الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, تشرين الثاني 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

تقنية زراعة الأشجار المثمرة

تشكّل الأشجار المثمرة الجزء الأهم والأساس من الزراعة، وتعتبر ثمارها مصدر غذاء للإنسان، كما أنها تعدّ مواد خام ضرورية للصناعات الزراعية الغذائية.

ولثمار الأشجار المثمرة فوائد طبية عالية، وعناصر غذائية مختلفة كالبروتين والفيتامينات والأحماض والدهون…اذ تساعد الانسان بعد تناولها على الهضم وتليّين الجهاز العصبي والألياف وتنظيم الدورة الدموية.

إنّ علم الأشجار المثمرة يهتمّ بدراسة وتنظيم وتأهيل الأشجار المثمرة وتطوير انتاجها اقتصاديّا، ويدرس الأعمال الحقلية من تقليم وري وحراثة وتنظيم أثمار وتسميد (حسب الحاجة) ومكافحة، إذا لزم الأمر، والقطاف للحصول على أفضل إنتاج من حيث الجودة والكمية وتطبيق جميع الوسائل الحديثة.

يجب أن يبقى المزارع حرّا طليقا، فلا يقيّد أو يرتهن لشركات التصدير خاصة المنتِجة للنباتات الزراعية؛ لأنّ الدعاية وطرقها تجعل المزارعين يعتقدون أنّ هذه الاصناف الجديدة هي المنقذ الوحيد لهم من عبء الغلاء (خاصة المعيشة منها). معظم هذه الأصناف الجديدة هي معروفة منذ القدم ولا زالت عند المزارعين المحترفين، والذين يتقيدون ولا يؤمنون بالدعاية خاصة التجارية منها الخاضعة لمؤسسات غير حكومية (الشركات الأجنبية) التي تروّجها على أنّها أفضل الأصناف مثل التين والزيتون والرمان والكرمة والكرز وغيرها؛ ثمّ استبدالها ببعض الأصناف المحدثة وراثيّا، ممّا أدّى ذلك إلى وضع المزارع «بين السندان والمطرقة»، ويقف مكتوف الأيدي أمام هذه الحيلة. لذلك، أصبح المزارع مرتبكًا وغير قادر على اتخاذ القرار، ما أدّى الى إهماله لأرضه ومزروعاته، وبالتالي انخفاض انتاجه ومزاحمته بالأصناف المعدلة وراثيّا.

التراجع الكبير الذي حصل في أواخر القرن الماضي وبداية الحالي، يتطلب جهدًا لإعادة التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والتصدير من جهة أخرى.

لذلك تأتي اقتصادية الأشجار المثمرة بعد الأعمال المدروسة التي ينفذها المزارع في أرضه. إنّ الارض والرجوع إليها هي الملاذ الأساس في حياتنا، لذا يُستحسن القيام بدراسة العوامل التالية:

المناخ

دراسة المناخ تتيح لنا معرفة الأصناف التي يجب زرعها، والتي تعطي مردودًا اقتصاديًا وفيرًا، وليس كما كان في السابق، فقد أهدرت بعض مساحات الأرض لتجربة أصناف جديدة بلا جدوى، لأنّها لا تنمو إلّا على ارتفاع معيّنٍ وفي تربة خاصة مثل زراعة أشجار المشمش على ارتفاع 1300 متر عن سطح البحر غير مجدية لأنها تحتاج الى حرارة مرتفعة نسبيا في مرحلة الأزهار.
1- الحرارة: تحتاج الأشجار المثمرة إلى حرارة مختلفة باختلاف أصنافها، فمنها ما يحتاج إلى البرودة، ومنها إلى حرارة معتدلة، وأخرى إلى معتدلة دافئة شتاء.
2- الأمطار: تنجح الأشجار المثمرة في المناطق التي يزيد فيها معدل الأمطار عن 700 ملم سنويًّا، خاصة في الأراضي البعلية.
3- البرودة: تحتاج بعض أصناف الاشجار المثمرة إلى البرودة خلال فصل الشتاء، من أجل مرحلة السكون والراحة التي تمرّ بها أي ايقافها عن النمو.
4- الارتفاع عن سطح البحر: تزرع الأشجار المثمرة في الأماكن حسب ما تحتاجه من ارتفاع ملائم لها ومدروس اقتصاديّا.

موقع الارض

1- التربة الملائمة: تعتبر التربة من العوامل الهامة لنجاح زراعة الأشجار المثمرة وإنتاجها، وتأتي في الدرجة الثانية بعد عامل المناخ.
2- المسافات الزراعية: تختلف المسافات من صنف لآخر حسب حجم وعمر الأشجار وطبيعة التربة وخصوبتها وحسب الأصل الجذري المستخدم.
3- عمق التربة وخصوبتها: تحتاج الأشجار المثمرة إلى تربة عميقة نوعًا، منها ما يحتاج إلى تربة عميقة لأنّ جذرها وتدي، ومنها ما يحتاج إلى تربة متوسطة العمق بين (150-200سم) وآخر إلى أقل من ذلك، وكذلك حسب أنواع الاشجار وأحجامها.
4- استصلاح الأرض: القدرة على استصلاح الأرض وتسطيبها إذا كانت منحدرة، على أن لا يزيد انحدارها عن 40%.
5- الطرقات: قرب البساتين من الطريق عامل هام في الزراعة لتوفير تكاليف وعناء المزارع من توصيل الشتول والمعدات المستعملة للزراعة والأسمدة العضوية وغيرها، وكذلك نقل الإنتاج إلى الأسواق.
6- الري: ايجاد مصدر مياه للري لمساعدة الأشجار على اجتياز الحرارة الشديدة في الصيف، كما حصل في هذا العام خاصة في بداية نموّها.

في مطلع الأربعينيات، دخلت الأشجار المثمرة المحسنة في بلاد المنشأ إلى لبنان كزراعات مربحة، ولاقت شهرة واسعة وبدأت تُحتكر من قبل المتموّلين للإتجار بها. أخذ بعض المزارعين بقطع أشجار الزيتون والتفاح والتين والرمان وغيرها واستبدالها بأشجار الدراق والخوخ والمشمش على سبيل المثال.

بعد ذلك، قام أخصائيون في أوروبا وبعض البلدان المتقدمة في مجال الزراعة بالعمل على تأصيل الأشجار المثمرة اقتصاديّا. وتمّ استقدام بعضها إلى لبنان لأخذ المطاعيم منها وتطعيمها على الأصول البريّة من قبل تجار حصريّين وأصحاب مشاتل، وبدأت عملية الإكثار بعدة طرق. فالأشجار المثمرة تبدأ في الإنتاج بعد زراعتها بعدة سنوات. أمّا في وقتنا الحالي، فتبدأ الاشجار بالإنتاج في السنة الثانية خاصة الأصناف المطعّمة على أصول جذرية.

مجموعات الأشجار المثمرة التي تنمو في المناطق التي تزيد عن 600 متر

1- التفاحيات: تضم التفاح، الإجاص، السفرجل والزعرور.
2- اللوزيات: تضم الكرز، الدراق، المشمش، الخوخ والجنارك.
3- الجوزيات: تضم الجوز، اللوز، الكستناء، البندق والفستق الحلبي.
4- الزيتون
5- الكرمة
6- التين
7- الرمان
8- الكيوي

وبعد استصلاح الأرض، تنفذ الأعمال التالية:

1. الحراثة: تحرث الأرض على عمق 40 سم تقريبا على جرار جنزير، ثم تحرث حراثة سطحية بواسطة فرّامة لتسوية سطح التربة وتكسير الكتل الترابية.

2. تخطيط الأرض: طرق الغرس كثيرة أفضلها الشكل المثلث والمربع، ممّا يتيح زرع أكبر عدد ممكن من النصوب. يتمّ تخطيط الأرض لتحديد موقع النصوب وتكون المسافة بين خطين متوازيين 3،5 متر للتفاح و4،5 متر للكرز وبين شجرة وأخرى 3،5 متر للتفاح و4،5 للكرز. كما إنّ هذه المسافات بين الخطوط تتيح المجال لإستخدام الآلات الزراعية مثل جرار الحراثة وغيرها.

3. حفر الجور: بعد هطول الأمطار لأول مرة في فصل الخريف (عندما تُروى الأرض)، تحفر جور في الأماكن المحددة على عمق 50 سم وعرض 50 سم تقريبا. ويوضع في قاعها حوالي 2 كلغ من السماد العضوي المخمر وخلطها مع التراب في قاع الحفر. تزرع الغراس بعد تساقط أوراقها (أواخر فصل الخريف وأوائل فصل الشتاء) لأن الأوراق تستمر في عملية التبخر خاصة إذا ما إرتفعت الحرارة نسبيا، مما يؤدي الى جفاف البراعم وبالتالي الغراس.

4. الشتول أو النصوب: إنّ حاجة 10 دونم من أشجار التفاح والكرز 500 شجرة، عمرها بين سنة وثلاث سنوات، كي تدخل في الإنتاج بعد عام من زراعتها في الأرض المستدامة. أما مصدرها، فمن المفضل أن يكون من مشاتل موثوقة ومدروسة من حيث النوعية الجيدة والإقتصادية وخلوّها من الآفات الزراعية ومرغوبة في السوق المحلي.

5. التسميد: تحتاج أشجار التفاح والكرز نسب عالية من العناصر المعدنية خاصة عند مرحلة النمو والإثمار. فإن جميع أنواع الأتربة تحتوي على العناصر الضرورية للأشجار بنسب مختلفة وبحسب أنواعها، مثلا: التربة الطميية أغنى أنواع الأتربة والتربة الرملية أفقرها. لذا، يستحسن وضع الأسمدة العضوية البلدية المخمرة كالسماد الحيواني والأسمدة الكيميائية الضرورية وحسب الحاجة.

6. التقليم: يعتبر التقليم من أهم الأعمال الحقلية للأشجار المثمرة، لأنّه من الأعمال الأساسية لزيادة الإنتاج وجودة الثمار وزيادة عمر الشجرة إقتصاديا. إنّ عملية تقليم الأشجار يساعدنا على التحكم بطبيعة نموها. فإنّ أفضل الأشكال في التقليم هو الشكل الكأسي حيث يكون الإنتاج من الخارج والداخل ويسمح هذا الشكل بدخول الشمس والضوء. تبدأ عملية التقليم بعد الغرس مباشرة على إرتفاع يتراوح بين 50 و70 سم ويفضل أن يكون الساق قصيرًا، لأنه يتعرض للعوامل الطبيعية من حرارة وصقيع. وبنفس الوقت، يجب الإنتباه على أن يسمح بمرور الآلات الزراعية دون تضرر الأغراس. في العام الثاني، يبدأ التقليم التكويني وينتخب ثلاثة أو أربعة فروع وتقصّ الفروع المتبقية. أمّا الفروع المنتخبة، فيقص نصفها العلوي على أن يراعى بقاء البرعم العلوي نحو خارج الشجرة. في العام الثالث، أيضًا يستمرّ التقليم التكويني مع بدء تقليم تنظيم الأثمار خاصة في هذه الأصناف المبكرة الإنتاج. تقلّم بنفس الطريقة على أن تراعى البراعم الثمرية ويكون هذا التقليم خضريّا وتنظيم إثمار في آن واحد. ومع تقدّم عمر الأشجار، تزداد نسبة عملية التقليم لتنظيم الإثمار على التقليم الخضري للمحافظة على عمر الأشجار والحمل السنوي. وكذلك التقليم الإثماري يهدف إلى تنظيم الحمل بين الفروع والأغصان ليكون متساويًا نوعًا ما مع الإبقاء على بعض الفروع الثانوية لتكوين براعم ثمرية جديدة. أفضل توقيت لتقليم أشجار التفاح والكرز، يكون خلال الفترة الممتدة من تشرين الثاني وكانون الثاني أي بعد دخول الأشجار مرحلة الراحة والسكون وتساقط أوراقها.

7. حراثة الأرض: يجب حراثة الأرض ثلاث مرات سنويّا على الأقل خاصة في السنوات التي يقلّ فيها معدل تساقط الأمطار عن 700 ملم سنويًّا.

8. الرّي: من المفضل توافر مصدر مياه للري لمساعدة الأشجار على اجتياز الحرارة الشديدة في الصيف، كما حصل في هذا العام خاصة في بداية نموها وبعد زرعها في الأرض المستدامة، لأنّ عندما تقلع النصوب من المشاتل يبقى قسم لا يستهان به من جذورها الشعرية الماصّة في أرض المشتل، وأيضا تقلع قبل سقوط أوراقها. وهذان العاملان يؤدّيان إلى ضعف الشتول وحاجتها إلى الرّي.

9. جني الإنتاج: تقطف ثمار الأشجار المثمرة قبل نضجها بحوالي الأسبوع، كي تتحمل أعمال التوضيب والنقل والاستهلاك والتبريد. لكن لأصناف الفاكهه عدة مراحل للنضج حسب أنواعها؛ منها يتمّ نضجه خلال شهر أيار مثل الكرز، وخلال شهر تشرين الأول مثل بعض أصناف التفاح. تعتبر الثمرة ناضجة عندما تأخذ الحجم واللون الطبيعي لها، وعندما يصبح مذاق الثمار يحتوي على القليل من المادة القابضة (البكتين). أمّا عند قطاف الثمار، فيجب مراعاة النقاط التالية:
– الانتباه لعدم الضغط على الثمار باليدين لأنه يؤدي إلى تلف الثمار بعد القطاف بوقت قصير.
– عدم جرح الثمار عند القطف.
– يجب قطاف الثمار برفق حيث تنفصل عند نقطة الالتحام بالغصن، مع الانتباه إلى البراعم الأخرى التي يُعتمد على انتاجها السنة القادمة.

الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

نسبه الشريف وفضائله

هو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب من مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وهو من قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

وهو ابن عم رسول الله (ص) الّذي نصره وأواه وحماه في أوّل بعثته، ومنع المشركين من إيذائه وقتله حتّى أتاه اليقين.

قال فيه الرسول محمد (ص): «عليّ مني وأنا من علي».
كان علي أوّل رجل أسلم مع الرسول ولم يسجد لصنم قطّ، وأوّل من صلّى مع النبي في مكة المكرمة.

هو الطاهر وإمام أهل بيت النّبوة بنص اّية التطهير. فاتح خيبر في المدينة المنوّرة. حبّه حبّ للنبي وطاعته طاعة للرسول.

هو من رسول الله كمنزلة هارون من موسى (ص) دون النبوة. علي ولي الله وأمير المؤمنين. قال فيه الرسول الكريم (ص):» الزموا عليًّا في الفتن من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه .علي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم. اللّهم والِ من والاه وانصر من نصره، واخذل من خذله وأَدِرِ الحق معه.

من ميزاته عليه السلام

العلم والحكمة والشجاعة والتواضع والعدل والنباهة والهيبة والتسامح والكرم والسخاء والفراسة والبصيرة.

ومن ألقابه عليه السلام: أسد الله، وعمود الدين، والعروة الوثقى، وقائد الغُرّ المُحجَّلين، حيدرة الكرّار وأبو تراب، ويعسوب الدين، وزوج البتول، وباب مدينة العلم.

من تراثه «نهج البلاغة». جمعت فيه سيرته وأقواله وحكمه، وخبراته في شتّى الميادين. كان عليه السلام إذا دعي للطعام قال: «أجيب ونأتيك على ألّا تتكلف ما ليس عندك».

اشتهر بحبّه للمساكين، ونصرة المظلومين، والمساواة والعدل بين المتخاصمين. وامتاز بخشونة اللباس، وتبنى قضايا الفقراء لتحقيق العدالة الاجتماعية، والتجرّد عن المحسوبيات في السلطة والحكم والقضاء العادل.

من انجازاته

– إفتدى رسول الله (ص)، وبات في فراشه ليلة الهجرة المباركة لما تاّمر المشركون لقتله واجتمعوا عليه.
– كان مؤتمنًا على كتابة الوحي القراّني لثقة رسول الله (ص) به.
– شغل سفيرًا للرسول (ص) إلى القبائل كافّة.
– عمل مستشاراً خاصًّا ومقربًّا جدًّا من النبي (ص) في الأمور كلها.
– تثبيت دعائم الدّين الاسلامي ونشره في الأمصار.
– إعزاز الدين وحامليه على أرض الاسلام.
– الاقتداء بالرسول (ص) وتعظيمه والسير على منهجه.
– شارك في الفتوحات الاسلامية: بدر، وأحد، والأحزاب، والخندق، فتح خيبر..
– نصّ وحرّر كتاب صلح الحديبية قبل فتح مكة المكرمة.
– نقل مركز الخلافة الاسلامية من المدينة المنورة إلى الكوفة/العراق وشارك في 26 فتحاً مظفرًا.
– أهم ميراثه الامامين الحسن والحسين، والأئمة الأطهار من ذرية أهل بيت رسول الله (ص) الاثني عشر، حملة لواء الدين وأئمة الهدى. وممّا رُوِي عن رسول الله (ص): «نحن أهل بيت النبوّة لا نورّث درهمًا ولا دينارا، إنّما نورّث العلم. من أخذ به أخذ بحظ وافر».

حادثة مصرعه وإغتياله

كان الفيلسوف الفرنسي» روجيه غارودي» من أشد المتأثرين بفكر ونهج وانسانية وحكمة الامام علي عليه السلام، حيث وصفه بأنّه أول من وضع أسس ميثاق حقوق الانسان، عندما قسّم البشرية إلى: أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

وكان يردّد «غارودي» دومًا حادثة إغتيال الامام علي أمام طلابه في الجامعة، ونشرها في مؤلفاته معبّرًا عن مدى تأثّره بالوصيّة وما فيها من قيم الانسانية والرحمة والرّقي والحكمة:
«يا ولدي أوصيك الرّفق بأسيرك الذي ضربني وارحمه، وأحسن إليه واشفق عليه، بحقي عليك أطعمْه يا بني مما تأكل، واسقِه مما تشرب، ولا تقيّد له قدمًا، ولا تغلّ له يدًا ، فإنْ أنا متّ فاقتصّ منه، بأن تقتله بضربة واحدة، ولا تحرقه بالنار، ولا تمثّل بالرجل. وإن أنا عشت فأنا أولى بالعفو عنه».

ويكمل وصيته عليه السلام لولديه الحسن والحسين عليهما السلام:
«أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدنيا، ولا تأسفا على شيء منها، وقولا بالحق واعملا للأجر، وكونا للظالم خصما ً وللمظلوم عونًا… إلى اللقاء على الحوض».

من أجمل ما ورد عنه عليه السلام:
وقال أيضًا:
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
ولا تجزع إذا ما ناب خَطْبٌ فكم لله من لطف خفي.

وقال أيضًا:
دواؤك فيك وما تبصرُ وداؤك منك وما تشعر
أتزعم أنّك جرم صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ.

السلسلة الذهبيّة لروحانيّة أفلاطون:
من أكاديمية أثينا إلى حاضِرة الإسكندرية!

من أثينا إلى الإسكندرية، امتدّت في القرونِ الأولى للميلاد «سلسلةٌ ذهبيّةٌ» انتقلت من خلالها الفلسفةُ المِثاليّة، والحِكمةُ الصُّوفيّة الرُّوحانية، والعلومُ الإِلَهيّة لدى أفلاطون إلى حَاضِرة العلوم والثقافات وملتقى الشعوب والحضارات، بعدما كانت تلك السلسلةُ قد نقلت فيما مضى العلومَ الهِرمِسية والفيثاغورية والأُورفية إلى الواحة الأفلاطونية. وتواصلت هذه «السلسلةُ الذهبيّة» بعدئذ عبر القرون من خلال صَفوةٍ من الفلاسفة الحكماء الذين حَمَلوا هذه «الأمانة»، وأبقوها للنُّخبة بعيداً عن غوغاء الفكر ومُلوِّثاتهم، إلى أن تلقّفها في الإسكندرية فلاسفةُ الفيثاغوريين الجُدد والأفلاطونيين المُحدثين، ليُتابعوا بإثراءاتهم الخاصة النَّهجَ الرُّوحاني لأفلاطون نحو معرفة الإِلَهيات والوحدانية بفلسفةٍ صوفية من دون الانغماس في الجَدَل العقيم والمَتاهات العقلية المُؤدِّية إلى الحيرة، كما فعل بعضُ المُتَفَلسِفين في ذلك الحين.

الأكاديمية بعد أفلاطون

كانت أكاديميةُ أفلاطون قد حافظت على نشاطها بعد وفاة سيِّدها في القرن الرابع قبل الميلاد، حيث واصل الطلابُ الجُدد الدراسات في الرياضيات والهندسة على خُطَى منهجيّة فيثاغورس وفلسفة أفلاطون، بينما انخرط الطلابُ الأكثر نُضْجَاً في نقاشاتٍ استكشافيّة في المُثُل العليا والهندسة الحَيَّة للكون. وحافظ كبارُ التلامذة أمثال سبيوسيبوس (Speusippus) وإكزينوكراتيس (Xenocrates) وبوليمون (Polemon) على التقليد الفيثاغوري في الأكاديمية، وحاضروا بدورهم في مختلف مواضيع محاورات أفلاطون. لكن في القرن الثالث قبل الميلاد، تراجعت الأكاديمية في ظل كرايتس (Crates) وأركيسيلاوس (Arcesilaus)، وتَحوَّلَت ما يُسمَّى بـ «الأكاديمية الوسطى» إلى الاهتمام فحسب بالجَدَل الفلسفي مع «الرُّواقيين» (Stoics). وإنّما هذه «الأكاديمية الوسطى» أو الجديدة هي التي تخلّت عن المفاهيم الفيثاغورية والأفلاطونية المثاليّة لتدخل في جَدَلٍ تَشَكُّكِي فلسفيّ على النمط الإغريقي، بل أصبح الجَدَلُ غايةً في حدِّ ذاته لا تمهيداً لاستقراء حقائق، فوصلَ الأمرُ إلى حدّ أنّ أولئك الذين كانوا يُعتَبرون وَرَثَةَ أفلاطون قد تخلّوا عن تعاليمِه الأصليّة فعلياً. وبحلول القرن الأول قبل الميلاد تراجعت أهمية أثينا كمركزٍ ثقافي وفلسفيّ بل تقلص حتى دورها الاجتماعي والسياسي، وفَقَدَ فلاسفتُها أصالةَ الفكرِ والرأي، فسعَى النَيِّرون منهم إلى الابتعاد عن بلاد اليونان، فانتقلَ بذلك مِشْعَلُ الفكرِ «الهِرمِسي-الأُورفي-الفيثاغوري-الأفلاطوني» من أثينا إلى رحاب مصر، إلى الإسكندرية، حيث كُتبَ للفكر الحِكْمَويّ انطلاقة جديدة.
وقد ساهمت الإسكندرية، الحَاضِرَةُ العالمية آنذاك التي جَمَعَت مختلفَ الأَعراقِ والفلسفات، وشكّلت صِلَةَ الوصلِ ما بين الفكرِ الإغريقي العقلاني وعُمقِ حكمةِ الشرق وبُعْدِه الدِّيني، في تَهْيئةِ الأجواءَ لإعادة الاهتمام بتعاليم فيثاغورس وأفلاطون، وباتت المدينةُ مستَعِدّةً لظهور شخصياتٍ فكرية تصوغ ذلك الاهتمام بلغةٍ راقية.

أمونيوس ساكاس

على أرصفةِ ميناءِ الإسكندرية، وفي ظِلالِ منارتِها الشهيرة وبجوارِ مكتبتِها التي أغنَت الأجيالَ والفكرَ البشري، تَنَقَّلَ «حَمَّالٌ»، وُلِدَ لأبوَيْن مسيحيَيْن نحو العام 175 ميلادي، يُدعَى أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) سعياً وراءَ كَسْبِ الرّزق (وينسب البعضُ اسمَ عائلته «ساكاس» Saccas إلى «حامل الأكياس»، بينما يرى البعضُ الآخر أنّ اسمَه يعني «درع أمون»)، وسط صَخَبِ تلاقي الشُّعوب والثقافات في مركز الحضارة العالمية آنذاك. لكنَّ العقلَ الوَقَّادَ لأمونيوس ساكاس جَعَلَه يرفضُ العقائدَ الدُّغمائيّة والميولَ الخُرافيّة السَّائدة لدى أتباع الفلسفة من جهةٍ والمعتقدات من جهةٍ أخرى، وأخذ يبحث في طبيعة الأشياء والحقيقة، بتَكرُّسٍ شديد وتأمُلٍ عميق في تعاليم أفلاطون، فضلاً عن فهم فلسفة أرسطو وفيثاغورس واستقراء البُعد الديني، فاكتسبَ من تأمُّلاته بصيرةً مُستَنيرة. وقد أطلقَ عليه هايروكليس (Hierocles) المعاصرُ اسمَ «ثيوديداكتوس» (Theodidaktos)، أي «المُتَعَلِّم إِلَهِيّاً»، بفضل بصيرتِه المُشرِقَة وحَدْسِه المُتَيقِّظ أبداً. ومن خلال استيعابه للتعاليم والأسرار الأفلاطونية والفيثاغورية، باتَ يُعتَبر عموماً أحدَ مؤسِّسي، ما لم يكن المُؤسِّسَ الأول، لِمَا يُعرَف حديثاً بـ «الأفلاطونية المُحدثة» (Neo-Platonism)، تلك التي تركت تأثيراً كبيراً على الفلاسفة والمُفكِّرين الدِّينيين لقرونٍ تَلَت.

وهذا التلاقي مع البُعْد الدِّيني الرُّوحاني الشرقي قد حَفَّزَ في تلك الفترة العودةَ إلى الفكر النَّقِي لكُلٍّ من فيثاغورس وأفلاطون والدَّعوَة إلى إعادة تجديد تعاليمهما. وكان أودوروس الإسكندري (Eudorus of Alexandria) قد وضع شروحات على محاورة «تيماوس» (Timaeus)، بينما فسّر ثيون السميراني (Theon of Smyrna) العقائدَ الرياضيّاتية لأفلاطون في دراسةٍ لا تزال موجودة، ورَتَّبَ عالِمُ الفلك ثراسيلوس (Thrasyllus)محاورات أفلاطون على نحو يسهِّل للقارئ استيعابها. أمّا جالينوس (Galenus) الطبيبُ الشهير، فقد استغرقَ في الفلسفة الأفلاطونية بأدقّ التفاصيل، وسادَ توقٌ للاطّلاع على تعاليم الحكمة الدِّينية القديمة.

حكمة القدماء الإِلَهيّة المقدّسة

وبعد تعمُّقٍ لفترةٍ طويلة في الفكر الأفلاطوني، أسّس أمونيوس ساكاس مدرسةً فلسفيّة في الإسكندرية نحو العام 193 ميلادي، وكانت تعاليمُه شَفَهيّةً إذ رفضَ رفضاً تاماً أي تدوينٍ وأَلزمَ تلاميذَه بعهودٍ ومواثيق بألَّا يُفصِح أحدٌ منهم عن تعاليمه السرّية. وكَتَبَ فورفوريوس الصُّوري (Porphyry of Tyre) بأنّ أبرزَ تلامذةِ أمونيوس هم إيرينيوس (Erennius) وأوريجينوس (Origen) وأفلوطين (Plotinus) وقد قَطَعوا وعداً بعدم إفشاء العقيدة الحقيقية لأمونيوس، ولو أنّ «إيرينيوس نَكَثَ هذا العهد». وهذه الدائرة الداخلية من أتباع أمونيوس التي انتمى إليها هؤلاء الثلاثة، قد نَقَلت القدرَ الكبير من تعاليم أمونيوس، وعلى الأخص أفلوطين وأوريجينوس (أبرز آباء المسيحيين الأوائل)، لكنّهما نَسَجَا تلك التعاليم ضمن صياغة أفكارهما الخاصة، مع مُراعاة عهدهما للحفاظ على «الأسرار». وهذا ما أكّده كليمنت الإسكندري (Clement of Alexandria)، الذي كان يُبجِّل أمونيوس، وتحدَّث عن وجودِ مدرسةٍ تتَّبِع الأسرارَ لدى المسيحيين الأوائل، وهو كان عضواً فيها، وذلك يُظهِر مدى سعة وشفافية تعاليم الأفلاطوني أمونيوس الذي احتضنَ تلاميذَ مُوالين له من مختلف الانتماءات والعقائد.

وتَركَّزَت تعاليمُه، بما عُرِفَ منها، على وحدانيّة الواحد، المبدأ المُطلَق، المُتَعال، فوق الوصف، وفوق الإدراك البشري، وخَلُصَ إلى أنّ النفس البشريّة هي إشعاعٌ خالدٌ من النفس الكونيّة وبالتالي هي خالدة ومن أصلٍ عُلويّ، كما كَتَبَ الأفلاطوني المُحدَث نيميسيوس الحمصي (Nemesius of Emesa) (أواخر القرن الرابع للميلاد)، وأنّ هناك جوهراً أخلاقياً في قلب كُلّ امرئٍ، بل وكُلّ نظام ماورائي، وأنّ التفكير المجرّد في العُلويّات يُحوِّل طبيعةَ البشر من خلال النور المُقدَّس الذي يكشفه.

وأكّد أمونيوس أنّ «حكمة القدماء الإِلَهيّة المقدّسة» (Theosophia) هي أُمّ كُلّ الحقائق، ومَنْ يَتَّبِعها يرقَى بحياةٍ ملؤها الاحترام والإنسانية والتعاطف مع كُلّ المخلوقات. وقد أَصرَّ في مدرسته على أقصى الانضباط الأخلاقي المُتَّفِق مع روحانيّة تلك الفلسفة، وشَدَّدَ على تَنقِيَة الفكرِ والرُّوح والجسد بالتأمُّل الفلسفي. ويَذكُر نيميسيوس اثنَيْن من التعاليم التي تشتمل على وجهات نظر أمونيوس، وهما يتعلّقان بطبيعة النفس وخلودها وعلاقتها بالجسد، مُشدِّداً على أنّهما من التعاليم الشَّفَهِيّة فحسب.

لقد عَلَّمَ أمونيوس تلاميذَه أنّ الحكمةَ الأكثر عُمقاً وصدقاً نجدها حقاً في فلسفات الشرق، وأنّ مصدرَ تعاليمِ مدرستِه يعود إلى الأصل ذاته كتعاليم فيثاغورس وأفلاطون، أي إلى الحكمةِ المصرية، كُتُبِ «تحوت-هِرمِس» المقدّسة.

ومن هذا المنطلق اعتبرَ أمونيوس أنّ ثمة تناغماً بين فلسفات أفلاطون وأرسطو، إذا ما فُهِمَت على نحو صحيح، وقد حذا بذلك حذو نومينيوس الأفامي (Numenius of Apamea).

«مُحبِّو الحقيقة» والدُّرُّ الهِرمِسيّ المَكنون

لقد كان طُلّابُ المعرفةِ يوفدون إلى مدرسة أمونيوس واحداً تلو الآخر، بعدما كانوا يجدون التعاليمَ التقليدية السائدة آنذاك غير ذات نفعٍ، ومن ثمّ كان كُلُّ واحدٍ منهم يُنهِي تعليمَه وينطلق في رحاب العالم ناقِلاً تلك التعاليم لكن بحسب فَهْمِه الشخصي. وجديرٌ بالذكر أنّ هذه المدرسة كانت تنقسم إلى ثلاثِ درجات – المُبتَدِئين، المُلَقَّنين، والأسياد – وجميعهم مُلزَمون بعهودٍ للحفاظ على سرّية التعاليم في كُلٍّ من هذه الدرجات الثلاث، وقد استُمِدّت هذه القواعد من «أسرار أورفيوس» (Mysteries of Orpheus)، تلك التي جاء بها من الشرق، بحسب «أب التاريخ» هيرودوتس (Herodotus).

وسعى العديدُ من تلامذة أمونيوس الأفلاطونيين إلى إثبات وجود الحكمة الكونيّة داخل جميع التقاليد. ومن بين هؤلاء الفيلسوف لونجينوس (Longinus)، الذي نَقَلَ أفكارَ أمونيوس إلى عالم السياسة كوزيرٍ لمَلِكَة تدمر الشهيرة زنوبيا. ويُعتَقد أنّ فورفوريوس الصُّوري قد دَرَسَ على لونجينوس قبل أن يصبح تلميذاً لأفلوطين.

وكان لهؤلاء التلامذة النجباء تأثيرٌ على المسيحيين الأوائل. فقد وضع أوريجينوس المنوّه عنه آنفاً، وأحد أبرز تلامذة أمونيوس في الإسكندرية المعروف أيضاً باسم أوريجين أدمانتيوس (Origen Adamantius)، شروحاتٍ رمزيّة وروحيّة مكثّفة على نصوص العهدَين القديم والجديد مُمَهِّداً الطريقَ أمام التأويلات الثلاثيّة للنص: الحرفي، والرمزي، والرُّوحاني، بل إنّ هذا التأثيرَ ترك بصماتِه لاحقاً على مُفكِّرين في عصر النهضة، من بينهم بيكو ديلا ميراندولا (Pico della Mirandola).

وكان أنْ طمَحَ الفيلسوفُ الإغريقي سيلسوس (Celsus) إلى قراءة العقيدة المسيحيّة الأصيلة تحت أضواء تعاليم أفلاطون، فأَمَرت الكنيسةُ بإتلاف جميع كتاباته، ويُقال إنّ هناك نسخةً من كتابه «العقيدة الحقيقية» تقبع في غياهب دير جبل «آثوس» (Athos) في اليونان.

وأُطلِقَ على تلامذة أمونيوس لقب «أصدقاء الحقيقة» (Philaletheans) أو «مُحبِّي الحقيقة» (Theosophists) لأنّهم كانوا يسعون إليها أينما وُجِدَت، ويرقون بالتأمُّل فوق محدوديات المادة وعالمها. وأُطلِقَ عليهم أيضاً لقب «أتباع المُمَاثَلة والمُطابَقة» (Analogeticists) لأنّهم فَسَّروا جميعَ الأساطيرِ والتعاليم والأسرار اتباعاً لمبدأ المُمَاثَلة والمُنَاظرة والمُطابَقة أو المُقارَنة.

بل إنّ أمونيوس أطلقَ على فلسفتِه الرُّوحانيّة «الحكمةَ الإِلَهيّة الاصطفائية» (Eclectic Theosophy)، لأنّه كان يَستَشِفُّ الحكمةَ المقدّسة في جميع التقاليد، إذ بَقِيت محفوظة ضمن عقائدها حيث أُسدل عليها لِثَام السرّيّة، وكذلك في شَذَراتٍ من الحقائق التي انتظرت طويلاً مَنْ يُسلِّكها كالدُّرّ المَكنُون. وبقيت مدرسةُ أمونيوس في الإسكندرية بعد وفاته، وواصلت تعاليمُه تُلقِي بظلالها الفلسفية الوارِفَة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط حتى مطلع القرن السادس ميلادي، في تلك الفترة التي أَمَرَ فيها الإمبراطورُ البيزنطي جوستنيان (Justinian) بإغلاق الأكاديمية، وكُلّ مدرسةٍ حَذَت حذوها. وقيل إنّ سبعةَ حكماءٍ من الشرق، من أرض الكِنَانة، من «المدرسة الأفلاطونية المحدثة»، تركوا الإسكندرية وغادروا إلى بلاد فارس والهند، لتَتَوشَّح تلك الحكمة الفلسفيّة بوشاح الخَفاء، ولتبقى كُتُبُ هِرمِس المقدّسة من دون مُفسِّرين لها في أوروبا المسيحية.

خاتمة

لكن مَنْ تَلقَّفَ المِشْعَلَ الأفلاطوني من أمونيوس؟ لقد كان أفلوطين التلميذَ الأكثر استنارةً واقتداراً، ودرس على أمونيوس لمدّة أحد عشر عاماً قبل أن يُؤسِّس مدرسةً له في روما مُتّبِعاً خُطَى مُعلِّمِه في النزاهةِ والنقاء والعُمق الرُّوحاني، والارتقاءِ بالنفس إلى المَلأ الأعلى. وللبحث صلة في الدراسة المقبلة.
ويبقى السؤالُ، ما هي الأسرارُ أو التعاليم التي أصرّ أمونيوس على أن تبقى خفيّةً من دون إفشاء؟ وهل نقل «حَمَّالُ» الإسكندرية أمانتَه الأفلاطونية إلى تلميذه أفلوطين؟ سنرى في العدد المقبل.


المراجع:

– Plotinus of Ammonius Saccas, Karel Hendrik Eduard Jong, E.J. Brill, 1941.
– Ammonius Saccas and His “eclectic Philosophy” as presented by Alexander Wilder, Author: Jean-Louis Siemons, , Institut National Agronomique, 1988.
– Essai Historique Sur La Vie Et La Doctrine D’ammonius Saccas, Louis Joseph Dehaut Publisher, Nabu Press (October 19, 2013). ‎
– The Heirs of Plato, A Study of the Old Academy, By: John Dillon January 30, 2003. Publisher: Clarendon Press.
– Karamanolis, G., (2006), Plato and Aristotle in Agreement?: Platonists on Aristotle from Antiochus to Porphyry, Oxford University Press.

مقام الصدق في مسلك التوحيد

عرضنا في العدد السابق من الضحى (38) لمقام «المحبة» لمركزه الأثير في ثقافة التوحيد والعرفان؛ ونكمل في هذا العدد بيان أهمية مقام «الصدق»، صُنوِ المحبة، بل صورتها الملموسة.

تتدرج معاني الصدق من الأقرب منالاً، أي «الصدق» في معناه المباشر؛ إلى الصدق في معناه الاجتماعي؛ إذْ كيف يقوم مجتمعٌ أو تقوم حضارةٌ ( كالكثير من أحوال الحضارة المادية الاستهلاكية المسيطرة اليوم) على الكذب، نقيض الصدق؟ وصولاً إلى الصدق بمعناه الديني والتوحيدي على وجه الخصوص.

الصدق في أقرب معانيه، وربما أظهرها عياناً هو: صدق اللسان. هو التطابق بين الدّال مع المدلول، والتعبير مع الأصل؛ هو تطابق الظاهر مع الباطن، والفعل مع القصد أو النيّة.

وقبل أن نتناول الصدق في معناه الأعمق بعض الشيء، نقول ومن وجهة عملية، أنّ الصدق فضيلة أخلاقية، عملية، يقوم عليها إجماع منقطع النظير بين سائر الرسالات السماوية؛ وفي تعبير ابراهيم اليازجي النهضوي: «الصدق عمودُ الدين». وعن الإمام علي بن أبي طالب قوله : «النجاة في الصدق». وعن الخليفة عمر بن الخطّاب قوله: «لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدّى وإذا أشفى (همّ بالمعصية) ورع».

لكنّ الصدق في حقيقته الأعمق أكثر من ذلك: هو بطلان الثّنائية، وامحاؤها. إذ لا مكان لها في مقام الصدق. فالمعرفة الآن هي عينُ العارف، وبالحق تُعرفُ الأشياء. وأعلى مراتب العرفان الممكنة حين لا يحتاجُ الحق إلى برهان؛ فيغدو هو نفسه الدليل والشاهد والشهادة، وعلى قدر اجتهاد الساعي وقدراته. وكلما اقترب من عين المعرفة، اختفى الأين والكيف، واتّحد العارف بالمعروف، رمزيّا؛ فارتفع حجاب القول، وغدا الصمت أشدّ دلالة وأكثر إبلاغًا. وما النورُ الذي يضيءُ بعضَ الأمكنة، أو مُحيّا بعض المختارين، غير الترجمة المحسوسة (الهادفة أحياناً) لمقامَي المحبة والصدق. وعن ميخائيل نعيمه قوله: «الحياة مزيج من الصدق والكذب، أمّا السكوت فصدقٌ لا غشّ فيه».

وإذا انتقلنا إلى ثقافة مسلك التوحيد وأخلاقياته، فغيرُ خفيٍ المقام الرفيع الذي يوليه مسلكُ التوحيد لمقام الصدق، في مستوياته ومندرجاته كافة؛ فمثلُ الصدق من الدين، وفق مسلك التوحيد، كمثلِ الرأس من بقية الجسد.. وكذا تشديده على أن الصدق كمالُ التوحيد. وقد تجسّد التوحيد العرفاني هنا في مسلك أخلاقي، عملي صارم: الصدق في صلب الإيمان، لا مكان للكذب وأهله، ولا تبرير له في كل الأوقات والأحوال. وبسببٍ من التشدد هذا، أشار الرحّالة، والكتّاب، الأجانب والمحليون (الشدياق، اليازجي، مارون عبّود مثالاً)، إلى تجذّر فضيلة الصدق في سلوك الموحّدين، إذ جعلوا صدق اللسان فضيلة ترقى إلى مستوى الإيمان الديني. ومارون عبّود يقول: « إنّ ذلك متوقّع من رجال الدين، لكنّ الأمر عند الموحدين الدروز يتعدّى ذلك إلى عموم الجمهور» (مارون عبود، في مقدمته لكتاب أمين طليع «أصل الموحدين الدروز).

نقيضُ الصدق الكذب، بكل مندرجاته وألوانه. ولا تبرير للكذب، كما يُزعمُ أحياناً، إلا بما تدفعُ إليه أنانيّتنا، وغرائزنا، أي الجزء الحيواني فينا. وإذا كان الصدقُ هو صدقُ اللسان والسريرة والفعل ؛ فنقيضه الكذب وهو النفاق والتزوير والمخاتلة والرّياء والخداع. لكنّ مدلول ذلك أخطر شأوًا. فإذا كان الصدق هو تجلّي الإيمان عياناً، فالكذب هو الكفر، أي الشك، عياناً. وقبل أن يكون الكذب خداعاً للآخر، هو تجديفٌ على الحقيقة، بل محاولة مضحكة للتجديف على الحق المطلق أو الله تعالى، العارف العالم بما ظهر وما خفي، من أفعالنا ونوايانا «وكان الله بكل شيء محيطا» (سورة النساء، 4: 126)

هوذا حال مقام الصدق، المفضي إلى التّصديق؛ الأظهرُ لحقيقتنا كأفراد، والأظهرُ لحقيقة إيماننا، والأقربُ تعبيرًا عمّا فينا من خير بالمعنى الأشمل؛ أي الالتزام بالحق والحقيقة؛ والنأي كليًّا عن الشرّ، بما هو جهل بالفضائل، وشكٌ بحقيقة النظام الكوني، والبشري، المؤسس على مركزية فكرة الله الخالق لكل شيء، العارف بكل شيء، القادر على كل شيء، عن عدل لا عن ظلم؛ كمالُ الصفات، بل كمالُ الكمالات: ما نعرفُ منها، وهو القليل، وما نسعى إلى المزيد من معرفته والاستضاءة بنوره.

اختصارًا، الصدق يكون على أنحاء ثلاثة: صدقٌ مع الناس، صدقٌ مع الذات، وصدقٌ مع الله تعالى، وهو معنى التصديق.

وما من نحوٍ يُغني عن نحوٍ آخر، أو يقوم مقام نحوٍ آخر. بل الصحيح أن كل صدقٍ (إذا صحّ) إنّما هونَحوٌ يقود إلى النحو الثاني فالثالث. فإذا صحّ الصدقُ مع الذات، صحّ بسهولة الصدق مع الناس؛ وليكتمل ويتوّج بالصدق مع الله. وفي السويّة نفسها، إذا صحّ الصدقُ مع الناس، غدا سهلاً الصدقُ مع الذات، واكتمل بالصدق مع الله. وإذا صحّ أعظمها، الصدق مع الله، بات الصدق مع الذات والصدق مع الناس من باب تحصيل الحاصل، ولا يحتاج إلى جهد كبير.

الأنحاء الثلاثة من الصدق نحوٌ واحد في الحقيقة: فإذا صدق المرء في واحد منها، صدق تلقائياً في النّحوَين الباقيين.
أخيراً، الصدق مطلوب ليس فقط حين يلائمنا؛ وإنما في كل الأوقات.
يبقى أن أفضل تعيين لمقام الصدق (وأهله)، ومن وجهة مسلكية أخلاقية عملية، القول: «الإيمان هو أن تؤثر الصدق حين يضرّك على الكذب حين ينفعك»
هكذا يكتمل، إلى حد ما، التعريف بالرّكن الثاني في ثقافة التوحيد، مقامُ «الصدق»، (دون الدخول في المعاني القصوى لمفهوم الصدق) وهي خارج حدود هذه الفقرة.

معمل الحرير في بتاتر
(أنشئ في عام 1841)

في أثر الثورة الصناعية في أوروبا، والصراعات بين دول القارة الأوروبية؛ وعندما فشلت فرنسا في الحفاظ على مصر كمورد لزراعة القطن، توجهت نحو صناعة الحرير في لبنان وذلك بسبب حُسن موقعه الجغرافي ومناخه وجودة تربة بعض مناطقه، سيّما في جبل لبنان، لزراعة شجرة التوت وهي الغذاء الوحيد بورقها لتربية دودة الحرير.

عام 1841 قدم إلى بتاتر رجل أعمال فرنسي اسمه «فورتينه بورطاليس» مع أشقائه الأربعة، وعمل بالتنسيق مع الشيخ يوسف عبدالملك على بناء معمل حديث للحرير في البلدة، فاشترى أرضًا مناسبة للمشروع من الشيخ عبدالغني عبدالملك، وباشر فورًا بأعمال البناء والتحضير للمشروع بدعم مباشر ومساعد من الشيخ يوسف بك عبدالملك خلافًا لرغبة الأمير بشير الشهابي الثاني المعارض لبناء المشروع في بتاتر، كونه تحت وصاية الشيخ يوسف بك عبدالملك وتحديدًا في بلدته، لأنّ الشيخ يوسف ليس من أتباعه أو جماعته. عمل الأمير بشير عملًا جاهدًا لتغيير مكان المشروع ونقله الى بلدة أخرى، لكنّه لم يتمكن من ذلك، وفشلت كل مساعيه ومحاولاته أمام توافق السيد «فورتينه بورطاليس» مع الشيخ يوسف عبدالملك، واستمرّ العمل بقوّة على انجاح المشروع.

ولد «فورتينه بورطاليس» عام 1815 بعد واقعة أو معركة واترلو في فرنسا، وفي مدينة أكس.. والده «اتيان بورطاليس» ابن وزير العدل الفرنسي في عهد نابليون بونبارت الأول الذي ساهم في سن شرائع نابليون الشهيرة.

أتى «فورتينه بورطاليس» إلى مصر عام 1827 ثمّ إلى سوريا ولبنان عام 1838.

أنجب «فورتينه بورطاليس» ولدًا اسمه «بروسبيير» عام 1855 الذي خدم مدته العسكرية بعد تخرجه الجامعي، وعاد إلى لبنان وشارك والده في أعمال معمل الحرير، ويقال إنّه تفوّق على والده في حسن وعمل ادارة المعمل في بتاتر، وحقّق نجاحًا باهرًا في هذا المجال وتطوره آنذاك.

إشترى «بروسبيير» سرايا عبدالله باشا في رأس بيروت، وهي من أجمل المراكز. فكان يمضي فصل الشتاء فيها متنقلاً بين بيروت وبتاتر لمتابعة سير عمل معمل الحرير.

لوحة حجرية كتب عليها شركة بورطاليس اخوان بعد 6 سنوات من انشاء المعمل عام 1947


عام 1847 سكن «فورتينيه بورطاليس» وعائلته في بتاتر بعد أن اشترى بمساعدة ودعم الشيخ يوسف عبدالملك منزلاً في بتاتر، لازال قائماً وموجوداً لغاية هذا اليوم، علماً أنه قد جرت أعمال مستحدثة على البناء القديم.

بتاريخ 19 آذار 1847 سُجّل في محفوظات القنصلية الفرنسية مستند يقول:» نحن شارل ياجرشميت حامل أختام قنصلية فرنسا العامة في بيروت.. انتقلنا بأمر السيد القنصل العام الى معمل الحرير في بتاتر لأصحابه السادة بورطاليس اخوان بغية القيام بمعاينة حالة معمل الحرير المذكور حيث جرى وصفه بحالة الأعيان وبواقعة الموجود من ناحية البناء والموجودات وكل الممتلكات والأراضي والأبنية التابعة للمعمل».

تمّ شراء أرض المعمل في بتاتر بموجب عقد بيع، أي حجّة محررة من قبل الشيخ يوسف عبدالملك باسم عبدالله تيم.. وهذا العقد حفظ في القنصلية الفرنسية في سجل الايداعات بالمحفظة رقم 22 و 25 و 26 وأودع في خزنة ايداعات القنصلية الفرنسية بتاريخ 31 آذار 1847 على يد السيد «نقولا بورطاليس» ممثل المؤسسة أي معمل الحرير في بتاتر، وهو شقيق «فورتينه»، وأحد الشركاء في المؤسسة.

ساعد السيد «فورتينيه بورطاليس» وبعده ورثته وزوجته ماليًّا بشق الطريق الرئيسية، والتي تفرّعت من طريق عام بحمدون – بتاتر الى بلدة رويسة النعمان، بعد طلبات ووساطات من قبل أهالي رويسة النعمان لدى مشايخ آل عبدالملك في بتاتر وأصحاب معمل الحرير.

بعد هزيمة ابراهيم باشا تمّ تعيين شكيب أفندي حاكمًا من قبل السلطات العثمانية، ونفي الأمير بشير الشهابي إلى مالطا.. أصدر شكيب باشا فرمانًا طلب فيه مغادرة جميع الأجانب في مقاطعة جبل لبنان.. رفض «نقولا بورطاليس» المغادرة، واستقرّ في بتاتر حتى العام 1847، بعدها باع حصته في الشركة والمعمل الى أخيه «فورتينيه»، وسافر إلى مصر نهائياً.

توفِّي «فورتينيه بورطاليس» بتاريخ 9 شباط 1882 في بتاتر في يوم مثلج وطقس شديد البرودة، ودُفن في تربة اللاتين في بيروت.

بعد إتمام أعمال البناء في بتاتر وتجهيزه بأحدث المعدات آنذاك.. قام السيد» فورتينيه» المعروف على لسان عامة الناس في بتاتر والجبل (بالخواجة فرتوني) باستقدام أربعين امرأة غازلة للحرير من فرنسا، بهدف تدريب وتعليم الصبايا والنساء العاملات في المعمل على كافة أعمال الغزل والانتاج وغير ذلك. يذكر أنّه للمرة الأولى في تاريخ جبل لبنان آنذاك تخرج الفتاة أو المرأة إلى ميدان العمل لمشاركة الرجل في مواجهة أعباء الحياة المعيشية.. حيث قام السيد «فورتينيه» انطلاقًا من ذلك بإقامة برنامج ونظام عمل للنساء بغير أوقات دوام عمل الرجال، وكلّف عليهم مراقبين لتتابع حركة مجيئهم إلى مكان عملهم، ومرافقتهم أثناء المغادرة إلى منازلهم، احتراماً للتقاليد والأعراف الجبلية في التربية العامّة المحافظة، والبعيدة عن الاندماج بين الرجال والنساء أثناء العمل.

ترافق مع قيام المعمل الدعوة والعمل على تشجيع زراعة شجرة التوت في بتاتر وقرى الجرد والجبل عامة، واشترت شركة «بورطاليس اخوان» في بتاتر مساحات شاسعة من الأراضي، وزرعت فيها شجرة التوت.. وقامت أيضاً ببناء بركة مياه كبيرة في أول البلدة تعلو بناء معمل الحرير، وهذه البركة لازالت موجودة وتعرف ببركة الخواجة، وكان الهدف منها تجميع المياه في فصل الشتاء، وهي ضرورية لغلي الشرانق.. كما تمّ إقامة بناء كبير مستطيل الشكل قريب من وجود المعمل وشبيه له من ناحية البناء، وكان بمثابة سكن للعمال حيث لازال موجودًا بحالته الطبيعية الجيدة، لكن دون سقفه الترابي الذي تهدم بفعل عامل الزمن والاهمال.. كما تمّ بناء مبنى عقد متوسط في أول البلدة أيضًا عرف بدكان الكرخانة، يحتوي على كل حاجيات الناس الأساسية في حياتهم اليومية..حيث أصدرت آنذاك شركة «بورطاليس» عملة نقدية خاصة باسمها كانت تدفع للعمال والأجراء كأجور لهم يشترون بها حاجياتهم من هذا الدكان، ومن بعض المحالّ التجارية في سوق بتاتر التجاري الكبير.. حيث تواجد فيه آنذاك كلّ ما يحتاجه المواطن من البلدة والجوار من حاجيات.

اعتبر معمل الحرير في بتاتر الذي انشأ في العام 1841 من أكبر المعامل وأحدثها في لبنان وسوريا في تلك الحقبة.. حيث قُدر حجمُه آنذاك ب 210 دواليب كان تنتج أفخر وأجود أنواع الحرير التي كانت تُصدر إلى فرنسا وكلّ الأسواق الأُوروبية..وقُدر إنتاجه سنوياً ب 130 ألف أقة شرانق.

عُرف السيد «فورتينه بورطاليس» بذكائه الحاد وفطنته السريعة، وحسن معشره وجمال حديثه، وأسلوب تعاطيه مع عمال المعمل، ومع عامة الناس في بتاتر، التي سكنها وعاش مع أهلها فترة من الزمن.. وكان له أخبار مميزة وجميلة ونوادر متعددة. وكان آنذاك محور احاديث عامة الناس في معظم حياتهم اليومية في البلدة ومن عرفه.. ومن نوادره نذكر: إنّه كان يقرض الناس أموالاً مُسبقة يستردها شرانق في الموسم السنوي القادم من المواطن، وكي لا يتمنع أو يتخلف المواطن عن الدفع والوفاء بالالتزام، قام بوضع كتاب الانجيل المقدس على الطاولة أمامه، وأوصل اليه سلك كهربائي بطريقة غير مرئية، كان يشعر المواطن بالارتعاش عندما يضع يده على الانجيل ساعة اقتراض المبلغ، وتأديته واجب القسم والحلفان.. هنا يدخل المواطن في حالة رهبة وخوف وإيمان عميق بالانجيل ممّا يجعله يبادر إلى الوفاء بالوعد بالموسم والوقت المحدد.

ما تبقى من اثار معمل الحرير


جلب السيد «فورتنيه بورطاليس» نصبة شجرة الزهري وأكثر من زراعتها في بتاتر، وعُرفت آنذاك بزهرة بتاتر، التي تستعمل زهرتها أي ثمرتها كالشاي خاصة في أيام الشتاء، وهي مفيدة لمعالجة الرّشح والزكام. وما زالت بتاتر غنية ببعض هذه الأشجار.. كما زيّن مدخل معمل الحرير بأشجار الكستناء البريّة.

تميّز بناء المعمل في بتاتر وبالتحديد على مدخله الرئيسي وجود ساعة متوسطة الحجم، وضعت على بناء حجري عالي بشكل معقود، بهدف الحفاظ على الوقت والالتزام بدوام العمل. ويوجد لتلك الساعة مثيل لها أمام البرلمان اللبناني في بيروت لكن بشكل أكبر.

عام 1864 تمّ شق أول طريق فرعية عن الطريق الدولية المعروف بخط الشام الدولي إلى المعمل في بتاتر، وكان ذلك في عهد المتصرف داوود باشا، ونفّذ المشروع آنذاك على نفقة شركة «بورطاليس أخوان» التي تنازلت عن حقها في الطريق في ما بعد لصالح الدولة اللبنانية.

خلق انشاء معمل الحرير في بتاتر نهضة اقتصادية وحركة تجارية واسعة، طالت أيضًا كافة قرى الجوار، وانتعشت المحال وسوق البلدة بحركة تجارية، ونهضة شاملة، وقصدها وسكنها العديد من المواطنين من خارج البلدة، ومنهم من استقرّ فيها لأنها شهدت حركة تجارية وانمائية واسعة، فيها العديد من الأعمال وفرص العمل.. لهذه الأسباب إضافة إلى دورها السياسي والاجتماعي من خلال وجود عائلة عبدالملك صاحبة القرار والنفوذ آنذاك في المنطقة، حيث كانت عامة البلاد تحت حكم النظام الاقطاعي العام.. اعتبرت بتاتر عاصمة الجرد آنذاك، وكانت تتبعها العديد من قرى المنطقة، لكنّ بعد الاحداث الطائفية عام ،1860 ثمّ إقامة نظام المتصرفية، بدأ يضعف دور الاقطاع السياسي ومعه الحركة الاقتصادية في بتاتر. وكان لمجيء الارساليات الأجنبية، والدور الفرنسي في لبنان سبب في تغيير الموازين الاجتماعية والسياسية.. قُسّم بعدها الجرد الى قسمين: شمالي وجنوبي، الجرد الشمالي وعاصمته بتاتر ويتبعه 12 قرية من قرى الجوار، والجرد الجنوبي عاصمته رشميا.

لوحة حجرية تؤرخ تمركز الجيش الفرنسي في جوانب المعمل وذلك بعهد الجنرال نابوليون الثالث.


استمرّ عامل الاستقرار لدى المواطن الجبلي ولا سيما في بتاتر والجوار، وعاش البحبوحة والانتعاش لحين اندلاع الأحداث الطائفية عام ،1860 وما أعقبها من متغيرات.. ومن ثمّ ظروف الحرب العالمية الأولى عام 1914 وما رافقها من أعمال قهر وظلم واستعباد ومجاعة وعوز، في ظل وجود الاستعمار التركي والحكم العثماني. توقف العمل في معمل الحرير بعد الحرب العالمية الأولى، وتقاسم الورثة الأملاك، وموجودات المعمل، وباعوها الى السّيدين عبدالله الهبر، وجورج معاصري.. الذين بدلًا من أن يحافظوا على البناء المميّز، ذي الطابع التراثي، قاما بهدم كامل البناء وبيع حجارته وجميع معداته، حيث لم يبق منه سوى أقبية العقد المصالبة بأسفل الباحة، التي استعملها الجيش الفرنسي أثناء وجوده في لبنان، وكانت بمثابة أقبية للخيل يوم انشاء المعمل.. كما بقي لوحتان حجريتان حفر عليهما تاريخ انشاء المعمل وتاريخ وجود الجيش الفرنسي فيه، وذلك بعهد نابليون الثالث عام 1864.

كان لهدم معمل الحرير في بتاتر وبيع موجوداته آنذاك، وفي غفلة من الزمن، أثر سلبي في نفوس الناس، وكانت عملية طمس لمعلم تاريخي واقتصادي هام في جبل لبنان.

في بداية الخمسينات من القرن الماضي، اشترى رجل كويتي اسمه عبدالله عبداللطيف العثمان كامل الأملاك والأراضي من السيدين عبدالله الهبر وجورج معاصري، وحافظ على ما تبقى من بناء المعمل، كما استحدث بعض الغرف والانشاءات الملاصقة لأقبية العقد المذكورة.. واهتم بمعظم الأراضي المزروعة، وقام بزرع العديد من أنواع أشجار الفاكهة وغيرها، وحوّل قسمًا كبيرًا من أراضي المعمل إلى منتجع سياحي جميل، زيّنه بحديقة عامّة، وبألعاب للأطفال حيث كنّا ننظر إليه بشغف، ونتمنّى الدخول إليه ونحن أطفال.. استقدم عبدالله عبداللطيف العثمان أشهر الفنانين اللبنانيين والعرب، وأحيوا الكثير من الجلسات والسهرات الغنائية والترفيهية في المنتجع الجديد القائم على أنقاض معلم تاريخي وصناعي، وجد في حقبة زمنية معينة في لبنان والشرق.

في بداية الثمانينات من القرن الماضي، أقدمت شركة غريزي وشركاه، على شراء كامل الأراضي وما تبقى من بناء معمل الحرير، وقامت ببيع قسم كبير من هذه الأراضي إلى أبناء البلدة، حيث شُيّد على هذه الاراضي أجمل المنازل والأبنية الحديثة.

 

ما تبقى من اثار معمل الحرير


مع الأسف، ما تبقى اليوم من أثار وأبنية من معمل الحرير في موقعه الجغرافي الجميل، والمميّز في بتاتر مهملة بالكامل، فالطريق إليه غير معبّدة ولا سليمة. حتى الأقبية الجميلة مهملة بالكامل، وبعيدة عن الاهتمام المطلوب واللازم؛ وعليه نتمنى على صاحب هذا العقار، التعاون مع البلدية، وبمساعدة ضرورية من وزارة الثقافة، الاهتمام بهذا المعلَم التاريخي، حيث يقضي الواجب الاضاءة على الدور الذي لعبه هذا المعمل في النهضة الاقتصادية في جبل لبنان، وباعتباره وثيقة نادرة لحقبة مهمة من تاريخ بتاتر وجبل لبنان عموماً.

“الإفساد الجنسي” المنظّم للمجتمع اللبناني:
تطورات مقلقة وسط تواطؤ رسمي مشبوه!

لا حاجة للتخمين، أو لاستخدام المنظار، لمعاينة تفاقم «الإفساد الجنسي» الجاري منذ فترة للمجتمع اللبناني. فقصصُ هذا الوافد المستجدّ تشعرُ الكاتب، كما القارئ، بالقرف، وبالتحسّر أن يجري ذلك تحت يافطة الحريات وحقوق الإنسان، خداعاً وتزويراً!

أمّا الطريق الأقصر المستخدم لتحقيق الهدف الشرير ذاك فبات علنياً يتمثّل يومياً من خلال الضغط في أربعة خطوط متكاملة:
الأول، التمويل الغربي والأممي المالي المباشر للجمعيات المحلية أو المستوردة، وللأشخاص، وبعض الأحزاب والنوّاب، ربما، بهدف نشر ثقافة الانحلال الأخلاقي، والجنسي خصوصاً، في أشكاله الشيطانية المختلفة.

الثاني، التهويل على الحكومة اللبنانية والمؤسسات ذات الصلة بالتقديمات والقروض الغربية والدولية، وربط توفيرها واستمرارها بوقف كل ما يعيق حرية حركة «المثليين والمتحوّلين» العلنية وطلب حمايتهم بالقانون ومحاولة تعديل المادة 534 من قانون العقوبات اللبنانية التي تحظر الشذوذ الجنسي.

الثالث، مع الأسف، تساهل الكثير من وسائل الإعلام (والمرئي على وجه الخصوص) مع مواد إعلامية متقنة تروّج بطرائق خبيثة للانحلال الجنسي، وتسهّل إشهار أبطاله، ومروّجيه، وإدخاله في لا وعي المشاهد كأمرٍ عادي، دونما خجلٍ أو وجل، أو أدنى احترام للعائلة اللبنانية، ولثقافتنا الشرقية العربية، وللقوانين النافذة، قبل ذلك وبعده.

والرابع، أخيراً، وهو أمر محزن، تساهل (حتى لا نقول غير ذلك) الكثير من جمعيات «المجتمع المدني» ورموزه مع المخطط الشيطاني الدولي، على الأرجح، لتدمير ما تبقى في مجتمعنا من ثقافة محترمة، ومن إنسان لم تبقِ منه هذه الحضارة المادية الاستهلاكية وثقافة العولمة «الكلبية» المسيطرة إلا القليل. فنكاد لا نصدّق أن جمعيات مثل «المفكرة القانونية» أو «المركز الاستشاري» (برجيس الجميل) وسواهما يروّجان لتسهيل الانحلال الجنسي، بحجة حرية الإنسان و«الثقافة اللبنانية التعددية والقائمة على حرية الاختيار»!!!!

وبسبب من ذلك، وبتواطؤ رسمي لا يخفى على مراقب، لم يعد الفساد الأخلاقي نزوة جشعة هنا، أو حالة فردية هناك، مستهجنة ويعاقب عليها القانون. بات الفساد في ظل نظام العولمة الطاغي، ومراكزه المشبوهة، إفساداً، يجري القبول به بل والتشجيع عليه من قبل الشركات الدولية وممثليها المحليين. بات الفساد والإفساد في كل مجال نظاماً دولياً متكاملاً متسانداً، ثقافة جديدة في حقل الأعمال، و»صناعة» متقنة، رائجة، لها أربابها، وصنّاعها، ومحاموها، وإعلامها، والمستفيدون من فُتاتها أيضاً. فلا عجب أن ينال اللبنانيّون، في لحظة تأزم أحوالهم المادية والسياسية، الانهيار الأخلاقي الذي نشهده اليوم.

إلامَ أدّت الضغوط الأربعة تلك، وعلى العائلة اللبنانية قبل سواها؟
يجب الاعتراف، أن العائلة اللبنانية تشهد هذه الأيام، وتحت ضغوط اقتصادية واجتماعية وإعلامية لا تحتمل، مظاهر تراجعٍ كبير في تماسكها واحتفاظها بأدوارها المختلفة. العائلة اللبنانية عرضةٌ الآن لاختراقات وتداعيات لم تكن موجودة سابقاً، حتى في ذروة سنوات الحرب الأهلية (1975-1990).

الحرب الإعلامية والنفسية الشعواء التي تُشنّ على الأسرة أو العائلة اللبنانية اليوم أقوى من الحرب العسكرية أو الاقتصادية التي تعرضت لها في سنوات التأزم الأهلي.

وإذا قيل إنّها الأزمة الاقتصادية والمالية تخصيصاً، قلنا إنّ سنوات الحرب الأهلية شهدت من الأزمة تلك أصنافاً وأصنافاً، ومع ذلك لم تفقد الأسرة دورها أو فاعليتها الحاسمة في حياة الشريكين وأبنائهما.

ما الذي تغيّر إذن؟ وما الذي استجدّ من عناصر بدت أقوى من الأسرة؟
ما تغيّر في العالم باختصار هو أولاً المتغيّر المادي النفعي، الذي دخل منذ ثلاثة عقود، إذ حلّت مرحلة جديدة من الفردية القاتلة، والنفعية المطلقة، والأنانية الجشعة، وكسرِ المحرّمات على أنواعها. وثانياً، المتغيّر التقني والإعلامي الذي اخترق غرف نوم أطفالنا فسحَرَهم بصورٍ خادعة، وفصَلهم عن واقعهم، عن أسرتهم، بل فصل الأخ عن أخيه، والأخت عن أختها (نتفليكس نموذجاً واحداً بين آلاف التطبيقات). تلاعبَ التطورُ التقني المجنون بعقل المراهق، وأحياناً الطفل في سريره، فانفصل عن واقعه، صار أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع؛ بات يعيش شخصية غير شخصيته، يقضي نهاره وليله مع أصحاب غير موجودين وتحت سيطرة مراكز تأثير وتوجيه شيطانية خبيثة.

بعد المجتمع، تحطّمت العائلة الآن، النواة الصغرى التي كانت إلى وقت قريب الحضن الدّافئ لأفراد الأسرة وحصن الطفل الحصين على وجه الخصوص. انكسرت الآن صورة الوالد أمام أسرته، أمام أطفاله. لم يعد المثال لهم. بل ربما باتوا يخجلون به أمام رفاق وهميّين، وصور وهمية، يظنّون أنها حقيقية، فيعيشون أوهامها، ولا يجنون منها آخر الأمر غير التعاسة واليأس،وربما ما هو أخطر من ذلك. لم تعد الأم المثال لابنتها، وهذا أكثر خطورة. صارت قديمة، تقليدية، متأخرة: فهي لا تحمل في حقيبتها أحدث صرعات ال «أي فون»، ولا تصبغُ شعرها بثلاثة ألوان كما باربي، أو كما «الساحرات» التي تقدمها شاشات الموبايل والتطبيقات الخادعة.

ويزيد الطين بلّة في مجتمعنا وبلادنا نمط «المسؤول» الذي يراه أولادنا في وسائل الإعلام، فكثير من مواده خلاعي، فاسد، تكاد رائحته النتنة تخترق الشاشة إلى أنوفنا، أو طائفي مذهبي متزمت مُنفّر، أو غبي. والثلاثة تزيدُ في دفع أبنائنا بعيداً عن مجتمعهم وواقعهم، ويغدون أرضاً خصبة لكل شيطان خبيث متربصٍ بعائلاتنا وأولادنا الشرّ وينتظر الفرصة المؤاتية لينقض عليهم.

حتى المدارس تخلت عن واجباتها حيال أطفالنا: فهي إما فاشلة لا تعلّمهم ولا تربيهم ولا تثقفهم، أو هي ناجحة في تعليمهم العلوم واللغات، لكن من غير قاعدة أخلاقية أو وطنية، بل إن مدارس أجنبية معينة منتشرة لا تخفي تحريض طلابها على أسرهم وعلى قيم مجتمعهم الأخلاقية.

هذه صورة بسيطة لمجمل الضغوط التي تحاصر الأسرة في لبنان الآن ، وربما في غير لبنان من بلدان المنطقة. فأين الأسرة اللبنانية الشرقية من هذه الضغوط التي لا تقاوم. كيف تستطيع الأسرة في لبنان أن تواجه تحدي خسارة أبنائها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً فيما الأزمة لم تبقِ في أيدي الغالبية الساحقة من عائلاتنا الحد الأدنى من المقومات المادية والدعم الرسمي، في دولة استقال مسؤولوها من كل مسؤولية!

العائلة في لبنان تدفع الآن فاتورة الانهيار الأخلاقي الجاري، بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. وربما الآتي أعظم!

ونصل أخيراً تخصيصاً إلى ما أدهى من ذلك كلّه: إدخال ثقافة الانحلال الجنسي، وممارساته، إلى مجتمعنا اللبناني، بكل وسائل الإكراه والضغط غير المشروعة وغير المسبوقة.

أما الطريق الأقصر إلى ذلك فكان مزدوجاً:
استغلال الضائقة المالية الخانقة التي تتحكم بحياة اللبنانيين، من جهة، وتدمير العائلة في لبنان الحصن الأخير أمام انحراف الأفراد وشذوذهم في ما خصّ الحياة الجنسية والزواج عمّا هو طبيعي وشرعي في أخلاقنا وثقافتنا ومجتمعنا.

وبزعم المساعدة المالية، تقوم سفارات غربية وجهات دولية مشبوهة بتمويل سخي لكل الجمعيات (ميم عين، وسواها) التي تأخذ على عاتقها علانية العمل على إزالة العوائق القانونية أمام حركة الشاذّين والمنحرفين وما شابه من حثالة نتنة وأمام تجمعهم وتحوّلهم إلى النشاط العلني. وكان آخر الأنشطة المشبوهة تلك ما دعت إليه «الدولية للتربية» بإقامة ورشة تدريب في أحد فنادق بيروت «لتقبّل المدرسين المثليين في المدارس اللبنانية». وكافأت المنظمة كل رابطة حضرت بمبلغ 800 دولار، و40 دولار لكل فرد حضر الورشة.

كذلك أمكن لهؤلاء، بالضغط المادي والمعنوي، الوصول إلى بعض غاياتهم بإجبار قضاة ومحاكم (القاضي ربيع معلوف، محكمة المتن، 31-1-2017) على إصدار أحكام قضت بعدم اعتبار المثلية الجنسية والتحول الجنسي جرائم جزائية وإنما حقوق طبيعية. إنّ مراجعة بسيطة لميزانيات الجمعيات العاملة على تشريع الانحراف والشذوذ الجنسي في بلادنا تظهر أنّ ملايين الدولارات تصرف لها من منظمات مشبوهة في الولايات المتحدة وأوروبا.

وبسبب من الطمع والفساد نفسه، (على الأرجح) أعلن حزب لبناني يميني صغير إلى حملة «مناهضة أفعال الكراهية ضد المثليين». وبسببٍ من الإغراء المادي نفسه (على الأرجح) انضمّ قبل فترة قصيرة بعض النواب في البرلمان اللبناني إلى الحملة المنظمة المدعومة (بل المطلوبة) من الخارج الرامية إلى الدفاع عن حقوق المثليين والشاذّين جنسياً.

واشتركت «الجمعية اللبنانية للطب النفسي» في حملة الضغط تلك (وهل تستطيع غير ذلك؟) فأصدرت في وقت مبكر (11 تموز 2013) تقريراً طلبت فيه التوقف عن اعتبار المثلية مرضاً يتطلب العلاج». وكان لبنان بذلك أول دولة عربية تتوقف عن اعتبار المثلية مرضاً!

وكان آخر ما يُستغرب حقاً أن يكسر مجلس شورى الدولة في حزيران 2022 قرار وزير الداخلية القاضي مولوي»اعتبار تجمع المثليين بناء لدعوة من «ميم» و»المفكرة القانونية» تجمعاً غير شرعي».

أخيراً، لم تتورع الأمم المتحدة نفسها (وبسبب من التمويل المشبوه نفسه)عن إصدار بيان علني في 17 آيار 2021 يدعو إلى «مناهضة أفعال الكراهية ضد المثلية الجنسية» وضمان حماية الجماعات تلك.

غضُ النظرِ الرسمي ذاك جعل بيروت – مع الأسف – ثالث وجهة سياحة مطلوبة للمثليين على مستوى العالم، كما يقال! بل شجّع هؤلاء على إصدار مجلاّت ومنشورات إلكترونية ومنشورات، وإقامة تجمعات ومعارض علنية («فخر لبنان» – يا للعار) وسمح لهم بالمشاركة العلنية في انتفاضة 17 تشرين، وكان خطأ كبيراً ينضاف إلى أخطاء الانتفاضة الكثيرة.

وبعض الأعلام فتح الهواء والصورة لهؤلاء ليستخدموا في واحدة من إطلالاتهم مصطلحاً بل مطلباً في منتهى الوقاحة لغةً قبل المضمون، إذ طالبوا: «أن تكون منازل الشركاء المثليين، ومنازل الأزواج المغايرين « على السويّة نفسها لجهة المعاملة القانونية والخدمات! تخيّلوا مبلغ الوقاحة: الفارق عادي جداً بين زواج مناف للطبيعة، شاذ، أحد أشكال الرذيلة؛ وبين زواج طبيعي شرعي موثّق بالأنظمة الدّينية والاجتماعية! هو فقط حسب زعم هؤلاء الوقحين «زواج مغايرين»!

وآخر انتهاكات القانون دفاع بعض وسائل الإعلام ومثقفين عن عرض فيلم «باربي»، الذي يناقش مشكلة المثلية عند الأطفال، وكأنما أطفالنا لا مشاكل (تربوية وأمنية واجتماعية) لديهم غير المثلية!

وننوّه هنا بالموقف العلمي والأخلاقي الشجاع لمعالي وزير الثقافة، القاضي مرتضى. شكراً.

ماذا عن ردود أفعال سواد اللبنانيين الأعظم على حملة الضغط الشرسة من الجماعات المثلية ومحاميها؟
هناك لا مبالاة رسمية تكاد لا تصدّق، بل هي أقرب إلى الموافقة، لولا أن اخترقها قرار الوزير المولوي!

في مقابل اللامبالاة الرسمية تولّت المرجعيّات الدينية اللبنانيّة التنديد العلني بالنشاط المحموم للمثليين في بيروت. فكانت بيانات مندّدة من مشيخة عقل الموحدين الدروز ودار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وسواهم، محذرة من أي تعديل في قوانين الأحوال الشخصية بهدف تشريع أفعال الشذوذ والانحراف الجنسي. ومطلب المرجعيات ومعها كل اللبنانيين (السويّين) التمسك بالتطبيق الدقيق للقانون (وبخاصة المادة 534) التي تحظر هذا الشكل من العلاقة المضاد للطبيعة.

وتبقى مهمة التصدي للأفعال الشاذة تلك، «المخالفة للطبيعة»، (وفق القانون، كما وفق بيان البطريركية المارونية)، واجب جميع اللبنانيين المدركين مخاطر المثلية وسائر أشكال الشذوذ الجنسي على مجتمعنا، وعائلاتنا؛ وعلينا كبشر، إذا كنا لا نريد حقاً الهبوط إلى مستوى الحيوان، الذي لا يرضى بعض أنواعه العليا بالشذوذ الجنسي! حتى الحيوان نفسه لا يرتضي الإخلال بنظام الطبيعة.

إلى ذلك، يتصدى اللبنانيون يومياً، بالمقالات والبيانات والتجمعات، لنشاط أصحاب الشذوذ أولئك، ولا يتوانون عن إظهار فضائحهم وخطورتهم في آن معاً.

اخترت من مظاهر التصدي الإعلامي مقاطع من مقالة للكاتبة ألسي خوري في 2 آب 2023، تحت عنوان «لا للعبث بهوية أطفالنا . نرفض تشريع المثلية الجنسية في لبنان».

رأت الكاتبة أنّ مخاطر الشذوذ الجنسي صارت على الأبواب في لبنان، من المثلية الجنسية والتحول الجنسي إلى التلاعب بتسجيل جنس المولود. وهي ترى أنّ التطور ذاك هو تدمير ل«قدسية العائلة»، وأنّها حرب شرسة على اللبنانيين وقيمهم تريد أن تفرض على اللبنانيين بالإغراء المالي والتهويل الإعلامي ما لم تستطع الحرب العسكرية فرضها عليهم، من تفكيك للعائلة وللقيم التي يؤمن بها اللبنانيون. تضيف الكاتبة: «تتسلح هذه الحرب المشينة ضد المجتمع والقيم بالإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لتضلّل أولادنا، هو هجوم مسلّح على فلذات أكبادنا لقلب المجتمع وتغيير القوانين». وتضيف: «الوقاحة في هذا الموضوع وصلت إلى حد تخييرنا بالمطالبة بحقوق أولادنا بعدم شطب كلمة أب وأم عن الهوية واستبدالها ب parent 1
و parent 2، وحتى العبث بتعريف الذكر والأنثى».

إنها حرب أخلاقية، تقول الكاتبة، «لتغيير أفكار أولادنا وهويتنا وثقافتنا وإيماننا وسط سكوت تام من الجهات المعنية».

تضيف: «لا لن نجعل من الباطل دستور حياتنا، وسندافع عن قيمنا ومبادئنا مهما كلّف الأمر… إذا لم تستحِ فافعل ما شئت، وإذا فعلت فلن تستطيع المجاهرة به علناً أمام أولادنا… إنّ الله أنزل العقاب عبر التاريخ بقومٍ آتوا الفاحشة حتى أبادهم عن بكرة أبيهم، وهو يُمهلُ ولا يهمل».

وتختم ألسي خوري: «انتبهوا لأولادكم على هواتفهم، أولادنا بخطر».

لا حاجة لأية إضافة إلى صرخة الأم تلك، المرتعبة بحق من شبح المخاطر التي يمثله ممارسو الشذوذ الجنسي (على أنواعه) ودعاته، ومحاموهم المرتشون، على عائلات اللبنانيين ومستقبل أولادهم.

إنّ عدم التساهل، بأي شكل من الأشكال، مع الممارسات والدعوات المشينة تلك هو حق اللبنانيين وواجبهم في آن معاً، ولا حلول وسط في المسألة هذه. فإمّا نكون مع كل ما هو طبيعي وحق وشرعي في وضوح الشمس، أو نكون مع ما هو خطأ وباطل وضلال وحرام وارتكاب الفاحشة.

كلمة سماحة شيخ العقل في المكتبة الوطنية بعقلين
خلال استقبال غبطة البطريرك الراعي

أهُو لقاءُ الشوف الجامع، أم لقاءُ الجبلِ ولقاءُ الوطن؟ أهِي دعوةٌ لجني ثمارِ المصالحة أم دعوةٌ لرسم آفاق المستقبل؟ أم هذا وذاك وتلك؟ في مكتبة بعقلينَ الوطنية، بل في مدينة التواصل الثقافي عاصمةِ الإمارة المعنية، بعقلينَ التاريخِ المشبَعِ بعبير التقوى الصاعدِ من شذا شيخِها الجواد والسلفِ الصالح من الأعلام والأسياد، وبعبقِ الرجولة والأصالة الدافقِ من مَعين العقل والدين الذي ميّز أبناءَ عائلاتِها الأصيلين، وبطيبِ العيش الآمن معَ الله في مَداهُ الأرحب، والمتجلّي بعيش الصفاءِ والأُخوَّةِ معَ أبناء كلِّ عائلةٍ ومذهب… بعقلينَ النموذجِ الأرقى للجبل الموحِّد والموحَّد، منذ أن كان للموحِّدين ولإخوانِهم المسيحيين يدٌ تقاومُ وتدافع عن الوجود، ويدٌ تزرعُ ومن خيراتِ الأرضِ تجود، ومنذ أن كان لرجال هذا الجبل عينٌ تسهرُ وتتعبَّدُ اللهَ، وعينٌ تنعمُ بمحبة أبناءِ الله؛ يدٌ تصافحُ وفمٌ يُصارح وقلبٌ يُصالح، وعينانِ تنظرانِ بشغفٍ منَ بَعقلينَ إلى دير القمر وبيتِ الدين، ومن تلال السموِّ والعنفوان الممتدّة من قِممِ الباروك الشمَّاء إلى ودايا البركة وسهول الخير المعطاء… إنَّه الشوفُ: صخرٌ لا يتفتَّت، وعطرٌ لا يتشتَّت، ونبعٌ لا ينضَب، وأرزٌ لا يبوخُ ولا يتعب.. شوفُ المختارة؛ مختارةِ الكمال العصيّةِ على التعصُّب والتقسيم، شوفُ الخلوة؛ خلوةِ جرنايا الواصلة بين دير القمر وكفرحيم، شوفُ الكنيسة والمسجد؛ كنيسةِ سيِّدة التلّة وكنيسة الدرِّ ومسجدِ الدير ومسجد الأمير شكيب أرسلان.

أنْ نلتقيَ وصاحب الغبطة وأصحاب السيادة والمشايخ الأجلَّاء اليومَ، وبحضور نُخبةِ القوم والمجتمع والوطن، وفي رحاب سجنٍ تحوَّل مكتبة، فذلك ليس بغريب، فبكركي وزعامةُ الجبل وكلُّنا معاً حوّلنا هذا الجبلَ منذ عشرينَ عاماً ونيِّف من ساحة حربٍ وحقدٍ وخِصام إلى واحة مصالحةٍ وحبٍّ وسلام، والتقينا في الإرادة والرهان قبل أن نلتقيَ في الزمان والمكان، وها نحن مستمرُّون في تلاقينا لتعزيز الثقة وإنعاش الأمل، ومستعدُّون دائماً لأن نجعلَ من هذا الجبلِ المعروفيِّ المسيحيِّ الدرزيِّ المجلببِ بعباءات التقوى والأرز والسنديان والمعمَّمِ بعمائم المحبة ونقاء الثلج نموذجاً أرقى لكلِّ لبنان، إذ هو قلبُ لبنان، وقد تعاهدنا في المختارة وفي بكركي، وبالأمس القريب من أمام بوَّابة الديمان أن نصونَه بالصلاة وبرموش العيون؛ بالروح الطيّبة والكلمة الطيِّبة وبالعمل الطيِّب. كيف لا؟ ونحن أبناءُ الحقِّ والتوحيدِ، والمحبةُ هي لُبُّ التوحيد، والتوحيدُ جامعٌ مشترَك فوق المظاهر والطقوس، وقد عبَّرنا بالأمسِ عن ذلك شعراً، فقلنا:

تعمَّقتُ في ديني الحنيفِ فقادني

                 إلى  غيرِه، لو أنّ ذاك مُغايِرُ

وأدركتُ أنَّ الحقَّ أصلٌ، وكلُّنا

                فروعٌ وأغصانٌ له وأزاهرُ

إذا ما فرَّقَتْ  بينَ  الأنامِ عبادةٌ

                فتجمعُهم فوقَ الطقوسِ الجواهرُ

من هذا المنطَلَقِ الروحيِّ والإنسانيِّ والاجتماعيّ لم تكن مصالحةُ الجبل التاريخية ورقةَ تفاهمٍ موقَّعةً من زعيمٍ وبطريركٍ وشيخٍ وشهودِ حال، بل كانت عهدَ الحكماء والأبطال الرجال، عهداً من العقل إلى العقل ومن القلب إلى القلب، عهداً يقولُ إنَّ الجبلَ تاريخٌ، والتاريخُ لا يُمحى بحادثةٍ هنا ومواجَهةٍ هناك، وتراثٌ اجتماعيٌّ وأخلاقيٌّ لا يتبدَّلُ بخطأٍ من هذه الجهةِ أو بخطيئةٍ من تلك. الجبلُ سيرةُ أبطالٍ قادةٍ نُجباء وفلَّاحين أُخوةٍ شرفاء، الجبلُ كهفُ تعبُّدٍ وصومعةُ نُسكٍ وساحةُ جَمعٍ في الأفراح والأتراح، الجبلُ مَيدانُ عملٍ وشراكةٍ ولقاء، الجبلُ كرْمٌ وكرَم، سيفٌ وضَيف، نسمةٌ وبسمة، فيه وُلِدنا وفيه نعيشُ وفيه نموتُ وفيه نُبعَثُ من جديد، معاً نحميه، معاً نبنيه، معاً نُعليه فوق الخلاف والاختلاف، ومعاً نجعلُه النموذجَ الحيَّ للإنسان، ولكلِّ لبنان.

زيارتُكم صاحبَ الغبطةِ الممتدَّةُ من بلدتِنا شانَيه في جُرد عاليه إلى الباروكِ فبيتِ الدينِ فبعقلينَ فالمختارة خطوةٌ مبارَكةٌ، لها رمزيَّتُها العالية، إذ هي رسالةُ تأكيدٍ وتجديد، أردناها معاً بإرادةٍ واحدة ورؤيةٍ مشترَكة، تأكيدٍ على نهج المصالَحة والأُخوَّة والمحبة، وتجديدٍ لمسيرة العمل المشترَك من أجل نهضة الجبل وصَون الوطن. التطلُّعاتُ كثيرة والانتظاراتُ كبيرة والتحدياتُ خطيرة، فلماذا لا نتَّحدُ لمواجهتِها ولجَني ثمار المصالحة وتعزيز الأمل بالمستقبل؟ الدولةُ تتراجعُ وتنهارُ، وأبناؤُنا يعيشون حالةَ البطالة واليأس أو يهاجرون بحثاً عن غدٍ أفضل. الأرضُ تكادُ تتصحَّرُ والأوقافُ مُهمَلة، وأغنياؤُنا يستثمرون بعيداً ومعظمُهم في ما وراءِ البحار، ألا يستوجبُ الأمرُ مصالحةً من نوعٍ آخر؟ مصالحةً على شكل مبادراتٍ عمليّة لبناء المؤسسات وإقامةِ المشاريع المُنتِجة؟ ألا يجدُرُ بنا أن نضعَ خطةً استراتيجيةً للنهوض بأوقافِنا وجبلِنا، وبالاعتماد على أنفسِنا أوَّلاً؟ ومن خلال تشكيل مجموعةٍ استثماريةٍ قادرةٍ على تنفيذ ما يُتَّفقُ عليه من مشاريعَ تنمويةٍ في مختلَف المجالات الزراعية والصناعية والخدماتية والسياحية وغيرِها؟

لقد واجهَتِ المختارةُ الأزمةَ الاقتصاديةَ الخانقة كعادتِها بالمزيد من العطاء وتَحمُّلِ المسؤولية واحتضانِ العائلات والمؤسسات، وهي التي لم تعرفِ التخاذلَ والتواني أبداً، فقامت إلى حدٍّ كبيرٍ مقامَ الدولة، كما فعل آخرون على قَدر طاقاتِهم ومواقعهِم، ولكنّنا، كقياداتٍ روحية وكقيِّمينَ على الأوقاف، مَعنيُّون بالوقوف إلى جانب أهلِنا ومجتمعِنا، من خلال خطةٍ منظَّمة تفتح الآفاقَ نحو المستقبل، سيّما وأنّ في الجبل رجالاً قادرين مُقتدرين، مؤمنين بوطنِهم، حريصينَ مثلَنا على الكرامةِ والوجود، ونحن معهم نُردِّدُ القولَ المأثورَ ونقول»: «إنَّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد»، ونؤمنُ أنّ اللهَ لا يُريدُ لنا إلَّا الخيرَ متى ما أردناه لأنفسِنا. جاء في الحديث القُدْسيِّ: «ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أُحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سَمْعَه الذي يسمعُ به وبصرَه الذي يُبصرُ به…»، وهذا ما نرجوه؛ أن يُحبَّنا اللهُ، واللهُ لا يُحبُّنا إلّا إذا تقرَّبنا منه وكنَّا مُتحابِّين فيه، لا متخاصمين، مجتمعينَ في كنَفِه، لا متفرّقين، مُدركينَ أنَّ للمصالحةِ روحاً وجوهرَاً، لا اسماً ومظهراً فحسب. روحُها الإيمانُ بالله وبالوطن، وجوهرُها المحبةُ والأُخوَّة، وقد أردناها «كَلمَةً طَيِّبَةً كشَجرةٍ طَيِّبةٍ أَصْلُهَا ثَابتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمآءِ»، فتعهَّدنا زرعَها بالعنايةِ والعمل، وتعاهدنا على ألَّا نقطفَ ثمارَها الطيِّبة إلَّا معاً موحِّدين موحَّدين؛ مسلمين ومسيحيين.

نعيشُ وإيَّاكمُ اليومَ حالةً وطنيةً مُحبِطة على مستوى الدولة؛ من تعطيل المؤسسات إلى غيابِ الحلول والتسويات، وكأنَّ الدستورَ أصبح عندَنا تعميماً يُلغى بتعميم، أو كأنَّ المُهَلَ الدستوريَّة أضحت فُرَصاً تَروحُ وتأتي ولا مُوجِبَ لاحترامِها، أو كأنّنا لم نبلغْ سِنَّ الرُّشدِ السياسيِّ بعد، فبِتنا ننتظرُ الخارجَ لِيرسُمَ لنا سبيلَ الخروج من الأزمات، وغالباً ما نسألُ عن دورِنا كمرجعياتٍ روحيّة، وإنّني أراهُ دوراً إنسانيّاً وأخلاقيَّاً جامعاً، بل مِظلَّةً روحيّة للتلاقي السياسيِّ الوطنيِّ المنشود، فهل يُمكنُ من موقعِنا أن نُمهِّدَ لمجلس النُوّابِ ولرؤساء الكُتَلِ النيابية بالدعوة إلى لقاءاتٍ حواريَّة على مستوى النُّخَبِ والمثقَّفين الوطنيِّين؟ وقد صدرت بالأمس القريبِ من إحدى تلك المجموعات ومن قاعة بكركي وثيقةٌ جيِّدة بعنوان «رؤية جديدة للبنانَ الغد»، وصدرت مثيلاتُها من هذا المِنبر أو ذاك الملتقى، أفلا يُستحسَنُ أن يلتقيَ أصحابُ هذه الوثائقِ على طاولة حوارٍ وتفاهمٍ علَّهم يُنتِجون وثيقةً مشترَكة تُحفِّزُ المسؤولين لإنتاج الحلولِ الناجعة بدلاً من المراوحة وعادةِ انتظار الخارج وارتقاب الفرَج؟

إنَّ الحوارَ سبيلٌ وليس غاية، فلماذا لا ندعو إليه ونسلُكُه لاختراق جدرانِ التعطيل والإغلاق؟ لا قفزاً فوق الدستور ولا تغييباً للحياة الديمقراطية، بل سعياً إلى «جمال التسوية» النافعة المُجدية، فالرئيسُ المنتظَرُ لا يجوزُ أن يبقى مُختطَفاً ومفقوداً، بينما الناسُ في حالةِ بؤسٍ، ومعاملاتُهم في حالة جمودٍ وتسييب، وعواصمُ القرار تسعى وراء مصالحِها أولاً، أفلا نسعى من أجل مصلحة الوطن؟ والدولُ العربيةُ في حالة جفاءٍ معنا ونحن متخاصمون، أفلا يجب أن نتلاقى ونتصالحَ معَ أنفسِنا لنعيدَ رونقَ تلك العلاقة معَ عمقِنا العربيّ التي هي سبيلُ خلاصٍ وحياةٍ للبنان؟ والثروةُ النفطيَّةُ المرتقَبة يُخشى عليها من الضَّياع في خضمِّ التجاذب السياسي، ألا يجدرُ بنا أن ننظرَ إليها كخشبة خلاصٍ فنرفعَها فوق المصالح الفئوية وفوق المراهنات على هذه الدولة أو تلك؟ لتصبَّ نتائجُها في صندوقٍ سياديٍّ بامتياز يساهمُ في إنقاذ الوطن وحماية اقتصاده ووفاء ديونه للمودِعينَ وللدائنين، لا صندوقَ محاصصاتٍ يتحكَّمُ فيه القويُّ ويُحرَمُ منه الضعيف، ويكونُ مصدرَ نِقمةٍ لا مصدرَ نعمة، لا سمحَ الله؟

لقد قيلَ وقُلنا: «إذا كان الجبلُ بخيرٍ فلُبنانُ كلُّه بخير»، ذلك هو الشِّعارُ وتلك هي الحقيقة، وإنَّنا لَمؤمنون بالجبل إيمانَنا بالوطن،، مؤمنون بالشوفِ، وللشوفِ أقول ما قُلتُه يوماً في تكريم أحد الآباء المحترمين:

آمنتُ  بالشوفِ أرزا شامخاً حُرَّا

                   وأرضَ خيرٍ ونبعاً فجَّرَ الصَّخرا

آمنتُ  بالشوفِ،   والمعروفُ  مِيزتُهُ

                  والحبُّ أيقظَ في شِريانِه الجَمرا

فأوقدتْ   خَلوةُ    التوحيدِ    أنجُمَها

                   وأشعلَ الدَّيرُ من أنوارِه بَدرا

فعادَ   يُشرِقُ   في   تاريخِنا   جبلٌ

                   وعاد يَصنعُ من آلامِنا فجرا

لقد بزَغَ الفجرُ في آب 2001، فجرُ المصالحة والوفاق، وها نحن اليومَ في أَوج النهار نَنعمُ بالدفءِ والنور، وما علينا إلّا الجِدُّ والاجتهاد وبذلُ الجُهود، حتى وإن غابت الشمسُ جوازاً، فمجدُ الجبلٍ بعونِ الله لن يَغيب.

الضّحى تستعيد شبكة أصدقائها ومشتركيها

قليلة في لبنان المجلات التي استمرت حتى الآن ورقية. فالمجلة الإلكترونية أقل تكلفة بكثير. و«الضّحى»، كما سواها من المطبوعات الورقية، وتحت ضغط الأزمة المالية التي تعصف بلبنان واللبنانيين، كانت فكّرت في وقت ما أن لا حلّ لأزمتها المالية (حيث سعر مبيع المجلة لا يساوي ربع تكلفة إنتاجها) إلا بوقف النسخة الورقية (الفخمة والمكلفة في آن) واللجوء إلى النسخة الإلكترونية، أونلاين.

بدا ذلك لوهلةٍ أنّه قرار صائب، لجهة قانون الربح والخسارة في حقل الأعمال. لكن «الضّحى»، وكما كانت لسبعين سنة، لا تعمل وفق قانون الربح والخسارة (المالي). هي تعمل وفق قانون مختلف تماماً: قانون الواجب الأخلاقي الإلزامي Obligatory moral law، الذي تحدّث عنه الفيلسوف الألماني كانط Kant قبل حوالي 235 سنة فرأى فيه القانون الوحيد الذي يجب أن يخضع له سلوك الفرد. القانون الأخلاقي الطوعي من الداخل وليس القانون الوضعي المفروض بالقوة من الخارج.

ولأنّ «الضّحى» لا تعمل إلا وفق قانون الواجب الأخلاقي هذا، اختارت أن تكون إلى جانب قرائها وأصدقائها، وأن تعود ورقية، بالمواصفات الفنية العالية نفسها.

بروح الالتزام الأخلاقي والمهني هذا، صدر العدد السابق (38)، والعدد الحالي (39). وكما كانت استجابة الأصدقاء لصدور العدد السابق (38) مطمئنة، وكما توقعنا؛ كذلك نأمل أن تتسع مساحة الأصدقاء، والمشتركين على وجه الخصوص، مع صدور العدد الجديد، وبخاصة مع تولي شركة متخصصة إيصال «» إلى المشتركين، تجنّباً لأخطاء سابقة في التوصيل، لدينا شجاعة الاعتراف بها والاعتذار عنها.

سيسعد قارئ «الضّحى»، بالفقرات الغنية التي تعوّد عليها باستمرار؛ لكنه سيسعد أيضاً بفقرتين أضيفتا مع هذا العدد الجديد: فقرة «الشباب والمستقبل» و»الفقرة الاغترابية».

لن تبخل إدارة «الضّحى» بكل جهد ضروري، في المضمون والشكل، يرضي قرّاءها الأعزاء، وهي تأمل بالمقابل أن لا يتأخر أصدقاؤها في تجديد اشتراكهم السنوي لعام كامل.

ولهم كل التقدير.

ملاحظة: حدث الاعتداء الإسرائيلي الوحشي على المدنيين في غزة فيما العدد هذا في المطبعة، فلم يُتح لنا متابعته، رافعين الدعاء لله تعالى أن يحمي لبنان وغزة وبلاد العرب كافة.

العدد 39