يوثيفرو
سقراط يحرج مدعي المعرفة بالتقوى والقداسة
يوثيفرو: كل ما يرضي الآلهة هو من أعمـــــــال التقوى
سقراط: لكنهم كما تقول يختلفون ويتقاتلون فكيف نعرف؟
سؤال محيِّر من سقراط إلى محاوره : هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبوب من الآلـهة؟
هناك تعريف شهير لسقراط يقول فيه إن “المعرفة الحقيقية هي أن يعرف المرء أنه لا يعرف شيئاً” وبالطبع قليلون ربما يدركون المعنى البعيد لهذا التعريف وربما استحسن البعض استخدام سقراط للكلمات واستخدامه لأسلوب المفارقة لكي يحضّ الناس على ترك ما يعتقدونه ويفكروا بطريقة جديدة. الهدف الحقيقي لسقراط هو أن يبيّن أن المعرفة الحقيقية وهي معرفة ما يتعدى الظواهر لا تحصل إلا لمن طهر باطنه من كل العلوم السابقة وكل الأفكار والتصورات والأوهام، وبات في حال من الفراغ يقول فيه فعلاً وعن قناعة راسخة أنه «لا يعرف شيئاً” فإذا بلغ هذا القدر من كمال “التخلية” فإنه يصبح عندها مثل صفحة بيضاء قابلاً لتلقي العلم اللدني وهو العلم الحقيقي غالباً من مرشد كامل إجتاز كل مراقي التحقق العرفاني.
كانت رسالة سقراط في الحياة لذلك هي تقديم البراهين على خواء العلوم الكتبية ومدارك المنطق والعلوم الظاهرة مشيراً على الدوام إلى «علم العلوم” كلها وهو إن كان لك حظ الحصول عليه فإنك ستبلغ من خلاله معرفة كافة العلوم والحقائق الظاهرة والباطنة.
في محاورة يوثيفرو يقدم أفلاطون نموذجاً بارزاً بل وساطعاً على الأسلوب السقراطي في إظهار سهولة الوقوع في وهم “المعرفة” وكيف يمكن للمرء أن يكون تحت سلطان الوهم وهو مقتنع بل واثق تماماً من أنه على العكس إنما يمتلك أعلى درجات المعارف. وكون المرء يعتقد أنه يعرف (وهو لا يعرف) هو أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب الناس، وبما أن أكثر الناس هم مثل بطل محاورة يوثيفرو يعتقدون أنهم يعلمون وهم في الحقيقة لا يعلمون، وبما أنه لا يوجد دوماً مرجع مؤتمن (مثل الحكيم أو إمام العقل) يحكم بينهم فيجمعهم على الصواب والحقائق، فإننا سنجد الناس دوماً في صراعات والمجتمعات في تناحر دائم «كل حزب بما لديهم فرحون» حسب قول القرآن الكريم (الروم:32). وسنلاحظ أن سقراط، كما في أكثر محاورات أفلاطون لا يعطي بنفسه الجواب على السؤال الذي أحرج مدعي المعرفة يوثيفرو لأن القصد الأهم لسقراط هو التأكيد على نسبية المعارف الإنسانية وإظهار حدودها وليس تقديم الجواب العرفاني على المسائل. بذلك تنتهي محاورة يوثيفرو ليس بجواب شاف من سقراط بل بتخلص يوثيفرو من المأزق الذي أوقع نفسه فيه عبر اختلاق عذر للإنسحاب من المواجهة.
المحاورة
تعتبر محاورة «يوثيفرو» لأفلاطون بين الأعمال المبكرة التي كتبها والتي تركز بصورة خاصة على تقديم الحكيم سقراط وقد كتبت على الأرجح في العام 308 قبل الميلاد بعد موت الحكيم تنفيذ الحكم المحكمة الأثينية. والمحاورة تدور كلها حول لقاء بالصدفة بين سقراط وبين يوثيفرو على مدخل محكمة أثينا المتخصصة في الشأن الديني وقد تطور اللقاء إلى محاورة مهمة بين الحكيم سقراط وبين يوثيفرو الذي بدا للحكيم بمجرد أن بدأ الحديث مثقفاً سطحياً لكنه يعتقد في نفسه ميزات فريدة.
المفارقة الأهم اللافتة في يوثيفرو هي أن الرجلين حضرا للمثول أمام المحكمة نفسها لكن لسببين مختلفين، فسقراط استدعي بسبب إدعاء أحد مواطني أثينا ويدعى ميليتوس عليه بتهمة إفساد الشباب، وميليتوس هذا شخص مغرور لا شأن له لكن من مفارقات الديمقراطية الأثينية أن التهمة التي بدت مجرد تصرف وقح ضد حكيم أثينا الأكثر شعبية في زمانه عادت وتفاعلت لتؤدي إلى الحكم عليه بالموت بتجرع السم..
أما يوثيفرو مدعي الحكمة والعلم بكل شيء فقد لفت سقراط أنه حضر إلى المحكمة لتقديم دعوى ضد والده بتهمة قتل أحد العمال الذين كانوا يساعدون يوثيفرو في أعمال الزراعة. حقيقة الأمر في شكوى يوثيفرو هي أن عاملاً زراعياً كان يعمل عند الأخير قام وهو في حالة سكر بذبح عامل آخر وهو أمر أغضب والد يوثيفرو فقام بتقييد القاتل بسلاسل ورماه في جب، وأرسل في طلب المحقق لكي يوثق الجريمة ويتابع أمر العقوبة لكن قبل أن يصل المحقق إلى دار والد يوثيفرو كان الرجل قد مات من البرد والجوع في حفرة التراب. المفارقة التي قصد أفلاطون التشديد عليها هي التناقض البديهي بين شخصية من يعلم وشخصية من لا يعلم ويعتقد أنه يعلم. فسقراط أتى المحكمة متَّهَماً لأنه لفرط شعبيته خصوصاً بين الأجيال الشابة جعل الكثيرين في أثينا يخافون تأثيره ويسعون لإسكاته. وقد كان هذا سبب وجوده أمام المحكمة ربما تمهيداً لاستجوابه من قاضي الشؤون الدينية في التهم الموجهة إليه من خصومه. أما يوثيفرو فقد كان سبب وجوده في المحكمة أنه جاء ليدعي على والده بتهمة القتل وهو يعتقد أنه إنما يعمل بذلك وفق مبدأ التقوى وأخذ جانب الحق والعدل. ونحن نعرف من سياق القصة أن والد يوثيفرو لم يرتكب جريمة القتل وإنما قام باعتقال القاتل الذي ذبح عاملاً آخر وألقى به في حفرة مقيداً في انتظار وصول المحقق لكي يتخذ الإجراءات اللازمة. ويبدو أن الرجل لم يستطع تحمل البرد ونقص الطعام فمات قبل وصول المحقق. وبما أن يوثيفرو يعلم كل تلك التفاصيل فإن سعيه لملاحقة والده بتهمة القتل يمثل عنواناً لمدعي العلم يفرقه بوضوح وهو أنه يعتقد فعلاً أنه على الصواب في وقت يبدو ضلاله جلياً لكل من لديه حد أدنى من التمييز.
كأن أفلاطون يريد عبر شخصية يوثيفرو أن يعطينا فكرة عن انتشار الحماقة بين الناس وندرة الحكمة والعقلاء وكأن الذين حضروا في محكمة أثينا لينتهوا بإدانته بصورة اعتباطية لا يختلفون كثيراً عن يوثيفرو فهم مثله يظهرون ثقة كبيرة في ما يعتقدونه ولا يبدون مهتمين بالأخذ ممن يتقدمهم معرفة أو خبرة، وهم مستعدون (كما هي حال العوام دوماً) لإتباع الهوى وغالباً ما ينجم عن اجتماعهم شتى أنواع الكوارث والمظالم، أما زعماؤهم فهم كالأعمى الذي يقود عمياناً. ومثل كل من يتبع الهوى فإن يوثيفرو سيبدو لنا بعد قليل من تطور الحوار شخصاً تناقض أعماله ما يدعيه من إلمام بالحكمة وبالمعارف.
تبدأ المحاورة بإظهار يوثيفرو استغرابه لوجود سقراط في المحكمة، ويداخله الشك بأن أحداً ما ربما يدعي عليه بأمر إذ إن سقراط حسبما يعلم يوثيفرو لا يمكن أن يأتي المحكمة ليدعي على أي إنسان، لذلك فهو يبدأ بسؤال الحكيم عن طبيعة التهمة الموجهة إليه.
سقراط: ما هي التهمة؟ حسناً إنها تهمة جسيمة
يبدأ سقراط الإجابة بلهجة ساخرة فهو يقول: إن ميليتوس يجب أن لا يلام لاتهامنا بإفساد الشباب، لأن الرجل يعلم من الذين يتم إفسادهم ومن هم المفسدون فهذا الرجل يجعل أول همه مصير الشباب ويسعى لإزالتنا نحن الذين نقوم بتدميرهم.
يعود يوثيفرو إلى السؤال: ولكن حسب هذا الرجل ما هي الكيفية التي تقوم أنت فيها بإفساد عقول الشباب؟
سقراط: إنه يأتي بتهمة رائعة ضدي، وهو يقول عني إنني شاعر أو إنني أخترع آلهة جدداً وأنكر وجود الآلهة السابقين (آلهة أثينا) وهذا هو جوهر التهمة.
يوثيفرو: أفهم من ذلك يا سقراط، إن هدف الرجل هو أن يلصق بك تهمة الهرطقة أو الابتداع وأنه يريد أن يأخذك إلى المحكمة بهذه التهمة لمعرفته بأن هذا النوع من التهم يلقى فوراً آذاناً صاغية، وهذا أمر إختبرته بنفسي لأنني عندما أبلغ الناس عن الأمور الإلهية وأتنبأ بالمستقبل لهم فإنهم يسخرون مني ويرمونني بالجنون، هذا مع العلم أن كل كلمة أقولها هي الحقيقة لكنهم يحسدوننا ويجب علينا لذلك أن نكون شجعاناً وأن نردّ عليهم بقوة.
هنا يجعلنا أفلاطون نقرأ المكتوب من عنوانه كما يقال، إذ إن يوثيفرو من أول الطريق يضع نفسه في مصاف سقراط (إذ يقول: «يحسدوننا») وهو يبلغ الحكيم بشيء من السذاجة عن إحاطته بالعلوم الإلهية وقدرته التنبؤ بالمستقبل. بالطبع لا يوجد شخص حكيم يتفوّه بمثل هذه الادعاءات؛ وسنرى أن سقراط يبدأ بأن يجاري يوثيفرو في دعواه كما هو أسلوب الحكيم دوماً، إذ إنه لا يناقض محدثه ولا يبين له خطأه أو يسفّه تفكيره بل يقوده، من خلال أسلوبه الفريد في الحوار، ليكتشف بنفسه خطأ مقولاته وعندما يتضح للشخص خطأه فإنه على الأرجح يصبح مستعداً أكثر لتبين الحقيقة وللإستماع بصورة أفضل لسقراط والخضوع لأسلوبه في السير بمحدثه خطوة خطوة في طريق المعرفة.


“سقراط تعجّب لقيام يوثيفرو بملاحقة والده بتهمة القتل فسأله: هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وما هو إثم معرفة دقيقة؟”
سقراط: إن سخريتهم يا صديقي يوثيفرو لن تنال منك في شيء لأن الناس قد ترى في رجل ما حكيماً لكنهم لن يتعرضوا له بشيء إلى أن يبدأ بعرض حكمته على الآخرين، يحصل ذلك لسبب أم لآخر لكنه قد يكون شعور الحسد هو الذي يجعلهم ينقمون.
يوثيفرو: بالتأكيد، لذلك فإنني أسعى جهدي كي لا أستفزّهم بتلك الطريقة.
سقراط: أنت رجل رصين ومتحفظ في عرض حكمتك على الآخرين، لكن على العكس فإن لدي تلك العادة وهي أنني أقدم نفسي لكل الناس، حتى إنني قد أدفع المال لمن يرغب في الاستماع إليّ، وأخشى نتيجة ذلك أن ينظر الأثينيون إليّ باعتباري ثرثاراً. مع ذلك فإنهم لو اكتفوا بالهزء مني كما يهزأون منك لهان الأمر، لأنهم على الأرجح ينوون أمراً أكبر وهذا الأمر حتى قارئو المستقبل قد لا يفلحون في توقعه.
يوثيفرو: إنني لأجرؤ على القول إن هذه القضية ستنتهي بسلام وإنك يا سقراط ستربح الدعوى.
يظهر أفلاطون هنا أن يوثيفرو رجل مدع فعلاً فهو يتنبأ بأن سقراط سيربح القضية وهو عكس الذي سيحصل فعلاً. لكن الحكيم المشهور بحلمه وأناته يتابع الحوار مستفسراً عن سبب مجيء يوثيفرو إلى المحكمة وهل هو مدعٍ أم مدعى عليه.
يوثيفرو: ربما تظنني مجنوناً إن أخبرتك.
سقراط: لماذا هل للمتهم الفار أجنحة؟
يوثيفرو: إنه والدي.
سقراط : وما هي التهمة؟
يوثيفرو: القتل.
يحاول سقراط كبت شعور الدهشة الذي يعتريه وهو يرى هذا الشاب يلاحق والده بتهمة خطيرة وهو أمر مستهجن في الأعراف الأثينية لأن للوالد كرامة كبيرة وشبه قداسة في هرم الأسرة وفي المجتمع وهو يستحق الخضوع والاحترام التامين. لكن سقراط يغتنم الفرصة للبدء بالمحاورة وهو يستدرج يوثيفرو إلى الموضوع بإظهار العجب من عمل يوثيفرو الذي لا بدّ أن تكون لديه معرفة كبيرة بما هو حق وما هو باطل من الناحية الدينية لكي يقوم بهذا العمل غير المسبوق وهو ملاحقة والده أمام القضاء.
سقراط: لا بدّ لمن يقوم بمثل هذا العمل الجريء أن يكون رجلاً استثنائياً سار أشواطاً طويلة في طريق الحكمة !
يوافق يوثيفرو سقراط على فرضيته مؤكداً له أنه “ضليع جداً بمختلف شؤون الدين” فيتابع سقراط السؤال عن “الضحية” إذ لا بدّ أن تكون من أفراد أسرة يوثيفرو أو أقربائه لكي يكون غاضباً إلى حدّ ملاحقة والده، لكن يوثيفرو ينفي الأمر وشعور الغرور لديه على حاله فيقول:
يوثيفرو: عجباً يا سقراط، هل تريد أن تميز فعلاً في شأن الضحية بين من هو قريب ومن هو غريب؟ لأن شر القتل لا يتبدل وجوهر الموضوع هو هل أن الضحية قتلت لسبب وجيه أو ظلماً؟
بناء على سؤال من سقراط يشرح يوثيفرو تفاصيل الحادثة وكيف قام أحد عماله وكان تحت تأثير السكر الشديد بقتل زميل له، وقد نجم عن ذلك أن قام والد يوثيفرو الغاضب بتقييد القاتل بالسلاسل ورميه في حفرة ليومين أو ثلاثة ريثما يأتي المحقق لاستجوابه، وما حدث بعد ذلك من موت الرجل في الحفرة بتأثير البرد والجوع . واضح بالطبع أن والد يوثيفرو لم يقصد القتل وإن كان تصرف بغلظة بتأثير الجريمة التي ارتكبها العامل، لكن يوثيفرو يصرّ على ملاحقة والده والادعاء عليه لأنه بذلك (حسب ادعائه) يأخذ جانب التقوى والحق الإلهي، وهو يعترف لسقراط بأن والده وأسرته غاضبون عليه بسبب موقفه الشاذ، لأن من أكبر الآثام في أثينا أن يقوم ولد بملاحقة والده لكن يوثيفرو يؤكد لسقراط أنه لن يعبأ بكل هذا في سبيل سعيه لإحقاق الحق.
هنا يدخل سقراط في الموضوع بسؤال مهم:
سقراط: لكن هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وبين ما هو إثم معرفة دقيقة، وبناء على الظروف التي شرحتها لي ألست قلقاً من أن يكون أيضاً في ما تفعله من ادعاء على والدك إثم كبير؟
يوثيفرو: أفضل ما في يوثيفرو يا سقراط وما يميزه عن الآخرين هو أن علمه دقيق وصحيح في كل هذه الأمور وأي قيمة لي من دون هذا العلم؟
كل جملة جديدة يتفوه بها يوثيفرو تزيد المتابع اطلاعاً على شخصية مدعي العلم وهي الثقة التامة بعلمه وعدم قبوله للنصيحة أو استعداده لمناقشة ما يقوم به. وقد بلغ اعتداد يوثيفرو حداً لم يدع لسقراط تعليقاً سوى الطلب منه أن يكون مُعَلِّمه. وفي هذا الطلب بالطبع سخرية مبطنة من الحكيم ولكنه الطريق الذي سيأخذه ليكشف لمحاوره أنه لا يعلم شيئاً في الوقت الذي يظن نفسه أعلم العلماء.
سقراط: أيها الصديق النادر الوجود أعتقد أن أفضل شيء يحصل لي هو أن تقبلني مريداً!
هنا يتوسع سقراط في سبب سؤاله يوثيفرو أن يكون مرشداً له بالقول إن ذلك سيمثل دفاعاً جيداً له ضد تهمة ميليتوس لأنه سيتحدى الأخير عندئذ بالقول إنه مريد ليوثيفرو المفكر العظيم وإنه إذا كان يوثيفرو على صواب فإنه لا بدّ أن يكون هو على صواب أيضاً وإن كان ميليتوس والمحكمة يرون في أفكاره ما يستوجب الاتهام والعقوبة فإن يوثيفرو باعتباره «معلمه» أجدر بأن يلاحق ويتهم لأن سقراط لا يفعل سوى التعبير عن أفكار مرشده يوثيفرو!!
اللافت أن يوثيفرو يسارع إلى قبول سقراط تلميذاً له في بادرة تدل على أن جهله يقارب حدود الحماقة. لكن سقراط يمضي في خطة الحوار ويبدأ بصورة مواربة الدخول في جوهر الموضوع.
سقراط: إنني أرجوك أن تبين لي أولاً طبيعة التقوى وطبيعة نقيضها وهو الإثم أو الفساد وهي أمور قلت إنك تعرفها جيداً كما تعرف عن غيرها من أشكال الزلل في العلاقة مع الآلهة. أليست التقوى هي نفسها التي نجدها في كل عمل من الأعمال؟ وكذلك الإثم أو الضلالة أليس ذلك هو نفسه في كل الأعمال التي يمكن وصفها بأنها تناقض التقوى؟
يوثيفرو: التقوى هي أن تعمل كما أعمل، أي الإدعاء على الشخص المتهم بالقتل أو بأي إفساد في الأرض سواء كان المتهم والدك أو والدتك أو أي كان، فذلك يجب أن لا يحمل أي اختلاف في الحكم وبالتالي فإن عكس التقوى هي أن لا تلاحق هؤلاء الناس أمام المحكمة.
يتابع يوثيفرو فيعطي أمثلة من الأساطير اليونانية القديمة يعرض فيها لحالات قام فيها الولد بتقييد أبيه (الإله زويس ووالده (كرونوس) لأنه التهم أولاده، كذلك فعل كرونوس نفسه بوالده أورانوس.إذ قام بخصيه وهذا من الأفعال الفظيعة لولد بوالده، وهنا يبدي يوثيفرو وجهة نظر طريفة، إذ يقول: إذا كان يجوز للإله زويس تقييد والده وإذا جاز لكرونوس فعل أمر شنيع بوالده الواجب أن يعلن الناس تأييدهم له عندما يقوم بعمل مماثل لعمل الآلهة وهو ملاحقة والده أمام قضاء أثينا.
سقراط: أعترف لك بأنني لا أعرف شيئاً عن تلك الآلهة لكنني أسألك: هل تعتقد أنها كائنات حقيقية؟
يوثيفرو: بالتأكيد أنهم حقيقة ولدي علم بأشياء رائعة كثيرة الناس جاهلون بها تماماً.
سقراط: لكن هل تعتقد حقاً أن الآلهة يصارع بعضهم بعضاً وأنهم خاضوا معارك ضروساً في ما بينهم وما شابه كما يقول الشعراء أو كما جاء في أعمال بعض كبار القصاصين والرواة أو كما تراها مشخصة في مختلف المعابد، فهل كل هذه الروايات في نظرك يا يوثيفرو حقيقية؟
يوثيفرو: نعم يا سقراط، وفي إمكاني أن أقصّ عليك إضافة إلى ذلك قصصاً عن الآلهة سوف تذهلك !
يبدو واضحاً من سؤال سقراط أنه يتعجب من أن يوثيفرو يعتقد فعلاً بوجود الآلهة الأسطورية التي جاءت في قصص هوميروس مثلاً أو هيسيود Hesiod أو غيرهما وهذا التصديق لأدب خرافي والاعتقاد بشخصياته يظهر محدودية في التفكير ونوعاً من الاعتقاد الجامد الشبيه بما يشار إليه في أيامنا بالـ «أصولية» الدينية فهذه الأصولية مخلصة في اعتقادها لكنها تبني حجتها على إيمان متطرف بأمور وتقاليد وأشخاص دون تمحيص. لكن سقراط ليس مهتماً بهذا الجانب من “علم” يوثيفرو بل بالجانب المتعلق بادعائه العلم، لذلك


فإنه يعيد محاوره إلى الموضوع فيسأله مجدداً عن تعريف دقيق
لـ «التقوى» ونقيضها.
سقراط: ما أودّ الحصول عليه منك هو جواب أكثر دقة (لم أحصل عليه منك حتى الآن) على السؤال: ما هي التقوى؟
وهنا يعيب سقراط على يوثيفرو تعريفه التقوى بأنها أن يعمل المرء مثله أي أن يدعي على إنسان حتى ولو كان والداً أو والدة! لأن ما هو في صدده ليس إعطاء مثل أو مثلين على فعل التقوى بل الحصول على تعريف لـ «التقوى».
سقراط: قل لي ما هي طبيعة هذه الفكرة (التقوى) وعندها سيكون لديّ معيار أقيس به الأعمال سواء أعمالك أم أعمال أي إنسان آخر وعندها سيكون في إمكاني أن أقول إن عمل هذا أو ذاك هو من التقوى أو عمل آثم أو فساد.
يوثيفرو: التقوى هي أن تقوم بأعمال تحبها الآلهة والإثم أما الفساد هو كل عمل تكرهه الآلهة.
هذه بالطبع أول محاولة من يوثيفرو لتعريف التقوى، وهو أعطى الحكيم سقراط بذلك أول مستند لمواجهته بتناقضات منطقه.
أول ما سيفعله سقراط هو أن يستخدم قناعات يوثيفرو نفسها ليظهر له كم يعتريها من التناقض وكيف أنها لا تصلح لتعريف التقوى أو الفضيلة. إذا كانت التقوى هي كل عمل محبب للآلهة فإن كل الآلهة التي يؤمن بها يوثيفرو يجب أن يجتمع على رأي واحد وأن تكون لهم نفس الصفات الإلهية أو العصمة من الخطأ. وهنا يستدرج سقراط يوثيفرو للإقرار بأن آلهة الإغريق (على فرض كونهم حقيقيين وهو ما لا يؤمن به سقراط) لديهم أطباع وأمزجة وهم يتصارعون ويقاتل بعضهم بعضاً حال اختلافهم شبيهة باختلاف البشر، وبالتالي العمل الذي قد يروق لإله ما قد لا يروق لإله آخر مما يعني أن محبة الآلهة لعمل ما كمعيار لاعتباره من أعمال التقوى لا تستقيم كمعيار شامل، لأن ما قد يروق للإله زويس قد لا يروق للإله كرونوس وما قد يروق لكرونوس قد لا يروق للإله ترايدنت أو أورانوس.
يتابع سقراط لأن مقياس يوثيفرو للتمييز بين التقوى ونقيضها مقياس واه وهو يذكره أن الاختلاف حول الأرقام يحل بعلم الحساب والاختلاف حول مقاييس الأشياء يحلها الكيل، والاختلاف حول الأوزان يحلها الميزان لكن يقول سقراط: ما هي الاختلافات التي لا يمكن حسمها بهذا القدر من الموضوعية؟ ما هي الاختلافات التي قد تثير فينا شعور الغضب وتخلق العداوة بيننا؟ ويجيب سقراط على السؤال بالقول إن هذا النوع من الاختلافات يظهر عندما يتعلق الأمر بالعدل أو الظلم أو يتعلق بالخير ونقيضه الشر، أو يتعلق بما هو شريف وما هو غير شريف. أليست هذه الأمور التي يختلف حولها الناس؟
يوثيفرو: حقاً يا سقراط تلك هي الأمور التي نتنازع بشأنها كما تصف.
سقراط: وصراعات الآلهة، ايها الرجل النبيل يوثيفرو، عندما تحصل، أليست من طبيعة مشابهة؟
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط: أي إن بينهم اختلافاً في الرأي حول ما هو خير وما هو شرّ، ما هو عادل وما هو ظلم، ما هو شريف وما هو غير شريف، ولولا تلك الاختلافات لم نكن لنرى قيام النزاعات والصراعات بينهم أليس كذلك؟
يوثيفرو: يبدو الأمر كذلك.
سقراط: هذه الاختلافات سواء بين الآلهة أو بين البشر تعني أن الأمر نفسه قد يكون من التقوى وعكسها في آن معاً.
التعليق: إلى هنا يكون سقراط قد أطاح بالفكرة الأساسية ليوثيفرو في تعريف التقوى على أنها كل عمل يروق للآلهة. وبالطبع فإن سقراط لا يؤمن بتلك الآلة أصلاً أو بوجودها لكنه استخدم حجة يوثيفرو نفسها من أجل هدم نظريته. الخطوة التالية لسقراط ستكون اقتراح بديل فوري للفكرة السابقة وهو لذلك يسأل يوثيفرو:
سقراط: عند الحديث عن الناس (كبديل لموضوع الآلهة) هل سمعت في حياتك إنساناً يجادل في أن القاتل أو الشرير يجب تركهما وشأنهما؟ وهل يمكن لأي مجرم أن يعترف بذنبه ثم يحاول إقناع الناس أن عليهم أن يتركوه وشأنه دون عقاب؟
يوثيفرو: كلا بالتأكيد
سقراط: وأن مرتكب الذنب لا يناقش لإقناع الناس بأن الذنب ليس عملاً شائناً بل يحاول فقط تبرئة نفسه بأنه ليس الفاعل، أليس كذلك؟
يستنتج سقراط بأن الآلهة مثل البشر لا يمكن أن يختلفوا في حقيقة أن المجرم -أي مجرم- يجب أن ينال العقاب العادل، أي إنهم لا يمكن أن يختلفوا حول مبدأ العدل، لكن يمكن أن يختلفوا حول تقدير الوقائع أي إنهم -مثل ما قد يحصل داخل هيئة محلفين- قد يختلفون في تقييم فعل معين وهل تتوافر فيه مواصفات الجرم المستحق للعقوبة أم لا.
يوثيفرو: هذا صحيح.
هنا وقع يوثيفرو في فخ سقراط لأن الحكيم سيتحداه أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل حصلت وفق الظروف التي شرحها يوثيفرو بنفسه.
سقراط: كيف تثبت أن جميع الآلهة دون استثناء يوافقون على عملك؟ أثبت لي ذلك وسأثمن عالياً حكمتك ما حييت!
يوثيفرو: هذه مهمة صعبة
هنا يقترح سقراط تعديل التعريف الأولي للتقوى كما جاء به يوثيفرو (كل ما هو محبب للآلهة) إلى صيغة جديدة أقوى مفادها أن كل ما تجمع عليه الآلهة على أنه تقوى فهو تقوى وكل ما تجمع على اعتباره إثماً أو فساداً فإنه إثم وفساد.


مفارقة “يوثيفرو” الأساسية
عند هذه النقطة يعود سقراط ليشرح ليوثيفرو أنه حتى على فرض أنه أثبت له أن جميع الآلهة يوافقون على عمله وهو ملاحقة والده بتهمة القتل (وهو بالطبع أمر مستحيل) فإنه لم يجب حتى الآن على السؤال الأساسي المتعلق بطبيعة «التقوى» وهنا يرمي سقراط بالمفارقة الأساسية التي حيرت يوثيفرو وباتت المسألة المحورية في محاورة أفلاطون هذه.
ما هي تلك المفارقة؟ إنها في السؤال التالي الذي وجهه سقراط ليوثيفرو:
سقراط: إن النقطة التي أودّ أن أفهمها هي: هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من أعمال التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبّب إلى الآلهة؟
يريد سقراط هنا أن يشرح ما هو الأسبق وما هو مصدر عمل التقوى. هل محبة الآلهة لعمل التقوى سابقة له أي إنها السبب في تعريفه كذلك أم أنها لاحقة بمعنى أن العمل يأتي من الإنسان فتحبه الآلهة فيصبح من أعمال التقوى؟
يوثيفرو: لم أفهم ماذا تعني يا سقراط؟
يشرح سقراط بأن هناك دوماً فارق بين أن تَرى أو أن تُرى بين أن تَحمُل أو أن تكون محمولاً بين أن تُقود وأن تكون مُقاداً..
يوثيفرو: أعتقد أنني أفهم ما تعنيه
سقراط: بنفس المعنى السابق أن تكون محبوباً هي حالة تابعة لفعل الحب وليس فعل الحب تابعاً لها.
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط : وماذا تقول في التقوى يا يوثيفرو أليست التقوى حسب تعريفك محبوبة من جميع الآلهة.
يوثيفرو: نعم
سقراط: هل هي محبوبة بسبب قدسية التقوى أم لأي سبب آخر؟
يوثيفرو: كلا هذا هو السبب
سقراط: أي إن التقوى محبوبة من الآلهة لأن لها قدسيتها وليست للتقوى قدسية لأنها محبوبة من الآلهة.
يوثيفرو: بالتأكيد
يقدم سقراط بعد ذلك سلسلة من الأدلة تؤكد ليوثيفرو أن كل هذا السعي لتعريف التقوى بأنها ما يجمع الآلهة على محبته مازالت قاصرة عن تعريف كنه أو جوهر التقوى نفسها لأننا ما زلنا نعرف التقوى بشيء آخر خارجها مثل محبة الآلهة لها لكن يوثيفرو فشل حتى الآن في إعطاء تعريف حقيقي للتقوى كمفهوم أو كحقيقة سماوية (قدسية).بعد موضوع التقوى ينتقل سقراط في محاورته إلى موضوع القداسة Holiness .


“سقراط يتحدى يوثيفرو أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل!”
سقراط: يبدو يا يوثيفرو أنه في كل مرة أسألك عن طبيعة القداسة فإنك تقدم لي صفة من صفاتها وليس جوهرها أو ماهيتها الحقيقية.(والتي تجعل من عمل قدسي محبوب من الآلهة جميعاً)، لكنك مازلت ترفض أن تشرح لي حقيقة القداسة. وإنني لأسألك أن لا تخفي كنوز معرفتك عنا وأن تخبرني ما هي حقيقة القداسة وما هي حقيقة التقوى .
يوثيفرو: في الحقيقة لا أعلم يا سقراط كيف أعبّر لك عمّا أعنيه إذ لسبب ما فإن حجتنا في أي موضوع نتحاور فيه تدور في مكانها ثم تجدها تذهب بعيداً عنا.
سقراط: يبدو لي يا يوثيفرو أنك كسول فعلاً، لذلك سأحاول بنفسي أن أظهر لك كيف يمكن أن ترشدني في ما خص موضوع التقوى، وأنا أودّ أن أسألك : أليس كل تصرف يتميز بالتقوى هو أيضاً تصرف عادل.
يوثيفرو: نعم
سقراط: فهل كل ما هو عادل أيضاً من التقوى أو أن كل ما هو تقوى يتصف بالعدل بينما فقط بعض ما يتصف بالعدل هو من التقوى؟
يوثيفرو: إنني لا أفهم ما تقوله يا سقراط
سقراط: مع ذلك فإنني أعلم أنك أعقل وأكثر حكمة مني، لكن يبدو أن غزارة حكمتك تجعلك كسولاً فأرجو يا صديقي أن تتملك نفسك وتجتهد أكثر. السؤال الذي أودّ أن أسأله هو : هل ما هو عدل دوماً من التقوى أم أن كل عمل تقوى يتصف دوماً بالعدل؟ وهل لا يوجد هناك عدل حيث لا توجد التقوى -إذ إن العدل مفهوم موسع حيث تشكل التقوى جزءاً منه- هل تخالف هذا القول؟
يوثيفرو: لا بل أعتقد أنك على حق في ما تقول.
سقراط: والحال، إذا كانت التقوى جزءاً من العدل فإن علينا أن نسأل أي جزء؟ أي أنني أودّ منك أن تقول لي ما هو الجزء من العدالة الذي يمثل التقوى أو القداسة، لعلني بذلك أقنع ميليتوس أن لا يوقع بي الظلم ويتهمني بالإفساد.
يوثيفرو: التقوى أو القداسة تبدو لي يا سقراط ذلك الجزء الذي يهتم بالآلهة بينما نقيض التقوى والقداسة يهتم بالإنسان.
هنا يتساءل الحكيم سقراط عن معنى كلمة «اهتمام» التي أوردها يوثيفرو. ما معنى أن يهتم الأتقياء أو الأولياء بالآلهة؟ وماذا يمكن للإنسان أن يقدم للآلهة. وهو يعطي أمثلة اهتمام السائس بالأحصنة واهتمام الصياد بكلاب الصيد واهتمام صاحب الثيران بثيرانه، وهو يسأل يوثيفرو: هل هذا النوع من الاهتمام هو ما قصدته؟ يسارع يوثيفرو إلى النفي مؤكداً أنه لم يقصد عقد مقارنة بين الاهتمام بالآلهة وبين الاهتمام بالأحصنة أو الثيران !!
سقراط: وأنا أيضاً يا يوثيفرو لم أقصد ذلك، لكنني أسألك عن طبيعة الاهتمام بالآلهة الذي اعتبرته تعريفاً للتقوى ، فأنت لم توضح ذلك.
يوثيفرو: إنه نفس الاهتمام الذي يظهره الخادم أو العبد لسيده.
سقراط: أي أنه نوع من خدمة الآلهة.
يوثيفرو: تماماً
يتساءل سقراط هنا عن الفوائد التي تقدمها الآلهة بفضل اهتمام أهل التقوى بخدمتها؟
يوثيفرو: هناك الكثير من الأعمال المفيدة التي تقدمها الآلهة منها على سبيل المثال تمكيننا من النصر في الحرب.
سقراط: لكن بين تلك الفوائد ما هي الفائدة الأساسية والأهم التي تقدمها الآلهة؟
يوثيفرو: قلت لك سابقاً يا سقراط بأن تعلم كل هذه الأمور بدقة أمر مرهق، لكن دعني أقول إن التقوى أو القداسة هي تعلم كيف ترضي الآلهة بالأعمال والأقوال، بالأدعية والابتهالات والأضاحي، وبفضل أعمال التقوى هذه يتحقق الخلاص للعائلات وللدولة كما إن الفساد (أو غياب التقوى) يتسبب بإغضاب الآلهة ودمار العائلات والدول.
سقراط: هل تعني أن التقوى هي نوع من علم الدعاء للآلهة والتضحية لها؟
يوثيفرو: نعم هذا ما أقصده.
سقراط: وهذا يعني أن التضحية هي العطاء للآلهة وأن الدعاء هو الطلب منهم.
يوثيفرو: نعم يا سقراط.
سقراط: بناء على تلك النظرة فإن التقوى هي علم الأخذ والعطاء!
يوثيفرو: أنت تفهمني تماماً يا سقراط.
سقراط: لكن ما طبيعة تلك الخدمة لهم هل تعني أننا نسألهم عن أشياء ونقدم لهم هدايا في المقابل؟
يوثيفرو: نعم هذا ما قصدته.
لكن سقراط لا يبدو راضياً بهذا التعريف لأنه يبدو وكأن الناس تقوم بصفقات أو تجارة مع الآلهة، لكنها صفقات غير متكافئة، لأن الآلهة تعطينا نحن البشر عند سؤالها، وهذا متفق عليه، لكن ما الذي نعطيه نحن لها وإذا كنا نعطيهم فمن قال إنهم يريدون عطيتنا أو إنهم في حاجة إليها؟ وهل تعطي أياً كان شيئاً لا يريده وتعتبر ذلك هدية؟


سقراط: ليس لدي أي شك في أن الآلهة تعطينا وليس هناك خير أو إنعام إلا وهم يقدمونه، لكن كيف يمكننا أن نعطيهم أشياء حسنة قيمة في المقابل؟ فهذا الأمر الأخير غير واضح البتّة لي!.
يوثيفرو: أو تعتقد حقاً يا سقراط أن هناك أي فائدة تنجم من أضحياتنا للآلهة؟
سقراط: لكن إذا لم تكن هناك فائدة للآلهة مما نقدمه فما هو معنى الهدية وما الذي تناله من هديتنا؟
يوثيفرو: لا شيء سوى أننا نكرِّمُهُم ونقوم بما يرضيهم.
سقراط: إذاً التقوى ليس فيها أي فائدة للآلهة لكنها تسرهم
يوثيفرو: هذا صحيح
سقراط: أي إن التقوى تسرّ الآلهة لكن ليس فيها فائدة لهم كما إنها لا ترضيهم بشيء.
يوثيفرو: بل يمكنني القول ليس هناك أعز على الألهة وأقرب إلى قلوبهم من التقوى.
سقراط: لكن ألم نتفق قبل قليل على أن ما هو من التقوى أو القداسة ليس بالضرورة هو نفسه ما هو محبب للآلهة؟ هل نسيت؟
يوثيفرو: لا بل أذكر ذلك.
سقراط: ألست من تقول إن ما تحبه الآلهة له قداسة لكنه أليس كل ما تحبه الآلهة قريب إلى قلوبها؟
يوثيفرو: صحيح
سقراط: إذاً إن ما اتفقنا عليه من قبل كان خطأ وإما أن نكون على صواب الآن.
يوثيفرو: أحد الأمرين لا بدّ أن يكون صحيحاً.
سقراط: إذاً علينا أن نبدأ من جديد بالسؤال: ما هي التقوى، وإن كنت لم تستطع بشيء من الثقة تعريف ما هي التقوى وما هو نقيضها فكيف يمكنني أن أثق بأنك تعلم ما أنت فاعله عندما تقوم بالنيابة عن أحد الخدم بملاحقة والدك بتهمة القتل، لو أنك تعرف فإنك لم تكن لتأخذ مثل هذه المخاطرة بارتكاب ما هو إثم في نظر الآلهة بملاحقتك والدك وكنت ستظهر احتراماً أكبر لرأي الناس، مع ذلك فإنني ما زلت موقناً انك تعرف طبيعة التقوى ونقيضها أي الفساد في الأرض، فلتقل لي يا عزيزي يوثيفرو ولا تُخفِ عني علمك !!!
يوثيفرو: ربما في وقت آخر يا سقراط لأنني على عجلة من أمري وعلي أن أذهب.