرة ويُعتبر تدخينه من أكثر الطّرق انتشارًا، وأسرعها تأثيرًا على الجهاز العصبي المركزي نظرًا لسرعة وصول المادة الفعالة من الرئة إلى الدم ومنه إلى أنحاء المخ.

تأثيره على الرّئتين
من الأمراض الأولى التي يُحدِثها تعاطي الحشيش هي التهاب القصبات الهوائية وأمراض الرّئة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحشيش يسبّب سرطان الرّئة. كما قد ثبت أنّ له تأثيرًا على الأجِنّة والأجيال المستقبليّة وذلك لأنّه يؤثّر على صحّة أجهزة الجنس لدى الجنسين ويمكن أن يوقف الدّورة لدى النساء المتعاطيات. بالإضافة إلى أنّه يُجرّد المتعاطي من قوّة جهازه المناعي ويجعله عرضةً لخطر الجراثيم والفيروسات.
والاستهلاك الكثيف منه يؤدّي الى أمراض الجهاز التنفسي مثل السّعال المُزمن والرّبو والالتهاب الرئوي وقرحة الحلق المزمنة والتهاب البلعوم والسِّلّ.

تأثيره على الدّماغ
يؤثّر الحشيش على الجهاز العصبي، وله تأثير منعكس فهو يبدأ بتنبيه المتعاطي ثم تخديره وتعقبه هلوسة، ثم خمول فنوم مع زيادة الجرعة فيفقد الاحساس بالنشوة ويستبدله بإحساس يتدرّج من الحزن إلى الغضب حتى جنون العظمة ونوبات الغضب الشديدة.

الاستعمال الطبّي:
تُعَدّ الماريجوانا أفضل مُسكّنات الآلام حيث تختلف عن أغلب البدائل بأنّها لا تسبّب أيَّ إدمان نظرًا لخفّة أعراضها الجانبيّة. كما يمكن أن تُستعمَل كمضادّ للقيء ومنشّط للشهيّة وتبيّن الدراسات أنَّ الماريجوانا يمكن أن تساعد في علاج الكثير من الأمراض المختلفة مثل الأمراض التي تتسبب بآلام كبيرة ولا تنفع معها المهدّئات المتوافرة في المستشفيات المتخصِّصة أو قد يؤدي كثرة استخدام المهدئات الطبيّة إلى مضاعفات أخرى أو تفاقم المرض.

الآثار الجسديّة:
يُسبّب تعاطي الحشيش على المدى القصير تزايدًا في سرعة القلب وجفاف الفم واحمرار العينين (احتقان في الأوعية الدمويّة المُلتحمة) وانخفاضًا في الضغط داخل العين والاسترخاء العضلي والإحساس باليدين والقدمين الباردتين أو الساخنتين. تُظهر الـ EEG أو موجات ألفا الكهربائية ثباتًا إلى حدٍّ ما وتردّدات أدنى قليلًا عن المعتاد، وتسبّب المواد المخدِّرة “الاكتئاب الواضح في النشاط الحركي” عن طريق تنشيط مستقبلات الحشيش العصبية وتحدث مستويات الذروة المرتبطة بتسمُّم الحشيش تقريبًا 30 دقيقة بعد تدخينه وتستمرّ لساعات عديدة.

الآثار العصبيّة:
تَتَّسِق المناطق الدّماغية حيث تتواجد مستقبلات الحشيش بكثرة سائدة مع الآثار السلوكية الناتجة عن المواد المخدّرة، حيث مستقبلات الحشيش كثيرة جدًّا؛ هي العقد العصبية القاعدية المرتبطة بالمراقبة الحركية.
المُخَيخ: ويرتبط مع تنسيق حركة الجسد الحصين، ويرتبط مع التعليم والذاكرة والسيطرة والإجهاد.
القشرة الدماغية: ترتبط بالوظائف المعرفية العليا.
النواة المتكئة: التي تُعْتَبَر مركز المكافأة في المخّ ومناطق أخرى حيث تتركّز مستقبلات الحشيش باعتدال وهي منطقة ما تحت المهاد، التي تنظّمُ وظائف التماثل الساكن.
اللّوزة الدّماغية: وترتبط مع الاستجابات العاطفية والخوف.
النخاع الشوكي: ويرتبط مع الأحاسيس الطّرفية مثل الآلام.
جذع الدّماغ: ويرتبط مع النّوم والإثارة والتحكّم الحركي.
نواة الجهاز الانفرادي: ويرتبط مع الأحاسيس الباطنيّة مثل الغثيان والتقيُّؤ.

لقد أظهرت التّجارب على الحيوانات والأنسجة البشريّة تعطيل تشكيل الذاكرة على المدى القصير، الذي يتَّسِق بغزارة مستقبلات CB1 على الحصين ومنطقة الدّماغ المرتبطة بشكل وثيق مع الذاكرة. تمنع المواد المخدِّرة إطلاق العديد من الناقلات العصبية في الحصين مثل أستيل وبإفراز الغلوتامات، ممّا أدى إلى انخفاض كبير في نشاطات الخلايا العصبية في تلك المنطقة.

الكبتاجون

الكبتاجون أو فينيثايلين هو أحد مشتقات مادة الأمفيتامين. صنعت في البداية سنة 1919 في اليابان بواسطة الكيميائي أوقاتا. واستخدم لحوالي 25 عاما، باعتباره بديلًا أكثر اعتدالًا للأمفيتامين كان يُستخدم في تطبيقات كعلاج للأطفال “قصور الانتباه وفرط الحركة”، وكما شاع استعماله لمرض ناركوليبسي أو كمضاد للاكتئاب.

تاريخ الأمفيتامينات ومثيلاتها:

في البداية صنع الأمفيتامين في ألمانيا سنة 1887 وأطلق عليها عندما اكتشفت باسم المقوِّيات، وقد صُنعت لمكافحة الجوع.
الميثامفيتامين صُنعت أوّلًا في اليابان سنة 1919، وفي العشرينيّات استُخدمت الأمفيتامينات كعلاج للعديد من الأمراض مثل الصّرع وانفصام الشخصية, وإدمان المُسكرات والصّداع النّصفي (الشقيقة), وغيرها، في سنة 1930 لاحظ الطبيب بنيس أنها ترفع ضغط الدم، في سنة 1932 استخدمت لعلاج احتقان الأنف، وفي سنة 1933 لاحظ أليس تأثيرها كمنشّط للجهاز العصبي المركزي وموسّع لقنوات الجهاز التنفسي، وفي سنة 1935 استُخدمت لعلاج نوبات النّعاس الغالبة (Narcolepsy) (مرض يحدث فيه نوبات قصيرة من النّوم العميق والتي من الممكن أن تَحْدث في أي وقت خلال اليوم)، وفي سنة 1937م استخدمت لعلاج فرط النّشاط لدى الأطفال ADHD (تأثير الأمفيتامين على الأطفال يكون كمهدّئ بدلًا من تنبيههم بعكس البالغين).

الكبتاجون (captagon) هو الاسم التّجاري للفينثيلين (Fenethylline) الاسم العلمي وهو مركب مثيل للأمفيتامين التي تُعَدُّ من المنشطات، والمنشطات هي العقاقير التي تسبّب النشاط الزائد وكثرة الحركة وعدم الشعور بالتّعب والجوع وتسبّب الأرق وتُعتبَرُ من المخدِّرات التصنيعيّة وهي موادّ محظورة، ومن أشهر أنواع الأمفيتامينات ذلك الذي يُعْرَف تجاريًّا باسم “بنزدرين” وميثامفتيامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديسوكسين” وديكسترو أمفيتامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديكسيدرين”. كما توجد مركبات أخرى مثيلة للأمفيتاميات وهي فينثيلين والمعروف بالكبتاجون والفينمترازين المعروف تجاريًّا باسم “بريلودين” وفينديميترازين المعروف باسم “بليجين” وفينترمين
أشكال الأمفيتامينات: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

قد يعاني المُدمن من الهلوسات السمعيّة والبصريّة وتضطرب حواسُّه فيتخيّل أشياء لا وجود لها، كما يؤدي الاستعمال إلى حدوث حالة من التوهُّم حيث يشعر المُدمن أنَّ حشراتٍ تتحرّك على جلده. وهناك مَنْ تظهر عليه أعراض تشبه حالات مرض الفصام أو جنون العظمة. كذلك الشعور بالاضطهاد والبكاء بدون سبب و الشكّ في الآخرين فمثلًا بعض المتعاطين يشكُّ في أصدقائه بأنّهم مخبرون متعاونون مع مكافحة المخدِّرات وهناك من يشكّ في زوجته بأنّ لها علاقات مع غيره ممّا يسبّب مشاكل عائليّة واجتماعية للمتعاطي ومع الإفراط في الاستخدام يحدث نقص في كُريات الدم البيضاء ممّا يضعف المقاومة للأمراض, كذلك تحدث أنيميا، كما يؤدّي إدمان الأمفيتامينات إلى حدوث أمراض سوء التغذية، كما يسبب حقنها في الوريد بجرعات كبيرة حدوث إصابات في الشرايين مثل الالتهاب والنّخر وفشل كلوي وتدمير الأوعية الدموية بالكليَة وانسداد الأوعية الدموية للمخ ونزيف في المخ قد يؤدي إلى الوفاة، ويؤدي استنشاق الأمفيتامين إلى إثارة الأغشية المخاطية للأنف، ويؤدّي استخدام الحقن الملوثة إلى نقل عدّة أمراض خطيرة مثل الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي من نوع B ومن أضرارها كذلك أنها تؤدي إلى الوقوع في التّدخين (أو الإكثار من التدخين إذا كان يدخّن قبل الوقوع في تعاطي الكبتاجون) لأنّها تزيد من مفعول الكبتاجون. كذلك تؤدي إلى الوقوع في الحشيش لأنّ الحشيش يضادّ مفعول الكبتاجون فيستخدمها بعض المتعاطين إذا أراد النوم، كما تؤدي إلى الوقوع في المُسكرات (لأنّه يُشاع بين المتعاطين أنّ الكحول تُزيل أثر الكبتاجون من الجسم فلا يتمّ التعرّف على المتعاطي من خلال التّحليل).
اشكال الكبتاجون: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

الهيرويين

يُصَنَّف من المخدّرات في الغرب، ويُحصل عليه عبر أستلة (إضافة جُزَيء أستيل) المورفين، وهو أهمّ شبه قلوي مُستخرَج من الخشخاش المنوِّم، وهو مُخدِّر قويّ للجهاز العصبي المركزي ويسبب إدمان جسمي ونفسي قوي، والهيرويين (باسمه العلمي “دايمورفين” أو “دايستلمورفين”) يوصف كعلاج للأغراض الطبيّة كمخدِّر للآلام الحادّة.
يُسْتَخدم الهرويين في المملكة المتحدة كمُسكِّن قوي للألم تحت اسمه العلمي دايمورفين أو دايستلمورفين. استخدامه يشمل علاج الآلام الحادّة، مثل الإصابات الجسدية الحادّه، واحتشاء عضلة القلب، وآلام ما بعد الجراحة، والآلام المزمنة وأمراض أخرى، ويُصَنّف من ضمن الأدوية فئة A الخاضعة للرقابة.

أعراض إدمان الهيرويين:
الأعراض الجسديّة: ضيق التنفسّس والجفاف وضيق حَدَقة العين وتغيّرات سلوكية واضحة وضعف الاتزان واضطراب ضربات القلب وعدم القدرة على التركيز وكَثرة النّسيان وزيادة في النشاط يليها الخمول والكسل وانخفاض ضغط الدم وفقدان الوزن والرشح المستمرّ والتهابات في أماكن الإبر والحقن والضّعف الجنسيّ والإصابة بالإيدز، اضطرابات الدّورة الشّهرية لدى السيّدات.
الأعراض السلوكية والنفسية:
التّلعثم في الكلام وعدم القدرة على التحدّث بشكل لائق، والعزلة والابتعاد عن الأصدقاء والعائلة وتدمير العلاقات الأسريّة.
أمّا الأمراض التي يُصاب بها المُدمن على المدى الطّويل فكثيرة مثل: أمراض القلب وانتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي والالتهاب الرّئوي وتجلّط الدم وأمراض الكبد والتّشنّجات وأعراض الانسحاب من إدمان الهيرويين وتظهر من خلال الرّعشة الشديدة ولإسهال والحُمَّى.

الكوكايين

هو مسحوق أبيض يُستَخلص من أوراق نبات الكوكا الذي ينمو بشكل رئيسي في أمريكا الجنوبية. وعادة ما يتم تعاطيه باستنشاق المسحوق عن طريق الأنف و”الكراك” ليس مخدِّرًا مُختلفًا، وإنّما هو شكل من أشكال الكوكايين يسبّب درجة أكبر من الإدمان، وعادةً ما يتم تدخين الكراك، الذي يسمّى أيضاً بالصّخر أو الحجر أو الكوكايين المُنَقَّى ويتمّ أحيانًا حقن الكوكايين أو أكلّه.
الآثار الجانبية: نظرًا لتأثيراته القوية، كثيرًا ما تكون لدى متعاطي الكوكايين رغبة مُلحّة في تعاطي المزيد، وقد تؤدّي الجرعات الكبيرة من المخدِّر إلى إصابتك بالإجهاد، والقلق، والاكتئاب، وأحيانًا العُدوانيّة.
المخاطر: قد يؤدي استنشاق الكوكايين إلى تلف لا يمكن علاجه لداخل الأنف، وقد يضرّ تعاطي الكوكايين قلبك ورئتيك، وقد تؤدي الجرعات الكبيرة إلى الوفاة بالأزمات القلبية أو الجلطات. وتعاطي الكوكايين مع الكحول يزيد من مخاطر الإصابة بالأزمة القلبية والوفاة، وقد يؤدي أكل الكوكايين إلى تلف نسيج الأمعاء. وقد يكون الاكتئاب الذي يلي الشعور بالنشوة حادًّا وقد يؤدي إلى محاولات انتحار، ومع الاستعمال طويل المدى أو بجرعات مفرطة، قد تتحول الإثارة التي يولدها الكوكايين إلى قلق، وأرق، وفقدان وزن. وبعض الأشخاص يظهر عندهم مرض الذّهان الزّوري (الخُيَلائي) حيث يُحْتَمل ممارستهم للعنف، وقد تؤدّي الرّغبات الملحّة في تعاطي الكوكايين، وخاصّة الكراك، إلى رغبتك في تعاطي المخدِّر طوال الوقت، وقد تفقد السّيطرةَ على استخدامِك للمخدِّر.

المُخَدِّرات آفة العصر!

المُخَدِّرات
آفة العصر!

[su_accordion]

 

[su_spoiler title=” تقديم:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نبدأ الملف بتوصيف سماحة شيخ العقل لظاهرة انتشار المخدرات باعتبارها “آفة العصر”. وهي حقاً كذلك. لا نظن أن مرضاً (حتى السرطان) فتك بناس عصرنا كما فعلت المخدرات، بأنواعها المختلفة. لم تفعل الحروب، بمآسيها وضحاياها، ما فعلته آفة المخدرات.
كيف لا، والمخدرات تستهدف الأجيال الشابة على وجه الخصوص. وهي بذلك لا تقتل حاضر الجماعة والمجتمع فقط، بل تقتل مستقبلهما قبل ذلك وفوقه. هل رأيت آفة أخرى تحيل الحي ميتاً فيما هو على قيد الحياة؟ وتحيل الشاب كهلاً، فيما هو في ريعان صباه؟
هل رأيت آفة أخرى إذا أقفلت الباب في وجهها دخلت من النافذة؟ وإذا أحكمت إقفال النافذة تسللت عبر مسام الجدران؟
هل رأيت آفة أخرى تتمكن من مريضها، إلى الحد الذي يفقد معه كل إرادة للمقاومة، فيستسلم لها استسلام العبد الخانع الذليل؟
هل رأيت آفة أخرى تنسي مريضها أهله، أمه وأباه، وأخوته، بخيالات وصور وهمية مرضية من عالم اللاوعي؟
هل رأيت آفة أخرى تفقد مريضها اتزان العقل، والوعي السليم، والإحساس بالعيب وسائر قيم مجتمعه، وتحيله مريضاً مرمياً على الهامش يتحرك ب 10 بالمئة لا أكثر من طاقته وقدرته ووعيه وإمكاناته، وهو القادر على أن يكون منتجاً فاعلاً وعضواً نشطاً في أسرته ومجتمعه؟
هذا بعض ما دفع، ويدفع، كل المجتمعات لفعل ما تستطيع لدرء هذه الآفة الفتّاكة عن مجتمعها وشبابها وناشئتها؛ وعن مدارسها على وجه الخصوص.
وهو أيضاً بعض ما دفعنا في لإعادة فتح الملف المؤلم، بل الخطير، وبخاصة على شبابنا وناشئتنا، عدة المستقبل وعتاده.
يصح في المخدرات القول، إذا أردت أن تقتل شعباً على نحو ناعم، ومن دون دماء، فوزّع فيه المخدرات على أنواعها، من الحشيشة إلى حبوب ’ الكبتاغون’ إلى سواهما مما تجود به العقلية الشيطانية لشبكات المنتفعين بتجارة المخدرات، دولاً (ربما)، وشركات، ورؤوس أموال، وشبكات اتجار وموزعين. ألم تحاول دول استعمارية أن تفرض المخدرات بالقوة على مستعمرات لها كي تضمن “موت” شعوب المستعمرات تلك، وتأبيد استعمارها بالتالي؟
يبدأ الملف يتقديم تعريف علمي للمخدرات وما تحتويه من عناصر مكوّنة، وما تنطوي عليه من أضرار قاتلة.
ولأن الملف يتزامن مع “شهر الحرب على المخدرات”، شهر آذار، من كل عام. لذلك جعلنا أولى فقرات الملف ثبتاً سريعاً بأهم الندوات التي دعت إليها لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، واللجنة الدينية واللجنة الإجتماعية تخصيصاً، لإظهار مخاطر آفة المخدرات، إلى أنشطة أخرى. ونختم الملف بمقالتين/محاضرتين لكل من:
– العميد أنور يحي، الرئيس السابق للشرطة القضائية، في قوى الأمن الداخلي، في لبنان،
– والشيخ سلمان عودة، عضو اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.
وغايتنا من ذلك كله التحذير ثم التحذير من هذه الآفة الفتّاكة، والحضّ على التعاون في درء مخاطرها، وبخاصة عن شبابنا.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”تعريف المخدرات” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تعريف المخدرات
تعريف المخدرات

المخدِّرات هي كلّ ما يمنع الجهاز العصبي عن القيام بعمله وهي مادّة تسبّب تسكين الألم والنّعاس أو غياب الوعي. ويعرّفها القانون على أنّها مواد تُسمّم الجهاز العصبي وتسبّب الإدمان وتُمْنَعُ زراعتُها أو صناعتها أو تداولها إلّا لأغراض يُحدّدها القانون وتكون فقط بواسطة من يُرَخَّص له.
أنواع المخدّرات

تُصَنّف المخدِّرات تبْعًا لمصدرها إلى:
مخدِّرات طبيعيّة:
وهي من أصل نباتي فهي تُسْتَخرَج من أوراق النّبات أو أزهاره أو ثماره.
أ- الخشخاش: تتركّز في الثّمار غيرِ الناضجة.
ب- القنّب: تتركّز في الأورق والقمم الزهرية
ج- القات: تتركز في الأوراق
د- الكوكا: تتركز في الأوراق – جوزة الطيب: تتركز في البذور
ويمكن أن تُسْتخلَص المواد المخدّرة باستعمال المُذيبات العضويّة: الحشيش والأفيون والمورفين والكوكايين.
مُخدِّرات نصف صناعيّة:
وهي مواد مُخدِّرة مستخلَصة من النباتات المخدرة متفاعلة مع موادّ أخرى فتتكوّن موادّ أكثر فعالية من المواد الأولية، على سبيل المثال: الهيرويين ينتج من تفاعل مادة المورفين مع مادة أستيل آلورايد.
مُخدِّرات صناعية:
تنتج من تفاعلات كيميائية معقدة بين المركبات الكيميائية المختلفة في معامل شركات الأدوية أو معامل مراكز البحوث. ويمكن أن تُصنَّف تبعًا لتأثيرها على النشاط العقلي للمتعاطي وحالته النفسية إلى مُهبّطات ومُنشّطات ومُهلوسات. الحشيش باعتباره مُهبّطًا بالجرعة الصغيرة ومهلوسًا بالجرعة الكبيرة.
وإذا ما أخذنا الأساسين السابقين سويّة فيمكن أن نصنفها إلى مُهبّطات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، ومنشّطات طبيعية أو صناعية، مهلوسات طبيعية أو نصف صناعية أو صناعية، والحشيش.
تاريخ:

إنّ استخدام المواد المخدّرة يعود إلى عصور قديمة ولكن البدايات المعاصرة لاستخدام المخدرات خاصّة في الغرب بدأت بالاستخدام الطبّي للمخدرات وكان الأطبّاء يصفون مركّبات الأفيون كعلاج. وكتب أحد الأطباء كتابًا يبيّن للأمهات كيفية استخدام المخدّرات لعلاج أطفالهنّ وكان جهل الأطباء حينئذ بالمخاطر التي يمكن أن تنتج عن إدمان هذه المواد قد جعلهم يستخدمونها على نطاق واسع لعلاج العديد من الأمراض والآلام وقد اتّسع نطاق استخدامها إلى أن دخلت في كلّ مهدّئات الأطفال. وقد استخدم في الحرب الأهلية الأمريكية لعلاج حالات الإصابة حتّى سُمِّيَ الإدمان على المورفين آنذاك بـ “مرض الجُندي” وفي سنة 1898 أنتجت شركة باير في ألمانيا مادة مخدرة جديدة على اعتبار أنها أقل خطورة وكانت هذه هي مادّة الهيرويين التي تبيّن أنها أكثر خطورة في الإدمان من المورفين. وعندما أدرك الأطبّاء وعموم النّاس مخاطر الإدمان كانت المخدّرات قد انتشرت بشكل واسع جدًّا.

انتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي وغيرها من الأمراض
انتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي
وغيرها من الأمراض

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” الإدمان:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

وهو التعوّد على الشّيء مع صعوبة في التخلّص منه. لكنّ هذا التعريف لا ينطبق على كافّة المخدرات وعقاقير الهلوسة، لذلك رأت هيئة الصحّة العالمية في عام 1964 استبدال كلمة إدمان واستخدام الاعتماد الفسيولوجي (أو الصحّي) والاعتماد السيكولوجي (أو النّفسي).
الاعتماد الفسيولوجي يُستخدَم للدلالة على أنّ كيمياء الجسم حدث بها تغيّرات معيّنة بسبب استمرارية تعاطي المواد المخدِّرة، فيتطلّب الأمر زيادة كميّة المخدِّر دومًا للحصول على نفس التأثير، والانقطاع عن تعاطي المخدّر دفعةً واحدة ينجم عنه حدوث نكسة صحية وآلام شديدة قد تؤدي إلى الموت في النهاية.
أمّا الاعتماد السيكولوجي فيدلّ على شعور الإنسان بالحاجة إلى العقاقير المخدّرة لأسباب نفسية فقط والتوقّف عنها لا يسبب عادة نكسات صحيّة أو عضويّة.
يعود سبب الاعتماد الفسيولوجي إلى دخول هذه السموم في كيمياء الجسم فتُحدث تغيّرات بها. ثمّ لا تلبث بالتدرّج أن تتجاوب مع أنسجة الجسم وخلاياه. وبعدها يقلّ التجاوب لأنّ أنسجة الجسم تَعْتَبرُ المادة المخدّرة كأحد مكونات الدّم الطبيعيّة، وبذلك تقلّ الاستجابة إلى مفعولها ممّا يضطر المُدمن إلى الإكثار من كميّتها للحصول على التأثيرات المطلوبة. فإنْ لم يستطع المدمن لسبب ما الاستمرار بتعاطيه، تظهر بعض الأمراض التي تُسمّى بالأعراض الانسحابية. وتبدأ هذه على شكل قلق عنيف وتدميع العيون، ويظهر المريض وكأنّه أصيب برشح حادّ، ثم يتغيّر بؤبؤ العين، ويصاحب كلّ ذلك ألم في الظهر وتقلّص شديد في العضلات مع ارتفاع في ضغط الدم وحرارة الجسم.
أضرار المخدرات:
الأضرار الجسمية:
1- فقدان الشهيّة للطعام ممّا يؤدي إلى النحافة والهزال والضعف
العام المصحوب باصفرار الوجه أو اسوداده لدى المُتعاطي، كما تتسبّب في قلّة النشاط والحيوية وضعف المقاومة للمرض الذي يؤدّي إلى دُوار وصداع مزمن يصحبه احمرار العينين، ويحدث اختلال في التوازن والتآزر العصبي في الأذنين.
2- يُحدِث تعاطي المخدّرات تهيّجًا موضعيًّا للأغشية المخاطية
والشُّعَب الهوائية وذلك نتيجة تكون مواد كربونية وترسبها في الشُّعَب الهوائية حيث ينتج عنها التهابات رئويّة مزمنة قد تصل إلى الاصابة بالتدرّن الرئوي.
3- يحدث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الجهاز الهضمي والذي
ينتج عنه سوء الهضم وكَثرة الغازات والشّعور بالانتفاخ والامتلاء والتُّخمة التي عادة ما تنتهي إلى حالات الاسهال الخاصّة عند تناول مخدِّر الأفيون والامساك. كذلك تُسبب التهاب المعدة المزمن فتعجز المعدة عن القيام بوظيفتها وهضم الطعام، كما تسبب التهابًا في غدة البنكرياس وتوقفها عن عملها في هضم الطعام، وتزويد الجسم بهرمون الأنسولين الذي يقوم بتنظيم مستوى السكر بالدم.
4- كما تُتلف الكبد وتُليِّفه حيث يُحلِّل المخدّر؛ الأفيون مثلًا خلايا
الكبد، ويُحدث بها تليُّفًا وزيادة في نسبة السكر، ممّا يسبّب التهاباً وتضخماً في الكبد وتوقّف عمله بسبب السموم التي تُعْجِز الكبد عن تخليص الجسم منها.
5- تسبب التهابًا في المخ وتحطيم وتآكل ملايين الخلايا العصبية
التي تكوّن المخ ممّا يؤدي إلى فقدان الذاكرة والهلوسات السمعية والبصرية والفكرية.
6- بالإضافة إلى اضطراب في القلب، ومرض القلب الحولي
والذّبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، وانفجار الشرايين، وتسبب فقر الدم الشديد وتكسُّر كريات الدم الحمراء وقلة التغذية، وتسمّم نخاع العظام الذي يصنع كُريات الدم الحمراء.
7- التأثير على النشاط الجنسي، حيث تُقلّل من القدرة الجنسية
وتُنقص من إفرازات الغُدد الجنسية.
8- التورّم المنتشر، واليرقان وسيلان الدم وارتفاع الضغط الدموي
في الشريان الكبدي.
9- الاصابة بنوبات الصّرَع بسبب الاستبعاد للعقار، وذلك بعد
ثمانية أيام من الاستبعاد.
10-إحداث عيوبٍ خَلْقيّة في الأطفال حديثي الولادة.
11-مشاكل صحيّة لدى المدمنات الحوامل مثل فقر الدم ومرض
القلب، والسكري والتهاب الرئتين والكبد والاجهاض العفوي، ووضع مقلوب للجنين الذي يولد ناقص النّمو، هذا إذا لم يمت في رحم الأم.
12-تعاطي المخدّرات قد يؤدي إلى الإصابة بالسرطان
13- تعاطي جرعة زائدة ومُفرطة هي انتحار.

الأضرار النّفسيّة:
1- يُحدِث تعاطي المخدّرات اضطرابًا في الإدراك الحسّي العام
وخاصة إذا ما تعلق الأمر بحواس السمع والبصر، بالإضافة إلى الخلل في إدراك الزّمن فيصبح بطيئًا، واختلال في إدراك المسافات فتصبح طويلة، واختلال إدراك الحجم فتتضخم الأشياء..
2- يؤدي تعاطي المخدرات إلى اختلال في التفكير العام وصعوبة
وبطء به، وبالتالي يؤدي إلى فساد الحكم على الأمور والأشياء والهلوسة والهذيان.
3- يؤدي تعاطي المخدرات إلى آثار نفسية مثل القلق والتوتّر
المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والشعور بالانقباض والهبوط مع عصبيّة وحِدّة في المزاج وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
4- تُسبّب المخدرات اختلالًا في الاتزان والذي يُحدِث بدوره بعض
التشنّجات والصعوبات في النطق والتعبير عما يدور في ذهن المتعاطي بالإضافة إلى صعوبة المشي.
5- يؤدي تعاطي المخدّرات إلى اضطراب في الوجدان، حيث ينقلب
المتعاطي بين حالة المرح والنشوة والشعور بالرضا والراحة بعد تعاطي المخدر وحالة ضعف في المستوى الذهني وذلك لتضارب الأفكار لديه فهو بعد التعاطي يشعر بالسعادة والنشوة والعيش في جو خيالي وزيادة النشاط والحيوية ولكن سرعان ما يتحوّل ذلك إلى ندم وواقع مؤلم وفتور وإرهاق مصحوب بخمول واكتئاب.
6- تُسبب المخدرات حدوث العصبية الزائدة والحساسيّة الشديدة
والتوتّر الانفعالي الدائم والذي ينتج عنه بالضرورة ضعف القدرة على التّواؤم الاجتماعي.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الحشيش” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحشيش هو مخدِّر يُصنع من القِنّب الهندي (Cannabis Sativa) وتتمّ زراعته في المناطق الاستوائية والمناطق المعتدلة، والماريجوانا هي أوراق وأزهار القنّب الجافة. والسائل المُجَفّف من المادّة الصمغية هو الحشيش.
وهو أكثر المخدّرات انتشارًا في العالم لرخص ثمنه وسهوله تعاطيه فلا تلزمه أدوات معقّده مثل “سرنجات” الإبر أو غيرها. وأوراق نبات القنّب تحتوي موادَّ كيميائيةً tetrahydrocannabinol THC وكميّات صغيرة من مادة تشبه الأتروبين تسبّب جفاف الحلق. ومادة تشبه الأستيل كولين تسبب تأثير دخان الحشيش المهيّج. والحشيش من المواد المهلوسة بجرعات كبيرة ويُعتبر تدخينه من أكثر الطّرق انتشارًا، وأسرعها تأثيرًا على الجهاز العصبي المركزي نظرًا لسرعة وصول المادة الفعالة من الرئة إلى الدم ومنه إلى أنحاء المخ.

تأثيره على الرّئتين
من الأمراض الأولى التي يُحدِثها تعاطي الحشيش هي التهاب القصبات الهوائية وأمراض الرّئة. وتشير بعض الأبحاث الحديثة إلى أنّ الحشيش يسبّب سرطان الرّئة. كما قد ثبت أنّ له تأثيرًا على الأجِنّة والأجيال المستقبليّة وذلك لأنّه يؤثّر على صحّة أجهزة الجنس لدى الجنسين ويمكن أن يوقف الدّورة لدى النساء المتعاطيات. بالإضافة إلى أنّه يُجرّد المتعاطي من قوّة جهازه المناعي ويجعله عرضةً لخطر الجراثيم والفيروسات.
والاستهلاك الكثيف منه يؤدّي الى أمراض الجهاز التنفسي مثل السّعال المُزمن والرّبو والالتهاب الرئوي وقرحة الحلق المزمنة والتهاب البلعوم والسِّلّ.

تأثيره على الدّماغ
يؤثّر الحشيش على الجهاز العصبي، وله تأثير منعكس فهو يبدأ بتنبيه المتعاطي ثم تخديره وتعقبه هلوسة، ثم خمول فنوم مع زيادة الجرعة فيفقد الاحساس بالنشوة ويستبدله بإحساس يتدرّج من الحزن إلى الغضب حتى جنون العظمة ونوبات الغضب الشديدة.

الاستعمال الطبّي:
تُعَدّ الماريجوانا أفضل مُسكّنات الآلام حيث تختلف عن أغلب البدائل بأنّها لا تسبّب أيَّ إدمان نظرًا لخفّة أعراضها الجانبيّة. كما يمكن أن تُستعمَل كمضادّ للقيء ومنشّط للشهيّة وتبيّن الدراسات أنَّ الماريجوانا يمكن أن تساعد في علاج الكثير من الأمراض المختلفة مثل الأمراض التي تتسبب بآلام كبيرة ولا تنفع معها المهدّئات المتوافرة في المستشفيات المتخصِّصة أو قد يؤدي كثرة استخدام المهدئات الطبيّة إلى مضاعفات أخرى أو تفاقم المرض.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”تأثير المخدرات على جسد المدمن:” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

[su_spoiler title=”الاثار الجسدية و العصبية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الآثار الجسديّة:
يُسبّب تعاطي الحشيش على المدى القصير تزايدًا في سرعة القلب وجفاف الفم واحمرار العينين (احتقان في الأوعية الدمويّة المُلتحمة) وانخفاضًا في الضغط داخل العين والاسترخاء العضلي والإحساس باليدين والقدمين الباردتين أو الساخنتين. تُظهر الـ EEG أو موجات ألفا الكهربائية ثباتًا إلى حدٍّ ما وتردّدات أدنى قليلًا عن المعتاد، وتسبّب المواد المخدِّرة “الاكتئاب الواضح في النشاط الحركي” عن طريق تنشيط مستقبلات الحشيش العصبية وتحدث مستويات الذروة المرتبطة بتسمُّم الحشيش تقريبًا 30 دقيقة بعد تدخينه وتستمرّ لساعات عديدة.

الآثار العصبيّة:
تَتَّسِق المناطق الدّماغية حيث تتواجد مستقبلات الحشيش بكثرة سائدة مع الآثار السلوكية الناتجة عن المواد المخدّرة، حيث مستقبلات الحشيش كثيرة جدًّا؛ هي العقد العصبية القاعدية المرتبطة بالمراقبة الحركية.
المُخَيخ: ويرتبط مع تنسيق حركة الجسد الحصين، ويرتبط مع التعليم والذاكرة والسيطرة والإجهاد.
القشرة الدماغية: ترتبط بالوظائف المعرفية العليا.
النواة المتكئة: التي تُعْتَبَر مركز المكافأة في المخّ ومناطق أخرى حيث تتركّز مستقبلات الحشيش باعتدال وهي منطقة ما تحت المهاد، التي تنظّمُ وظائف التماثل الساكن.
اللّوزة الدّماغية: وترتبط مع الاستجابات العاطفية والخوف.
النخاع الشوكي: ويرتبط مع الأحاسيس الطّرفية مثل الآلام.
جذع الدّماغ: ويرتبط مع النّوم والإثارة والتحكّم الحركي.
نواة الجهاز الانفرادي: ويرتبط مع الأحاسيس الباطنيّة مثل الغثيان والتقيُّؤ.

لقد أظهرت التّجارب على الحيوانات والأنسجة البشريّة تعطيل تشكيل الذاكرة على المدى القصير، الذي يتَّسِق بغزارة مستقبلات CB1 على الحصين ومنطقة الدّماغ المرتبطة بشكل وثيق مع الذاكرة. تمنع المواد المخدِّرة إطلاق العديد من الناقلات العصبية في الحصين مثل أستيل وبإفراز الغلوتامات، ممّا أدى إلى انخفاض كبير في نشاطات الخلايا العصبية في تلك المنطقة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”لبنان و الحشيشة :” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحشيشة
الحشيشة

لبنان والحشيشة:

تُقسم حشيشة لبنان إلى قِنّب هندي أو قنب عادي، وهي نبتة يراوح طولها 1 إلى 2.5 م، أوراقها طويلة على شكل مروحة بأزهار صغيرة الحجم خضراء اللون بغلاف زهري احتلّ لبنان المركز الأوّل في الشّرق الأوسط للمخدّرات إبّان الحرب الأهلية،
وكان ينتج ما بين 30 و50 طنًّا من الأفيون المكوِّن الأساسي للهيرويين، أطلقت الحكومة مع بداية التسعينيّات وبعد انتهاء الحرب الأهلية، برنامجًا لدعم الزّراعات البديلة برعاية الأمم المتحدة بهدف استئصال زراعة المخدّرات، إلى أن أعلنت الأمم المتحدة سهل البقاع خاليًا من المخدرات عام 1994 بفضل تعاون المزارعين، راصدًا كلفة 300 مليون دولار ككلفة عدم العودة لزراعتها. لكنّ الدّولة سلّمت حتّى الـ 2001 مبلغ 17 مليون دولار فقط، ممّا أدّى إلى فشل البرنامج وازدهار زراعة الحشيشة بشكلٍ أكبر، فالمزارع عاد ليزرع، والدّولة عادت لتتلف ما يقارب 1000 و6500 هكتار سنويًّا في بعلبك الهرمل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الكبتاجون :” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الكبتاجون

الكبتاجون أو فينيثايلين هو أحد مشتقات مادة الأمفيتامين. صنعت في البداية سنة 1919 في اليابان بواسطة الكيميائي أوقاتا. واستخدم لحوالي 25 عاما، باعتباره بديلًا أكثر اعتدالًا للأمفيتامين كان يُستخدم في تطبيقات كعلاج للأطفال “قصور الانتباه وفرط الحركة”، وكما شاع استعماله لمرض ناركوليبسي أو كمضاد للاكتئاب.
تاريخ الأمفيتامينات ومثيلاتها:

في البداية صنع الأمفيتامين في ألمانيا سنة 1887 وأطلق عليها عندما اكتشفت باسم المقوِّيات، وقد صُنعت لمكافحة الجوع.
الميثامفيتامين صُنعت أوّلًا في اليابان سنة 1919، وفي العشرينيّات استُخدمت الأمفيتامينات كعلاج للعديد من الأمراض مثل الصّرع وانفصام الشخصية, وإدمان المُسكرات والصّداع النّصفي (الشقيقة), وغيرها، في سنة 1930 لاحظ الطبيب بنيس أنها ترفع ضغط الدم، في سنة 1932 استخدمت لعلاج احتقان الأنف، وفي سنة 1933 لاحظ أليس تأثيرها كمنشّط للجهاز العصبي المركزي وموسّع لقنوات الجهاز التنفسي، وفي سنة 1935 استُخدمت لعلاج نوبات النّعاس الغالبة (Narcolepsy) (مرض يحدث فيه نوبات قصيرة من النّوم العميق والتي من الممكن أن تَحْدث في أي وقت خلال اليوم)، وفي سنة 1937م استخدمت لعلاج فرط النّشاط لدى الأطفال ADHD (تأثير الأمفيتامين على الأطفال يكون كمهدّئ بدلًا من تنبيههم بعكس البالغين).

الكبتاجون (captagon) هو الاسم التّجاري للفينثيلين (Fenethylline) الاسم العلمي وهو مركب مثيل للأمفيتامين التي تُعَدُّ من المنشطات، والمنشطات هي العقاقير التي تسبّب النشاط الزائد وكثرة الحركة وعدم الشعور بالتّعب والجوع وتسبّب الأرق وتُعتبَرُ من المخدِّرات التصنيعيّة وهي موادّ محظورة، ومن أشهر أنواع الأمفيتامينات ذلك الذي يُعْرَف تجاريًّا باسم “بنزدرين” وميثامفتيامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديسوكسين” وديكسترو أمفيتامين والمعروف تجاريًّا باسم “ديكسيدرين”. كما توجد مركبات أخرى مثيلة للأمفيتاميات وهي فينثيلين والمعروف بالكبتاجون والفينمترازين المعروف تجاريًّا باسم “بريلودين” وفينديميترازين المعروف باسم “بليجين” وفينترمين
أشكال الأمفيتامينات: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

الصراع الداخلي الذي يُعاني منه المُدمن من أصعب أنواع العذاب النفسي
الصراع الداخلي الذي يُعاني منه المُدمن
من أصعب أنواع العذاب النفسي

قد يعاني المُدمن من الهلوسات السمعيّة والبصريّة وتضطرب حواسُّه فيتخيّل أشياء لا وجود لها، كما يؤدي الاستعمال إلى حدوث حالة من التوهُّم حيث يشعر المُدمن أنَّ حشراتٍ تتحرّك على جلده. وهناك مَنْ تظهر عليه أعراض تشبه حالات مرض الفصام أو جنون العظمة. كذلك الشعور بالاضطهاد والبكاء بدون سبب و الشكّ في الآخرين فمثلًا بعض المتعاطين يشكُّ في أصدقائه بأنّهم مخبرون متعاونون مع مكافحة المخدِّرات وهناك من يشكّ في زوجته بأنّ لها علاقات مع غيره ممّا يسبّب مشاكل عائليّة واجتماعية للمتعاطي ومع الإفراط في الاستخدام يحدث نقص في كُريات الدم البيضاء ممّا يضعف المقاومة للأمراض, كذلك تحدث أنيميا، كما يؤدّي إدمان الأمفيتامينات إلى حدوث أمراض سوء التغذية، كما يسبب حقنها في الوريد بجرعات كبيرة حدوث إصابات في الشرايين مثل الالتهاب والنّخر وفشل كلوي وتدمير الأوعية الدموية بالكليَة وانسداد الأوعية الدموية للمخ ونزيف في المخ قد يؤدي إلى الوفاة، ويؤدي استنشاق الأمفيتامين إلى إثارة الأغشية المخاطية للأنف، ويؤدّي استخدام الحقن الملوثة إلى نقل عدّة أمراض خطيرة مثل الإيدز والتهاب الكبد الفيروسي من نوع B ومن أضرارها كذلك أنها تؤدي إلى الوقوع في التّدخين (أو الإكثار من التدخين إذا كان يدخّن قبل الوقوع في تعاطي الكبتاجون) لأنّها تزيد من مفعول الكبتاجون. كذلك تؤدي إلى الوقوع في الحشيش لأنّ الحشيش يضادّ مفعول الكبتاجون فيستخدمها بعض المتعاطين إذا أراد النوم، كما تؤدي إلى الوقوع في المُسكرات (لأنّه يُشاع بين المتعاطين أنّ الكحول تُزيل أثر الكبتاجون من الجسم فلا يتمّ التعرّف على المتعاطي من خلال التّحليل).
اشكال الكبتاجون: حبوب – كبسولات – قطع كريستال صافية – بودرة.

تُسبب المخدرات حدوث الحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم
تُسبب المخدرات حدوث الحساسيّة الشديدة والتوتّر الانفعالي الدائم

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الهيرويين” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يُصَنَّف من المخدّرات في الغرب، ويُحصل عليه عبر أستلة (إضافة جُزَيء أستيل) المورفين، وهو أهمّ شبه قلوي مُستخرَج من الخشخاش المنوِّم، وهو مُخدِّر قويّ للجهاز العصبي المركزي ويسبب إدمان جسمي ونفسي قوي، والهيرويين (باسمه العلمي “دايمورفين” أو “دايستلمورفين”) يوصف كعلاج للأغراض الطبيّة كمخدِّر للآلام الحادّة.
يُسْتَخدم الهرويين في المملكة المتحدة كمُسكِّن قوي للألم تحت اسمه العلمي دايمورفين أو دايستلمورفين. استخدامه يشمل علاج الآلام الحادّة، مثل الإصابات الجسدية الحادّه، واحتشاء عضلة القلب، وآلام ما بعد الجراحة، والآلام المزمنة وأمراض أخرى، ويُصَنّف من ضمن الأدوية فئة A الخاضعة للرقابة.

أعراض إدمان الهيرويين:
الأعراض الجسديّة: ضيق التنفسّس والجفاف وضيق حَدَقة العين وتغيّرات سلوكية واضحة وضعف الاتزان واضطراب ضربات القلب وعدم القدرة على التركيز وكَثرة النّسيان وزيادة في النشاط يليها الخمول والكسل وانخفاض ضغط الدم وفقدان الوزن والرشح المستمرّ والتهابات في أماكن الإبر والحقن والضّعف الجنسيّ والإصابة بالإيدز، اضطرابات الدّورة الشّهرية لدى السيّدات.
الأعراض السلوكية والنفسية:
التّلعثم في الكلام وعدم القدرة على التحدّث بشكل لائق، والعزلة والابتعاد عن الأصدقاء والعائلة وتدمير العلاقات الأسريّة.
أمّا الأمراض التي يُصاب بها المُدمن على المدى الطّويل فكثيرة مثل: أمراض القلب وانتقال العدوى عن طريق استخدام الإبر خاصة الإيدز والفيروس الكبدي الوبائي والالتهاب الرّئوي وتجلّط الدم وأمراض الكبد والتّشنّجات وأعراض الانسحاب من إدمان الهيرويين وتظهر من خلال الرّعشة الشديدة ولإسهال والحُمَّى.
الكوكايين

هو مسحوق أبيض يُستَخلص من أوراق نبات الكوكا الذي ينمو بشكل رئيسي في أمريكا الجنوبية. وعادة ما يتم تعاطيه باستنشاق المسحوق عن طريق الأنف و”الكراك” ليس مخدِّرًا مُختلفًا، وإنّما هو شكل من أشكال الكوكايين يسبّب درجة أكبر من الإدمان، وعادةً ما يتم تدخين الكراك، الذي يسمّى أيضاً بالصّخر أو الحجر أو الكوكايين المُنَقَّى ويتمّ أحيانًا حقن الكوكايين أو أكلّه.
الآثار الجانبية: نظرًا لتأثيراته القوية، كثيرًا ما تكون لدى متعاطي الكوكايين رغبة مُلحّة في تعاطي المزيد، وقد تؤدّي الجرعات الكبيرة من المخدِّر إلى إصابتك بالإجهاد، والقلق، والاكتئاب، وأحيانًا العُدوانيّة.

يؤدي تعاطي المخدرات إلى التوتّر والقلق المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والانقباض وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.
يؤدي تعاطي المخدرات إلى التوتّر والقلق المستمرّ والشّعور بعدم الاستقرار والانقباض وإهمال النّفس والمظهر وعدم القدرة على العمل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من الناحية
القضائية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشباب بين
التخدير والتحذير

العميد أنور يحيى
قائد سابق للشرطة القضائية ومُحلّل جنائي استراتيجي

منذُ مطلع العِقد الثامن من القرن الماضي، انخرط بعض شبابنا في ميليشيات مسلّحة بعد أن دخلوها تحت ذرائع مختلفة، ومتباينة. خاضت هذه الميليشيات الحروب بأحدث الأسلحة، لأسباب متعدّدة، وشكل ذلك بيئة ملائمة لتفشي المخدّرات بين الشباب بحجّة إزالة جدار الخوف لديهم، وإعطاء الصّورة بأنّ قضيتهم حق وغيرهم على باطل. ولم تعد حتى المجتمعات الجبليّة التي مرّ على تعايشها عصور عديدة متجانسة مترابطة بمنأى عن تداعيات ذلك، حيث نزح البعض سعياً وراء الأمن، أو للالتحاق ببقيّة الأسرة حيث وسيلة الارتزاق، أو الجامعة.. وهكذا أصبحت مجتمعات الجبل كسواها في صيرورة واحدة، شرقا وغرباً.
تراجع الانتماء الوطني في أثناء فترة الحرب لصالح الانتماء الطائفي والسياسي، وضعفت هيبة الدولة لصالح الميليشيات، وتحت ضغط التهديد بالسلاح وبسواه… فانعكس ذلك على تفكّك الأسرة، ومعها انشغال الزوج والزوجة بالعمل لكسب القوت وسدّ المصاريف المتزايدة يوماً بعد يوم لا سيّما مع شِحّ المداخيل الخارجيّة.
كما هيمنت سلطة الوصاية بين عامي1990 و2005 على الجزء الأكبر من مرافق الدولة اللبنانية، فجرى استنساب واضح في تطبيق القانون، وفي ’ انتقاء’ من ينفذ به القانون، فزُجَّ حتى بالنّواب في السّجون لأسباب ظاهرها شيء وحقيقتها شيء آخر، وتمّت مُلاحقة أفراد حاولوا التّريث بتنفيذ قرارات صادرة عن أصحاب النفوذ… وكثرت شبكات الاتجار بالمخدرات الممنوعة بحماية ثابتة مقابل الحصول على المال الوافر!!
ومؤخّراً دخلت تكنولوجيا المعلومات بسرعة وكان عصر العولمة globalization الذي جعل سكان العالم كلّه يتكلّمون لغة واحدة: الأنترنت، فبات سكّان الأرض كلّهم كأنهم يعيشون في قرية صغيرة ..وزُوِّد الفتيان القاصرون بالخليوي المتّصل بالأنترنت بأقل التكاليف بهدف تأمين السّلامة والحماية وبات هذا المراهق يطَّلع على تسجيلات وصفحات التّواصل الاجتماعي المفيدة منها والمضرّة دون تمكّن الأهل من فرض مراقبة عليهم وانهارت مداميك القيم والتمسك بالفضائل التي نشأت عليها الأجيال السابقة، ودخلنا بوسيلة التّخاطب الخليوي والأنترنت حيث كلّ المعلومات مُباحة وسهلة.
وطالت التداعيات تلك كل المجتمعات، فلم يعد المجتمع التوحيدي المُرتكز إلى مبادئ مراقبة الإنسان لذاته والخوف من الله وتجنّب ارتكاب المعاصي قائماً، ما جعل شباناً أو فتياناً يستشعرون الجرأة لمواجهة الأهل والأستاذ والمجتمع، تحت دعوى التمسك الصارخ بحقوق الإنسان ولو على حساب القيم الفضائل الخلقيّة التي عُرِف بها المجتمع التوحيدي دائما.
ألحقت الحرب اللبنانية 1975-1990 وما تلاها الأضرار الجمّة بالبشر قبل الحجر، وقبل الاقتصاد والبيئة والمجتمع المدني، كما انتشرت المخدّرات على أنواعها ولم تعد مقتصرة على الحشيشة من الإنتاج المحلّي، بل تعرّف شبابنا إلى أصناف الكوكايين والهيرويين والحبوب المهلوسة، وحبوب الكبتاغون الأشدّ خطورة والتي شكلت القوت الأهم لعناصر داعش والنصرة الإرهابيتين، وها هي المخدرات الرّقمية Digital Narcotics تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة ويصعب مراقبة الأبناء وهم يضعون السماعات الموصولة بالهاتف الخليوي أو الحاسوب على آذانهم بحجّة إنصاتهم لشرح دروس وقضايا أكاديمية، ويُسبّب هذا إدماناً رهيباً ولا يظهر أثره عبر تحليل الدم أو البول، كما هي الحال في بقيّة المخدّرات المهلوسة Tangible فيصيب الدماغ وأعصاب مستخدميه وقد تبين أنّ سفّاح مجزرة شاطئ سوسة على ساحل تونس الذي قتل 39 سائحاً أوروبيّاً وجرح العشرات صيف العام 2015، والذي صَوّرته كاميرات المراقبة كان يضحك فرحاً أثناء إطلاق النار على ضحاياه، وتبيّن بتشريح الجثّة امتزاج دمه بكميّات وافرة من الكبتاغون المخدّر.
نعم، هبطت العائلات من الجبل إلى الساحل والمدن للعمل وفقاً لشهادات الاختصاص، وقرباً من الجامعات والمعاهد التقنية، فازدادت المصاريف وانهمكت الأمّ كما الأب بالعمل المضني، وكان المنزل مكاناً لمتابعة التحضير والعمل دون التنبُّه لحاجات الفتيان والفتيات ومشاكلهم. هؤلاء الشباب بحاجة إلى محاورة الأم والأب لمناقشة صعوبات الدراسة وإزعاجات الرفاق ومشاكلهم Bullying، وغالباً ما يلجأ هذا الطالب إلى رفاق السوء أو الأنترنت هرباً من واقع أليم أو بحثاً عن حلول شخصيّة لم يتدخّل الأهل لمعالجتها.
غزا الهاتف الخليوي حياة الكبار كما الصّغار وها هي الأم كما الأب يتواصل كلٌّ منهما مع عائلته وأصحابه ورفاق العمل عبر الخليوي حتى ضمن المنزل أحياناً، فالأمّ مُجازة ولديها كفاءات كما الرجل، وبات الأولاد برفقة الخادمة لتأمين طلباتهم المنزلية وقد انحرف بعض الفتيان نحو المخدّرات الخطرة التي بات الحصول عليها بمنتهى السهولة رخيصة الثمن، وقد يقتنع الفتى بأنها الدّواء الشافي للصداع والمشاكل مع الرفاق أو الأهل، وغالباً ما يعلم الأهل متأخّرين بوصول أبنائهم إلى مرحلة الإدمان الصعب الذي يستوجب علاجاً أطول وميزانية أوفر ويؤثّر على شخصية الفتى ومستقبله الوظيفي وسمعة العائلة.
من هنا فعلى ألأهل أن يكونوا على مَقْرُبة من أولادهم ويفتشون عن الوقت المناسب للحوار معهم والوقوف على مشاكهم وإعطاء الحلول المناسبة لإنقاذ الفتى من الضّياع ومساعدته بكافّة الوسائل.
شاب مُدْمن للمخدرات أثناء نوبة صرَع قاسية: يصرُخ أعطوني المخدِّر!
إنّ أخطر الحلقات في عمليّة إنقاذ المُنحرف نحو المخدرات، هو استقالة الأهل من دورهم بمراقبة ثابتة لأولادهم وقولهم: فالج ما تعالج.
أمّا المدرسة والجامعة والمعهد حيث يمضي الفتى الوقت الطويل في مرحلة اكتساب المعارف العلميّة، فغالباً ما يهمّها الشقّ الأكاديمي فقط دون التطرّق إلى شخصيّة الفتى وإنّ نجاح الطالب في الشهادة وسمعة المدرسة أكاديميّاً تأتي بأولويّة قبل الشقّ التربوي، فقد تُنسى محاضرات التوعية والإرشاد للوقاية من المخدرات الخطرة والعنف والإقبال نحو الجريمة والابتعاد عن الانتحار الذي شهدنا منه الصيف الماضي حالات عديدة في الجبل لشبان في مقتبل العمر، بحيث اعتقدوا بأن الانتحار هو الحلّ الوحيد والأخير للتخلّص من مشكلة يعتبرُها المدمن تستهدف سمعة أهله وشخصيته.
لقد ألزمت الحكومة البريطانية في العام 2002 كافة المدارس ما قبل الجامعة إدخال برامج الوقاية من المخدِّرات وعدم اللجوء إلى العنف، وترِك ذلك للشرطة التوافقية بين المواطن والبوليس Policing by consent والمطبقة في بريطانيا منذ عقود كثيرة لمعالجة هكذا مواضيع. كما أنّ التنوع السياسي بين الطلّاب، وتعدّد الانتماءات يجعل الولاء للحزب والطائفة في مرحلة متقدّمة عن الولاء للوطن فيقوى الشّعور بالطائفيّة على حساب الشعور بالمواطنة Citizenship Feeling ويتسبّب بفجوات فكريّة بين الطلاب الذين هم في مقتبل العمر، وقد أحسنت وزارة التربية بإدخال مادة التربية المدنية بمناهج التعليم الثانوي، لكن مع ظهور جرائم الأنترنت والعنف لدى الناشئة، نقترح إدخال التّعديلات المناسبة مواكبة لتطور الجريمة، والأهمّ الوقاية من المخدّرات التي تتفشّى في لبنان عموما والجبل بالتحديد ونشهد انخفاضاً بمعدّل عمر المتعاطين وظاهرة إقبال الفتيات نحو المخدّرات بما لم نعهده من قبل.
أمّا دور الإعلام الذي انتقل من التلفزيون التقليدي والإذاعات الرّسميّة والخاصة إلى الهاتف الخليوي الذي يستخدم بأوجه متعددة: هاتف متحرّك، كاميرا، آلة تسجيل، فاكس يرسل التّسجيلات والفيديوهات والصور في وقت قصير، ويسمح للمشغّل بالدّخول إلى صفحات التواصل الاجتماعي بسهولة وفتح أقنية: YouTube التي لا رقابة عليها البتة سوى مشغّلها وحصانته الخلقية وإدراكه لحسن استخدام هذه الوسيلة. نعم لقد خرج المارد من القمقم ولا يمكن إعادته إليه. الحل هو بالتّوعية والإرشاد عبر برامج تنتهجها وزارة الإعلام وبالتعاون مع وزارة التربية والتعليم العالي لنشر برامج التوعية وشرح مخاطر اللجوء إلى المخدّر الذي ينقل المستهلك في وقت قصير من حالة تزعجه وتجعله قلقاً إلى حالة بعيدة عن الواقع وغير محسوسة لفترة قصيرة لا يلبث أن يطلبها مجدّداً وبكميّات أكبر لتقودَه نحو الإدمان والجريمة.
إذا كانت رقابة الدولة محدودة مع فلتان الأنترنت الذي لا يحدّه حاجز، وانغماس الشباب باستخدامه للتّسلية وتبادل التسجيلات المضرّة أحياناً، وبعيداً عن رقابة الأهل والمدرسة، فإن التحذير والإرشاد والتوعية للشباب هو الطريق الأسلم للحدّ من انخراط بعض شبابنا بالمخدّرات القاتلة أحياناً.
هل تتمكّن سلطات الدولة من إقفال بعض صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وإلزام مستخدم الخليوي بصفحات محددة؟ إنّ تعاون الدولة والأهل والمدرسة والمجتمع المدني قد يساهم في انقاذ من ينحرف نحو الممنوعات.
لدينا قانونٌ صدر العام 1998 برقم 673: قانون المخدرات والمؤثرات العقلية وهو قانون حضاري ينظر إلى مدمن المخدرات كمريض بحاجة للعناية والتركيز على ملاحقة شبكات التهريب وترويج المخدرات، وقد استحدثت لجنة الإدمان المشكّلة من:
قاض من الدرجة 11 على الأقل، رئيساً – ممثّل عن وزارة الصحّة، عضواً – ممثّل عن مديرية المخدرات، عضواً – ممثّل عن المجتمع الأهلي المدني، عضواً، من أجل معالجة حالات الإدمان دون توقيف المُدمن إذا وافق على متابعة مراحل التأهيل النفسي والخضوع لعملية الفطام عن المخدّر وحفاظاً على سجلِّه العدلي ليبقى نظيفاً يؤهّله تولّي الوظائف العامة. لكنّ هذه اللجنة لم تبصر النور لمعوقات عديدة علماً أنّ القانون الجديد لم يطبّق لحينه لعدم صدور المراسيم التطبيقية لجعلة قابلاً للعمل به، ونصَّ على إنشاء المجلس الأعلى لمكافحة المخدّرات برئاسة رئيس مجلس الوزراء وعضويّة وزراء العدل والداخلية والصحة والزراعة والمالية والتربية والخارجية والشؤون الاجتماعية لوضع استراتيجية وطنيّة لمكافحة المخدرات ومنع زراعتها واللجوء إلى الزراعات البديلة على أن تتولّى الدولة تسويقها لمنع المزارعين من العودة إلى زراعة المخدرات الخطرة والممنوعة، لكن هذا المجلس لم يبصر النور لحينه، حيث أولويات الحكومة مكافحة الإرهاب وترك الدفاع الاجتماعي عن الانسان وصحّته إلى وقت لاحق!!.
إنَّ الضرورة تقضي بسرعة تطبيق هذا القانون الجديد الحضاري مع إدخال بعض التعديلات إلى أحكامه لا سيّما بمواد تنظيمية.
تقوم الشّرطة القضائية بمكافحة الاتجار بالمخدّرات والتصدّي لشبكات التّهريب الدوليّة بالتنسيق مع الشرطة الدوليّة: الإنتربول Interpol ومجلس وزراء الداخلية العرب وجهاز الشرطة الأوربية Euro police، بإشراف النّيابة العامة المختصة، لكن غالباً ما يخضع القاضي لنداءات الأهل بتخلية سبيل أولادهم الذين يعدون بالإقلاع عن المخدّر، لكنهم يعاودونه وفقاً لطلب جسم المُدمن والذي لم يخضع للعلاج والشفاء التام ربما لعدم وجود مراكز تأهيلية مجّانية للدولة، ولا قدرة للأهل على دفع التكاليف العالية.. من هنا نرفع الصوت عالياً بضرورة تجهيز قسم في مستشفى الحريري الحكومي لمعالجة مدمني المخدّرات قبل الانتحار أو الوفاة نتيجة المخدرات القاتلة.

إنّ التحذير والتوجيه للشباب هو حفاظ على ثروة المستقبل، وتعاون المجتمع الأهلي الذي غالباً ما يسدّ الفجوات الناتجة عن قصور الدولة بتأمين متطلّبات الطبابة والتأهيل النفسي والفكري للمدمن والمتعاطي، مع الأهل المسؤولين الأُوَل عن صحّة ونتائج أولادهم وهم المرتبطون بهؤلاء الفتيان مدى الحياة، والمدرسة التي يجب أن تعير موضوع التوجيه والتحذير للطلاب للوقاية من شَرَك المخدرات، إذ قد يتمكن شاب واحد من دفع العديد من الفتيان نحو الرذيلة والانحراف الخلقي والانغماس بالمخدّرات التي تستهوي المراهقين للتعرّف إلى مفاعيلها. من هنا تأتي أهمية رقابة الناظر والمدرّس وإدارة المدرسة لتطوّر برامج الوقاية لحماية الشباب بالتنسيق مع الأهل.
وإذا كنّا لا نستطيع مراقبة أبنائنا أثناء استخدامهم للحاسوب والهاتف الخليوي الذي يمكّنهم التعرف إلى المعارف المفيدة والضارّة التي تؤثر في مستقبلهم، فإنّنا بالطبع قادرون على إخضاعهم للتوعية والتّحذير من هذه المخاطر ضماناً لمستقبل واعد، ومجتمع متماسك خلقيّاً واجتماعيّاً.
إنّنا على ثقة بأنّ أهلنا سيتابعون أوضاع أولادهم في المنزل والمدرسة والجامعة والمجتمع ولن يستقيلوا من دورهم رغم انشغالاتهم بالعمل والمجتمع ولن يتردّدوا بإعلام الشّرطة القضائية المكلّفة بالتّصدي لجرائم المخدرات زراعةً وتصنيعاً وترويجاً وتهريباً ثم تعاطياً.. كلّ ذلك من أجل سرعة التدخّل وتوقيف المروّجين الذين يستهدفون مستقبل أولادهم.
يبقى التحذير والإرشاد الطريق الأقصر للوقاية من شَرَك المخدّرات وقديماً قيل: درهمُ وقايةٍ خيرٌ من قنطارِ عِلاج..

المخدرات الرّقمية Digital Narcotics تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة.
المخدرات الرّقمية
Digital Narcotics
تعتمد الحاسوب أو الهاتف الخليوي المتصل بالأنترنت، وهي الأحدث والأشدّ خطورة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من الناحية الدينية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الشباب بين
التخدير والتحذير

ش. سلمان عودة

ألْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينْ والصَّلَاةُ والسَّلامُ عَلى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينْ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ الطَّاهِرينَ الطَّيّبِينَ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بإحسان اِلى يَوْمِ الدِّينِ.
قال تعالى في كتابه العزيز ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾(التّين، 4). فقد أعطت هذه الآيةُ الكريمة للإنسان وصفاً وقيمةً لم ينلها أحدٌ من المخلوقات، وهو ما يدلّ على رِفْعةِ منزلة الانسان عند الله تعالى حيث فضّله على سائر المخلوقات، وجعله في أحسن صورةٍ،
وأعطاه العقل والمعرفة، وجعل فيه من الإنعام ما لا يُحَدّ ولا يُحصى، وسخّرَ العالَمَين لخدمة هذا الإنسان: العالم العلويُّ الذي هو الأفلاك والمدبّرات، والعالم السُّفليُّ الذي هو الحيوان والجماد والنبات، وجعل غايةَ ذلك كلِّه عبادةَ الله سبحانه وتعالى وتوحيدَهُ، قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذّاريات 56). فمَنْ عرف نفسه حقَّ المعرفة لماذا خُلِقَتْ ووقف بها عند قَدْرِها لم يجعل لنفسه خياراً يُخْرجُه عن طاعة الله إلى معصيته، بل يسلك سبيل السّلامة، سبيل الفضائل والقيم الأخلاقيّة، ليصل بنفسه في الحياة الدُّنيا إلى برِّ الأمان، ويحصل في الآخرة على رضى الله الرّحيم الرّحمن.
قَدَرُنا أن نُولدَ في هذا الشّرق مَهْدِ الحضارة ومركز انطلاق الرسالات السماوية، وهذا يحمّلنا مسؤولية المحافظة على هذا التراث القيّم. فالحضارة هي بناء الإنسان، والحضارة حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية، (وإن بَدَت مُتَعدِّدة الأشكال) والمتحضّر ليس من ينحرفُ عن قِيمَه وثقافته ليقلّدَ ثقافة غيره، (ربمّا تكون ثقافة سيِّئة)، بل المتحضّر من يرتقي بنفسه إلى درجة الإنسانية. لكنّنا بتعدُّد انتماءاتنا ودياناتنا ومذاهبنا وأفكارنا وإنجازاتنا وعاداتنا وتقاليدنا إنَّما نملك ثقافات متعدّدة ضمن الحضارة الواحدة؛ حضارة الإنسانية والإنسان كي يرتقي إلى إنسانيته لا بدّ له من تحكيم عقله في أيِّ عملٍ يريد القيام به، (لأنّ الله تعالى اختصّه بالعقل دون سائر المخلوقات) ويجعل ميزان عمله الفضائل والأخلاق الجميلة، ويترفّع عن الغرائز التي غالباً ما تقوده إلى الهلاك. ونحن أبناء هذا الجبل الذي ترعرعنا في كنفه وورثنا ثقافته وأصالته عن أسلافنا الذين كانوا مدرسة (وأكثرهم) من لم يتعلّم في الجامعات ولم يعرف دراسة التخصّصات، فَهُم لم يدرسوا الأدب، لكنّهم علمّونا الأدب وفنّ الحياة والغَوْص في أدبيّاتها، فلم يقرأوا كتاباً في علم الاجتماع والعلاقات الاجتماعيّة لكنّهم علّمونا الصّدق وحسن المعاملة والاحترام وطيب المواساة والمؤآثرة، لم يدرسوا الدّين دراسة جامعية؛ لكنّهم علّمونا معنى الإيمان والتّقوى، لم يدرسوا التّخطيط لكنّهم علّمونا التبصّر في مُجريات الأمور وبُعْد النظر والتفكّر بحكمة، لم يدرسوا الحقوق كي يصبحوا كُتّاباً بالعدل؛ لكنّ كلمَتَهم كانت العهد والعقد الذي لا ينفكّ قبل تطبيقه. لكنّنا اليوم رغم اتّساع دائرة التعلّم في مجتمعنا، نرى كثيرين يحملون الشهادات (الليسانس والماجِستير والدكتوراه) لكنّهم يقفون بشهاداتهم عند حدود المادّة، ولم يتَعَدَّوْا في علومهم إلى الثّقافة والمعرفة والأصالة والقيم الأخلاقيّة التي سار عليها أسلافنا. وهناك أيضاً من لا يحمل شهادة ولا يملك ثقافة، وهذا ما يخلق عند البعض حالة من الفراغ قد تؤدّي بهم إلى الانحراف عن المسلك القويم، فيتركون ما تَربَّوْا عليه من الفضائل، ويتبعون ثقافاتٍ دخيلةً يعتقدون أنّها طريق الخلاص لِسَدّ فراغهم تحت شعار ما يسمى الحرية الشخصيّة، وتلعب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسّياسيّة في بلادنا دوراً سلبيّاً في حياتنا اليومية، وتساهم وسائل التواصل الاجتماعيّ في مُضيّ البعض في القفز نحو المجهول. فالتقاء تلك العناصر السلبيّة قد يؤدّي إلى الانحراف الأخلاقيّ، أو شرب الكحول، أو تعاطي المخدِّرات، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصل إليه الإنسان في حياته من الناحيتين الدينية والاجتماعيّة، حيث إن الدين يحرِّم ارتكاب الفواحش وكلَّ ما هو مُسْكر ومخدّر ومُذْهِبٌ للعقل والوعي سواء كان جزئيّاً أو كلّيّاً، ومرتكبها يذهب بملء إرادته نحو غضب الله تعالى وعقابِهِ في اليوم الآخر، إنْ لم يَتُبْ ويتغمّدْه الله برحمته. وممّا لا شكّ فيه أنّه يكون منبوذاً في المجتمعات المتمسّكة بقِيمها الأخلاقيّة، (وهنا يجب أن تكون المعالجة بالصّبر والرّضى والسّعي الدائم للإصلاح).
أيُّها الإخوة والأخوات، أيُّها الشّباب والشابّات، ثقافتُنا هي أصالتنا وهي هُوِّيَّتُنا، فلا يجوز أن نستبدلها بأبخس الأثمان، وحرّيتنا هي التزامٌ وليست انعتاقاً، فالحريَّة الحقيقيّة ليست في الخروج عن المألوف وعن الضّوابط، وهي ليست في قلّة الحياء وترك الاحتشام، وهي ليست في الذهاب نحو المُحَرّم شرعاً وقانوناً. بل هي أن يتحرّر الإنسان من عبوديّة نفسه، (ليست هناك في العالم دولةٌ أو مجتمعٌ أو قانونٌ يُجيز الحريّة المُطلقة، بل الجميعُ محكومٌ بمراعاة القوانين المرعيّة الإجراء. فلماذا نرتضي لأنفسنا تطبيق القوانين التي وضعها الإنسان، ونجاهر بمخالفة القوانين الإلهية الكونيّة التي وضعها لنا خالق الإنسان؟) فَلْنَتَّقِ اللهَ في كُلِّ ما نفعله، ونعلم يقيناً أنّنا لو تعلَّمنا وحملنا الشهادات، أو تبوّأنا المراكز، تبقى لا قيمة حقيقيّة لها إنْ لم تقترن بالقيم الأخلاقيّة والصّفات الحميدة، وهذا يبدأ بالتَّربية الصالحة لأولادنا في المنزل، وتوجيههم نحو طُرق الخير والفضائل منذ نعومة أظفارهم حتى شبابهم، وزجرهم ومحاسبتهم عندما تبدو عليهم إشارات الانحراف، ومتابعة مسيرتهم الحياتيّة اليوميّة حتى لو أصبحوا كباراً ودخلوا الجامعات حتى نصل بهم إلى برّ الأمان. فهم أولادنا وفلذات أكبادنا وأملنا في المستقبل ورعايتهم شرف لنا ولهم، عملاً بوصية لقمان الحكيم لولده (يا بنيّ: ادّب ولدك وهو صغير تفرح به وهو كبير).
أيُّها الإخوة والأخوات، إنّ النّفسَ الإنسانيّة لا يمكن أن تركن إلى فراغ، إلى لا شيء. فهي حيّة متحرّكة، فإمّا أن نشغلها بالعمل الصّالح ونوجّهها بعقولنا نحو الخيرات، وإمّا تشغلنا بأهوائها وشهواتها وترمي بنا في عالم المعصية والظُّلُمات. فإذا أردنا بناء مجتمع صالح فليكن همُّنا بناء العقول قبل بناء الأجسام، فبناء العقول يبني مجتمعاً صالحاً، والمجتمعات الصالحة هي التي تبني الأوطان. فبسلامة عقولنا يسلم معنا كلُّ شيء. وليكن حياؤنا من الله وخشيتنا منه، (مَن يستحيي من الله ويخشاه لا ينحرف إلى فعل المُحرّم) فخَشية الله هي رأس العلم، لأنّ من عرفَ الله عرف كلّ شيء، ومن خشي من الله خشي منه كلُّ شيء، (فَلْنَسْعَ لتحويل علمنا إلى معرفة، ونُتَرْجِم معرفتنا بصالح العمل، لأنّ قيمةَ العلم العمل به).
كان الإمام الصّوفيّ معروف الكَرْخيّ معروفاً بالخَشية، وكان الإمام أحمد بن حنبل (صاحب المذهب الحنبلي عند أهل السُّنَّة والجماعة) يعظّمُه ويُجِلُّه إذا حضر إلى مجلسه، وكان يذهب إليه ويسأله في بعض المسائل، ولم يكن معروفٌ الكرخيُّ مشهوراً بالعلم في طبقة أحمد وأمثاله، فأنكر عليه أحد أولاده وسأله قائلاً: يا أبتِ إنّي أراك تُعظِّم معروفاً ولم يكن علمه كعلم غيره، فهل مع معروفٍ شيءٌ من العلم؟ فأجابه أحمد: إنَّ مع معروف رأس العلم وهو خَشيةُ الله، وهل يُرادُ بالعلم إلّا ما وصل إليه معروف؟
ختاماً إذا أردنا المحافظة على كياننا ووجودنا فلنُحافظ على أخلاقنا كما قال الشاعر الكبير أحمد شوقي:
وإنَّما الأُمَمُ الأخْلاقُ ما بَقِيَتْ فَإنْ هُمُ ذَهبتْ أخلاقُهُمْ ذَهَبوا

  [/su_spoiler]

[su_spoiler title=”بعض أنشطة لجان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في التصدي لظاهرة انتشار آفة المخدرات وتداعياتها” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مع التحذير الاجتماعي والديني والوطني المتزايد من الخطر الذي باتت تمثله آفة المخدرات على الشباب والناشئة عموماً، وبتوجيه من سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن، أقامت اللجنتان الدينية والاجتماعية في المجلس المذهبي عدداً من الندوات واللقاءات والأنشطة في مناطق مختلفة، حاضر فيه اختصاصيون في الموضوع، فشرحوا التداعيات المدمرة للإدمان على المخدرات، على أنواعها، والطرق النفسية والاجتماعية والتربوية والأهلية التي يجب أن تستخدم في الحد من تلك الظاهرة، وصولاً إلى التخلص النهائي منها، كما أقاموا علاقات شراكة مع مؤسسات ذات اختصاص.
بعض الندوات والأنشطة تلك كانت كما يلي:

ندوة عامة في قاعة الرسالة الاجتماعية في عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”
في 29/5/2017، أقامت اللجنة الدينية في المجلس ندوة عامة في قاعة الرسالة الاجتماعية في عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”، بحضور الشيخ هادي العريضي رئيس اللجنة وممثل سماحة شيخ العقل، وعدد من المسؤولين السياسيين والنقابيين والتربويين ومخاتير ورؤساء بلديات وأعضاء في مجالس بلدية، وجمع من المعنيين. تحدث في الندوة كل من:
الشيخ فاضل سليم، الدكتور وجدي الريس، الأستاذ أمين العريضي، وأخيراً العميد أنور يحيى، الرئيس السابق للشرطة القضائية في قوى الأمن الداخلي في لبنان. وبعد تناول شامل للموضوع من جوانبه كافة، انتهى المحاضرون إلى ضرورة تنسيق الجهود في محاصرة آفة المخدرات وصولاً إلى التخلص منها، وبخاصة على مستوى الشباب والناشئة.

ندوة عامة في بلدة ينطا/قضاء راشيا، بعنوان «القيم الأخلاقية وتحديات العصر»
أقامت اللجنة الدينية في المجلس ندوة عامة في بلدة ينطا/قضاء راشيا، بعنوان “القيم الأخلاقية وتحديات العصر”، بحضور رئيس اللجنة الدينة في المجلس، وأعضاء المجلس: الشيخ أسعد سرحال، الشيخ يوسف أبو ابراهيم، الأستاذ ابراهيم نصر، والأستاذ محمود خضر، وعدد من المسؤولين السياسيين وأعضاء المجالس البلدية والاختيارية ومديري المدارس ومدرسين وهيئات أخرى. تحدث في الندوة:
الدكتور جهاد الحكيم رئيس بلدية ينطا، الشيخ فاضل سليم، الشيخ د. سلطان القنطار وأجمع المحاضرون على ضرورة تنسيق العمل التربوي والاجتماعي والديني والثقافي بكل الوسائل للتذكير بالقيم المعروفية العربية الأصيلة، وإعادة ترسيخها في مجتمعنا.

ندوة في بلدة شارون/قضاء عاليه، تحت عنوان «الانتحار قدر أم قرار»
أقامت اللجنة الدينية في المجلس، بالتعاون مع جمعية “بلدتنا تستحق الوفاء”، ندوة في بلدة شارون/قضاء عاليه، تحت عنوان “الانتحار قدر أم قرار”. حضر الندوة جمع من رؤساء البلديات والمسؤولين السياسيين والتربويين، وتحدث في الندوة:
الأستاذ نبيه الأحمدية، ممثلاً جمعية “بلدتنا” الأستاذ ملحم البنّا، رئيس بلدية شارون، الأستاذ أمين العريضي،الشيخ سلطان القنطار، والعميد أنور يحيى، عضو المجلس المذهبي، وأدار الندوة الشيخ فاضل سليم

ندوة حول آفة المخدرات
في بلدة عرمون
شارك في الندوة، العميد المتقاعد أنور يحي، الشيخ سلمان عودة، وقدمها المحامي د. بسام المهتار، وكانت كلمة افتتاحية من الشيخ زياد بو غنام. تحدث المنتدون على خطورة آفة المخدرات، على كل المستويات، وخصوصاً على الشباب، وما يجلبه من آثار مدمّرة على حياتهم، والأسرة، والمجتمع.
تحدث المحامي د. بسام المهتار باسم بلدية عرمون، فأشار إلى دور البلديات في “معالجة الأسباب التي قد تؤدي بالشباب إلى الانحراف عبر تحسين شروط الحياة وتوفير سُبل العيش الكريم”. ولخص المحامي المهتار دور البلديات من خلال ثلاثة بنود: “صلاحيات البلدية القانونية في هذا المجال… ودور بلدية عرمون على أرض الواقع…وأخيراً خطة بلدية عرمون لتطوير دورها ذاتياً على هذا الصعيد”، ودعا إلى “تطبيق مبدأ اللامركزية الادارية لأن البلدية هي الأدرى بمشاكل المواطنين… والأقرب إلى معرفة تطلعات الناس.

بروتوكول تعاون
مع جمعية «سكون»
وقّعت اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بروتوكول تعاون مع جمعية “سكون”، بهدف تنفيد البرنامج الوقائي من خطر استخدام المخدرات تحت عنوان “معرفة أكثر، خطر أقل”. وقع البروتوكول عن المجلس رئيسة اللجنة الاجتماعية المحامية غادة جنبلاط، وعن جمعية “سكون” الآنسة سهى الحلبي، بحضور مقر اللجنة الاجتماعية الأستاذ أكرم العربي، ورئيس قسم التخطيط في المصلحة الإدارية والاجتماعية الدكتور رامي عطالله. ويتضمن البروتوكول أنشطة مشتركة عدة منها: إقامة دورات تدريبية لحفز وإتقان مهارات التعرف والتواصل التي يحتاجها العاملون على مكافحة آفة المخدرات، وذلك من خلال إقامة حلقات توعية وتدريب، تستهدف فئات عمرية ثلاث: فئة 18-22 سنة، وفئة الأمهات والسيدات الناشطات ولديهن أولاد في سن المراهقة، وفئة 12-15 سنة.

ندوة الجمعية الخيرية لإنماء التعليم الجامعي في قضاء عاليه، في قصر اليونسكو بيروت، برعاية وزير التربية الوطنية والتعليم العالي الأستاذ مروان حمادة.
نظّمت “الجمعية الخيرية لإنماء التعليم الجامعي في قضاء عاليه”، بتاريخ 7 آذار 2018، وفي إطار شهر محاربة المخدرات، ندوة بعنوان “مخاطر المخدّرات” في قصر الأونيسكو، برعاية وحضور وزير التربية والتعليم العالي مروان حمادة، وحضور ممثل شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز نعيم حسن، الدكتور الشيخ سامي أبي المنى، ممثل وزير المهجرين طلال ارسلان الدكتور ياسر القنطار، ممثل تيمور بيك جنبلاط، محمد بصبوص، قائد الشرطة القضائية العميد أسامة عبد الملك والعقيد عادل مشموشي، ومؤسسي الجمعية د. محمد شيّا، السيد عبد المجيد غريزي، د. ناهدة السوقي، الآنسة سامية الريّس، والهيئة الإدارية الحالية برئاسة عصمت غريزي والأعضاء د. سليم حداد، د. ناهدة السوقي، ناجي شاذبك، شادي السوقي، نزار حيدر، سامية الريس، سميح شميط، وربيع شيّا. كما حضر حشد كبير من المعنيين وطلاب ثانويات ومدارس الجبل.

بعد النشيد الوطني، تحدث الدكتور سليم حداد، عصمت غريزي، والوزير الأستاذ مروان حمادة، حاضر بعد ذلك كل من:
الشيخ الدكتور سامي أبي المنى – الأب مروان ضو – الدكتور جوزف خوري – وأخيراً العقيد هنري منصور، رئيس مكتب مكافحة المخدرات المركزي في قوى الأمن الداخلي.
أجمع المحاضرون على خطورة ظاهرة المخدرات، وتوسع انتشارها، وكيفية التصدي لها، ومنع توسعها، وضرورة تكثيف الأنشطة تلك وتكاملها. وفي ختام الندوة وزعت دروع تكريمية للوزير مروان حماده والمحاضرين.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

كل الجهات… القدس!

لا تستطيع ، ولا أية مطبوعة ثقافية عربية، أن تكون بمنأى عن تحوّلات الحدث الجلل الحزين الذي ألقى بظله الثقيل على الأراضي العربية الفلسطينة أواسط الشهر الأخير من السنة الماضية والذي تمثّل بالقرار الجائر من رئيس الدولة الأولى في العالم اليوم (لجهة الإمكانات والقوة العسكرية والاقتصادية) دونالد ترامب والذي تضمّن الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارة بلده بالتالي إليها.
وليس أدلّ على خطورة ما أقدم عليه الرئيس الأميركي ترامب من متابعة الإجماع الفلسطيني، والعربي، والإسلامي المسيحي، بل والدولي ضد خطوته على نحو جعل الولايات المتحدة (بين مشاهد مشابهة أخرى) تقف وحيدة في مجلس الأمن الدولي ضد باقي بلدان العالم الممثل في المجلس (14 صوتاً مقابل صوت الولايات المتحدة وحيداً) في جلسة 18/12/2017، إلى مشاهد مشابهة أخرى بدت فيها الولايات المتحدة مع إسرائيل في مواجهة العالم بأجمعه، فخطوة ترامب تنقض الاجماع الأممي والدولي في رفض أي تغيير للوضعية القانونية والسياسية للقدس في ظل الاحتلال، وفي اعتبارها مدينة فلسطينية محتلة إلى أن تجد حلاً نهائياً عن طريق التفاوض وليس الاحتلال العسكري، أو فرض الحلول بالقوة.
ومع الأسف لتخلي الراعي الدولي الأول عن مسؤولياته حيال ملف القدس، ومن باب تقديرنا مع العالم بأسره لخطورة خطوة ترامب، ليس حاضراً فقط، وإنما مستقبلاً وبالمعنى الشامل، كما عبّر عن ذلك بوضوح البيان الصادر عن سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز بتاريخ….، وتضامناً مع المدينة الفلسطينية العربية، المسيحية الإسلامية بامتياز، فقد جعلنا للقدس ملفاً خاصاً أوّل، في العدد هذا جعلناه تحت عنوان

“كل الجهات… القدس”.
وبالرغم من عامل الوقت الذي يعقّد من متابعة الدوريات الفصلية للحدث المتحرك بسرعة، فقد كان الملف الذي جهّزناه تحت ضغط عامل الوقت أقل ما يجب القيام به إسهاماً ولو بالقليل في فضح بطلان الإجراء الأميركي المتسرع والجائر، وزيف كل المبررات التي استند إليها. مع التسليم ببطلان كل الأسباب والمبررات السياسية والقانونية التي أعطيت للقرار، وإفصاحه بالخط العريض عن وحدة الأهداف بين سياستي الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن خلفية تصرف ترامب إنما أظهرت ثقافياً، برأي الكثيرين، إلى الأسباب السياسية الأخرى، حقيقتين اثنتين هما، أولاً تجاهله للحقائق التاريخية، وثانياً، تقديمه المصالح السياسية على حساب الحقائق والقيم. وإذا كان واحد من السببين أعلاه يكفي ليضلّ الحاكم سواء السبيل (رحمة الله على أفلاطون في ’جمهوريته’ وعلى الفارابي في ’مدينته الفاضلة’) فكيف إذا اجتمع السببان معاً.
نؤكد أن القدس فلسطينية عربية منذ ثلاثة ألاف سنة، وأن اليهود لم يسكنوها إلا للحظات، وبالمعنى الحرفي قياساً بزمنها الفلسطيني العربي المشرقي المديد. وبذلك فقد كرر الرئيس الأميركي مأساة وعد بلفور، أي لقد “أعطى من لا يملك” أرضاً لمن “ليس له حق فيها”. إذ وفق أي قانون يتصرف رئيس دولة ما (مطلق دولة، وكائناً ما كانت قوتها) بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة وفق القانون الدولي (وأولها الأرض) فيقدّمها لجهة لا تملك أي حق له فيها؟

وللتذكير فإن العالم منذ سنة 1947، أي قبل اصطناع دولة إسرائيل، كان حريصاً على تنبيه الجميع إلى أن القدس هي فوق المصالح والسياسات، وأنها إرث روحي يخص العالم بأسره والمؤمنين بأسرهم. والعالم ذاك، ممثلاً بالأمم المتحدة بدأ حرصه على طلب إعلان القدس عاصمة للمؤمنين بأديان الله كافة، وليست لدين واحد، وختم إعلاناته تلك – حتى الآن – بإعلان مجلس الأمن سنة 2016 قراره الأممي رقم 2334 بتاريخ 23/12/2016 الذي نصّ صراحة على عدم اعترافه بأي تغيير في حدود الرابع من حزيران 1967 في ما خص الأراضي، بما فيها القدس، “إلا إذا توصّل الطرفان إلى تسوية في هذا الشأن، وعبر مفاوضات”. وما تصويت مجلس الأمن الدولي ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة بما يشبه الإجماع ضد قرار ترامب، غير برهان إضافي على أن ترامب في واد، والعالم بإسره، تقريباً، في واد آخر.
ونؤكد مرة أخرى أن في القدس أقدس مقدسات المسيحيين والمسلمين (عشرات الأمكنة)، ولذلك فقد غدت القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، كما أنها تحتفظ بتاريخ روحي مسيحي عريق.

ومع ذلك، فالأكثر خطورة في قرار ترامب هو تداعياته المستقبلية. فلم يتأخر بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بربطه أية مفاوضات في المستقبل مع الفلسطينيين باعترافهم أولاً بقرار ترامب اعتبار القدس يهودية وعاصمة ’أبدية’ لإسرائيل.
ولم تتأخر لجنة الاستيطان الصهيوني في استثمار الوضع الناشئ فأعلنت دون إبطاء عن النيّة لبناء أربعة عشر ألف وحدة سكنية جديدة في القدس المحتلة والمستوطنات الصهيونية المحيطة بها.
والتحرك الإسرائيلي السريع والمنسّق لاستثمار التصعيد الأميركي ليس غير جزء من الاستراتيجية الصهيونية المستمرة القائمة على عدم تقديم أية تنازلات – ولو صغيرة – بخصوص الأرض وإجبار الفلسطينيين والعرب بالمقابل على القبول بالأمر الواقع الجديد وقبول ما يبنى عليه. وأكثر الأدلة وضوحاً تصريح نتنياهو الأخير في باريس وما معناه أن الإجراء الأميركي يعجّل في عملية السلام التي تقوم على “اعتراف الفلسطينيين بالأمر الواقع”.

لكن حسابات حقل ترامب – نتنياهو لم تتطابق ومعطيات الحقل الفلسطيني، والعربي، والدولي. فقد أشعلت خطوة ترامب ردود أفعال فلسطينية غاضبة، من القدس المحتلة إلى رام الله وغزّة، وبدا أن الفلسطينيين قد توحّدوا من جديد وأنهم جاهزون للذهاب في التصدي للقرار الأميركي إلى أقصى حد، وإلى حدود ما يقترب من انتفاضة ثالثة بدت نُذُرُها في عدد الشهداء والجرحى والأسرى الذي باتت تحمله أخبار كل صباح من المدن والبلدات الفلسطينية.
عربياً، بدا أيضاً أن قرار ترامب قد أعاد القضية الفلسطينية، ومحورها القدس، إلى صدارة أولويات الشعوب العربية، بعدما نجحت المآرب السياسية الأنية في جعل ’الإرهاب’ هو القضية وعلى حساب القضية الفلسطينية. أعاد القرار الأميركي الأمور إلى نصابها وعادت القضية الفلسطينية في رأس أولويات القضايا العربية وربما العالمية أيضاً.
وانفجرت دولياً في وجه ترامب – نتنياهو مواقف من العالم بأسره، حكومات ومنظمات وشعوباً، في أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا وشرق أسيا، رافضة هذا الاستخفاف الأميركي بالحقوق التاريخية الوطنية للشعب الفلسطيني، وبالقرارات الدولية الصريحة في هذا الشأن.
القدس، مدينة السلام، زهرة المدائن، ’خزنة’ أديان التوحيد، وذاكرتها، ومن غير المعقول أن تستمر العربدة الصهيونية فيها أو حولها إلى ما لا نهاية. هي لحظة من الزمن وستمضي في النهاية، كما مضى غيرها، وتعود القدس قِبلة وملتقى لكل الباحثين عن السلام في مدينة السلام، ولبني البشر كافة، يجمعهم اشتراكهم في الجوهر الإنساني، والحقوق الأساسية المشتقة منه، كما يجمعهم إيمانهم، وما يشتق منه – ولا نقول يترتب عليه – من واجبات. وحين تتوازن الواجبات والحقوق، في الأفراد والعلاقات والسياسات، نقترب من تحقيق إنسانيتنا، وعلى قدر ما تسمح به ظروف عيشنا، وعلى أمل أن يكون ذلك خطوة في طريق خلاص أكثر شمولاً – نحو الحق والحقيقة.
تسهم ’الضحى’ في الحملة العربية، والإسلامية المسيحية، والدولية، ضد قرار ترامب بهذا الملف الذي جرى إعداده في وقت قصير، ويتضمن ثلاث فقرات:
– الإعلانات اللبنانية، والعربية، والمسيحية الإسلامية، التي
صدرت ضد القرار،
– بطلان قرار ترامب من وجهة نظر القانون الدولي،
– و”القدس في التاريخ”

كنيسة القيامة
كنيسة
القيامة

ردود الأفعال على خطوة الرئيس الأميركي الجائرة

في هذا الإطار، صدرت عن جهات روحية وزمنية عدة بيانات ووثائق استنكرت الإجراء الأميركي أهمها:
1- عن المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز،
2- الوثيقة الصادرة عن القمّة المسيحية الإسلامية في بكركي
3- التوصية الصادرة عن المجلس النيابي اللبناني.
4- القمّة الإسلامية في إسطنبول.
5- فضلاً عن إعلان الاتحاد الأوروبي موقفه الواضح عبر إعلانه
أن القدس الشرقيّة هي عاصمة دولة فلسطين…

◄ ففي بيان المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في اجتماع
مجلس إدارته نهار الثلاثاء في 12/12/2017 برئاسة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن أكّد فيه «تمسّكه بالقدس كمدينة جامعة لها خصوصيّتها الروحانيّة الخاصّة وصفتها التمثيليّة للديانات السماويّة، رافضاً مصادرتها من أي طرف كان لاسيّما سلطات الاحتلال الإسرائيلي. وحذّر من التداعيات الناجمة عن مثل هذه القرارات. داعياً إلى تحرّك عربي عاجل يكون على مستوى هذا التحدّي الخطير الذي يطال المسلمين والمسيحيين على السواء، باعتبار أن القدس الشريف هي عاصمة دولة فلسطين المستقلّة»(1).

◄ كما أكّدت القمّة الروحيّة المسيحيّة الإسلاميّة التي عقدت في
بكركي نهار الخميس في 14/12/2017، على أن «تهويد القدس هو تحدّ لثلاثة مليارات شخص… وأن قرار الرئيس الأميركي ترامب الاعتراف «بالقدس عاصمة إسرائيل» يسيء إلى ما ترمز إليه مدينة القدس وهو مبني على حسابات سياسيّة… لا سيّما أن القدس تزخر بمواقع تاريخيّة مقدّسة لدى الديانات التوحيديّة وليست مدينة عاديّة كغيرها من مدن العالم لها موقع مميّز في ضمائر مؤمني هذه الديانات…».
وأشار البيان الختامي لقمّة بكركي إلى أنّ «أصحاب القداسة والغبطة والسماحة يرفضون هذا القرار ويطالبون بالرجوع عنه فضلاً عن مخالفته القوانين والمواثيق الدوليّة… وإن القدس الشرقيّة هي عاصمة دولة فلسطين…» (2).

◄ نهار الجمعة في 8/12/2017 انعقد مجلس النواب اللبناني
بدعوة من رئيسه الأستاذ نبيه بري في جلسة خاصة كرست لمناقشة خطورة خطوة الرئيس الأميركي حيال القدس والتداعيات المحتملة للقرار على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي.

كما جاء في البيان الختامي للقمّة الإستثنائيّة لمنظمة التعاون
الإسلامي المنعقدة في إسطنبول نهار الأربعاء 13/12/2017 ما يلي: «نرفض وندين بأشدّ العبارات القرار الأحادي غير القانوني وغير المسؤول للرئيس الأميركي ترامب، ونعتبره لاغياً وباطلاً، واعتداء على الحقوق التاريخيّة والقانونية والطبيعية والوطنية للشعب الفلسطيني، وتقويضاً متعمّداً لجميع الجهود المبذولة لتحقيق السلام، ويصب في مصلحة التطرف والإرهاب ويهدّد السلم والأمن الدوليين». على هذا الأساس، تعلن القمّة الإسلاميّة أن «القدس الشرقية هي عاصمة لدولة فلسطين وتدعو الدول إلى أن تعترف بدولة فلسطين وبالقدس الشرقيّة المحتلّة عاصمة لها، مؤكدين أن على واشنطن أن تنسحب من دورها في عمليّة السلام»(3).

توصية مجلس
النواب اللبناني

إن مجلس النواب اللبناني المجتمع في 8 كانون الأول سنة 2017 لبحث موضوع القرار الأميركي بخصوص القدس الشريف، يعتبر أن القرار المتعلق بنقل السفارة الأميركية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يقود إلى الحروب ويهدد الأمن والسلام الإقليمي والدولي ويشكّل غطاء للاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته وعملياته الاستيطانية وكل تجاوزاته على القوانين الدولية والإنسانية. كما أن القرار يشجع النوايا العدوانية الهادفة لأسرلة وتهويد فلسطين، ويهدد الآثار الناجمة عن ذلك بتنفيذ مشاريع التوطين وتذويب الشعب الفلسطيني وشطب القضية الفلسطينية تمهيداً لإعادة صياغة الجغرافيا السياسية في المنطقة العربية.
إنّ مجلس النواب إذ يستنكر ويدين هذا القرار يؤكد أن بناء وصنع السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط إنما ينطلق من تأكيد الحقوق والأماني الوطنية للشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وفي تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولية المتعلقة بالأراضي العربية.
والمجلس يؤكد على:
1- دعم حق الشعب الفلسطيني في مقاومته ونضاله المشروع
للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي لنيل كل حقوقه في العودة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
2- الرفض الشديد لموقف الإدارة الأميركية بشأن إقفال مكتب
منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
3- إدانة قرار الاحتلال الإسرائيلي الاستمرار في مشاريعها
الاستيطانية الاستعمارية في أراضي دولة فلسطين المحتلة.
4- إخلاء سبيل البرلمانيين الفلسطينيين المختطفين والمعتقلين في
سجون الاحتلال أو الموقوفين إدارياً مما يستوجب موقفاً عقابياً رادعاً من قبل البرلمانات والمنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية وعلى رأسها الاتحاد البرلماني الدولي.
5- دعمه للمصالحة الوطنية الفلسطينية من خلال منظمة
التحرير الفلسطينية وتوجيه الطاقات كافة لاستكمال مسيرة الاستقلال الناجز بعودة اللاجئين إلى ديارهم وإقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة.
6- توجيه كل الجهود العربية والإقليمية لوضع الإمكانات كافة
في سبيل إيصال الفلسطينيين لحقوقهم وتجنب كل الصراعات الأخرى.
7- إبلاغ هذه التوصية إلى الإدارة الأميركية باسم الشعب اللبناني
والحكومة اللبنانية ولأعضاء مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، واعتبارها وثيقة رسمية باسم الشعب اللبناني.
بيروت في: 8/12/2017
رئيس مجلس النواب
نبيه بري

القدس
في التاريخ

د. صالح زهر الدين

في السادس من كانون الأوّل 2017، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في وثيقة أطلق عليها «وثيقة الوعد» الرسميّة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بعد توقيعه عليها في البيت الأبيض. معلناً في الوقت نفسه أن القرار تأخّر، فأقدم حيث لم يجرؤ أيّ من أسلافه في البيت الأبيض، وهذه الوثيقة تقضي بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس…
وحده بنيامين نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) هتف قائلاً: «هذا يوم تاريخي»، ثم ألا نستطيع القول، أن هذا الإعلان الترامبي هو «وعد ترامب» الأميركي مثلما هو «وعد بلفور» البريطاني واستكمالاً له؟
أليس هذا الإعلان الأميركي هو بمثابة «القرار الأخطر» في التاريخ الفلسطيني، الذي يعادل قرار «إقامة دولة الاحتلال الصهيوني» على أرض فلسطين العربية؟ أليس هذا «الوعد الترامبي» بخصوص القدس.
في ضوء ذلك نتساءل: لماذا القدس اليوم؟ وما أهميتها في التاريخ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؟ وماذا عن مصيرها ومقدساتها بعد قرار الرئيس الأميركي ترامب بشأنها؟ وما الموقف والاقتراحات إزاء ذلك؟
قال أحد الكتاب: إذا طُلِبَ من إنسان أن يعرّف عن نفسه، فإنه يقدم بطاقة هويته الشخصية أو جواز سفرٍ، أو إخراج قيد، أو ما شابه. وإذا طُلِبَ من أمّة أن تعرّف عن نفسها، فإنها تقدم علماءها ومفكّريها ومؤرّخيها وأطباءها ومهندسيها وفنّانيها وعباقرتها وأبطالها، كبطاقة تعريف لها… لكننا نحن بدورنا نقول إنه إذا طُلب من القدس أن تعرّف عن نفسها، فإنها ستقول بلا شك إسألوا التاريخ، لأن «الـقـدس مدينة التاريخ، وكأنها والتاريخ توأمـان لا ينفصمان»(1).
والجدير بالذكر، أن السيد المسيح عليه السلام دخل القدس راكباً على حمار تحقيقاً لنبوءة زكريا، واستُقبل بسعف النخل دلالة على انتصار كلمة الحق، وشرع في الوعظ ملقيا خطبة إثر أخرى. غير أنه أظهر غضباً كبيراً عندما رأى في ساحة الهيكل الباعة والبضائع وحركة التجارة، فطردهم صارخاً: “بيتي بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص”. بعد ذلك حاور كهنة اليهود ناقضا عليهم جمود الروح، ومرّة أخرى تصبح البقعةُ التي تقوم عليها القدسُ وما حولها اصطفاءً إلهياً لنشر العدالة في الأرض … وأخيراً توّجت أمجادُ الصبغة المقدسة للمدينة، باختيارها من قبل الباري سبحانه وتعالى، كموضع صلة بين السماء والأرض، إذ أسرى بالنبي الكريم إليها، ومنها عرّج إلى السماء، فكان أن اتخذ من المسجد الأقصى قبلة أولى للمسلمين(2)﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ1﴾ (سورة الإسراء). و«لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلّم (في المدينة المنوّرة)، والمسجد الأقصى» (رواء مسلم عن أبي هريرة).والـواقع، أن ما يجري الـيـوم مـن «توأمة» مـدن وقرى ومدارس ومستشفيات وغيرها في العالـم لن يصل إلى أهم «توأمة» في التاريخ ولن يشهد التاريخ بعدها «توأمة» بهذه الأهمية. تلك «التوأمة القرآنية» التي جمعت القدس بمكّة المكرّمة.
بعد أن أصدر الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) قراره الشهير بشأن القدس، فإننا نستطيع القول أنّه إذا كان الناس في الماضي يستعينون بالنجم القطبي والبوصلة في تنقلاتهم، فإننا اليوم، بالنسبة للقدس والمقدسات، بحاجة إلى «قطب» وإلى بوصلة أيضاً، تدعى «بوصلة القدس»، لا تتجه إبرتها نحو الشمال – كما هو متعارف عليه – بل تتجه إلى هناك. إلى القدس وفلسطين فقط… لأنه لا‎ ‏ يمكن أن يوجد في العالم قضية يجب أن يتفق عليها العرب والمسلمون بحجم قضية القدس، فالقدس هي أرضُ الله ولا يمكن التنازل عن أرض الله مهما كانت النتائج، وإلا لن نكون جديرين بالانتماء الحق لرسالة السيد المسيح عليه السلام ولرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا لمدينة الله ومدينة السلام، التي رأى فيها الشاعر الإيطالي «دانتي» محورَ الكون، وبلغت من السموّ مركزاً قلَّ أن بلغه مكان آخر في العالم(3).
والحقيقة أن شعار «الـيـهـود شـعـب الله الـمختار» وشـعـارَ «الأرض الموعودة» يقول عنهما البابا الأنبا شنوده الثالث: «إن اليهود جاؤوا إلى فلسطين (التي يسمّونها الأرض الموعودة) ليس بوعد من الله، بل بوعد من بلفور»(4). الذي كان «أوّل وثيقة لخلق أوّل وطن قومي يهودي»(5)، ورغم ذلك، ستبقى القدس لؤلؤة العرب والمسلمين وضمير الأمّة، وأرضها من أقدمِ مواطن الإنسان، ولقد اختصّها الله بفضله دون بقاع أرضه فكانت من أقدم بقاع الأرض التي عرفت التوحيد ومهبط الرسالات السماوية ودرج على أرضها رسل كرام.
على هذا ستبقى القدس حاضرة فينا حضور القداسة في مقدساتها، وحضور العدل في ميزان العدل… حاضرة فينا حضور المسيحية في السيد المسيح عليه السلام، وحضور الإسلام في النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم… وعندما كان من المستحيل أن تتبرأ المسيحية من مسيحها، وأن يتبرأ الإسلام من نبيّه الكريم، فمن المستحيل أن تغيّب القدسُ عنا، فهل نغيب عنها؟
في معرض ذلك، لا بد من الإشارة إلى بعض ما تطرّق إليه «الأب الروحي» للصهيونية الدكتور تيودور هرتزل، حيث قال: «إذا حصلت يوماً على القدس وكنت ما أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء، فسوف أزيل ما هو غير مقدس لدى اليهود، وسوف أحرق الآثار التي مرت عليها القرون»(6).
أليس ما يجري حالياً – وما جرى – في القدس هو التعبير الحيّ عمّا ذكره هرتزل؟… فلو كان هذا الكلام الهرتزليّ بمثابة ‎«وصيّة»،‏ لما كان اليهود ينفذونه بهذه الدقّة وبهذه الروحية الهرتزلية الصهيونية…
وفي هذا الإطار، قال دافيد بن غوريون أيضاً: «إذا أردنا خلاصاً يهودياً مئة في المئة، فلا بدّ من استيطان عبري مئة في المئة، ومزرعة عبرية مئة في المئة، ومرفأ عبري مئة في المئة..»(7). وبالطبع فإنه يتضمن القدس كحلقةٍ مركزيةٍ في السلسلة اليهودية، لذلك نرى بن غوريون يقول: «لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل»(8).
والجدير بالذكر، أن اليهود بارعون صهيونياً بفبركة «مطابخ الأفكار» و«مـصانع الـمـزاعـم والادعاءات» وليس زعـمـهـم وادعاؤهم بـ «يـهـودية» القدس، إلا من هذا القبيل والتي تعود إلى أيام النبيين داوود و سليمان (ع)، في أعقاب احتلال القدس في القرن العاشر ق. م. حيث لم تدم سيطرتهما عليها أكثر من 70 عاماً… بينما تؤكد وثائق التاريخ وآثاره (كما سنرى لاحقاً) أن القدس مدينة عربية كنعانية: وليست يهودية حكمها العرب أكثر من ثلاثة آلاف سنة، بينما حكمها اليهود حوالي 70 سنة فقط… فحقائق التاريخ إذن، أصدق من اليهود ومزاعمهم وأباطيلهم، ولن تغيّر القوّة شيئاً من هذه الحقائق، مهما برعت أيادي التشويه والتحريف والتزوير في هذا الفن… فالقدسُ التي دخلها الملك داوود واحتلها لم تكن مدينة داوود، ولا مدينة اليهود، بل كانت مدينة موجودةً وقائمةً بذاتها، ولم يبنها داوود… وقد أكّدت كل الحفريات التي قامت بها كل البعثات الأجنبية واليهودية أنها لم تقدم حتى الآن أي دليل أو أثر يهودي يعود إلى عصر داوود وسليمان في منطقة القدس، والأقصى تحديداً….
من هذا المنطلق، فقد تعرضت القدس بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى ما يشبه «ضربة السكين» في سنة 1948، فشطرتها إلى قسمين. فبعد أن أعلن قيام دولة الاحتلال الصهيوني في منتصف شهر أيار 1948، ونشبت المعارك العربية – الإسرائيلية على هذا الأثر، تعيّن الخط الفاصل بين الجزء الغربي من القدس، والجزء الشرقي منها بتاريخ 22 تموز 1948، ثم وقّع الأردن مع دولة الاحتلال الصهيوني اتفاقية وقف إطلاق النار على الجبهة الشرقية في 30 تشرين الثاني 1948، وتبعتها اتفاقية هدنة وقّعها الطرفان في 3 آذار 1949… وبتوقيع هذه الاتفاقية تمّ في الواقع تأكيد حقيقة اقتسام مدينةِ القدس بين الطرفين: الجزء الغربي الموجود فيه الجيش الإسرائيلي لإسرائيل، والجزءُ الشرقي الذي كان تحت سيطرة الجيش الأردني للأردن(9). وبعد حرب حزيران 1967، وقعت القدس الشرقية تحت الاحتلال وبدأت إجراءات تهويدها على قدم وساق، ولا تزال منذ ذلك الوقت، والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تعمل تارة بالسرّ وتارة بالعلن على تهويد المدينة المقدسة وتوسيع بؤر الاستيطان، ووضع البرامج المنظمة والمكثفة لبلوغ هذا الهدف. وقد جاء قرار ترامب اليوم تتويجاً لكل هذه الإجراءات المخالفة للقرارات الدوليّة…
ففي 7 حزيران 1967 – مثالاً- بعد أن احتلت القوات الإسرائيلية القدس القديمة، وأحكمت قبضتها على المدينة برمتها، تقدم «موشي دايان» و«شلومو غورن» حاخام الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي ليقف على رأس ثلّة من الجيش بالقرب من حائط المبكى -ـ الحائط الغربي للحرم القدسي الشريف – ويقيم الشعائر الدينية اليهودية معلناً في ختامها: «إن حلم الأجيال اليهودية قد تحقق، فالقدس لليهود ولن يتراجعوا عنها وهي عاصمتهم الأبدية»(10)، وكذلك قال دايان: «لا فراق بعد اليوم، ولا عزلة، ولا ابتعاد. سنبقى معاً: الشعب والأرض والحائط».
بعد ذلك التاريخ، وسلطات الاحتلال الصهيوني تواصل حملات وإجراءات التطبيق لمخططات الضم بغية ضمان السيطرة على القدس عسكرياً وجغرافياً وسكانياً ولم يكن ليتسنّى لها ذلك دون أن تحقق السيطرة الاستراتيجية والسيطرة الديموغرافية، وذلك عبر التوجهات التالية:
1- السيطرة الجغرافية على أكبر مساحة مختلفة من الأراضي
المحيطة بالمدينة عن طريق مصادرة الأراضي والاستيطان وإقامة شبكة طرق.
2- عزل التجمع السكاني العـربي في القدس عن التجمعات
السكانية العربية في الضفة الغربية.
3- تطويق القدس بأحزمة استيطانية متصلة قوية، على شكل
تجمعات سكانية تحقق إقامة عازل سكاني يهودي بين القدس وخارجها من جهة، وتحقق سيطرة استراتيجية على التجمّعات العربية داخل القدس من جهة أخرى.
4- تصميم الضواحي الاستيطانية بأساليب بناء فاصلة تخدم
الغرضين: المدني في حالة السلم، والعسكري في حالة الحرب(11).
وبالفعل فقد أقدمت دولة الاحتلال الصهيوني على ضم القدس إدارياً وسياسياً وقضائياً للسيادة الإسرائيلية بتاريخ 28 حزيران 1967، مُقدمة بعد ذلك على سلسلة من الإجراءات على طريق «القضـم والهضـم والضـم» وفق مخطّط «الطرد الصامت والتفريغ الصامت والتهويد الصامت» (والصارخ في الوقت نفسه)، لكامل المدينة. ومن أبرز هذه الإجراءات ما يلي:
1- حل مجلس أمانة القدس العربي ومصادرة سجلاته وأملاكه
المنقولة وغير المنقولة وإلغاء كافة القوانين السائدة واستبدالها بالقوانين الإسرائيلية وإجبار عرب القدس على مراجعة المحاكم الإسرائيلية.
2- مصادرة 131 ألف دونم دفعة واحدة إضافة إلى عشرات
العقارات وأربعة أحياء عربية كاملة وهدم 720 منزلاً ومزرعة داخل أسوار المدينة وإجلاء السكان عنها بالقوة.
3- إحراق المسجد الأقصى بتاريخ 21 آب 1969 وإصدار أمر لليهود
بالصلاة داخل الحرم الشريف إضافة إلى القيام باعتداءات متواصلة على عدد من الكنائس المسيحية، ومنها كنيسة القيامة وممارسة الضغوطات المتواصلة على رجال الدين المسيحي للتنازل عن أملاك أراضي كنائسـهـم، مما أدّى إلى انخفاض عدد رجال الدين المسيحي إلى الثلث والأراضي إلى النصف. ومن المعروف بأن الذي أحرق المسجد الأقصى كان الأسترالي الماسوني «دينيس مايكل روهان» بتكليف من جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) وتنسيق منه مع المحفل الماسوني الأسترالي.
4- قامت السلطات الإسرائيلية بإغلاق كل المصارف (البنوك)
العربية ومصادرة أموالها وإجبار عرب القدس على التعامل مع البنوك الإسرائيلية.
5- منعت السلطات الإسرائيلية التعليم العربي وصادرت الكتب
العربية وطردت المعلمين العرب، أو أبعدتهم إلى الخارج.
6- منعت جميع العرب «الغائبين» أثناء القتال عام 1967 من
العودة وصادرت أملاكهم ويقدّر عددهم بعشرات الآلاف.
7- أغلقت – ولم تزل تغلق – المؤسسات الفلسطينية الدينية
والخيرية والطبية.
8- قامت باستبدال أسماء الشوارع والساحات بأسماء إسرائيلية
لطمس المعالم العربية والإسلامية في المدينة.
9- إنشاء أحياء يهودية داخل وخارج السور وإقامة محيط كامل
من المستوطنات والمساكن والمتاجر اليهودية والمصانع والمنشآت الإسرائيلية.
10- فتح النوادي والملاهي الليلية الاستفزازية قرب المساجد كما
حدث قرب مسجد سعيد في البلدة القديمة.
11- مصادرة شركة كهرباء القدس العربية ووضعها تحت تصرف
الحاكم العسكري الإسرائيلي.
12- فتح باب الهجرة أمام اليهود وتشجيعهم على الإقامة في
القدس وتقديم الأراضي مجاناً.
13- نقل الكثير من المؤسسات اليهودية إلى القدس الشرقية وفي
مقدمتها «الوكالة اليهودية» و«المنظمة الصهيونية» وبعض المقرّات الحكومية الإسرائيليّة…
14- تشجيع الدول الأجنبية على نقل سفاراتها من تل أبيب إلى
القدس، وقد وافقت الولايات المتحدة الأميركية على هذه الخطوة الاستفزازية بعد موافقة الكونغرس على شراء أراض وإقامة السفارة الأميركية عليها، على أن يتم نقل السفارة من تل أبيب إلى المبنى الجديد في القدس بحلول عام 1999»(12). مع العلم أن الأساقفة الكاثوليك الأميركيين (الذين يتبعون للفاتيكان)، أعلنوا معارضتهم لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، بلسان الأب «بريان هير Brian Hair ‎» أمين لجنة «العدل والسلام» في الولايات المتحدة(13).
15- متابعة أعمال التنقيب والحفر التي بدأت منذ سنوات طويلة،
رغم أنه لم يتم الكشف عن أي آثار يهودية في المنطقة، وحتى في مدينة سلوان نفسها (التي يطلق عليها بالعبري «مدينة ‏داوود») وتقع جنوب شرقي الحرم الشريف، واكتشف فيها ثلاثة من علماء الآثار ‏اليهود وهم: جدعون أفني، وروني رايخ، ويائير بيكوفيتش، اكتشفوا منذ‎ سنوات قليلة، شارع «ملكي صادق» (اليبوسي الكنعاني العربي)، وقد نشرت‎ جريدة «يديعوت أحرونوت» نتيجة أبحاثهم هذه (التي لم تعجب بالطبع الساسة‎ ‏الإسرائيليين) وقال هؤلاء العلماء بجرأة: «إننا نحني رؤوسنا احتراماً ‏لليبوسييين الكنعانيين الذين خلقوا هذه المدينة والحضارة العظيمة، وقد كانت‎ ‏مدينة القدس اليبوسية هذه ضعف مدينة القدس الحالية(14).‎
‏ومما لا شك فيه، أن اكتشاف هؤلاء العلماء الأثريين اليهود له أهمية‎ ‏بالغة، باعتباره ينسف كل مزاعم اليهود وادعاءاتهم بشأن القدس ومقدساتها.‎ ‏وهذا ما يؤكد بأن القدس (كما أسلفنا) ليست مدينة داوود. بل هي مدينة كانت‎ ‏قائمة، فدخلها داوود ولم يبنها أبداً… إنها كنعانية يبوسية عربية وليست ‏يهودية… حكمها العرب منذ ثلاثة آلاف عام، بينما لم يحكمها اليهود أكثر‎ من 70 سنة فقط أيام داوود وسليمان، أي بنسبة 2% فقط من سنوات الحكم‎ الإجمالي لهذه المدينة… وكما قال ‏عنها المؤرخ عارف العارف «إنها أقدم‎ بقعة ذكرها التاريخ آمنت بالله الواحد لا شريك له يشمل بعنايته جميع الخلق»(15).
بالمقابل أوضح تقرير سرّي أعدّته لجنة خبراء مختصّين إسرائيليين، يقضي بوضع حلول سريعة لفرض السيطرة والسيادة الكاملة على القدس الشرقية، على الشكل التالي:
شكلت الحكومة الإسرائيلية لجنة خاصة لوضع الحلول اللازمة برئاسة وزير الأمن الداخلي «أفيغدور كهلانى» وعضوية أبي بلوشتاين، الدكتور صموئيل برنر، شالوم غولدشتاين مستشار رئيس بلديّة القدس للشؤون العربيّة، ومندوبي الأجهزة الأمنية المختلفة – الشرطة، الموساد – الشاباك (شين بيت) – وبقيت اللجنة تعمل على مدار سبعة أشهر، فعقدت لقاءات عديدة مع كبار المسؤولين في الوزارات، وبلورت خطة عمل منظمة تتضمن تعزيز احتلال القدس الشرقية.
هذا ما صرّح به صموئيل برنر لراديو الجيش الإسرائيلي، والذي أضاف: إذا لم تؤخذ هذه المقترحات بعين الاعتبار، فإن القدس الشرقية ستبقى تحت رحمة الفلسطينيين عشرين عاماً آخر.

وكانت توصيات هذه اللجنة على الشكل التالي:
أولاً: طالبت اللجنة بفرض السيطرة والسيادة على القطاع الصحي بالكامل، حيث لاحظت أن هذا القطاع هو فلسطيني 100%، مع العلم أن السلطات الإسرائيلية منذ 1967، لم تقدم لهذا القطاع شيئاً أبداً… كما طالبت، ليس فقط بتعيين مديرين يهود للمشافي، وأن تشرف الوزارة على توزيع واستيراد الدواء، بل طالبت كذلك حتى بتغيير الأسماء العربية للمشافي.
ثانياً: ذكر التقرير أن كل المعامل والمصانع والمشاغل موجودة في القدس الغربية مما جعل الهواء ملوثاً وغير صحي 100%، عكس القدس الشرقية، حيث لا يزال هواؤها نظيفاً وغير ملوّث. وقد انعكس ذلك على كل المظاهر الحياتية الأخرى، وخاصة السياحة… فطالبت اللجنة بتوصياتها توزيع المعالم بالمناصفة بين القدس الشرقية والقدس الغربية، للتخفيف من حدة التلوّث على الأقل.
ثالثاً: لاحظت اللجنة أن الطابع العربي الشرقي الخالص بات ميزة واضحة في شرقي المدينة حيث أصوات المؤذّنين وانتشار المساجد وصلوات الجمعة والشوارع الضيقة، والأبنية الشرقية، فأوصت اللجنة بإصدار قرار يمنع «مكبرات الصوت» في المساجد التي تثير «الضجة الدائمة» في المدينة، وتشحن نفوس السكان، بالقوّة؛ كما طالبت اللجنة بإصدار أمر فوري بإيقاف بناء المساجد في كل أنحاء المدينة وتوسيع الشوارع وهدم عدد من المساجد بهذه الحجة.
رابعاً: يجب العمل فوراً على منع الباعة المتجوّلين في كل أنحاء المدينة، لأن هؤلاء معروفون على أنهم عيون للمنظمات الفلسطينية كما يقول الناس.
خامساً: يجب التسريع باتخاذ خطوات سريعة جداً في سبيل إقامة وحدات استيطانية وأبنية ذات طابع يهودي خالص لأن الطابع العربي لم يزل مهيمناً تماماً على القدس الشرقية، لذلك يجب تغيير أسماء الشوارع والحارات… وحثّ كافة الوزارات على فتح مكاتب وفروع خدمات ومساكن للموظفين اليهود وإقامة محطات شرطة إسرائيلية بالسرعة الممكنة.
سادساً: لفت التقرير نظر المسؤولين إلى شيء هام جداً وهو خطباء المساجد والمؤذّنين حيث يتبع هؤلاء إلى مكتب الشيخ حسن طهبوب وزير الأديان في السلطة الفلسطينية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، والمشرف على النشاطات الدينية والأعياد… والشيخ طهبوب هو المسؤول عن تعيين خطباء المساجد والمؤذنين والإشراف على كتابة خطبة الجمعة في كل المساجد والتي من خلالها يحثّون الناس على عدم التعامل مع «إسرائيل» ويحذّرون من بيع الأراضي أو إسكان اليهود، ويهدرون دم كل شخص يبيع أرضاً لليهود… كما يشرف الشيخ طهبوب على الجمعيات الخيرية التي تقوم بترميم البيوت القديمة المتصدّعة… لذلك أوصت اللجنة في تقريرها بطرد الشيخ حسن طهبوب إلى خارج القدس وإغلاق مكتبه في شرقي القدس، كما أوصت اللجنة بإغلاق المساجد يوم الجمعة والاكتفاء بمسجد واحد فقط، ومصادرة الوقف الإسلامي ووضع لجنة خاصة للإشراف تتبع لوزارة الأديان الإسرائيليّة.
سابعاً: قضى التقرير أيضاً بضرورة إدخال الشرطة الإسرائيلية إلى المدينة وتقاسم العمل مع الشرطة الفلسطينية إلى أن يحين طردها خارج القدس… وكذلك ضرورة الإشراف على المحاكم في القدس الشرقية وعلى المحاكم الدينية إشرافاً مباشراً، وتعيين القضاة، وتنظيم مهنة المحاماة، وإبعاد كل محام غير ملتزم بالقوانين الإسرائيلية إلى أراضي الحكم الذاتي… كما أوصى التقرير بالإشراف التام على المناهج الدراسية ومنع ترديد الأناشيد الفلسطينية(16).
‎ هذا على الصعيد الصهيوني؛ أما على الصعيد الفلسطيني فقد كشف تقرير رسمي فلسطيني(17)، الممارسات الإسرائيلية المتواصلة منذ احتلال الشطر الشرقي من مدينة القدس بهدف تهويدها وطمس معالمها العربية والإسلامية وتحقيق أغلبية سكانية فيها. تطرق التقرير إلى أبرز المستجدات في المخططات الاستيطانية التي تنشط لتنفيذها الجهات الرسمية والحركات الدينية المتطرفة صهيونياً.

الخطط الحكومية
أولاً: خطة المدراء العامين في لجنة شؤون القدس
المشكّلة من عدة وزارات إسرائيلية وتقوم على:
1- بناء 7500 وحدة سكنية في مستعمرة «هارحوماه» في جبل أبو
غنيم؛ وخصوصاً على الأرض التي أعطاها البطريرك الأرثوذكسي في القدس ثيـودوروس إلى بلدية القدس عام 1992 من الأراضي التابعة للكنيسة الأرثوذكسية في مار الياس على المشارف الجنوبية للقدس… إنها أحد أبرز مرتكزات عملية إقامة مستوطنة جبل أبو غنيم، فضلاً عن أنها «مشروع بالغ الخطورة لأنه يشكل آخر حلقة من حلقات الاختناق في سلسلة المستوطنات التي تزنّر (القدس الكبرى)(18). ‏
يضاف إلى الوحدات السكنية في منطقة جبل أبو غنيم هذه، 3500 وحدة سكنية في مستوطنة «بسغات زئيف»، وإضافة 3500 وحدة سكنية في مستوطنة «جفعات همطوس»: وفي بيت صفافا إضافة 2200 وحدة سكنية. هذا إلى جانب إقامة 3500 وحدة سكنية جنوباً، و6000 وحدة سكنية غرباً، وألفي وحدة سكنية في الوسط، وألفي وحدة سكنية شمالاً، إضافة إلى إقامة ألف وحدة سكنية في مناطق ضمّت للقدس عام 1992 من جهة الغرب… إنه العمل على مشروع «القدس الكبرى» الذي سيفقد القدس جمالها ويحوّلها إلى مدينة سكنية بعد أن كانت مدينة دينية سياحية، وقد وصف البروفسور «برونسفى» أحد كبار المهندسين الإيطاليين الأعمال التي تمت في بناء القدس بأنها انتحار جماعي نتيجة الفشل الذريع.(19)
2- تقديم مساعدات للمصانع في مستوطنات القدس بنسبة تزيد
عن 10% عن أعلى نسبة تقدم في مناطق التطوير الأخرى.
3- مساعدة المصانع في مستوطنة «عطروت» قرب قلنديا.
4- يحصل اليهود العاملون في الصناعات المتطورة في القدس على
إعفاءات ضريبية.
5- تخفيض أسعار السكن في المستوطنات بحيث لا يزيد سعر
الشقة عن 7 إلى 10 آلاف دولار.
6- تعبيد الشارع الشرقي ليستكمل طوق الشوارع المحيطة بالقدس
من الشرق والشمال والجنوب، ويوصف هذا الشارع بأنه «ذو أهمية أمنية وسياسية كبرى…».

ثانياً: خطة بلدية القدس الغربية:
لقد أعد مهندس إسرائيلي يدعى «يورام بوغل» خطة للبلدية تشمل بناء مساكن ومحلات تجارية ومنتزهات ومناطق صناعية وقد بدأ بتنفيذ المرحلة الأولى من المشروع قبل فترة وجيزة ويشمل:
1- إقامة مركز تسوّق على مساحة 50 ألف م2 وبرج بارتفاع
30 طابقاً، وحديقة تكنولوجية من 8 طوابق ومكاتب وكاراجات ومواقف سيارات.
2- إقامة ثلاثة جسور تشكل امتداداً بين التلة الفرنسية ومستوطنة
«بسغات زئيف».
3- توسيع الشوارع وبناء خط قطار ومركز تعليمي وآخر طبي،
وجسر يربط بين شقيّ مستوطنة «بسغات زئيف) بطول 250م وارتفاع 30م فوق الوادي.

ثالثاً: مشروع وزارة الإسكان الإسرائيلية وتتضمن: بناء 28949 وحدة سكنية في المستوطنات القائمة في محيط الخط الأخضر والقدس الكبرى، على أن يتم إنجاز 15 ألف وحدة سكنية منها مع نهاية عام 1998.

رابعاً: توسيع مستعمرة افرات: بناء 708 وحدات سكنية على التلّة المحاذية لمستوطنة افرات، وتعبيد شارع التفافي من منطقة «هيروديون» يلتف حول بيت ساحور وزعترة وينتهي في جبل أبو غنيم.

أما الخطط غير الحكومية: تتمثل بمواصلة أنشطة الجمعيات الاستيطانية بدعم حكومي في الاستيلاء على الأراضي والعقارات الفلسطينية، بهدف إنشاء أحياء استيطانية أفقية على شكل فيلات من طابق واحد لإسكان المتطرفين، ومن بين هذه المنظمات الاستيطانية جمعية «عطيرات كوهانيم» و«أمناء جبل الهيكل» وجمعية «ليوشناه» وغيرها، ومعظم هذه العقارات تقع في الحي الإسلامي وخصوصاً في المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك… وكذلك الاستيطان في بلدة سلوان (التي يطلق عليها بالعبري «مدينة داوود»).. وأكثر عمليات الاستيلاء هذه تتم عن طريق تزوير وثائق وعقود ملكية، تقوم بها جمعية تدعى «ألعاد»، عبر ملفات الضريبة والطابو التي تحولها للمستوطنين.
يرافق هذه العمليات التي تأخذ طابع «حمّى الاستيطان»، تضييقات ضد المواطنين العرب ممنهجة ومكثفة وأكثر ما تتعلق بالأطفال المقدسيّين الذين ترفض سلطات الاحتلال تسجيلهم في هويات ذويهم، وبالتالي عدم الاعتراف القانوني بوجودهم وحرمانهـم من السكن والإقامة في القدس. وقد سحبت ‎هويات 470 عائلة مقدسية. إلى جانب 1425 عائلة يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي في عداد فاقدي حق الإقامة. إضافة إلى مئات الطلاب المقدسيين الذين كانوا يدرسون في الخارج تلقّوا إخطارات بسحب هوياتهم… إنه مشروع خطير جداً يقضي بالاقتلاع من الجذور المقدسية والمستقبل المقدسي… لكن صمود ومقاومة عرب القدس وإرادتهم في الدفاع عن مدينتهم تتحدى كل الإجراءات، مما يتوجب علينا مساعدتهم ودعمهم بكل ما نستطيع انطلاقاً من واجبنا الوطني والقومي والديني والإنساني…
في هذا الإطار، نرى لزاماً علينا أن نشير إلى بعض العينات كنماذج صمود (ذكوري وأنثوي) في التعلق بالأرض والمقدسات والكرامة… ولعلّ نموذج «الحاج موسى الخالص» والسيدة «هناء أبو هيكل»، خير تعبير عن هذا الواقع. وهما من الذين رفضوا بيع ممتلكاتهم لليهود رغم الإغراءات الهائلة التي قدّمت إليهما…»(20). ‏

في ضوء هذا الواقع نستطيع تسجيل النقاط التالية:
أولاً: إن سياسة التهويد الإسرائيلية هي سياسة تقطيع الأوصال، واستئصال الجذور… لأن التهويد يعني محو كل ما هو غير يهودي (كما قال هرتزل) وجعل كل ما في المدينة المقدّسة ومن فيها من الحجر والبشر والشجر، يهودياً… إنها عملية شطب الماضي التاريخي والجغرافي والديموغرافي والحضاري من خارطة الوجود الإنساني للقدس – وفلسطين – واستبدالها بوجود لا صلة له ولا علاقة بهذه الأرض والتاريخ والحضارة، بمعنى استئصال الأصيل وزرع الدخيل… ذلك لأن القدس وفلسطين والشرق، مهد الأديان السماوية ومهد الحضارات الإنسانية.
ثانياً: هناك مجسّم للقدس، ومـجـسـّم آخر للهيكل، أعدّهما يهود الولايات المتحدة الأميركية، ويعملون على تنفيذه في الفرصة المناسبة، بينما ينتظر العرب والمسلمون لكي يهدم المسجد الأقصى ليتحركوا؟ وكم من المرات انتهك الصهاينة حرمته ودنسوا مقدساته، ولم يُواجهوا إلا بالشجب والاستنكار؟
ثالثاً: إن تهويد القدس يعني صرف الاهتمام الإسلامي والمسيحي بمصير المدينة المقدسة… وإن الهدف الصهيوني من تهويد القدس هو محو طابع القداسة والتقديس عنها، بمعنى تهويد القداسة، وإفراغها من قدسيّتها…
رابعاً: إن احتفالات اليهود بالذكرى الألفية الثالثة للقدس معناها: «ليس الجانب التاريخي فقط، وإنما الظهور أمام العالم بمظهر أنهم أصحاب الحق بالمدينة، وإن علاقتهم بها تفوق علاقة أي شعب آخر… وبالتالي دفع العالم للاعتراف بالقدس «كعاصمة أبدية لإسرائيل» من خلال فرض الأمر الواقع»(21).
خامساً: يقول البعض إنه لو قرأ المسؤولون الغربيون كتاب «كفاحي» لأدولف هتلر قبل نشوب الحرب العالمية الثانية عام 1939، لكانوا قد جنّبوا ‎العالم معظم كوارث هذه الحرب ومآسيها، ونحن بدورنا نقول أنه لو قرأ المسؤولون العرب كتاب بنيامين نتنياهو «مكان تحت الشمس.. إسرائيل والعالم»، قبل وصوله إلى الحكم (وبعده) لوفّروا على أنفسهم كثيراً من عمليات: الاستهجان والاستغراب لسياسة نتنياهو هذا، باعتباره ينفذ «برنامجه الاستراتيجي» المعلن…
سادساً: إن دينيس مايكل روهان (الذي أحرق المسجد الأقصى عام 1969) وباروخ غولدشتاين (الذي نفذ مجزرة الحرم الإبراهيمي) وتاتيانا سوسكانيد (التي رسمت شكلاً للنبي الكريم ينمّ عن حقدها ووقاحتها وبعدها النيل من السيدة العذراء) ليسوا سوى «الصنف النموذجي النقي» الذي سيشكل «دولة اليهود» في فلسطين المستقبل… التي ستسمى «دولة إسرائيل».
سابعاً: إن إيماننا بعروبة القدس وإسلاميتها هو إيمان واحد وثابت لا يقبل الخلل ولا الزعزعة ولا التجزيء، لأن القدس واحدة ولا تقبل التجزيء أيضاً… وإن مخطط الاقتلاع والتهويد لا يقتصر على المقدسيين فقط، بل يطالنا جميعاً كعرب ومسلمين في الصميم أينما كنا… والفرق كبير جداً بين التاريخ العربي للقدس، والتاريخ العبري العابر فيها…
ثامناً: إذا كان «وعد بلفور» في القرن العشرين منذ 100 سنة، يضم 67 كلمة / قد غيّر تاريخ المنطقة، فإنّ «وعد ترامب» بخصوص القدس، يحتوي 1200 كلمة في 13 دقيقة، يكرّس وعد بلفور ويعطيه الشرعيّة الدولية في القرن الحادي والعشرين…
فأيّة تداعيات سيحملها «وعد ترامب» تجاه القدس خصوصاً، وتجاه فلسطين والعرب بشكل عام في ظل «استراتيجيّة» الشجب والاستنكار اللفظي والبيانات الورقيّة التي تمحو السنين والأيام حبرها.
وإذا لم ينتقل العرب والمسلمون من حالة «ردّة الفعل» إلى حالة «الفعل» للمواجهة والتحدّي، فإن الأمور سائرة نحو الانهيار الكارثي المأساوي… وليس بغير الوحدة العربية وتوحيد قواها يمكن أن يكون الرد على وعدي بلفور وترامب معاً…

► الصورة المقابلة:
المسجد الأقصى الذي حاول الإعلام الصهيوني محو صورته من أذهان العرب والعالم.

شريط الانتفاضات والهبّات والثورات المقدسيّة ضدّ الاحتلال
اعداد د. صالح زهر الدين

انتفاضة موسم النبي موسى (1920)
كانت أولى الانتفاضات الشعبية الفلسطينية بعـد الاحتلال البريطاني انطلقت مـن باب الخليل غربي البلدة القديمة، بعـد اعتداء مستوطن علـى بيرق (رايـة) أهـل الخليل. استشهد فيها أربعـة مـن الفلسطينيين وقتل خمسـة مـن اليهـود، كانت هـذه المعركة ضربة البدايــة لثورة استمرت خمسـة أيام فـي القدس قتل فيها تسعة مـن اليهود.

ثورة البراق (1929)
هي أول ثورة تشتعل في فلسطين ضد الاحتلال البريطاني، اندلعت عقب تنظيم حركة «بيتار الصهيونية لمظاهرة ضخمة يوم 15 آب/ أغسطس 1929 في شوارع القدس إحياء لما قالت إنها ذكرى تدمير «هيكل سليمان» وأدت إلى تصاعد المواجهات التي اندلعت بداية قرب حائط البراق في المسجد الأقصى، ومن ثم عمّت أرجاء الأراضي الفلسطينية.

الثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936)
انطلقت في 20 نيسان/ أبريل 1936 بعد إضراب دام ستة أشهر وترافقت مع عمليات نوعية للثوار في القدس، تُعدّ من أضخم الثورات الشعبية التي قام بها الشعب الفلسطيني ضد المستعمرين الإنجليز واليهود المهاجرين إلى فلسطين، واستمرت ثلاث سنوات متواصلة.

هبة النفق (1996)
انطلقت فـي 25 مـن أيلول/ سبتمبر 1996، على أثر فتح سلطات الاحتلال لباب النفــق الغربـي أسـفل المسـجد الأقصى. وذلك فـي فترة حكــم بنيامين نتنياهو الذي كلف رئيــس بلديـة الاحتلال آنذاك إيهـود أولمرت بافتتاحــه. ودارت مواجهــات مـع الفلسطينيين فـي مختلف أنحاء فلسطين المحتلة على مـدار ثلاثة أيام.

انتفاضة الأقصى الثانية (2000)
انطلقت عقب اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك «أريئيـل شـارون» لباحـات المسجد الأقصى، تحت حماية نحو ألفين مـن الجنـود والقوات الخاصة، ما أدى لاستشهاد 7 فلسطينيين وإصابة 250 برصاص الاحتلال خلال ساعة الاقتحام وارتقى خلال الانتفاضة التـي امتدت لـ 5 سنوات آلاف الشهداء إضافـة إلـى 48 ألفاً و322 جريحاً.

انتفاضة القدس (2015)
شكلت إجراءات الاحتلال وإصـرار المستوطنين اليهود علـى اقتحام باحات الأقصى ومحاولة فرض تقسيم زماني ومكاني للمسجد، والاعتداء على المقدسيات، أسـباباً رئيسية لاندلاع انتفاضـة القـدس: أوائل تشـرين أول/أكتوبـر 2015. وتميزت انتفاضـة القدس بطابع العمل الفردي، عبـر عمليات طعـن ودهـس لجنـود إسرائيليين ومسـتوطنين بالضفـة الغربية والداخل المحتـل والقدس.

هبة باب الأسباط (2017)
شهدت مدينة القدس وضواحيها انتفاضة شعبية واسعة، نتيجة لمنع قوات الاحتلال المصلين مــن دخــول المسجد الأقصى، وفرض تدابيـــر مشددة مـن بوابــات إلكترونيـة وكاميـرات عقـب عملية فدائيــة لثلاثـة شبان مــن عائلة الجباريــن. انتصـر الفلسـطينيون بإصرارهـم ووعيهـم ووحدتهــم أمــام صلـف المحتـل وجبروتـه.

وأخيراً فالسلام مرهونٌ بـ «مدينة السلام»… وإذا لم تعرف السلام مدينة السلام… فستبقى أرض فلسطين والمنطقة أرضاً للتوتر والحروب لا للسلام.

د. رامي أديب عز الدين

قرار «ترامب»:
نقل السفارة الأميركية إلى القدس
من وجهة نظر القانون الدولي

بتاريخ 6 كانون الأول / ديسمبر 2017، أعلن رئيس الولايات المتحدة رسمياً اعتراف إدارته بالقدس (المحتلة) عاصمة لإسرائيل. وصرّح بأنه سينقل السفارة الأميركية من تل ابيب إلى القدس، في خطوة سبقتها وتلتها إدانات وانتقادات وتحركات شعبية واسعة، عربياً ودولياً، إلاّ عند الإسرائيليين حيث صرح نتنياهو بعد ساعات قليلة من صدور القرار ان تاريخ إسرائيل (المجيد) كان يُختصر بثلاثة محطات وأصبح يختصر بأربعة:
– وعد بلفور 1916
– إعلان دولة إسرائيل 1949
– السيطرة على القدس 1967
– وحديثاً الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل 2017
ونظراً لخطورة هذه الخطوة “الترامبيّة” وهذا القرار غير المسؤول آثرنا معالجة الموضوع قانونياً استناداً إلى مبادىء القانون الدولي وممارساته (سواء القواعد العرفية أو المعاهدات او قرارات هيئة الأمم المتحدة…) ومعالجته سياسياً أيضاً في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة لما له من تأثيرات ومفاعيل. ولكن قبل ذلك سؤال يطرح نفسه:
على ماذا اعتمد ترامب في قراره بشأن القدس؟
الواقع أن ترامب إستند الى قرار عمره 27 سنة ، صادر عن مجلس الشيوخ الأميركي بتاريخ 23 تشرين الاول / أكتوبر 1995، ويقضي بنقل السفارة الأميركية الى القدس واعتبر هذا القرار يومها اعترافاً من الولايات المتحدة باحتلال إسرائيل للقدس كاملة بهدف الاعتراف بها لاحقاً عاصمة لإسرائيل وهذا ما حدث في عهد “ترامب “.

أولاً في القانون:
الواقع أن القرار الأميركي قرار خاطىء ويتعارض مع أحكام وقواعد القانون الدولي واجتهاداته خاصة وأن جميع المؤسسات الرسمية الدولية (الأمم المتحدة، مجلس الأمن، محكمة العدل الدولية…) تعتبر “القدس” أرضاً محتلة وكل التدابير الإسرائيلية التي قامت بعد عام 1967 اي بعد عملية ضم القدس باطلة ولاغية من الناحية القانونية لمخالفتها أحكام القانون الدولي، أهمها مخالفة اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والتي يُستنتج منها أن كل الاجراءات في القدس المتخذة من قبل إسرائيل كدولة محتلة تعتبر باطلة، ولا تترتب عليها أية آثار قانونية وان الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن ان يرتب أية حقوق أو آثار على حق السيادة الاصلي للشعب الفلسطيني لأن الاحتلال لا يخوّل نقل السيادة على القدس إلى الدولة المحتلة وكونه مؤقت ومحدود. وسوف نورد مجموعة من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والتي تؤكد ما نقول:
1- قرار رقم /242/ تاريخ 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1967 والذي
يدعو فيه مجلس الأمن إسرائيل للانسحاب إلى حدود ما قبل حرب 1967.
2- قرار رقم /253/ تاريخ 21 أيار/ مايو1968 ويدعو فيه مجلس
الأمن إسرائيل الى إلغاء جميع إجراءاتها التعسفية لتغيير وضع المدينة، وقبله القرار رقم /465/ عام 1980 وقرار رقم /476/ تاريخ 30 حزيران / يونيو 1980 لجهة بطلان تغيير طابع القدس.
3- قرار رقم /271/ تاريخ 15 نيسان / أبريل 1969 والذي يدين
قيام إسرائيل بحرق المسجد الاقصى يوم 21 آب/ أغسطس من العام ذاته، ويدعو فيه إلى إلغاء جميع الإجراءات التي من شأنها تغيير وضع القدس.
4- قرار رقم /478/ تاريخ 29 آب / أغسطس 1980 ويتضمن
عدم الاعتراف بالقانون الإسرائيلي بشأن القدس ودعوة الدول إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من المدينة.
5- القرار رقم /2334/ تاريخ 23 كانون الأول/ ديسمبر
2016 الذي يؤكد أنّ إنشاء إسرائيل للمستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ليس له أي شرعية قانونية. ويطالب إسرائيل بوقف فوري لجميع الأنشطة الاستيطانية وعدم الاعتراف بأي تغيرات في حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967.

ومن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة:
– قرار رقم /181/ تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947 والذي
أقر تقسيم الأرض الفلسطينية إلى دولة عربية ودولة يهودية مع وضع القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت وصاية دولية.
– قرار رقم /2253/ تاريخ 4 تموز / يوليو 1967 وفيه تأسف
الجمعية العامة لقرار إسرائيل تطبيق القانون الإسرائيلي على القدس الشرقية وترى ذلك غير شرعي.
كل هذا فضلاً عن القرارات الدولية الخاصة بتشييد الجدال العازل العنصري في الأراضي الفلسطينية والتي تثبت عدم شرعيته من وجهة نظر القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني. مثل قرار رقم (14/10)، وقرارات اليونيسكو التي تؤكد أهمية القدس القديمية بتراثها العالمي وتشجب كل محاولة لتغيير وتدمير هذا التراث، مثل قرار رقم /150/ تاريخ 27 تشرين الثاني / نوفمبر 1996 وقرار رقم /184/ تاريخ 2 نيسان /أبريل 2010.
بالإضافة الى قرارات هيئة الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي ومنظمة اليونسكو التي تثبت ان القدس لها وضع خاص ويمنع تغيير طابعها والمساس بها كونها تحت الوصاية الدولية لا بد من الإشارة قانونياً إلى ما يعرف ” بالاعتراف” في القانون الدولي.
وفي التعريف فإن الاعتراف في القانون الدولي تعبير أحادي الجانب عن إرادة دولة ما بالاعتراف بأن واقعاً أو وضعاً قانونياً محدداً له صحة تجاهها، وعليه فهو عمل تقر دولة ما بواسطته بأن كياناً ممدداً آخر يجمع الشروط الضرورية لحيازة الشخصية القانونية الكاملة في النظام الدولي.

فكيف يرى القانون الدولي خطوة ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل؟
لابد في البداية من القول أنّ الاعتراف بالدول شيء والاعتراف بالحكومات شيء آخر، وهذا ليس مجال بحثنا، ولكن هل الاعتراف بمدينة معينة على أنها عاصمة لدولة ما، تنطبق عليه قواعد الاعتراف الأساسية في القانون الدولي؟
الإجابة نعم، لأن الاعتراف بالعاصمة معناه التسليم بواقع جديد ووضع قانوني محدد وبالتالي هو إقرار بكيان جديد له شروط قانونية واعتبارية.
من هنا يمكننا القول أنّ الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل اعتراف باطل وغير شرعي كون القدس مدينة محتلة باستعمال القوة المسلحة تاريخياً وحاضراً وكون الاعتراف يجب أن يخضع لاحترام دولة القانون وللديمقراطية ولحقوق الانسان والأقليات كما ينص القانون الدولي. والغريب والمثير للسخرية إن الولايات المتحدة رفضت عام 1931 الاعتراف بضم مدينة ” مندشوكو” اليابانية معتبرة أن ضمها جاء بشكل مناقض للتعهدات الموقع عليها في ميثاق برياند- كللوج لعام 1928 (المتعلّق بوضع الحرب خارج القانون).

ماهي اذن الانتهاكات التي سبّبها قرار ترامب لقواعد القانون الدولي؟
الانتهاك الأول: إن القرار الأميركي يُعتبر اعترافاً بالقدس عاصمة لإسرائيل وهذا ما يخالف القرارات الدولية ويكرس القانون الإسرائيلي القائل بأن القدس بشطريها الشرقي والغربي عاصمة أبدية لإسرائيل.

الانتهاك الثاني: القرار الأميركي يخالف ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي الذي يحرّم احتلال أراضي الغير بالقوة، ويحرّم مجرد التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية.

الانتهاك الثالث: القرار الأميركي يخالف بنود اتفاقية أوسلو والمعاهدات العربية- الإسرائلية.

الانتهاك الرابع: القرار يخالف رأي محكمة العدل الدولية الاستشاري والذي أكّد بمناسبة ” تشييد الجدار” على انطباق اتفاقية جنيف الرابعة على الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية.

الانتهاك الخامس: إنّ القرار الأميركي يشرّع من ناحية قانونية ما أقامته إسرائيل من استعمار استيطاني في القدس.

ثانياً في السياسية:
لا شك أن الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل يعتبر تأكيداً لوجود حقيقة ما رغم علم الجميع أنها وهمية ويأمل الأميركيون والإسرائيليون أن تصبح حقيقة واقعية في حال استدرجوا المجتمع الدولي لتبنّي هذا الاعتراف. كما أن هذا الاعتراف يحول دون تمكّن الشعب الفلسطيني من حق تقرير مصيره بإقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس وكأنه جاء مكافأة لإسرائيل على انتهاكها لحقوق الإنسان في فلسطين بدل محاسبتها.
بالإضافة الى أن القرار “الترامبي” جاء ليؤكد ما أعلنته إسرائيل منذ عام 1949 بأن القدس عاصمتها، وبالتالي فهو قرار سياسي مناقض كل نهج المجتمع الدولي الذي لم يعترف حتى الساعة بذلك. وهنا تطرح جملة أسئلة فد تختصر الإجابة عليها كل التساؤلات:
– هل من تغطية عربية لقرار ترامب أو علم مسبق بذلك؟
– هل ستقدّم دعوى أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ضد إسرائيل التي بدأت بالعمل لاعتماد العاصمة الجديدة؟
– ما هو الدور أو الرد العربي على هذه الخطوة؟
– هل سينجر المجتمع الدولي ويفعل ما فعله ترامب؟
– هل الضعف والانبطاح العربي أمام أميركا وإسرائيل والتطبيع مع الأخيرة (العلني والسري) سيكون مدخلاً لتصفية القضية الفلسطينية؟

كلها أسئلة، الزمن كفيل بالإجابة عليها.
في النهاية وتعليقاً عما طرحه وزير الخارجية اللبنانية في مجلس الوزراء لانشاء سفارة لبنانية في القدس الشرقية عبر تقديم قطعة أرض من السلطة الفلسطينية للبنان ومبادلة العكس، يهمنا الاشارة الى النقاط التالية:
1- إن مدينة القدس حتى الساعة محتلة من قبل إسرائيل وفتح
سفارة لبنانية فيها يعتبر اعترافاً بها كدولة فهل أصبحنا على استعداد للاعتراف بهذا الكيان الغاصب؟
2- إن القيام بمثل هذه الخطوة التي تلفّها المحاذير والعواقب تعتبر
مخالفة لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 (المذكورة) والتي وافق عليها لبنان عام 1951.
3- بما أن القدس مدينة محتلة فإن فتح سفارة فيها أمر مخالف
لقواعد القانون الدولي لمخالفته احكام القرار /181/ تاريخ 29 تشرين الثاني / نوفمبر 1947 (المذكور) والذي يقر وضع القدس تحت وصاية دولية وأحكام القرارين /476/ و/478/ لعام 1980 (المذكورين) واللذين يبطلان كل تغيير لطابع القدس. ويدعوان الدول إلى سحب البعثات الدبلوماسية منها. فهل نحن على استعداد لمخالفة بعض القرارات الدولية والتي هي في الأساس لصالح القدس وفلسطين في مواجهة إسرائيل؟

كمال جنبلاط

مئوية كمال جنبلاط

الإنسان
والمثقف، والمعلّم
(1917 – 2017)

[su_accordion]

[su_spoiler title=”  مقدمة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نفتتح ملف مئوية مولد كمال جنبلاط (1917-2017)، وقد جعلناه تحت عنوان “اثنتا عشرة باقة ورد في مئوية مولد كمال جنبلاط، الإنسان والمثقّف والمعلّم”.
يسهم في الملف نخبة من الكتّاب عارفي المعّلم، ومن قادري علمه وثقافته، ومقدار ما أضافه للسياسة كما للثقافة في لبنان والعالم العربي في خلال عمره القصير.
وعندنا، وقبل أن نقرأ تحيّات الكتّاب والمثقفين الذين أسهموا في الملف، فلعلّ أهم ما أضافه كمال جنبلاط، وعلى كثير إضافاته التي وسمت بميسمها عصراً بكامله، إنما كان في مجال الأخلاق. فقد رأى جنبلاط إلى الأخلاق باعتبارها في أساس أي عمل نقوم به، وفي أصل كل  غاية نسعى إليها، في السياسة كما في الاجتماع أو الاقتصاد، أو سواها. وفي باب الأخلاق، نتوقف عند ثلاث إشارات بل عناوين كانت حاضرة في عمله الثقافي والإنساني:
1- أولوية الإنسان، فكل عمل بالنسبة له يقدّس أو يُلعن بمقدار
اقترابه أو ابتعاده عن الإنسان؛
2- أولوية الضمير الأخلاقي على كل ما عداه، فباطلٌ عنده، أيّاً
يكن، حين يتعارض مع الضمير، ومستلزمات الضمير؛
3- وأخيراً، أولوية الأدوات والوسائل، وفي أهمية الغايات
والأهداف، بل أكثر. فلا يمكن، عنده، أن تقوم الغايات النبيلة، في السياسة أو في الاجتماع، على وسائل أو أدوات شريرة.
وكمال جنبلاط في ذلك، إنما ينسج على خطى يسوع ابن الناصرة (الفلسطينية العربية)، وتلامذته، وعلى خطى الرسول الأكرم  محمد (ص) وصحابته الأكرمين، وحديثاً على خطى غاندي في الهند، الذي جعل من حياته (المتواضعة الزاهدة المتقشفة) إنجيل حياة للأتقياء والأنقياء جميعاً، على اتساع المسافات؛ ثم جعل من استشهاده على يد أبناء جلدته دفاعاً عن حق الآخر في الوجود والعيش بكرامة والحرية في التعبير أنموذجاً نادر المثال.
يستحيل اختزال موسوعة من عشرة الآف صفحة في بضع صفحات. ويستحيل، بالمنطق نفسه تماماً، اختزال سيرة كمال جنبلاط، الرقم الصعب، بل المثير، في الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية لأكثر من ثلث قرن في مقالتين أو ثلاث أو عشر. ورغم غنى الحياة الوطنية والسياسية لصاحب هذا الملف، ورغم شوق غالبية القرّاء، وبخاصة الأجيال الجديدة لمعرفة أدق تفاصيل الحياة المثيرة تلك، إلا أن   ستحتفل بذكرى مئوية مولد هذا الرجل المعروفي العشيرة، الموحّد المعتقد، العروبي المحتد، الاشتراكي النزعة، الموسوعي الثقافة، والإنسان العظيم أولاً وقبل أي توصيف إضافي، على طريقتها المعروفية التوحيدية الثقافية بما يتناسب واستثنائية المناسبة من جهة، وطبيعة المجلة من جهة ثانية. وعليه تفتح ملف مئوية كمال جنبلاط لتستضيف فيه شهادات من مثقفين كبار رافقوا وعاصروا الرجل/الأسطورة (وفق تيموفييف، كاتب سيرته) أو كتبوا ونشروا أعمالاً عدة حول جوانب معينة في شخصية الرجل الاستثنائي أو في سيرته.
وإذ تكتفي  في المناسبة بالجانب الفكري والثقافي من كمال جنبلاط، فهي إنما تكون وفية لتراث الرجل الفكري، ولعلاقته الخاصة الحميمة بالكتاب والمكتبات وبالصحافة المكتوبة. كيف لا وكمال جنبلاط الشاب العشريني آخر من يغادر مكتبة السوربون ليلاً رغم شتاء باريس القاسي جداً وذلك في أثناء دراسته في باريس، وظلّ على علاقته الوثيقة جداً وباستمرار بالكتب وبأهل العلم والثقافة. وخطابه الافتتاحي لـ “مؤتمر كتّاب آسيا وإفريقيا” في بيروت، سنة 1971، والذي جعله حول “الحرية”، وثيقة فكرية نادرة تختصر موقفه من الإنسان باعتباره هدفاً مطلقاً، وتمييزه بين الحريات الحقيقية والحريات الواهمة.
نفتتح الملف بالسيرة الفكرية لكمال جنبلاط، في أبرز محطاتها لا أكثر، وطلباً للاختصار.
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا

 

السيرة الفكرية…باختصار شديد
6-12-1917- ولادة كمال جنبلاط في المختارة (الشوف، لبنان)
1921 – اغتيال والده فؤاد جنبلاط
1926 – بدء دراسته في معهد عينطورة، كسروان، لبنان
1936 – النجاح في شهادة البكالوريا، اللبنانية والفرنسية
1937 – النجاح في “شهادة الفلسفة”، والسفر إلى باريس
للدراسة الجامعية.
1938 أيار – نال دبلوم في علم الاجتماع وعلم الأخلاق من السوربون.
1940 – نال إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت
1942 – تعيينه محامياً للدولة اللبنانية
1943 – نائباً في البرلمان بعد وفاة عمّه حكمت جنبلاط
1945 – تأسيسه “نادي القلم”، مع ألبير أديب وكميل بو صوّان وآخرين.
1946 – كمال جنبلاط محاضراً في “الندوة اللبنانية”، “رسالتي كنائب”
1946 – وزيراً للمرة الأولى للاقتصاد والزراعة والشؤون الاجتماعية.
1947 – استقالته من الوزارة احتجاجاً على تزوير انتخابات 1947
1948 – زواجه من مي شكيب أرسلان
1949 – إعلانه مع مثقفين ونقابيين تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”
1951 – بدعوة منه، انعقاد المؤتمر الأول للأحزاب الاشتراكية العربية في بيروت
1951 – زيارته الأولى للهند بدعوة من الحزب الاشتراكي الهندي
1952 – جنبلاط يطرح مشروع “الضمان الصحي” تحت شعار “الدواء للجميع”
9/3/1958 – جنبلاط في دمشق مهنئاً بالوحدة ومقترحاً برنامجاً لها بحضور عبد الناصر
1960 – جنبلاط يقترح مشروع إشراك العمال في أرباح المؤسسات
1960 – جنبلاط يقترح إنشاء حرس وطني للوقوف في وجه الاعتداءات الاسرائيلية وصهر الشباب في “بوتقة وطنية واحدة”.
1960 – وزيراً للتربية الوطنية
1965 – (أيلول) مهرجان بتخنيه (المتن الأعلى) احتجاجاً على عدم تصريف التفّاح
1972 – تشكيل “الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية” وجنبلاط أميناً عاماً لها
1972 – تقليده جائزة لينين للسلام والصداقة بين الشعوب (أرفع وسام سوفيياتي يومذاك)
1973 – جنبلاط يقود شخصياً تظاهرة مزارعي التبغ رفضاً لسياسة الدولة حيالهم
1973 – جنبلاط يشجب توقيف غسان تويني ويدعو لتحرك واسع دفاعاً عن الحريات العامة
13 نيسان 1975 – بدء الحرب اللبنانية “المشؤومة”، وسعيه أكثر من مرة، ومع كل الجهات، لوقف قطار الحرب الأهلية الذي انطلق ولم يتوقف إلا في كانون أول 1976
16 آذار 1977 – جنبلاط شهيداً مظلوماً، دفاعاً عن لبنان والقضية الفلسطينية والتقدّم والحرية.

المؤلفات والأعمال الفكرية المنشورة
(علماً أن عشرات المخطوطات الأخرى وفي عدد من المجالات لم تأخذ طريقها بعد إلى النشر، إضافة إلى أعمال فنية تركها ولم تنشر بعد كذلك).
رغم عمره القصير نسبياً (أقل من ستين سنة)، أدهش كمال جنبلاط معاصريه، ثم قارئيه بعد استشهاده، (الخصوم قبل الحلفاء)، بثقافته الواسعة، والتي استقاها من مصادر دينية (توحيدية، نصرانية وإسلامية)، وما قبل توحيدية (مصرية قديمة، هندوسية، وبوذية)، وفلسفية (يونانية وإسلامية وغربية وماركسية)، ومن دراساته الحقوقية والسياسية الأكاديمية المتخصّصة في السوربون وجامعة القديس يوسف في بيروت، ومن اتصاله المباشر بأهم شخصيات عصره الفكرية والسياسية (المهاتما غاندي، سنغور، تيتو، عبد الناصر، وغيرهم)، إلى صداقته وزمالته وتواصله المستمر بكبار المثقفين اللبنانيين والعرب والعالميين، والتي أثمرت من خلال إبداعه الشخصي المنقطع النظير تراثاً فكرياً مثيراً في وحدته، كما في تنوّعه، وباللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية. وليس أدلّ على ضخامة التراث الفكري الذي أنجزه جنبلاط من مراجعة قصيرة جداً، وبالأرقام، لأهم عناوين التراث ذاك:
الافتتاحيات التي كتبها في الصحافة اللبنانية، عددها 1133
المؤلفات المنشورة وعددها 63
الدراسات والتحقيقات وعددها 464
المحاضرات والندوات وعددها 888
البيانات، التصريحات، المقابلات، وعددها 1270
الخطب وعددها 301
بيانات الرئاسة السنوية وعددها 15
قطع أدبية مختلفة وعددها 107
وثائق وعددها 97
شهادات وعددها 111
مواد تاريخية وعددها 87
حول الحزب والأحزاب الأخرى، وعددها 129
المجموع: 4715 أثراً منشوراً، عدا تلك التي يستمر توثيقها ونشرها وغير المشمولة بهذا الثبت.
هوذا ما صنع في خمس وثلاثين سنة تقريباً الصيت المنقطع النظير لكمال جنبلاط المثقف الموسوعي والفيلسوف، إلى مجاهداته الروحية والتي كرّسته باعتباره “المعلم”، وقبل ذلك وبعده، كمال جنبلاط الإنسان، في أدق معاني الكلمة وما تحمله من محمولات ومضامين: في وهبه أراض كثيرة جداً كان يملكها إلى الفلاحين الذين يعملون فيها، إلى دفاعه عن الحريات في لبنان والعالم العربي، إلى مناصرته حركات التحرر والاستقلال في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى تصدّره شخصياً كلّ نشاط ممكن دفاعاً عن القضية الفلسطينية، إلى حمله نائباً وزيراً ورئيس حزب قضايا الطبقات الوسطى والفقيرة ومطالبها، إلى نقده دون هوادة أخيراً مظاهر التسليع والاستهلاك المفرط في الحضارة الغربية التقنية المهيمنة وما صاحب انتشارها من انحدار في القِيم السائدة، وإعلاء للمادية الفجّة على حساب الروح والأديان، ومن تفلّت أخلاقي غربي أطاح بتماسك العائلة والمجتمع والوطن، بل والإنسانية بعامة.
لهذه الأسباب مجتمعة تبدو الإضاءة، كما قلنا، على سيرة كمال جنبلاط، ومؤلفاته، من خلال شهادات عدد محدود جداً من الكتّاب والمثقفين والسياسيين، ضرورية كيما تبقى شعلة القيم الإنسانية والروحية التي دافع عنها كمال جنبلاط طويلاً مضاءة وعصية على الإلغاء رغم تيارات الهدم والتحريف والتزوير التي انطوت عليها العولمة التجارية الاستهلاكية العنفية الآحادية القطب والمهيمنة على العالم (ومنها بلداننا) منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن. بغياب كمال جنبلاط (سنة 1977) كان عصر من التوازن المعقول ينطوي، ولينفتح الباب أمام عصر جديد ملؤه الفوضى، وانهيار القِيم، وسيطرة التقنية العمياء، وسيطرة الجشع بلا حدود، وانفلات الغرائز كما لم يحدث في أزمنة الوثنيات؛ وباختصار: بغياب الإنسان وعلى حسابه.
ألف شكر للكتّاب ولكلّ الذين أسهموا في هذا الملف، وتحية لروح كمال جنبلاط “الإنسان، والمثقف، والمعلّم” غداة ذكرى مولده.

بيروت، 6 كانون أول، 2017
رئيس تحريرالضحى

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مقابلة صحفية مع معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف
رفيق المرحوم المعلم كمال جنبلاط منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

اثنتا عشرة باقة ورد
اثنتا عشرة باقة ورد

معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف، كنتم شديدي القرب من المعلّم كمال جنبلاط منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، ما الأمر الذي تكشف عنه للمرّة الأولى من شخصية المعلّم كمال جنبلاط؟
كنت في مطلع شبابي، وعلى مقاعد الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، عندما أصبح اسم كمال جنبلاط في بيروت وسائر أنحاء لبنان على كل شفة ولسان. كان ذلك في خريف العام 1952، وكان كمال جنبلاط قد ملأ الدنيا بأخباره: استقال من الحكومة سنة 1947 احتجاجاً على التزوير الذي شاب الإنتخابات النيابية. شنّ حملة شعواء على الفساد السياسي والإداري، والمحسوبية والزبائنية. أسّس حزباً تقدّمياً اشتراكياً بمفاهيم جديدة لأول مرّة في منطقة الشرق الأوسط. شكّل وقاد الجبهة الاشتراكية الوطنية التي أعلنت الثورة البيضاء على نظام الحكم القائم، وتعهّدت في مؤتمر دير القمر بأن تسقط النظام وتقيم على أنقاضه دولة الحداثة على أسس التقدّمية والاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاسبة مرتكبي الفساد في الدولة.
هذه المبادىء وجدت صدى لديّ كشاب يحلم بمستقبل أفضل لجيله ووطنه، وبما أنّ شخصية كمال جنبلاط المميّزة وصدقه وجرأته شهدت له بفرادته بين الزعماء السياسيين، إلى جانب أفكاره الداعية للتطوير والحداثة والعدالة، أثارت إعجابي ورسّخت قناعاتي، فقرّرت الانضمام إلى حزبه، والوقوف إلى جانبه في مسيرته ونضاله، وهكذا، توثقت الرفقة واستمرّت حتى استشهاده في 16 آذار 1977.

كيف بدأ كمال جنبلاط المثقف الاستثنائي في ميثاق الحزب الذي أسّسه مع مثقفين آخرين مثل الشيخ عبد الله العلايلي وآخرين؟
إذا عدنا إلى ميثاق الحزب التقدّمي الاشتراكي، نلاحظ وجود نص وضعه كمال جنبلاط تحت عنوان: “لمحة في تكوين الحزب” جاء فيه: “إنّ الحزب التقدّمي الاشتراكي هو ثمرة تنقيب وبحث مشترك، التمست فيه ملتمسات شتى، بعضها: العلم والخبرة والتمرّس بالواقع الاجتماعي والإنساني الإقليمي والعالمي. فكلّ من المؤسّسين وضع فيه زبدة حياته، وهي مجموعة اختبارات وتجارب، وزبدة تفكيره، وهي مجموعة مستمدات عقلية ومعطيات شخصية، ساكباً فوقها نزعاته الصافية نحو الخير والمحبة والجمال”.
فمن هذا النص وما تلاه من شروحات عن اسم الحزب وتقدّميته، واتجاهات التطوّر نحو الوعي والحرية والتجمُّع البشري، والتكوّر الإنساني، واشتراكية الحزب الإنسانية، يمكن الاستخلاص بسهولة أنّ هذه المضامين هي من صلب أفكار كمال جنبلاط ومواقفه.

ما الجديد الذي أضافه جنبلاط إلى السياسة اللبنانية منذ دخوله الندوة النيابية سنة 1942؟
بداية تصويب زمني، فكمال جنبلاط أصبح نائباً لأول مرة في انتخابات 1943 التي انتخبت المجلس الاستقلالي. وأما عن الجديد الذي أضافه كمال جنبلاط عن النائب ودوره، فكبير جداً: ففي ندوة أولى له في 18 تشرين الثاني 1946، افتتحت بها “مؤسّسة الندوة اللبنانية” محاضراتها، حملت عنوان: “رسالتي كنائب” شرح فيها مفاهيم الديمقراطية وروحها ونزعاتها، وعبّر عما يرجوه ويأمله لوطنه لبنان، وحدّد الدور الذي على النائب القيام به. وختم محاضرته بهذه الكلمات: “نريد للبنان أن يكون مركز تطوّر وتوجيه وهدي في العالم العربي والعالم المشرقي ليصح فينا القول: “إننا هنا في لبنان لا يسيطر علينا إلا حكم القانون”. ويطيب لي أن أنقل عن مؤسّس الندوة اللبنانية الأستاذ ميشال أسمر، هذا التعليق عن المحاضرة: “لقد امتازت هذه المحاضرة، إلى جانب الثقافة الشاملة والدرس العلمي الدقيق، بصوفية كان لها أطيب الوقع في نفوس جميع المحاضرين، فألهبت قلوبهم، فصفقوا طويلاً لنائب جبل لبنان الشاب، واضعين كلّ آمالهم في حركته الإصلاحية وفي رسالته كممثل لأمانيهم الطيبة”. وحرص كمال جنبلاط طيلة مدة نيابته على العمل من أجل المحاسبة ومكافحة الفساد، وتقديم مشاريع الإصلاح من أجل لبنان حديث يسوده حكم القانون وتتحقّق فيه العدالة الاجتماعية والوحدة. ومن أبرز المشاريع التي اقترحها للإصلاح نذكر: إعطاء المرأة حقوقها السياسية وعلى رأسها حق الانتخاب، الزواج المدني الذي اعتبره سبيلاً للخروج من القيد الطائفي، الضمانات الصحية والاجتماعية، نشر التعليم، إلغاء نظام الطائفية السياسية والعمل لتحقيق النظام المدني العلماني في لبنان.

من المعروف أن جنبلاط قام بتوزيع الأراضي التي يملكها في سِبلين والمختارة وسواها على الفلاحين، كيف تجاوب الفلاحون مع هذه الإجراءات؟
رغم أنه سليل عائلة عريقة لعبت ولا تزال تلعب دوراً أساسياً في تاريخ لبنان والمنطقة العربية، نهج كمال جنبلاط في حياته، منذ نعومة أظفاره، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد العام، نهجاً مميزاً، وفريداً من نوعه في لبنان. وقد تأكدت من خلال المواكبة المشتركة، كم كانت حياته بسيطة، وكيف كان يتعامل مع الآخرين تعامل الندّ للندّ، يتقاسم معهم ما يحصل عليه من مال وغذاء وأحياناً كساء. ورغم الممانعة العائلية الحريصة على الإرث العائلي، أصرّ على توزيع قسم من الأراضي التي تملكها العائلة على الفلاحين الذين يعملون فيها. وهذا يعني أن كمال جنبلاط تصرّف كمتمرّد على الوضع، وكمُصلح اجتماعي في منطقة الشوف في الأربعينات من القرن الماضي من خلال وقائع لاقت الاستحسان والترحيب من جمهور المجتمع العاديين نذكر منها:
– تخصيص ريع المطحنة في قصر المختارة لفقراء المختارة ومعوزيها.
– تأسيس ورش عمل لتشغيل العاطلين عن العمل.
– تنظيم تأمين الحبوب لأهل الشوف من فلسطين وحوران، وإعداد مشروع لتحسين زراعة الحبوب في الشوف.
– توزيع مائة هكتار على فلاحي قرية سِبلين مثلاً، بموجب عقود بيع قانونية مقابل ليرة لبنانية واحدة لكلّ قطعة أرض من مالكها الجديد.
وفيما بعد، توسعت مشاريعه الإصلاحية لتشمل كل لبنان نظاماً وإدارة وقضاء وتربية ومجتمعاً.

معروف أن كمال جنبلاط هو محامي الحريات في النظام السياسي اللبناني، حتى عن خصومه، كما في حالة أنطون سعادة، هل هي نتاج جنبلاط المثقف الغربي، إلى حد ما، بخلاف العقل الشرقي الاستبدادي؟
فعلاً كان كمال جنبلاط محامي الحريّات التي كان ينتهكها النظام السياسي القائم في لبنان. وكان يمارس هذا الدور بقطع النظر عن الأشخاص وأفكارهم وانتماءاتهم. وأصدق برهان على ذلك أنه الوحيد الذي انتقد الأحكام الظالمة بحق أنطون سعادة، وأعلن أنه بموقفه من هذه القضية إنما يدافع عن معتقده الإنساني في الفكر وفي الحياة. أعتقد أنّ كمال جنبلاط اكتسب هذه المعتقدات من قراءاته وصداقاته التي نسجها في باريس مع مفكّرين تقدّميين متنورين، تلاقت أفكارهم مع ما كان يرسم في فكره حول إنسانية الإنسان.

شكّلت الديمقراطية لجنبلاط محوراً مركزياً في نضاله السياسي وفي إرثه الثقافي، لكنه كان ينتقد نمط الديمقراطية الغربية، أو ما يُسمّى بدور النخب هل هو أمر جديد أيضاً وإضافة أصيلة إلى نظرية الديمقراطية؟
من المؤكد أنّ كمال جنبلاط، بما تكوّن لديه من رؤية مستقبلية للأنظمة، استخلص مفاهيم جديدة للديمقراطية وكيفية ممارستها. عبّر عنها منذ العام 1945، في محاضرة له حول الديمقراطية الجديدة التي قال عنها: “إنها تتكامل، وتصبح فعلاً في خدمة الإنسان والمجتمع، عندما تستكمل الديمقراطية السياسية بديمقراطية اقتصادية وديمقراطية اجتماعية. وكان رأيه المميّز أنّ “النظام” أي نظام يحمد أو ينتقد بمقدار ما يحقّقه من كفايات للإنسان والمجتمع”.

وأما عن النخبة وعلاقتها بالديمقراطية وممارستها، فأذكر أن كمال جنبلاط هو الذي قال عنها، في مقالة له بتاريخ 21/3/1975 ما يلي: :يحدّد كثيرون في الغرب أن الديمقراطية السياسية هي حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب، ويتوهمون أنّ وسيلة الانتخابات كلّ عدة سنوات تكفي لترسيخ مفاعيل هذه المقولة. ولكن التجارب في الغرب أثبتت أنّ هكذا نظام لا يوصل إلى سدّة الأحكام وإلى المجالس التمثيلية إلا مَن هم في صف الوسط من النباهة والمعرفة والخلق وأحياناً حتى البلهاء. والسبب أنّ هذا النهج مغاير لشرعة الطبيعة والتطور التي تنزع دوماً إلى بقاء الأفضل وإلى فرز الأقوى في قدرته على التكيّف، وإلى تجلية العقل في مرقى ظهوره وهيمنته التدريجية من مستوى المادة إلى منطلق الإنسان، وهذه الشرعة تتلخّص بأن تحكمنا النخبة وبأن نتمكّن من جعل المجتمع يفرز هذه النخبة يستعلي بها فوق رقابة وعادية تفكيره وتصوره. الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم الشعب بواسطة النخبة لمصلحة الشعب الحقيقية”.

هل من شيء آخر ترغب بإضافته؟
بالطبع، هناك ما أضيفه، فبمناسبة مرور مائة عام على ولادته وأربعين عاماً على استشهاده، أقول لكمال جنبلاط حيث هو في عليائه، إنه حاضر دائماً في فكري ونهجي في الحياة، وسوف أبقى وفياً لفكره ورسالته ما حييت، ولهذا الهدف كانت “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط” في سعيها للسير على خطى المعلّم، والعمل على إيصال فكره والإضاءة على سيرته ومسيرته النضالية المميّزة للأجيال الشابة لتغرف من مناهل فكره وإصلاحاته في نضالها، من أجل غدٍ أفضل ومجتمعٍ أرقى وأكثر عدالة إنسانية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  في مئويته
كمال جنبلاط… سرمدية الإيمان بالإنسان
النائب السابق أ. فيصل الصايغ
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

في حضرة الغائب- الحاضر الكبير، لم يعد مجدياً طرح السؤال بالصيغة المعهودة: لماذا استشهد كمال جنبلاط؟ وإنما الباقي دائماً هو أن نضع السؤال بالصيغة التالية: لماذا وُلد كمال جنبلاط؟

تلك الومضة من سادس يومٍ في كانون الأول من العام 1917، أذّنت بولادة إنسانٍ قُدّر له أن يحمل في فكره ووعيه وروحه وأحلامه وشِعره وتنسُّكه ونضاله هموم أخيه الإنسان، في كلّ زمانٍ ومكان، وأن ينذر حياته وكل ما امتلك فيها للارتقاء بذلك المخلوق الإنساني في داخله أولاً، لتحرير ذاته من مغريات الدنيا – وما أكثرها لمَن كان مثله – منطلقاً بالتالي إلى تحرير الإنسان في كلّ أصقاع العالم، متجاوزاً الحدود بمختلف أشكالها، الطائفية والطبقية والمناطقية والجغرافية، مصوّباً نحو تحقيق هدفه الأسمى، ألا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية لكلّ الناس الذين تجمعهم الحياة فوق هذه الأرض، وهو القائل “الحبّ الإنساني الشامل يجعل الإنسان يتجلّى في كلّ إنسان”، فعاش عمره وخاض معترك السياسة وغمار الحياة مهجوساً به، وملتزماً السعي الحثيث إلى تحقيقه.
هذه النزعة الإنسانية-الفلسفية اتخذت عند كمال جنبلاط أكثر من تشكيلٍ، تبعاً لمراحل حياته ونضجه وترقّيه في مدارج العمر، وغَرْفِه من خوابي الفكر الإنساني العالمي، واطلاعه على تجارب الحكم ونماذجه في شتى أنحاء الأرض، وغوصه في تقييم جيّدها من سيئها، فرأيناه متنسكاً توحيدياً زاهداً، وكاتباً ومفكراً وشاعراً، كما رأيناه سياسياً وطليعياً قائداً، مؤسّساً حزباً رأى فيه الوسيلة العملانية لترجمة أحلامه وما يؤمن به، وهذا ما تجسّد في تشكيلة الرعيل الأول من المؤسسين، حيث اجتمع كبار المشهود لهم بالعلم والعمل، والديمقراطيون والمؤمنون بجوهر الإيمان، والمثقفون والصحافيون والتغييريون، من شتى المشارب الروحية والمدارس الفكرية، ليلتفوا حوله ويلتقوا وإياه بأبناء الطبقة الكادحة، من فلاحين وعمّال وأجراء وأناس بسطاء، شكلوا طليعة الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي حرص في ترسيم مبادئه على مقاربة جوهر الإنسان الذي هو الغاية الأسمى عنده، وتكريسه المبتدى والمنتهى، وهو القائل “الانتصار هو انتصار النفس القوية الجميلة فينا، انتصار الإنسانية فينا، انتصار التطور على الرجعية، انتصار الحياة”… كما رأيناه منتفضاً على النظام الطائفي الحارم غالبية أبناء لبنان من مواطنتهم الحقّة، ورأيناه لاحقاً يتصدى لمسؤولية قيادة الحركة الوطنية، بأحزابها اليسارية العقائدية، جامعاً في ذلك بين همّين عنده: الأول والدائم هو انتصاره للقضية الفلسطينية، ومؤازرتها في مجابهة مشاريع التهويد ومحو حقّ الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، والثاني هو النأي بالصراع الذي فرضته الحرب على لبنان من كونه صراعاً طائفياً أو مذهبياً، إلى كونه صراعاً بين معسكرين ومشروعين، بين يسار ويمين، بين رجعية وتقدّم، بين مشروع تفتيت وانعزال، ومشروع وطنٍ عربيّ موحّد، بين قمع الحريات وفضاء الديمقراطية، ولا ريب في أن يكون هذا أحد الدوافع وراء الاستعجال باغتياله.

بعد مئة عام انقضت على ولادته، وأربعة عقــودٍ على استشهاده، يستمرّ كمــال جنبلاط معلّماً ملهماً ومرشداً دائماً، وهامةً فكرية عربية عالمية استثنائية، ورمزاً لسمو الجهـاد في السياسة والنضال والعلم والفكــر والإنسان، كما يستمرّ إرثه الأكبر في ما رسمه للأجيال والمستقبل في كلّ العالم من دروبٍ مضيئة تودي بمن يسلكها إلى رحاب المعرفة والانفتاح والسلم والإيمان، وفي ما تركه للبشرية من إبداعاتٍ فكـرية استبقت عصرها وتخطت المكان والزمان، مكرّساً في مسلكه وشخصيته وصدقه وثورته وأسلوبه، سعيه الأزليّ إلى عقلنة الإنسان وتحريره من التقوقع والتخلف ومن أسر التعصب والانقسام، وترسيخ الديمرقراطية والرأي الحــرّ المنفتح على رحــاب الحــرية التي اعتبــرها الحجــر الأساس في كلّ تطــور اجتمــاعي واعٍ ومسؤول، وليس أدلّ على ما نستمر نعاني منه في غيابه أكثر من قوله “نحلم بالمسؤول الفريد الذي يتجرأ على توقيف كلّ لبناني يقوم بدعايةٍ طائفية”!!
كما أنه- في غمرة انغماسه بالصراعات الفكرية والإنسانية الكبرى- لم يغفل أن يولي وطنه الصغير العناية والاهتمام، وأن يقدّم نماذج في محاربة الفساد والمفسدين، وفي ترسيم كيف ينبغي لأهل الحكم أن يكونوا في خدمة الشعب، وليس العكس، وفي الانتفاضة على السجون التي تأسر الإنسان في العالم عموماً، وفي الوطن العربي خصوصاً وهو الذي لم يتردّد في اختيار الموت بحرّية، على طريقة سقراط لدى الاغريق أو غاندي في الهند وغيرهما، قدّموا جميعاً، كما كمال جنبلاط، أرواحهم قرابين وشهادة للحياة والكرامة الإنسانية ومشاعل هداية على طريق الحقيقة والحق والخلاص.
كمال جنبلاط الاستثنائي، التقدّميّ الطليعي، الدمقراطي الحرّ، سابق عصره بفكره ورؤاه وأخلاقه يستمرّ لنا القدوة في كيف ينبغي للنضال أن يكون، وكيف ينبغي أن نضع نصب أعيننا كرامة الإنسان وحقه بالحياة الحرّة الكريمة… والوفاء له يكون بخير العمل على تحقيق ما عاش حياته وكرّس فكره ونضاله وعمق شخصيته وفلسفته له، وقدّم حياته على مذبح الإيمان به: الشعب الحرّ في الوطن السعيد.

كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات
كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” في مئويتك،
تحية…
الأستاذ رامي الريس
رئيس تحرير الأنباء الإلكترونية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف
الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف

في كل مرة أمسك فيها قلمي لأكتب عن كمال جنبلاط، أتهيّب الموقف.
فالرجل الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف شكّل، في تاريخ لبنان المعاصر، علامة فارقة في السياسة والاقتصاد، في الفكر والفلسفة، في العلم والمعرفة.

والأصعب أن ما كُتب عن كمال جنبلاط كثير ووفير، ومع ذلك لا تزال شخصية ودور ومسيرة المعلم ومؤلفاته تستحق القراءة تلو القراءة، وفي كل قراءة، تكتشف الأبعاد الجديدة من علمه الواسع.
سنة 2017 حملت ذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاده، وقد توجّ محبو المعلم وفاءهم له في يوم تاريخي في المختارة (19 آذار) شهد تقاطر الآلاف من اللبنانيين من مختلف المناطق حاملين رايات الولاء، ولبسوا كوفية فلسطين… الوصية والهوية والقضية.

كما أن سنة 2017 هي ذكرى مئوية الولادة، فكانت الرمزية السنوية بوضع زهرة على الضريح أبلغ من عشرات الخطب والمقالات. إنها الرمزية التي يمكن من خلالها الوقوف للحظة للتأمل والتفكير بكمال جنبلاط القائد والشهيد.

ولكن كمال جنبلاط الذي أكد على إعادة الأخلاق إلى السياسة والسياسة إلى الأخلاق يُفتقد اليوم بشكلٍ عميق. فالسياسة والأخلاق في عالمنا الراهن أصبحا على طرفي نقيض وهو ما يفسر الكثير من الظواهر الغربية التي فرضت نفسها على مجتمعاتنا، من الإرهاب والمخدرات والدعارة فضلاً عن ما سمّي بالثورة التكنولوجية، التي تبقى رغم إيجابياتها، تُشكّل منعطفاً كبيراً في طبيعة العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
مع كمال جنبلاط إلى الأصالة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى العدالة الاجتماعية، إلى الحرية، إلى الكرامة الإنسانية.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الوعي، إلى المسؤولية الوطنية، إلى العروبة المتحرّرة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الديمقراطية، والمساواة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى ذواتنا التي تنجرف أحياناً في رمال ومستنقعات اليوميات الممّلة، إلى الصفاء خروجاً من الاضطراب، وإلى الهدوء هرباً من الضوضاء.
في مئويتك، تحية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
مدخل إلى المكوِّنات الثقافيَّة الأولى
غسان الحلبي
مستشار مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

دخل “البيك النّضِر” مدرسة عينطورة وهو في بدايات السنة التاسعة من عمره. كان قد تلقّى تعليماً خاصّاً في دار المختارة التي كانت في رعاية والدته “الستّ نظيرة”، السيِّدة المَهيبة التي استطاعت، بحنكةٍ فريدة ووقار مشهود، أن تحمل حِمل رجال كبار بعد أن اغتيل زوجها فؤاد تاركاً في عهدتها طفليهما، “كمال” ذا الأربع سنوات وأخته “ليندا”، وبالطبع، مسؤوليَّة جسيمة كبرى هي ولاية شؤون دار يسكن فيها التاريخ، ماضياً وحاضراً، فرداً من أفراد العائلة.
إنَّ طبائع المكان، بأرضه وناسه، بتقاليده وأسراره، بذاكرته الذاخرة بالأحداث الجسام والشخصيَّات التي لا تخلو المرويَّات عن بعضها من بُعدٍ شبه أسطوريّ، وبحاضره المظلَّل من جهةٍ بمأساة، ومن جهةٍ ثانية بإرادةٍ من “روح الفولاذ” هي إرادةُ سيِّدةٍ عرفت عطف الأمومة، وحكمة التصرُّف، وهيبة الحضور بحيث لم تخْلُ سدَّة الزعامة، بتدبيرها، من فعاليَّة القيادة التي ارتقت بأدائها إلى مستوى تاريخيّ تذكرهُ الأجيال؛ كلُّ هذا، لا شكّ، انغرس في روح “الصبيّ” وشكَّل مكوِّنات وعي تكاد تكون “فطريَّة” فيه، لأنّ الكثير منها بقي من “الثوابت” لديه عبر حياةٍ فائضة بالمتغيِّرات.
كان اليسوعيّون قد أسّسوا إرسالية القدّيس يوسف في عينطورة عام 1657 “في جوف وادٍ صغير عند أسفل غابة صنوبريَّة” على ارتفاع سبعمئة متر عن سطح البحر. وفي العام 1834 تسلَّم الدير الآباء اللعازاريّون بعد تفاقم المشاكل بين اليسوعيين ومرجعيّاتهم في الخارج. وما لبث مريدو القديس فنسان دو بول أن حوَّلوا المقرّ إلى معهد تربويّ بناء على إلحاح الموفد الرسولي.
كان للعازاريّين قناعة وطيدة بالتربية التي يُبنى بها الإنسان، وهي قناعة وليدة من السلوك الذي انتهجه مؤسّس جمعيَّتهم التبشيريَّة “دو بول” المذكور (1581 – 1660). وترسَّخت قواعد النظام التربويّ في معهدهم في لبنان حين تولَّى إدارته الأب ألفونس سالييج، حيث حصل تطوُّر كبير في بنائه وأنظمته برعاية فرنسا ودعمها بحيث اكتسب سمعة عالية باعتباره صرحاً مساهِماً بقيام “نهضة حقيقيَّة في جبل لبنان” ولُقِّب بـ “أمّ المدارس”. (الكثير من أخباره في مذكرات نخب من القادة والمسؤولين ورجال الفكر والأدب).
حين دخل كمال المعهدَ تلميذاً في بداية العام الدراسي 1926، كان بإدارة الأب إرنست سارلوت ذي الشخصية القويَّة الهادئة “بهيبة متورّع، وحضور عالِم ونظرة فيلسوف” يردِّد أمام تلاميذه قولاً لفيرجيل يحثّهم به على الاستغراق الجاد في العمل: “Labor Omnia vincint improbus” ويعني: “العمل الشاق يتغلَّب على كلِّ شيء”، ومُسدياً إليهم على الدوام نصائح في غاية من “العِلم والذكاء والإدراك”.
يذكر “تيموفييف” أجواء المعهد الخاضعة لنظام “ثابت تسيرُ عليه دائماً وأبداً… من نهوض باكر في الخامسة صباحاً، إلى صلاة الصبح والتزام اللغة الفرنسيَّة حتّى فترة ما بعد الظهر المخصَّصة للعربيَّة، وفترة المساء للإنجليزية حتَّى صلاة الغروب.” وهو “نظام يومي صارم يتطلَّبُ حدّاً أقصى من التركيز والانضباط”. بالطبع، ما لبثت روحُ كمال أن أنست، لاحقاً، هدوء المكان، وواجبات الالتزام بالدرس والتحصيل، وبالتأمُّل وتلمُّس آفاق المعرفة. وكان المنهج التعليمي مرتبطاً بالبرامج الفرنسيَّة المتقدّمة، وزاخراً بمواد مكثّفة.
من المؤثِّرات العميقة التي يمكن أن تُعزى إلى الأب سارلوت هو دأبه على أن “يغرس في نفوس تلاميذه موقفاً أخلاقياً من العمل”، ومقاربته البالغة الأهميَّة في ضرورة تحقيق “التوفيق الأمثل بين المواد الطبيعيَّة (العلوم البحتة من خلال التطبيقات المختبريَّة)، وبين المواد الإنسانيَّة. وإيماناً منه بأهميَّة هذه المعادلة سعى إلى افتتاح “مختبرات ممتازة التجهيز في المدرسة لإجراء التجارب الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، وأيضاً إيجاد متحف للعلوم…”.
“وجد كمال في هذا الجوّ مرتعاً خصباً جعله لا يكتفي بما يحصل عليه من دروس بل يكبّ على المطالعة كلما وجد متّسعاً من الوقت… حتى غدت شغفاً يلازمه مدى الحياة ويغني مفرداته، ويوسع أفقه، ويعلّمه التفكير والتأمّل والتحليل والمقارنة… وتكوّنت آنذاك الملامح العامَّة لشخصيته وطباعه والتي ميَّزته عن الآخَرين مدى العمر” (تيموفييف). وقبل الوصول إلى المرحلة الجامعية، كان “الشاب الموهوب يعيش حياة فكرية وروحيَّة في منتهى التعقيد والكثافة.”
كان لمقاربة كمال الشاب نحو المعرفة طابع الشمول المتدرِّج، وكان سرُّها أنّه لم يكن في ذاته العميقة ساعياً في استثمار العِلم لغايات المصلحة وإنَّما في شغفِ البحث عن الحقيقة. وإن كانت المراحل الأولى في تعليمه تميَّزت بالتنوُّع العريض في مواضيع المطالعة والنشاط العملي، فقد برزت، في المرحلة الأخيرة له في عينطورة، اتّجاهات نحو التعمُّق في حقول بعينها انجذاباً لما في طبائعه من ميولٍ نحو الإبحار في الآفاق البعيدة. ويُذكر في سيرته أنه أبدى “اهتماماً معمَّقاً بتاريخ المسيحيَّة… وأنه درس بعمق مؤلّفات القديس فنسنت دي بول…” التي كان لها أعمق “الأثر في نفسه وكذلك رعايته للفقراء والمساكين والأحداث…”. ولا شكَّ أنه قرأ أيضاً بالفرنسية كتاب “فضائل القديس فنسنت ومذهبه الروحي” الذي قال فيه مطران باريس إنه يعبِّرُ “عن الرُّوح الحقيقيَّة للمسيحيَّة”. والكتاب إبحارٌ في معنى الحبّ الإلهي لدى دو بول، وحضوره الحيّ في الوجود… وصولاً إلى جوهريَّة السجايا الإنسانيَّة في التواضع والطاعة والحكمة والعدل والتعفُّف والانعتاق من كلِّ تعلُّقٍ دنيويّ بزخاريف الدنيا.
(كتاب L»Abbé Maynard).
في العام الدراسي 1935 (كان كمال قد بلغ الثامنة عشرة من عمره)، قدم إلى عينطورة الأب دالميه Dalmais معلّماً للفلسفة. عُرف عنه بعد ذلك تأثّره وإخلاصه لتعليم الراهب واللاهوتي البيزنطي القدّيس “مكسيم المعترف”، الأمر الذي قاده إلى التعمّق بعلم تأويل الأسرار (mystagogie) عن طريق الفهم العميق لطقوس القربان المقدّس (Liturgie). ووجد دالميه أنه من الضروريّ تعميق مفهوم الأسرار ومقابلها الآرامي عبر مساءلة اليونان القديم وفقاً لانعكاس ذلك في إرث الأوّلين (كتاب Kalongisa Munina). ويعلمُ الله وحده ماهية المدى البعيد الذي ذهبت فيه العلاقة الفكرية والروحية-المعرفية بين الشابّيْن: الأستاذ وتلميذه الفريد (كان دالميه في الثانية والعشرين)، خصوصاً في اللاهوت المسيحي بدلالة أنَّ دالميه دعا كمال مباشرة إلى اعتناق العقيدة المسيحيَّة، وردَّ جنبلاط معتذراً حيث سيتبيَّن لاحقاً إيغال فكره في جدليَّةٍ خصبةٍ لا يمكن معها الرسوّ فوق الشاطىء، وإنَّما هي تدفعُ به على الدوام، وبقوَّةٍ لا تهدأ نحو أعالي بحار المعارف شوقاً إلى تلمُّس حقائق الأشياء في حضورها الحي الدينامي وليس السكونيّ وحسب.
كان حاضراً في عقل كمال آنذاك، عبر قراءاته، ما كان يحاولُ فعله أحد الآباء اليسوعيّين من الذين وحَّدوا في الرؤية اللاهوتيَّة بين الإيمان والعِلم البحت، ومن الذين قاربوا المسيحيَّة مقاربة غير تقليديَّة إلى حدّ منعه عن التعليم، هو الراهب وعالِم الإحاثة والمتحجّرات بيار تيار دو شاردان. وكان حاضراً أيضاً غاندي وتعليمه بأنَّ “الحقيقة الأولى هي أن الحبَّ هو نقطة الدائرة ومحورها في آن واحد. فكيف تتلاقى وتتجاذب ذرات المادة، وتترفّع وتتوالى في تراكيبها، وكيف تتآلف الخلايا الحيَّة في النبات والحيوان وفي الإنسان، وكيف يتوافر ارتباط العلاقات في المجتمع، إذا كان الحبّ غائباً عنها.” فالحبّ هو “طاقة كونيَّة شاملة لحركة التكوين” (من محاضرة عن غاندي لكمال جنبلاط).

يتوجَّبُ أن يُفهمَ الحبّ هنا من حيث هو إيمان عميق بالوحدة التي هي سرّ الوجود، ومن حيث هو الطاقة الحيَّة في الكائنات جميعها. وليس الأديان وحدها رسائل للتعبير عن هذه الوحدة، بل هو الوجود بكلّ عظمتة من المجرَّات إلى ذرة التراب. كان هذا أمراً طاغياً على عمل دو شاردان في صحارى الصّين وغيرها، وعلى عمل غاندي في مقاربته السياسيَّة غير المألوفة لأنها ترتكزُ على بساطة الحقيقة الإنسانيَّة وأصالتها وصلتها “بالطبيعة الأحديَّة التي لا اثنينية فيها على الإطلاق”. وقد ذهب بعد ذلك كمال، بحكم الظرف القاهر، إلى باريس لدراسة الحقوق في حين كان يحلمُ بأن يكون طبيباً يخدم الفقراء في إفريقيا. لكن أبواب المعرفة ظلَّت، بالطبع، مفتوحة أمامه، فتعمَّق في فهم باسكال (العلم والترهّب والفكر الذي هو ميزتنا الكلية)، وبرغسون (الحقيقة بالحدس)، وكثرة من كبار المفكّرين. وتردَّد هناك إلى روجيه غوديل المشغوف باليونان وأفلاطون خصوصاً، وبالهند. وهذه علاقة معرفية قادته إلى كريشنا مينون ومن ثمَّ لاحقاً إلى رحلات إلى بلادٍ (الهند) يؤمن حكماؤها بأنَّ الطاقة الكونيَّة هي الوعي المطلق، وبأن التطوُّر الإنساني الحق مرتبط بهذه الغاية. وبأنَّ التقدُّم، في ذات الفرد وفي صيرورة المجتمع (التقدمية)، هو بالسعي والنضال من أجل تحقيق غايات مثلى صوناً للإنسانيَّة من السقوط في هاوية الجهل والتقاتل وصراع الحضارات.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  نِعـمَ الكتـابُ،
تعـدَّى الحرفَ كاتبُـه الشيخ د.
سامي أبي المنى
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

هو الزعيمُ الكبيرُ، اللهُ واهبُهُ
تقدُّميٌّ، أبيٌّ، قائدٌ، عَلَمٌ
للِّدينِ، للحقِّ، للإنسانِ، ثورتُه
بساعِدِ الجِدِّ أثرى الأرضَ مِعوَلُه
وريشةُ الفكرِ أهدت للملا كتباً
قد كان يَخشى على الإنسانِ من زمنٍ
وأصبحَ المرءُ رقماً فيه مُحتَقَراً
وسطوةُ المالِ والأعمالِ ضاربةٌ
والشرُّ يهدُمُ ما في الكونِ من نُظُمٍ
هذا الكمالُ ارتقى نحو الكمالِ وفيفراحَ يُبحرُ نحو الحقِّ مُنشغِلاً
يتوقُ عيشاً صُراحاً حيثُ يَسكُنُهُ
يَغفو على لَهَفٍ، يَصحو على شَغَفٍ
يراهُ في كلِّ خَلقِ اللهِ، في نِعَمٍ
يراهُ في بيئةٍ خضراءَ دانيةٍ
صفراءَ راقيةٍ، زرقاءَ ناقيةٍ
وكان صوتاً رقيقاً صارخاً ألماً
لا تعبَثوا بنظامِ الخَلقِ واحترموا
يا ثاقبَ الرأي والرؤيا، لَكَم صدقتْ
يا سابقَ العصرِ، كم أهديتَنا عِظةً
يا ليتَنا ما ربحناها رفاهيةً
يا ليتَنا قد جعلنا العقلَ مُنطَلَقاً
يا ليتَنا ما خسِرنا العيشَ في كنَفِ الـ
ولو أقمنا على عدلٍ توازُنَنا
يا ليتَنا لم نُغادرْ، في تعامُلِنا،
لو لم نُبالغْ ونشطحْ في تَجاهُلِنا
كم نحن نحتاجُ إنسانيةً فُقِدَتْ
كم نحنُ نحتاجُ عُشبَ القمحِ، أنبَتَهُ
نحياهُ ذِكرى سمَتْ نحيا بها مئو
نسمو اعتزازاً بأنْ غُصْنا على دُرَرٍ
منها اكتفينا وعُدنا كي نوزِّعَها
لكنّنا مُذ عَرفنا أنَّه قمرٌ
وسار فينا، وصارَ النُّورُ يَغمُرُنا
نقولُ فيهِ، ومنه القولُ أشرعةٌ
قال المعلِّمُ، حقَّاً قالَ، فانتبهوا

طابتْ منابعُه، طافتْ مواهبُهُ
العلمُ والحِلمُ والتقوى أقاربُهُ
في عالمٍ أدمتِ الدنيا مَخالبُهُ
مُذ راحَ يَكدَحُ كي تَحيا مساكبُهُ
نِعمَ الكتابُ، تعدَّى الحرفَ كاتبُهُ
نامتْ نواطيرُه، قامتْ ثعالبُهُ
وهْو المُكرَّمُ من ربٍّ يُخاطِبُهُ
والعنفُ في الدينِ والدنيا مصائبُهُ
والبيئةُ الأُمُّ تُؤذيها عقاربُهُ
صوامعِ الروحِ والنجوى مآربُهُ
عن السياسةِ، شقَّ الموجَ قاربُهُ
طيفُ الحبيبِ الذي شعَّت كواكبُهُ
والحقُّ في ذا وذا تبدو غرائبُهُ
تَفيضُ دوماً، كما فاضتْ سحائبُهُ
حمراءَ قانيةٍ، فيها ملاعبُهُ
بيضاءَ تَصفو كما تَصفو مشاربُهُ
أنِ احفظوا الكونَ تَحفظْكم مراكبُهُ
سرَّ الوجودِ، فرَبُّ الكونِ واجبُهُ
رؤياكَ، مثلَ نبيٍّ، عزَّ جانبُهُ
والكونُ ينهارُ، والحُمَّى تُصاحبُهُ
وضاع منَّا جمالٌ فرَّ ناهبُهُ
والعقلُ يعقِلُ لو كنَّا نُقاربُهُ
طبيعةِ البِكرِ، إذ رُحنا نُحاربُهُ
وما سكَبنا شراباً ماتَ شاربُهُ
بساطةَ العيشِ، مُذ جُنَّتْ مطالبُهُ
لَمَا شَقِينا وأدمَتنا عواقبُهُ
من عالَمٍ ضلَّ وازدادتْ متاعبُهُ!
لنا المعلِّمُ، كم تُشفي تجاربُهُ!
يـةً وقد حاكتِ النَّجوى عجائبُهُ
في ذلكَ اليمِّ، أغرتنا حقائبُهُ
فما كَفَينا، ومَن فينا يُواكبُهُ؟
به افتُتِنَّا، وأمْسينا نُراقبُهُ
والفكرُ كالعينِ، والإيمانُ حاجِبُهُ
مَنْ يتبَعِ القولَ ما تاهتْ مراكبُهُ
فالحقُّ يُحيي ويَحيا فيه طالبُهُ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” إلى المعلّم الشهيد
كمال جنبلاط
العميد د. محمّد توفيق أبو علي
العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا

آتٍ مع الفجر خلِّ الرّيحَ في صخبِ
بَوْحُ الأقاحي خطاهُ، موعدُ السُّحُبِ
آتٍ غدًا لجفون الشمس يزرعها
نورًا، ويوقظ منها هجْعةَ الهدُبِ
آتٍ، فيا واحةَ العشّاقِ لا تهِني
محبوبُكِ الصَّبُّ لم يهرمْ، ولمْ يغبِ
لكنّه في زمان الوعد محتشدٌ
عند الينابيع، يروي جذوة اللّهبِ
يسقي دَواليَ عشقٍ سُكْرَ خَمْرَتِها
حتّى ترنّح فيها ساكنُ الحَبَبِ
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
خُبزًا يقينا الدّجى في غائلِ السَّغَبِ
معلّمي نُضْرَةُ الحلمِ البهيّ رنا
إليّ أنت إلى وُسْعِ المَدى الرّحِبِ
فكيف يُغْلَقُ دون العين بارقةٌ
وأنت صبوتها نحو المنى النُّجُبِ
وكيف يُغرِق موجُ اليمّ ساريةً
وأنت رائدها… يا نجمة القُطُبِ
القدس يشكو أساها عُقْمُ نَخلَتِنا
هُزَّ الجذوعَ وأرشدنا إلى الرُّطَبِ
والمِحْجَرُ الصَّلْدُ يروي سقمَ دمعتِه
فاشفِ السِّقامَ بوجدٍ منكَ منسكبِ
والمحجرُ الصَّلدُ يشكو حَجْبَ شَكْوتِه
فاهطِلْ بِوجْدِكَ يُمْزَقْ ساترُ الحجبِ
واطلب الى الدمعِ أن يطلق أعنَّتَهُ
رِيًّا لنارِ القِرى في جمرنا الرَّطِبِ
ازرعْ محاجرَنا عَصْفَ الدُّموعِ لظًى
توقًا لقدسٍ تُقِيتُ النور في الشّهبِ
معلّمي، إنْ غفتْ أحلامُنا، ومضتْ
نَثْرَ الهباء، فلا تسألْ عنِ السببِ
مَنْ غيّبوكَ همُ مَنْ يدفنونَ سنًا
يقول: يا وعْدُ عُدْ، واهطلْ على العربِ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط…
المفكر البيئي قبل سبعين سنة
د.عصام الجوهري
رئيس رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تخطّى المعلم كمال جنبلاط منذ العام 1948، وربما قبل ذلك، الموقف السطحي الذي كان سائداً حيال البيئة، فإذا به يضع في “الميثاق” عام 1948، الآتي: “إن من بين التدابير التي يرمي إليها الحزب، المحافظة على العنصر البشري وتنقيته والتخلُّص من بعض الظروف والأحوال الضارة التي أوجدتها المدنية التقنية” (ص. 2) وفي مكان آخر: “القضية الأساسية تهيئة الجو الملائم للكائن البشري ونموه ولتفتح قدراته، وذلك باعتماد الأساليب والعادات الاجتماعية التي تتلاءم مع أغشيته ونفسيته. فيجدر مثلاً تنقية جو المعمل والمحترف وإزالة الصخب والضجيج والجلبة من المدينة وإذا لم يكن من بد، هدم المدن وإعادة تخطيطها وبنائها بشكلٍ يتلاءم أكثر فأكثر مع متطلّبات الفرد وراحته بحيث تتوفّر له المتعة النفسية والجسدية في أجواء فسيحة من الحدائق والغابات، ويجدر تنقية جو الصحافة والملاهي والاحتفالات والاجتماعات الشعبية كي يتوفّر للفرد الاطّلاع على أكبر قسم ممكن من الفنون والعلوم … إلخ” (الميثاق: ص. 21).
هذه المطروحات التي انقضى عليها أكثر من حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمن تتخطّى كلّ ما عداها من خطط واقتراحات بيئية ماضية وحاضرة، من حيث عمقها شمولها لكلّ ما يمس الإنسان جسدا وعقلاً، والإنسان يحتل الصدارة في فكر كمال جنبلاط، والغاية لكلّ ما كتب، ومن هنا أصبحت أفكار الميثاق البيئية برنامجاً بيئياً وسياسياً للمستقبل القريب والبعيد للجمعيات والمؤتمرات والأبحاث المهتمة بهذا الشأن.
شكلت البيئة عند كمال جنبلاط المؤسس مساحة كبيرة في نسيج فكره الشامل والمتنوع. البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني، فأقدم على معالجتها من الجذور وبكلّ ما يرتبط بهذا الوجود من مشاكل تُعيق تطوّر البشري السليم.

كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال
كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال

يتحدّث كمال جنبلاط عن تلوّث السمع: “ومن أدب السماع أن تبتعد عن كل ما يؤدّي من صخب المدينة وضجيج الحضارة، وصرير الآلات، وانفعالات هذه الموسيقى الحديثة التي تقلق النفس وتسبل على سامعيها الاضطراب النفسي والتشويش والتي تخرج عن وتيرة الطبيعة وطبيعة الإنسان” (أدب الحياة، ص. 56).
حذّر جنبلاط من العبث بالطبيعة، وما ينتج عنه من آثار مدمّرة على المسار البشري: “إنسان اليوم، إنسان العالم الحديث الذي أخذ يتدخّل في شرعة التكوين بواسطة بعض الأدوية الزراعية والأدوية البشرية القاتلة للآفات وأضدادها وضوابطها في آن واحد، لا يعلم أي خلل يدخله وأي انحراف يفتعله، وأي إجرام يأتي به ويقضي على هذا التوازن والانسجام في حياة الكائنات وفي وجود الأكوان” (المصدر نفسه ص. 56)، يشغل هذا الموضوع قطاعاً واسعاً من العلماء الزراعيين في معظم البلدان حيث يدري العمل على إنشاء مزارع نموذجة تعتمد على المصادر العضوية في الزراعة ومكافحة الأدوية الزراعية. وهو اتجاه محدّد لزراعات المستقبل؛ كما أصدرت الكثير من الدول قوانين للحذر من استخدام أنواع معينة من الأدوية الزراعية.
أولى جنبلاط اهتمامه للأبحاث والمؤلفات حول البيئة فأقدم على ترجمة بعضها ومن بينها كتاب “نكون أو لا نكون” لـ إيفان روسكي عرّبه وقدّم له: “أنّ على الإنسان أن يحترم نواميس الطبيعة التي تحيط به وتدخل في كل حين في تكوين جسده وفي الأفعال بأعصابه وبحواسه وفي الهيمنة على مارات الأغذية والسوائل في أغشيته على حياة خلاياه وإلا فَقَد الإنسان القدرة على العيش، ضعفت فيه مكنات نجوته وقوى الكيف واختلت احتمالات التوازن الداخلي القائمة على ما يدعمها ويقابلها في البيئة الخارجية فإذا به يُشرف على الانحطاط التدريجي وثم على الهلاك كما حصل لعدد من الأجناس الحيوانية والبشرية السابقة” (“نكون أو لا نكون”، المقدمة ص 80). ويتساءل كمال جنبلاط محذراً: “ماذا؟ البشرية؟ إلى أين تتّجه؟ ماذا سيكون مصيرها؟ يشهد القرن العشرين بأننا نمر في مرحلة من نصف الجنون الجماعي والفردي؟ هل يمكن أن يكون الإنسان في مجرى التطوّر الكوني الشامل يلعب دور كائن فاشل أو نتائج عديمة الفائدة مرشّح للزوال؟ ويجب القول إنّ هذه التصفية تسير بخطى سريعة”. (المصدر السابق نفسه ص 13).
ويستدرك جنبلاط أثر تلوث الهواء في المدن على مصير الإنسان: “للهواء الذي نستنشقه أهمية خاصة فيجب أن يكون نقياً صافياً وليس كهذا الهواء الذي ينتشر فوق المدينة الحديثة، الذي أوضح ضرره وشره على الجسد الدكتور سلمانوف في قوله: إنّ كلّ حركة تنفُّس تدخل الجسم خاصة عند سكان المدن الكبرى يُدخل بضع مليارات من الجراثيم. ففي العودة إلى الحياة الطبيعية ونهجها الوسيلة الحقيقية لضمان الصحة وسلامة الأعضاء وبقاء الكائن البشري على مناعاته وحيويته” (“أدب الحياة”، ص 103).
وفي التعاطي مع الطبيعة الخارجية، يقول في “أدب الحياة”: “إنك لا تستطيع أن تُحرّك زهرة دون أن تهتز إحدى النجوم” (“أدب الحياة”، ص 99).
وعن التلوث يقول: “تلوث الأنهار والبحيرات والسماء بهذا الشكل المتواصل يهدّد بتحويل الأنهر والبحيرات والبحار ذاتها الى أنهر وبحيرات وبحار ميتة، لا يقطنها شيء كما حدث فعلاً لبعض الأنهر ولبعض البحيرات في الولايات المتحدة وفي أوروبا. ويرتقب بعض العلماء أن يصبح مثلاً البحر المتوسط بعد سنوات قليلة مهدّداً بهذا التلوث الشامل وأنّ كوكبنا بأسره مهدد على الأقل إلى فترة طويلة بأن يتحوّل إلى كوكب ميت” (المصدر السابق، ص 106).
لقد أضحى النزول إلى البحر المتوسط والاستحمام فيه أمنية لسكان شواطئه ومخاطرة المغامرين ومصيراً حتمياً للفقراء يُضاف إلى ذلك فعل الصيد في تهشيم الطبيعة، وفي تقتيل الطيور – وكل حيوان وطير يتغذّى من هذا الكائن أو من هذا اللون من الحشرات أو الأعشاب – كائناً أمام مجزرة حقيقة يقوم بها هذا الإنسان المتوحش…

البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني
البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني

(م. ن. 108).
لن نتمكّن بهذه المقالة الإحاطة بكلّ الطروحات البيئية لكمال جنبلاط المعلّم إنما أشرنا إلى بعض الأفكار بغية العودة إليها من جديد قراءةً وبحثاً وتطبيقاً. ولا يسعنا إلا أن نجزم بأنه كان من روّاد البيئة بامتياز، ولم يُهمل المسألة البيئية حتى في أحلك الظروف التي عاشها لبنان، حيث أولت الإدارة المدنية التي أنشأها الحزب في منطقة الجبل أثناء الحرب الأهلية اهتماماً خاصاً في هذا السياق، فهي حرمت قطع الاشجار وصيد الطيور ومنعت رعي الماعز حيث ابتاعت الماعز من أصحابها مقابل أسعار عادلة وودعتها في أماكن مغلقة. كما شجعت التشجير واعتنت بغابات الأرز فمنعت الدخول إليها، وجعلتها مَحميَة عملت على مكافحة الآفات والأمراض المنتشرة فيها، كما نظّم “مكتب الإرشاد والتوجيه” في الجيش الشعبي ندوات ومحاضرات جوّالة في مئات القرى والبلدات حماية للبيئة.
لقد كانت طروحات كمال جنبلاط الحضارية المتقدّمة في الموضوع البيئي سبباً لجعل الحفاظ على البيئة جزءاً من كل بيان وزاري وسبباً للكثير من القوانين البيئية التي صدرت عن المجلس النيابي اللبناني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مئوية العدل الاقتصادي
في ميزان الفكر الإصلاحي
د. وليد أبو خير” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة
أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة

كان اختيار كمال جنبلاط الأول من أيار/مايو من العام 1949 موعداً لإطلاق حزبه إشارة رمزية لموقفه من قضايا العمّال والفلاحين والفقراء عموماً، باعتباره: “…يوماً مباركاً، يوم العمّال والفلاحين والصنّاع ويوم ذكرى التعاسة والبؤس والإرهاق بسبب عدم عدل الإنسان لأخيه…”.
شكّل هذا المنعطف من تاريخ لبنان الحديث، دليلاً واضحاً على أنّ فكر كمال جنبلاط حمل هموم المجتمع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي عندما فصّل وشرح بإسهاب المبادىء والنُّظم التي ترتقي بالبشرية إلى المجتمع الاقتصادي الاشتراكي، خصوصاً وأنّ أدبيات المفكّر جنبلاط قد ارتسمت حول دفاعه عن الطبقات الفقيرة والكادحة.
إن الواقع المعيشي والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد حينذاك، أوقدت مشاعر النبل والمسؤولية لدى كمال جنبلاط، والتي شهدت مرحلة ما قبل تأسيس الحزب وتحديداً ما بين العامين 1943 و 1946 مطالبته الدولة اللبنانية العمل على الحدّ من البطالة ومكافحة جنون غلاء الأسعار، كما ومطالبته إياها تشجيع الصناعات المحلية وإنعاش التجارة والزراعة والصناعة والسياحة. وهو في ذلك، إنما كان يعبّر عن برنامجه للحزب الذي سيولد بعد سنوات قليلة.
تجلّت أدبيات الفكر الاقتصادي عند المفكّر الإصلاحي كمال جنبلاط، من أنه فكر قائم على ثقافة تطوير القوانين الاقتصادية وبحسب تقدّم مراحل التطور التاريخي. ذلك أن أسس الاشتراكية في ميزان فكر جنبلاط إنما بُنيت على ركائز الانفتاح والتطوّر، وبالتالي الارتقاء بها إلى مرحلة العدل الاقتصادي المجتمعي. فمن المُعيب – وبنظر المفكّر جنبلاط – أن ينوجد في المجتمع من هم بحالة من الفقر المدقع فيما هناك آخرون يتمتعون بملذات العيش الرغيد مما قد توارثوه عن أسلافهم من ثروات طائلة، أو من جراء تملّكهم الوسائل الإنتاجية سواء بالصناعة أو التجارة..، والتي تدرّ عليهم الأرباح الخيالية. (نظرية التقدمية الاشتراكية.. إدمون نعيم، ص 36 و37) فالحقوق الاقتصادية التي بنى عليها جنبلاط مبادىء الحزب التقدمي الاشتراكي، إنما تستند إلى مبدأ العدالة المجتمعية، وبالتالي إلى المساواة بين أفراد المجتمع، وذلك بحقّ كل فرد فيه أن يتمتع بنصيب من الثروة توازي متطلبات عيشه بكرامة الإنسان الحر وبما يكفل تطوره ونموه.

ذهب المفكّر كمال جنبلاط بالفكر الاقتصادي للحزب التقدمي الاشتراكي إلى حدود التعبير عنه من كونه وجهة نظر للحياة بأكملها. فهو بذلك جمع في محطات ومفاصل الحياة برمّتها فكراً تندمج فيه مثاقفة كل من الاجتماع والاقتصاد في سبيل تطوّر الحياة المجتمعية على النحو الذي يرقى فيها أبناؤها إلى حياةٍ سعيدة بمعانيها المادّية والمعنوية والنفسية، ليَضحى هذا الفكر فكراً ثورياً يتجه بمناحيه نحو التطوّرية.

وبمرور ذكرى عزيزة على قلوبنا وهي السادس من كانون، ذكرى مئوية هذا المفكّر الإصلاحي، نقف ونقول وبعيداً عمّا نكنّه ونختزنه في نفوسنا من عاطفةٍ دفينة، أنه لا بدّ من العودة وقراءة مؤلفاته وكتبه بغية استحضار آرائه وأفكاره الإصلاحية والتي تؤلّف في مجموعها مواقفه النضالية العتيدة، كما والدعوة إلى الوقوف أمام المحطات الفكرية للمصلح كمال جنبلاط للتقرّب أكثر من فكره ومن نهجه، وإلى التعرّف على نوافذ اشتراكيته الأكثر إنسانية. هذا المنهاج الذي أرسى مدرسة ذهبت في اللاحدودها عبر التاريخ، وتخطّت وقائع الجغرافيا لتضحي تاريخ وطن وأمة.

في الذكرى المئوية للرجل الرجل، نقف بجلالةٍ وإنحناء وفي عقولنا غرسات متجذّرة من الكِبَر بفعل نورانية المنهج الذي تناول فيه الكثير من أمراض العصر في سعيه إلى الإصلاح بكل ما يحمله هذا التعبير من محاججة. هذا المنهج الذي جال بخواطر جنبلاط ليعبّر عن واقع لبنان ومرتجاه في نواحي السياسة والاجتماع والاقتصاد..، مجاهدًا بالفكر والقول والعمل، محاولًا تصويبها لتكون مدارك وأسساً في خدمة مجتمع العمّال والكادحين كما الشباب والمثقفين.
حمل هموم المجتمع في نواحي ترشيد الطبابة، وفي حوكمة الضمانات الاجتماعية وتعميمهما في سعيه لترسيخ صنوّ العدالة الاجتماعية.
حمل هموم ومشكلات الأجيال الطالعة في وضعه معايير رشيدة للثقافة والتعليم، وهموم الناس في تأطير الزراعة والصناعة المحليتَين بأطر ومعاني التقدمية، وفي دمقرطة الضرائب بما تعنيه معاني الاشتراكية وبعدالة شعارها “لكل حسب طاقته” ما يؤسّس إلى تحقيق مبدأ العدل المالي، كما وجعله عاملًا للتوجيه الاقتصادي، وبالتالي أداة استقرار وعدل اجتماعي.
نفح في المجتمع روح ثقافية الشعار “لكل حسب حاجته” في سبيل رشادة الإنتاج والاستهلاك لتوجّسه من أن يضحى مجتمعاً استهلاكياً لا مجتمعاً منتجاً، موقدًا فيه سياسات توجيه الإنتاج التي تهدف إلى تلبية حاجات المجتمع، لا أن يكون الهدف الأساسي من الإنتاج هو زيادة الأرباح ونماء ثقافة الاستهلاك.
في مئوية المفكّر كمال جنبلاط نتوجّه بدعوة صادقة إلى أهل الشأن في لبنان، إلى العودة لتحليل وفلسفة منظومته الفكرية الجامعة لنواحي الاقتصاد والاجتماع وتحويلها إلى موادٍّ علمية تغتني بها المناهج التعليمية، لما تختزنه من إضافاتٍ جديدة تضاف إلى العِلم.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”كمال جنبلاط
وموضوع التربية والتعلّم والمعرفة
د. رياض سليم
أستاذ في الجامعة اللبنانية   ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

غاية العلم هي معرفة الحقيقة
غاية العلم هي معرفة الحقيقة

ذكرى ميلاد كمال جنبلاط، تعني في قاموسنا ولادة المعرفة والنور، وفي هذه المناسبة نقول:
أشرقت كلماته فرحاً، وتعالت موجات الضياء من روحه سعادة، وسطعت الإشعاعات من فكره نوراً، عندما بدأتْ كلماتي تحفر طريقها في صخور الماضي وأمواج الحاضر وآفاق المستقبل. وكأنّي به اليوم يقول: لا يزال فكري يزهر عطاءً، ويموج بيادر خيرٍ، ويعطي ثمرات وعيٍ ومعرفة، مع تلميذ ٍ من تلامذتي، بعد مئة عام على ولادتي.

كم أتمنّى، مع المفكرين والعارفين، أن أحصل على هذه النعمة، وأن تلامس كلماتي بعض إشعاعات فكره العظيم، وأن يسكب حبري الجاف بعضاً من وحيه وهدايته. إشعاعات نور شمسه الجوهرية في محيط فكره الهادر، هي المرجع والمصدر والمنارة، ولستُ في محاولتي هذه سوى قَبَس من نوره، وهو القائل: ومَن ذا الذي يزعم أن شعلة النور تضيق بمَن يعطيها نوراً، بمن يعطيها قَبَسأ يزيد في أنها شعلة.
نغرف من ثروة فكره وتراثه، لنعطي ونبحث ونكتب، لكي نهتدي ونهدي أجيالنا إلى مرجعية كمال جنبلاط، في زمن عزّت فيه المرجعية، وضاعت أو تكاد معالم حضارة شرقية أصيلة، غرف منها المعلّم حتى الارتواء. رسالتنا الاستمرار في الكتابة بحروف نافرة على وجه الزمن، طالما رسالة المعرفة والعارفين: إنّه حبة القمح نغرسها في عقولنا ونفوسنا لتنبت سبع سنبلات ملأى.
الثروة التي تركها لنا كمال جنبلاط كبيرة وثمينة ومتنوعة، في مختلف المجالات والميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والصوفية. ومن الصعب، لا بل المستحيل، أن نتحدّث عنها كلها، لذا سيقتصر حديثنا عن بعض الجوانب العلمية والتربوية عند المعلّم. وخير ما يعبّر عن ذلك كمال جنبلاط نفسه في كتبه ومؤلفاته، وخاصة في الوثيقة المكتوبة بخط يده تحت عنوان: التربية والتعلّم والمعرفة، وممّا جاء فيها: “التربية إنما تعني في نظرنا تفاعل نهجين تربويين: – أحدهما يهدف إلى صقل العقل وتنظيمه وشحنه بالمعلومات اللازمة. في هذا الحقل تنظيم العقل وتدريبه وتفتحه وصهره في اتجاه الانتظام والقَيم هو أهمّ من تعبئته بما يرد في كتب العلم والأدب والفلسفة والتاريخ. – والثاني : يقصد تهذيب العاطفة والتصرّف… والإنسان لا يكتمل – وقلة هم الذين ينعمون طبعاً بهذا الاكتمال – أو بالحري لا يتجه المرء نحو الاكتمال إلاّ إذا وقع الانسجام الباطني والظاهري بين العقل والقلب. إذ أنه لا يستطيع أحد أن يرتفع في سلّم الإنسانية، ولا أن يتحقق في معراج المعرفة الحقيقية وتكوين الفردية الزاخرة بالنشاط وبالاستيعاب وبالقوة وبالحكمة إلا إذا حصل هذا التوافق الأصيل بين عقلانية الفكر وتسلسل عقده وقلاداته وبين اندفاع العاطفة وتوقها وشوقها الملهف نحو الحق والخير والجمال”. (صورة الوثيقة وغيرها من الوثائق موجودة في كتابي: التقاطع المعرفي بين ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط، ص 45).
هذه الوثيقة من أدبيات كمال جنبلاط، وهناك وثائق أخرى ومن بينها وثيقة عن “قضايا التربية والثقافة”. عندما يقول قضايا ومفردها قضية يعني هناك مشكلة بحاجة للحل، لأن، وحسب التعريف العلمي، “القضية بين خصمين، الأمر له أو عليه، وأوجبه وألزمه به. قول القضية يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، الذي يقبل به أهل العلم من القضايا أو المقدمات التي لا تتطلب برهاناً خاصاً”. التعريف يطرح أسئلة تستحق البحث: من هما الخصمان؟ ومن الذي ألزمنا بمنهجية الثقافة والتربية السائدة عندنا؟ هل هو قول صادق أم لا؟ هل القضية لا تتطلب برهاناً خاصاً ليقبل به أهل العلم؟”. هذه الأسئلة وغيرها، وإعلان كمال جنبلاط، في وثيقته، عن وجود قضية لا بل قضايا، يدفعنا للبحث في التربية والثقافة والتعلّم. تعتمد التربية في مرحلة ما قبل سن الرشد (قاعدة الشخصية الأساسية)، لكن عملية التربية دائمة ومستمرة مدى الحياة. قبل سن الرشد المعلّم هو الراشد، أو الأب والأم أو المدرّس في المدرسة، وبعدها الإنسان تلميذ دائم في مدرسة الحياة، حسب مفهوم كمال جنبلاط. التربية والتعليم يسمّيها التربية والتعلّم، لأنّ في التعلّم ما يفوق ويوحي بأكثر من الإسقاط أو ارتهان الصغار من قبل الكبار.

كمال جنبلاط ليس فقط معلم التربية والتعلّم والمعرفة، إنما أيضاً هو معلم الحكمة الرفيعة العالية، كما يقول عنه المستشرق الفرنسي جاك كولون، وكما يقول جنبلاط نفسه “غاية العلم هي معرفة الحقيقة، معرفة الحقيقة الأخيرة للوجود”، إذا تجاوزنا العلم الظاهري ومبتكراته إلى العلم على أنه وليد العقل واستنباط شرائعه ويطلب وحدة الجوهر. وهنا يظهر التمييز بين العلم والمعرفة الحقيقية من خلال طرح جنبلاط “إننا وصلنا إلى ما يسمى “عصر الآلة‘، الآلة التي كان الهدف منها خدمة الإنسان، أي أنها وسيلة والإنسان غاية. لكن في غياب المعرفة الحقيقية والتقهقر في المجال الروحي، أصبحت القاعدة معكوسة، أي الإنسان وسيلة والآلة غاية”.
على العلم أن يتوجّه إلى الإنسان وتحقيق إنسانيته، لأنه، حسب مرجعيتنا، “إذا اقتصر على الوجه التطبيقي فقط يكون خطراً على الإنسان وعلى الجماعة وعلى الحضارة.. وهذا العلم السطحي الخاطىء شرّ من الجهل”. لقد أدرك غاية العلم الأساسية والمعرفة الحقيقية، حيث يقول: “أن نكتشف أي أن نعرف الأصل الذي منه تتفرّع سائر الأغصان والمصدر الذي تعود إليه ومنه تنبثق جميع الأسباب والعلل والمصادر.. العلم يطلب وحدة الجوهر، ويسلك إلى ذلك معارج علوم المادة، ولكن أي جوهر مادي هذا الذي يتبخّر أمامنا ويصبح طاقة لطيفة”.

هذا الحديث المختصر في موضوع التربية والتعلّم والمعرفة يؤكد لنا مرجعية كمال جنبلاط ومعرفته الحقيقية، علّنا نجد طاقة نور تنير أيامنا وتعرُّجاتنا الحاضرة والمستقبلية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خلوة الشاوي
وحي وإلهام – تصوف ويوغا
صبحي الدبيسي  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قد تكون الرحلات المتكررة التي قام بها المعلم كمال جنبلاط إلى الهند، وإعجابه بقدرة المهاتما غاندي على الجمع بين واقعية رجل السياسة المحنك ومثالية المفكر الديني الزاهد. وأسلوب المعلم سري أتمانندا بمقاربته لتفسير سر الوجود بمنطق وحكمة مبسطة. وتقديره مشاركة المثقفين الهنود إلى جانب العمّال والمستخدمين في القطاعات التي يعملون بها بموجب المرسوم الذي أصدره رئيس الوزراء جلال نهرو بعدم تسليم شهادة التخرّج للذين ينهون دراستهم الثانوية إلا بعد عام من العمل التطبيقي في الريف. كانت هي الدافع لاختياره منطقة الشاوي الجبلية الكائنة ضمن خراج بلدة مرستي في أعالي الشوف كي يشيّد فيها صومعته، أو خلوته الشهيرة التي عرفت فيما بعد بـ “خلوة الشاوي” في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. في وقت لم تكن الطريق المعبدة قد وصلت بعد إلى تلك المحلة، ولا إلى القرى المجاورة لها. فقد كان عليه في بداية الأمر أن يمضي ساعتين من الوقت سيراً على الأقدام كي يصل إلى خلوته مصطحباً معه مرافقه الخاص لمساعدته في حمل ما يحتاجه من أمتعة ومستلزمات المدة التي سيمضيها في أحضان الطبيعة، وما تتطلبه من غذاء وكساء وكتب وملفات. من دون أن ينسى قنينة الكاز لإضاءة قنديل النمرة أربعة رفيق سهره وقراءاته وأبحاثه التي لا تنتهي.
المشوار الى الشاوي كان يبدأه المعلم كل نهار خميس عصراً، بعيد وصوله الى المختارة. وكان عليه أن يقطع المسافة من المختارة إلى مرستي سيراً على الأقدام. وفي منتصف الخمسينيات وبعد تعبيد الطريق إلى بعذران أصبحت السيارة تقله من المختارة مروراً بـ عين قني وعماطور فبعذران وصولاً إلى الخريبة، فيترجّل منها هناك ويأمر سائقه بالعودة الى حيث أتى، على أن يوافيه إلى الخريبة مساء يوم الجمعة. ثم يقطع المسافة الى خلوته ممارساً بذلك رياضة المشي التي كان يميل إليها في كل تحركاته. وبقي على هذه الحال الى أن وصلت الطريق إلى مرستي في العام 1957. هذه المسافة التي كان على المعلم أن يقطعها بين أحضان الطبيعة وعلى الدروب الجبلية، زادته تعلقاً بالأرض، وتحسساً بتعب الإنسان البسيط العامل في حقله، يكدح ويشقى لتحصيل قوته وقوت عياله، في الزراعة والحراثة، وفي الحصاد وجني الغلال فانجذب إليه بدافع إنساني قل مثيله، جعله المحور ونقطة الدائرة في أدبياته الفكرية والسياسية. فمن رائحة الزعتر والقصعين والنعناع والياسمين، والورد الجوري، وزهر اللوز والوزال والقندول، وأشجار الصنوبر والشربين التي تملأ الطبيعية وتحيط بخلوته وبستانه المغروس بأشجار الكرز، وكل أنواع الفاكهة. هذه الروائح الطيبة والعطرة لونت أيام المعلم ولياليه، ورسمت لمقلتيه الناعستين اللتين تشعّان ذكاء وفطنة حدوداً لها بين السماء والأرض، مستلهماً من قمم الباروك العظمة والمجد، ومن أرزه الخالد العزة والعنفوان. تلك المناظر الخلابة هي التي منحته الصفاء النفسي والهدوء الطبعي والإنساني، بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها رغم ميله الشديد لها وتوقه الدائم للتغيير من أجل الإنسان، فجعلته أكثر التصاقاً بها لدرجة أنه لم ينقطع عن المجيء الى الشاوي إلاّ في أوقات الضرورة ولدى وجوده خارج البلاد. هذا التناغم الروحي مع الطبيعة، عرف المعلم كيف يوفق بينه وبين السياسة وانشغالاتها طوال الأسبوع. فشكلت الشاوي وما يحيط بها من جبال وتلال ووهاد، بالنسبة له مادتين للعشق السرمدي اللامتناهي، تمثلت الأولى بحبه للأرض التي شوهد أكثر من مرة يتلمس ترابها موزّعاً قسماً من خيراتها على الفقراء والمعوزين. الثانية: حبه للإنسان الذي خصّ له ثورة في عالمه الملموس والمحسوس رافقته حتى الرمق الأخير. ومن دون شك فإن مواظبة المعلم على الحضور إلى الشاوي كانت لها رمزيتها الفريدة التي يمكن استخلاصها من خلال شغفه في ممارسة هواياته من الرياضات الروحية والفلسفية والفكرية المتعددة في هدأة الطبيعة وسكونها، وهذا الأمر لا يتأمن إلا في مكان هادئ مثل الشاوي. فهي كانت تحرره من كل شيء وتفتح لمخيلته آفاقاً جديدة مكّنته من سبر أغوار فلسفات الشعوب قديمها وجديدها.
لدى وصول المعلم الى الشاوي كان يستريح قليلاً قبل أن يبدأ برياضته الروحية التي كان يصرف جزءاً منها بالتأمل لحل ما كان مستعصياً لديه من ترسبات سياسية ومشاكل اجتماعية. وقبل مغيب الشمس صيفاً كان يخرج الى شرفة الخلوة لتناول وجبة العشاء التي كانت بسيطة جداً. فالمعروف عن المعلم كان يأكل فقط لسّد الرمق، وكان نباتياً من الدرجة الأولى. وفي الخريف والشتاء كان يتناول وجباته داخل خلوته. أما غذاؤه الروحي فهو من المخزون الروحي الذي جمعه من الخواص العلمية والفلسفية التي استنبطها من الأديان السماوية فسهلت عليه، كما يقول الشيوخ العقلاء الذي كان يلتقيهم ويأنس إلى حديثهم الولوج إلى معارج الذات الإلهية. فمن هنا كنا نجد ميله إلى الهدوء والروية وعدم الانفعالية بخلاف غيره من السياسيين الذين أتوا من قبله ومن بعده.
مارس المعلم في الشاوي كل أنواع اليوغا الهندية، فصقلت مخيلته الى حدود الصفاء الذهني والفكري. ملزماً نفسه الصوم طيلة نهار الجمعة. وغالباً ما كان يستقبل وفوداً من الحكماء والفلاسفة والمشايخ الضالعين في العلوم الدينية للتباحث معهم في الماورائيات، ونظرتهم الفلسفية لهذا الوجود.
في تنقلاته بين التلال والآكام وصعوده المستمر إلى أعالي الجبال في ساعات الفجر كان المعلم يجمع كل ما يصادفه في طريقه من النباتات التي تصلح لتكون طعاماً أو دواء يشفي من كل داء. وغالباً ما كان يصفها للناس. في إحدى جلساته إلى المائدة وحوله رهط من العلماء زحفت إلى المكان أفعى من نوع الصل، فارتعب منها كل مَن كان حاضراً، فأمرهم بالهدوء وصار يحدّثها ثم قدّم لها قطعة خبز مدهونة باللبنة فالتهمتها كما يلتهم القط الخبز وعادت من حيث أتت. ما يعني أن علاقة المعلم مع البيئة والطبيعة وما عليها معروفة ومشهود له بها.
في خلوة الشاوي كتب المعلم معظم مقالاته السياسية والفكرية والفلسفية والروحية والشعرية. فكما أن المهاتما غاندي قبل وفاته بيوم واحد رمى بكسرة المرآة التي كان يستعين بها لحلاقة ذقنه. فإن المعلم أنهى كتاب هذه وصيتي بجملته الشهيرة “أللهم أشهد إني قد بلّغت” وغادر الشاوي وذهب إلى قَدَره ولعله يراها من عليائه حيث هو..

خلوة الشاوي في مرستي الشوف حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها
خلوة الشاوي في مرستي الشوف
حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” اعتذار من كمال جنبلاط، مكتشفاً
من جديد
يقظان التقي ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كمال جنبلاط من كبار الكتٌاب، وصولاً إلى التأملات اللاهوتية والمقاربات الفلسفية والأدبية والسياسية النقدية.
لا بدّ من الاعتذار من كمال جنبلاط، لأنه شخصية تحتاج دائماً إلى إعادة القراءة وعلى مستويات مختلفة ومتطوّرة. فهو من الذين يمثلون الاتجاهات النيوكلاسيكية وبالنزعة التقديمية، التي لا تجافي الاتجاهات والمدارس الفكرية والفلسفية على اختلافها، سواء التي سادت في القرن العشرين، أو تلك التي تمثل الاتجاهات المادية والروحية والتاريخية.
مع ذلك، كمال جنبلاط أمامنا، شخصية من الواقع، ويعيش فينا في اتجاهات عدّة، ننتظرها أن تأتي من ستينات القرن الماضي، من عمق التجربة، ومع كلّ التعاطف مع شخصيتة، وهو من الكبار. فهو لبناني وعربي وعالمي، “كوسموبوليتكي”، بقِيم العالمية الإنسانية والاشتراكية، مؤمن بالعمق، وممارس للسياسة بدواعي الحرية والكرامة الإنسانية، وحرية الشخص في المضامين الروحية النبيلة للعملية السياسة.
لم يبتعد عنا كثيراً، تبرز رؤاه ورسائله التي نشرها، وتُقرأ اليوم بكامل نضارتها، مباشرة، من دون إقناع أيديولوجي، أو حزبي، ولا “وعظ”، ولا نرجسية سياسية، ولا تصنُّع، وبردّ فعل من الـتأمل، أو النقد؛ لأنها تمثل الجوانب التي يفترض أن تحتل المساحة الحزبية النقدية والفكرية والفلسفية والسياسية واليسارية. ثم هي ليست مجرد وسائل تعبير، بل أكثر من ذلك، هي تمثل الاتجاهات التي سادت قبل استشهاده وتصنع أكثر من مرحلة، وهو الذي دفع ثمن رؤاه الاستراتيجية على مستوى شخصيته، التزاماته، لمعانه، طروحاته، رسائله، ثقته بالمنطق والعقل لدرجة أنه مارس السياسة أحيانا بطريقة لاهوتية!
كمال جنبلاط يضع أمامنا أفكاراً “كبيرة”، أفكار لا تعقيد فيها، ولا مصطلحات جافة، بل حاضنة للاتجاهات الجديدة، وتشكّل رسائل إلى الجيل الجديد، وتصلح مادة بنيوية وتحليلية تفكّك كليشيات ونظريات أيديولوجية تسقط على الواقع، وتفجّر مراحل سياسية مهمة. وتكتشف إبداعية كمال جنبلاط السياسية التي تأتي من القلب إلى القلب، من جبهة أفكار مفتوحة على كل هذا الجديد وبقدرات فكرية تتفوق على سواها، بعكس كثيرين تشوشت عليهم القضايا الكبرى والمآزق التاريخية، وأوضاع الشعوب المقهورة.
رسم كمال جنبلاط عالمه وعالمنا الفكري والسياسي والثقافي المفتوح، والتقدمي في مجمل نزعاته، ويبدو اليوم أكثر من الأمس مبدعاً في كتاباته، ويحتل تلك المساحة المرموقة ومن كبارها.
عمارة فكرية وإنسانية كبرى، كمال جنبلاط، وكم تبدو ضحلة الحياة السياسية في غيابه، لا تخرج عن الأفقية والاستهلاكية. كأنها ديمقراطية السوق!
وكم تبدو واسعة تلك الآفاق التي فتحها لكلّ النقاشات السياسية، نتلّمس في ظلها الطريق. ويبقى لنتاجه قدرة نادرة على التوغل في الضمير الإنساني.
نحتاج لقراءته، وذلك لا يستقيم إلا بقراءة الماضي ومع ثقافة لا تتوقف ولا تنتهي، ولا تنتجها الذات للذات، في عصر النرجسية السياسية، بل تذهب إلى الآخر.
كمال جنبلاط كان يقرأ كثيراً، ويتحوّل الكتاب بين يديه إلى الكتاب “السحري المشع”، إلى كل ما يصنع مسرح الحياة؛ السهل الممتنع؛ وكل ما فيه من أفكار “كبيرة”. ممتعةٌ قراءة نتاج هذا المثقف الظاهرة التي ما تزال تحتل المساحة النقدية والفكرية والسياسية المهمة، خارج منطق العولمة وهو الذي انفتح على كلّ جديد في المسرح السياسي الحديث، والفكر، والبيئة، والأدب، والشعر الحديث.. وبقي مع ذلك خارج الانخراط، لجهة تكريس ثقافة الاستهلاك والسوق على حساب حرّية الإنسان وكرامته وفي مواجهة عودة الأجوبة الماضوية، التي لا تقدّم أفكاراً جديدة، وخارج محاكاة الآخر.
الرجوع إلى كمال جنبلاط مُلِحّ، سيّما في ظل هذا الفراغ الذي هو كلّ شيء إلا السياسة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
«المفكر الديني»
أ.د.محمّد شيّا
عميد سابق في الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يفتتح ماركس رسالته إلى أنجلز بالتساؤل “لماذا يبدو تاريخ الشرق على الدوام تاريخ أديان فحسب؟” (Basic writings, Collins, p. 462). لماذا يستحيل فهم هذا التاريخ خارج الدين والديني؟ ولماذا أخفقت محاولات إقصاء الدين “بالقوة” من ديناميات الحياة الاجتماعية في البلدان الشرقية والمشرقية؟ بل لماذا تحوّلت مجتمعات البلدان تلك الأكثر إقصاء للدين إلى مسرح صارخ لأكثر صور تظهير المشهد الديني والطائفي بشاعة – أي من النقيض إلى النقيض؟ ومن الأمثلة المعاصرة، بل الراهنة جداً ما يكفي، ولا حاجة لتعدادها.
“الشكوى الماركسية” هي في الواقع نتاج منطقي لكل تفسير مادي للوجود والمجتمع والحياة بعامة. والذين أصرّوا من المحدثين العرب على هذا التفسير حكموا على نتائج تحليلاتهم – وكما أثبتت الوقائع الملموسة – بالإغراق في التجريد واللاواقعية، وبهامشية تأثيرهم من ثمة في محيطهم ومجتمعاتهم. لقد أهمل أولئك جذرية “فكرة” الدين، والتسامي الإلهي في العمق الروحي للبشر وفي كل مجتمع دون استثناء، ولطالما أكّد علماء الأنثربولوجيا أن ما من جماعة بشرية على الإطلاق، ومهما تدنّى حجمها، إلا وكان لها “حياتها” الدينية.
لا يعني ما نقوله أن حياة المجتمعات الشرقية هي حياة دينية فحسب. فأفكار البشر ورؤاهم، حتى الدينية، تتنوع بتنوع ظروف حياتهم وأنماط إنتاجهم وطبيعة حاجاتهم وأشكال مصالحهم وعلاقاتهم بالتالي. وعليه، فمستويات الإنسان (والبشرية بعامة) تتدرج، طبيعياً وتاريخياً، من الأدنى إلى الأعلى: من الاكتفاء بمجرد تلبية الحاجات المادية (مستوى الحواس والمادة والجسد) إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والمجتمعية (مستوى الآخر والعائلة والجماعة) وأخيراً إلى تلبية ما هو أكثر من المادة والحواس والآخر المباشر (مستوى المعرفة والتفكير والقيم والشوق والحكمة والفضيلة) أي مستوى الروح و/أو العقل، وفق التحديد الهيجلي، وهما مسرح حركة العقل والدين والفلسفة و”الشوق” الأبدي للخلاص البشري.
هذا هو جوهر فلسفة كمال جنبلاط الدينية. كل “الأجزاء” التي عرضنا لها، هي مجرد لحظات متعاقبة في مسيرة العقل/الروح من أدنى تجلياته المادية والحسية (وهي حقيقية تماماً وبخلاف ما ذهب إليه المثاليون) وصولاً إلى أعلى تجلياته العقلية وأشواقه الروحية على طريق انكشاف العقل/الروح لمريديه وباعتباره الآن عقلاً/روحاً خالصاُ وليس أي شيء أقل من ذلك. ودعْكَ من التفاصيل والتناقضات الظاهرة، فهي مجرد مستويات ولحظات وإشارات في طريق الخلاص الذي استشعره الإنسان (في أولى أشكال حياته) ولا يزال يعبّر عنه وفق مستوى حياته وفهمه وتفكيره وصولاً إلى انعتاقه في نهاية رحلته من ربقة المادة (وربقة الشرّ أيضاً) والتحقق في جوهر العقل/الروح كما هو تماماً، وهي لحظة الحقيقة واليقين الكلي والخير المطلق التي ما انفك الإنسان يطلبها ويسعى إليها في حياته وأفكاره وعلومه وأنماط حضارته، كما في أحاسيسه وأشواقه الأكثر عمقاً وأصالة واشتراكاً بين البشر، والمعبّر عنها – في حدود ما يسمح التعبير – بحكمة الفلاسفة الكبار وتقوى المتدينين وعشق العارفين.
والدين في الحقيقة هو كل ذلك وفي آن معاً – وهو ما أدهش عقل ماركس المادي.
يرى جنبلاط أن الدين للإنسان هو حاجة وضرورة، ولذلك فـ “هو باقٍ ما بقي الإنسان”. وذهب جنبلاط بعيداً في ترجمة ذلك، على نحو ملموس، فاعتبر أنّ الدين إسّ جوهري من أسس المجتمع الشرقي، والإنساني بعامة، “اعتبار الدين إسّاً جوهرياً في قيام المجتمع الأسمى”، وأضاف، “والترحيب بعمل رجاله في نشر مبادئ الكمال الإنساني”. تلك هي الوظيفة الحقيقية للدين، ولرجل الدين، ولا شيء كما تبيّن يباري الدين أو يفوقه في الوظيفة تلك. وليس بالأمر العرضي بالتالي أن يدعو كمال جنبلاط في ميثاق حزبه، كما في محاولاته في أثناء تولّيه وزارة التربية، لتعميم التعليم الديني الموحّد في المدارس الخاصة والعامة. فتلك وسيلة لا بدّ منها لتهذيب وترقية مشاعر الناشئة وتعزيز البذرة الإلهية في نفوسهم وعقولهم وشخصياتهم المستقبلية في وجه التسليع الاستهلاكي التجاري الذي باتت عليه نظرة الحضارة الغربية المادية إلى الإنسان. وهو في رأي جنبلاط مكمن عجز الحضارة الغربية كما الفلسفات الغربية بعامة، يقول جنبلاط في نص من ستينات القرن الماضي:
“لقد تحوّل الغرب عن الأديان وأبدل المعتقدات بالفلسفة – فلسفة هيجل وكانت وفيتشه والتومائي وماركس وغيرهم وغيرهم ممن لا يعدّون ولا يحصون، وفلسفة أنبياء القومية والدولية والوجودية والطبقية على السواء – فإذا بالغرب، وبعد جهد المحاولة وتحقيق الرغبة يتطلّع إلى نفسه فيجد ذاته حيث كان: لم يتقدّم خطوة ولم يتأخر خطوة من وجهة حلّ معضلته الأساسية مع ذاته: معضلة المعرفة، ومعضلة السعادة…” (ثورة في عالم الإنسان، 319-320)
لكن جنبلاط بالمقابل، ومن ناحية مختلفة تماماً، كان يدرك تماماً مخاطر انحراف التديّن، ورجل الدين، عن وظيفتيهما الثابتتين الساميتين، نحو وظائف جديدة فرضتها مصالح وعصبيات وتوظيفات جديدة للدين والديني في سياقات فئوية أو عصبية أو أيديولوجية، أي طائفية بالتعبير السوسيولوجي الراهن، أو في لغة جنبلاط:
“الخطر كل الخطر في الدين إذ ينزل إلى مستوى التجمع الطائفي الطقسي، أي في الحقيقة إلى مستوى التعصّب السياسي، فلا يعودُ ديناً بل حزباً!” (321)
ومن المؤسف حقاً – وإلى درجة المأساة – أن يذهب مشروع كمال جنبلاط نفسه، الاجتماعي الإصلاحي الخلاصي وحتى درجة التسامي، ضحية التجييش الطائفي الذي هو أقرب، في الحقيقة، إلى ثقافة الوثنيين وعصبياتهم ومصالحهم المادية والسياسية منه إلى ثقافة الدين، كل دين، في جوهره وفي حضّه البشر للتخلص من أنانياتهم وفئوياتهم ومصالحهم الصغيرة على طريق وحدتهم الجوهرية واشتراكهم في مطلب الخلاص من أخطائهم وخطاياهم وآثامهم – وأولها عبادتهم للأنا فيهم على حساب وحدتهم وخيرهم الواحد وخلاصهم كأفراد وكبشر. تلك هي مأساة الذين لم يفهموا الدعوة المحمدية، أو الدعوة الناصرية، حق المعرفة، أو الذين فهموهما ولكنهم غلّبوا المصالح الفئوية والآنية المفرّقة على ما يجمّع ويوحّد – جوهر دعوتي الرسول العربي ويسوع الناصري في آن، يقول جنبلاط:
“لنصغِ إلى صوت محمّد في لغة العرب الصافية التي تتجلى بالآيات، على حد تعبير ماسينيون، دائماً وأبداً: من كان له فضل ظهر فليعد به من لا ظهر له، ومن يكن له فضل زاد فليعد به من لا زاد له…، ومن كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، بخامس…. أو قوله: ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع، وهو يعلم….. ومن أروع الأحاديث: إن ما لك ما أكلتَ وأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأبقيت، وما دون ذلك فلغيرك” (153).
ويضيف:
“وهذا صوت الناصري من قبل، يوصي بالعدل والرحمة وبالمحبة التي لا تطلب لها ثواباً أو مقابلاً، يرجم أغنياء الأرض الذين تعلّقوا بالمال كما يربطُ المرء حجر الطاحون في عنقه، ولم يقوموا بما يتوجب عليهم في بناء مجتمع العدالة والأخوّة والتضامن والتعاضد والتكافؤ في فرص العيش والتنمية لكل فرد” (153).
في هذا البُعد الاجتماعي السامي تقوم أهمية الدين واختبارته ووظائفه، وفق كمال جنبلاط. وهي تلتقي كذلك في المعراج المعرفي/الخلاصي الأسمى، حيث التوحيد جذر مشترك وجوهر جامع للنصرانية والإسلام، كما لكلّ مسلك عرفاني. في التوحيد الجامع ذاك نختم هذه المقالة في كمال جنبلاط “المفكّر الديني” إذ يقول، وبكثير من التفاؤل:
“الموحّدون من كلّ أمة ومن كلّ دين أخوة في ما بينهم، أمة روحية واحدة مهما اختلفت العقائد والمذاهب وتباينت المسالك وتعدّدت السلالم والمعارج. هذا هو إنجيل الجيل الجديد، وهذا هو روح العالم الجديد” (12).

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

ملف العدد