الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المكتبةُ الوطنيّة

المكتبةُ الوطنيّة
من أغنى الصروح الثقافية في لبنان والعالم العربي وتضم 140 ألف كتاب و280 ألف مطبوعة دورية

مدير المكتبة الوطنيّة غازي صعب لـ :
طموحي أن نرتقي بالمكتبة الوطنيّة الى مصافّ كبرى المكتبات في العالم.

لدينا مشاريع كثيرة بحاجة الى أريحيّة أصحاب الأيادي الخيّرة لتنفيذها.

تمثال الأمير فخر الدّين المعني شكَّل هاجساً لدى النائب جنبلاط حتى أعيد تركيبه في الباحة الخارجية

قد تكون المكتبةُ الوطنيّةُ في بعقلين من أهمّ الإنجازات التي تحقّقت في منطقة الجبل، ويعود الفضل في تأسيسها إلى رئيس اللّقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط الذي أصرّ على الرّغم من كلّ الاعتراضات التي واجهته أن يحوّل هذا المكان الذي كان محكمة وسجناً إلى مكتبة، متجاوزاً المثل القائل (من يفتحْ مدرسة يقفلْ سجناً) إلى القول: من يفتح مكتبة يقفلْ كلّ السجون ويفتحْ أبواب العلم والثّقافة أمام روّاد العلم والمعرفة لتكونَ في مُتناوَل الجميع دون عناء. تلك هي رسالة المكتبة الوطنيّة، شاءها راعي الثقافة في الجبل الأستاذ وليد جنبلاط منارة في قلب هذا الجبل الذي أعاد إليه عزّه وعنفوانه فسما به إلى العلى مَجداً خالداً لا ينحني ولا يلين.

تلك هي المكتبة الوطنيّة في بعقلين؛ فيا أيها الساعون إليها من أيّ مكان أتيتم لتنهلوا العلم من معينه مهلاً إنْ أضعتم البوصلة في الاهتداء إليها، فذا تمثال الأمير فخر الدّين المعني الثاني الكبير؛ المنتصب في باحتها الخارجيّة، بما يرمز من شموخ وكبر، يحفظ لكم في بطانة عباءته عشرات آلاف الكتب القيّمة والمطبوعات النادرة تغرفون من بحورها ما تشاؤون.
تشغل المكتبة الوطنية في بعقلين اليوم مبنىً أثريّاً مميّزاً يعود بناؤه إلى سنة 1897م أيام المتصرفيّة، وكان يُعْرَف بِسَراي بعقلين حيث يضمّ محكمة بدائية ومخفراً للدّرك وسجناً.

تم افتتاح المكتبة الوطنيّة في 13 آذار 1987 بعد ترميم المبنى وتأهيله من الداخل والخارج وتجهيزه بكلّ المستلزمات الخاصّة بالمكتبات العامة بمبادرة من معالي الأستاذ وليد جنبلاط. وفي العام 1996 تبنّى مجلس الوزراء في قراره رقم40 بتاريخ 6/3/1996 هذا الصّرح الثقافيّ المجتمعي. ثم تعاقدت وزارة الثّقافة مع الموظفين العاملين فيها بناء على القرار رقم 44 تاريخ 6/10/ 1996 وهي تضمّ مجموعة أقسام: الإدارة – الفهرسة والتصنيف – الخدمات القرائية والمرجعية – التوثيق والأرشيف – التزويد والاقتناء – الكمبيوتر ــ مكتبة الأطفال – اللغة الإنكليزية – قاعة النّشاطات والنّدوات – مسرح وصالات احتفالات مركزيّة هي اليوم قيد التنفيذ.

وفي هذا الحوار مع مديرها الأستاذ غازي صعب إضاءة مشرقة على ما تحقق من إنجازات وفيما يلي نَص الحوار:
منذ مدة والعمل في المكتبة الوطنيّة لم يتوقّف، فما هي أبرز المشاريع التي نُفِّذَت والمنويّ تنفيذها؟
من الواضح أنّ المكتبة الوطنيّة كانت في السنوات الماضية تقتصر على السّراي القديم، ولقد أصبحت اليوم تضيق بالنّشاطات التي تستضيفها بشكل دائم. وبطلب من رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط تقرر توسعتها وإنجاز الأقسام الباقية مع شرط المحافظة على طابعها العمراني القديم. ومنذ ثلاث سنوات تمّ افتتاح قاعة المحاضرات في المبنى الجديد، وهي تتّسع لنحو 250 شخصاً، وفي المبنى نفسه يوجد المركز المخصّص للأرشيف، ويضم نحو 280 ألف مطبوعة دوريّة من بينها مجلّات وصحف ونشرات متعدّدة. وبعد أشهر قليلة سيتمّ افتتاح مسرح المكتبة الوطنيّة الذي يتّسع لنحو 450 شخصاً وفق أحدث نظم المسارح العالميّة، ويضمّ أيضاً عدّة قاعات قد تُستخدَم للمعارض وصالات للسينما.

من هي الجهة المُموِّلَة لهذه المشاريع الضّخمة؟
مصدر التمويل هو وزارة الأشغال العامّة والنقل، أمّا توقيع الاعتماد فقد تمّ في أيام الوزير غازي العريضي مروراً بوزارة الثقافة وديوان المحاسبة، وقد تطلب الأمر مني متابعة شخصية حتى أصبح قيد التنفيذ.
هل هناك من مشاريع مُلحِّة يجري تنفيذها؟
بعد أن ضاقت الأمكنة بالكتب المُنتقاة، نعمل حاليّاً على تحويل القاعة في الطابق السُّفلي الى مكتبة وتجهيزها لتستوعب الكتب والمراجع الجديدة، وهي بغالبيتها مُهداة للمكتبة من النائب وليد جنبلاط، وهو مشروع كبير تتولّى وزارة الثقافة تنسيقه وتمويله، كما بدأنا بتطوير برنامج مكننة المكتبة وتحويله إلى برنامج حديث يمكّنها من تقوية موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت. وفي العام 2002 كنّا من أوائل المكتبات اللّبنانية والعربيّة التي سهّلت لروادها البحث عن مصادر المعلومات من خلال موقعها الإلكتروني www.baakeenlibrary.com وهذا الموقع نال المرتبة الأولى من حيث المضمون والمحتوى وقد تمت المقارنة بين موقعنا الإلكتروني والعديد من المواقع المشاركة بشكل دقيق.

مدخل المكتبة الوطنية
مدخل المكتبة الوطنية

ما هي البرامج والأفكار التي أطلقتَها لتحديث المكتبة؟
من أهم البرامج التي اشتغلنا عليها لتحديث المكتبة وتطويرها، برنامج الإعارة الخارجيّة الذي باشرنا العمل عليه منذ ثلاث سنوات بعدما أتَحْنا فرصة الإعارة الخارجية المجانية للجميع على مستوى لبنان، ولقد بلغ معدّل الإعارة سنويّاً عشرة آلاف كتاب، وهذا رقم قياسي إنْ في لبنان أو في بعض الدّول العربيّة. والجدير ذكره في هذا الموضوع أننا خطّطنا لتشجيع المطالعة للفئات العمرية كافّة، وكنّا نستهدف بشكل خاص الأطفال والناشئة وجيل الشباب، وأعتقد أننا حقّقنا هدفنا إذ بلغ عدد المستعيرين 65 بالمئة من روّاد المكتبة. ومن المفيد ذكره أنّ هناك الكثير من طلّاب الدراسات الجامعيّة والجامعيّة العليا يزورون المكتبة لمتابعة دراساتهم وأبحاثهم من مختلف المناطق اللبنانية، وهذا أمر نعتزّ به ونفتخر لأنّنا استطعنا أن ننشرَ المعرفة بين أبناء الوطن بكل فئاته.

هل لك أن تذكر لنا أبرز المعوقات التي اعترضت قيام هذه المكتبة؟
المعوقات كانت كثيرة في بداية الأمر ولكنها ذُلِّلَت. والقِصّة بدأت في العام 1985 عندما حاولت الدّولة استرجاعها والإبقاء عليها كسجن. لكن أهالي بعقلين رفضوا ذلك وطلبوا من النائب جنبلاط المحافظة على طابعها الجديد وتحويلها إلى مكتبة فكان لهم ما أرادوا، وقد اعتصمت الهيئات الثقافية اللبنانية في المكتبة دعماً لاستمرارها. في العام 1986 قام النائب جنبلاط بترميمها وأمر بإزالة الزنازين والقضبان الحديديّة التي كانت تحيط بها ومحو معالم السّجن عنها، وحوّلها إلى مكتبة وطنيّة وقدّمها إلى الدولة اللبنانية التي انتظرت عشر سنوات حتى اتّخذت قراراً بضمّها إلى وزارة الثّقافة بقرار من مجلس الوزراء في العام 1996، ثمّ جرى التعاقد مع الموظّفين المختصّين في السّنوات اللاحقة.

من يُموّل النشاطات التي تُقام في المكتبة الوطنية؟
لدينا معاناة كبيرة بالنسبة لتمويل الأنشطة والأعمال المطلوب تطويرها، فوزارة الثقافة تؤمن رواتب الموظّفين، وتقدّم القليل من المصاريف والنّفقات الضّرورية، كأعمال الصيانة وتأمين المحروقات لجهاز التدفئة، والقرطاسية، ولكي نؤمّن الموازنة التي تحتاجها المكتبة نقيم كلَّ سنة عشاء سنوياً ندعو إليه بعض الشخصيّات البارزة لتقديم الدّعم للمكتبة. كما أن جمعيّة أصدقاء المكتبة تضمُّ عدداً من المتطوّعين من الشخصيّات الفاعلة في المجتمع وتبذل جهدها لمساعدة إدارة المكتبة.

قاعة المحاضرات والمعارض
قاعة المحاضرات والمعارض

لملاحظ أنّ تمثال الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير عاد لينتصب من جديد في باحة المكتبة، فماذا أضاف هذا الرّمز التاريخيّ على المكتبة الوطنية؟
منذ أن أزاح الرّئيس الراحل سليمان فرنجية الستار عن تمثال الأمير فخر الدين ممتطياً ظهر حصانه في هذا المكان. كان لهذا التمثال حكاية طويلة، ففي الحرب الأهلية أصيب التمثال بقذيفة من العيار الثقيل أدّت الى تحطّمه آنذاك، وقد شكّلت إعادته إلى هذه الساحة هاجساً بالنسبة لوليد بك، حتى أنّه أوعز بتحضير تمثال بدلاً منه، وهذا ما حصل، وقد أشرف الفنان عساف عساف وأخواه على تصميمه، وعند الانتهاء منه أصرَّ النائب جنبلاط على وضعه في باحة المكتبة مع الإبقاء على اللوحة الرخاميّة نفسها التي كتب عليها (تمّ وضع هذا التمثال في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة) مع الإشارة إلى أنّ معظم المكتبات في العالم تزدان بمنحوتات وتماثيل لقادتها وزعمائها وأدبائها وعباقرتها. ولقد أضفى هذا التمثال على باحة المكتبة جماليّة خاصة ومميزة.

ما أهميّة وجود مكتبة وطنيّة بهذا الحجم في قلب الجبل؟
لا تقتصر أهمية المكتبة على منطقة الجبل فقط، وإنّما على لبنان كلِّه، فقد استطعنا من خلال التواصل الدائم مع وليد بك ووزارة الثقافة لاحقاً، أن نجعل منها مكتبة لكلّ لبنان لما تقدمه من خدمات تقليديّة وعينيّة ومرجعيّة؛ ولما نقيمه من أنشطة ثقافيّة وتربويّة يشارك فيها معظم الأدباء والشعراء والمبدعين من كلّ لبنان.

متى يتدخَّل النائب جنبلاط في شؤون المكتبة؟
أجزم أنّ مؤسس المكتبة وليد جنبلاط، لا يتدخّل في أيِّ شأن من شؤون المكتبة منذ أن أصبحت تابعة لوزارة الثقافة، وأذكر بالمناسبة أنّه مرّة أرسل لنا كتاباً بالّلغة الإنكليزية لنضعه في المكتبة، وبعد فترة سألني إذا تم تسجيل الكتاب في أرشيف المكتبة فأجبته بنعم، فردّ سائلاً ما إذا كان يستطيع استعارته لمدّة أسبوعين فقط فأجبته بالتأكيد، ولكنّه قبل انقضاء المدّة اتّصل وأبلغني عدم الانتهاء من قراءته فأعطيناه فرصة أسبوعين آخرين غير أنّه أعاده إلى المكتبة بعد أسبوع، وهو كما أشرت يَهَبُ المكتبة كلَّ ما يَصِل إليه من كتب ودراسات.

من هي أبرز الشّخصيات التي قمتم بتكريمها؟
كثيرة هي الشخصيات التي جرى تكريمها في المكتبة الوطنية منها: مئوية الشاعر الكبير سعيد عقل، والشاعر الكويتي عبد العزيز البابطين، ومن أبرز الأنشطة التي أتذكّرها، زيارة العديد من السفراء العرب والأجانب، المعتمدين في لبنان الذين تعاونّا معهم في العديد من الأنشطة المشتركة وأخص بالذكر إمارة الشارقة تحديداً، وزيارات العديد من الوفود العربية والأجنبية التي تشارك في المؤتمرات التي تعقد في لبنان، ومن الزوار المهمين مدير المكتبة الوطنية في طهران، وأصدقاء المكتبات العربية المشاركة في مؤتمر جمعيات المكتبات العربية، والعديد من الباحثين من دول أوروبا والشّرق الأوسط. وبالمناسبة أتمنّى على كل اللبنانيين القادرين وخاصة من أبناء الجبل زيارة المكتبة لتشجيع هذا الفريق العامل فيها، والمميّز بدقة عمله وبخبرته المكتبية لدعم المكتبة لنعمل معاً على تطويرها بشكل أفضل ولدينا مشاريع كثيرة بحاجة إلى أريحية أصحاب الكرامة لتنفيذها.

ل لديكم إحصاء حول مجموع روّاد المكتبة في العام 2017؟
بلغ مجموع المشاركين في مُجمل الأنشطة التي أقيمت في المكتبة للعام 2017 ما مجموعه 20369 شخصاً، وهذا العدد فاق كلّ التوقعات لهذه السنة.

لمزيد من المعلومات عن المكتبة يرجى زيارة:
www.baakeenlibrary.com

المطالعة ضرورة وليســت هــوايـة

المطالعة ضرورة
وليســت هــوايـة

أين نحن… وكيف ننهض؟

في هذا البحث، سنقدّمُ للقارئ الكريم موضوعًا بعنوان “المطالعة ضرورة وليست هواية”، نُلقي فيه الضّوء على أهميّة المطالعة في حياة الإنسان، ونشرح واقع المطالعة والقراءة وتأليف الكتب في العالم العربيّ مقارنةً بالعالم الغربيّ وشرق آسيا، من خلال عرض لإحصائيّاتٍ قامت بها جهاتٌ دوليّة مهتمّة بهذا الشّأن. كما نتطرّق إلى لمحةٍ تاريخيّةٍ عن النّتاج الفكريّ العربيّ منذ قيام الإسلام حتّى يومنا هذا، ثمّ نقدّمُ نصائحَ عديدةً في كيفيّة جعل القراءة جزءًا من حياتنا وحياة أولادنا، وما لذلك من تأثيرٍ إيجابيٍّ علينا وعليهم.

المقدمة
اِتّفق علماء المسلمين على أنّ أوّل آية أُنزلت في القرآن الكريم هي قوله تعالى: ﴿إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾(1)، وبذلك تكون أوّل كلمة نزلت في الوحي الكريم هي “إقْرَأْ “، فكأنّما القراءة جُعلت أوّل الأوامر الّتي يجب على المنتسبين إلى الدّعوة الإسلاميّة الالتزام به، فهل في الأمر حكمةٌ ما؟ أم عبثاً كان هذا؟ وحاشا الله من ذلك، فالأمر إذن فيه حكمةٌ أرادها مَن أَذِنَ ببدءِ الوحيِ، ولا يخفى هذا على ذوي العقول، والأفهام الصّحيحة، إذ يمكن القول إنّ تصدير القرآن الكريم بكلمة “إقرأ”، إشارةٌ واضحةٌ لكلّ المـُنتسبين إلى الدّين الجديد، إلى أنّ القراءة ستكون سبيلَهم إلى العلم والمعرفة، وأنّهم مقبلون على تعاليمَ جديدةٍ، فيها من الأوامر والنّواهي والتّشريعات والعلوم، ما لا يمكن الوصولُ إلى معرفتها إلا بتعلّم القراءة.
ونلاحظ أنّ فعلَ الأمر “إقرأ” قد أخذ يفعل فعله في الملتزمين بالدّعوة الجديدة، خاصّةً مع انتظام حال المسلمين في دولةٍ إسلاميّةٍ منظّمةٍ، أخذت تتوسّعُ حتّى بلغت حدودُها بلاد الأندلس، وقد رافقَ هذا التّوسعَ نهضةٌ علميّةٌ كبيرةٌ، وبدأت أحوالُ المسلمينَ تتطوّرُ وتتقدّمُ في مختلفِ المجالات، حتّى أضْحَوْا مرجِعًا لكلّ قاصد علمٍ، أو ساعٍ إلى المعرفة، وشملت علومهم الطّبَّ والفلسفةَ والرّياضيّاتِ وعلومَ الفلك وغيرها، وتحوّلت عواصم المسلمينَ إلى مقصدٍ ومَحَجّةٍ للعلماءِ والفلاسفةِ من مختلفِ أقطارِ المعمورة، كما كان لدراسة القرآن الكريم، حيّزٌ كبيرٌ في حياة المسلمين، فانتشرت علومُ القرآن وتقسَّمت على مباحثَ عدّةٍ، منها علم التّفسير ونزول الآيات والقراءات إضافةً إلى علوم الفقه والشّريعة، الّتي كان النّاس في ذلك الوقت بحاجةٍ إليها لفهم المطلوب منهم في أمور الدّين.
استمرّت النّهضة العلميّة لفترةٍ طويلةٍ من الزّمن، تخلَّلَها حركات ترجمةٍ واسعة النّطاق، بدأت في أواخر الحكم الأمويّ واستمرّت خلال العصر العبّاسيّ الأوّل، وقد شملت حركة التّرجمة مختلفَ العلوم، فأغنتِ الفِكر العربيّ والإسلاميّ، وأعطته متّسعًا كبيرًا من التّقدّم والتطوّر، كما كان لإنشاءِ بيت الحكمة في زمان هارون الرّشيد، دورٌ بارزٌ وتأثيرٌ إيجابيٌّ في انتشار العلوم، وكذلك في عهد الخليفة المأمون حيث أمر بجلب الكتب اليونانيّة من بلاد الرّوم وترجمتها وجعلها في متناول أيدي العلماء والمفكرّين.
ومع سقوط بغداد في أيدي المغول وحرق مكتبتها ،بيت الحكمة، وما نتج عن ذلك من هدمٍ للحضارة الإسلاميّة والعربيّة، انتهى عصر النّهضة، وبدأ عصر الانحطاط الّذي استمرّ من سقوط بغدادَ حتّى حملة نابليون على مِصرَ عام 1798م، فلم يبقَ في حياة العرب والمسلمين ناحيةٌ إلاّ وأصابها الضّعف والوهن، فانعكس ذلك على نتاجهم الفكريّ، وتراجعت حركة التّرجمة حتّى يمكن القول إنّها انعدمت بالكليّة، وانقلبت الأمور رأسًا على عقب، فبعد أن كانت بلاد العرب محجّةً لكلّ طالب علمٍ، أصبح العرب يتوافدون على بلاد الغرب طالبين العلم، وأضحت دولهم سوقًا استهلاكيًّا للنّتاج الفكريّ الأجنبيّ، فارتفعت معدّلات الأميّة، وخفّت نسبةُ القراءة في مختلف أرجاءِ الوطن العربيّ، حتّى وصلت إلى مستوًى متدنٍّ جدّا، يُنذر بوجود أزمة قراءةٍ خطيرةٍ.
فما هي الحلول لهذه الأزمة الرّاهنة؟ وما الخطوات الّتي يجب علينا اتّخاذها للنّهوض بأنفسنا وأولادنا؟ وما هي الأسباب التي تقف في وجه نهضة عالمنا العربيّ على صعيد القراءة وتأليف الكتب؟

النتاج الفكري العربي
إنّ هذا البحث المُختصر، لا يحتمل الإطالة في سرد حركة النّتاج الفكريّ العربيّ منذ قيام الدّعوة الإسلاميّة وحتّى يومنا هذا، وإنّما يمكن اختصار الأمر بعرض محطّات مهمّة والتّحدّث عن شخصيّاتٍ برزت في مجالي التّرجمة والتّأليف، وساهمت بشكلٍ فعّالٍ ليس في نهضة العرب وتقدّمهم فحسب، بل في نهضة العالم بأسره.
لقد كان للعصر الأمويّ (41 – 132 هجري) دورٌ بارزٌ في التّمهيد للعصر العلميّ الذّهبيّ الّذي شهدته الدّولة العباسيّة، إذ انتشرت في زمان الأمويّين حركةٌ علميّةٌ قويّةٌ انحصرت في علوم الدّين واللّغة والتّاريخ والجغرافيا إضافةً إلى العلوم الفلسفيّة والطّب؛ كما كان لتعريبِ الدّولة في زمان الخليفة عبد الملك بن مروان تأثيرٌ بالغٌ سمح للعلماء العرب والمسلمين البدءَ بحركة التّرجمة، والاطّلاع على مختلف العلوم، ثمّ توسّع نفوذ الدّولة، فامتزجت بشعوبٍ جديدةٍ ساهمت في نهوض الحركة الفكرية.
ومع انتقال الحكم إلى العبّاسيين في العام 132ه، واتّخاذهم من بغداد عاصمةً لهم، بدأ العصر الذّهبيّ لحركةِ النّهضة الإسلاميّة والعربيّة، ونشطت حركة التّرجمة بدعمٍ من الطّبقة الحاكمة، فكان أوّل ما تُرجم إلى الّلغة العربيّة كتب الفلاسفة اليونانيّين: أفلاطون وأرسطو وكتب العلم الإغريقي القديم، وكان لهذا الأمر دورٌ كبيرٌ في حفظ هذه العلوم من التّلف والاضمحلال، إذ كانت أوروبا في ذلك الوقت تمرّ في عصر انحطاطٍ لا مثيل له، وقد عبّر عن ذلك كثيرٌ من الكتّاب الأوروبيّين الّذين اعتبروا أنّه لولا ترجمةُ هذه العلوم إلى الّلغة العربيّة لاندثرت وامّحقت.
ثم بدأ العرب أنفسهم في المساهمة في تطوير مختلف العلوم، فبرزت علوم الرّياضيات والفيزياء والفلك والطّبّ وغيرها، ممّا جعل اللّغة العربيّة لغةَ العلوم الأساسيّة، ولم يكتفوا بترجمة كتب الإغريق فحسب، بل أضافوا إليها كثيرًا من المؤلّفات الجديدة الّتي أسهمت في فَهم المخطوطات الأساسيّة. ويمكن القول بأنّ الوجود الإسلاميّ العربيّ في بلاد الأندلس في ذلك الوقت ساهم كثيرًا في وصول النّتاج الفكريّ العربيّ إلى أوروبا عبر قرطبة، وهذا ما ساعد الأوروبيّين لاحقًا في نهضتهم العلميّة الّتي بدأت مع الثّورة الفرنسيّة في نهاية القرن الثّامن عشر الميلاديّ.
فالمنجزاتُ العلميّة لتلك الحقبة كثيرةٌ جدًّا، ومن أبرزها رسمُ أوّلِ خريطةٍ للعالم على يد عالم الجغرافيا “الإدريسيّ” الّذي ألّف أوّلَ كتاب جغرافيا سمّاه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”. وكذلك العالم الكبير ابن الهيثم الّذي ألّف نحو مئتي كتابٍ في علوم الطّب والفلسفة والفيزياء والرّياضيّات، إضافة إلى بروز حركة فلسفةٍ ناشطةٍ على يد الكنديّ والفارابي وابن رشد، كما كان للخوارزمي مساهمةٌ كبيرةٌ في علوم الرّياضيّات وما زالت نظريّاته تُدَرّس حتّى وقتنا هذا.
وأمّا ما يخصّ حركة التّرجمة الّتي كانت أساس النّهضة العلميّة، فقد كان من أبرز روّادها حُنَين بن إسحاق الّذي ترجم الكثير من كتب الفلاسفة اليونانيّين ورسائلهم إلى الّلغتين العربيّة والسّريانية، كما ساهم ابنه إسحق أيضا في ترجمة بعض مؤلّفات أرسطو مثل كتاب النّفس وتوالد الحيوانات.
وفي الوقت الّذي كانت فيه بغداد عاصمة العالم في العلوم، ظهرت في شمال إفريقيا في مدينة المهديّة، دولةٌ جديدةٌ هي “الدّولة الفاطميّة”، باعتبار أنّ نسب حكّامها يعود إلى فاطمة الزّهراء(ر)، وسرعان ما توسّعت هذه الدّولة واستولت على شمال إفريقيا وصولًا إلى مصر، فاتّخذت من القاهرة عاصمةً لها، وبدأ نجم العباسيّين بالأفول لتشرق مكانه شمس الفاطميّين الّذين برزوا بتنظيمهم الدّقيق لشؤون دولتهم، واهتمامهم البالغ في العلوم، فأنشأوا دار الحكمة في القاهرة، وأغدقوا عليها من المال الشّيء الكثير، وجلبوا لها الكتب والمؤلّفات والمخطوطات النّادرة من مختلف أقطار المعمورة، فجمعوا فيها ما يقارب المليون وستمائة ألف مجلّد(2) في مختلف علوم الدّين والفقه وعلوم الفلسفة والطّبّ والرّياضيّات، وجعلوا ذلك مباحًا لكلّ الناس.
وخلاصة ما تقدّم، فإنّ العوامل الّتي ساعدت على النّهضة العلميّة والفكريّة للمسلمين والعرب، كثيرة جدّا، ومن أهمّها أنّهم نظّموا شؤونهم في دولة إسلاميّة قويّة، وتعرّفوا على مختلف الشّعوب من خلال الفتوحات الإسلاميّة الّتي وصلت بهم إلى أوروبا من بوابة الأندلس، ثمّ الأمن والاستقرار الّذي نعموا به في أثناء حكم العباسيّين والفاطميّين، وحياة البذخ والرّفق التي كانت متوفّرة لديهم نتيجة ازدهار الاقتصاد والتّجارة في بلادهم، كلّ ذلك وغيره من الأسباب جعلت العرب والمسلمين حكّام العالم، وبلادهم مقصدًا لكلّ طالب علمٍ، ولغتهم العربيّة لغةَ العلوم كافّة.

بعض الأسباب التي أوصلت العرب
إلى عصر الانحطاط
بعد أن وصل العرب إلى ذروة عزّهم، إنْ في الحكم أو في التّنظيم أو في العلوم، وبعد أن امتدّ حكمهم من الأندلس غربًا إلى بلاد فارس شرقًا، دخل الوهن على مفاصل الحكم، وبدأت السّلطة المركزيّة تفقد قوّتها شيئًا فشيئًا. فدارت عليهم الأيّام وتغيّرت، واشتعلت نيران الحروب فيهم واستعرت. فضعف حكم الدّولة الفاطميّة وحصل فيها من الفوضى والخراب الشّيء الكثير، أدّى إلى حرق دار الحكمة ونهبها في العام 461 ه. ثمّ كان سقوط قرطبة (الأندلس) في سنة 636 هجري، وما تلا ذلك من حرقٍ لمكتبتها ونهبها، تلك الّتي احتوت على الكثير من تراث العرب وعلومهم خلال فترة حكمهم للأندلس.
وجاءت بعد ذلك الحرب الضروس، على يد هولاكو قائد المغول، الّذي غزا بلاد العرب قادمًا من آسيا، فأسفرت حربه عن سقوط بغداد في العام 656 هجري. ويمكن القول أنّ العربَ لم يشهدوا مثلَ هذه الحرب من قبلُ، إذ لم يكتفِ هولاكو بأن هزمهم في عُقرِ دارهم، بل عمل على إبادتهم ونسف حضارتهم، فقتل منهم أعدادًا كبيرةً، حتّى إنّ بغداد كادت تقفر من السّكان، وحرَقَ مكتبتها المعروفةَ ببيت الحكمة، بعد أن رمى جزءًا كبيرًا من محتوياتها في نهر دجلة، حتّى قيل إنّ مياهه اسودّت بحبر المخطوطات والكتب.
هذه الحوادث وغيرها الكثير أدّت إلى تقهقر العرب في مختلف المجالات، ويصعب في هذا المكان سرد كلّ الأسباب التي أوصلت العرب إلى عصر الانحطاط، إذ إنّ ما ذكرناه يعدّ من الأسباب الأساسيّة، ولكن لا نغفل أيضًا عن الحملات الصّليبيّة وتأثيرها وما عاناه العرب من ظلمٍ واضطهادٍ وهدمٍ لحضارتهم وثقافتهم ولغتهم.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ هناك الكثير من الأسباب الدّاخليّة المتعلّقة بإدارة شؤون الدّولة وما نتج عنها من فساد في الحكم والحكّام، أدّى إلى إضعاف مركزيّة الدّولة، فانعكس ذلك على الولايات التّابعة لها، وأصبحت خاصرة الدّولة المتمثّلة بالولايات الحدوديّة ضعيفةً، ممّا جعلها عرضةً لهجمات الطّامعين بأرضها وخيراتها.

تأثير عصر الانحطاط على النتاج
الفكري العربي
اِختلفت الآراء في تحديد الزّمن الفعليّ لعصر الانحطاط الّذي مرّت به البلاد العربيّة، ولكنّ المؤكّد أنّ سقوط بغداد بيد المغول كان مفصلًا تاريخيًّا مهمًّا في حياة العرب، وبذلك اعتبره كثيرٌ من الباحثين في هذا المجال بدايةَ عصر الانحطاط الّذي استمرّ ستّة قرون حتّى وصول أسرة مح محمّد علي إلى الحكم في مصر سنة 1220 ه. وقد شهدت مصر في فترة حكم محمّد علي نهضةً علميّةً كبيرةً، تمثّلت في إرسال بعثاتٍ طلابيّةٍ من مصر إلى أوروبا ليدرسوا مختلف العلوم وينقلوها إلى مصر، وقد اعتبر البعض أنّ هذه المرحلة تمثّل عصر نهضة العرب، فيما اعتبر البعض الآخر أنّها تجربةٌ ناجحةٌ لم تستمرَّ طويلًا بسبب افتقادها الرّؤية الواضحة.
فمن المظاهر الّتي تميّز بها عصر الانحطاط، جمود العقول وندرة الإبداع العلميّ، بحيث اقتصر الإنتاج الفكريّ على تكرار ما سبقه من دون تميّز يَذكر، واللّافت في ذلك، أنّ الجمود لم يقتصر على الإنتاج العلميّ فحسب بل أصاب الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة كذلك.
وممّا زاد الأمور صعوبةً، أنّ الحكم العثمانيّ للبلاد العربيّة، وإن كان قد أعاد للمسلمين هيبتهم من خلال توحيد الخلافة، لكنّه عمد إلى سياسة القمع الفكريّ ومحاربة الّلغة العربيّة في الولايات العربيّة، إضافةً إلى انشغال الولاة العثمانيّين بالحروب بدلًا من العمل على تطوير ولاياتهم والاهتمام بها.
وبعد انقضاء الحكم العثمانيّ، انتقلت البلاد العربيّة إلى عهد الانتداب الّذي لم يكن أفضل حالًا ممّا سبقه، ثمّ جاء استقلال الدّول العربيّة في منتصف القرن العشرين، ليكونَ منطلقًا للشّعوب العربيّة بعد تحرّرها، إلّا أنّ الوقت كان قد نفد، والثّورة الصّناعيّة والتّكنولوجيّة قد خطت خطواتٍ سريعةً يصعب اللّحاق بها، ومع مجيء الثّورة الرّقميّة الأخيرة بداية القرن الحادي والعشرين، والتي غيّرت مسار العالم بأسره، وجد العرب أنفسهم يغرّدون خارج السّرب، إذ سبقهم العالم بأشواطٍ عديدةٍ، باتت معها سرعة الجري غيرَ كافيةٍ لاستعادة المبادرة.

نتائج بعض الإحصائيات المتعلقة بالنتاج الفكري العربي
إنّ الإحصائيّات الّتي أجرتها العديد من الجهات الرّسميّة وغير الرّسميّة، في موضوعات مختلفة تتعلّق بالإنتاج الفكريّ العربيّ، إن لجهة قراءة الكتب وتأليفها، أو المساهمة في الأبحاث العلميّة، أو لناحية تصنيف الجامعات العربيّة وغيرها من مؤشّرات النّموّ والتّقدّم، أظهرت النّتائج المخيّبة للآمال، فكلّ المحاولات المتواضعة الّتي حاول العرب من خلالها فعلَ شيءٍ مؤثّرٍ في هذه المجال لم تُجد نفعًا، بل بعضها زاد الأمور سوءًا لأنّ الجهود الّتي بُذلت لم تكن في الاتّجاه الصّحيح.

للأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم
للأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم

فالتّقرير الصّادر عن منظّمة الأمم المتّحدة للتّربية والعلوم والثّقافة (اليونسكو) في العام 2015، بعنوان تقرير اليونسكو للعلوم، يعطي صورة كافية وواضحة عن الواقع العربي فيما يتعلّق بالنّتاج العلمي، والمساهمة العربية في المنشورات العلميّة، فقد بلغ عدد الباحثين العرب 149.5 ألف باحث في العام 2013، من إجمالي 7758.9 ألف باحث حول العالم، منهم 2408 ألف باحث في أوروبا، و1721 ألف باحث في القارة الأمريكية و660 ألف في اليابان، وكذلك فيما يتعلق بالمنشورات العلمية، فقد بلغت مساهمة العرب 29944 بحث علمي من إجمالي 1270425 بحث حول العالم، منهم 498817 في أوروبا و417372 في القارة الأمريكية و73128 في اليابان. وعلى صعيد الاختراعات، فقد سجّلت الأرقام 492 براءة اختراع في العالم العربي من إجمالي 277832 حول العالم، منها 52835 في اليابان و17586 في ألمانيا و7761 في الصين.
وفي تقرير بعنوان “أرقام عن واقع القراءة في الوطن العربيّ”، نشرته صحيفة البيان الإماراتيّة في عددها الصّادر بتاريخ 19/9/2015، يبدو واضحًا الواقع المرير وانعكاسه على مختلف مجالات الحياة، وقد أورد التّقرير الأرقام الآتية:
• 757مليون أمّيّ عالمياً بينهم 100 مليون عربيّ
• كلّ 80 مواطناً عربيًّا يقرأون كتاباً واحداً في السّنة، في المقابل، يقرأ المواطن الأوروبي نحو 35 كتاباً في السّنة
• يأتي دافع القراءة للتّرفيه أوّلاً بالنّسبة للدّول العربيّة بنسبة 46 %، بينما لا يبلغ دافع التماس المعلومات إلا 26 % فقط.
• معدّل النّشر في الدّول العربيّة سنويًّا حوالي 6.500 كتاب، بينما يصل 102.000 كتاب في أميركا الشّماليّة و42000 كتاب في أميركا اللاتينيّة والكاريبي.
• إصدارات كتب الثّقافة العامّة في العالم العربيّ لا تتجاوز الـ 5.000 عنوان سنويًّا، وفي أميركا حوالي 300 ألف كتاب.
• النّسخ المطبوعة من كلّ كتابٍ عربيٍّ تقارب 1.000 أو 2.000 وفي أميركا 50 ألف نسخة.
• يُترجَم سنويًّا في العالم العربيّ خُمس ما يُترجَم في دولة اليونان الصّغيرة، والحصيلة الكلّيّة لما تُرجم إلى العربيّة منذ عصر الخليفة العبّاسيّ المأمون إلى العصر الحالي تقارب الـ 10.000 كتاب، وهذا العدد يساوي ما تترجمه إسبانيا في سنةٍ واحدة، أمّا الصّين فهي تعمل على ترجمة وطباعة كلّ كتابٍ يصدر في أمريكا خلال ثلاثة أيّام من صدوره، في حين أنّ أكبرَ الدّول العربيّة لا يُترجم فيها إلا 400 كتاب في السّنة.
• في النّصف الأوّل من ثمانينيّات القرن العشرين كان متوسّط الكتب المترجمة لكلّ مليون مواطنٍ عربيٍّ، على مدى خمس سنوات، هو 4.4 كتب (أقلّ من كتابٍ لكلّ مليون عربيٍّ في السّنة) وفي هنغاريا كان الرقم 519 كتاباً لكلّ مليون، وفي إسبانيا 920 كتاباً لكلّ مليون.
• تبلغ مبيعات الكتب إجمالاً في كلّ أنحاء العالم 88 مليار دولار، وفي الولايات المتّحدة الأميركيّة 30 مليار دولار و10 مليارات دولار في اليابان، و9 مليارات دولار في بريطانيا، ويبلغ نصيب العالم العربيّ 1% من الرقم الإجماليّ للمبيعات.

الحلول الممكنة والرؤية المستقبلية
إنّ ما أوردناه سابقا، يعطي فكرةً واضحةً عمّا آلت إليه الأمور في وطننا العربيّ الّذي نحن جزءٌ منه ونتأثّر بما يتأثّر به، ولكنّ هذا لا يعني أنّ الأفق مسدودٌ أمام محاولات تغييرٍ تنقل الواقع من الحالة الرّاهنة إلى النّهضة الفكريّة المرجوّة.
وهذا الأمر ليس مُناطًا بالمؤسسات الرّسميّة فحسب، بل هو مسؤوليّة كلّ فردٍ منّا انطلاقاً من موقعه وعمله. فللأسرة دورٌ كبيرٌ في تعويد أبنائها على ملازمة القراءة، واقتناء الكتب، وجعلها جزءًا من حياتهم، كما أنّ للمدرسة دورًا بارزًا في ذلك، إذ إنّ التّعليم لا يقتصر على المناهج الرّسميّة المُعدّة من قبل وزارة التّربية بل ينبغي أن يكون سبيلًا لتعويد أبنائنا على عاداتٍ سليمةٍ تكون القراءة من ضمنها، بل أهمّها، ومن هنا نجدُ أنّ دور الأسرة والمدرسة في تعويد أبنائنا على القراءة يعدّ دورًا أساسيّا بالغ الأهميّة، لأنّه يغرس في النّفوس حبّ الكتاب والقراءة.
ثمّ يأتي دور الجامعات في تحفيز إنتاج البحث العلميّ وتأمين الموارد الماديّة وغير الماديّة اللّازمة له، والانفتاح على مراكز البحث العلميّ الأجنبيّ، للتّعاون معها والتعرّف على آخر ما توصّلت إليه من نتائج علميّة.
ولا ننسى دور الوزارات المعنيّة في الشّأن التّربويّ والثّقافيّ، في رسم رؤيةٍ واضحةٍ تسير عليها المؤسّسات التّربويّة ومراكز الأبحاث ودور النّشر، وهو ما يلزم وجود خطّةٍ متكاملةٍ على صعيد الحكومات العربيّة بأجمعها، تضع في حسبانها الاحتياجات الأساسيّة لكلّ دولة، ويتمّ توجيه نتاج الفكر العربيّ على أساسها.
وربما تكون الخطوات الأخيرة التي قام بها عدد من دول الخليج، خاصة الإمارات العربية المتحدة من خلال مسابقات لتحدي القراءة وغيرها، قد غيّرت من واقع الأرقام المخيفة الذي استمر لسنوات على حاله، ففي آخر نتائج مؤشر القراءة العربي، الذي كشف عنها في أثناء افتتاح الدورة الثالثة لقِمّة المعرفة في دبي في العام 2016، تبيّن أنّ الأمور تتّجه نحو التّقدّم على هذا الصّعيد، إذ أظهر الاستبيان الإلكتروني الذي شارك فيه حوالي 148 ألف مشارك، أن العرب يقرؤون ما يقارب 35 ساعة سنويّا، وأن متوسط عدد الكتب بلغ 16 كتاب سنويا، وهذا يشمل القراءات المتعلقة بالعمل والقراءات الأخرى (راجع مقال بعنوان: “مؤشر جديد.. كم كتابًا يقرأ العربي في السنة وكم عدد ساعات القراءة؟” على موقع eremnews.com، بتاريخ 7/12/2016)

قاعة القراءة الرئيسية في مبنى الكونغرس الأميركي
قاعة القراءة الرئيسية في مبنى الكونغرس الأميركي

فوائد القراءة
يقول الدكتور ساجد العبدلي: “أرى القراءة أكثر من شيءٍ ضروريٍّ، لأنّي أراها مظهرًا من مظاهر الحياة الجوهريّة، والإنسان الّذي قد حرمه الله نعمة القراءة، قد حُرِم شيئًا عظيمًا، وأوصد في وجهه بابًا كبيرًا من أبواب الحياة هو باب العلم والمعرفة”(3).
فالقراءة هي المصدر الأساس للوصول إلى المعرفة، ولا يجدر أن تكون صدفةً تحدث في حياتنا، بل تتخطّى ذلك لتكون جزءًا أساسيًّا نُخصّص له الوقت اللّازم، بل نقدّمه على سواه من ناحية الأهميّة.
وعندما سُئِل الأديب المصريّ الكبير عبّاس محمود العقّاد عن سبب حبّه للقراءة قال: “إنّي أهوى القراءة لأنّ لي في هذه الدّنيا حياةً واحدةً، وحياةٌ واحدةٌ لا تكفيني، ولا تحرّك كلّ ما في ضميري من بواعثِ الحركة، القراءة وحدها هي الّتي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياةٍ واحدةٍ، لأنّها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تُطيلها بمقدار الحساب”(4)
فالقراءة تجعل القارئ مشاركًا الكاتب أفكاره ومشاعره وأحاسيسه، وهو ما يُكسبه غنًى وتنوُّعًا. ولذلك وجب علينا أن نختار من القراءة ما يفيدنا في حياتنا، وأن نكون قادرين على تمييز الصّحيح من المعلومات من الخاطئ منها، وأن يكون عقلنا ميزانًا راجحًا لكلّ معلومة تدخل إلى فكرنا، ولنبدأ بتعويد أنفسنا وأبنائنا على قراءة كتب الأخلاق وأخبار الصّالحين، ثمّ الكتب الثقافيّة والعلميّة الّتي تساعدنا على فهم العالم من حولنا أكثر فأكثر، وكذلك الموضوعات التّاريخيّة المهمّة الّتي من خلالها نفهم سير الأمور وأسبابها. ومن المهمّ أيضًا أن نقرأَ من الكتب ما نحبّ، فيعطينا ذلك حافزًا كبيرًا للاستمرار، ويفتح لنا آفاقًا جديدةً مع كلّ كتاب نقرأه.

الخاتمة
إنّ النّهضة الفكريّة المرجوّ تحقيقها في وطننا العربيّ عامّة وفي حياتنا وحياة أبنائنا خاصّة، تبدأ من قراءة الكتب والاطّلاع على كلّ ما هو مفيد، واستغلال الوقت الّذي هو رأسمال كلّ إنسان، فينتج عن ذلك رؤيةٌ جديدةٌ للحياة، تتبلور شيئًا فشيئًا، وتزداد وضوحًا مع كلّ خطوةٍ نقوم بها إلى الأمام، فيحدّد كلٌّ منّا هدفه من الحياة، ويجعل لهذه الحياة معنًى وغايةً، يعمل على تحقيقها والوصول إليها. فالاهتمام بالنشء الصّاعد لا يجب أن يقتصر على تأمين الطّعام والشّراب والمسكن وإرساله إلى المدرسة فحسب، بل في تأمين جوٍّ من الطّمأنينة والرّاحة وزرع عاداتٍ سليمةٍ في ذهنه وفكره، تقوده إلى رسم طريقه بالشّكل السّليم، ولعلّ أهمّ ما يمكن أن نزرعه في أبنائنا هو حبّ القراءة والاطّلاع.

مراجعات كتب

[su_accordion]

[su_spoiler title=”

وثائق سياسيّة من تاريخ المقاطعات اللبنانية 1707-1873- الدكتور رياض غنّام
دار معن، بيروت، 2018 (464 صفحة)

” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عمل تاريخي، توثيقي، جديد، ضخم، للمؤرخ الدكتور رياض غنّام.
يتابع المؤرخ غنّام في عمله الجديد إماطة اللثام عن صفحات “حسّاسة” من تاريخ المقاطعات اللبنانية، بدقة العالم المنقّب، وبتجرد ونزاهة الرياضي الموضوعي الذي لا يرى من المعطيات إلّا ما هو موجود حقّاً، ولا يرى في الواقعة أكثر مما تحتويه فعلاً. هو ذا ما يخلص إليه قارئ مئة وخمس وثلاثين وثيقة من الدرجة الأولى جعلها المؤرخ غنّام بين دفتي كتابه الضخم. وما يزيد حقاً في تقدير القارئ لمنهجية المؤرخ الموضوعية عدم تدّخله في سياق أية وثيقة (خلا ما هو ضروري لإيضاح بعض المفردات)، وفي موضوعات ومسائل ما انفك معظم المؤرخين اللبنانيين يقاربونها بكثير من الهوى الأيديولوجي وبعيداً عن الحيدة العلمية.

ما يلفتك حقاً في نصوص الوثائق أعلاه، أنها تنقل معاناة اللبنانيين، كل اللبنانيين، لحقبة امتدت لأكثر من مئة وخمسين عاماً (1707-1873). ليس في الوثائق ما يسرّ أو يسعد، بل جلّها تعبيرات لمعاناة الجماعات اللبنانيين في أوقات متقاربة، تصاعد توترها بقوة بين بدء الاختراق الغربي (الاقتصادي والسياسي) إلى الخاصرة العثمانية الرخوة والمتفجرة باستمرار – أي المقاطعات اللبنانية التي كانت تدار من اقطاعيين/ مقاطعجية محليين مع غلبة واضحة للهموم المحلية في ظل الانحسار التدريجي لقبضة السلطة العثمانية المركزية القوية. يستثنى من ذلك الدور العسكري والديبلوماسي النشيط الذي لعبه الأتراك في أحداث 1856-1861، حيث بدا أنهم لا يملكون إلا ردّ الفعل حيال الاختراق الغربي القوي، إضافة إلى استعدادهم باستمرار لتقديم الجماعات الواقعة تحت سلطانها جوائز ترضية للدول الغربية، الواحدة بعد الأخرى.

ولأن التاريخ لا يحتفظ إلا بالمشكلات أو بصور منها، يمكن للقارئ أن يتوقع سلفاً مضمون الوثائق الأصلية (كما هي في الأصل ثم تفريغ المؤرخ لها بلغة اليوم كيما تصبح مفهومة للقارئ). مئة وخمس وثلاثون وثيقة يمكن أن تكون مشاهد لمسرح اللامعقول الذي أداره الغربيون بخبث ما بعده خبث طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مستفيدين من ضعف الجماعات الطائفية المحلية وقلة حيلتها من جهة، وتخلي العثمانيين منذ زمن بعيد عن المنطقة من جهة ثانية وتركها نهباً لصراعاتها وتلاعب القوى الغربية بمكوناتها الإثنية والدينية والمذهبية.

في صحبة الوثائق التاريخية الكاملة لا يفيد الاختصار أو الاختزال في شيء، ما يفيد، بل المثير حقاً، هو حين تدخل إلى متون الوثائق تلك، فتشاهد (ولا أقول تقرأ) مآسي اللبنانيين في جماعاتهم كافة، حيث القلق والفزع والاستغاثة واليأس وفقدان الأمل وتسليم مصائرهم للأقدار وللوجهاء المحليين (الإقطاعيون من جانب الدروز والأحبار والكرادلة التي باتوا يكتسبون بالتدريج قوة موازية للإقطاع المسيحي بل وتزيد أحياناً). دعوة لقراءة كتاب في منتهى الإثارة، تأريخاً وراهنية في آن.

[/su_spoiler]

 

[su_spoiler title=”

تَصَدُّعات مَرْكَبِ الحضارة
الأديب نبيه الأعور، الجزء الرابع

” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

التأليف في موضوع الحضارة، هو مزيجٌ من التاريخ والفلسفة، والاجتماع والأدب، والسياسة، والجغرافية، والعلوم، وما الى ذلك… والعماد الأكبر، هو معرفة الإنسان بالتاريخ وأحوال البشر، وما تجمّع له على السنين من آداب وما استخرجه بنفسه من ملاحظات وهو يقلِّبُ صفحات تاريخ هذه الأرض ومن عليها..
ليس بوسع أي إنسان أن يقدِّم إجابات شافية وافية، لكل الأسئلة التي يطرحها على الذهن موضوع الحضارة.
فالموسوعة، تصدعات مركب الحضارة الإنسانية عبر الأزمنة، لا تقرِّر حقائق ثابتة، إنما هي تفتح باب التفكير والمناقشة في اتجاه سليم. وتوجه الذهن الى قضايا جديدة بأن توضع موضع التأمل والبحث بهدف حمل الأذهان على التفكير في الموضوعات المطروحة فيها، وإثارة الإهتمام بمواصلة البحث.
في الجزء الرابع من هذه الموسوعة وهو بعنوان تحولات حادّة: وقف المؤلف عند مفكري الغرب في العصور الحديثة وخاصة “فلاسفة عصر الأنوار” عرض ما وضعوه من مشكلة الإنسان، وأحواله، وماضيه، وحاضره، ومستقبله، موضع درس عميق كما وأنهم أطلقوا الفكر في بحث مشاكل الإنسان، وإعادة النظر في كل ما قامت به الإنسانية من تجارب في الماضي. وفتحوا أبواباً واسعة للتفكير والتغيير.. ومهدوا بذلك لثورة طويلة، بعيدة المدى في الفكر الإنساني والنظم السياسية والإجتماعية، بدأت بالثورة الفرنسية، ومازالت متصلة الى يومنا هذا. وستبقى هذ
المسائل موضع استزادة، في هذا العمل كما في سواه.

[/su_spoiler]

 

[su_spoiler title=” أَنْسَنَةُ الدِّين – الدكتور توفيق بَحْمَد
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كتب المؤلف في التعريف بكتابه:
أنسنة الدين، كما اعتقد، يجب أن تكون نقطة البيكار في جميع المذاهب والأديان. تأنسن الله سبحانه في الإنسان … ليكون إنساناً.
وكانت ذاته الجوهرية ليستمد الإنسان … أي إنسان إنسانيته من دينه.
فإذا فقد الإنسان إنسانيته … فقد ذاته الجوهرية منه أي فقد الله منه.
وهكذا جميع أبناء الله، أي بني البشر … فلا الألوهوية منفصلة عن جوهر الإنسان وطبيعته… ولا طبيعة إنسانيته منفصلة في جوهرها، وحقيقتها، عن احدية الوجود المطلق.
الدين علم وعمل ومسلك توحيد الإنسانية. وكتاب “أنسنة الدين” لم أكتبه بل جمعته من ينابيع الإنسانية.. إنسانية المعلم كمال، وإنسانية المرجع العلّامة السيد محمد فضل الله وبيان بلاغته.
ومدرسة مولانا سقراط… في التوحيد … والأخلاق.. والإنسان.
سئلت: بالله عليك… من ألهمك… من أوصى إليك بهذا العنوان.. وكان الجواب لنا … مع الإيمان.
• تصحُّر الروح ….
• توحش الإنسان … في هذا الزمان.
• الروح تصحَّرتْ في أمتي.
• الإنسان توحّش في بلادي.
• رحت أنا الطبيب… أفتش عن داء التصحّرْ… والتَّوحش لمعرفة الدواء …للعلاج.. لم أجده … ولم أعرفه
• فاستعنت بالمجهر الكوني.. الإنساني.. المجهر الإلهي:
– للمعلّم الكمال.
– وللعلّامة السيد.
– لمولانا سقراط الإنسان.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رواد ومجاهدون
حسيب ذبيان في ذاكرة الثورة العربية
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كتاب جديد بقلم مؤلفه تيسير ذبيان. يروي الكتاب فصولاً من حياة المجاهد الوطني والقومي، إبن مزرعة الشوف (لبنان)، المولود سنة 1885، من العائلة الذبيانية الشوفية العريقة، والمتوفي سنة 1969. لكن عمر المجاهد حسيب ذبيان لا يقاس بالسنوات، كما بيّن الكتاب. فقد ملأها منذ نعومة أظفاره بالجهاد المتواصل في لبنان، وسوريا، والأردن.
أولى منازلات المجاهد الكبرى كان تركه السلك الأمني، الذي كان آمر مخفر أو مفرزة في الدرك برتبة ملازم، والتحاقه بيوسف العظمة في معركة ميسلون العاثرة مع جيش الانتداب الفرنسي الغازي على أبواب دمشق في 24 تموز 1924. كانت المعركة غير متكافئة، بضع مئات من الشباب المندفعين مقابل ألآف من الجنود الفرنسيين المدعومين بالمصفحات والمدفعية الثقيلة. وكانت النتيجة بديهية لجهة الطرف الغالب، لكنها فجّرت لدى الطرف المغلوب، بل المغدور، احاسيس الحقد على المستعمر لعقود لاحقة. هكذا حال رشيد طليع، وفؤاد سليم، وكذلك حسيب ذبيان، وآخرون.

كانت وجهة حسيب ذبيان بعد معركة ميسلون إمارة شرق الأردن التي استقبلت من تبقى من رجالات ثورة الشريف حسين والدولة العربية الحديثة التي لم تعمّر كثيراً. تولى حسيب في الإمارة الحديثة مهمة تأسيس قوة درك محلية. لكن حسيباً لم يلبث أن غادر الأردن إلى جبل العرب حين اندلعت الثورة السورية الكبرى سنة 1925 فالتحق بسلطان باشا الأطرش وقيادة الثورة. هذه إلماعات إلى سيرة مجاهد شجاع في كتاب يستحق القراءة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” زيارة إلى التاريخ، عمّان
د. فارس حلمي
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

المؤلف أكاديمي فلسطيني، مؤلف وباحث ومترجم. يقول المؤلف أن غايته هي “بيان أن الشعب الفلسطيني يستطيع بقدراته الذاتية، انتزاع جميع حقوقه المغتصبة؛ وبيان أن حلف الدكتاتورية والجهل يدمّر ولا يعمّر”.
ولإثبات وجهة نظره، يقوم المؤلف بجولات تاريخية واسعة في موضوعات معاصرة، متصلة بالشأن الفلسطيني على وجه الخصوص والشأن العربي عموماً. أما اللغة فنقدية في الغالب، تضع اللوم على الطريقة الفردية التي ندير بها شؤوننا الأكثر أهمية، مأ أدّى إل ما شاهدناه ونشاهده من هزائم وتداعيات. من الموضوعات التي توقّف المؤلف عندها نجد:
– كيف ينتصر الفلسطينيون وهم متفرقون أحزاباً وشيعاً؟
– لا بد من اتحاد الأمة العربية لمساعدة الشعب الفلسطيني
– لا بد من اتحاد المسلمين لمساعدة الشعب الفلسطيني
– ما هي وظيفة الأحزاب والحركات السياسية الفلسطينية
– متى تتوقع لنا أن ننتصر وننتزع حقوقنا المشروعة المغتصبة؟
– وموضوعات مماثلة أخرى.
السؤال الذي تردد كثيراً في الكتاب هو: هل يستطيع العرب العودة على التاريخ؟ والمؤلف يجيب نعم، إذا تعلّمنا من الأخطاء. ويسهب الكتاب لذلك في بيان الأخطاء الفلسطينة والعربية، وسببها الرئيسي برأي المؤلف التفرّد في اتخاذ القرارات والإصرار على اعتبار الخطأ صواباً، وعدم التشاور، وغياب شجاعة انتقاد اخطائنا. ونصيحة المؤلف هي أن العمل من دون معرفة وخبرة ودراية مسبقة، أقصر الطرق إلى الفشل والهزيمة..وهناك عشرات الأمثلة قديماً وحديثاً على صحة الاستنتاج ذاك.
الكتاب في 278 صفحة، ممتع، وموضوعاته تقع بين التاريخ والسياسة.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

حمــايــة الأطفال في أثناء الحروب والنـزاعـات

حمــايــة الأطفال
في أثناء الحروب والنـزاعـات

في حالات الصّراع المسلّح، يتعرّض الأطفال بالآلاف للقتل والتّشويه والاغتصاب والتّعذيب. كما يتعرض مئات الآلاف من الأطفال الذين يتم تجنيدهم لمخاطر الإصابات والعاهات والوفاة أثناء القتال، بالإضافة إلى الانتهاك البدني والجنسي من جانب رفاقهم من الجنود أو قادتهم. أمّا الأطفال الذين يفرّون من مناطق الحروب ليصبحوا في عداد اللّاجئين، فيصبحون مهمّشين ويواجهون المخاطر بدورهم، لأنّهم يظلون معرّضين للانتهاكات البدنيّة والعنف الجنسيّ، والهجمات التي تتمّ عبر الحدود.
وظاهرة استهداف الأطفال في الحروب ليست ظاهرة جديدة على مستوى العالم العربي، فأطفال فلسطين كانوا وما يزالون ضحايا حرب مزمنة، ومع توسّع دائرة الحروب يسجّل الضحايا من الأطفال أرقاماً مُفجعة في مناطق الصّراع، وتزداد المأساة الإنسانية حين يودّع الأطفال الطفولة ويرتدون الزِّي العسكري في الجبهات، وتتزايد معدّلات تجنيد الأطفال في العديد من الدّول العربية بتصاعد حدة الصّراعات، ورغم عدم وجود احصائيّات دقيقة وشاملة إلّا أنّ تقارير أصدرتها منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسيف) تؤكد على أن كافة أطراف النزاع في دول الصراعات، تقوم بتجنيد الأطفال من الإناث – لخدمة الجُناة سواء في الأعمال المنزليّة أو في المعاشرة الجنسية – والذّكور – إذ يُستخدمون حمّالين وجواسيس أو يستخدمون “لمرة واحدة” كدروع بشريّة وفي العمليّات الانتحارية – بالإضافة إلى تحويلهم جنوداً في حروبها، بشكل عام، وبصرف النّظر عن اختلاف الظروف، ودرجة انتشار الظّاهرة في البلدان موضع الصراعات، وعن الكيفيّة التي يتمّ فيها تجنيد الأطفال، تؤدي مشاركة الأطفال في المعارك إلى آثار مدمّرة على صحّتهم النفسيّة وتعرّضهم لمخاطر جسدية، مما ينتج عنه صعوبات بالغة التعقيد في عملية إعادة دمجهم مجتمعيّاً.
تجنيد الأطفال الى قائمة العار التي يصدرها الأمين العام سنويــاً
لقد حدّدت القوانين والأعراف الدوليّة “سن الثامنةَ عَشْرَةَ بوصفها الحدّ القانوني الأدنى للعمر بالنسبة للتجنيد ولاستخدام الأطفال في الأعمال الحربية، وتضاف أطراف النزاع التي تجنِّد وتستخدِم الأطفال بواسطة الأمين العام في قائمة العار التي يصدرها سنويّاً..”، لكن غالبيّة الأطراف المنخرطة في النّزاعات المسلّحة لا تراعي القوانين والأعراف. وتعدّ عمليات اختطاف الأطفال جريمة حرب، وكذلك سبيِ الفتيات القاصرات اللاتي يتمّ إجبارهن على العمل كـ “إماء للأغراض الجنسيّة”، وواحدة من المشاكل الكبيرة التي ستعترض طريق تلك المجتمعات، الغارقة في نزاعات مسلّحة، تتمثّل في وضع خطط مجتمعيّة لتقديم الدعم للأطفال الضّعفاء الذين تضرّروا بشدّة جرّاء الصراع. لتعزيز المصالحة وتجنب التمييز، ووفقاً لما تؤكد منظّمة “اليونيسيف” “تتطلّب هذه الإجراءات منظوراً والتزاماً طويل الأمد تجاه الأطفال والمجتمعات المحلية المتضرّرة من النزاعات التي يعودون إليها”.
وقد احتلّت تونس المرتبة الأولى عربيّا والعاشرة عالميّاً في مؤشر حقوق الأطفال لعام 2016 الذي أصدرته منظّمة حقوق الأطفال، وشمل 163 دولة، من بينها 17 دولة عربيّة، وجاء العراق في آخر القائمة بالمرتبة الـ 17 عربيّا والمرتبة 149 عالميا؛ نظراً لما يعانيه أطفال العراق من ويلات الحروب، ونالت مصر المرتبة الـ 34 عالميّاً، فيما احتلّت سلطنة عُمان المرتبة الـ 40، ولبنان في المرتبة الـ 42 عالميّاً، ثمّ الأردنّ في المرتبة الـ 46، كما احتلت الإمارات المرتبة الـ 78 عالمياً في مؤشر حقوق الأطفال، ثم السعودية في المرتبة الـ 80 ، وليبيا في المرتبة الـ 82، وجاءت سوريا في المرتبة الـ 105 عالميا، تلتها البحرين في المرتبة الـ 106، ثم موريتانيا في المرتبة الـ 120 واليمن بدورها حلّت في المراتب الأخيرة للمؤشّر، وورد اسمها في المرتبة الـ 131، أمّا إريتريا فقد سبقت العراق بنقطة واحدة وجاءت في المرتبة الـ 148.
في هذه الحالات كيف نستطيع حماية أطفالنا من العنف الذي يواجههم؟
قبل دراسة كيفية حماية الأطفال أثناء الحروب، سنبدأ بتعريف الطفل في الاتفاقيات الدولية. ثم سنعرض لبعض الإحصاءات الدولية واللبنانية التي تشير إلى مدى تأثير الحروب على الأطفال، ومدى خطورتها!

طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة
طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة

عريف الطفل في الاتفاقيات
الدولية لحقوق الطفل
الطفل في إعلان حقوق الطفل هو إنسان ينقصه النضوج البدني والعقلي. وقد جاء في الديباجة «أنّ الطفل، بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة، قبل الولادة وبعدها».
وتعرّف المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل «الطّفل كلّ إنسان، لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ما لم يبلغ سن الرّشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه». وتعتبر المادة المذكورة أنّ الطفل سواء أكان ذكراً أم أنثى هو فرد أو عضو في أسرة وفي مجتمع في آن معاً، وله مجموعة حقوق مع الإشارة إلى أنّ غالبية البلدان والمجتمعات كانت قد اعتمدت قبل ظهور الاتفاقيّة بزمن سنَّ الثامنة عشرةَ كحد أقصى لمرحلة الطفولة، في حين أنّ غيرها من البلدان والمجتمعات اعتمدت ولا تزال سنّاً أصغر لأنّها تعتبر أن الطفل يكتمل نموّه البيولوجي قبل ذلك بفعل عوامل المناخ.
ولا بدّ من أن نشير بأنّ البلوغ المبكر لسن الرّشد يتأتى عنه مسؤولية أكبر للطفل الراشد، لأنّه يتحرر باكراً من الولاية والوصاية، ممّا يجعله مسؤولاً كاملاً أيضاً أمام القانون والمجتمع.

حماية الأطفال أثناء الحروب
والنزاعات المسلحة.
جاء في تقرير اليونيسيف “وضع الأطفال في العالم 2005” أنّ الأطفال الذين يعيشون في ظروف النّزاعات المسلحة، فحتّى وإن لم يُقتلوا أو يصابوا فمن المحتمل أن يُيَتَّموا أو يُخطفوا أو يُترَكوا وهم يعانون آثار الأسى والألم النفسي والاجتماعي جرّاء التعرض المباشر للعنف أو التشرد، والأطفال الذين يَبْقَوْن على قيد الحياة غالباً ما يجدون أنفسهم محاطين بمعركة من نوع آخر في مواجهة المرض والمأوى غير الملائم والافتقار إلى الخدمات الأساسية وسوء التغذية.
ويمكن أن تتورّط المدارس أيضاً في العنف المصحوب في أغلب الأحيان بنتائج مأساوية وربما يجبر الأطفال على التجنيد لغايات القتال والاستعباد ومواجهة العنف الجنسي أو الاستغلال أو التعرض لبقايا الأعتدة الحربية التي لم تنفجر أثناء الحرب والتي تقتل أو تُقعِد أو تشوّه الآلاف، وتكون الفتيات بصورة خاصّة عرضة للاستضعاف والتعرّض للعنف الجنسي والإساءة والوصم الاجتماعي أثناء أوضاع النّزاعات المُسلّحة وبعدها.
وتظهر إحدى الدّراسات المسحيّة التي أجرتها منظمة اليونيسيف على45 طفلا تعرضوا للغزو أن:‏
֎ 62٪ من الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية، كأن شاهدوا جُثَثاً ملقاةً
على جانبي الشارع لأشخاص لا يعرفونهم وأحيانا لأشخاص يعرفونهم.
֎ 20 ٪ من أطفال العينة العشوائية فقدوا أقرباء لهم بواسطة القتل أو
الأسر.‏
֎ 50٪ تعرضوا لاضطرابات نفسية من جرّاء الغزو كالأحلام المزعجة
والكوابيس والخوف المستمر من كل شيء.‏
واتضّح أنّ جميع الأطفال الذين خضعوا للدراسة خاصة في المرحلة العمرية (6 سنوات) يخافون الخروج من المنزل وكانت رسوماتهم تعبّر عن الألم المكبوت كأن يقوموا برسم صور الجثث – الدم – الطائرات وكل ما له علاقة بالغزو.‏
إن معاناة الأطفال من الحروب لا تتوقّف بتوقّف المدافع، بل ترافقهم إلى مراحل متقدمة من أعمارهم وهذا ما أكّده بحث أجرته منظمة “اليونيسيف” بالتعاون مع وزارة التعليم العالي في لبنان على 500 طفل لبناني ممن عايشوا أو شاهدوا مذبحة قانا أثناء الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان عام 2006، حيث تبين أنّ 30% من هؤلاء الأطفال لا يزالون يعانون من اضطرابات النوم، و14% يعانون من الاكتئاب، و40% منهم فكّروا في الانتحار.
إنّ النتائج السلبية التي يمكن أن تتركها الحرب على شخصية الأطفال قد لا تظهر مباشرة في سلوكهم، ولكنّها سوف تنعكس على مستقبلهم، وعلى الأخص عندما يصبحون مراهقين فالطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل والدمار من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية، وإذا رجحت كفّة التجارب السلبية على التجارب الإيجابيّة، فإنّ السلوك عند الطفل سيكون له النصيب الأوفر في حياته المستقبليّة.
وتشير بعض الدراسات إلى أنّ الأطفال الذين يتعرّضون في طفولتهم لمأساة إنسانية، كالتعذيب، أو العنف الجسدي الحاد، أو التوقيف الاعتباطي، أو الاغتصاب وغيرها من المآسي كالتهجير القسري والمجازر، تنشأ لديهم رغبة قوية في أن يصبحوا جنوداً، فهذا يُشعرهم بأنّهم يكملون المسيرة التي بدأها أقرباؤهم الذين قُتلوا، بالإضافة إلى أنّ نمط الحياة العسكرية يخوّلهم أن يحلموا بالانتقام ويعطيهم انطباعاً بأنهم يتحكّمون بزمام الأمور، ولكن بالعكس يتعرّض الأطفال الجنود إلى أشكال عنيفة شتّى.
ومن آثار التجنيد على الأطفال، الكوابيس الليلية كالأرق والتبول اللّاإرادي واضطرابات في الأكل، وعدم القدرة على التركيز… كما يُرافق الطفل ضغط نفسي ومشاهد سابقة لحوادث مؤذية حدثت أمامه أو شارك فيها، وهذا ما يدفعهم إلى الإدمان على الكحول والمخدِّرات.

وفي إطار مكافحة هذا النوع من العنف، نصّت المادة 38 من اتفاقية حقوق الطفل على ما يلي:
أ‌) تتعهّد الدّول الأطراف بأن تحترم قواعد القانون الإنساني الدّولي
المنطبقة عليها في المنازعات المسلّحة وذات الصلة بالطفل وأن تضمن احترام هذه القواعد.
ب‌) تتّخذ الدّول الأطراف جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن
ألّا يشترك الأشخاص الذين لم تبلغ سنّهم خمس عشرة سنة اشتراكاً مباشراً في الحرب.
ت‌) تمتنع الدول الأطراف عن تجنيد أيّ شخص لم تبلغ سنّه خمس عشرة سنة في قواتها المسلحة، وعند التجنيد من بين الأشخاص الذين بلغت سنّهم خمس عشرة سنة ولكنّها لم تبلغ ثماني عشرة سنة، يجب على الدّول الأطراف أن تسعى لإعطاء الأولويّة لمن هم أكبر سناً.
ث‌) تتخذ الدّول الأطراف، وفقاً لالتزاماتها بمقتضى القانون
الإنساني الدَّولي بحماية السكّان المدنيين في المنازعات المسلّحة، جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن حماية ورعاية الأطفال المتأثّرين بنزاع مسلّح.
كما جاء في المادة 39 من الاتفاقية ذاتها: تتّخذ الدول الأطراف كلّ التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة، أو التعذيب أو أي شكل آخر من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أو المنازعات المسلّحة. ويجري هذا التأهيل وإعادة الاندماج هذه في بيئة تعزز صحّة الطفل، واحترامه لذاته، وكرامته.
وتجدر الإشارة إلى البند 25 من الإعلان العالمي لبقاء الطفل وحمايته ونمائه الصادر في 30 أيلول/ سبتمبر عام 1990، الذي أكّد على ضرورة ضمان حقوق الطفل في ظل النزاعات المسلحة.

قانون العمل الدّولي.
إنّ الاتفاقية الأهم في قانون العمل الدولي لناحية حماية الأطفال في النزاعات المسلحة هي اتفاقية حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال.
حدّدت الاتفاقية 182، وللمرّة الأولى منذ قيام منظمة العمل، مفهوم “أسوأ أشكال عمل الأطفال”، فنصّت المادة الثالثة على التالي:
“يشمل تعبير “أسوأ أشكال عمل الأطفال” في مفهوم هذه الاتفاقية ما يلي:
֎ كافّة أشكال الرقّ أو الممارسات الشبيهة بالرِّق، كبيع الأطفال
والاتجار بهم وعبودية الدّين والقنانة والعمل القسري أو الإجباري، بما في ذلك التجنيد القسري أو الإجباري للأطفال لاستخدامهم في صراعات مسلحة.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لأغراض الدّعارة، أو لإنتاج
أعمال إباحية أو أداء عروض إباحية.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لمزاولة أنشطة غير مشروعة، ولا
سيّما إنتاج المخدِّرات بالشّكل الذي حُدِّدت فيه في المعاهدات الدّولية ذات الصّلة والاتجار بها.
֎ الأعمال التي يُرَجّح أن تؤدي، بفعل طبيعتها أو بفعل الظّروف التي
تزاوَل فيها، إلى الإضرار بصحة الأطفال أو سلامتهم أو سلوكهم الأخلاقي”.
إضافة إلى الحماية القانونية، لا بد من الحماية الاجتماعية، وهنا يأتي دور الدّولة والمؤسّسات الأهلية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام في:
֎ الالتفات للأطفال في زمن الحرب.
֎ توفير مساكن آمنة ومجهّزة للأطفال أثناء الحرب.
֎ إنشاء مراكز متخصّصة لتقديم برامج علاجية – نفسيّة خلال فترة الحرب وبعدها للأطفال.
֎ تأمين الغذاء اللازم والمساعدات الصحية.
֎ تأمين دورة إسعافات أولية لأهالي المناطق المعرضة للحرب.
وتلعب وسائل الإعلام دوراً مهمّاً في نقل الصّورة والوقائع بحذافيرها للمسؤولين في محاولة ما يمكن إنقاذه من أهالي وأطفال.
֎ يجب على الآباء والأمّهات الانتباه إلى ملاحظة الآثار النفسيّة السلبيّة التي سببتها الحرب لدى أبنائهم مثل الخوف والقلق والعُصاب والكوابيس والبكاء والتبول اللاإرادي، والمُسارعة إلى تقديم العلاج النّفسي اللازم لأبنائهم.‏
֎ تعزيز روح المواطنيّة وتعزيز روح التعاون.
يواجه الأهل تحدِّيات جمّة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إل معاملة خاصّة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها، بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمّهات من خلال برامج توعية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.

الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017
الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017

ودور الأيتام، وسمات الشيخوخة على وجوه أطفال أنهكهم الجوع وسوء التغذية في الدول الأكثر فقراً في العالم، حيث أنّ طفلاً من بين ستة أطفال حول العالم يموتون قبل سن الخامسة، ولا يزال آلاف الأطفال يشكّلون الحلقة الأضعف في بُنية المجتمع، فيفرض عليهم الحد الأقصى من الواجبات والعقوبات، مقابل الحد الأدنى من الحقوق والضمانات، ولا يزال الطّفل فيه عرضة لشتّى أنواع الضّغوطات والتوتّرات والانتهاكات النّاجمة عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتمييز الجنسي والعرقي وأحياناً الطائفي.

وكعيّنة لا أكثر من الإحصاءات الدّولية التي توضح أو تشرح الوضع المأساوي للأطفال نورد ما يلي:

إحصاءات دولية
֎ يعيش نحو 1.5 مليون طفل من ضحايا الحرب في رعاية الدولة في وسط أوروبا وشرقيها وحدهما.
֎ إنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة في المئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ لقد زادت في العقود الأخيرة نسبة الضحايا المدنيين في النزاعات المسلحة بصورة مثيرة، وأصبحت تُقدّر الآن بأكثر من 90 في المائة، ويمثّل الأطفال ما يقرب من نصف الضحايا.
֎ ويتعرض من ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف طفل كل عام للقتل بسبب الحروب والنزاعات.
֎ أُجبر ما يقدّر بنحو 20 مليون طفل على الفرار من ديارهم بسبب النّزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان، ويعيشون كلاجئين في بلدان مجاورة أو نزحوا داخليّاً، أي داخل حدودهم الوطنية، وإنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة بالمئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ أكثر من مليون طفل أصبحوا يتامى أو منفصلين عن ذويهم، وتعرّض ما لا يقل عن 6 ملايين طفل، للإعاقة الدائمة، أو لتقطيع الأطراف، بين عامي 1990و2000.
֎ ويُقَدّر عدد الأطفال الجنود بنحو 300 ألف، من البنين والبنات الأقل من 18 سنة، وهم متورّطون في أكثر من 50 نزاعا مسلّحاً على مستوى العالم ويستخدم الأطفال الجنود كمحاربين وكمراسلين وحمّالين وطباخين ولتقديم خدمات جنسية، ويتعرّض البعض منهم للتجنيد القسري أو الخطف، وآخرون يدفعهم الفقر وإساءة المعاملة والتمييز إلى الانضمام، أو السّعي للثأر بسبب العنف الذي تسلّط عليهم وعلى أسرهم.
֎ وتتعرّض الفتيات والنّساء إبّان النّزاعات المسلّحة لمخاطر الاغتصاب، والعنف المحلّي، والاستغلال الجنسي، والاتجار، والإذلال والتشويه الجنسي، وقد أصبح استخدام الاغتصاب وغيره من أشكال العنف ضدّ النساء استراتيجية في الحروب تستخدمها كل الأطراف.
֎ كشف عن استخدام الأطفال في التفجيرات من قبل منظّمات مسلّحة، وذلك للقيام بعمليات انتحارية على مراكز عسكرية محددة.
֎ كما تؤدّي النزاعات إلى تشتيت الأسر، الأمر الذي يضع مزيدا من الأعباء الاقتصادية والعاطفية على المرأة.
֎ يعيش أكثر من مليون طفل في الاحتجاز حيث تنتظر الأغلبيّة العظمى منهم محاكمات على جرائم صغرى، ويعاني العديد منهم الإهمال والعنف والأذى.
֎ وهناك مواقع أميركية، تقدم عرضاً لبيع أطفال الشوارع بمبلغ 27440 يورو للطفل الواحد

إحصاءات عربيّة
مع تصاعد وتيرة العنف ضدّ الأطفال في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، بات لا ينقضي يوم واحد دون أن نسمع عن مقتل أو استهداف طفل! بات الأطفال هم الهدف وهم الضّحية في الحروب البشعة، والمجازر الظالمة! وإن لم يُصَب هؤلاء الأطفال بأي مكروه جسدي، تصيبهم التداعيات النّفسية، وتؤثّر عليهم وعلى مستقبلهم وحياتهم على المدى الطويل.
حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة، هناك نحو 1 مليار طفل يعيشون في مناطق يتواجد فيها صراعات، ومنهم ما يقارب الـ 300 مليون طفل دون الخامسة من العمر!، وأوضحت منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو -UNESCO أنه في عام 2013، كان هناك نحو 28.5 مليون طفل خارج المدارس بسبب الصراعات الموجودة.
وقد أعلنت الممثّلة الخاصّة للأمين العام للأمم المتحدة المعنيّة بالأطفال والصراعات المسلحة بحسب إحصائية سابقة أنّ عدد الأطفال اللاجئين أو المشردين داخل سوريا وصل إلى (خمسة ملايين طفل)، وفي مصر يموت يوميًا (125) طفل بسبب التلوث وعدم الرّعاية الصحيّة، كما يوجد (5) مليون طفل عراقي محرومين من حقوقهم الأساسية ومعرّضين للانتهاكات الخطيرة لحقوق الطفل، كما أنّ نصيب الدّول العربية من عمالة الأطفال هو (10) مليون طفل، منهم (3 مليون) طفل في مصر وحدها، ويوجد في الدول العربية نحو (5 مليون) طفل غير ملتحقين بالتعليم الابتدائي, و(4 ملايين) مراهق تقريبًا غير ملتحقين بالتعليم الثانوي.
وفيما يلي تستعرض مُنظّمة “هيومن رايتس مونيتور” أوضاع الأطفال على مستوى العالم العربي كالآتي:

3- أطفال فلسطين
قالت القائمة بالأعمال بالإنابة لبعثة المراقبة الدائمة لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، نادية رشيد، إنّ أطفال فلسطين يتعرّضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال مع الإفلات التام من العقاب، ومنذ تشرين أول/ أكتوبر 2015، قتل أكثر من 40 طفلاً، قضى العديد منهم بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وذكرت أن الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال، في الأرض الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقيّة يعانون لما يقرب من نصف قرن تحت الاحتلال الإسرائيلي من انتهاك حقوقهم من قبل السلطة الإسرائيلية، القائمة بالاحتلال، مشدّدة على أنّه رغم من وجود أحكام لتوفير الحماية للمدنيين تحت الاحتلال الأجنبي وفقاً للقانون الدّولي، لا يزال الأطفال الفلسطينيون يتعرضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال.

1- أطفال سوريا.
حسب بيان لليونيسف قال “مارتن” الذي زار لبنان للقاء الأطفال اللاجئين الذين فرّوا من الحرب في سورية: «نحن في السنة السادسة من أزمة أثّرت على حياة الملايين من الأطفال وأسرهم. إنّ ما يقارب 2.8 مليون طفل سوري خارج مقاعد الدراسة في المنطقة، وقد التقيت أطفالاً باتوا المعيلين الوحيدين لعائلات بأكملها، يعملون لمدة 12 ساعة يوميّاً» مشدّداً على ضرورة أن يفعل العالم المزيد لحماية هؤلاء الأطفال من الاستغلال وتوفير الوصول إلى بيئة آمنة حيث يمكن لهم التعليم والتمكين.
ويتعرّض الأطفال النازحون لمخاطر الاستغلال وإساءة المعاملة، ولم يعد أمام أعداد كبيرة من الأطفال سوى خيار العمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، ويشار إلى أنّ نحو 1.1 مليون سوري لجأوا إلى لبنان منذ بداية الأزمة عام 2011، أكثر من نصفهم من الأطفال، كما فاقمت الحالة الاقتصادية المتدهورة للنازحين السوريّين بدرجة كبيرة من مشكلة عمالة الأطفال في لبنان، وبالإضافة إلى المعاناة النفسية التي تؤثر على عدد لا يستهان به من الأطفال الذين فرّوا من الحرب، هناك تحدٍّ مرتبط ببعض أسوأ أشكال عمالة الأطفال، مثل العمل في مواقع البناء التي يُمْكن أن تلحق بالأطفال أضرار نفسية وجسديّة طويلة الأمد.

2-أطفال اليمن
أفادت منظمة رعاية الأطفال السويديّة، بأنّ ما لا يقل عن ثلاثة أطفال يلقَوْن مصرعهم كلّ يوم في اليمن، كنتيجة مباشرة لاستخدام أشكال مختلفة من مخلّفات الحرب في القرى والبلدات والمدن.
فالحرب في اليمن لم تقتصر على المتصارعين السياسيين أو المحاربين فقط، بل كان للطفل اليمني النّصيب الوافر من مرارة هذه الحرب، حيث قُتل وجرح أكثر من “4005” أطفال في الوقت الذي اتُّهمت أغلب المنظمات الدولية والمحلّية الأطراف المشتركة في الحرب، بشن غارات جوية، على مواقع مدنيّة راح ضحيتَها غالبية قتلى الأطفال في اليمن.
في حين أظهرت التقارير أنَّ نحو 21988 طفل يُرْعَبون يوميًّا بسبب القصف، إلى جانب حرمان قرابة 3،4 مليون طفل من الذهاب إلى المدارس، و6،5 مليون طفل حُرِموا من التعليم لمدة ثمانية أشهر عام 2015، وقرابة نحو 10،5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية العاجلة، ومنذ العام 2016 ازدادت على نحو خطير تطوّرات الحرب اليمنيّة وازدادت حالات المرض والعوز والتهجير، وكان آخرها تعرض مئات آلاف اليمنيين لحالات الكوليرا، وكان الأطفال كالعادة الضحيّة الأولى.

طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب
طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب

ولفتت رشيد إلى ما ذكره تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الأطفال والنزاعات المسلحة، مع العديد من تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك المنظّمات الإسرائيلية، إن قوّات الاحتلال الإسرائيلي لجأت إلى الاستخدام المفرط للقوة والقتل غير القانوني، رغم أنّه لا توجد مؤشّرات على أن الأطفال الذين قُتلوا شكّلوا خطراً أو تهديداً لقوّات الاحتلال، كما أصيب أكثر من 2600 طفل، جرّاء استخدام إسرائيل للذخيرة الحية ضد الأطفال العزل، وأضافت أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير تمّ اعتقال واحتجاز عدد كبير من الأطفال من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفي القدس الشرقية المحتلة وحدها، اعتُقل 860 طفلاً فلسطينيّاً، بينهم 136 تتراوح أعمارهم بين 7 و 11 عاما، دون سنّ المسؤوليّة الجنائية ويتعرّض معظم الأطفال المحتجزين في السجون أو مراكز الاعتقال الإسرائيلية لأشكال مختلفة من التّعذيب النفسي والجسدي، إضافة إلى مواصلة المستوطنين أعمال العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال تحت حماية ومرأى من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وذكرت رشيد أنّه إضافة إلى الانتهاكات المذكورة، فإنّ إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، تواصل تدابير العقاب الجماعي ضد المدنيين في الأرض الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية، والتي أثّرت بشكل خطير على أطفالنا، وأبرزها ممارسة السلطة القائمة بالاحتلال عمليات هدم المنازل التي تركت مئات الأطفال وأسرهم بلا مأوى، والاعتداءات على المدارس والمستشفيات، رغم الحماية الخاصة المتوفّرة لها بموجب القانون الإنساني الدولي.
كما تطرقت إلى أوضاع الأطفال في قطاع غزّة والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي ضدهم على يد السلطة القائمة بالاحتلال، ومعاناتهم خلال ثلاثة حروب على غزّة في فترة ست سنوات مع آثارها النفسية الشديدة والمدمّرة عليهم، مشيرة إلى أنّ أكثر من 44 ألف طفل فلسطيني لا يزالون مشرّدين نتيجة تدمير السلطة القائمة بالاحتلال لمنازلهم في عدوانها على غزة عام 2014، كما تواصل إسرائيل حصارها غير القانوني لمدّة عشر سنوات والذي يشكل عقاباً جماعياً يصل إلى جريمة حرب، ومصدر انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، وأكّدت رشيد ضرورة أن تتوقف كل هذه الانتهاكات، ويجب ارغام إسرائيل على احترام القانون الدّولي ووقف جرائمها بحق أطفالنا، والشعب الفلسطيني بما في ذلك الأطفال، لا يمكن أن يبقوا الاستثناء من المسؤولية لحماية المدنيين من الفظائع والانتهاكات الصارخة للقانون فهم ليسوا مجرّد إحصاءات لكنّهم بشر يجري تحطيم حياتهم باستمرار من قبل المحتل، ويجب على المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن، تحمّل مسؤولياته وتقديم المساعدة والحماية اللازمة للأطفال الفلسطينيين ومحاسبة منتهكي القانون الدولي، لا سيّما القوانين التي تهدف إلى حماية حقوق الطفل.
وفي بيان له قال نادي الأسير الفلسطيني بتاريخ السبت 19 نوفمبر/ تشرين ثان 2016، إنّ نحو 350 طفلاً ما زالت إسرائيل تحتجزهم في سجونها، بين محكومين وموقوفين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، بينهم 12 فتاة قاصراً، جاء ذلك في تقرير للنادي بمناسبة اليوم العالمي للطفل الذي أقرّته الجمعية العامّة للأمم المتحدة والذي تحتفي به العديد من الدول 20 نوفمبر/تشرين ثان 2016، وذكر النادي أنّه وثّق أكثر من 2000 حالة اعتقال للأطفال منذ تاريخ “الهبّة الشعبية” في مطلع أكتوبر/تشرين أوّل 2015 كان أعلاها في القدس (لم يذكر العدد) ، قبل إطلاق سراحهم في وقت لاحق.

الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.
الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.

4- أطفال العراق
أمّا في العراق، فيقدّر أن 2,7 مليون طفل تأثَّروا بالصِّراع؛ حيث تعرّض أكثرُ من 700 طفل للإصابة والقتل وحتى الإعدام، وحذَّرَت منظمة الأمم المتّحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) من خطورة الأوضاع التي يَعيشها أطفال العراق؛ حيث يُعانون الحرمان من أبسط الحقوق التي يتمتَّع بها أقرانهم في الدول الأخرى، وذكرت المنظمة في تقرير لها أن أكثر من 360 ألف طفل يعانون من أمراض نفسية، وأن 50% من طلبة المدارس الابتدائية لا يرتادون مدارسهم، و40% منهم فقط يحصلون على مياه شرب نظيفة.
وفي جريمة سابقة – ولا تزال مستمرّة – ضد الأطفال ظهرَت فيها بشاعة المليشيات الطائفية ضدهم، أظهَر تحقيق صحفي نُشِر على 6 صفحات في كُبرَيات الصحف السويديَّة ووكالة الأخبار العالمية إكسبريس، وعرَضه التلفاز السويدي والذي تُرجم إلى أكثر من 12 لغة عالمية، قامت به الصحفيَّة السويدية (تيريس كرستينسون) وزميلها (توربيورن انديرسون) اللَّذين تخفَّيا ورَصَدا وجود سوق في وسط بغدادَ لبيع الأطفال الرضَّع والكبار، وعرَضا فيه بالصوت والصورة مَشاهد غاية في الفزع لأطفال عراقيين يُعرضون للبيع بمبالغَ لا تزيد عن 500 دولار، ويؤمّل أنْ يؤدي انتهاء الأعمال العسكرية في العراق إلى البدء بتصميم وتنفيذ خطة شاملة لإزالة آثار الحرب الطويلة عن أطفال العراق وإعادة دمجهم في النظام التعليمي العراقي.

طفلة سورية تنتظر العلاج
طفلة سورية تنتظر العلاج

5- أطفال السودان
تبذل منظمات المجتمع الأهلي في السودان، بالتعاون مع المنظمات الدولة المختصة، جهوداً كبيرة لوقف جريمة تجنيد الأطفال، والعمل على تسريح المجندين منهم، وإعادة دمجهم وتأهيلهم، والإفراج عن الأطفال المختطفين في مناطق النزاع، حيث ارتفع عددهم في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان إلى مئات الأطفال في السنوات الأربعة الماضية، وأبدى المجلس القومي لرعاية الطفولة بالسودان، قلقه من تجدد وتزايد ظاهرة اختطاف وتجنيد الأطفال من قبل الحركات المتمردة، بالمناطق الشرقية بولاية جنوب كردفان، وازداد معاناة الأطفال سوءاً بعد انفصال جنوب السودان واندلاع الحرب الأهلية داخل الإقليم الجنوبي حيث جرى على نطاق واسع خطف الأطفال وتجنيدهم في الأعمال القتالية أو الرديفة لها.
ولا تقلّ عمليات تشغيل الأطفال في أعمال تتّصل بدعم العمليات العسكرية خطورة عن المشاركة المباشرة في المعارك، مثل الحراسة في المواقع الخلفية أو نقل العتاد أو التجسّس، ولم تسلم الفتيات القاصرات من أفعال تنظيم (داعش وما يشبهه) في العراق وسورية وليبيا أخيراً، حيث قام التنظيم بسبيهن واستغلالهن جنسياً، وبالتالي هنّ يواجهن أيضاً مخاطر ربّما في بعض الحالات أشد من تلك التي يواجهها الذكور القاصرون.

6-أطفال تونس
في ظلّ تواصل ظاهرة تشغيل الأطفال دون عمر الـ14 سنة وتفاقمها في تونس، هذه الظاهرة التي تعدّ انتهاكاً لحقّ الطفل في الحماية وفي نمو طبيعي سواء على المستوى البدني أو الذهني كما تحرمه الحق في تربية سليمة ومتوازنة خاصّة في سنّ ما قبل المدرسة ممّا يؤثر سلباً على مستقبله، وتبعاً لتحقيق متعدّد المؤشّرات تمّ القيام به سنة 2011/2012 وشمل 9600 منزلاً في مختلف الجهات الكبرى في البلاد وتناولت الشريحة العمرية بين 5 و 14 سنة من ذكور وإناث، تبيّن أنّ النسبة الاجمالية للأطفال المعنيين بظاهرة التشغيل بلغت 3% تتوزع على 5% في المناطق الريفية و2% في مناطق العمران علماً أنّ هذه الظاهرة تشمل خاصّة الشريحة العمرية بين 5 و11 سنة كما تهمّ الفتيات باعتبار العمل كمعينات منزليّات.
يشار إلى أن برنامج مقاومة عمل الأطفال بدعم من مكتب العمل الدولي عمل على إنجاز دراسة حول المنظومة القانونية والمؤسساتية لمقاومة تشغيل الأطفال في تونس. بالإضافة إلى إنجاز دراسة ميدانية حول واقع استغلال الأطفال في العمل بالمنازل في محافظتي جندوبة وبنزرت، وإعداد دليل حول تشغيل الأطفال في تونس، كما ركّز على أوضاع الأسر والأطفال والمتدخّلين على المستوى المحلّي بمخاطر تشغيل الأطفال دون السنّ القانونيّة عن طريق نوادي الأطفال المتنقلة وذلك من خلال إنجاز برنامج مصغّر مع وزارة شؤون المرأة والأسرة لتحديد مناطق التدخّل وعدد النوادي المتنقّلة وعدد الأطفال المُهدّدين باستغلالهم في العمل وتفيد دراسات سابقة أنّ فتيات يتراوح سنّهن بين 12 و13 سنة يشتغلن معينات منزليّات تتهدّدهن أحكام سجنيّة لارتكابهنّ جنح وجرائم تصل حد القتل، كردّ فعل على تعرضهن لمعاملات سيئة حيث يعملن، وأكّد مندوبو حماية الطفولة بتونس على أنّ عدد الأطفال الذين تتكفّل بهم مندوبات حماية الطفولة لا يعكس حقيقة الأوضاع باعتبار أنّ الأرقام الصحيحة أكبر من المعلنة بكثير بسبب غياب المعطيات الخاصة بذلك، كما نبّهوا إلى أنّ غياب أرقام ودراسات معمقة وحقيقية حول تشغيل الأطفال في تونس ساعد على استفحال هذه الظاهرة وتنامي انتهاك حقوق الطفل. وشددوا على أهمية الدّور الموكول إلى المؤسسات التربوية وضرورة مراجعة الزمن المدرسي واحترام حقوق الطّفل التي نصّ عليها الدستور التونسي الجديد، ودعَوْا بالخصوص إلى إحداث هيئة دستورية مستقلة تتكفّل بمتابعة تطبيق حقوق الطفل في تونس.

من ضحايا المعارك
من ضحايا المعارك

7- أطفال مصر
إنّ عدد الأطفال المعتقلين منذ أحداث 30 يونيو 2013 وحتى نهاية أيار/ مايو 2015، ممّن هم تحت سن 18عاماً؛ وصل إلى 3200، ما زال 800 منهم معتقلين “، مؤكّداً “تعرّض معظمهم للتّعذيب، والضّرب المبرح، والحرمان من أبسط الحقوق”، وذلك بحسب مسؤول الملف المصري بمؤسّسة الكرامة لحقوق الإنسان – ومقرّها جنيف بسويسرا- أحمد مفرح، والذي أضاف أنّ “وزارة الداخلية هي المسؤولة عن أماكن احتجاز الأطفال في مصر”، مشيراً إلى أنّ ذلك يُعدّ “مخالفة لقانون الطفل، الذي يجعل وزارة التضامن الاجتماعي هي المنوط بها تسيير وإدارة شؤون الأطفال المحتَجزين في أماكن خاصة بهم.
وأشار مفرح إلى الانتهاكات التي تحدث في معسكر الأمن المركزي في مدينة بَنْها، جنوب القاهرة “الذي يتمّ التعامل فيه باعتباره مكاناً لاحتجاز الأطفال” مقدّراً عدد الأطفال المحتجزين فيه “بأكثر من 300 طفل، يتمّ منع الزيارة عنهم، ومعاملتهم معاملة سيئة؛ تصل إلى حدّ التعذيب البدني، والعنف الجنسي”، في حين أكّد المحامي في المؤسّسة المصرية لأوضاع الطفولة، والائتلاف المصري لحقوق الطفل، “فادي وجدي”، أنّ الاتّهامات الموجّهة للأطفال المعتقلين “هي مجموعة من الاتّهامات الكيدية، فهي تتلخص في قطع الطرق، والانضمام إلى جماعة محظورة، والتعدّي على قوّات الأمن، واستخدام القوة والعنف، وهي بالقطع لا تتناسب مع بنية الأطفال الذين هم تحت سن 18 سنة”.
وقد كشف تقرير تحليلي للمضمون الصحفي خلال شهر يوليو 2016، والذي أصدرته المؤسّسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة حول انتهاكات حقوق الطفل، عن ارتفاع معدلات انتهاك حقوق الطفل بمصر لأقصى معدل لها خلال 2016 حيث وصلت إلى 496 حالة تم انتهاك حقوقها، بلغ عدد الأطفال المُنتَهكين في شهر يوليو من عام 2016 إلى 496 طفلا في 267 قضية تم تداولها إعلامياً من خلال الصحف والجرائد الحكومية وغير الحكومية، وتتراوح تلك الانتهاكات بين القتل والاختطاف والاغتصاب والغرق وغيرها الكثير، وكانت نسبة الإناث من تلك الانتهاكات 31% بينما نسبة الذكور 58% و11 % للأطفال لم يتم ذكر نوعهم.

خاتمة
لا تزال نتائج وتداعيات الحرب الأهليّة اللبنانيّة السابقة، والاعتداءات الاسرائيلية، ماثلة وأحياناً تتفاعل، ومن دون معالجات جديّة للتّداعيات تلك ومنها:
فبحسب إحدى الدوريات اللبنانية، يوجد في أوروبا وأميركا، ما بين ثلاثة وأربعة آلاف طفل لبناني متبنّى (وبعضها الآخر يذهب إلى أنّهم أكثر من ذلك بكثير) كبروا وترعرعوا هناك، حتّى أنّه تمّ تأليف رابطة سُمّيت “لبنانيون متبنّون”، هدفها أنّ يبحث هؤلاء الأطفال عن أهلهم الأصليين في لبنان وتشير بعض الصّحف إلى أنّ معظمهم أطفال غير شرعيين.
عشرات الأطفال قتلوا أثناء حرب تموز عام 2006، بينهم 27 جثة انتُشلت من مبنى واحد في مجزرة قانا الثانية، و1183 شهيداً منهم 30% أطفال دون 12 سنة، و4055 جريحاً، و913000 مهاجر، بالإضافة إلى هدم عدد كبير من المدارس والجسور.
كما خلّفت إسرائيل عشرات ألاف الألغام في الجنوب والتي أودت بحياة عشرات الأطفال، فضلاً عن حالات التشويه والإعاقة. (95% من المدنيين ماتوا في الحرب بسبب القنابل العنقودية بينهم 40% أطفال دون الثامنة عشرة من العمر) وذلك حسب إحصاءات الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
إنّ ظاهرة تهميش الأطفال أو حتى استعبادهم أصبحت ظاهرة اجتماعية، وتتفاقم يوماً بعد يوم، وتزيد وتيرتها أثناء الحروب والنّزاعات، وهي تشكّل خطراً على مستقبل المجتمعات لذا، يجب دراستها بعمق، وإحصاء أعداد الأطفال المهمّشين والمعرضين للتهميش بدقة، ومعالجة الأسباب التي جعلت هؤلاء الأطفال مهمّشين، ووضع الحلول المناسبة لكل عينة ولكل حالة على حدة.

النَّفسُ في مُحاورة «فايدروس» الأفلاطونية عَربَةٌ تُحلِّق بالحكمة والفضيلة إلى الملأ الأعلى

لَطالما كانت النّفسُ البشريّة مِحورَ كلّ فكرٍ فلسفيّ توّاق إلى استجلاء حقائق الوجود وعظمة خلق الإنسان، ولَطالما حيَّرَت العقول وباتت معرفةُ حقيقتها مفتاحاً لمغاليق المعرفة بجميع نواحيها، كما يختصرها قول سقراط “إعْرَفْ نفْسَك”. وفيما يتناول الباحثون محاورة “فايدروس” (Phaedrus) الأفلاطونية على الأغلب من خلال معالجتها لمفهومَيِّ “الحُبّ” (Eros: ἔρως) و”الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فضلاً عن نقد أساليب الفنّ والخطابة المفتقدة للحكمة، فإنّ مفهومَ “النّفْس” (psyche: ψυχή) كما صوَّره أفلاطون في قِصّته الرمزية عن “عَربَة النّفس”، هو لا ريب المَنْهلُ الرئيسي لكلّ النظريات الفلسفية والسيكولوجية حول النفس البشرية، وسُبُل تطهُّرها، ورُقيِّها، وتحقُّقها الصوفي الرُّوحاني (Henosis: ἕνωσις)، فضلاً عن كونه يُمثِّل العقلانية والبُعد الأخلاقي لدى أفلاطون و”الحماسة” في انتهاج الحياة الرُّوحية الدينيّة بكلّ حكمة واتّزان، بعيداً عن أيّ انغماسٍ مادي حِسّي وشهويّ، أو اندفاعٍ عاطفي غضبي.
كتبَ أفلاطون محاورة “فايدروس” بعد محاورتَي “الجمهوريّة” (The Republic) و”المأدُبة” (Symposium) كما يتبدّى بوضوح من الاقتباسات الواردة فيها، فيما تُحدِّدُ الخاتمةُ المنطقيّة (Epilogue) للمحاورة على لسان سقراط الصّلةَ في ما بين محاورة “فايدروس” والمحاورات التي تلتها لاحقاً، على غرار “بارمينيدس” (Parmenides)، و”السفسطائي” (Sophist)، و”السياسي” (Statesman)، و”فيليبوس” (Philebus).
يرافق الفيلسوفُ سقراط في مستهلّ المحاورة الشابَّ الأثينيَّ فايدروس إلى وادٍ خلّاب خارج أثينا، يُبدِعُ أفلاطون في وصفه، ومستهِلّا حواراً حول فن الخطابة وما قاله الخطيب الشهير ليسياس (Lysias) عن مفهوم “الحُبّ” (Eros: ἔρως) ومن ثمّ “الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فيؤكّد سقراط أنّ هذا الخطيب يفتقد إلى الحكمة وأنّ الحُبّ، خلافاً لمفهوم ليسياس السّلبي، هو “نعمة إلهية” ترقى بالمُحِبّ إلى الخير الأسمى وإلى التّحقُّق الصوفي الرُّوحاني، ويُعِينُ النفسَ على تذكُّر الجمال العُلوي والسُّمو إليه من جديد، وهو ما يُدرِكهُ حقّاً كلُّ مُحِبٍّ للحكمة.

الحُبّ والجمال وارتقاء النفس وسقوطها
من ثمّ يستعرض أفلاطون على لسان سقراط أبعادَ مفهوم الحُبّ الفلسفي أو “الحُبّ عند الفيلسوف” بكونه، بمنأى عن الحُبّ الجسدي، قوّةً تحثُّ على حُبّ الحكمة، أي الفلسفة، هذه القوّة التي ربّما تدفع الفيلسوف إلى مغادرة “ظُلمة الكهف” كما ورد في محاورته “الجمهورية”، تَحَرُّراً وانطلاقاً نحو النور. وبموازاة مفهوم الحُبّ، يتحدّث أفلاطون على لسان سقراط عن مفهوم “الجَمَال” (κάλλος) (وتجمع الكلمة في اليونانية ما بين الخير والجمال وهو ما يُشدِّد عليه سقراط دائماً)، تلك القوّة التي تدفعنا للرُّقي إلى الملأ الأعلى وتجعل النفوس تعود تَوْقاً إلى مصدرها بطاقة الحُبّ، فهذا الجمال إنّما يحثُّ على الفضيلة، شأنُه في الإغراء على الرذيلة، وهنا تعيش النّفس البشريّة صراعاً ما بين الجمال والحُبّ العُلوي الطاهِرَين، وحُبّ الجمال الجسدي المادّي السّفلي، ما بين ذلك الطابع المقدَّس اللطيف العُلوي، وتلك الطّبيعة المادية الكثيفة الدنيا.
وفيما يَحْسُن بذي الحكمة أن يتفادى الجَمَال الجسدي لتحقيق السَّكِينة في النفس والاقتراب من الفضيلة، فإنّ الفيلسوف برؤيته للجَمَال بحقيقته العُلوية المقدَّسة ما فوق الجَمَال الأرضي الحِسّي إنّما يُحلِّق بأجنحة فضيلته وحكمته فوق المُتَع الحِسّية على هذه الأرض نحو الملأ الأعلى حيث الحقائق الحِكميّة الإلهية، بانجذابٍ مقدّسٍ فوق عالم الحِسّ والشهوة والمادّة، فينصرفُ عمّا يهيم به الناس ويرنو بناظرَيه إلى ما هو إلهي قُدُسِي.
وفي ظل هذا الصراع ما بين الحكمة والفضيلة والشهوة والغضب، يبسط أفلاطون رؤيته لـ “الطبيعة الثُّلاثية للنفس” (Tripartite psyche)، بلغة مَجازيّة في القصة الرمزيّة عن “عربة النفس”، حيث تتبدّى جميع روائعه الحِكْميّة والفلسفيّة من المُثل العُليا والمعرفة والفضيلة إلى مفهوم الخير والشر في سياق نظريته هذه عن النفس التي تتميّز بها محاورة “فايدروس”.

نَظريّة النّفس لدى أفلاطون
قبل التطرُّق إلى الطبيعة الثّلاثية للنفس البشريّة، لا بُدّ من أن نُلقي الضوء بِتمعُّن على مفهوم النفس عند أفلاطون. فالباحث والفيلسوف الأنغلو-كندي روبرت كليندون لودج(1) (Rupert Clendon Lodge) يرى أنّ “النّفس” و”الفكر العقلاني” يتماثلان لدى أفلاطون في جميع النواحي، أمّا الباحث الاسكتلندي الكلاسيكي ويليام غوثرييه(2) (William Guthrie) فيرى من جهته أنّ أفلاطون يستخدم كلمة النفس لكي تعني تلك القوة التي تقوم بجميع الوظائف الحيوية مثل التغذية والحِسّ والفكر، من خلال واسطة الجسد، وأنّ مصطلح “النفس” يعني أيضاً لديه العقلَ أو الذكاء أو تلك القوة التي تبثّ الحياة في الجسم. وهنا ترى الباحثة الأميركية إيدث هاملتون(3) (Edith Hamilton) في دراسة مشتركة مع الباحث الأميركي هنتنغتون كايرنز(4) (Huntington Cairns) أنّ كلمة “النفس” لدى أفلاطون أفضل ما تُفسَّر اعتماداً على سياق المحاورات، فهي تعني المنطق والعقل والذكاء وكذلك الحياة والمبدأ الحيوي في الإنسان وفي كلِّ كائنٍ حَي، وهو التفسير الأقرب إلى فكرة النفس البعيدة الغور كما تَرِدُ في جميع المحاورات الأفلاطونية.
ففي محاورة “تيماوس” (Timaeus) وكذلك محاورة “ثياتيتوس” (Theaetetus) يعتبر أفلاطون أنّ العقل هو مَنْ يُدرِك المُثُل العليا والصُّوَر الهيولانية، أمّا في محاورة “فيليبوس” فيرى أنّ تلك المُثُل يستوعبها العقل والذكاء والفكر معاً، ونصل إلى محاورة “فيدون” (Phaedo) فنرى أنّ المُثُل العليا تُدرِكها النفس؛ لذا فإنّ العقل والفكر والمنطق والذكاء هي بالنسبة إلى أفلاطون يُشار إليها معاً بتسمية “نوس” (nous: νόος)، وهو أرقى قوة من قِوى النفس. ويشير في أحد مقاطع تلك المحاروة إلى أنّ النفس تنطوي على “مشاعر المحبّة والرغبات والمخاوف وجميع أنواع الأحاسيس”، وهي سِماتٌ تُعتبر عواطف وجدانية. لذا فإنّه وفقاً لأفلاطون لا تشتمل النفس على الذكاء والمنطق والعقل والفكر فحسب، بل أيضاً على العواطف.
وهو ما يتبدَّى بوضوح في محاورته “القوانين” (Laws) حيث يرى أفلاطون أنّ النفس تنطوي على “الأماني والتبصُّر والمشورة والحُكْم … واللذّة والألم والأمل والخوف والكراهية والمحبّة …”. فالأولى هي نشاطاتٌ للعقل والأخيرة هي نشاطاتٌ للجسد، بما لها من صلة بالعواطف والرغبات. هذه الثنائية في مفهوم طبائع النفس لدى أفلاطون تتبدَّى بتفصيلٍ في الكتاب الرابع من محاورة “الجمهورية”، حيث يُقسِّم النفس إلى مستويين منفصلين: “النفس العُليا” و”النفس الدُّنيا”، المنطق والعقلانية، يكمنان بحسب أفلاطون في “النفس العُليا”، أمّا الشَّهَوات والرَّغبات فتكمنُ في “النفس الدُّنيا”، وإضافةً إلى ذلك، يرى أنّ النّفس تشتمل على الشّغَف، وهو أحياناً يصطّفُ إلى جانب العقل وأحياناً أخرى ينجرفُ مع الرغبة.

إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس
إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس

العقل: القوّة الأرقى والأقدس
بما أنّ المُثُل العليا تُدْرَك عبر العقل والفكر والمنطق والذكاء، فهذا لا يعني أنّ أفلاطون يرى أنّ النفس بكلّيتها تُدرِك المُثُل العليا، بل إنّ المُثُل تُدرَك فقط من خلال العقل، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قُوى النفس، وهذا ما يتبدَّى بوضوح في العديد من محاوراته، ففي محاورة “الدفاع” (Apology)، وكذلك في محاورة “فايدروس” موضوع هذه المقالة، يرى أفلاطون أنّ العقل الأرقى “نوس” هو ذلك الجزء الخالد من النفس، أي ذلك الجزء الذي يربط الإنسان بالمقدَّس العُلوي الإلهي. ويتحدَّث أفلاطون عن الأمر ذاته بمصطلحاتٍ أكثر تعقيداً في محاورة “السفسطائي” بقوله إنّ التفكُّر أو التبَصُّر من خلال النفس يصلنا بالوجود الحقيقي، وفي محاورة “المأدُبة” وكذلك في محاورة “الجمهورية” يصفُ أفلاطون الإدراك المعرفي للمُثُل العليا بكونه تذكُّراً، تماماً كما في محاورة “مينون” (Meno)، وأنّها تُدرَك أيضاً من خلال تجربة “الرؤية”، وبحسب وصف أفلاطون لنشاطات ووظائف النفس نرى أنّها ثنائية في طبيعيّتها، فالعقل الأرقى “نوس” هو الجزء المُتَحَكِّم، في حين أنّ العاطفة والرغبة هما المُتَحَكَّم بهما. فالجسد بحسب أفلاطون كما في “الجمهورية” ينتمي إلى عالم الشهادة والتغيُّر، في حين أنّ النفس تنتمي إلى العالم المُدْرَك بالعقل غير المرئي واللّامُتغيِّر. إذاً، فإنّ النفس تنتمي إلى الفئة ذاتها التي تنتمي إليها المُثُل العُليا، وهي كرابطٍ ما بين العالمَين المادي والعقلي.
ففي محاورة “فيدون”، يُلمِّح أفلاطون إلى أنّ تَعَلُّق “الدُّنيا” بلذّات “متغيِّرات الجسد” إنّما “يُلوِّث” النفس بأكملها، ويرى في هذا الصدد أنّ هناك مُتَعاً حقيقية” و”مُتَعاً زائفة”. فتلك الحقيقية هي التي تجعل الإنسان أقرب إلى العالم العُلوي، على غرار مُتَع العلم والمعرفة، وذلك من خلال السيادة على النفس. أمّا المُتَع الزائفة فهي ما يتصل بالعاطفة والشهوة والرغبة على نحو غير مُتَحَكَّم به كما ورد في محاورة “فيليبوس”؛ لذا، فإنّ أفلاطون يؤكد أنّ النفس من خلال التحكُّم والسيادة على الذات، أو تقاعسها عن ذلك، تختار بأنّ تكون إمّا خَيِّرة وإمّا شريرة، “فكما يرغب الإنسان يميل … ويكون”، حسبما قال في محاورة “القوانين”.

نظريّة الخير والشّر
يمكننا بذلك أن نرى أنّ نظرية النفس لدى أفلاطون تتّصل بنظريّته عن الخير والشر، فبحسب نظرته هذه فإنّه إذا ما وصلت “النفس العُليا” (نوس) إلى إدراك المُثُل العُليا الروحانية، فإنّ النفس بكلّيتها ستكتسب المعرفة ومن ثمّ الخير، لكنْ إذا ما ركّزت النفس اهتمامها على العالم المادي المرئي والمتغيِّر، فإنّها ستطغى عليها الشهوات والعواطف والرغبات بغية الحصول على المتعة الزائلة، أي بعبارةٍ أخرى، إذا ما سيطرت على النفس طبيعتها الدُّنيا، فما من فرصةٍ أمامها لكي تُدرِك الحقائق العُليا والخير، وبالتالي لن تُحرِز المعرفة الحقة أبداً، وهنا نلجأ إلى ما أوضحه أفلاطون في محاورة “فايدروس” في قصة “العربة” الرّمزيّة.

عربة النفس
نعود بذلك إلى محاورة “فايدروس” وقصة “عرَبَة النفس” الرّمزية موضوع هذه الدراسة، حيث يُصوِّر أفلاطون قُوى النفس رمزيّاً في قصة “الحوذي والجوادَين المُجنَّحَين”، إذ تعمل هذه القِوى معاً إمّا تناغماً وإمّا تنافراً على طريق الفضيلة أو الرذيلة. وهنا تتألّف النفس من ثلاث قُوى: العقلية، والغضبيّة، والشهويّة. فالعقلُ، أي الجزء العقلاني من النفس، هو حاكم النفس تماماً كما هو الحوذي حاكم العربة، أمّا الجزء الشَّهَوي من النفس فهو أشبه بالجواد الأسود الذي يتمرّد على العقل وتحكُّمه. وبالنسبة إلى الجزء العاطفي أو الشّغفي والغضبي فهو أشبه بالجواد الأبيض، الذي هو ضائعٌ ما بين شهوة الجواد الأسود وحِكْمة الحوذي، فيتّبع الأول تارةً ومن ثم الآخر طوراً، لكن كِلا القوّتَين العاطفيّة والشهويّة يحكمهما العقل (نوس)، تماماً كما يتحكّم الحوذي بالجوادَين.
ويصف أفلاطون الجواد الأسود بلغةٍ رمزيّة بأنّه “حيوانٌ ثقيل مُراوِغ، لونه أسود وعيناه رماديّتان، وممسوخٌ وعنيد، وثقيل الطبع، ودمويّ المزاج، وقرين الاغترار والزهو، وقلّما يستجيب للضرب بالسَّوط والوخز”. أمّا الجواد الأبيض فهو “نبيلٌ ومطواع وعيناه سوداوان، ومُحِبٌّ للمجد باعتدالٍ ولا حاجة لاستخدام السَّوط معه بل يكتفي بالكلمة والزجر”. ويقود الحوذي العربة مُتحكِّماً بالجوادَين بكلّ قوة وفعالية، ووجهته صِراطُ الجنَّة السماوية حيث ما أنْ تصل العربة بنجاحٍ، تُبصِر تلك المُثُل العُليا وجوهر الأشياء في حقيقيتها، كالجَمَال والحكمة والخير والعدل والحق والفضيلة والشجاعة والمعرفة المطلقة، فتُحلِّق عربة النفس بجوادَيها المجنَّحَين تحقُّقاً في تلك العوالم العُلويّة.
وجوادا هذه العربة في صراعٍ دائمٍ، فالجواد الأسود يسعى دائماً إلى جذب العربة إلى الأسفل نحو الأرض، في حين أنّ الجواد الأبيض يرتقي بها صعوداً إلى الملأ الأعلى، وبين هذا وذاك يسعى الحوذي إلى ضبطهما والمواءمة بين تحليقهما. وتأخذ العربة في الصعود والنزول بحسب قوّة جذبٍ كلٍّ من هذَين الجوادَين، فتارةً يجذبها ثقلُ المادة الأرضية استجابةً لمعاندة الجواد الأسود، وطوراً ترتقي نحو مشارف عالم المُثُل الرُّوحانية العُلوية فتلتقط ومضاتٍ من ذلك العالم الماورائي تكون ذخيرةً لها قبل أن تعود العربة وتهبط تثاقلاً. وإذا ما كانت قوة الجواد الأسود أقوى، يتصادم الجوادان فتهوَى العربة إلى الأرض وتتكسَّر الأجنحة وتصبح النفس أسيرةً للجسد المادي كلّياً.
ودرجة هذه السقوط تُحدِّد أيضاً كم يستغرق من الوقت للجوادَين لكي تنمو أجنحتهما مجدّداً ويتمكّنا من الطيران، فبقدر ما يلمَح الحوذي من تلك الحقائق بقدر ما تكون سقطته أقلّ تأثيراً، وأسهل ما يكون عليه أن يستجمع قواه وينطلق من جديد. وتتسنَّى إعادة نموّ الأجنحة بخُلُق النّفس الكريمة ومصادفتها لأُناسٍ واختبارها تجارب تُعيد لها تلك اللَّمَحَات العُلوية، فتستعيد ذكريات الحقائق التي شاهدتها، وهو ما يُعزِّز عودة النفس إلى عالمها العُلوي. وتفسير رمزيّة عربة النفس لدى أفلاطون يأتي على مستوياتٍ عديدة، جميعها يُفضِي إلى الارتقاء بالنفس نحو الصفاء الرُّوحي، وتحقيق الكمال الأخص بكل إنسان.

تناغُم قِوى النفس
فلنكشُف وشاح الرّمزية عن القصة قليلاً: الحوذي يُمثِّل عقل المرء، والجواد الأسود شهواته ورغباته الحسية، والجواد الأبيض قوته الغضبيّة والعاطفية. فالحوذي مُحِبّ للحكمة، والجواد الأسود مُحِبّ للكسب والطّمع والملذات وتلبية الشهوة، أمّا الجواد الأبيض فهو مُحِبّ للمجد والعُلى. ولكلّ قوة من قِوى النفس حوافزها، فالعقل يسعى إلى الحقيقة والمعرفة، والشهوات تنشدُ إشباعها بالحِسّ والمادة، أمّا القوة الغضبيّة فتسعى إلى المجد والشرف وفرض الاعتراف.
والجواد الأسود لا يسهُل تطويعه وترويضه واستخدامه، وذلك إنّما يتطلّب اعتدالاً في كلّ شيء، أو على حدّ قول أرسطو ذلك الوسط الذهبي بين طرفين، فالحياة المكرَّسة كُلِّياً لإرضاء ملذّات وشهوات الجسد إنّما تجعل الإنسان لا يختلف عن البهائم، ويُجادل أفلاطون بأنّ نتيجة الخضوع لشهوات النفس هي “عبوديّة قاسية للجزء الأقدس من الذات لذلك الجزء الأدنى والأدنس”، وأيُّ إنسانٍ يخضع لذلك إنّما يصبح تعيساً شقيّاً.
نعم، إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس، وإنّ السماح للجواد الأسود بالهيمنة واستعباد النفس إنّما يقود إلى حياةٍ وضيعة ومُتّسِمة بالرّذيلة والشرّ بعيدة عن الخير والعدل والحقّ و”الفضيلة الأخلاقية” (arête: ἀρετή) و”سعادة المعرفة الحقّة” (eudaimonia: εὐδαιμονία)، ومع ذلك يُجادَل بأنّ الجواد الأسود إذا ما تمّ ترويضه على نحو ملائم فإنّما يُشكِّل طاقةً كافية لمعاونة الجواد الأبيض على التّحليق بالعربة عالياً بتناغمٍ فيما بينهما، وذلك بسيطرة الحوذي عليهما وموازنة قوتهما وتوجيه طاقتهما بطريقةٍ إيجابيّة.
وإذا ما تسنّى ترويض واستخدام كلّ قوةٍ من قوى النفس كما ينبغي وعلى نحو ملائم فإنّ الإنسان يرقى إلى تحقيق فضيلته وكماله الأخص، فالهدف الأسمى للحوذي، أي العقل، هو أن يضع أرقى الأهداف ومن ثمّ تدريب جوادَيِّ عربة النّفس على العمل سويّةً لتحقيقها، وعليه أن يتّسِم برؤيةٍ وهدفٍ واضحَين ويعلم إلى أين يتّجه ويتفهَّم طبيعة ورغبات هذَين الجوادَين للسيطرة عليهما على نحو متوازن، وألاَّ يكن خادماً لأهواء أيٍّ منهما، فكلّ جوادٍ له نقاط قوته ومكامن ضعفه، فالجواد الأبيض أيضاً يمكن أن يقود المرء في المسار الخاطئ كشأن الجواد الأسود تماماً، إذا ما جَنَح وتخطَّى انقياده للعقل، لكن إذا ما كان مطواعاً فإنّ هذه القوّة الغضبيّة المحمودة (thumos) الموجِّهة للنفس في الطريق الصحيح تصبح حليفةً للحوذي على طريق العدالة والفضيلة والحقيقة، ومعاً يُروِّضان الجواد الأسود ويُبقيانه على المسار الصحيح. فالحوذي الماهر المتبصِّر لا يدع مجالاً لتصادم الجوادَين بل يُحقِّق التناغم في ما بينهما تحت سلطانه ويضبط قواهما المتجاذبة وينطلق بهما إلى تحقيق تلك الأهداف السامية.
وبعد تحقيق تناغم النفس تَتَسهَّل جميع مهمّات الحياة، بحسب أفلاطون، الذي يقول إنّ المرء بعدما يُحرِز تلك السيادة على الذات، وذلك النظام البديع في ذاته، وبعدما يُحقِّق التناغم بين تلك القُوى الثلاث، وهي العُليا والدُّنيا والوسطى، وكلّ ما وقع في ما بينها، وبعدما يجمع فيما بينها في وحدةٍ، وتحكُّمٍ بالذات، يتّجه بنفسه نحو الفضيلة والتحقُّق الرُّوحي، وهو ما ينبغي أن يكون الهمّ الأول لكلٍّ مِنّا، وألّا تعلو عليه أيّةُ مشاغلَ دنيويّةٍ أخرى، وأن يكتسب المرء القدرة والمعرفة على التّمييز بين ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وما يُفضِي إلى تحقيق الهدف الأسمى للنفس.

الرمزيّة في تصوير قُوى النفس
تُمثِّل هذه القصة الرمزيّة جزءاً مهمّاً جداً من التقليد الرُّوحي والفلسفي في بلاد الإغريق والعالم ككلّ، فالهدف الرئيسيّ الذي يبتغيه أفلاطون هو ارتقاء النّفس إلى العوالم المقدَّسة. وقد سعى عالِم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) عبثاً في نظريّته البُنيويّة المتشابِكة بالعُقَد والمُغرقة بالماديّة والحِسّية، إلى محاكاة هذه الطبيعة الثلاثيّة للنفس البشرية ولكن على نحو مشوَّه لا يرقى إلى الفكر النبيل لأفلاطون فتحدَّث عن “الأنا” (ego) و”الهو” (id) و”الأنا العُليا” (super ego) بغاية حسية جنسانية واجتماعيّة في حين أنّ أفلاطون في قصّة عربة النفس يرمز إلى الحياة الرُّوحيّة والفلسفية للنفس متفوّقاً على تفسير فرويد المادي والحِسّي المحدود الخالي من أيّة حكمة أو قيمة إنسانية. إنّ أفلاطون يُشدِّد في رمزيّته على التَّوق الديني الباطني داخل النفس البشرية، وحينما يستخدم الأسطورة، فإنّما يسعى إلى إثبات حقائق روحيّة وفلسفيّة سامية.
ولكي نُفسِّر مغزى أفلاطون لا بُدّ من أن نغوص عميقاً في ما يتعدّى المعنى الحرفي، فهو ليس كاتباً عاديّاً ولا عبقرياً عادياً، بل إنّ عمق تفكيره العقلاني مذهلٌ ومتفرِّد، فهو لا ريب كان يُدرِك مدى أهميّة رسالته، وكم كان توّاقاً لمشاركة معرفته لأجل صالح البشرية جمعاء. ولأجل هذا الغرض درس جميع العقائد القديمة ومن ثمّ كتبَ لكلّ الأجيال المقبلة في جميع محاوراته وأعماله.
لا بدّ من تفسير هذه القِصّة الرّمزية على الصعيدَين السيكولوجي والديني الرُّوحاني. وهذان التفسيران مترابطان. ونجد هذا التقسيم الثلاثي لقُوى النفس في جمهورية أفلاطون أيضاً، حيث يُدعَى جانب الجواد الأسود من النفس في الفكر الأفلاطوني “إيبثوميتكون” (epithumetikon) وهي كلمة ترمز إلى الشهوات. أمّا الحوذي وهو بحسب أفلاطون مرتبطٌ بالعقل والمنطق فيُدعَى “لوجيستيكون” (logistikon)، وهي تسمية مشتقّة من الكلمة الإغريقية التي تشير إلى العقل “لوغوس”. وبالنسبة إلى الجواد الأبيض فيُرمَز إليه بمصطلح “ثموس” (thumos) وهو يختصر المحبة والشجاعة والبطولة والقوة الغضبيّة المحمودة، كما أشرنا سابقاً.
ولا ريب أنّ أفلاطون استقى فِكْرةَ هذه العربةِ الروحية من الفكر الفيثاغوري، الذي بدوره نقلها عن فكرٍ هِرْمسي عريق في مصرَ حول “مركبة الرّوح”، فَمِن بين الآيات الذهبية لفيثاغورس قولُه أن “نُبقي عربةَ أنفسِنا موجَّهّةً بإلهامٍ يأتي من فوق، ذلك الذي يُحكِمُ السيطرةَ عليها”. واستلهاماً لتعاليم أفلاطون وفيثاغورس وهرمس الروحيّة الصوفيّة هذه، هلَّ أتحنا لحوذي عربة النفس بأن يضبطَ عنانَ جوادَيْها الأبيض والأسود ويحلّق بهما في سَمَوات المعرفة والفضيلة لتحقيق الغاية التي لأجلها خُلِقَتْ هذه النفس؟

صوفر

صوفر

حيث يلتقي التاريخ الغني
بالجغرافيا النادرة!

صوفر
صوفر

جغرافية صوفر

في قلب جبل لبنان، وربما في قلب لبنان – بالتمام والكمال – وفي أعلى نقطة من جرد قضاء عاليه، وكما لو كانت واسطة العقد، ومفترق الطرق الإلزامي، بين جهات الوطن الأربع، تتموضع بلدة صوفر لكيلومترات ستة أو سبعة امتداداً، وكيلومترين عرضاً، لا أكثر، بين اتجاه البقاع شرقاً واتجاه العاصمة غرباً، وبين المتن شمالاً والشوف جنوباً.
وعلى مسافة لا تزيد عن 21 كيلومتراً عن العاصمة غرباً، و15 كيلومتراً عن شتورة (مركز محافظة البقاع) شرقاً، تمسك البلدة الاستراتيجية بمفارق الطرق التي تذهب في كل اتجاه. وعلى علو متدرج يصل إلى 1250 متراً، تتربع صوفر الجبلية على قمة هضبة حادة يستطيع الناظر من أعلاها أن يرى في نصف دائرة نصف جبل لبنان تقريباً، من بحر جبيل وبلدات هضاب صنين شمالاً إلى العاصمة بيروت وبحرها ومحيطها في الوسط، إلى عشرات البلدات والقرى الشوفية بدءاً من تلال الدامور الساحلية صعوداً إلى دير القمر وبعقلين وقرى العرقوب، فالشوف الأعلى وتومات نيحا، وصولاً إلى جزين المترامية في أقصى المشهد الجنوبي.
ومن شرفة “كورنيش صوفر”، المورفة بظلال الحور الباريسي الذي يكاد يبلغ المئة سنة من العمر، والممتد لثلاتة كيلومترات، تطل صوفر على بحر صنوبر وادي ’لا مارتين’ المتني، وقراه القرميدية السقوف، يمتد أمامك فتكادُ تحصي شجيراته واحدة واحدة، وصولاً إلى مياه البحر المتوسط الزرقاء الممتدة من شاطئ جبيل شمالاً إلى شاطئ الدامور والسعديات جنوباً.
أما جناحا صوفر، فجبل صنين من جهة وجبل الباروك وغابة أرزه الكبرى من جهة مقابلة، وبكامل ثلجهما الأبيض طيلة فصل الشتاء. وعليه، ففي وسع الساهر على إحدى شرفات قصور صوفر أن يستقبل القمر ساعة يولد من خلف ثلوج جبل الباروك ثم يودعه فجراً عند أبعد أفق حالم في المتوسط، ودون أن يغيب لحظة واحدة عن ناظريه. ولذلك، فقمرُ صوفر ليس كباقي الأقمار، ولن ترى ما يشبه جلال طلته، أو زرقة محياه، وبخاصة حين يكون بدراً.
وبعد، فليس غريباً في شيء أن تجعل فرنسا صوفر مقراً لسفارتها صيفاً (في حرج شربين مساحته 33 ألف متر مربع قبل أن تتخلى عنه قبل بضع سنين)، وأن يكون قصر الدونا ماريا (الإيطالي الطراز المعماري) مقراً صيفياً لرئيس الجمهورية اللبنانية في الخمسينيات، وأن يكون “فندق صوفر الكبير” مقر إقامة عشرات الحكام والقادة العرب منذ إنشائه سنة 1885، وإلى جواره سكة حديد بيروت – صوفر- شتورا تحمل من العاصمة، وحتى من مصر، قبل إنشاء الكيان الإسرائيلي، الساسة والتجار والصيارفة والفنانين يقضون في صوفر بعضاً من أحلى أيام فصل الصيف.
وإلى ذلك أيضاً، بضع عشرات أخرى من فيلات ومنازل لمعظم رؤساء الحكومة اللبنانيين السابقين، ولحكام وأمراء خليجيين وعرب، ولمواطنين من أطياف الوطن كافة، تتوزع جوانب البلدة الصيفية الصغيرة الهادئة، التي كانت شاهدة عيان لمعظم الأحداث العربية المعاصرة، منذ إقامة جمال باشا في فندق صوفر الكبير، إلى اجتماعات لجان تأسيس “جامعة الدول العربية”، إلى “اجتماع اللجنة العسكرية” غداة تأسيس الكيان الصهيوني، إلى قمم واجتماعات وأحداث سياسية واجتماعية وثقافية كثيرة، إلى استضافة الشاعر الفرنسي لامارتين والريحاني وفريد الأطرش وأسمهان ولائحة طويلة من الشخصيات البارزة في كل مجال والتي اختارت صوفر مقر إقامة دائمة أو صيفية مؤقتة، لمناخها الصحي، أو الثقافي، أو السياسي، وفي فترة مبكرة جداً، فتشكلت في فندق صوفر الكبير، أو في الدونة ماريا، أو في فنادق وقصور أخرى جزء كبير من صورة لبنان والمنطقة العربية حتى صيف سنة 1976، حين أقفل قسراً كتاب صوفر “التاريخ الغني والجغرافيا النادرة”، على أمل أن يُفتح الكتاب الجميل ذاك من جديد، وبهمّة الشباب المحلي المخلص هذه المرّة، وفي طليعتهم رئيس البلدية الحالي الأستاذ كمال شيّا.

تاريخ صوفر

ظلّت صوفر حتى عام 1924 تعرف بعين صوفر، الوارد تعريفها في معجم اسماء المدن والقرى اللبنانيّة وتفسير معانيها، على أنها “عين صيّاد الطير من Sefra: طائر صغير أو عين العصفور، والجذر الذي يجب أن يرد إليه الاسم هو “صفر” وله معان عدّة: الصّفر ومنها العصفور، والصفرة (اللون) والصباح، والظفر. ويجب أن تكون إما عين العصفور Sefar، أو الصباح Scar.
في عام 1857م، حصل الكونت “ادمون دو برتوي”، وهو ضابط سابق في البحرية الفرنسية، مقيم في بيروت، من السلطنة العثمانية، على إمتياز شق طريق للعربات (الكارات) والحوافل (الدليجانس)، بين بيروت ودمشق، لصالح الشركة الفرنسية “شركة طريق الشام العثمانية”، بموجب الفرمان السلطاني المؤرخ في 20 تموز 1857، وبالفعل بدأت الشركة المذكورة العمل تحت إشراف المهندس الفرنسي ديمان، وكان تدشين الطريق البالغ طولها 112 كيلومتر وعرضها سبعة أمتار، في الاول من كانون الثاني عام 1863. وبهذا التدشين، ترسّخ دور عين صوفر كمحطة إستراحة أساسيّة على هذا الطريق، خاصّة وأنها آخر محطة قبل الصعود الى ممر ضهر البيدر بإتجاه البقاع فدمشق، وأقيم في عين صوفر وقتها خان أبو خطّار في رويسات صوفر وخان أبو زهران. ومع إنشاء خط سكّة الحديد بين بيروت ودمشق، التي افتتحتها “الشركة المساهمة العثمانية لخط بيروت دمشق الاقتصادي”، في الثالث من آب عام 1895، مخفضّة تكاليف النقل الى الثلث تقريباً، وبالتالي نمو حركة التبادل التجاري والتنقل بدافع السياحة أو الزيارة أو غيره من الدوافع، تكرّست عين صوفر واحدة من أهم المحطات على هذا الخط، ولا تزال بقايا محطة القطار ماثلة ليومنا هذا.
والحدث الأهم تأثيراً في تشكّل ونمو عين صوفر كقرية مأهولة، والواقع بين حدثي فتح طريق العربات وخط سكّة الحديد، كان إنشاء فندق صوفر الكبير عام 1885م، الذي شكّل حجر الزاوية، في قيام عين صوفر كقرية بحدّ ذاتها، وليس مجرد محطة إستراحة، إذ، ومع بدء العمل بفندق صوفر الكبير، بدأ المصطافون العرب واللبنانيّون، بتشييد منازل لهم في عين صوفر للاستمتاع بالهدوء واعتدال المناخ ونقاء الهواء، وهذا استتبعه قدوم كثر من أهالي قرى الجوار، بهدف تأمين المنتجات الزراعية والخدمات للمصطافين وأيضاً للعمل في فندق صوفر الكبير وغيره من الفنادق. واستمر المسار التصاعديّ لعين صوفر، لتصبح في النصف الأول من القرن العشرين، درّة مشّعة الى جانب قريناتها من مدن وقرى الاصطياف اللبنانيّة، واستقبلت بين حناياها كبريات الأحداث والشخصيات التاريخيّة، من لبنانيّة وعربيّة ودوليّة. ولعلّ من أهم محطّات هذا التحول، كانت المضبطة الإدارية لتشكيل مجلس بلدي في عين صوفر، عام 1913م، لكن انتخاب هذا المجلس الذي كان محدداً في 23/8/1914، لم يحصل، بسبب ظروف الحرب العالميّة الأولى. وانتظرت عين صوفر حتى عام 1922م لتشهد ولادة أول مجلس بلديّ فعليّ، بموجب القرار رقم 1458 الصادر عن حاكم لبنان الكبير “ترابو” بتاريخ 25 تموز 1922. وبعدها بسنتين كان تأسيس بلدة صوفر، وذلك بموجب القرار رقم 2775 الصادر عن حاكم لبنان الكبير “الجنرال فندنبرغ”، والقاضي بجمع “الأمكنة المعروفة باسم عين صوفر المقسومة حتى الآن ما بين قضاءي الشوف والمتن والموضوعة تحت ادارة شيخي قريتي شارون وقبيع”، لتصبح “قرية واحدة تسمى قرية صوفر”، وتلحق مباشرة بلواء جبل لبنان.

ومع بزوغ فجر الجمهورية، ظلّت صوفر مقصداً لكبريات العائلات اللبنانية والعربية، واتخذها ثلاثة من رؤساء الجمهورية، هم إميل اده، الفرد نقاش وأيوب تابت، مقراً صيفياً لهم، بالاضافة لعدد كبير من الشخصيات اللبنانية والعربية والدولية.

وفي عهد الاستقلال، حافظت صوفر على موقعها، واسطة عقد قرى الاصطياف اللبنانية، مستضيفة سلسلة من الاحداث والمناسبات الهامة، كمثل الاجتماع العربي الذي انبثقت عنه “اللجنة العربية العسكرية” عام 1944، والتي شكلت نواة قيام “جامعة الدول العربية” عام 1945م. وفي أواسط الخمسينيات، تمّ تحديد صوفر الى جانب بعض المدن والقرى الاخرى، كمراكز اصطياف، بموجب المرسوم رقم 8610 تاريخ 10 آذار 1955. واستمر الألق السياحيّ لصوفر حتى منتصف السبعينيات، عندما حلّت الحرب الأهليّة اللبنانيّة، معلنة بداية مرحلة مؤلمة من تاريخ لبنان، تركت آثارها على مختلف الأصعدة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

لقاء مع رئيس بلدية صوفر
الأستاذ كمال شيا

الأستاذ كمال شيا
الأستاذ كمال شيا

في صوفر مختاران، السيد وجيه شيّا والسيد وجيه فياض، يكرسان وقتهما مجانا لخدمة البلدة وأهاليها. وفي صوفر مجلس بلدي مؤلف من اثني عشر عضواً موزعين على لجان لتوفير ما تحتاجه صوفر من خدمات، وفي المقدمة رئيس المجلس البلدي كمال شيّا، خريج الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، أحد ناشطي منظمة الشباب التقدمي لفترة طويلة، ثم أحد ناشطي المجتمع المدني، ومسؤول واحدة من الجمعيات المعنية بالتنمية المحلية في البقاع والشمال ومخيمات اللاجئين وسواها. يتولّى منذ 2016 رئاسة بلدية صوفر مع صحب مخلص ومصمم على تحقيق ما يصبو له أهالي صوفر ومنطقتها وما ينعش من جديد حاضرها بعد ماض كانت فيه حتى أواسط سبعينيات القرن الماضي درة بلدات الأصطياف اللبنانية.
بعد أكثر من 100 سنة على قرار إنشاء بلدية صوفر كيف يقيّم رئيس بلديتها عمل بلدية لها تاريخ طويل وما هي النجاحات والاخفاقات والطموحات:
ما أهم انجازات بلدية صوفر في السنوات الأخيرة؟
شبكة الصرف الصحي، مركز الجرد للتنمية والثقافة، والذي نأمل أن يتحول مركزاً ثقافياً مستداماً ليس لصوفر وحدها وإنما لمنطقتها أيضاً خصوصاً أنه مجهز تقنياً وفيه بداية مكتبة ورقية وألكترونية.

هل من خطط لدى البلدية لحفظ تاريخ صوفر الحديث والأمكنة التي استضافت أهم الأحداث العربية واللبنانية؟
لدينا اقتراح لإقامة متحف إلكتروني في منزل قديم. لدينا اقتراح لوزارة الاشغال بترميم موقف سكة الحديد وخزان المياه التابع له وتشجير الأرض التابعة له وإقامة طريق ذات طابع بيئي للمشاة والرياضة والدراجات.

هل من خطط لتوسعة الحدائق العامة التي بدأت بها البلدية؟
هناك الآن حديقتان في صوفر، حديقة المرحوم الشهيد كمال جنبلاط، وحديقة المرحوم الدكتور بشارة الدهان، الطبيب والمناضل التقدمي والقومي ورئيس جمعية كل مواطن خفير. ولدينا مشروع إقامة محمية صغيرة لسوسنة صوفر: irissefrana

السؤال دائماً عن فندق صوفر الكبير بعد 30 سنة من تدميره لماذا لم يجر الترميم؟
بدأ العمل من قبل مالكيه آل سرسق. لكن العمل بطيء بسبب الوضع. لديهم دراسة جدوى اقتصادية.

وكذلك قصر الدوناماريا الذي كان بمثابة القصر الجمهوري صيفاً؟
انتهت الدراسة الفنية لترميم القصر. الآن يقوم المالكون وهم من آل كوكرين بالمعاملات اللازمة بدعم ومساعدة من البلدية.

ما هي خططكم لوضع صوفر على خارطة السياحة اللبنانية الحديثة؟
أقمنا مواقع الكترونية متعددة للبلدة. المشاريع التي أشرنا إليها والترميم للمواقع التاريخية تساعد في هذا الصدد. ونحن نتعاون مع معنيين وجمعيات صديقة لصوفر لتسويق المواقع الطبيعية والأثرية والتاريخية الموجودة في صوفر على لائحة الوجهات السياحية المطلوبة. وللتذكير فكورنيش صوفر هو أحد المواقع المعروفة على مواقع “الأرض” ومواقع أخرى شديدة الحضور سياحياً. كما أن بلدية صوفر حرصت دائماً على ألّا يتعارض اي نشاط اقتصادي مع طابع صوفر البيئي والتراثي.

هل من مشاريع أخرى تودون التحدث عنها للضحى؟
هناك مشاريع وأفكار كثيرة لتطوير البنى التحتية وتحسين خدمات مياه الشفة، وإعادة صوفر إلى خارطة السياحة البيئية، وخصوصاً مع مهرجان “‘سوسنة صوفر”.

عائلات صوفر:
طربيه، فيّاض، حمدان، الأعور، ميرزين، الأحمدية، بو فخر الدين، الصايغ، فليحان، دلّان، بو ملهب، معوض، نخلة، بو جودة، النوّار، سرسق، مطر، عبد الملك، جورجس، طراد، حمصي، الأعور، شيّا، أبو فراج، عبد الخالق، البنا، أبو عمار، أبو جمعة، أبي المنى، الدمشقي، عز الدين، نادر، أبو جودة، أبي عبد الله، نجم، متى، بوتاري، كحالة، مقبل، السهلي.

من اهم المواقع في صوفر:
֎ فندق صوفر الكبير
֎ قصر الدونا ماريا
֎ قصر جنبلاط
֎ كورنيش الرئيس اميل ادّه
֎ عين صوفر
֎ حديقة كمال جنبلاط العامة
֎ حديقة الدكتور بشارة الدهان العامة
֎ كنيسة سيدة الانتقال للروم الكاثوليك
֎ كنيسة الرسولين بولس وبطرس للروم الارثوذكس
֎ كنيسة السيدة العذراء للموارنة

هل من موسوعة أو ثُبْت على الأقل بالقادة العرب واللبنانيين الذي سكنوا صوفر؟
اللائحة طويلة لمئة سنة، ولكن يمكن تذكر أبرز القادة، الرسميين، رجال الأعمال والفنانين الكبار الذين سكنوا صوفر، ومن بينهم:
رؤساء جمهورية:
إميل إده، ألفرد نقاش، أيوب ثابت، بشارة الخوري، كميل شمعون
رؤساء حكومة:
رياض الصلح، رشيد كرامي، صائب سلام وشفيق الوزان.
سياسيون وشخصيات عامة لبنانيون:
فيليب تقلا، كمال جنبلاط، مجيد أرسلان، بهيج تقي الدين، عمر بيهم، عبد الحميد كرامي، ريمون وبيار وكميل إده، ألفرد وميشال وابراهيم وجرجي سرسق، محي الدين النصولي، رشيد جنبلاط، بيار دكاش،
ملوك ورؤساء وشخصيات عرب:
الملك الأردني حسين بن طلال، الرئيس السوري شكري القوتلي ورئيس الوزراء جميل مردم بك، الزعيم المصري سعد زغلول، أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، الامير عبد الله بن عبد العزيز، الشيخ ناصر الصباح، الشيخ عبد الله الغانم، الاميرة مريم ناصر الصباح، الشيخ خالد المرزوق….
سياسيون وضباط عثمانيون وفرنسيون:
جمال باشا، انور باشا، الوالي علي منيف، المفوض العام الجنرال كاترو، مدير أعمال المفوضية الفرنسية القاضي روبير دي كاي….
فنانون عرب ولبنانيون:
محمد عبد الوهاب، فريد الاطرش، أم كلثوم، ليلى مراد، سامية جمال، صباح، سميرة توفيق…وآخرون.

لوحات فنية طبيعية ترسمها فصول السنة في صوفر

بلدة عَنْز الأَثريّة

تقع بلدة عنز على السفوح الجنوبيّة من جبل العرب، وهي إحدى بلدات المقرن القبلي من محافظة السويداء، وتتبع ناحية الغاريّة. يبلغ ارتفاعها 1250م فوق سطح البحر، وتُقسم أراضيها الزراعية إلى قسمين:
1 ــ الأراضي الواقعة شمال البلدة باتجاه الجبل وتتّصِف بوعورتها وكَثرة حِجارتها البازلتيّة وتتّجه للارتفاع كلّما اتّجهنا شمالًا، ممّا يلي صلخد وتلّ عبد مار الذي يتربّع على قمته مقام مقدس لـ “عبد مار، أو: مار عبدا” الذي يزوره الموحّدون الدروز والمسيحيون معا.
ويمكننا القول إنّ القرية القديمة الأولى التي تعود لما قبل عصور الأنباط بُنيت على تلّة بازلتيّة هي مدخنة بركان خامد يتربع على الضفة الغربية لـ “وادي العاقب” الذي يعبر إلى الشرق من القرية القديمة قادمًا من أعالي القمم الجبليّة لجبل حوران، فيملأ مطخًا واسعًا متوسط العمق؛ كان يستفاد منه في توفير المياه لسقاية المواشي.

2- أمّا إلى الجنوب من البلدة فتميل الأراضي إلى السّهولة نسبيّاً باتجاه الحدود الأردنيّة، وعنز بالأصل كانت قرية قديمة العمران حيث كان الأنباط أوّل من مارس الزراعة والعمران فيها بل وفي القسم الجنوبي من الجبل منذ القرون الأخيرة للألف الأوّل قبل الميلاد.
يدلّنا على هذا عمرانها القديم الذي بقيت منه آثار معبد وَثَني يعود لما قبل المسيح، ولكن مع انتشار المسيحيّة ” لم يتخلّ كلّ السكّان عن تقديس آلهتهم الموروثة من المرحلة الوثنية، ففي عام 362م وعندما أباح الامبراطور الرّوماني جوليان Julien العودة للوثنيّة، سارع الناس إلى تجديد معبدهم وممارسة طقوسهم الدّينيّة فيه. وبعد أن ترسّخت المسيحية فإنّ كنيسة عَنْز تُعْتَبر أحسن نموذج لكنيسة بيزنطيّة قرويّة، إذ تتألّف من قاعة مستطيلة ذات ثلاث قناطر لحمل السّقف وفي نهايتها قدس الأقداس، وهو مستطيل الشّكل وقد فُصِل عن الكنيسة بقنطرة أضيق من القناطر الأخرى وترتكز على قواعد أعلى من قواعد القناطر الأخريات، ويفصل الكنيسة عن مسكن رجال الدّين في الشّمال من المبنى باحة مبلّطة يقود منها قبو في المسكن إلى الشّارع”(1). وبعد الفتح العربي الإسلامي بني جامع إسلامي قديم العهد قريب من الكنيسة الأثريّة.

تتألّف مادة البناء القديم في القرية الأولى من الحجر البازلتي المقصوب بشكل متقن مما يدل على حياة مستقرة كانت تسود المنطقة، وكذلك لم تزل بعض السقوف من البلاطات (صفائح مستطيلة من البازلت بطول نحو مترين ونصف وعرض نحو 30 سنتمرأ) تُصَفّ منحوتة متلازمة ببعضها فوق القناطر بحيث لا يمكن لإبرة أن تدخل بين سقيفة وأخرى، وكان للقرية الأثريّة سوران داخلي وخارجي لم تزل بعض الجوانب منهما ماثلة للعيان، كما كان لها أربع بوابات ممّا يدلّ على أهميّتها التّاريخيّة التي لم تأخذ حقّها من الدّراسة بشكل كاف، وتقع القرية الأولى على طريق القوافل التي كانت تتحرّك جنوبًا وشمالًا من وإلى شبه الجزيرة العربية، وشرقًا وغربًا إلى العراق في العصور القديمة وفيما بعد بين مملكتي الغساسنة في الشام وكان مركزها مدينة بصرى إلى الغرب منها على مسافة بضعة عشر كيلومترًا، ومملكة المناذرة في الحيرة في العراق إلى الشرق منها. وفي العصور الإسلامية بقيت عنز ممرًّ للقوافل بين جنوب سورية وبغداد والبصرة… كما كانت ممرّا تجاريًّا ناشطًا للقوافل التجاريّة بين الجبل وشبه الجزيرة العربية إلى نحو تسعين عامًا مضت قبل أن توضع حدود سايكس بيكو المشؤومة موضع التّطبيق بعد عام 1916.

وفي دار السيّد نبيل الأطرش إلى الشرق من التلة الأثريّة للبلدة وخارج سوريها وعلى سهل منبسط بقايا جدار لخان (فندق)، يروي العارفون بأنّ الطابق الأرضي منه كان مُعَدًّا لدواب المسافرين، والطابق العُلْويّ للمسافرين أنفسهم… أمّا اسمها “عنز” فقد يكون مشتقًّا من “العَنَز” أي الارتفاع (والبلدة القديمة مبنية على مرتفَع)، والعنَز: الأكَمَة السّوداء (وهذا صحيح)، والأرض ذات حُزونة ورمل وحجارة (2) وهذا التّفسير لاسم البلدة الحالية هو الأكثر واقعية من التأويلات التي تخبط في ضباب من التخيّلات.
عَنْز كانت بلدة وفيرة المياه والينابيع
كان المطخ الكبير الذي مَيّز البلدة بالإضافة إلى عدّة ينابيع لم يزل بعضها ينبض بالماء رغم فترة الجفاف المسيطرة منذ عقود عديدة، ففي البركة المسمّاة بالسوريّة التي تقع شرقي القرية القديمة جوار العنزاوي إلى الغرب منه، نبع ماء هو اليوم شحيح يشاهد عيانًا، وقد ازداد شِحًّا بعد أن جاء شخص يدعى “القُدسي” قُبَيل منتصف القرن الماضي، استعمل هذا لغمًا بدعوى أنّه سيقوّي النبع، لكنّه أضعفه بعدها. وهناك بئر نبع لآل النّجم. بالإضافة إلى نبع بئر طرنجة إلى الغرب من القرية الأولى والذي كان في زمن مضى يفيض إلى سهلة المرجة غرب البلدة الأثريّة وهي عبارة عن سهل خصب صغير منبسط يتميز باخضراره الدائم ممّا يوحي بأنّه يتغذّى من عروق مياه باطنية تحته.

السُّكّان في عنز
في مطلع القرن التّاسع عشر لم يكن من عمران في عنز؛ فقد كان العمران لا يتعدّى بلدة القريّا في القسم الجنوبي من الجبل وكانت صلخد خرابا عندما زارها بيركهاردت عام 1810، ومن صلخد التي بُدِئ إعادة إعمارها من قبل الموحّدين الدّروز بشكل نهائي بعيد منتصف القرن التاسع عشر قدمت أغلبية العائلات المعروفيّة التي أعادت إعمار البلدة التي كانت خربة بسبب انعدام الأمن وغياب سلطة الدّولة وغزوات البدو وفوضى مواشيهم التي تتنافى مع حياة زراعية مستقرّة؛ ولكنّ بني معروف بفضل تماسكهم الاجتماعي تمكّنوا من تحقيق الأمن والحدّ من غزوات البدو ممّا سمح بقيام زراعة راسخة في المنطقة وليس لدينا جدول زمني دقيق يحدد قدوم المُعَمّرين الجدد إلى البلدة، ولكن من المرجّح أنّ ذلك حدث خلال العقد السابع من القرن التّاسع عشَر بعد إعمار صلخد. ومن العائلات المعروفيّة التي سكنت عنز واستقرّت فيها بالإضافة إلى آل الأطرش، آل النّبواني وهم أصلًا من جبل لبنان ينتمون لآل البتدّيني. وآل وهب وآل عمّار وآل القاضي ارتحلوا عام 1888من قرية المطلّة الواقعة على الحدود اللّبنانية الفلسطينيّة بعد أن باعها مالكها الإقطاعي الصيّداويّ من آل رزق الله إلى المتموّل اليهودي روتشيلد أواخر القرن التاسع عشر، ويلاحظ أنّ معظم العائلات المعروفيّة في عنز تعود لأصول لبنانيّة كآل الأطرش والنّجم وفليحان وحديفة والجمّال والصبّاغ والحجلي(صعب) وجمّول ورباح.
والعائلات السنّيّة هم: آل الحْمُود، والابراهيم والنّعسان والنّصار والعُقْلَة والنّابلسي والعبد الله. وهناك أسرة بدوية هم آل الحَمَد.
أمّا الأسر المسيحيّة في عنز فهم: آل الشمّاس والعسّافين والخوري والعَوَض والعَوْدي وعَصفور والنّويصر وإلياس وحدّاد والعيّا والعطيّة والدّاود والرّباع والظّواهري والصّايغ.
يبلغ عدد سكّان البلدة نحو3800 نسمة، المقيمون منهم 2500، وبتأثير الأزمة السورية فقد عادت كثير من الأسر التي كانت قد اتّخذت من العاصمة دمشق وغيرها من المدن السورية سَكَناً لها، إذ كان الجبل هو الأكثر أمنًا من سائر المحافظات السّوريّة. ويشكل عدد الموحّدين المسلمين الدّروز نحو 50% من سكان البلدة، والمسلمون السّنة الرّبع ومثلهم المسيحيّون من أرثوذكس وكاثوليك، وكان محمّد بن اسماعيل الأطرش شيخ صلخد قد أرسل بعض العائلات المسيحيّة والسّنّيّة إلى ولده نايف في عنز وأوصاه بهم خيرًا: “أرسل إليك كم واحد من ها الحوارنة بسيطين مساكين، اهتمّ بهم وملّكهم أرضًا”.
بلديّة عنز
تبلغ مساحة المخطّط التّنظيمي للبلدة 2015 هكتارًا، وأطوال الشّوارع المعبّدة 11كلم، وتوازيها أطوال شبكة المياه التي تخدّم سائر بيوت البلدة، كما أنّ سائر بيوت عَنْز مُخدّمة بالكهرباء.
أمّا المحلاّت التّجارية والحرفيّة فتتوزع بين: محلّات تجارية(دكاكين) 15، نوفوتيه 1، عصرونيّة1، محلّ بيع فرّوج مذبوح 1، حدّادة أفرنجيّة 1.
وفي البلدة مدرسة ابتدائيّة واحدة باسم مدرسة الشّهيد أديب الخوري. وتتألّف من 4 شعب، وعدد تلاميذها 85 تلميذًا وتلميذة. ومدرسة إعداديّة واحدة باسم الشّهيد سالم عَمّار من 6 شعب وعدد طلّابها 122 تلميذًا وتلميذة.
كما توجد في البلدة نقطة طبّيّة تقدّم الخدمات لمواطنيها من قبل 6 ممرّضات وموظفات.
بالإضافة إلى مجلس/ جامع للمسلمين الموحّدين الدروز، وجامع للسّنّة، وثلاث كنائس؛ كنيستان أرثوذكسيّتان وكنيسة كاثوليكيّة.
العائلات في عنز: آل الأطرش، وهم العائلة المشْيَخية التي تزعّمت نشاطات الدّروز السّياسيّة والاجتماعيّة في الجبل منذ نحو أواسط القرن التّاسع عشر، وبرز دورهم أكثر بعد إقصائهم لآل الحمدان زعماء الجبل من قبلهم فكان منهم شيوخ قرى المقرن القبلي المُعترف بهم اجتماعيًّا، وأوّل من وفد إلى عَنْز شيخًا هو الشاب نايف بن محمّد الأطرش شيخ صلخد، وقد اهتمّ نايف بالعمران في عَنْز، فاستقدم بنّائين مَهَرة من ظهور الشّوير في لبنان، ولكنه لم يعمّر إذ مات شابًّا على أثر قفزه من فوق قناطر كانت قيد البناء وغير موثقة البنيان فانهارت به ومات في الثّالثة والثلاثين من عمره.

الزّراعة في عنز:
يبلغ المعدّل المطري في بلدة عَنز 220 مم3 /سنة وذلك استنادًا إلى أرقام الوحدة الإرشادية الزّراعية فيها، ولكن تذبذب كميّات الأمطار بين عام وآخر يؤثّر سَلْبًا على الإنتاج الزّراعي، وخاصّة أنّ متوسّط ما يحتاجه القمح البعليّ هو 250مم3 / بالسنة.
تبلغ المساحة العقاريّة لأراضي عَنْز 42800دونماً، منها 1000دونم مشجّرة حرجيًّا. أمّا الأرض المستثمرة زراعيًّا فتبلغ مساحتها 25000 دونم.
متوسّط مساحة المزروع قمحًا بالسّنة 9000دونم، ومتوسّط إنتاج القمح 60ـ 70 كلغ للدّونم، و7500 دونم للحمّص، إنتاج الدّونم الواحد منه 35 كلغ، ونحو 4000 دونم للشعير، إنتاج الدونم 80 كلغ، والباقي سبات (تُفلح إراحة) للسّنة القادمة.
الأشجار المثمرة: مساحة المزروع بالزّيتون 470 دونمًا، بالإضافة لما يزرع منه في حدائق المنازل، وتبلغ كمّية الإنتاج بين 40ــ 50 طنًّا بالسنة. وتبلغ المساحة المزروعة باللّوز 230 دونمًا متوسّط إنتاج الشّجرة الواحدة 10 كلغ. ومساحة الكَرمَة 70 دونمًا والتوت 13. أمّا الأشجار المثمرة الأخرى كالفستق الحلبي والتّين وغيرها فهي زراعات تحميليّة أو تزرع في الحدائق المنزليّة التي حلّت من حيث اهتمام الأهالي بها على حساب الكروم القديمة بسبب توفّر المياه في المنازل؛ هذا في الوقت الذي تقلّصت فيه كميّات الأمطار الهاطلة خلال العقود الأخيرة. وحيث تُزرع فيها الكَرْمة على شكل عرائش تعويضًا عن الكروم التي ضربها الجفاف. حيث تتوفّر المياه من الشبكة العامّة المُغَذّاة من الآبار الارتوازية التي حفرتها الدولة.

لآبار الارتوازيّة
في خراج البلدة أربعة آبار ارتوازيّة تتبع لمؤسّسة المياه الحكوميّة، تغذّي بلدات عَنْز والغاريّة والمشقوق، ومنها بئر آخر لسقي الأشجار (لوز وكرمة وتين وفستق).
الوحدة الإرشاديّة: يقوم موظّفوها المختصّون بتقديم الإرشاد الزّراعي والبيطريّ المجّانيّ للمزارعين، ويعملون على التّوجيه والمشاركة في مكافحة فأر الحقل ودودة الثّمار والسّونة ودبّور ثمار اللّوز وذبابة ثمار الزيتون.

خطّة زراعيّة لمواجهة الجفاف
تبنّت منظمة أكساد التّابعة لجامعة الدّول العربيّة ومنظّمة إيكاردا التّابعة للأمم المتّحدة تّوجيه المزارعين إلى خطّة زراعيّة تقوم على زراعة الأرض في منطقة الدّراسة على الشّكل التالي:
سنة فلاحة، تليها سنة قمح، ثمّ سنة حمّص تليها سنة فلاحة. وينصح في السنوات الأخيرة بسبب غلبة الجفاف على مناخ المنطقة عمومًا بزراعة الشّعير الذي يتحمّل الجفاف ويعطي إنتاجًا مضمونًا أكثر من القمح.

آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
آثار كنيسة مُعتدى عليها من قبل اللّصوص
مدخل الكاتدرائية الأثرية
مدخل الكاتدرائية الأثرية

تربية الحيوان
إن تربية الحيوان كالأبقار الحلوبة من سلالات فريزيان، وفريزيان هولشتاين هي مصدر إضافي للرزق في عّنز، حيث تعطي الواحدة منها ما متوسّطه نحو 40 كلغ يوميًّا لمدّة سبعة شهور، ويبلغ ثمن البقرة الواحدة ما يعادل ثلاثة آلاف دولار تقريبًا، وإنتاج البقرة الواحدة يغطّي دخل الأسرة إلى حدٍّ ما، وأمّا مولودها فيسمّن العجل منه ليباع لِلّحم بسعر يتراوح بين 500$ إلى 800$ تقريبًا حسب درجة التّسمين.
كذلك تربية الأغنام والماعز في البلدة بالمشاركة مع رعاة من البدو ويبلغ عدد رؤوس الأغنام 1045 رأسًا، وإنتاجيّتها من الحليب واللّحم منخفضة لعدم توفّر الأعلاف الخضراء ولقلّة المطر، ولكون تربيتها تعتمد الرّعي التقليدي في البرّية لا في حظائر نموذجيّة للتّسمين. والماعز 200 رأس، وما ينطبق على تربية الأغنام ينطبق على تربية الماعز في البلدة وخراجها.
وتقدّم الدولة لقاحات دوريّة مجّانيّة لحماية الثّروة الحيوانيّة الرّيفيّة كما تقدّم الأعلاف بأسعار منخفضة. بالإضافة إلى أنّها تعمل على تحسين السّلالات بواسطة كِباش مُحَسّنة للتّلقيح، وتيوس للماعز من مركزين للأبحاث تابعين لمنظّمة إيكاردا الأمميّة في كل من حماة ودرعا. وتُقام ندوات توجيه توعية دوريّة للمربّين بإشراف بيطريّ مجّاني.
وإلى ذلك تربية الدّواجن: ويُرَبّى في البلدة حاليًّا نحو 1000طير من الدّجاج البلديّ، ونحو 100 طير من الحمام، و100 طير حبش، وسعر زوج من الحبش البالغ؛ نحو 25ــ 30 ألف ل.س، والصّوص منه 3000 ل.س، وتُعتبر تربية الدّواجن من مُستلزمات تكملة حاجات الأسرة الرّيفيّة.

تربية الرّاماج: يبلغ عدد مربّي طيور الرّاماج في عنز 20 مُرَبًّيا. وقد قامت الدّولة بمنح قروض تشجيعيّة من 70000 إلى 100000 ل.س لمربّي الرّاماج بغية تشجيع الناس على عدم الهجرة، وتساهم تربية طيور الرّاماج في تحسين دخل الأسرة الرّيفيّة، إذ لا تحتاج تربيته إلى يد عاملة كثيفة.
عَنز، باختصار، وريثة تاريخ غني عريق وأصيل عمره مئات السنوات، وربما أكثر. لكن تحديات الحاضر أمام سكانها ليست بالقليلة وهم مضطرون للتكيّف مع ضرورات العيش والتقدّم المستجدة بوسائل عدة، وبجهود مضنية.

المسجد العمري القديم في البلدة (بعدسة أكرم الغطريف)
المسجد العمري القديم في البلدة
(بعدسة أكرم الغطريف)
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين
الأمير حسين الأطرش شيخ بلدة عنز أواخر القرن التاسع عشر وحتى عام 1962 من القرن العشرين

سعيد أبو الحُسْن

سعيد أبو الحُسْن
حياة مليئة بالحيوية الفكرية والفاعلية الاجتماعية

رجل معروفي أصيل، عروبي النزعة لعب دوراً مؤسساً في تنمية الوعي الوطني الأصيل بعروبة مستنيرة

هو ذاكرةٌ نابضةٌ بما يختزنه بنو معروف من كَمٍّ متراكم من النّضالات يتوارثه الأبناء عن الآباء جيلاً بعد جيل، ويورّثونه لمن يليهم. يعبّر الكاتب عن ذلك في كتابه الذي عرض فيه لمواقف من سيرة حياته التي تحتاج إلى أكثر من مجلّد فيما لو أريد توثيقها بتفاصيلها؛ لغناها بالمضامين المؤشّرة على شخصيّة وافرة الثراء من الجانب الفرديّ والاجتماعيّ والسياسيّ. فهو منذ طفولته الباكرة عينٌ ساهرة ترصد ما حولها من وقائع وأحداث تأثّر بها، وأثّر فيها فيما بعد مع تقدمه عبر مراحل العمر. يقول في ص 8 من كتابه نيران على القمم: “أوَّل مشهد وعيته منذ ولادتي ولم يفارق ذاكرتي أبدًا هو مشهد عدد من البغال الدّهماء المزيّنة صدورها وأعناقها بعقود جِلديّة مزيّنة بالوَدَع الأبيض، في حوش دارنا، فكأنّما ارتبطت حياتي بالكوارث منذ بدايتها. سألت والدي عن تلك البغال فأفهمني بلغة يدركها الأطفال أنّها لأقارب لنا من أسرتنا في لبنان، وأنّهم قادمون لنقل القمح من بلادنا إلى بلادهم لحدوث مجاعة كبرى بسبب الحرب العالميّة الأولى وانقطاع الواردات من الخارج ومصادرة السلطة العثمانية الحاكمة آنذاك جميع المحاصيل لحساب جيشها، ولولا بسالة أهل بلادنا ــ جبل حوران ــ لما بقي في البلاد حبّة من القمح لنا أو لسوانا. وكان بعض الأقارب من لبنان يُقْدِمون للإقامة بيننا طوال مدّة مجاعة الحرب ومن هذا المشهد الأوّلي الذي تفتّح عليه وعيي، انطلقتُ أحدّد مكاني من الدّنيا: إذا كان هؤلاء هم أقاربي من لبنان فنحن إذن من أصل لبنانيّ ــ من المتن بالتّحديد ــ ووجودنا في جبل حوران بالذّات وجود طارئ نسبيّاً، وهذ الوجود تفسّره هذه الهجرة الجزئيّة التي شهدتها بذاتي: فنحن إذن ــ بوجودنا كلّه ــ نتائج كوارث قديمة: حروب ضدّ الدول الغازية، أو حروب أهليّة، أو معارك قَبَلية”.

ولادته ودراسته وتميّزه
وُلِد سعيد أبو الحسن في 12/11عام 1912 في قرية عرمان، وفيها درس المرحلة الابتدائية في كُتّاب القرية، في عام 1929 نال منحة دراسيّة لتفوّقه أهّلَته للدّراسة في كلّية القدّيس يوسف في بيروت، وفي عام 1937 جرى تعيينه في مديريّة المعارف (أي التّربية اليوم) في السويداء حتّى بداية عام 1940، عمل بعدها مساعدًا عدليًّا مُترجمًا لتضلّعه باللّغة الفرنسيّة حتّى أوّل عام 1943، وخلال عمله الوظيفي ثابر على دراسة الحقوق، وحصل بنتيجة ذلك عام 1942على إجازة من معهد الحقوق الفرنسيّ في بيروت. عام 1948عُيّنَ معاوناً للنائب العام في مدينة القامشلي، ليستقيل من الوظيفة الحكومية في العام التالي 1949 ويعمل بعدها في مهنة المحاماة في المدينة ذاتها حتى عام 1960 إذ انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة فيها منذ العام 1961 وبقي في وظيفته تلك إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.
أثناء وجوده في القامشلي عام 1948 واطلاقاً من ميوله الثّقافيّة أصدر مجلّة نصف شهريّة أسماها “الخابور” تيمّناً بنهر الخابور العريق الذي يعبر المدينة، وفيما بعد أسماها “المواكب” تيمنًّا بجبران الذي كان يحبّه.

لقد حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأشرف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر

سمات شخصيّة ورساليّة مميّزة
تميّز سعيد أبو الحسن بعفّة لسان وبتهذيب عالٍ قلّ نظيره، وبنقده الجاد لتقاليد مجتمع غلب عليه التخلّف، ولكنّه لم يعتبر التخلّف قَدراً لا فكاك منه؛ لأنّه كان يرى أنّ تَسَلُّح الأجيال بالعلم والثّقافة والمعرفة سبيل لقهر التخلّف، وكان يجد غرابة عندما يرى أنّ بعض من يعرفهم يقرأون ولا يكتبون، لأنّ القراءة عنده نوع من الفعل النّقدي (1).

التّعليم في عصره
يوثّق لنا نمط التعليم إبّان الاحتلال الفرنسي فيقول: “جاءنا أستاذ يرتدي اللّباس الأوروبي، ويدرّسنا العربيّة والفرنسيّة وعلى الأصحّ يدرّسنا كلّ شيء بالفرنسيّة، واللّغة العربيّة تُدرّس كلغة فقط، أمّا العلوم فكلّها بالفرنسيّة.. والحديث كلّه بالفرنسيّة. كان يتدرّج من الإلزاميّة المُتساهلة حتى الإلزاميّة المؤيَّدة بالعقوبة، كانت هناك إشارة Signal وهي كناية عن قطعة خشب بحجم حجر الدّومينو تُعطى للتلميذ الذي يلفظ كلمة ما باللّغة العربيّة بدلاً من الفرنسيّة، وبهذا يصبح هَمُّه أن يتخلّص منها فيبحث عن مخالف آخر ليعطيه إيّاها، وهكذا يعاقب المخالفون في اليوم التالي(2) من قبل المعلّم المرتبط بالاستخبارات الفرنسية والمكلّف بفَرْنَسَة تلاميذه”.
عندما انتقل ليدرس في بيروت يقول: ” كانت الثانويّة اليسوعيّة تتبع تقليداً عظيماً وهو إعطاء طُلاّب الصفّ المُنتهي فترة أسبوع خلوة للاعتكاف والتّفكير في المستقبل، وَوَضْعِ شبه خطّة للحياة، وتحديد الأهداف والطّرق المؤدّية إلى تحقيقها…
لقد حدّدت موقفي ذِهنيًّا، حدّدت رسالتي في الحياة، سأناضل من أجل تحرير بلادي ووحدة أمّتي، وأَشْرَف غاية هي الاستشهاد إذا اقتضى الأمر من أجل الوطن والأمّة”.

تراث كفاحي في الأسرة؛
قتال ضدّ العثمانيّين والفرنسيّين
كانت البيئة التي نَشَّأتْ سعيد أبو الحسن بيئة مشحونة بالهمّ الوطني النّضالي، فعرمان؛ قريته، إحدى أهم حواضر الجبل في مواجهة الاستبداد العثمانيّ والاستعمار الفرنسيّ، ووالده محمّد أبو الحسن كان أحد وجهائها، وهو واحد من أربعمئة رجل من مقاتليّ بني معروف نفاهم العثمانيّون بُعَيْد الهزيمة المدويّة التي ألحقها أهالي قريتهم وقرى المقرن القبلي والشرقي بحملة عثمانيّة انتقاميّة ضدّ الدروز، ممّا تسبب برد فعل عثماني حاقد وبحملة انتقام ثانية قادها الجنرال ممدوح باشا. كان النّفي إلى طرابلس الغرب من نصيب والده الذي كان نَصيراً للتّغيير الاجتماعيّ أيضاً، فهو إلى جانب موقفه التحرّري من المحتلّ العثمانيّ كانت لديه نوازع ثورة على واقع مجتمعه الإقطاعيّ لا تقف عند حدود اقتسام الأرض وتملّكها، بل تتعدّاها إلى محاولة تغيير ذلك الواقع والسّعي إلى ما هو أفضل: فهو لا يقبل بالعادات قبولاً أعمى، بل يناقش صَلاحَها وهذا ما أدّى إلى الإكثار من خصومه ومُنتقديه حتى من بين أقاربه.

صُوَر من ذاكرة الطّفل عام 1925؛ تحدّي أهل عرمان للطّيران الحربي الفرنسيّ
الطّفل سعيد؛ ابن الثلاثة عشر عاماً شاهد صادق على عصره، يقول: “كان يومها سلطان باشا ورفاقه ضيوفاً في “عرمان”، وكانت تلك الزيارة حربية تعبويّة للهجوم على صلخد وتحريرها والزّحف إلى السّويداء.. يومها ضجّت سماء القرية بطائرتين حربيّتين فرنسيّتين قَدِمَتا لِرَصد تحرّكات سلطان ورفاقه، قفز كلّ رجل مسلّح إلى سطح منزله وبدأ إطلاق النّار على الطائرتين وكان والدي من أسرع القافزين إلى السّطح وأنا معه، أخذ يطلق الرّصاص وأنا أجمع الفَشَك (الخرطوش) الفارغ.. وفي لحظة قال لي بعد إحدى الطّلقات: لقد أصيبت الطّائرة. كان قد خرج دُخان من بيت النّار منها؛ رأيته بأمّ عينيّ..”.
من هو الثائر المجهول الذي أصاب الطّائرة؟! من يدري؟! قد يكون والدي الذي رأى الإصابة لحظة حدوثها.. وقد يكون غيره من أبناء القرية الذين كانوا عدّة مئات فوق سطوحهم وكلّ رجالنا رُماة مَهَرَة، المُهمّ أنّ الطائرة أصيبت.. وسقطت في قرية “امتان” المجاورة وأُسِرَ طيّاراها الاثنان. كان ذلك يوم 19 تموز 1925″.

الطالب سعيد: مواجهة مع
الأمن الفرنسيّ
لَعلّه كان أوّل من انتبه إلى أهمية العمل التطوّعي التّعاونيّ في تحسين واقع الناس، يقول: “عدت في تموز 1935 لقضاء العطلة الصّيفية في قريتي عرمان. وصلت إلى القرية واستدعيت أوعى شابّين فيها، بحثت معهما واقع بلادنا وضرورة العمل على تغييرة، فعلينا أن نعمل انطلاقاً من قريتنا ونتوسّع شيئاً فشيئاً. قرّرنا تأسيس جمعيّة سرّيّة سمّيناها “جمعيّة الأمل” واتّفقنا على إبقاء الجمعيّة سرّيّة، وأن يكون عملنا الأوّل تمثيل رواية اجتماعيّة.
صارت حفلتنا حديث الناس في القضاء كُلِّه وخارجه. بعد بضعة أيّام جاءني رجلٌ مسرعاً يقول: “المستشار الفرنسي يريدك..”، ذهبت في الموعد إلى صلخد، وبدأ الحوار الهجوميّ على النّحو التالي: “أبَلَغَتْ بك الجرأة أن تدعو إلى حفلة تقوم بها جمعيّة سرّيّة غايتها توعية الناس وتحريضهم ضدّ فرنسا؟
– لم يكن هذا قصدي.
– لا.. لا تحاول

أن تُنْكر فأمامي نظام جمعيّتك كلّه. كان الإنكار هو الوسيلة المثلى للدفاع. قلت: “كل ما في الأمر أنّ الجمعيّة ترمي إلى تحسين أوضاع القرية من جميع الوجوه، وهذا ما تقولونه أنتم أنفسكم حين تبنون المدارس، وتَشقّون الطّرق وتجرّون المياه.
– نحن نفعل وحدَنا ما نراه مناسباً.
– ولكنّني أعرف الكثير عن مبادئ ثورتكم (يقصد مبادئ الثورة الفرنسية) وليس فيها ما يُقِرُّ الذي تقوله لي الآن.
– هذا ما تقرأه في كتبنا، ولكنّ الكتب كُتِبَت لتطبّق في فرنسا لا خارجها، ثمّ أريد أن أسألك: “لماذا يتّصل بنا رفاقك ولا تتصل بنا أنت!”.
أنا مشغول بتدبير عائلتي قبل أن أعود إلى المدرسة، نهاري في البيت والبيدر، وليلي في الكَرْم، ولست أبحث عن زعامة في عرمان حتى تكون لي اتّصالات بالمسؤولين السياسيين، أي بكم أنتم..
– متى ستعود إلى المدرسة؟
– في أوائل تشرين الأوّل.
– حسناً… ستبقى في القرية حتى يوم سفرك. لن تغادر القرية إلى أي مكان ومهما تكن الأسباب، هل هذا مفهوم؟
– مفهوم طبعاً، إقامة جبريّة داخل القرية حتى نهاية العطلة الصّيفيّة.
– أراك فهمت جيّداً. انصرف الآن واعلم أنّنا نرى كُلّ شيء ونعرف كلّ شيء.
خرجت من مكتب المستشار رأساً إلى عرمان، وكانت حصيلة التّجربة الأولى في حقل العمل العام، هي أنّ اختيار الأشخاص يجب أن يتمّ بعناية أكبر، والكفّ عن الحفلات العامّة، والاكتفاء بالعمل السرّي، وأنّ القاعدة في النضال السّياسي السّلبي هي: التدرّج في نشر المعلومات.

شاب ورجل مجتمع
كان سعيد أبو الحسن واسع الاهتمامات والتّأثير في البيئة التي يتواجد فيها، فهو قُطب ثقافيّ وسياسيّ كبير في همّه القوميّ النّهضويّ، وبهذا فقد كان له دور رِياديّ فعّال في أحداث الجبل الاجتماعيّة والثقافيّة والوطنيّة والسياسيّة، إذ كان في طليعة شباب الجبل العاملين في سبيل وحدة الوطن السّوريّ آنذاك، ورفض فكرة الدّويلات الطائفيّة التي سعى بها الاحتلال الفرنسيّ، ومن هنا كان تأسيسه عام 1942 فرعاً لِعُصبة العمل القوميّ في السّويداء بلغ عدد أعضائه ثلاثة آلاف شاب وكان من أهدافها إقامة دولة عربيّة من المحيط الأطلسيّ إلى الخليج العربي، وقد ساهمت العصبة بنشاط بارز إلى جانب القادة الذين نفّذوا عمليّة انقلاب الجبل الناجحة والأولى في سورية على الإدارة الفرنسيّة عام 1945.
كما كان من مُشجّعي التّعليم العصريّ وتعليم المرأة والعمل كسبيل لنهضة المجتمع، وانطلاقاً من نزوعه الثّوريّ إلى التّغيير في مجتمع تسيطر فيه العلاقات الاقطاعيّة واحتكار مقاعد التّمثيل النّيابي فقد شارك في توسيع نشاطات هيئة الشّعب الوطنيّة في الجبل منذ العام 1943، عام نضوج وعيه السياسي، وتحديد توجّهاته الفكرية يقول ” عام 1943 وضعت مُسَوّدة كتيّب بعنوان (ما بعد الحرب) وحتى عام 1946 عام تحوّلها (أي هيئة الشعب) إلى مسمًّى جديد هو “الحركة الشّعبيّة”، ضمّنته أفكاري الاشتراكيّة، وقلت: إنّ حلّ جميع مشاكل العالم بعد الحرب سيكون بالنّظام الاشتراكيّ، وحدّدت موقفي من الاشتراكيّة على أساس قوميّ، بعيداً عن الأمميّة التي كانت الشّيوعيّة متمسّكة بها كثيراً في تلك الأيّام ــ وقد أرسلت مُسوّدة الكتاب إلى الشيخ فؤاد حبيش (في لبنان) لعلّه ينشره في منشورات “دار المكشوف” فأجابني: إنّ مثل هذه الأفكار سابقة لأوانها وربّما تُسبّب لي بعض الإزعاجات ــ وأعاده إليّ”.

قيادي ناشط في الانقلاب على الفرنسيين وتحرير الجبل في 29 أيّار 1945
عمل الشاب الثّوري سعيد أبو الحسن وتنظيمه عصبة العمل القومي إلى جانب الأمير حسن الأطرش محافظ السويداء الذي قاد الانقلاب على الفرنسيين حينذاك، ففي حفل استقبال أقامه الأمير المحافظ جرى بينه وبين المسؤول الفرنسيّ في المحافظة (سارازان)، حوار دلّ على مدى وعي الشاب أبو الحسن وحنكته السياسيّة. يقول “كنّا أربعة أو خمسة من الأصحاب نتحدّث وقوفاً بالقرب من أحد الأعمدة، وإذا بـسارازان يتقدّم من حلقتنا ويُحيّينا ثمّ يوجّه إليّ فجأة من دون مقدّمات السؤال التّالي: “ما رأيك في كيفيّة إنهاء الوضع في البلاد بمعاهدة أو بلا معاهدة؟ فأجبته جوابًا حاسمًا مقتضبًا: بلا معاهدة.
– ولماذا؟
– لأنّ عَهْدَنا بنقضكم العهد ليس ببعيد، فمعاهدة عام 1936 تمّت لمصلحة فرنسا ومع هذا فقد نَكَلتم بها، وألغيتم تواقيعكم، فكيف يكون الأمر لو كانت المعاهدة بكلّيتها لمصلحتنا؟ إنّ قبولنا بالمعاهدة بعد التجربة الأولى يعني أنّنا أغبياء لا أكثر ولا أقلّ وأنّنا لا نفيد من التجارب، وأنت تعرّف ولا شكّ ما أعنيه بقولنا “لا يُلدّغ المؤمن من جُحْر مرّتّين”.
– ولكنّ الكثيرين من شعبكم يقولون غير ما تقول، يقولون بضرورة عقد معاهدة مع فرنسا والإبقاء على نوع من الوجود الفرنسيّ في بلادكم لمصلحة هذه البلاد بالذّات.
– من هم هؤلاء الكثيرون من شعبنا؟
– كثيرون كتبوا بهذا الموضوع…
– أنت تدري أنّهم من عملاء مخابراتكم، واحتدم النّقاش حتى لَفَت انتباه الآخرين فانضمّ إلى الحلقة عدد من الضبّاط وغيرهم من المدعوّين وكان المحافظ صاحب الدّعوة قد انضمّ إلينا وسمع آخر ما قلناه.
فوجّه سارازان الحديث إليه وسأله: ما رأي سيادتكم في الموضوع؟
فأجابه المحافظ بلا تردّد: أنا من رأي فلان ــ أي من رأيي ــ فيجب أن ينتهي الوضع حسب وعودكم من دون معاهدة، ولا امتيازات. امتعض سارازان وبلعها وغيّر موضوع الحديث.
ويعقّب الشاب المتحمّس سعيد “كان موقف المحافظ مفاجأة سارّة لي وضعتها في كفّة التّعاون الممكن معه في مقبلات الأيّام”.

نبوءة الشاب الجذري القادم من الرّيف، واحتكاكه بزعامات دمشق التقليديّة!!
ينقل إلينا سعيد أبو الحسن الخريطة السياسيّة للعاصمة دمشق عام 1946حيث كانت الكتلة الوطنيّة آنذاك تواجه أحزاباً معارضة لها أقدمت على تشكيل تجمّع باسم “اتّحاد الأحرار”، كان ذلك الاتّحاد يضمّ عصبة العمل القوميّ، ممثّلاً بفهمي المحائري وجماعة الأحرار ويرأسهم منير العجلاني والدكتور سامي كبّارة والدكتور صبري القبّاني، وكان الدكتور سامي كبّارة ذا قلم أمضى من السّيف في جريدته (النّضال)، وإلى جانبه عدد من كبار المستقلّين أمثال الأستاذ رئيس مجلس الشورى سابقًا سعيد حيدر والأستاذ نبيه الغزّي المحامي الذي سيصبح قاضيا ثمّ رئيساً لمجلس الدولة فيما بعد والأستاذ سعيد محاسن محام ووزير سابق والأستاذ نزهة المملوك والأمير جعفر الحسني الجزائري رئيس المجمع العلمي العربي فيما بعد والأستاذ علي بوظو من شباب حزب الشعب والأستاذ زكي الخطيب وزير العدل السابق وكان يتعاون مع هذا التجمّع حركة البعث الاشتراكي والحزب العربي الاشتراكي.
كان تجمّع الأحرار هذا قد اتّخذ لنفسه مكتباً في شارع العابد حيث كانت أوّل مناسبة لظهوره يوم الثامن من آذار عام 1946 يوم ذكرى إعلان استقلال سورية (بحدودها الطّبيعية: بلاد الشام) كما أقرّها المؤتمر السوري عام 1919، وقد ألقى الأستاذ فهمي المحائري خطاباً عنيفاً هاجم فيه الحكم على كلّ مستوياته، وأُلْقِيَتْ خُطب عديدة منها خطبة الشاب سعيد أبو الحسن، الذي كانت تغلب على خطبته المسائل الراهنة، ولكونه وجهاً جديداً في ذلك الوسط الدمشقي التقليدي، فقد أثار رَيْبة ما؛ في مجتمع سكوني يسوده قادة تقليديون ينتمون إلى فئة مُلّاك الأراضي والبورجوازية التجارية العائدة إلى العهد العثمانيّ والاحتلال الفرنسيّ، يقول أبو الحسن: “.. سمعت بعض القوم يتهامسون: تُرى هل سيخلقون لنا زعامات جديدة؟”.
مثل هذا الموقف النّكوصيّ من أولئك القوم الدّمشقيّين الذين يشير إليهم أبو الحسن أثار في نفسه المرارة، وهو الشاب العروبيّ الذي يتجاوز بوعيه العُلَبَ المذهبيّة والطائفية ونزعة المدينة المنغلقة على نفسها وعلى زعاماتها؛ تلك النّزعة الموروثة من العهد العثمانيّ القروسطيّ.
يقول مشخّصاً الأمر الواقع حينها، ومتنبّئاً بما سيكون عليه المستقبل “إذن هذا كل ما يهمّ هؤلاء الناس: زعاماتهم!، وهذه الزّعامات يجب أن تكون دمشقيّة معروفة، وإلّا فهي مرفوضة مبدئيّاً؛ ويومها أدركتُ الأسرار كلَّها: أدركت لماذا يتحدّث المؤرّخون عن (معركة) ميسلون ولا يتحدّثون عن (معركة) المزرعة، أدركت لماذا يُعَتّمون على معاركنا الرّائعة خلال العهدين العثمانيّ والفرنسيّ ويبرزون أقلّ تظاهرة تجري في دمشق ولو اشترك فيها عَشَرة من الصّبية، إنّها عصبيّة إقليميّة، عمياء مُغرضة هي مرضُنا نحن العرب، وهي التي ستكون سبب كلّ هزائمنا الداخليّة والخارجيّة”.
في حقل عمله الوظيفي بعد عمله في القامشلي عام 1948 في القضاء ومن ثم في المحاماة عام 1949 حتى عام 1960 انتقل إلى دمشق ليتسلّم وظيفة معاون وزير الأشغال العامّة والثّروة المائيّة في دمشق منذ العام 1961 وبقي فيها إلى أن أحيل إلى التقاعد عام 1980.

لقاؤه مع علي ناصر الدين
وحسين أبو شاهين
عام 1947كان استحقاق انتخابات؛ سياسيًّا كان سعيد أبو الحسن منظِّماً حزبيّاً وسياسيّاً وقائداً سابقاً عصرَه في ميدان النّشاط الاجتماعيّ، فهو من الجيل التّابع لجيل الثّوار الآباء، وكان قد تعرّف في لبنان بحكم دراسته في الجامعة اليسوعيّة وبحكم أصوله اللبنانيّة المتنيّة على علي ناصر الدّين وزميله في النّضال حسين أبو شاهين عام 1934، وعليٌّ هذا هو مؤسّس عُصبة العمل القومي ذات التوجّهات العروبيّة والوحدويّة، وقد تأثّر سعيد بأفكاره. يقول “كان لهذه الزّيارة أثرها البعيد في نفسي مدى عمري كلّه. لقد وجدت هناك صورة حيّة لما أفكّر وما أريد، وتزوّدت بالقوّة والوعي بمشاكل الأمّة العربيّة، وفي طليعتها مشكلة التّجزئة وأمراض الطّائفيّة والإقطاع والعمالة والجهل والمرض والفقر والتخلّف بكل مظاهره، وحدّدت هُويّتي الوطنيّة، وعقيدتي القومية، ومنذ ذلك التّاريخ صرت أعمل كأنّي فرد من العصبة”.
على هذا أسّس سعيد أبو الحسن العصبة في الجبل عام 1942 بدأ بأفراد قلائل، تكاثروا فيما بعد، يقول: “وقد سبق أن قلنا إنّ العُصبة ضُربت وشُتّت قادتها واستتر أعضاؤها. فكيف السّبيل إلى إعادة الحياة إليها؟ نحن من الوجهة القوميّة لم يكن لدينا أيّ فرق بين ارتباطنا بالعصبة في لبنان، وارتباطنا بالعصبة في دمشق أو في أيّ قطر عربيّ آخر، ذلك بأنّنا وحدويّون تساوت في نظرنا وأعماقنا جميع أجزاء وطننا الواحد، فَذَرّة الرّمل في حضرموت، والحجر الكلسيّ على شواطئ المتوسط والشاطئ المقابل لأوروبا على المحيط الأطلسيّ، كلّها في عقيدتنا مُتساوية وتستحقّ أن نناضل من أجل تحريرها، وأن نموت من أجل وحدتها وسيادتها”.
لقد كانت شخصيّته القياديّة الآسرة عنصراً مؤثّرًا في توسّع المنظّمة، من حيث النّوع قبل الكم، فلم يأتِ آخر عام 1944 حتى كان قد انتسب إلى العصبة نُخبة طليعية من الجبل، بلغ عددهم ما ينوف عن الثلاثة آلاف عضو من المعلّمين والطلّاب والموظّفين وصغار الملّاكين ــ وهم أبناء وأحفاد فلاحي الثّورة العامة في العقد التاسع من القرن التاسع عشر ويمكن القول: إنّه لم يبرز شخص من محافظة جبل العرب من الأربعينيّات إلى الستينيّات إلّا وكانت له صلة قديمة بالعصبة، أو تخلّق بأخلاقها وترعرع في جوّها.

نزوع للتغيير الاجتماعي
لم يكتفِ سعيد أبو الحسن فقط بالعمل ضدّ المحتلّ، يقول: “كانت تختمر في ذهني أفكار بعيدة عن الاهتمامات المباشرة لرجال المعارضة، كان يجب أن نبدأ الثّورة الاجتماعيّة في الجبل، فما عاد يجوز القبول بالوضع العشائري العائلي الإقطاعيّ القائم، كان الحكم أضحوكة، مَهزلة، فالقانون لا يُطبّق على أحد من الزّعماء، ويُطبّق على أبناء الشّعب العاديّين… كلُّ شيء سيّئ، كلّ شيء يحتاج إلى تغيير أو إصلاح؛ هذه كانت قناعة الجميع، ولكن من يبدأ؟ وكيف؟ ومتى؟ ومن أين؟ كل هذه العيون كانت تتطلّع إلينا وتنتظر أن تستأنف هيئة الشّعب الوطنيّة نشاطها وتبدأ معركتها: ولكن على أساس أن نكون نحن الطّليعة ونحن العمود الفقريّ لها”.
وهكذا فقد كان الرّجل واحداً من أبرز مُحَرّكي الأحداث في جيلهِ بالاستناد إلى التّنظيم المُتماسك ــ عصبة العمل القوميّ ــ الذي يقوده، ويذكر رفاقاً كانوا إلى جانبه في قيادة العصبة أبرزهم جادالله عزّ الدّين واسمه الحركي(أنت) وذوقان قرقوط (أنا) وهو، أي سعيد، واسمه الحركي (هو)، وقد لعب رفيقاه هذان أدواراً بارزة في حياة الجبل الاجتماعيّة فيما بعد.
كانت الانتخابات البرلمانيّة مقبلة في صيف عام 1947، والنّاس في شبه تربص وترقّب، يقول: “أصدرت بياناً، حدّدت فيه المشاكل الاجتماعيّة التي يعاني منها مجتمعنا وكيفية حلّها، وركّزت على ضرورة تحلّي المناضلين بأخلاقيّة مُتميّزة صارمة وختمته بهذه الفقرة: “أيّها الإخوان هذا هو برنامجكم فاحرصوا على تنفيذه وليعلم كلّ واحد منكم أنّه مسؤول عن تنفيذ هذا البرنامج كلّه فإذا سكت أحدكم على ضيم، وصبر على ظلم ورأى اعوجاجاً ولم يفضحه، ورأى خيانة ولم يحاربها ورأى دسيسة تُحاك ضدّ الأمّة والوطن ولم يقاومها، فليعلم أنّه خان رسالته ومبادئه وواجبه القومي المقدّس”. وفي هذا نفهم منه أن الروح الحزبية في زمنه كانت نقيّة لم تُسْتَلحَق بسلطةٍ بعد.
وممّا يدلّ على ا لمنهج الاجتماعيّ الجادّ للرّجل؛ تصريحاته المتناثرة في بيانات عصبة العمل القومي وأقواله: “سنحارب كلّ اعوجاج نراه، وسنقاوم كلّ إجحاف نصادفه وسندافع عن كلّ حق هَضيم وعن كل مشروع نافع”.
وممّا كان يؤلمه بعد تَحقُّق الاستقلال، غياب الإنصاف بين المواطنين، يقول: يالَضياع الدّماء والأرواح إذ كان يسيطر يوم عيد الجلاء رجال كانوا مع الأجنبيّ قبل (ميسلون) وقبل (المزرعة) وقبل (أيار 1945) ثم شاءت سياسة التّرضية، سياسة الوصوليّة والمحافظة على الكراسيّ، السياسة الرّأسماليّة الاستثماريّة شاءت أن يبقى هؤلاء في مراتبهم وأن تتّسع صلاحيّاتهم وأن يتصرّفوا في شؤون الوطن العامّة فسيطروا على مصالح الأفراد والجماعات..”.

الدّعوة إلى سياسة صائبة
ولأنّ شخصيّة الرّجل شخصيّة قياديّة ذات هم اجتماعيّ يقول” علّمتنا التجارب أنّه علينا أن نتدخّل في كلّ شأن من شؤون الجبل، لأنّ موقف الحياد من مشاكل الحياة يجعلنا على هامش الحياة، ولأنّ عدم الاهتمام بشؤون الحياة جهل مطبق بأمور الحياة كلّها، لأنّ السياسة تسيطر على كلّ شيء في هذا العصر فلا علم ولا عمل، ولا خبز ولا تقدّم ولا نظام، ولا أمن إذا لم تكن هناك سياسة صالحة موجّهة؛ دلّوني على عمل يمكن أن يقوم به الإنسان بدون أن يصطدم بمشكلة سياسيّة، بمشكلة قانونيّة لها صلة متينة بالسّياسة نفسها؟”.
انطلاقًا من هذا الوعي الاجتماعيّ والسياسيّ العميق لسعيد أبو الحسن نما جمهوره في عصبة العمل القوميّ التي يقودها وتعاظم الدّور السياسيّ الذي اضطلعت به، إلى أن وصل الأمر إلى مواجهة اجتماعيّة دامية في الجبل بين أنصار القديم وأنصار التّجديد ــ على حد تعبير الأستاذ عارف النّكدي محافظ الجبل آنذاك ــ على أثر انتخابات نيابيّة جرى تزويرها عام 1947، وقد نصحه حينها بالابتعاد قليلاً عن الجبل، وعلى هذا الأساس تمّ تعيينه معاون نائب عام في القامشلي في أقصى الشمال السّوري عام 1948.

مواقف يساندها
سلطان باشا الأطرش:
كان الاستقلال قد تَحقّق ولكنّ الآمال لم تتحقّق ممّا دعا الأستاذ فهمي المحائري رئيس العصبة في دمشق إلى انتقاد السّلطة بشخص رئيس الجمهوريّة (شكري القوّتلي) آنذاك، فأحيل إلى المحكمة وعندها تظاهر المحامون، وتطوّع للدّفاع عنه نحو خمسة وثمانين محامياً، ورفضت الحكومة إخلاء سبيله بكفالة فكان لابدّ من الضّغط الشّعبي، عندها أعدّ سعيد برقية شديدة اللّهجة تضمّنت دفاعاً عن حرّية المواطنين وعبارة “يجب إخلاء سبيل فهمي المحائري” وقام جميل كوكاش بحمل البرقيّة إلى سلطان باشا فوقّعها متضامناً، وطُيِّرَت البرقية إلى دمشق وبعد 24 ساعة من وصولها إلى رئيس الجمهوريّة؛ أُخْلِي سبيل الأستاذ المحائري.

إسقاط المرسوم 50
كان سعد الله الجابري أيّام أصبح رئيساً لوزراء سوريّة قد أصدر المرسوم 50 الذي يصادر الحُرِّيّات ويجعل من حليفه صبري العسلي نوعاً من دكتاتور، كانت الغاية من ذلك السّيطرة على نتائج الانتخابات القادمة، وعلى الأثر تنبّه الوطنيّون في دمشق لنوايا الجابري والعسلي، فَقَدِم كلٌّ من الأستاذين سعيد حيدر ونزهة المملوك إلى سعيد أبو الحسن في السويداء بصفته شخصيّة وطنيّة، ورئيس فرع عصبة العمل القومي في السويداء، وأوضحا له أنّ إلغاء هذا المرسوم بحاجة إلى وِقفة من سلطان باشا نظير وِقفته من قضيّة فهمي المحائري، وبالفعل ذهب الثلاثة إلى القريّا مَعْقِل سلطان، وعقدوا معه اجتماعًا سِرِّيًّا، وبَسطوا له الوضع، قائلين: “إذا بقينا ساكتين وظلّت الحكومة سائرة في غِيِّها فسيأتي يوم نترحّم فيه على أيّام الانتداب والاحتلال” فاستجاب سلطان باشا لِطَلَبِهم ووقّع بيانًا نُشر في الصّحف ووزّع على نطاق واسع، يوم 6 تشرين الثاني عام 1946، وسقط المرسوم”.

سعيد أبو الحسُن العروبي ورجل المجتمع والسياسة، أديب وشاعر أيضاً
هو شخصيّة مُتعدّدة المواهب إذ كتبَ القِصّة والمسرحيّة وجمع الشعر الأصيل إلى ما سبق ذكره، ففي ديوانه القيّم “الديوان، من الرَّباب إلى السيمفونيّة” والذي يمثّل شهادة الشاعر على عصره؛ ويضمّ مئة وثماني وثلاثين قصيدة معظمها من الشعر العمودي، بعضها من الشعر الحديث، وجميعها من الشعر الجيد المتعدّد الأغراض بين الوطني القومي والاجتماعي والتاريخي والذاتي والعاطفي ــ الأسري، وله نظرة جادة في الشعر يعبّر عنها بقوله “الشعر بمضمونه وليس بشكله”، هذا مع أنّه التزم في شعره بإتقان الشكل والمضمون معاً، وهو يعرّفنا على موقفه من الشعر بقوله: “هل صاحب هذا الديوان شاعر سياسيّ أم سياسيّ شاعر؟ ولعلّ الإجابة الصحيحة هي أنّه مواطن وإنسان قبل كلّ شيء يعيش آمال أمّته وآلامها، يحسّ بؤسها وينتشي بانتصاراتها ولا يقبل بنظريّة الفن للفن، أو الشعر غير الهادف” ويلخّص رأيه بقوله: “إنّه يؤمن بالأدب في خدمة الشعب، لا الشعب في خدمة الأدب”. ومن قصائده اللافتة في الموضوع الوطني ــ القومي قصيدته “جراح وآمال” ولها مناسبة طريفة يقول فيها: استمعت إلى الشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري وهو يخاطب دمشق في لهفة وكأنّه لا يصدّق أنّه استطاع الوصول إليها، فتجسّدت في نفسي مأساتنا القوميّة الكبرى، وكتبت هذه القصيدة (نُشرت عام 1979) مهداة إليه نقتطف منها قوله:
أَتـــرَعتُ من لَهبِ الجوى أقداحي وشربتُ حتى صِرتُ بعضَ الرّاحِ
ورأيتُـني فـوق السـحاب غمامـــةً حمـراءَ تنشرُ في السّماء جـراحي
جُــرحُ الحــدودِ قديمُـها وحديثُـها جثـمت عـلـى الأجســـادِ والأرواحِ
والقصيدة مُطوَّلة، ومن بعض عناوين قصائده “بلدتي عرمان” و “وادي بردى في الخريف” و “يوم التضامن مع الفلسطينيين” و “تحيّة إلى جمال عبد الناصر في ذكرى رحيله” و “أَبَيْتُ الذلّ” و “النصر أو الكفن” و “تحيّة عربية إلى هانوي” و “إلى غزة المناضلة” و “جبل الشيخ رفيق الأزل” و “المتن” و “إلى رفيقة العمر مي (زوجته) بعيد ميلادها” و “إلى أمي” و “وقصائد إلى “أميرة في عيد ميلادها وقصائد أُخرى إلى أحفاده دينا ولارا ورامي …
حقّاً لقد كان سعيد أبو الحُسن شخصًا سابقًا عصره، لكنّه على تَمَيُّزه لم ينل حقّه في حياته بسبب ظروف الفترة القلقة المليئة بالتقلّبات والإرهاصات التي عرفتها سورية، تلك الفترة التي عاشها هذا الرّجل الموهوب.
إنّ الحديث عن دوره وتأثيره الاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ يحتاج مُجلّدًا ضخماً، لا مقالة محدودة بعدد ما من الصّفحات، فحقيقة الرّجل ساطعة سطوعَ شمسٍ في رابعة النّهار.

رشيد طليع

أحد أبرز أركان الثورة السورية الكبرى 1925 – 1927

رشيد طليع
إداريّ قائد، وسياسي عربي مُتَعدّد المواهب

هو رشيد بن علي بن حسن بن ناصيف طليع، ولد في قرية جديدة الشّوف بلبنان عام 1876م، وتلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة القرية ثم انتقل إلى المدرسة الداوديّة في عبيه وبعدها في المكتب الإعدادي في بيروت عام 1892 فنال شهادته بتفوّق، ومنذ أيام الدراسة تلك برزت لديه إمارات الذّكاء والنُّبوغ،
بعد المكتب الإعدادي، بعثته الدّولة مع بعض أبناء العشائر إلى الآستانة ليلتحق بمكتب العشائر ومعهد الإدارة والمال وكانت مدّة الدِّراسة ثماني سنوات ، فتخرَّج سنة 1900، وعاد إلى بيروت فَعُيِّنَ برتبة مأمور معيّة لولاية سورية، وفي عام 1901 عُيِّن وكيل قائمّقام بعلبك، وفي عام 1902 عين قائمقامًا للزّبَداني، وفي 1903 قائمّقامًا لراشَيّا وفي عام 1906 قائمقامًا لحاصبيّا ثم قائمقامًا في جبل الدّروز (كما كان يُدعى آنذاك) في بلدة عاهرة (عريقة اليوم) بين عامي 1907و 1909وفي سنة 1910 نُقِل قائمّقامًا إلى المِسِمْيَة (في اللّجاة) ومن ثم مُتصرّفاً في لواء حوران(درعا) عام 1912 وقد انتخب عضواً في “مجلس المبعوثان” (مجلس النّواب العثماني) عن لواء حوران في العام نفسه ، وفي آب عام 1914عيّن مُتَصَرِّفاً على طرابلس الشام وفي 13 تموز 1915 عُيّن متصرّفاً لِلِواء الإسكندريّة (الإسكندرون ــ أنطاكية) وعندما سقطت الدّولة العثمانيّة عام 1918 آبَ إلى موطنه لبنان (1).
وهو سليل أسرة وجيهة أنجبت رجالاً مُمَيّزين منهم الشّيخ حسن طليع الذي كان شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز بين عامي 1917 وإلى تاريخ وفاته عام 1949.
في أثناء وجوده في الآستانة، وفي فترة عُضْوِيّته في البرلمان العثماني عام 1912، كان لرشيد موقف يُحسب له في باب نقده أخطاء الحكومة العثمانيّة (2). وفي تلك الفترة التقى بالأمير فيصل بن الحسين الذي كان نائباً عن مدينة جدّة (في الحجاز). وفي العام ذاته أُعيد إلى الوظيفة مُتصرّفاً لدرعا بعد حلِّ مجلس المبعوثان.. وفي العام 1913 كان له دور مؤثِّر في انتخاب الأمير شكيب أرسلان نائباً عن لواء حوران في مجلس النوّاب العثماني، وفي عام 1914 جرى تعيينه مُتصرّفاً لطرابلس الشام. وفي العام التالي نقل ليكون متصرّفاً في اللاذقية حتى عام 1918. كانت سرعة التنقلات للولاة سُنَّةٌ عثمانيّة قديمة لمنع استئثار الولاة في ولاياتهم أو تفكيرهم في الانفصال.
وعلى أثر يأس العرب من الإصلاح العثماني، انتسب رشيد إلى “الجمعية العربية الفتاة” عام 1918، وهي جمعيّة عربيّة انتقلت من المطالبة بالحكم اللّامركزي في إطار الامبراطوريّة العثمانيّة إلى الدّعوة للانفصال عن الحكم العثماني. وفي العام نفسه عُيّنَ حاكماً عسكريّاً لحماة.

تعارُف الأزمة بين رجلين كبيرين
المُتَصرِّف رشيد باشا طليع والشّاب سلطان الأطرش
حصل التّعارف بين الرّجلين عَبْر أزمة نزاع على الأرض، فقد كان سلطان الشاب وسائر الدّروز آنذاك في حالة يأس من عدالة الدّولة العثمانيّة التي جرّدت عام 1910حملة انتقاميّة على الجبل بذريعة “حوادث فرديّة (بين الدّروز والحوارنة) كان حلُّها مُمْكِنًا”(3)؛ أسفرت عن إفقار مُتَعمّد و دمار وسلب وقتل في مجتمع جبل الدروز وإعدامات لستّة من زعمائه، بينهم ذوقان الأطرش والد سلطان. ومن التُّهم التي وُجِّهَتْ إليهم تُهْمة الخروج على الخلافة والكفر بالإسلام، وقد تمكن رشيد بحنكته من حل الخلاف بين الدروز والحوارنة وإعادة الأرض المستولى عليها بالتراضي لأهل القريا.

رشيد بك طليع
رشيد بك طليع

اللّجوء إلى جبل الدروز
والإعداد للثَّوْرة السُّوريَّة الكُبرى
لم يكن رشيد طليع لينسى الغاية العربيّة الاستقلاليَّة التي انضمَّ إلى الجمعية العربيَّة الفتاة من أجل تحقيقها، ولم ييأس الرّجل من هدفه ذاك حتى بعد احتلال غورو لدمشق وسقوط الحكومة العربية فيها، وكان بحكم معرفته لمواطن الفعل المؤثِّر في بُنى المجتمع السُّوري يرى في الجبل عامّة، وفي سلطان والفريق الملتفّ حوله منذ أيام الثورة العربيّة على العثمانيين بؤرة وطنيَّة مناسبة لمواصلة النِّضال لبلوغ هدفه الاستقلاليِّ العروبيّ، وعلى هذا فقد تَوَجَّه مُتَخَفِّياً إلى السّويداء بعد فشل ثورات الشّمال السوريّ.
يذكر علي عبيد وهو من العاملين على التَّأسيس للثّورة السُّوريَّة الكبرى إلى جانب سلطان في مذكِّراته أنّ رشيد طليع حضر إلى بيته في السُّويداء في تلك الفترة من عام 1920 وبقي “في بيته مدة تنوف على أربعة أشهر مُسْتَصْحِباً رفيقه (الدّمشقي) الشّهم الهمام نبيه بك العظمة وبدأوا يبثُّون نصائحهم بين الدروز لعدم الانصياع إلى وعود الدّولة الأفرنسيّة”(4).
كان لجوء رشيد طليع إلى الجبل إلى جانب قيادات من الحركة العربيّة عقداً للهيئة على المقاومة، وتطبيقاً لما كان عليه الاتفاق من الإقامة في حوران أو شرق الأردن، وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة (5).
وقد ذكرت الوثائق البريطانيّة أنّ رشيد طليع أرسل منشوراً إلى قرى جبل الدروز يطلب من رجالها الاشتراك في الهجوم الذي سيقوم فيه الأمير عبدالله بن الحسين على الفرنسييِّن و”أنّ الفرنسيين طالبوا بطرده “. كذلك اندفعت “السُّلطات الفرنسيّة إلى إنذار زعماء الدّروز بضرورة طرد رشيد من الجبل فوراً وإلاّ ستدمِّر بلدة السويداء على من فيها إذا بقي رشيد طليع يوزع المناشير الدّاعية لحركة الأمير عبدالله والانتساب إليها”. ذكرت ذلك صحيفة التايمس اللّندنيّة بتاريخ 10 آذار 1920، مشيرة إلى جهود رشيد طليع في تطويع المجاهدين العرب ونقلهم إلى الأردنّ (6)، إذ كان الجبل لم يزل باقياً على عهده إلى جانب الثورة العربيّة التي لم تخمد شعلتها فيه بعد، وكان الفرنسيُّون يَرَوْن فيه “ملجأً للمجرمين من كلِّ المناطق المجاورة (يقصدون بذلك لجوء رجال الحركة العربيّة إلى الجبل بعد ميسلون 1920)، وبحيث أنّ حكم الجبل يبدو أكثر صعوبة عليهم بسبب عدم انضباط زعماء عائلة آل الأطرش وأبرزهم الأمير سلطان”(7). حقًّا كان سلطان باشا وفريقه من زعماء الجبل يقفون في صف فريق رشيد طليع العروبي الاستقلالي، وكان نشاط هؤلاء العروبيين الذين يرفضون معاهدة سايكس بيكو يضع عبدالله بن الحسين حليفهم بادئ الأمر الذي كان يدعو لتحرير سورية من الفرنسييِّن في مو قف حَرِج، فإمّا أنْ يرضى بشروط البريطانييِّن وهم أقوى طرفي سايكس بيكو، وإلاّ فهو سيخسر إمارة الأردن إن استمرَّ في التعاون مع رشيد طليع وفريقه من الاستقلاليين العرب.
شكّل اعتصام رشيد طليع في السويداء عام 1920 إلى جانب عدد من قيادات الاستقلالييّن ومن ثم انتقاله بعدها مُكْرَهاً إلى عمّان على أثر ضغوط الفرنسييِّن بضرورة إخراجه من الجبل فترة تهيئة الأرضيّة بالتّعاون مع سلطان ونخبة من طليعة الرّجال الوطنييِّن في الجبل للإعداد للثورة الاستقلاليّة المقبلة. وظهر دوره الرئيسي جَلِيًّا في حزب الاستقلال في إمارة الشَّرق العربي (كما كانت تدعى الأردنُّ آنذاك)، إذ أصبحت بعد ميسلون موئلًا للسياسييِّن العروبييِّن في تلك الأيّام العصيبة، إذ حَلَّ بها سياسيُّو الحكومة العربيّة التي أطاح بهم الاحتلال الفرنسيّ لدمشق، ورجالات سوريّة، أي ” عصبة الاستقلالييِّن” التي اضطُرَّت إلى التشتّت إثر انهيار الحكم العربيّ. وفي محاولة منهم للتجمّع استقرّوا في عمّان وأبرز رجالاتهم الذين كانوا يجتمعون معاً: رشيد طليع وأحمد مريود والأمير عادل أرسلان ونبيه العظمة وسامي السرَّاج وعادل العظمة وخير الدين الزِّركلي وفؤاد سْليم، وأحمد حلمي عبد الباقي وعثمان قاسم وآخرون، وقد شكلت عصبة الاستقلالييِّن هذه لجنة مركزية لحزب الاستقلال تتولَّى قيادة النّضال ضد الانتداب الفرنسيّ (في سورية) مؤلّفة من زعماء الحزب: أحمد مريود ورشيد طليع وعادل العظمة وعادل أرسلان وغيرهم.. وكان رشيد طليع المرشّح الأول باسم الحزب لرئاسة أوَّل حكومة عربيّة في شرق الأردن وقد مثّلت اللَّجنة المركزيّة تلك وجود الرّجال الاستقلالييِّن (دعاة استقلال سورية كاملة بحدودها الطِّبيعيّة) من نواحٍ عربية مختلفة على امتداد سورية والعراق وفلسطين ولبنان، وقد اتَّخذوا من عمّان مقرًّا ومُنْطَلقاً.
لقد كان رشيد طليع أمينًا لمُنْطَلق الثّورة العربيّة على العثمانيين عام 1916 وفي السَّعي للتّحرُّر من أيّة سيطرة أجنبيّة، ومن هنا كان تقبّله لدعوة عبدالله بن الحسين التي أطلقها “للجهاد والتّحرير”، لتحرير سورية من الاحتلال الفرنسي. إذ وفد إلى عمّان على رأس “جمع كبير من فرسان الجبل في 27 آذار 1921، هم الذين كانوا يأخذون دعوة الأمير عبدالله لتحرير سورية على أنها أمر محتوم، وفيما بعد فإنّ رشيداً وسائر رفاقه الاستقلالييِّن اضطروا لمواكبته على مضض بعد رضوخه لمطالب بريطانيا إثر اجتماعه بـ ونستون تشرشل (وزير المستعمرات حينها) في بيت المقدس في 29 آذار 1921، لكنهم ظلّوا يعملون في الباطن على هدفهم العروبيّ.

رشيد طليع وفريقه في امتحان الخيار الصَّعب
لم يكن أمام أولئك الاستقلالييِّن العروبييِّن من خيار آخر، فَهُم “قَدِموا إلى الأردن، وأكثرهم لا يملك مكان الخطوة التالية (ملجأ) إذا انسحب من عمّان وغدا في مركز حَرِج، وبخاصّة أنّ هؤلاء الإخوان مبعدون من الدِّيار أو محكومون بالإعدام من السّلطة الفرنسيّة، أو هم غير مرغوب بإقامتهم في المناطق الخاضعة للنفوذ الإنكليزي”(8).
لقد كانت العلاقة بين الأمير عبدالله والاستقلالييِّن علاقة بين مضعوفين كلٌّ بحاجة للآخر، كما أنّ بريطانيا كانت ترى أنّهم “يَحْظَوْن باحترام أهالي البلاد ويتمتّعون بِصِلات ممتازة مع زعمائها ووجهائها، وكانت لهم في الغالب كلمة مسموعة ومقدرة بالغة التّأثير في الحياة العامّة إضافة لذلك فهم يملكون خبرة طويلة في العمل السياسيّ وتنظيمًا سياسيًّا اجتمع فيه وحوله العديد من السياسييِّن المتمرِّسين والإدارييِّن والعسكرييِّن المُحترفين”(9). لكنّ الافتراق قارب أن يقع أخيرًا بين الأمير والاستقلالييِّن.

رشيد طليع على رأس الحكومة الأردنيَّة
كان الاستقلاليّون قد طلبوا من الأمير عبدالله أن “يستدعي رشيد طليع بصفته رئيس حزب الاستقلال”، وبصفته أوسع رجل عربي في الأهليَّة والكفاية ليؤلِّف الحكومة” (10).
وكان رشيد طليع حينها يرأس حزب الاستقلال العربيّ ، ولهذا فقد أقنع رفاقه الاستقلالييِّن أن يقبلوا بتأليف حكومة عاديّة في الظاهر ثوريّة في الباطن مستندة إلى تأييد الأهلين والعشائر، وذلك من أجل تحقيق هدف حزب الاستقلال في “سوريّة دولة مُوَحَّدة مستقلّة”.
وفي شمال الأردن، كان اللّواء علي خلقي الشرايري رئيس حكومة إربد (المحلّيّة) لا يثق بعلاقات عبدالله ببريطانيا، وهو من جماعة حزب الاستقلال وعنده ريب من بريطانيا ومن عبدالله، ولكنّ رشيدًا (بِحِسّه العمليّ) أقنعه بدخول الوزارة إذ كان يرى أنَّها فرصة يواظب عبرها الاستقلاليُّون على تأكيد وجودهم وتحقيق هدفهم الوطنيّ.
كان عبدالله قد طلب من رشيد أن يقوم بتأسيس حكومة في المنطقة بينما يتقدمون إلى سورية (لتحريرها من الفرنسييِّن وكان هذا هدف الاستقلالييِّن أصلاً) فوافق (رشيد) على طلبه واشترط (على عبدالله) شرطين: الأوَّل أن تكون الحكومة دستوريَّة ذات مجلس نيابيّ، والثاني أن يبقى حُرًّا بالعمل في جبل حوران محافظةً منه على الحالة الولائيَّة التي كان قابضًا على ناصيتها (منذ أيام لجوئه إلى الجبل عام 1920) فوافق الأمير” (11).
كانت فرنسا تعلم نوايا حكومة رشيد طليع ضدّها فشّجعت تمرّد منطقة الكورة (في شمال الأردن الذي كان أساسه التّمنُّع عن دفع ضرائب متوجِّبة) وهو التمرّد الذي تزعّمه الشيخ كليب الشَّريدي ضدّ الحكومة ووقف الأمير عبدالله والبريطانيون موقف الفرجة (المتفرّج!) أثناء تحضير المسير بالحملة لتأديب الكورة وعدم مدّها بالسلاح والعتاد (12).

حاكماً عسكرياً في حماه
حاكماً عسكرياً في حماه

سَعْيُ رشيد طليع للاستغناء
عن المساعدة البريطانيّة وإقالته!
يقول خير الدين الزّركلي: “إنّ رشيد طليع شَمَّر عن ساعد الجدِّ ونظّم الحكومة في شرق الأردن على أساس الاقتصاد في النّفقات بحيث لم يَزِد أعلى مُرتّب (أي راتبه الشَّخصي) على أربعين جنيهًا في الشّهر (كان هذا يعادل 4 مرات مرتَّب المعلّم الأول يومها في مدارس عمّان الابتدائيّة)، مُراعيًا في ذلك قلّة موارد البلاد، وعدم إرهاق الأهالي بالضّرائب، والاستغناء عن طلب المساعدة الماليَّة من الحكومة البريطانيّة” (13).
من جانب آخر كان إنفاق الأمير عبدالله (شهريًّا) في حدود عشرة آلاف جنيه استرليني تقريبًا في حين أنّ المساعدة الشهريّة البريطانيّة له 5000 جنيه، وكان الأمير يُنفق بكرم على أتباعه وزوّاره وهذا الوضع كان يرهق حكومة رشيد طليع (بينما الأمير يضنُّ على الحكومة بقليل من المال تسدُّ فيه أرماق الجنود)، فتراكمت عليه الدّيون وكان البريطانيُّون يلوّحون بين حين وآخر لوقف مساعداتهم أو أن ينسجمَ الأمير مع شروطهم ليبقى أميرًا ضمن خطط سياستهم التي تقضي في بعض توجُّهاتها أن تكون للأمير عبدالله القدرة على التخلُّص من السورييِّن (وهم رجال الثورة العربيّة الذين خرجوا من دمشق بعد الاحتلال الفرنسيّ لسورية، والذين ناصروا الشّريف حسين في ثورته عام 1916على العثمانييِّن وكانت بريطانيا تسعى للتخلّص منهم ومن تأثيرهم في إمارة عبدالله الذي وجد نفسه في موقع القبول الاضطراريِّ بالشّروط البريطانيّة) وهذا ما جعله (أي عبدالله) يتحرَّك بالسُّرعة اللّازمة للافتراق عن رشيد طليع وإقالته (14). أضف إلى ذلك الشُّبهة اللّاحقة برشيد طليع وجماعته من الاستقلاليييِّن بأنَّهم من اتّخذ القرار بتنفيذ عمليَّة محاولة اغتيال غورو الذي “اتُّخِذَ في مجلس الوزراء” وأنّه بعد مناقشات طويلة ومطوّلة تحَمّل أحمد مريود مَسْؤوليَّة التَّخطيط والتَّنفيذ، وهناك من ينقل أنّ فكرة اغتيال غورو كانت سِرِّيَّة بين رشيد طليع رئيس الوزراء وأحمد مريود وزير العشائر (في إمارة الأردن)…
ولمّا لم تنجح المطالبات الفرنسيَّة والبريطانيَّة في تسلُّم المطلوبين من حكومة الأردن التي يرأسها رشيد طليع طلب هربرت صموئيل المندوب السامي (الصهيوني) البريطاني في فلسطين من (أبرامسون) المعتمد البريطاني في الأردن في 2 آب 1921، أن يُبلغ الأمير عبد الله “أنّ المستر تشرشل (وزير المستعمرات) أُحيط عِلمًا بأنّ الحكومة الأردنيّة أخفقت في اعتقال أيِّ شخص من المطلوبين، وأنّه يُصِرّ على استقالة رشيد طليع رئيس المشاورين (أي: الوزراء) وأنّ هناك بيّنات قويّة تدلّ على أنّ رشيد طليع يحوك المؤامرات مع الدُّروز ضدّ الفرنسييِّن” (15). كان البريطانيّون قلقين من طموحات رشيد طليع كونه “قادراً جداً وطموحاً جداً” (16).
وفي جوهر الأمر فإنّ رشيد طليع رئيس لجماعة حزب الاستقلال، وهؤلاء هم العروبيون الذين ثاروا على الدّولة العثمانيّة من أجل دولة عربيّة وهو كرئيس وزراء لحكومة عربيَّة في الأردن تتاخم فلسطين من الشّرق وسورية من الجنوب؛ لم يكن شخصًا مُريحاً للبريطانييِّن الذين يهيِّئون لتسليم فلسطين للصَّهاينة، ولم يكن مُريحاً للفرنسييِّن الذين احتلّوا سورية وأسقطوا الحكم العربي فيها. وفوق هذا فإنَّ لِرَشيد طليع صلات وطيدة بسلطان باشا الأطرش وفريقه من العروبييِّن في جبل الدّروز أولئك الذين لم يكن خافيًا أنّهم يحضّرون للثّورة على الفرنسييِّن.

لقاء بين رشيد طليع
وسلطان باشا في الأردن
لجأ سلطان باشا الأطرش إلى الأردن على أثر ثورته الأولى على الفرنسييِّن مع عدد محدود من رفاقه في 23 تموز عام 1922 لإعدامهم ضيفه “أدهم خنجر”، ولقتله الضابط الفرنسي “بوكسان” وثلاثة من مرافقيه، وهناك رصد الفرنسيُّون اجتماعًا له برشيد طليع والأمير عادل أرسلان. لكنّ سياسة الأردنّ كانت تسير على غير ما يهوى الاستقلاليّون الذين لم يزالوا على خُطى الثّورة الاستقلاليّة العربيّة، إذ كانت فرنسا وبريطانيا تُثَبِّتان حضورهما في المشرق العربيّ، ولمّا اضطُرَّ الأمير عبدالله (بناء على لوم من بريطانيا له بسبب وجود سلطان في الأردن) أن يطلب من فريدريك بيك قائد القوة البريطانيّة المرابطة في عمَّان (الموجودة بدعوى حماية الأمير) إخراج سلطان من الأردنّ بالقوّة؛ فإنّ طلبه ذاك أحبطه كلٌّ من رشيد طليع والأمير عادل أرسلان وأحمد مريود، وحديثة الخريشة ومثقال الفايز وطراد بن زبن (والثلاثة الأخيرون هم من شيوخ قبيلة بني صخر الوازنة في الأردنّ) وصبحي العمري وصبحي الخضرا وحسيب ذبيان وسعيد عمّون (17). يقول سلطان: “وصلنا إلى ديار بني حسن وخيّمنا في خربة “رِحاب” حيث مكثنا عَشَرةَ أشهرٍ كنّا خلالها موضع احترام العشائر المجاورة وحفاوتهم.. ولم يَفُتْنا أنْ نُعلِم الحكومة الأردنيّة بنزولنا في أرضها وقد كتبنا لها رسالة بهذا الخصوص ونقلها أخي علي إلى عمّان وعاد يحمل إلينا جواباً يتضمّن الموافقة والتَّرحيب غير أنّ السّلطة الإنكليزيّة لم تكن راضية عن ذلك، فحاولت إخراجنا وتسليمنا إلى الفرنسييِّن لو لم يعمل الأمير عادل أرسلان على إحباط مساعيها بالتَّعاون مع رشيد طليع وحديثة الخريشا ومثقال الفايز وطراد بن زبن وغيرهم من رؤساء العشائر العربيَّة في الأردن والتي كانت تربطنا بهم الصداقة منذ أيام الثورة العربيّة الكُبرى وفي تلك الأثناء ازدادت أواصر الصّداقة بيني وبين الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع فكنت أجد فيهما كلّ مزايا الصِّدق في القول والإخلاص في العمل والاندفاع في خدمة القضايا العربيَّة (18)، وشهادة سلطان هذه تؤكِّد أنَّ التَّنسيق بين رشيد وسلطان قائم على الهدف الاستقلاليّ العروبي”.

التَّضييق البَريطانيّ على رشيد طليع
بعد استقالته من رئاسة حكومة الإمارة، كانت إقامة رشيد طليع تترجّح بين عمان ومُدن فلسطين، ولم يتلقّ عرضاً لعمل ما، نتيجة حظر شامل فرضه البريطانيُّون على وجوده في الحكم (19)، بل كان حاكم القدس (البريطاني) يعيّن له المكان الذي يسمح له الإقامة صيفًا فيه (20)، بحيث كان تحديد المكان يبدو إبعاداً وَنفيًا إلى أماكن كانت تضايق رشيد طليع ولا تتَّسع له في خُلُق أو صِحّة أو سياسة.
هكذا كان رشيد طليع بشخصيّته الوطنيّة العروبّية يثير رَيْبَ الإنكليز والفرنسيين معًا، وعلى هذا فَهُم قد حَمّلوه تَبِعَة أحداث وقلاقل جَرَت في الشّوف عام 1921 (21).

البَريطانيّون يطلبون مغادرته فلسطين
لم تطُلْ إقامة رشيد في فلسطين، إذ أوردت صحيفة المُقَطّم “أنّ حكومة فلسطين أنذرته بمغادرة البلاد والسفر خلال أسبوع إلى مصر .. والسَّبب؛ رغبة الحكومة الفلسطينيَّة المُسَيَّرة بالسياسة البريطانيّة في استرضاء السّلطة الفرنسيَّة التي لا تنظر بارتياح إلى إقامة السورييِّن في فلسطين” (22).
لكنّ رشيدًا بقي في فلسطين بعد أن رفع “على الحكومة قضيّة أمام محكمة العدل العليا لمخالفتها في أمر إبعاده مبادئ الحقوق الأوّليَّة، “فاتفقت معه على أن يقطن غزَّةَ حيث احتفى الغزيّون بعطوفته مُرَحِّبين بالسياسيّ العربيّ النَّابغة” (23). خلال تلك الفترة لم يكن رشيد منقطعًا عمَّا يدور في سورية وهو المحكوم بالإعدام من قبل الفرنسييِّن بدعوى التَّفاهم مع العدو الذي يقصدون به (الملك فيصل والحكومة العربيّة في سورية قبل احتلال غورو دمشق!).

الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.
الوزير أحمد مريود في وسط الصورة (باللباس العربي) وإلى يساره رئيس أوَّل حكومة أردنية اللبناني رشيد طليع، وإلى يمينه عادل رسلان، ويظهر خلفهم جميل المدفعي ونبيه العظمة، وجميعهم من قادة الفرع الأردني لحزب الإستقلال العربي.

رشيد طليع: مُساهم ومُؤَسِّس
في التَّحضير للثّورة السّوريّة الكُبرى
مرَّ معنا أنّ رشيد طليع أقام شهورًا في الجبل في بيت المجاهد علي عبيد في السويداء على أثر احتلال الفرنسيين دمشق بهدف التّأسيس مع قادة الرأي الحرّ فيه للتحضير المستقبلي لمقاومة الفرنسيين وبقي مدة أربعة أشهر يتنقَّل من قرية إلى أخرى ويجتمع بالناس وينشر أفكاره الوطنيّة .. ويدعوهم إلى عدم تصديق الفرنسيين ووعودهم ويحضهم على الإعداد وعلى التمهيد للقيام بالثّورة وطرد المستعمر وتحرير البلاد فوافقه كثير من الوطنيين، وأقسموا على يده يمين الإخلاص للوطن ومنهم سلطان الأطرش.. (24). ولكنّه بسبب نشاطه هذا الذي ضاق الفرنسيون به اضطُرَّ للّجوء إلى شرق الأردن والتَّعاون مع عبدالله على أساس دعوته لتحرير سورية تاركًا خميرة تنضج مع تطور الأحداث وتؤسِّس للثّورة السوريّة الكبرى التي بادر فيها مجتمع جبل الدروز.
وفيما بعد جاءت مظالم كاربييه لتحلّ على مجتمع الجبل الذي كانت كبرياؤه حينها لم تتعوّد الانحناء أمام إدارة الدّولة الأمنية القمعيّة التي أدارها بشكل فظ، إذ إنَّ العشرين شهراً من حكمه التَّعسّفي “عرفت فرض العمل القسريّ على نطاق لم يُعرَف من قبل، وباتت الضّرائب وللمرة الأولى في تاريخ الجبل تُجبى بكاملها، كذلك فُرِضت رقابة صارمة على تنقّلات الأفراد بين القرى وشاع استخدام معلّمي المدارس كمُخبرين، وكانت العقوبات حتى بالنّسبة للإساءات التافهة تعسّفية وخاضعة للنّزوات. وقد تعرّضت الكبرياء الدرزيّة الحسَّاسة للإهانات مراراً (25).
في تلك الفترة ظلَّ الجناح المعارض لفرنسا بقيادة سلطان في الجبل مخلصًا للقضيّة العربيّة وعلى مواقفه السابقة منها، وقد استمرَّ على علاقته بالوطنييِّن السورييِّن في دمشق وحلب وعمّان (26)، ولم يكن رشيد بحسب موقعه الوطني بصفته رجلًا من رجال حزب الاستقلال الذي كان في صُلب المواجهة مع الفرنسييِّن بعيدًا عن تلك الأجواء حتى وهو في القاهرة التي كانت حينها “مدير دفّة الحركات الوطنيَّة منذ ما قبل الحرب العالميَّة الأولى” (27).
كان رشيد طليع (واستنادًا لنشاطه السابق وتَتَبُّعُه لمسار تطوّر الأحداث) يتوقّع الثَّورة في الجبل، ويتخوّف من نشوبها قبل أوانها؛ إذ ينقل أسعد داغر عن موقفه من أجواء الجبل في العشيّة البعيدة للثَّورة السوريّة الكبرى (أي في أواخر عام 1924)، قوله: “وعلى كلّ حال لا أعتقد أنّ الثورات تكون دائمًا نتيجة استعداد وتنظيم، بل هي على الأكثر انفجارات تنشأ عن شدّة الضَّغط وأنا أخشى أن يقع هذا الانفجار قبل الأوان” (28).
وبالعودة إلى دور رشيد طليع في الإعداد للثّورة السوريّة الكبرى، فإنَّ الموقف الأكثر وضوحاً يأتي كذلك من مرويّات أسعد داغر إذ يكتب مُتَذكّرًا بعد سماعه عن تفجّر الثّورة في جبل العرب:
“وقد خُيِّل إليَّ لأوّل وهلة أنّي فوجئت بإعلان هذه الثَّورة مفاجأة ولكني لما راجعت ذاكرتي أدركت حقائق كثيرة شهدتها ولم أفطن لها حال وقوعها وفي مُقدَّمة هذه الحوادث أنِّي ذهبت مرّةً إلى الإسكندريّة لمقابلة رشيد طليع في موضوع خاص وذلك قبل نشوب الثَّورة السوريّة في جبل الدّروز بستّة أشهر أو أكثر، فرأيته شديد الانهماك برسائل تلقَّاها من الجبل ولمّا سألته عن السبب قال لي إنَّ الحالة أصبحت لا تُطاق في سورية وإنَّ بعض زعماء الدّروز عازمون على القيام بوجه السُّلطة وأنّهم يسألونه رأيه في الموضوع فقلت: وما هو رأيكم في ذلك؟”.
قال: “إنّ البلاد على استعداد الآن للقيام بعمل واسع النّطاق وإنّه يسعى لتنظيم هذا العمل من مدّة ولكن مساعيه لم تُكلَّل بالنَّجاح المطلوب حتّى الآن..” (29).
عند نشوب الثّورة في تموز 1925 انتقل رشيد إلى القدس، إذ كان على اتصال وثيق ببعض زعماء الجبل فالمكاتبات “بين طليع وسلطان كانت مُطَّردة لا تنقطع وهي جدّ خاصة مكتومة لا يطّلع عليها أحد وكلّ موضوعاتها تتعلّق باستيقاد نار الثّورة عندما تسنح الفرصة لها” (30).

رشيد طليع وإسناد الثورة عبر فلسطين
لم يكن رشيد ببعيد عن تطوّرات الثّورة السوريّة منذ أيام التأسيس عام 1920 إذ إن اعتصامه في الجبل إلى جانب قيادات الحركة العربيّة كان إصرارًا للهيئة (أي: حزب الاستقلال العربي)على مقاومة الاحتلال وتطبيقًا لما كان عليه الاتّفاق من “الإقامة في حوران أو شرق الأردنّ وإقامة حكومة وطنيّة وبذل الجهد لجمع الشباب واستئناف المقاومة” (31). ومن هنا فقد شكّلت إقامة رشيد طليع في القدس عند إعلان الثّورة السوريّة ذراعًا داعمًا لتلك الثّورة، وإسنادًا لها من خارج الجبل من نواح ماليّة وسياسيّة وعسكريّة؛ لكون الرّجل يمتلك علاقات سياسيّة وشخصيّة واسعة ندر أن امتلكها غيره تعود لسعة أفقه الشّخصيّ وأصالته العروبيّة وانتمائه إلى “العربيّة الفتاة” عشيّة العهد العثمانيّ، وإلى “حزب الاستقلال العربيّ” أيّام الحكومة العربيّة في دمشق ولاحقًا بعدها، وموقعه في طليعة القيادة منها، وكذلك من تَبَوُّئِه مواقع إداريّة مُتصرّفًا ووالياً في مناطق واسعة من سورية أيام العثمانييِّن، ومن تسلُّمه وزارة الداخليّة في حكومة دمشق العربيّة، وفيما بعد من فترة تولّيه رئاسة الوزارة الأردنيّة الأولى في تاريخ شرق الأردن، واغتنت من تنقُّله بعد استقالته من رئاسة الحكومة الأردنيّة في مدن فلسطين، وقد وصلت تلك العلاقات إلى المدى العربيّ الأوسع في إقامته الطّويلة نسبيًّا في مصر حتى عشيّة انطلاقة الثّورة السوريّة (32).
وعن دور رشيد طليع المؤسِّس في الثّورة السّوريّة الكبرى يقول حسن أمين البعيني: “إنّ اتّصالات سلطان مع خارج الجبل انحصرت برشيد طليع رئيس وزراء الأردن سابقاً وكان يطّلع أيضاً على المحادثات السِّرِّيّة التي تدور حول الأوضاع في سورية، وضرورة إشعال نار الثورة بين زعماء دمشقيين وزعماء من الجبل يقيمون في دمشق أو يؤمُّونها هم حمد ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش ويوسف العَيْسمي، إلاّ أنّ قرار الثّورة وتاريخ البدء بها لم يكونا مجال بحث بين سلطان وبين أحد بل كانا رهن تطوّر الأوضاع ورهن إرادته وحده” (33).
يقول أسعد داغر “إنّ رشيد طليع قام في القدس بأعمال جبابرة فإليه يرجع الفضل الأوّل في تأليف لجنة الإعانة التي استطاعت أن تكفل لجرحى الثوّار ونسائهم الأغذية والملابس والعقاقير، وفي تنظيم الثورة بواسطة الضبّاط الذين ساعدهم على الالتحاق بها كالمرحوم فؤاد سليم وغيره، وفي إرشاد زعمائها إلى خير الخطط التي يجب أن يسلكوها، والتوفيق بينهم وبين جيرانهم (يقصد الدّماشقة والحوارنة والبدو) الذين كانوا خصومًا لهم (نتيجة الدَّسِّ العثمانيّ القديم بين فئات المجتمع في بلاد الشام)، وتوسيع نطاق الحركات الثوريَّة شمالًا وغربًا حتى سيطر الثوّار على أكثر من نصف البلاد السوريّة (34).
وكلّ هذا دفع بالجنرال أندريا إلى أن يشير إلى خطورة قيادة الفريق المثلّث الرّؤوس: “الشهبندر والأمير عادل أرسلان ورشيد طليع” وكان هؤلاء يجتمعون يوميًّا ولم تكن ثورة الجبل إلاّ جزءًا من مخطّطهم، وكانوا يطمحون لإشعال الثورة لتشمل كلّ سورية. ويشير عجاج نويهض إلى العلاقة الوُثقى بين رشيد طليع والحاج أمين الحسيني مُفتي فلسطين وقد استثمرها رشيد في دعم الثّورة الماليّ والعسكريّ. ففي الجانب العسكريّ كان مقرّ رشيد في القدس مركز إسناد للثّورة وامداد بالأسلحة والخرطوش الملائم للبنادق من صنع ألماني التي كانت بأيدي الثّوار (كان الثوّار بحكم خبرتهم الميدانيّة يفضّلون البندقيّة الألمانيّة الصُّنع) بالتّنسيق مع الأمير شكيب أرسلان ومركز إعلام ومعلومات عن الثّورة ومعاركها وامتداداتها، ومركز تجميع ومعسكر انطلاق للمقاتلين الملتحقين بالثّورة من خارج سورية، والمثال الأبرز في ذلك يأتينا من كتابة رشيد طليع للقائد المقاتل أحمد مريود الموجود في العراق “لينتقل إلى جبل العرب”(35).
وعلى هذا كان الفرنسيّون دائمي التّشكّي من أنّ المواصلات بين مصر وجبل الدّروز مستمرّة عن طريق فلسطين وشرق الأردن وأنّ الذخائر تهرّب إلى الجبل عن الطّريق نفسها ولم تتوقّف إمدادات الأسلحة تلك إلّا بعد اتفاق فرنسي بريطاني جاء فيه: “.. ونعتقد أنَّ الأراضي الأردنيّة لن تكون بعد اليوم طريقًا للأسلحة والذّخيرة التي يشتريها الدّروز على حسابهم” (36).
أمّا من حيث الدّعم الماليّ وبالإضافة إلى ما كان يأتي من بلاد العرب والعالم الإسلاميّ، فقد كان رشيد طليع مُحَرِّك حركة الجباية في المهاجر الأميركيّة (37). وإلى أهمِّيَّة الدّعم المالي للثّورة يشير سلامة عبيد إلى أنَّ المقاومة المسلّحة ظلّت مستمرّة تغذِّيها أموال الإعانات التي كانت تصل بواسطة رشيد طليع من المهاجر “كان دور الدّعم الماليّ للثَّورة الذي يشكّل رشيد طليع مُنَظّمَه ومحرِّكه الرَّئيس يمنحه هيبة يغار منها الجنرال أندريا قائد الحملة الفرنسيّة ضدّ الجبل (الذي كان رأس حربة الثّورة السورية الكبرى). يقول أندريا: “كانت المنطقة تستقبل سلطان الأطرش أحسن استقبال لاسيَّما بعد أن جعل لكلِّ رجل ينضمّ إلى الثَّورة معاشاً شهريًّا يعادل المعاش الذي نُعطيه لجنودنا .. تلك دعاية ماهرة اختبأت خلفها شخصية رشيد طليع ..الذي حمل إلى الجبل مبالغ ضخمة من المال مجموعة من اللِّجان الإسلاميّة ( يقصد لجان دعم الثورة السوريّة) في القاهرة والهند وأميركا تساوي خمسين ألف ليرة ذهباً وُزِّعَت على الجبل منذ عودتنا إليه (آذار 1926)” (38). وبناء على ما سلف يستنتج منذر “وإذا ما تجاوزنا قضايا القيادة والتَّجنيد التي كانت من مهمّات القيادات في الدّاخل فإنّ اليد الطّولى في قضايا التّسليح وتأمين الذّخيرة كانت لرشيد طليع أثناء وجوده في فلسطين والقدس وكذلك كان دوره في توزيع المؤن والرَّواتب للمقاتلين بعد التحاقه بالدّاخل السوري” (39).
كان رشيد يبحث عن أيِّ إسناد للثّورة حتى إنَّه تفاوض مع مُفَوّض شيوعيّ مُكَلّف من قبل السّوفييت في القدس، وكان الاتفاق قد تمّ بين الاثنين على المساعدة بتقديم السّلاح على الطّريقة التي عاملوا بها مصطفى كمال في حرب الأناضول (كان الشيوعيون قد دعموا أتاتورك في حربه التي شنَّها ضدّ مشروع الغرب لتقسيم تركيّا على أثر الحرب العامّة الأولى وهذا ساعد في الحفاظ على كيان تركيا الحاليّ)، لكنَّ المفوَّض الشّيوعي وضع شرطًا ينصُّ على تطبيق مبادئ الشّيوعية في الثَّورة، فقال له رشيد: “ولكنَّكم لم تشترطوا هذا الشرط على مصطفى كمال، ونحن ليس في مصلحتنا تطبيق هذا الشرط في جبل العرب أو في أي مكان من سورية، ووقف الاتّفاق بين رشيد طليع والبلاشفة عند هذا الحدّ رغم محاولات لاحقة بلا جدوى” (40).
وفي معرض الخلافات التي كانت تجري بين قادة حزب الشَّعب والاستقلال العربي حول:
1ــ الثّبات في ميادين القتال:2ــ الذَّمِّة الماليّة 3ــ الارتباط المشبوه أمام قوى الخارج؛ فإن رشيد طليع كان يوم تأزُّم الثّورة يقف في صفوف الصِّدام والمواجهة على الرّغم من انحراف صِحَّتِه واعتلال جسمِه وهو خارج الاتّهام بأيِّ واحدة من تلك الكبائر الثّلاث. (41).

رشيد طليع في معمعان القتال
ومع وصول رشيد إلى الجبل اتّخذ لنفسه اسمًا حركيًّا (المقداد) وهو أحد صحابة النبيّ الأشداء و”عاون سلطان ووقف إلى جانبه واصطلحت الأمور بين سلطان والأمير عادل، وكان رَأْبَ الصّدعِ بينهما من هموم رشيد طليع، وحتى قبل وصوله إلى الجبل كان رشيد يُبَرِّد علاقات الطّرفين، وكذلك كان الرَّجل نقطة توازن بين قيادات الثَّورة المُتَنازِعِيْنَ في الغوطة، (ومنهم) محمد سعيد العاص وفوزي القاوقجي ونسيب البكري ومصطفي وصفي السمان وكان الخلاف (يدور بينهم) على الزّعامة والمناصب وكلٌّ منهم يتصلّب برأيه” (42).
ولم يكن النّجاح في الوصول إلى “الاتّفاق التّام” لدى قيادات الغوطة بعد إدارة شؤون المخابرات (الاتّصالات لتضييق الخلاف) فيما بينهم شأنه في ذلك شأن إدارته التّعارضات في الجبل والنّجاح في موازنتها وضبطها ولم يكن بعيدًا البتَّةَ عن صفاء مواقف رشيد طليع كمدخل أوّل، وعن قدرته في اكتساب احترام الآخرين فيصبح جلاء مواقفه في نظر المُتعارضين معه وسيلة إلى لقاء أكبر والتقاءات دائمة (43).
وأمّا عند وصوله إلى الجبل فقد أخذ رشيد موقعه القياديّ والقتاليّ في صفوف المواجهة ضد قوّات الفرنسييِّن داخل الجبل الدُّرزيّ وخارجه “إلى غوطة دمشق وعلى امتداد المواجهة ما بين الجبلين الدرزييّن في سورية ولبنان(44) إذ تردّد أنَّه وصل إلى منطقة الشُّوف في جبل لبنان .

قائد ميداني في صفوف الثوّار
التحق رشيد بالثورة قائداً ميدانيًّا بعد احتلال الفرنسييِّن للسويداء في أواخر نيسان عام 1926، أي في المرحلة الأكثر إحراجاً لمجاهدي الجبل. فبالرغم من سوء حالته الصحيّة، ذهب إلى الجبل وعمل على تنظيم الثّورة “تنظيماً عسكريّأً مُحْكَماً وجعل للجنود مرتبات يتقاضَوْنَها وحاول أن يكسب للثّورة صفة دوليّة” (45).
ولم يقتصرنشاطه المَيْدانيّ “داخل الجبل الدّرزي وحسب، وإنَّما كان موقعه في الصفوف الأولى على امتداد المواجهة ما بين الجبل وغوطة دمشق… والجبلين الدّرزيين في سورية ولبنان”. فقد روت أنباء دمشق وغوطتها “أنّ عطوفة رشيد بك طليع قد زار ميدان الغوطة وتفقد معسكرات الثّوار فاحتفلوا به أشدّ حفاوة وقد عاد عطوفته إلى جبل الدُّروز”. كذلك روت أخبار الثورة أنّ “عطوفة رشيد بك طليع … قد وصل إلى منطقة الشوف في لبنان لتقوية معنويات الثوار في تلك النواحي ثم عاد بسلامة الله إلى مقرّه في جبل الدروز”، كذلك “أشاعوا أنَّ رشيد بك وشكيب وهاب قد وصلا إلى الشُّوف، أمّا الأول فترجّح عدم قدومه لأنّه موجود في جبل الدّروز” (46).

رشيد طليع محور أساسيّ
في المداولات مع دي جوفنيل
في عام 1926 وفي الوقت الذي كان فيه رشيد طليع قائداً ميدانيَّاً في معارك الجبل، وفي مرحلة حرجة من المعارك بعد سقوط صلخد بيد الفرنسييِّن، تعذّر عليه وعلى سلطان باشا المجيء إلى الأزرق لمقابلة الملك فيصل الذَّاهب إلى أوروبا لتحميله المطالب السُّوريَّة إلى عصبة الأمم استنادًا لميثاق وطني وضعه عدد من القادة السورييِّن، ولكنَّ كلّ ذلك لم يمنعه مداولة الأمر مع الأمير شكيب أرسلان بضرورة السعي لتحسين شروط المفاوضات مع فرنسا وعدم القبول معها بمعاهدة بمستوى المعاهدة البريطانية العراقية لعام 1922 تلك التي “لا تمنح العراق استقلالًا ولا شبه استقلال..”. وهذا يدلُّنا على حصافة الرَّجل الذي يجمع بين أصالة الرَّأي وشجاعة القائد المَيْدانيّ في ساح القتال. وهكذا كان رشيد طليع مع عادل أرسلان في الجبل محوراً أساسيّاً في المداولات مع المندوب السامي دي جوفنيل ومع القادة الوطنيين في اللَّجنة الوطنية للمؤتمر السوري الفلسطيني أوعبر غيرهم من القادة الوطنيين الموجودين في دمشق (47).
ويبدو أنَّ سلطان الذي كان يَمْحَضُ رشيد طليع ثقته “إذ كانت له الكلمة المسموعة في جبل الدّروز خصوصًا عند سلطان باشا الأطرش الذي كان قد أوكل إليه أمر المفاوضات بالإضافة إلى الأمير عادل أرسلان ومن يليهم من الزُّعماء السورييِّن الآخرين. كان رشيد يحمل وثائق تخوِّله عقد الاتفاق النِّهائي بخصوص الثَّورة التي كانت قائمة ” كما يلاحظ نجيب الأرمنازي مندوب المؤتمر السوري ــ الفلسطيني لمباحثة الثّورة السوريّة في مهمة المفوّض السامي الفرنسي” (48).

رشيد طليع قائد مقاتل على نهج الثّورة العربيّة
هذا الثائر المتحدِّر من صفوف الثوّار الاستقلالييِّن العرب في الثّورة العربيّة، وهو الذي قد خَيَّبَت مؤمرات الإنكليز والفرنسييِّن آماله في تحقّق حلم الدّولة العربيّة؛ وجد في النَّصر الذي حقَّقه ثوّار الجبل بارقة أمل لاستعادة الحلم المفقود، حلم الاستقلالِ العربيّ، فبعد إقامته التَّحضيريّة في فلسطين لإمداد الثوّار بالمال والسِّلاح، وبالتّعاون مع الحاج أمين الحسينيّ رئيس اللجنة المركزيّة لإعانة منكوبيّ سورية (من مؤسسيّ تلك اللّجنة الأمير عادل أرسلان ورشيد طليع وشكري القوَّتْلي ونبيه العظمة وآخرون) انتقل مسرعاً من القدس عبر الأردنّ، فقد أثارت حَمِيّته هزيمة الفرنسييِّن في الجبل بعد نصر الثوَّار المؤزّر في معركتي الكفر والمزرعة؛ فحضر إلى السّويداء. كانت النفوس منتعشة حينها، و “زاد في انتعاشها قدوم رشيد طليع ببعض الإعانات التي بدأت تَرِدُ من المهجر بطريق فلسطين (49).
التحق رشيد بالثّورة جناحًا ميدانيًا عسكريًّا بعد سقوط السويداء بيد الفرنسييِّن في 25 نيسان 1926، وبعد أن كان الفرنسيّون في حالة انحسار قبلها في سائر جنوب البلاد السوريّة، ، كانت معركة السويداء من أكبر المعارك التي عرفها الجبل إنْ من حيث عديد القوى المُتَحاربة فيها، أو من حيث الخسائر البشريّة من الجانبين. كان الفرنسيّون يسعَوْن إلى العَودة إلى الجبل والتّمَركز فيه وقد نجحوا باحتلال السّويداء، وعلى هذا فقد كانت الثَّورة في حالة حَرِجة، خاصة أنّ بدو اللَّجاة كانوا يتعاونون مع الجيش الفرنسيِّ، ومن جهه ثانية كان الفرنسيّون قد عملوا على تجنيد فرقة درزيّة مُساعِدة لهم من الدّروز الذين يئسوا من النَّصر؛ أو أولئك الذين انقطعت موارد عيشهم وأصابتهم غائلة الفقر. وقد أخذ الفرنسيّون يدفعون لكل فارس درزيٍّ ينضمُّ لهم بسلاحه سبع ليرات ذهبية لمعيشته وإطعام جواده، وكان لهذا أثره السّلبيّ على قوى المجاهدين، وفي مواجهة هذا الوضع الحَرِج جاء في رسالة من رشيد طليع إلى الأمير شكيب بتاريخ 8 حزيران 1926 يقول فيها: “نحن نسعى الآن لتقوية المعنويّات وإعادتها كما كانت، وبدأنا في تشكيل جُنْد من الدُّروز بالمعاش، وقد قرَّرنا استخدام ألف رجل، ومايتين خيَّال ليكونوا مرابطين دائماً حول الجيش الفرنسيِّ أينما كان، وقد باشرنا بهذا القيد حين وصولي إلى الجبل، ولم يتم التَّشكيل بعد، وقد خصَّصنا للرّاجل ثلاث ليرات فرنسيَّة وللفارس أربعاً على أنْ يُعطى للمجنّدين نصف معاشهم سَلفًا”، وكان هذا تنظيماً قتاليًّا جديداً لم تعرف مثله الثّورات العربيّة من قبل!.

نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف
نصب الدّكتور سعيد طليع ابن عم رشيد طليع في جديدة الشوف

فِرْيَة الاستعمار: ” أجنبي اسمه رشيد طليع!”
بل هو قائد وطنيّ
كانت الثّورة السورية الكبرى قد دخلت في حالة تراجع بعد سقوط السويداء في 25 نيسان 1926، وصلخد في 4 حزيران 1926 بيد قوات الجنرال أندريا، ولكن تحرُّكات رشيد طليع في الجبل كانت تشكِّل حالة من النّهوض في تلك الفترة، وخاصة في المقرن القبلي من الجبل، حيث وصل رشيد طليع وأخذ يستنهض همم الدروز للمجاهدة فاجتمع عنده عدد كبير (50).
في واقع الحال لم يكن رشيد طليع أجنبيًّا عن سورية، فقد كانت له علاقات مواطنة سوريّة فعلية قديمة منذ العهد العثماني من خلال عمله الوظيفيّ فيها كما مَرَّ معنا، وتوطّدت أكثر فيما بعد في العهد الفَيصلي، فهو وزير الدّاخلية في حكومة دمشق العربيّة عام 1920، ووالي حلب بعدها، وعلى هذا فهو سوريٌّ أصيل من الوجهة القانونيَّة، والاجتماعيّة، ويرتبط مع دروز الجبل كونه درزيًّا بعلاقات قُربى وعلاقات شخصيَّة حميمة كما هو الحال في سائر العلاقات الدرزيَّة بين الجبلين. يقول أندريا متبرِّمًا من نشاط رشيد طليع: “توالت الأخبار من الجنوب والشرق. إنّ هذا الأجنبيّ يملك بيده اليوم مشايخ الدُّروز القَيِّمين على الثَّورة. لكن راح رشيد طليع ينتقل في الجبل .. وقد أشاع أن الأرض لم تُزرع وأنَّ البؤس سيصيب الذين يستسلمون لأنّ الحكومة الفرنسيّة لايمكنها تأمين المؤونة للدّروز فهي قبل كل شيء تسعى لتأمين الغذاء لجيشها..” (51)
كان رشيد حاضرًا كقائد مقاتل وكسياسي يوجه الرّجال لإرادة القتال في معارك الثّورة عام 1926 في وادي اللِّوى واللّجاة ومعارك المقرن الشّرقي من الجبل فهو ينتقل حيث تطلَّبت الظروف من موقع لآخر لِشَدِّ عزائم الرّجال، “في ذلك الوقت اجتمع رشيد طليع في صلخد بزعماء الثّورة ورتّبوا صندوق الإعانة وأمينًا له.. ثم ركب إلى…(عدة قرى)، فعاهرة (عريقة اليوم)، فأشعل الثَّورة هناك..” (52). وإلى المقرن الشّمالي والغربيّ لاستنهاض هِمَم الرّجال للقتال.. كان رشيد قائدًا حَدُوبًا على الثّورة التي يرى فيها أمل الاستقلالييِّن العرب الأخير بعد أن ضاعت منهم إمارة الشّرق العربيّ، واضطرّ عبدالله أميرها إلى التخلّي عنهم. أمّا في فلسطين، فإنَّ بريطانيا كانت ترتب ما ترتبه لتسليم البلاد لليهود، وما من بارقة أمل تلوح للاستقلالييِّن العرب سوى في سورية. وفي ظروف المواجهات، وعندما كان الفرنسيُّون يسيطرون في منطقة ما، فإنّه عندما تنسحب جيوشهم منها يعود الأهالي للثّورة، مُعتمدين على قواهم الذاتيَّة ومعونات تأتي من مُغْتَربي أميركا وغيرها عبره.. واستناداً إلى مذكرات علي سيف الدين القنطار فإنَّه بعد احتلال صلخد، “أرسل رشيد طليع تحارير يستحثُّ أهالي المَقْرَنَيْن الشّمالي والغربي للمعاونة، كانت الحملة الفرنسيّة قد وصلت إلى مَلَح (أقصى جنوب شرق الجبل)… بقيت الحملة في مَلَح ثلاثة أيام، وُجِّهت في أثنائها فرقة إلى خازمة (قرية صغيرة قرب ملح) فهاجمها الثوَّار مهاجمة المُسْتَقْتِلين دفاعاً عن عائلاتهم، وفي اليوم التالي رجعت إلى صلخد فاحتلَّت عرمان في طريقها…
وفي ذلك الوقت قَدِمَ وفد سوري من أميركا يحملُ مالًا للإعانة، فطلب رشيد بك طليع لمقابلته فتوجّه إليه..”.
ويكتب علي سيف الدّين القنطارأيضًا “كانت جبهة المقرن الشمالي قد تحرَّكت، ففي ريمة اللُّحف هاجم الثوّار الحملة مهاجمة لم نسمع بمثلها وبَقَوْا معها في الحرب حتى خيّمت قبل الغروب في رِيمة، واجتمع الثُّوّار في (قرية) جْدَيَّا فسلَّمهم رشيد طليع دراهم لأجل مُشْتراة الذّخيرة واستحثّهم على مُداومة القتال.. ولما ابتعدت الحملة عن جبهة اللَّجاة عاد معظم سكان هذه النّاحية للعصيان وحضر رشيد طليع وبدأ ببث روح الثّورة هناك، ويحرّض الأهلين على القيام بالمعاش المضمون واليقين الطّوعي، فعاد معه كثير من أهالي تلك النَّاحية الفقيرة للحرب، وجعلوا مقرَّهم شماليَّ (قرية) صمَيْد وغربيَّها. وهكذا كان رشيد طليع في الجبل قائدًا ومحرّضًا و “داعيةً مموِّلاً، أي إنَّه كان في الدّائرة العسكريّة الضيّقة (العُليا) للثَّورة وفي قطاع التّخطيط منها أوفي قطاع القيادة العسكريّة المباشرة” (53).
ففي دائرة التَّخطيط كان له دور فاعل وحاسم غالبًا في القرارات التي تتَّجه إليها قيادة الثّورة ومنها مثلًا:
1- اجتماع سالة بتارخ 17 أيار 1926، وحضره الشَّيخ أحمد
الهجري (شيخ العقل) وعبد الغفار باشا الأطرش وأبو نايف علي عبيد وأبو علي هاني (الحنَّاوي، شيخ عقل) والأمير عادل أرسلان وسليمان بك نصّار وغيرهم وقد تقرَّر تجهيز فرق مقاتلة برواتب شهريَّة من التّبرُّعات الواردة على صندوق الثّورة.
2- اجتماع الهويّا بتاريخ 12/6/1926، يذكر أندريا أنّ “سقوط
صلخد استدعى اجتماع قيادات الثّورة السوريّة من الدّمشقييِّن والدّروز وفي ذلك الاجتماع اقترح بعض الزّعماء استسلامًا عامًّا لكنّ رشيد طليع نجح في إعادة أكثرية المجتمعين إلى الأخذ بفكرة متابعة القتال” (54). ومن المؤكد أنَّ سلطان باشا كان يجد في مواقف رشيد طليع الجذريّة في مسألة استمرار الثورة سندًا لموقفه المماثل هو أيضًا.
3- اجتماع بوسان، كان الفرنسيّون يتجسّسون على الثّوّار وعلى
نشاط رشيد طليع، يقول أندريا (ص258): “وصل رسول (أي: جاسوس) من المقرن الشّماليّ يفيد بما يلي: حضرت اجتماعًا جرى في بوسان في 27/ حزيران 1926 برئاسة سلطان ورشيد طليع وأحمد الهجري وقد قيل فيه إنَّ عددًا كبيرًا من الجنود الفرنسييِّن ذهب إلى دمشق ممّا يسهّل عملية الهجوم على الحامية التي باتت ضعيفة. عارض سلطان الفكرة لأنَّ العاصمة مليئة بالأطفال والنّساء لكنّه اقترح استعادة مدينة صلخد عندما يبتعد الجيش الفرنسيّ عنها كما جرى في المرَّة السّابقة (عندما توجّهت الحملة نحو الحدود الأردنيّة) فاستُحْسِن رأيُه استحسانًا كبيرًا”.
وحسب رواية الجاسوس، فإنّ رشيد طليع قال في ذلك الاجتماع: “لن تتوقَّف الثَّورة حتى لو لم يبقَ درزيٌّ واحدٌ واقفًا على قدميه، ولن نسلّم السِّلاح حتى توافق فرنسا على مطاليب الثوّار وأهمّها العفو العام شرط أن تضمنه الولايات المتحدة الأميركيَّة..”، (كانت الولايات المتحدة في ذلك الزَّمن تبدو مسالمة بخلاف ما هي عليه الآن).
4- مؤتمر شَقّا ــ مَفْعَلَة: تمثّل هذا المؤتمر باجتماعين مُنفصلين
في 15 تموز 1926 وفي 29 منه ويعتبر هذا المؤتمرُ هو الأخير في مؤتمرات الثّورة السوريّة الكبرى، وقد مَثّلت مُقَرَّراته حالة القلق على مصير الثَّورة التي تأثِّرت من حالات “استسلام العديد من الزُّعماء والمقاتلين، ومرحلة تجنيدٍ لِمُتَطَوّعين من الدّروز في القوّات الفرنسيَّة ومرحلة الانقسام بين مُتَّحَدات الثَّورة ما بين جبليّة وجبليَّة وما بين جبليّة ودمشقيّة وما بين حزب الاستقلال وحزب الشّعب “غير أنَّ بصمات رشيد طليع تبدو واضحة في مقرَّرات هذا المؤتمر في وجوب المثابرة على الجهاد وفي ضرورة تجميع الجُند وفي قرارات حول التّموين ومنع التّعدّيات وحول إنشاء مجلس وطنيّ وحكومة وطنيَّة” (55).
كانت مقرَّرات مؤتمر شَقَّا تُعَبّر عن حالة تعبئة عامة إذ “اتّخذ المؤتمر الوطنيّ المُنعقد في شقّا قرارًا بوجوب وضع قوائم برجال كلّ قرية بدون استثناء ما خلا العاجز والولد، والعمل على سَوْق ربع العدد إلى جبهة القتال بصورة دائمة وبقاء الآخرين لتسيير الأمور وتولِّي مشايخ العقل إبلاغ القرار إلى القرى” (56).

المجاهد السياسي والقائد في أيامه الأخيرة
كان رشيد قد التقى في اللجاة (المقرن الشمالي) بالأمير عادل أرسلان العائد من الإقليم وبصحبته كنج أبوصالح وشكيب وهّاب ونايف مرعي ونحو ثمانين مقاتلاً لبنانييِّن وإقليمييِّن (إقليم جبل الشيخ)، في أواخر آب 1926، فقابله رشيد طليع وعموم الثوّار مقابلة عظيمة، كانت الطيارات تحوم فوق المنازل وألقت قنابلها على ذلك الحشد لكنَّ القنابل سقطت بعيدة عن الثوَّار ولم يُصَبْ أحد ..
يقول علي عبيد في مخطوطة مذكّراته ص27 والخلاصة أنّ العسكر رجع عن وادي اللّوى (على حافة شرق اللّجاة) بصفة الخاسر تاركاً أكثر من ألف قتيل بهذه المواقع الدامية..”.
كانت الثَّورة في اللَّجاة تواجه حصارًا من بدو اللَّجاة والفرنسييِّن كما أسلفنا، فانتقل الثوّار بحالة تراجع إلى رامة (رامي، قرية في المقرن الشرقي وتبعد عن اللّجاة نحو ستِّين كيلو مترًا) وباتوا هناك، وفي تلك الدّيار جرت سلسلة من المواجهات مع القوَّات الفرنسيَّة، دامت إحداها “ستَّ ساعات متوالية لايُسْمَع فيها إلاّ هدير الطوائر ورعيد المدافع ولعلعة الرّصاص وما قابلت الشمس وجه الزَّوال حتى ولّت الحملة واعتصمت بوادي الرّشيدة ثم توجهت وجهة شقف (بل الصّواب: قرية شعف)، كانت تحرّكات الثّوّار تراجعيَّة مترافقة بقتال مع تحقيق بعض الانتصارات المحلّية كما في موقعة قيصما في الرُّكن الجنوبي الشّرقي من الجبل. وبشأن تلك الاشتباكات مع الثوّار في القسم الشّرقي من المقرن القبلي يقول أندريا: “المعلومات الواردة من المقرن القبلي كانت لا تبشِّر بالخير فقد حطّت طائرة لسبب مجهول (يُنْكر أندريا أنّها طائرة حربيّة) على نجد “طَرْبا” فقبض الأهالي على ركّابها (يعترف بأنَّهما طيّاران حربيَّان في ص 304)، وأعدموهم” (57).
كما يتحدث أندريا عن معركة أخرى في المقرن القبلي “صادفت فيها فرقة فرنسيَّة عصابة مؤلَّفة من ثلاثمائة ثائر فاشتبكت معها في معركة خسرتها بسرعة لقلَّة عددها وعادت إلينا ساحبة عددًا كبيرًا من الجرحى” ويُعَقّب: “توالت الأخبار من الجنوب والشَّرق على أنَّ دعاية قويَّة ينشرها أجنبي اسمه رشيد طليع أتى من الأردنّ حاملاً معه كميّات ضخمة من المال.. (58)، وفي ص 278 يتساءل أندريا “لماذا لم يتوقف القتال؟”، وذلك بعد أن نجح الفرنسيُّون في السَّيطرة العسكريَّة على الجبل واستسلم كثير من الثوّار بعد منحهم الأمان إفراديًّا دون الإقرار بالحقوق الوطنيّة التي تدعو إليها الثورة واضطُرَّ الثوَّار الذين يقودهم سلطان إلى اللّجوء للأراضي الأردنيّة فإنَّ أندريا يحمّل في كتابه (ثورة الدّروز وإضراب دمشق، ص280)، مسؤولية تجدّد مظاهر الثّورة وعدم توقف القتال كليًّا للدعم بالمال والتسليح من جانب اللجنة السوريّة الفلسطينية الآتي من فلسطين إلى سلطان وأقاربه، وإلى رشيد طليع الذي لا يكفُّ عن فضح الدَّور الفرنسي بقوله للدّروز “إن الفرنسيين يخدعونكم إذ ليس لهم إلّا هدف واحد وهو تجريد البلاد من السّلاح والقضاء على حرّيتها…”.

وثائق سلطان باشا: رشيد طليع قائد
في ثورة سوريَّة استقلاليَّة
في موقعة الصُّوْخَر التي فُوجِئ فيها مجموعة من الثّوار كان يقودهم سلطان باشا بقوَّة فرنسيّة تحاصرهم تزيد عن المئتي مقاتل قُتل حصانه، وبقي سلطان يقود الثوار في ساحة المعركة مُصِرًّا على القتال، فما كان من ابن عَمِّه المجاهد صيَّاح الأطرش إلاّ أن تصدَّى له قائلاً: “أنت قائد الثورة، يجب أن تنسحب الآن، ونحن نحميك، إن أُسِرْت أو قُتلت فما مصير الثورة!” ولم ينتظر منه جواباً، بل ناوله مِقْوَدَ حصانه وألزمه امتطاءه لينسحب بعيداً عن رصاص المها جمين، وهكذا أُنجِيَ سلطان، وبقي صياح يقود المجاهدين بانسحاب تراجعي. يقول أندريا:” فرّ الثوار يعطون لخيولهم العنان تاركين في السّاحة أربعة قتلى وثلاثة جرحى بينهم ضابط جزائري هارب من خِدمتنا وسبعة جياد مَيْتَةً، بينها جواد سلطان الذي كان خرجه مَحْشُوًّا بمستندات مهمّة للغاية وهي:
1- رسائل من أميركة ( تفيد بتبرعات من المغتربين وليست من
حكومة الولايات لمتحدة (تشجّع الدّروز على المقاومة وتعلن وصول المال) وتدعو السّورييِّن للمقاومة حتى الموت.
2- رسالة من (محمد) عزّ الدّين الحلبي أحد قواد العصابات
يعلن فيها انخفاض معنويات أهالي المقرن الشمالي.
3- رسالة من لوزان بعث بها الأمير شكيب أرسلان يطلب من
سلطان فيها أن لا يثق بوعود الجنرال الحاكم ولا بأقوال المفوّض السامي، وجاء في قوله: “إذا انقلب الأسود يوماً أبيض استطاعت فرنسا أن تتنازل عن كبريائها”.
4- رسالة من نسيب البكري قائد عصابة دمشق يُذكِّرُ فيها سلطانَ
أنّه أقسم على أن يطرد العدوَّ المُسْتعمر.
5- رسالة من سلطان إلى رشيد طليع مستشار ملك الأردن
يطلب فيها المال ليدفع معاشات الثّوار (كان رشيد طليع قد ترك مستشاريّة عبدالله أمير الأردن منذ العام 1922، أي قبل تاريخ الموقعة بنحو خمس سنوات وإنَّما المساعدات التي كان رشيد طليع قَيّماً عليها هي تبرعات العالم العربي والإسلامي وتبرّعات المغتربين). يقول أندريا “هذه المستندات تؤكّد من جديد علاقة الثائرين بالأجانب المعادين للانتداب الفرنسيّ”.
إن تلك الرسائل تؤكّد من خلال استشهاد الضابط الجزائري المُنشق عن الجيش الفرنسيّ، ومراسلة الزّعيم السوري الدّمشقي نسيب البكري وتبرعات المغتربين العرب، ودور رشيد طليع التَّمويلي للثَّورة وكان حينها يقاتل في المقرن الشرقي من الجبل، وقبل وفاته بنحو شهر فقط تؤكّد أنّ الثورة سوريّة الهُوِّيَّة، وليست درزيَّة فقط، كما تُبرهن على الدَّور الهامّ الذي كان يقوم فيه رشيد طليع في تلك الثّورة كواحد من أبرز أركانها، إنْ كان في التَّخطيط منذ العام 1920، أو في التَّمويل من خلال علاقاته العربيّة والإسلاميّة ومع المغتربين العرب، أو في دوره الإداريِّ والقتاليِّ، وهو الذي توفِّي في ساحات القتال في قرية الشّْبِكِيْ من قُرى المقرن الشرقي من الجبل. ففي معركة شهبا وفي وقت سابق على الاشتباكات في المقرن الشرقي، كان رشيد طليع قد سارع إلى المقرن الشّمالي يطوف قراه ودساكره داعيًا الناس إلى المقاومة مبيِّنًا أضرار التَّخاذل والتَّواني، فأقبلوا عليه وانضمُّوا إليه وعاهدوه على الدِّفاع حتّى النَّفَس الأخير، ثم قدِم سلطان ومعه عدد من الشيوخ والزعماء لتنظيم حركة المقاومة في تلك المنطقة فأضرم مجيئه نار الحماسة في الصّدور..
يقول أندريا إنَّه في السابع من أيلول مرَّت قوَّاته في(قرى) “مْشَنَّف”، فـ “شْبِكِي” فـ “رامي”، وفي الثامن من أيلول وصلت الحملة إلى تلّ الشَّرِيْحِي حيث “العصابات (يقصد الثُّوار) تتجوَّل في المنطقة منذ أيَّام وفعلاً، ما كدنا نترك المحلَّة حتى فرقع الرَّصاص خلفنا.. وصلت الحملة “الشّبكي” (59) حيث نَصَبت مُخَيَّمها، وهناك أفادنا مُخْبِرٌ عن وجود ثلاث عصابات في المنطقة .. إحداها يقودها سلطان .. والثانية (محمّد) عزّ الدّين الحلبي.. والثالثة رشيد طليع..”. وهذه الشّهادة من عدوٍّ كأندريا تدلُّنا على أهميّة الموقع الذي كان يشغله المجاهد القائد رشيد طليع في قيادة الثّورة، وقبل وفاته ببضعة عشر يومًا فقط !. وفي مسيرة تلك الحملة الفرنسيّة التي كانت تلاحقها جماعات الثّوّار بلا هوادة يقول أندريا
“جَهَّزْتُ المؤخِّرَةَ بالمدفعيّة الثّقيلة لأنَّ التَّجارب في حرب الدّروز علَّمتنا أَنّهم لا يهاجمون المُقدَّمَة وإنَّما ينقضُّون بِعُنْف على المؤخِّرة والجناحين، ويتَحدَّث أندريا عن معركة جرت في قرية الرّشيدي استمرَّت بضعَ ساعات قادها سلطان بنفسه، واشترك فيها الأمير عادل ورشيد (طليع ) وزيد الأطرش وصيَّاح الحمود (الأطرش) وشكيب وهَّاب وتابعت الحملة المؤلَّفة من 4500 عسكري و 1200 جمل لحمل الماء والذَّخيرة و 50 سيارة و8 طائرات و7 مصفَّحات وانتهت بارتداد الحملة إلى السُّويداء..” (60). تابعت الحملة سيرها باتجاه الجنوب وهي من وجهة النّظر الفرنسية حملة تطهير ولكنّها لم تكن لتتوطّن طويلاً في منطقة تتحرّك فيها مجموعات من الثّوار بأسلحتهم الخفيفة التي لا تعيق من سرعة تحرّكهم كما هو الحال لدى الجيش المزوَّد بالآليّات والمدفعيّة الثّقيلة. يقول أندريا ص310 من كتابه: “موقف العصابات في معركة رشيدي أظهر تمامًا نواياها وخطّتها فهي بعد إدراكها الطّريق التي تسلكها الشاحنات والعربات. قرّرت (مجموعات الثوّار) فيما بينها مهاجمة الحملة في هذه النقطة على النّحو التالي: تهاجم المؤخّرة عصابة عزّ الدين الحلبي القادمة من الشّمال وتهاجم الميسرة عصابة سلطان الخارجة من غَوْر الصّفا، وتهاجم الميمنة عصابة رشيد طليع القادمة من الغرب. أمّا المقدمة فلم يكن لها شأن في الخطة..”.
رشيد طليع: الخبير في التكتيك الحربيّ
من خلال دراسة سيرة رشيد طليع؛ تتجلَّى لنا خبرته في التَّكتيك الحربيّ واضحة في توجيهه التَّالي الذي نَسْتَدِلُّ من سياقه أنَّه صدر عنه قبيل وصول حملة أندريا إلى الجبل، حيث يخاطب الثوّار قائلًا: “لي ملاحظة عسكريّة صغيرة ومُهِمَّة، أريد أن أبديها لكم وهي: إنَّكم تعلمون أنَّ انتصاركم على حملة ميشو وتشتيتكم إيّاها كان بفضل الهجوم الذي عَمِلْتُموه عليها وهي سائرة من الجناح، فالجيش السّائر إذا هوجم من الجناح أو من الخلف فينكسر لا محالة مهما كان قَوِيًّا، وفي وسْعكم مُهاجمة حملة أندريا التي يَنْوَوْن سَوْقها إلى الجبل من أحد أجنحتها من ورائها. إذا فعلتم ذلك فإنَّكم تُشَتِّتُونها كما شتَّتُّم حملة ميشو، وهي، أي حملة أندريا؛ لا تزيد عن عشَرة آلاف عسكري كلُّهم أنهكهم الحرب وأصبحوا جبناء وضعفاء وفلول لا يُؤْبَه بهم، فاجمعوا عليهم قواكم وانقضّوا عليهم كالأبطال كما هي عادتكم، فَتَرَوْن أنَّهم لا يقفون أمامكم أكثر من بضع ساعات وخصوصًا من ضربهم من الجناح، أو من الوراء، فتأخذونهم كلَّهم مع ذخائرهم ومعدَّاتهم، وتجعلونهم عبرة لمن اعتبر”(61). كما تبدو لنا خبرة الرَّجل جليَّة في مسألة اسستثمار طبيعة الأرض في تقييمه للحرب في اللَّجاة إذ يقول: “إنَّ مجموعة من ماية أو مايتين بواردي (أي: المقاتل حامل البارودة) مع زعيم كـ: شبيب القنطار (أحد أبطال الثورة آنذاك) تكفي المنطقة حَصانَةً ومنعةً في مواجهة أيَّة قوَّة عسكريّة من خارج، فلا داعي إذن لأنْ تبقى “قُوَّة عسكريَّة كبيرة (من الثُّوّار بعيدة عن ميدان المواجهة) في اللّجاة أثناء حملة أندريا”.
تجاهل أندريا في كتابه وفاة رشيد طليع!، ولكنَّ الرّجل دخل تاريخ الامَّة العربيَّة رغم تجاهل الفرنسييِّن له.
الوثائق التي حصل عليها الفرنسيُّون في خرج الحصان الذي قتل تحت سلطان في موقعة خربة الصَّوْخَر تخالف وجهة نظر الجنرال أندريا نفسه بتسميته الثورة “ثورة الدُّروز”، وتُثْبِتُ أنَّ الثَّورة السوريَّة الكُبرى التي كان رشيد طليع الاستقلاليّ العروبيّ واحداً من المخطّطين لها منذ عام 1920أيام نزل في بيت علي عبيد حينها، ومن المقاتلين في صفوفها فيما بعد؛ هي ليست ثورة درزيَّة محصورة في حدود الجبل، بل إنّ تلك الوثائق تبين زيف الفِرْيَةِ الفرنسيَّة التي تصوِّر الثّورة على أنَّها ثورة طائفة..
نعم كان رشيد طليع قائدًا مخلصًا لتلك الثَّورة التي خطَّط لها، وكان قد التحق بها على أثر نشوبها وتحقيقها النَّصر الساحق على الفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة، وبالتحاقه بها اكتسبت الثَّورة دعما ماليًّا وبُعْداً استراتيجيًّا، بانضمامه إليها وهو الرّجل الإداري والسياسي والخبير العسكري الذي يقاتل في صفوف الثّوار من أجل الاستقلال العربي وشعار “الدِّينُ لله والوطن للجميع” شعاراً للثورة السوريّة الكُبرى اعتمده سلطان باشا الأطرش قائد جيوش الثورة الوطنيَّة السوريّة العام” وهو الشعار الذي كان قاعدة حضاريّة للدَّولة العربيّة التي اغتالها الفرنسيُّون عام 1920، وهذه حقيقة يغفل عنها كثير من المؤرّخين! كلُّ ذلك جعل من تلك الثَّورة قَضيَّة من كانوا وطنيين ثوريين بذاتهم شأن رشيد طليع وعادل أرسلان وفؤاد سليم وعادل النَّكدي وغيرهم من رجال الثَّورة العربيّة، لذلك كان تواصلهم مع الثَّورة السوريّة الكبرى في ظروف نشأتها الأولى، وكان اندماجهم فيها بعد انطلاقها. وعلى هذا كان رشيد طليع وهو في مصر على صلة متواصلة بسلطان باشا قبل الثورة وبعد نشوبها.

جرح لم يندمل وإصابة في مَيْدان
القتال وشهادة نبيلة وأصداءٌ عربيّة
في أيامه الأخيرة كان رشيد طليع يقاتل مجاهدًا وقائدًا في سياق سلسلة معارك مُتتابعة على الحافّة الشرقيّة من المقرن الشرقي في الجبل، وتضاربت الأنباء في طبيعة السّبب الذي أودى بحياته؛ بين وفاته بمرض معوي أصابه فَجأة، أو بسبب انسداد في الأمعاء لم يتوفّر له مُسهل، أو بين وفاة على أثر رصاصة أصابته تركت جرحًا لم يندمل في كتفه على أثر معركة قيصما (قبل وفاته بنحو شهر) كما جاء على لسان المطران نيقولاوس قاضي مطران حوران وجبل الدروز (62)، يضاف إلى ذلك احتمال أن تكون وفاته نتيجة لتداعيات مرضيّه مُزْمنة ناجمة عن حالة صِحِيّة سيّئة كان يعاني منها، لكن ذلك لم يمنعه من الجهاد في سبيل حُرِّيّة أُمَّته واستقلال وطنه، يشير إلى ذلك الأمير شكيب أرسلان في تأبينه إيّاه (63).

سلطان باشا يؤبن الشَّهيد
في صباح يوم من أيام آخر العشر الأوائل من أيلول عام 1926 كانت حملة فرنسية يقودها الجنرال أندريا تقوم بجولة ترافقت بمعارك عنيفة في المقرن الشّرقي من الجبل كما سلف بيانه. مشت تلك الحملة إلى صلخد وعاد الثُّوّار إلى “بوسان”؛ فقضَوْا ليلتهم هناك ثم انتقلوا إلى “سالة”، وتوعّك رشيد باشا فنقلوه إلى قرية “اسْعَنَه” ومن ثمَّ اشتدّ مرضه فتركوه فيها ومعه عشرة رجال حملوه إلى قرية “الشّْبِكة” وتقدَّم الأمير عادل أرسلان إلى قرية “الشّريحي” ثم “الطّيبة” فبات الثوَّار فيها ثم ارتحلوا إلى قنوات، فباتوا فيها ليلة جمعوا فيها بعض الدَّراهم والذَّخيرة للإعانة وعادوا في اليوم التالي إلى مفعلة فباتوا فيها ليلة، وفاجأهم خبر وفاة رشيد طليع في تلك اللَّيلة فركب الأمير عادل بالخيالة إلى “الشّْبِكِي” (64).
وفي وفاة رشيد طليع أبَّنه سلطان باشا مُسْتَشْعِرًا فداحة الخسارة؛ يقول: “.. في أواخر أيلول عام 1926 فُجِعْنا بوفاة المجاهد الكبير والبطل المقدام، والإداريّ الحكيم رشيد طليع ببلدة الشّبكة إثر مرض معوي أصابه بصورة مفاجئة، ففقدنا بوفاته رُكناً من أركان الثَّورة ورجلًا من خِيْرَة رجالات العرب الأفذاذ” (65).
وأمّا في جبل الشُّوف قد كان لوفاته صدًى كبيرٌ، إذ أقيمت له مناحة كبرى اشتركت فيها وفود القرى والزُّعماء واقيمت له في جديدة الشّوف مَناحة مهيبة لا تقلُّ عن أختها في الجبل الدّرزي (ميدان قتاله)، وقد اشترك فيها لبنان”(66)، وحضر مأتمه الألوف المؤلَّفة من الدُّروز وسائر الطّوائف، وفي إمارة شرق الأردن حيث كان عبدالله قد أخذ طريقًا معاكسًا لجماعة حزب الاستقلال العربيِّ فقد أذاع مكتب الاستعلامات السّوريّ أنّه أقيمت للفقيد الكبير “في الأزرق (بلدة كانت درزيّة في شمال الأردن) حفلة تأبين كُبرى للفقيد العظيم المرحوم رشيد بك طليع لمناسبة مرور أسبوع على وفاته حضرها عدد من رجال الأمّة السوريّة، وأبّنه الزّعيم الكبير الدّكتور شهبندر تأبيناً مؤثِّراً وقد حضر الاحتفال الأمير حسن الأطرش أمير جبل الدُّروز وعبد الغفار باشا الأطرش واسماعيل بك الحريري زعيم حَوْران والدّكتور خالد بك الخطيب وجمهور كبير من خاصة أهل البلاد”(67).
أما في القاهرة فقد نعاه مكتب الاستعلامات السّوريّ ووصفه بأنّه “أوفى عُظَماءِ الأُمّة” وممَّا جاء في النَّعيّ: “فُجِعَت سورية بزعيم من أعظم زعماء الأمة وكبير من أوفى عظمائها إخلاصًا لوطنه وسعيًا في سبيل إنهاضه والذَّود عن حياضِه وتّحريره من أنياب الاستعمار؛ ذلكم الزَّعيم البار رشيد بك طليع العضو في مجلس النُّواب العثماني ووالي حلب ووزير الداخلية في حكومة سورية العربيّة ورئيس وزراء شرقي الأردنّ عام 1921، والفقيد من أعظم من أنجبتهم سوريّة عِلْمًا وَحَزمًا وإخلاصًا وسداد رأي، وقد امتاز بالكفاءة والحزم وسداد المحجّة فكان شخصًا ممتازًا في المناصب الكبيرة التي تقلَّدها في الدّولة العثمانيَّة، وفي الحكومة العربيّة بعدها؛ وافاه الأجل المحتوم في قرية الشّبيكة (الشّبِكِي) من قرى المقرن الشَّرقي بجبل الدُّروز يوم الاثنين في 20 سبتمبر أيلول 1926 إذ اشتد عليه مرضه عقب قفوله من انتصار حربي أحرزه برجاله المجاهدين على جيش العدوّ في معركة الرّشيدة؛ فختمَ حياته الجليلة بأعظم ما يدّخره العظماء للحياة الخالدة والذِّكر الحَسن”(68).
وفي فلسطين كانت حفلات التأبين استثنائيَّة في دلالاتها فمن صلاة الغائبين “على الشّهيد الكبير رشيد طليع وجميع الأبرار الذين ماتوا في سبيل الحريّة” (69). إلى حفلات تأبين مشتركة ما بين العرب واليهود وتحدِّيًا من قبل العمال العرب واليهود؛ وبتحديد أدقّ من قبل العمَّال الشيوعييِّن من الطَّرفين، وننقل هنا ما أوردته صحيفة لسان الحال عن جريدة الاتّحاد العربي التي تصدر بطولكرم في فلسطين تقول: “علمنا أنَّ عمّال اليهود الشّيوعييِّن في تل أبيب أقاموا مؤخَّراً حفلة تأبين للمرحوم رشيد بك طليع في نادي طبقة العمَّال حضرها أكثر من مايتي عامل يهودي وثمانين من العمال العرب وقد ألقيت الخطب بالعربيّة والألمانيّة، وعدّد الخطباء ما كان للمرحوم رشيد بك من المزايا العالية والجهود الثَّمينة في خدمة بلاده ومما قاله أحد الخطباء إنَّ رشيد بك لو كان حيّأً ورأى بعينيه عدم إضراب عرب فلسطين واهتمامهم بيوم وعد بلفور المشؤوم لكان تأثره شديداً من سوء الحالة التي وصلت إليها فلسطين بسبب تخاذل الزُّعماء وانحلال عزائمهم وتفرُّق كلمتهم (70). ويفصح لنا هذا التّكريم عن دور أغفلته مصادر المرحلة عن أفعال “فلسطينيَّة” لرشيد طليع ، ليس فيها من ” تخاذل زعماء الثلاينيَّات ولا من من انحلال عزيمتهم”. كما يُفصح عن مواقف سياسيّة واستنكار علاقات مع أطراف من غير عربها، ومع الشيوعييِّن من يهودها تخصيصًا، كان فيها استنكار وعد بلفور لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما يبدو من نَصِّ الاتّحاد العربي يدور سيَّاراً في سيرة رشيد طليع أقوالًا ومواقف (71).
وهكذا فإنَّ رشيد طليع كان من أولئك الوطنييِّن الرُّواد الذين لم يموتوا بالموت البيولوجي لأجسادهم، بل بقي مُلْهِمًا للنّضال اسمه ظل مُدَوّياً بعد موته وحاضرًا في المناسبات الوطنيَّة في فلسطين وغيرها من بلاد العرب، ففي حفلة أقيمت في 21/ 2 سنة 1930 من قبل فريق من شباب القدس في كُلِّيَّة روضة المعارف لمعتقلي يافا؛ يقول أكرم زعيتر: “.. كلّما امتلأ سِفْرُ التّضحية بحوادث التّضحيات الغاليات اقتربت هذه الأمة من موعد خلاصها، فأحمد مريود وعادل نكد ورشيد طليع وفؤاد سليم والخرّاط عناصر روحانية تُذكي نيران الإخلاص في نفوس الشّباب المجاهدين…” (72).
وفي نابلس في 8 ــ 3ــ 1931 أقيم احتفال بذكرى استقلال سوريّة عام 1920 وقد أَمَّته وفود قادمين من القدس ويافا وغزة واللِّد والرَّملة وطولكرم وجنين وعكّا والنّاصرة وصفد.
وفي 9ــ 7ـ عام 1933 في معرض للصِّناعات الفلسطينية والسُّوريّة واللبنانيّة والمصريّة والعراقيّة .. في هذا المعرض الذي”ازدانت جوانبه بأعلام الدُّول العربيَّة وبصور كبار شهدائها ولا سيَّما شهداء الثَّورة السوريَّة الكُبرى كرشيد طليع وأحمد مريود وفؤاد سليم…”
وبمناسبة يوم احتفال الشهداء في القدس في 13 /5/ 1935 وفي 11/ 9/1936 كان ذكر رشيد طليع حاضراً .
وفي حفل تكريم للمجاهدين السوريين وقد حضره رجال من الأردن وسورية وفلسطين كان الإشارة صريحة بالأسماء إلى رشيد طليع مع آخرين من شهداء تلك الفترة.
ولنبيه العظمة وهو أحد قادة الثوار الدمشقيين شهادة بليغة في موقع رشيد طليع بين رجال عصره الكبار، يقول نبيه العظمة مخاطبًا أكرم زعيتر:
ثلاثة أشخاص موتهم كارثة وطنيّة، فُجِعت بموتِهم فجيعة لا وصف لها، إنَّهم: عمي يوسف العظمة، ورشيد طليع وياسين الهاشمي” (73).

تركة الشهيد رشيد باشا طليع وتكريمه!
مات رشيد باشا طليع ، بل استشهد فقيرًا من المال ولكنَّه لم يزل غنيًّا ومُلْهِمًا في حضوره التاريخيّ والسياسيّ في مجتمعات ومضافات جبل العرب ومنتديات مثقّفيه، بل وفي ذاكرة مؤرِّخيّ الثّورة السوريّة الكبرى وأخصّ بالذّكر منهم الدكتور حسن أمين البعيني الذي لم يخلُ كتاب من كتبه العديدة التي تناول فيها تاريخ الثورة السورية الكبرى من ذكر منصف لرشيد باشا طليع.ويذكر المجاهد متعب الجباعي وهو من مرافقي رشيد طليع يقول: “قُمْنا نحن أهالي القرية نحفر قبرًا للشهيد، وأثناء ذلك سمعنا امرأة تصيح بأعلى صوتها والدَّمع ينهمر من عينيها قائلة بكلمات تتدحرج على شفتيها الرَّاجفتين: “يا قوم.. يا ناس..أرجوكم، أتوسّل إليكم، لا تُوَسِّدوا هذا الميت الثرى كبقيّة الأموات.. بل احفروا له كثيرًا ليدفن واقفًا.. لأنَّ سعود الثّورة مرتبطة بالقائد رشيد طليع، وأخشى إن نام رشيد أن تنام معه الثّورة”. وتبادل المشيّعون النَّظرات وأطاعوا تلك المرأة الغيور “ضياء سعيد”، ودفنوا الميت واقفًا وكانّه مازال حيًّا، وبعد أقل من شهر وصلت حملة فرنسيّة إلى قريتنا “الشّبِكِي” وكان لنا معها قتال وخسارة شهداء… وأوقعنا بالعساكر أفدح الخسائر وأخيراً استطاعت القوَّات دخول البلدة .. بدأ القائد الفرنسيّ حملة تفتيش عن البطل المجاهد “رشيد طليع” وقيل له: طليع مات.. طليع توفّاه الله.. طليع أصبح في الدَّار الآخرة.. ولم يصدّق القائد “الليوتنان زهران”. وأخيرًا جمع كلَّ الحاضرين من أهل البلدة.. حول القبر الذي أرشدوه إليه وبدأ السؤال لكلِّ أحد.. عن القبر، وما يضمُّ القبر. وأجاب الجميع: هذا قبر رشيد طليع..!
قال زهران: لا أُصدّق حتى تُقسموا لي بإلهكم ودينكم بأنّ هذا قبر طليع!. وانتخب أربعة رجال أقسموا بالله العظيم وبكلِّ المقدّسات بأنّ هذا القبر يضم جسد الشهيد رشيد طليع.. عندها أمر الليوتنان زهران عساكره أن يصطفّوا أمام القبر وأن يطلقوا النّار في الهواء إكرامًا للرَّاقد فيه، ثمّ أوعز بتقديم السلاح وأداء التّحيّة لواحد من قادة الثّورة السوريّة ذي الرأس المفكر والعقل المدبّر رشيد باشا طليع. وقال كلمة حق: “الآن انقصم ظهر الثورة”.
أمّا المال الذي كان بحوزته فهو ألفا ليرة ذهبية مصدرها تبرعات لدعم الثَّورة، وزّعت على المجاهدين بالتساوي، “نال كلٌّ منهم ذهبيّة ونصف” بالإضافة إلى تركته الشّخصية وهي خمسون ليرة ذهبية من ماله الخاص أوصى بتوزيعها بعد وفاته على الرّجال المقاتلين من آل الجباعي في قرية الشّبِكِي وفاءً منه لعنايتهم به أثناء مرضه.
أما معاناة أهالي الجبل وهم الحاضنة الاجتماعيّة لرشيد طليع؛ فقد استمرّت مدّة ثلاثة أرباع القرن ونيّف (ستّة وسبعين عاماً) من المطالبة حتّى تمت الموافقة على إقامة نصب تذكاري على مشارف قرية الشّْبِكي في جبل العرب تكريمًا له في السادس من أيّار؛ عيد الشهداء، عام 2001.
وخلاصة القول؛ فإنَّ رشيد طليع سيبقى حيًّا في ذاكرة المناضلين العروبييِّن ما دام للمجتمع العربي قضية حُرّيّة يناضل من أجلها.

المقاربة الرّوحيّة لمفهوم الأخلاق في نهج الأمير السيّد (ق)

سيـرةٌ أثـيلَة

عاشَ الأميرُ السيِّد جمال الدّين عبد الله التنوخي قَدَّس الله سرّه منذ بداية العقد الثالث إلى ما قبل منتصف العقد التاسع، في القرن التاسع للهجرة (820 – 884 ه) / (1417 – 1479 م) وفقاً لما ورد في مصادر سيرته التي كتبها بعد وفاته من عرفهُ ووعاه واستنار بلطائف فوائده الروحيَّة والتزم نهجه في التدبير الحكيم لأمور المسلك والتعليم والتهذيب الأخلاقي الذي هو قاعدة أساسيَّة من قواعد أصول العبادات والمعاملات في الدّين.

وَتَتطابقُ رواية الفصول الأساسيَّة في سيرته التي كتبها، كلّ وفق أسلوبه، ثلاثة من معاصريه، منهم اثنان من خواص تلاميذه وإخوانه هما الشيخ أبو علي مرعي، والشيخ أبو يوسف علم الدِّين سليمان بن حسيْن، والثالث هو حمزة ابن أحد التلاميذ المعلّمين الذي كان يُقرئ غالبية التلاميذ القرآن الشّريف (أي يعلِّمُهُم قواعدَ قراءته) كما جاء في كتاب “صِدق الأخبار”، وهو الفقيه شهاب الدّين أحمد بن صالح الشهير بابن سباط. وكان حمزة، ابنه، في رَيعان الشباب عند وفاة الأمير السيِّد.

وأمَّا ملامح تلك الفصول فهي التزام الأمير جمال الدّين المسلك وفق الأعراف الأثيلة، وظهور مآثره الاستثنائيَّة خلال شهر واحد أدرك فيه سنّ البلوغ، ومن ثمَّ طوافه في البلاد طلباً للفائدة والمذاكرة مع “الأجواد”، ثمَّ تَشَكُّل كوكبة من المريدين النابهين المتيقظين حوله حملوا معهُ أمانة النهوض بالوعي الرُّوحيّ من التباسات “عصر الانحطاط” (يُسمّيه د. أسد رستم في أحد بحوثه: العصور المظلمة، ويتحدَّث عن الدور التنويري الذي قام به الأميرُ السيّد في تلك الحقبة)، إلى منافذ الإنابة والاستبصار والسَّعي الحثيث علماً وعملًا نحو “القبول والترقّي والعروج إلى حدِّ الإنسانيَّة” حيث تكون ثمرة أفعال المرء “العقل والحِلم والسُّكون والرَّزانة والرُّجحان، والعفاف والصِّيانة والنَّظافة والطَّاعة والطَّهارة ومكارم الأخلاق” إلى ما ماثلها من فضائل راقية سامية.

وتتعرَّض مصادر السيرة إلى ما واجهه من “مضادَدة” من العديد الذي “لم يفهم مبناه”، الأمر الذي أدَّى في ظروف معيَّنة إلى مغادرته “منطقة الغرب” إلى دمشق، حيث مكث فيها ما يناهزُ اثني عشر عاماً حتَّى تبدَّت للخَلق كراماته برزانة العقل وثاقب البصيرة وتوقّد القريحة وسموّ المسلك واتّساع فسحة المعرفة إلى آفاق لا تفي “بشرح معانيها الطّروس”. ومن ثمَّ عودته إلى بلدته، وانصرافه، بعد وفاة ولده الذي بلغ درجة العالِم في مستهلّ شبابه، إلى توضيح دقائق المعاني ولطائف مكنوناتها ممَّا يُحيي القلوب ويهذّب النفوس ويهيِّـــئُها إلى امتثال “مراسم الحقّ” كما هو لائق بكلِّ عاقِل.

والمرجَّح أنَّ السببَ المباشَر لعودته من دمشق إلى جبل لبنان بعد غيابٍ مديد هو وقعُ الرِّسالة الخطيرة التي كتبها “إلى جماعة البلدان وهو قاطن بمدينة الشام” (الاقتباسات من مجموع “مكاتبات الأمير السيِّد”)، ونبَّه فيها إلى عدم جواز بقائها في أيديهم، وقصْده من ذلك أن يُصار إلى قراءتها “في جميع البلدان”، كما أنَّه أنذر الكلّ بانَّه لم يبقَ عنده “مراجعة ولا كتاب، وهذه الصَّحيفة آخر القول والخطاب، ونهاية اللوْم والعتاب، إلَّا أن يكونَ الجوابُ حُسنَ المآب، والرّجوع إلى الحقِّ والصَّواب”. .

الكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها

تضمَّن الكتابُ “تعتُّب وتعنيف وحثّ لجميع الإخوان”، وتبدَّى في ثنايا سطوره الكثيرُ من الإشارات الواضحة الدالَّة على التقصير والتأخير “عن عنوان منازل السَّابقين”، وعلى القعود كلالًا (أي تعباً وضعفاً) وتخلُّفاً “عمَّا انتهَت إليه عزائمُ المجتهدين اللاحقين”، وذلك يُردُّ لأسبابٍ منها النزوع إلى “طلب الجاه، وحبّ الرئاسة وكثرة الأعوان، والمبالغة في إقامة الحُرمة والناموس إلى أبعد غاية وأقصى مكان” (مصطلح “الناموس” في المأثور الرُّوحيّ الذي نهل منهُ الأميرُ السيِّد بات يعني الانكباب على عمل الظاهر والاطمئنان إليه من دون اكتراث بتعلّق القلب وأهواء النفس المتلاطمة بزخاريف العالم الدنيويّ). تلك المنازع هي كلّها “مصارع” لأهل الزمان، مؤدية إلى سلبهم الدّين والدّنيا، وهدم المنزلة، وخسارة السّعي. ومن استبصر “ما هو كائن من أحوال المعاملات” لوجد في ذاته القناعة والغنى لوقوفه في مقام الاعتبار واستشعار النَّصيحة.
قاعدةُ السَّعادة

أراد الأميرُ السيِّدُ أن يكونَ في رسالته فصل الخطاب مع كلّ الّذين لم يستشعروا في مساره الروحي، ومقاربته الإصلاحيَّة البالغة العُمق، سوى مقابلتها كعادتهم “بشخص السماع”، ومعاملة لطائف المعاني بما في مادّتهم “من كثيف الطّباع”، وجعلها “سنْحاً لا على سبيل الانتفاع، وصفحاً عن العقول بخلاف الاعتراف والخضوع والارتجاع”. أراد، بما أضاء به جَنانَه من نور المعرفة، وبما حقـقه في نفسه العاقلة من ثمار التحقّق، “بذلَ النَّصيحة وإنهاج طرُق الرَّشاد” لئلَّا يقولوا “ما جاءنا مُنبِّهٌ ولا واعظٌ، ولا رأينا في الزمان مشمِّراً ولا ناهضاً”، بل هي “حُجَّة لله” عليهم.

هكذا، تبلْوَرَ في كتابه هذا، وأيضاً في كتابه إلى الشيخ أبي عبد القادر زين الدِّين ريَّان “الّذي فرَّغ قلبَهُ لتحصيل ما يوجب الفوز العظيم(1)”، الكثير من “اللُّـمَع” الروحيَّة البليغة الواردة في مقام النُّصْح والتعليم، والتي من شأنها إيضاح المقاربة الرُّوحيَّة لمفهوم الأخلاق من حيث هو، من كلِّ وجوهه المعرفيَّة والمسلكيَّة، شرطٌ أساسيّ وضروريّ لصحَّة “الدّيانة” ولتحقق “حدّ الإنسانيَّة” الآنف الذِّكر.

تشتدُّ لهجةُ الأمير السيِّد حين يعدِّد بعضَ الآفات التي من شأنها أن تُـقْعِد “عن سلوك الطريق الواضح” وهي: “موتُ القرائح، والكسل الفاضح، وعدم القبول من الناصح، والتعامي عن الذّنوب، والرّخصة في اتّباع الحقّ المطلوب”. فأمَّا القريحةُ، عدا عن كونها مَلَكَة تُمكِّنُ من استنباطِ العِلم، فإنَّها تدلّ أيضاً على “ما خرجَ من طبيعة الإنسان من غير تكلُّف”، وعليه، يكونُ موتُها سبباً لغلبة التكلُّف والتصنُّع والبلادة وركود الذّهن على حركة التصرُّفات والأعمال.

والكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، في هذا السياق، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها لحقائق الأمور، وإلَّا صارت “عَرَضاً لأسباب البلاء… متورِّطة في مهاوي الحَيْرة والعمَى… كلَّما أيقظها المُنذرون تناعست… وكلَّما شافهتها الأنوار أظلمت…”

إنَّ العجزَ عن “درْك العبارة والتكييف” هو بلْوى تُصيبُ النّفس فتأبى “أنْ تَـتَّحِدَ بالعنصر الكريم الشَّريف”، و”درْك العِبارة” هو إدراك معناها بالعقل وفهمه، ومن ثمَّ “تكييف” السلوك على ما تقتضيه مقاصد المعنى، أي مواءمة النَّفس مع تلك المقاصد بإحداث التغيير في الأعمال ظاهراً وباطناً فيما يؤدِّي إلى حالة الانسجام مع غاياتها الشَّريفة، ويؤكِّدُ الأميرُ السيِّد بأنَّ العجزَ عن بلوغ ذلك، وإهمال مكابدته سعياً إلى تحقيقه، يولِّدُ في النَّفس حتماً نوازع النفور والامتعاض والامتناع بل والعجز عن الاتّحاد “بالعنصر الكريم الشَّريف”، وهو معنى قوله: “أبَتْ نفوسُكُم”.

إنَّ “تـنقية النّفس وتصفيتها بعون الله سبحانه” هي الشَّرط الحتميّ لـ “اتّصالها بباريها واتّحادها بأنوار عظمته، وكمال التذاذها بجماله وجلاله… وهذا هو الدِّين الصَّحيح”(2) ويُسمِّي الأمير السيِّد هذا “الاتِّحاد” بصريح العبارةِ: “عَوْدُها إلى مشاهدة باريها” مؤكِّداً أنَّ “قاعدة السعادة في الدّنيا والدِّين أنَّ العبدَ يستشعرَ وجود حضور خالقه في سرِّه وطَوِيَّته… ولا ينطبع في جوهر العبْد مشاهدة الخلَّاق إلَّا بعد تهذيب الأخلاق…”

مقام الإحسان

ولا بُدَّ من توضيح مفهومَي “الاتِّحاد” و “المشاهدة” على قاعدة السَّنَد الشَّرعيّ السليم للحؤول دون الانزلاق في متاهة التباسات المعنى.
وردَ الحديثُ الشَّريف المشهُور المتعلِّق بمراتب الإسلام والإيمان والإحسان في كتُب السّـنَّة عن جماعة من أصحاب رسول الله (ص)، وأخرجهُ أئمَّة الحديث، واعتُبر في غاية الأهميَّة حيث ينتهي بتوضيح الرَّسول (ص) لهويَّة السائل عن تلك المراتب، وكان رجلًا “شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر لا يُرى عليه أثرُ السَّفَر ولا يعرفُه منَّا أحد” قال: “فإنَّه جبريلُ أتاكُم يعلِّمكُم دينكم”(3) .

ما يهمّ هنا على وجه الخصُوص، الجزءُ من الحديث في سؤال السائل لرسول الله (ص): “فأخبرني عن الإحسان. قال: أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراك”(4)
ويشرح الشيخ الحَكمي في “معارج القبول…” ما سمَّاهُ “مرتبة الإحسان، مستهلَّا الفصل بهذين البيتيْن:
وثالـــثٌ مــرتبــــــة ُ الإحســــــــــانِ وتلكَ أعلاها لدى الرَّحمنِ
وهي رسوخُ القلبِ في العرفانِ حتَّى يكون الغيبُ كالعِيانِ

ويقولُ موضحاً: ” وهي أعلى مراتب الدِّين، وأعظمها خطراً، وأهلها هُم المستكملُون لها، السابقون بالخيْرات، المقرَّبُون في علوّ الدرَجات… والإحسانُ هو تحسينُ الظاهر والباطن… ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(5).
ويلزمُ المرءُ أن يحقِّقَ “مقام الإخلاص” في تهذيب النفس، واتّباع مكارم الأخلاق، وبذل الهمَّة في السَّعي علماً وعملًا بصفاء نيَّة ونقاء قلب كي يصلَ إلى المقام الأعلى في الإحسان أي “المشاهدة”(6). “وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته اللهَ عزَّ وجلَّ بقلبِه، وهو أن يتــنوَّر القلبُ بالإيمان، وتنفذ البصيرةُ في العِرفان حتَّى يصيرَ الغيْبُ كالعِيان”(7)، وهذا كلّه لا يخرج عن معاني الحديث الشّريف: “… وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِل حتى أحِبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ بِه، وبصرَهُ الذي يبصر به… وإن سألني لأعطينَّه، ولئن عاذ بي لأعيذنَّه…”(8) وقد جاء في القرآن الكريم ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(9).

يقومُ العملُ على «تطهير القلب من الخبث والخيانة» مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ

تهذيبُ الأخلاق

تبيَّن أنَّ المدخلَ الحتميّ لتحقيق “قاعدة السَّعادة في الدّنيا والدِّين” هو “تهذيبُ الأخلاق”، والسَّعادة هنا متعلّقة بكمال “الجوهر الأنسيّ”، لا بالوهْم الَّذي يولِّدُه الانهماكُ في طلبِ اللذَّة الآنيَّة العابرة.
والتَّهذيبُ هو التنقية والإخلاص والإصلاح، ذلك أنَّ ما يشوبُ النَّــفس من عُيوب ونزوع إلى الهوى وإباحة الأشياء، هو من الأمور المؤذية، بل المُميتة، في المدى البعيد، لفطرتِها المولودة بالخيْر، وقد وُصِفت في القرآن الكريم بأنَّها “أمَّارة بالسُّوء”(10)، وتتضمَّن سورة الشَّمس فيه قسَماً يتلوهُ بيانٌ في قوله عزَّ وجلّ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، “فبيَّنَ لها طريقَ الشَّرّ وطريقَ الخيْرِ، قد فاز مَن طهَّرها ونمَّاها بالخيْر، وقد خسر مَن أخفى نفسَه في المعاصي”.

إنَّ الرّسالتيْن المميَّزتيْن للأميرِ السيِّد المذكورتيْن آنفاً، فائضتان بالتَّعبير عن نهجِ روحيّ ذي مستوى راق في المعرفة، حيث أنَّ مسألة “التهذيب” تشكِّل مُرتكزه ولبَّ مُحاجَّته وصولًا إلى الغاية الشَّريفة التي توخَّاها من كلِّ ما قام به في سيرتِه المعروفة، وتكثر “المدارج” المُفعَمة بالدلالات داخل نصَّيْهما والتي من شأنها الإضاءة بقوَّة على ما يتوجَّب التنبُّه إليه في أغوار النّـفس ودواخلها من دقائق الأسرار ولطائفها، ومن تناقُض الطّباع وانفعالاتها والتباسات نوازعها في الكثير من الأحوال. ومن هذه المدارج، فضْلًا عمَّا جرى اقتباسه أعلاه، ذِكْرُ ما قيل إنَّ “المفتاح كلمة التوحيد”(11)، ولا يُفتَح به إلَّا بعد “تطهير القلب من الخُبث والخيانة، وتطهير اللسانِ منَ الكذب والنَّميمة، وتطهير البطن من الحرام والشّبهة، وتطهير العمَل من الرِّياء والبدعة”(12).

فالقلب “خزانة كلّ جوهر نفيس”، وهو موضع نظر ربّ العالمين كما جاء في الحديث الشريف: “وإنَّما ينظر إلى قلوبكم”، وفيه لطائف أثر العقل والبصيرة والنيَّة ومدارك العلوم والحِكَم(13)، ولكن ثمَّة آثار ملوِّثة فيه تُسبِّبها الآفات الظاهرة والباطنة التي من شأنها أن تحجبَ عن مرآته إمكان استجلاء الحقيقة واستبصار السُّبُل إليها بالمعرفة والتحقق، لهذا سُمِّيت في المأثور المعتمَد “آفـات مُهلِكة”، وهي بالنتيجة “أخباث” مُضادَّة لـ “الطيِّـبات” وفقاً لِما ورد في القرآن الكريم ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾(14)، وظاهرُ الخبيث الأفعال المذمومة، والموبقات الشائنة، وباطنُه الطّباع المفترِسة لأثر العقل، والعقائد الفاسدة وكلّ ما يُضادِدُ الخيْر، ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(15). بطبيعة الحال، فإنَّ استسلامَ “القلب” لطغيان الخبائث هو “خيانة” للفطرة الإنسانيَّة في أصل التكوين، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾(16)، بذلك، يقومُ العملُ على “تطهير القلب من الخبث والخيانة” مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ، وهو عملٌ لا يغفل الباتّة عن حركةِ الدَّاخِل مهما كان الالتزام بادياً في حركة الظاهر، لأنَّ ما يعوَّلُ عليْه هو نقاء القلب كما جزمت به الآية الكريمة ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.(17)

وفي نقده الحادّ لواقع الحال الرُّوحي لكثيرين من أهل عصره الَّذين التبست في دواخلهم معايير القيَم ولم ينسلخوا “مِن حُلَّة الكثائف”، يصفُ الأميرُ السيِّد قلوبَهُم بأنَّها “حواصلُ المذق والرّيا والنّفاق”، أي إنَّ ما بقي فيها وثبت وذهَب ما سواه هو “المِذْق” أي المزج والخلط وعدم الإخلاص في الودّ، وأمَّا الرِّياء فأصلُه “طلب المنزلة في قلوب النَّاس يُرائيهم خصال الخيْر”(18)، وفي الحديث الشريف: “إنَّ أخْوف ما أخافُ عليْكُم الرِّياء والشَّهوة الخفيَّة”، فكأنَّهُ يرائي الناس بتركه المعاصي، والشَّهوة لها في قلبه مُخفاة(19). وأمَّا النّفاق فقد أتى تحديد معناه في “شرح الخصال”: “هو مخالفة الظاهر للباطن بالقوْل أو الفعْل، وكلُّ من طلبَ المنزلةَ في قلوب النَّاس فيضطرّ إلى النِّفاق معهُم، والتظاهر بخصال حميدة هو خالٍ عنها، وذلك عينُ النفاق”.

هكذا، وبالوتيرة ذاتها، يُمكن متابعة ما تقتضيه الأمور في تطهير اللسان، الذي هو “أشدّ الأعضاء جماحاً وطغيانا، وأكثرها فساداً وعدواناً…”، من آفة الكذب المدمِّرة لأساس الأخلاق، ومن آفة النّميمة التي هي “معصية… توغر الصدور وتفتح الشرور وتوصل إلى عظائم الأمور(20)”, وتطهير البطن من الحرام المؤدّي إلى عصيان الجوارح، وتطهير العمل من كافَّة أشكال الزّينة الباطنة، والنزوع في أهواء الرأي والقياس إلى ما ينأى عن الصِّحَّة في الأقوال والأفعال ومكنون الضمائر.

ينبوعُ الأخلاق

وفق هذا النَّهج، أي البحث عن ينبوع المفاهيم الأخلاقيَّة داخل الحقل المتحرِّك أبداً في أغوار النَّفس البشريَّة، والمُـعَرَّض بالقوَّة (أي بالإمكان) إلى عواصف المضاددة والأهـواء، يمضي الأميرُ السيِّدُ في مُحاجَّته لذوي الالتباس والشّبهات(21)، مُوضِحاً، على غايةٍ من العُمق والإبلاج والبيان، سُبُل المسالك الناجعة في “تهذيب الأخلاق” من حيث هي السَّمْتُ القويم لتحقيق الغاية التي بها يلاقي الإنسان حقيقة معناه.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

العدد 23