بين الرئيس الراحل بورقيبةَ والأمير شكيب أرسلان
جهاد مشتركٌ في سبيل إسلامٍ مُستنير
يجهلُ كثير من التونسييّن، والعرب لا يختلفون كثيراً عنهم، صلات الصداقة الوثيقة التي شدّت الزّعيم الرئيس الحبيب بورقيبة رحمه الله، بالعديد من المفكّرين والسياسييّن والإعلامييّن المشارِقة، والتي تكونت سواء في فترة إقامة المجاهد الأكبر في القاهرة، التي قدم إليها عبر ليبيا سنة 1945، فارًّا من اتّهامات فرنسية بالتّعامل مع المِحور، أو من خلال مؤسّسات الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار، التي أقامها الوطنيّون المغاربة والعرب في عدد من الدول الأوربية.
وقد حرص الزعيم بورقيبة على الوفاء لهذه العلاقات، حتى بعد تولّيه مهام رئاسة الدولة وتكاثر التزاماته وانشغالاته، إذ حرص على تكريم كثير من أصدقاء الأمس وشركاء الجهاد الأصغر، ممّن بقَوا على قيد الحياة، كما فعل على سبيل المثال مع الصحفي الفلسطيني المصري محمّد على الطاهر، وكنيته أبو الحسن الطاهر (1896-1974)، الذي كان أوّل من استقبل المجاهد الأكبر في المحروسة وبذل معه جهوداً في التعريف به لدى قادتها ونُخَبها و سائر الوافدين إليها طلباً للعَون والنّصرة، وكان ردّ الجميل بتقليده أرفع الأوسمة التونسية، واستغلال كلّ فرصة متاحة لاستقباله في القصر الجمهوري أو زيارته في بيته المتواضع، وتسمية أحد شوارع العاصمة التونسية باسمه.


ولمحمد علي الطاهر، الذي كان يقال في وصفه أنّ الشمس لا تغرب عن شيئين، الإمبراطورية البريطانية والجريدة التي يصدرها أبو الحسن، كتاب نادر لم يُعَد طبعه إلى حد الآن مرة ثانية، ضمّنه رسائل الزّعيم بورقيبة إليه خلال فترة الكفاح الوطني، رسائل تفيض بالمشاعر الإنسانية النبيلة، فضلاً عمّا تحتويه من توضيحات للمرجعية الفكرية والسياسية التي يستند إليها المجاهد الأكبر في حركته، وهي مرجعية مشتقّة بلا ريب من أدبيّات حركة الإصلاح العربية الإسلامية التي نهضت على أيدي الطهطاوي ومحمّد عبده وخير الدين التونسي و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وخلافاً لما يعتقد البعض في تونس وخارجها، من أنّ فترة إقامة بورقيبة المشرقية، كانت في خلاصتها سلبية، وأنها خلّفت في نفسه مرارة و موقفا معادياً للمشرق، فإن دراسة متأنيّة لوثائق ومصادر تلك الحقبة التاريخيّة، تثبت خلاف ذلك تماماً، بل لعلَّ العَتَب والتشويش الذي حصل في علاقة المجاهد الأكبر بالبلدان المشرقية، مرجعه الأزمة الناشبة بين الرؤيتين البورقيبيّة والناصريّة خلال الستينيّات، بعد خطاب أريحا الصريح، ولربما كانت لبعض المؤامرات الداخلية التي استهدفت الزعامة البورقيبية بتشجيع من بعض ساسة المشرق دور في توسيع الفجوة.
لقد كانت زعامة بورقيبة في القاهرة بَيِّنة، وقد قام بالعديد من المَهام الناجحة في التعريف بالقضيّة التونسية، وساهم في تأسيس مكتب المغرب العربي بمشاركة عدد من زعماء الحركة الوطنية المغربية والجزائرية، وعلى رأسهم الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، كما كان أيضا محل إعجاب وتقدير لدى كثير ممّن عرفه عن قرب كما هو شأن محمّد علي الطاهر الذي قال إنه من أوائل من لحظ شخصيّة بورقيبة الفريدة ونظرته الثاقبة، فقد كان المجاهد الأكبر موسوعيّ الثقافة، نقديّ الرؤية، لمّاحاً وواثقاً من نفسه وقضيّته، مُتقنا للغتين العربية والفرنسية على حد سواء، ومستوعباً لنقاط القوّة والضّعف في الحضارتين الإسلامية والغربية.
غير أنّ أكثر الشخصيات المشرقية حظوة وتأثيرا لدى الزعيم الرئيس بورقيبة، كان المفكر والسياسي اللبناني الدرزي الكبير الأمير شكيب أرسلان، الذي كان أوّل من أولى عناية استثنائية للقضايا المغاربيّة، و قيل أنّه لعب دوراً رئيسيًّا من خلال علاقاته الوطيدة بقادة العمل الوطني المغاربي، في حسم إشكالية الهوّية التي أثارها المرسوم الاستعماري المُكَنَّى «الظهير البربري» (1930)، لصالح اعتبار الشمال الأفريقي مغربا للأمة العربية الإسلامية.
لقد التزم (بو رقيبة) سياسة آمنت بدور الدّين لصالح العملية التنمويّة.
ويعود أوّل لقاء للزعيم بورقيبة بالأمير شكيب أرسلان لسنة 1937، وكان ذلك على هامش مؤتمر لجمعية الطلبة المسلمين لشمال أفريقيا، التي كانت بمثابة الجناح الطلابي للحركة الوطنية المغاربية. وقد انعقد اللقاء بعد ثلاث سنوات فقط من تأسيس المجاهد الأكبر للحزب الحرّ الدستوري (الذي سيحتفل البورقيبيون بالذكرى الخامسة والسبعين له يوم 2 مارس القادم)، وجاء بمثابة اعتراف من أمير البيان وداعية العروبة والإسلام، بالحزب الجديد ممثّلا أساسيًّا للحركة الوطنيّة التونسية.
وبحسب المؤرّخ الأوربي «وليام كليفلند» صاحب كتاب « إسلام ضد الغرب، شكيب أرسلان ودعوته للقومية الإسلامية»، فإنّ إعجاب الزعيم بورقيبة بأفكار الأمير الإصلاحية كان كبيراً، كما أنّ الصلة التي قامت بينهما، وتخصيص المجاهد الأكبر عدداً كاملا من صحيفة العمل لسان حال الحزب الحرّ الدستوري، الصادر بعد لقاء باريس الآنف، كانت خير سند للدستوريين الجدُد في مواجهتهم السياسية والفكرية الحاسمة مع الدستوريين القدامى، وقد عاد زعيمهم الشيخ الثعالبي في حينها إلى البلاد بعد ما يقارب الأربعة عقود من المنفى.
ويشير المؤرّخون إلى أن الأمير شكيب أرسلان، الذي اشتُهر بعلاقات متميّزة مع قادة الرايخ الألماني و حلفائه الإيطاليين، قد تدخّل لدى قيادة المحور من أجل إطلاق قادة الحزب الحر الدستوري الجديد، وقد تحقق له ذلك أواخر سنة 1943، تماماً كما طلب منه الزعيم بورقيبة من أجل إقناع المحور باستصدار وعد لمنح تونس الاستقلال بعد انتهاء الحرب، من أجل كسب ثقة التونسيين، ونجح الأمير مرة أخرى في تحقيق الطلب، غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت خلافاً لما ظهر في بدايتها، ولم يكن من بديل إلّا الصبر عقداً آخر من الكفاح حتى تتحقّق الرؤية.
إلّا أنّ أبلغ ملمح لتأثير الأمير شكيب أرسلان في شخصية الزعيم بورقيبة، كَمن بلا شك في النظرة للإسلام وتأويل نصوصه بما يتفق مع مصالح المسلمين ومتطلبات الحداثة، فقد التزم المجاهد الأكبر بعد نيل تونس الاستقلال وتسلّمه مقاليد الحكم، سياسة متميزة، آمنت بدور داعم يلعبه الدين لصالح العمليّة التنمويّة، وهي سياسة جعلت البورقيبيّة مختلفة عن الأتاتوركيّة التي عملت على إلغاء أي دور للدين، رغم التقائهما في الإيمان بضرورة التحديث، كما جعلها مختلفة عن السلفيّة، رغم انطلاق كليهما من النَّصّ المقدس. وقد نُقِلَ عن الزعيم بورقيبة قوله « أنه نجح في تشريع كل ما تقتضيه الحداثة، إلا مسألة المساواة في الإرث، لأنّه لم يجد مخرجاً لتأويل النّص الخاص به». وما يجدر ذكره هو أن المجاهد الأكبر لم يخطُ خطوةً تحديثية واحدة دون سند من الشريعة وتأويل للنص، بما في ذلك توصيفه لمرحلتي الكفاح ضد المستعمر والاستقلال بالجهادين الأصغر والأكبر، وإفطاره جهراً في رمضان عندما استشار العلماء فأجازوا له ذلك أسوة بالرسول (ص) الذي ثبت أنّه أفطر جهرا سنة الفتح وأمرَ أصحابه بأن يفعلوا. و البيِّنُ أنَّ شكيب أرسلان، ولم يكن في هذا الأمر شاذًّا عن بقية رواد الإصلاح، قد غذّى النزعة التأويليّة وعمّقها في نفس الزّعيم الشاب آنذاك، فقد كان الأمير المُنحدر من بيئة درزيّة يرى غالبية المسلمين أنّها خارجة عن المألوف والملّة، رمزاً للفهم العميق لجوهر الدين، ومثالاً لقدرة مجدِّد ديني ومفكِّر إصلاحيّ على تجاوز كلّ دوائر الحصار الفكري والعقدي المضروبة منذ قرون على بني قومه.
إنَّ هذا التوجه الواقعي والعملي المُلتزم بالنتائج، لا المتعصب للشعارات، في التعامل مع الإسلام، هو الجامع بين الأمير شكيب أرسلان والزعيم الحبيب بورقيبة، غير أنَّ وفاة الأول دون ممارسة للسلطة وتصدّي الثاني لمهام الحكم، جعل صورة كلّ منهما لدى العامة وبعض الخاصة، تبدو وكأنها متباعدة أو متناقضة، بل لعلّ حركات الإسلام السياسي المُهيمنة على الشارع حاليًّا، قد سعت جاهدة إلى أن تضم تراث الأمير إلى أعمالها، أو تجعل من نفسها امتداداً له، في حين ناصبت المجاهدَ الأكبر أشد العداء واشتغلت آلتها الإعلامية جاهدة لتشويه صورته الناصعة. والحاجة اليوم أكيدة، لاستئناف معركة التأويل، تلك التي آمن بها أرسلان وبورقيبة وبذلا عمراً في إدارتها والعمل على الظفر بها وآمنا بضرورة خوضها حتى لا يُترَك الدين الحنيف ونصوصه لأولئك الذين يريدون أن يشتروا به ثمناً قليلاً أو يعملون على أن يكون وسيلة لتعميق مشاعر الكراهية وأفكار الانغلاق والرّفض والظّلام ونشر الرّعب والموت والدمار والأزمات في كل مكان حلُّوا به. فلنقرأ من جديد إذاً السّيرة البورقيبية والأرسلانيّة ولنأخذ منهما عبقرية التأويل.