كلمة سماحة شيخ العقل في إفطار دار الطائفة 4-4-2024
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيِّد المرسَلين وعلى آله وصَحبه الطيِّبين وعلى أنبياءِ الله الطاهرين أجمعين،
دولةَ رئيس مجلس الوزراء، ممثِّلَ دولةِ رئيس مجلس النوَّاب، سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية أخي الشيخ عبد اللطيف دريان، أصحابَ السماحة والغبطة رؤساءَ الطوائف الروحيين وممثليهم المحترمين، أصحابَ الفخامة والدولة والمعالي والسعادة الوزراءَ والنوَّابَ والسفراءَ والقادةَ والمدراء، أصحابَ الفضيلةِ والسيادةِ القضاةَ والشيوخَ والآباء، الأصدقاءُ الأعزَّاء، أصحابَ الأيادي البيضاء،
أيُّها الضيوفُ الكرام،
يُسعدُنا، باسم مشيخة العقل والمجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدروز، وباسم أصحاب الدار، أن نستضيفَكم في حضرة شهرِ رمضانَ المبارَك، قادةً روحيين ورسميين وقاماتٍ وطنيةً ونُخَباً اجتماعية، مُجتمعين بين فُصحٍ وفِطرٍ، على اختلاف مذاهبِنا وتنوُّعِ مظاهرِنا، إخوةً في الوطنية وفي الإنسانية، وإخوةً في القيم الأخلاقيةِ والثقافيةِ والتاريخية وفي العلاقاتِ الإجتماعيةِ والعملية، وإخوةً في الإيمان، لقوله تعالى: «إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة».
هذه المناسبةُ الدينيةُ الإجتماعيةُ بامتياز، أردناها، وبالتنسيق معَ القائدِ المفضال وليد بك جنبلاط، لقاءً وطنيَّا وروحيّا جامعًا، على صورة هذه الدار وأهلِها، التي ما كانت يومًا، ولا كانوا، إلّا صلةَ الوصل لا الفصل، وعنوانَ الجَمع لا المَنع، دارَ المعروف وبني معروف، وصرحَ المحبةِ والرحمةِ والأخوَّة، التي لا تستقيمُ حياةٌ إلَّا بتلازمِها معًا ولا يقومُ بناءٌ وطنيٌّ واجتماعيٌّ إلّا بها، كثلاثيّةٍ مقدَّسة: المحبةِ المسيحية والرحمةِ الإسلامية والأخوَّةِ التوحيديةِ الإنسانية، وتلك هي ركائزُ الهرَمِ الأعلى وقواعدُ البناء الأمتنِ الأقوى.
أيُّها الإخوةُ والأحبّة،
نُرحِّبُ بكم أجملَ ترحيبٍ في ليلةٍ من ليالي هذا الشهرِ الفضيل، الذي قال عنه الرسول (ص): «شهرٌ هو عندَ الله أفضلُ الشّهور، عملُكم فيه مقبول، ودعاؤُكم فيه مُستجاب»، كيف لا؟ ونحن نعيشُ أجواءَ ليلة القَدرِ المبارَكة، والتي هي خيرٌ من ألفِ شهر، «سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ»، معاً نُصلِّي ومعاً ندعو، دُعاءً مُستجابًا بحَولِ الله وقوَّتِه، على أملِ أن نُطهِّرَ ذواتِنا من العناد، ودولتَنا من الفساد، ووطنَنا من الأعداء، وأن تُصانَ الأرواحُ والأرضُ والحقوق، وتُحفَظَ الكرامةُ ويَعُمَّ السلامُ في منطقتِنا العربيةِ المشرقية.
صحيحٌ، أيُّها الإخوة، أنَّ المشهدَ مأساويٌّ، ولونَ الحياة يكادُ يُصبحُ بلون الدماء والدمار، وقادةَ العدوِّ الغاشمِ إلى مزيدٍ من الجنون والإجرام، وكأنّ لغةَ العقلِ في إجازة، والزمانَ إلى نهاية، والعالَمَ إلى زوال، لكنَّ الحقيقةَ غيرُ ذلك، فالحقُّ موجود والأملُ معقودٌ على أهل العقلِ والحكمةِ وعلى دُعاةِ السلام في كلِّ مكانٍ وزمان، والمسؤوليةُ، وإن كانت مُلقاةً بالدرجة الأُولى على الدول الكُبرى صانعةِ القرار، إلَّا أنَّ كلَّ دولةٍ من دُولِنا مَعنيَّةٌ بصيانة شعبِها ومعالجةِ أوضاعِها وحمايةِ كَيانِها، وكلَّ أُمَّةٍ جديرةٌ بصَوغِ وحدتها وصَونِ ثقافتِها ووجودِها، ولا يجوزُ لأيٍّ منّا أن يتخلّى عن مسؤوليتِه، كبُرَ مقامُه أم صغُر، فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيّتِه، كما قال الرسولُ (ص).
فلْنعملْ معًا بمسؤولية، وبروح ركَّاب السفينة، وسفينتُنا الوطنيةُ واحدة، معًا نغرقُ إذا ما تصارعْنا وتفرّقنا، ومعًا ننجو إذا ما تعاونّا وتطلّعنا إلى الأمام، وإنْ كان القبطانُ مغيَّبٌاً منذ سنةٍ ونيِّف، فهذا أمرٌ غيرُ مُطَمئن، إلَّا أننا جميعًا معنيُّون بسلامةِ السفينة ومسؤولون عن ركَّابِها، أوَّلاً بأوَّل، تربيةً وثقافةً وعملاً منتِجاً وتشريعاً وانتخاباً وإدارةً وتنفيذاً، في مهماتٍ متنوِّعةً، لكنَّها متكاملة، تحتضنُ قضيَّةً واحدة، هي قضيّةُ لبنانَ الوطنِ الرسالة، وذلك هو مضمونُ الشراكةِ والرعاية، وتلك هي سُنَّةُ الحياة الوطنيّة، وهذا هو سبيلُ الخلاص.
أيُّها الأحبَّةُ، أيُّها الأعزّاء،
أَجدُها مناسبةً للتعبير عمَّا يجولُ في خواطرِنا، كقادةٍ روحيين، ولا أظنُّ أحداً منَّا يعارضُ أحدًا، وإنْ كُنّا لم نُفلِحْ حتى الآنَ في عقد قِمَّةٍ روحيَّةٍ منتظَرةٍ بسبب تسارُعِ المستجِدّات، لكنَّها قائمةٌ باستمرارٍ في ما بينَنا، وما زِلنا نُشرِّعُ الأبوابَ لها ولأيِّ لقاءٍ جامعٍ يُترجِمُ حقيقةَ وحدتِنا الروحيةِ والإجتماعيةِ والوطنية ومضمونَ رسالتِنا الأخلاقيةِ والإنسانية، وقد آلينا على أنفسِنا في لقاءاتِنا الثنائيةِ التي عقدناها أن نعملَ معًا لتمتينِ روابطِ العيشِ الواحدِ في ما بينَ عائلاتِنا الروحية، ولتهيئة المُناخاتِ الإيجابية في البلاد وفتح الطريق أمامَ المسؤولينَ للتلاقي الفعَّال والتعاون الصادق من أجل إنقاذ الوطن والنهوض بالدولة.
إننا نَحمَدُ الخالقَ عزَّ وجَلّ على نعمةِ الإيمانِ التي تجمعُنا، وعلى المعاني العميقة التي تتضمّنُها حقيقةُ كونِنا أبناءَ هذا الوطنِ الحضاريِّ الجامعِ وهذا النموذجِ الأرقى للتنوّع في الوحدة، والذي له حقٌّ علينا بأن نفَهمَه بعمقٍ وأن نُحسِنَ إدارتَه والاستفادةَ منه، وأن نَرفضَ الأصواتَ المناديةَ بأيّةِ صيغةٍ من صيَغِ التقسيم والتشرذم المناطقي أو الطائفي، وأن نتحمّلَ مسؤوليةَ الحفاظِ على ميثاقِه وعلى رسالتِه الإنسانيةِ الراقية وعلى وجودِه.
لقد طالبْنا مراراً باحترام الدُّستور والإسراعِ في عمليات الانتخاب والتعيين وفقَ الأصولِ الدُستورية، وبأكبرِ قَدرٍ مُمكنٍ من التفاهمِ والإتفاق، صونًا للدولةِ من التفكُّكِ القاتلِ، وحمايةً للمؤسَّساتِ من الشلَلِ الكُلِّي، رافضين التسويفَ والإنتظارَ ووضعَ الفيتواتِ الداخلية والإستسلامَ للتسوياتِ الآنيّة، التي وإن كانت جميلةً أحيانًا، إلّا أنَّها غالباً ما تكونُ محكومةً لا تُنتج سوى حلولٍ ضعيفةٍ ومسؤولينَ محكومين، وقد بات التفكُّكُ الداخلي مدعاةً للتوغُّل الخارجي، وكأنَّ لبنانَ أضحى عدوَّ نفسِه؛ فالخارجُ، وإن كان مهتّمًّا بنا عبرَ لجنةٍ خماسية أو اتصالاتٍ فرديّة أو مبادراتٍ ثنائيةٍ أو ثلاثيّة، لكنْ لا يتوهمنَّ أحدٌ أنّنا في رأسِ قائمةِ اهتماماتِه لكي ننامَ على حرير الوعودِ والإنتظارات والأوهام، وكأنّنا لسنا المعنيين بإنتاج الحلول وإنقاذ الوطن.
لقد طالبنا ونطالبُ المسؤولين، وكلٌّ من مكانِه وعلى قَدرِ مكانتِه، وبالرَّغم من الفراغ المؤلمِ في سُدّة الرئاسةِ الأُولى، طالبنا بضرورة الإهتمامِ بالوضع المعيشي والإجتماعي باعتباره أولوية، والمبادرَةِ إلى استنباطِ الحلول المُمكنة للتخفيفِ من مُعاناة اللبنانيين والحدِّ من هُجرة الأدمغة والطاقات، شاكرينَ المجلسَ والحكومةَ على بعض الإنجازاتِ الضرورية التي حالتْ دون تمكُّنِ اليأس منَ الشعب، وهذا هو الحدُّ الأدنى المطلوب، وربَّما هذا هو الحدُّ الأقصى المُمكنُ في ظلِّ هذه الحالةِ غيرِ الطبيعيةِ التي تعيشُها البلاد.
ولقد نبَّهنا، كما نبَّه سوانا، إلى جملةِ مخاطرَ وتحدّيات، لعلَّ النزوحَ السوريَّ في طليعتِها، بما يتبعُه من تفلُّتِ الحدود وعملياتِ التهريب، وهو ما يستدعي توحيدَ الرؤية حولَ كيفيةِ التعاطي معَ النازحينَ واللاجئين بما يَكفلُ سلامةَ لبنانَ أولاً من الإنعكاسات السلبية، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا وسياسيًّا، وما يَحفظُ كرامةَ النازحينَ واللاجئينَ وأمنَهم المُرتجى وعيشَهم المقبولَ من جهةٍ ثانية.
كما نبَّهنا، وما زلنا نُنبِّهُ إلى خطورة استقواءِ أيِّ مجموعةٍ وطنيةٍ على أُخرى مهما كانت الدوافعُ والمبرِّرات، فلبنانُ لا يُبنى إلَّا على قاعدةٍ أخلاقيّةٍ ذهبيّةٍ ثابتة، تقضي بأن تُحافظَ كلُّ عائلةٍ روحيةٍ على شريكتِها في الوطن، لا على نفسِها فحسب، وهذا ما يتطلَّبُ العملَ لتعزيز ثقافةِ المواطَنة كبديلٍ عن أيةِ ثقافةٍ فئويّة، بالإضافةِ الى تعزيز ثقافة الإنتماء الوطنيّ وثقافةِ الدّفاع عن النفس والتصدّي لأيِّ اعتداءٍ على الوطن، انطلاقًا من وحدةٍ داخليةٍ مُحصَّنةٍ بجيشٍ قويٍّ وإرادةٍ شعبيَّةٍ متماسِكة تشكِّلُ جميعُها قوَّةَ ردعٍ لمَن يحاولُ استباحةَ الكَيان، ولا تُغرِقُ الوطنَ في مغامراتٍ غيرِ محسوبة ومنازعاتٍ داخليةٍ وأزماتٍ لا طاقةَ له على تَحمُّلِها.
ولقد أكّدنا، على صعيدٍ آخرَ، على ضرورة الإعتماد على النفس، وتحفيزِ اللبنانيين الميسورين والمغتربين ورجالِ الأعمالِ المقتدرين، للإستثمار في لبنانَ والمشاركة في رفعِ نسبة الإنتاج المحلّي والإكتفاءِ الذاتي، بالإضافة إلى أهميّةِ استثمارِ أراضي الأوقاف التابعةِ للطوائف بما يُحقِّقُ الغايةَ منها ويؤكِّدُ الواجبَ الدينيَّ تجاهَها، وبما يساعدُ في تأمين فُرَصِ العملِ للشبابِ اللبناني والمساهمة في عملية النهوض الإقتصادي.
كما دَعونا معًا إلى التصدّي لخطرٍ لا يقلُّ شأنًا عن أيِّ خطرٍ سياسيٍّ أو أمنيٍّ أو اقتصادي، وهو خطرُ التفلُّتِ الأخلاقي وانتشارِ ثقافةِ هدمِ الأصول، وهو ما يتعارضُ معَ ثقافتِنا وتقاليدِنا الشريفة، فشدَّدْنا معَ إخوانِنا الرؤساءِ الروحيين على أهميّةِ احتضانِ المبادرات التربويةِ والثقافية والإجتماعية التي تهدفُ إلى صونِ الأسرة والقيم، وهذا ما بدأناه معَ وزارةِ الثقافةِ مشكورةً، وما نُصِرُّ عليه معَ وزارة التربية ومؤسساتِ المجتمعِ الأهلي.
دولةَ الرئيس، أصحابَ السماحة والغبطة، أيُّها الكرام،
لقد اعتدْنا وإيَّاكم أن ندعوَ إلى اعتمادِ الحكمةِ والشُّورى في اتّخاذِ القرارات الوطنية، وفي التعاطي معَ القضايا المرتبطةِ بالنزاعات الإقليمية، بما يكفَلُ عدمَ فصلِ لبنانَ عن محيطِه العربيّ وعن قضايا الأمّة، وعدمَ انحيازه إلى محاورَ متنازِعةٍ تُعرّضُه لحروبٍ ومواجهاتٍ مدمِّرة، وقد رفعنا منذ البدايةِ شعارَنا القائلَ بـ «الحِيادِ عن كلِّ ما يُفرِّقُ والإنحيازِ إلى كلِّ ما يَجمعُ»، على أملِ تطبيق اتّفاق الطائف بأكمله، وتأسيس مجلسِ الشيوخ الذي يتولّى هذه المهمّةَ دُستوريًّا، راجينَ أن يكونَ صمودُ الجنوبِ وألمُ الجنوبيين ودمُ الشهداءِ الميامين حافزًا لنا للتيقُّظِ والتفاهم وصيانةِ الدولة، وأن يكونَ وجَعُ الناس المعيشي دافعًا لنا لتبنّي المبادراتِ الواقعيّةِ والمعالجات الجَديّة.
أخيرًا، وليس آخرًا، فإننا نُكرِّرُ تضامنَنا معَ غزَّةَ المظلومة، وإدانتَنا للعدوانِ الإسرائيليِّ الهمجيّ على الشعب العربيِّ الفلسطيني واستباحةِ أرضِه واغتصابِ حقوقِه وانتهاكِ كرامتِه وممتلكاتِه ودماءِ أطفالِه ونسائه وشيوخِه، كما نَدينُ الإعتداءاتِ السافرةَ المتكرِّرةَ على جَنوب لبنانَ وعلى الشعب اللبنانيِّ وعلى قواتِ «اليونيفيل» مؤخَّراً، ونُحمِّلُ المسؤوليةَ للمجتمعِ الدولي وللدولِ صاحبةِ القرار بالعملِ لوقفِ هذه الإعتداءات والقفزِ فوقَ القراراتِ الأُمميةِ والمواثيقِ الدوليةِ المتعلقةِ بحقوق الإنسانِ والشعوب، مُطالبينَ بردعِ العُدوانِ وقَطعِ سُبُلِ دعمِه، وإيجادِ الحلول النهائيةِ العادلة للقضية الفلسطينية، لتكونَ للفلسطينين دولتُهم الموحَّدةُ والمستقلّةُ والكاملةُ السيادة.
إخواني، أيُّها الأفاضل،
تلك هي بعضُ أفكارٍ ومواقفُ واقعيةٌ نتلاقى جميعُنا على مضمونِها، إذ هي بمحلِّ ما كان يتوجَّبُ علينا إصدارُه في أيِّ لقاءٍ أو قِمَّةٍ روحيةٍ مُحتمَلة، وها قد تلاقى شهرُ الصَّومِ الإسلاميِّ والفطرُ السعيدُ بزمنِ الصومِ المسيحيِّ والفصحِ المجيد، وكأنَّ هذا التلاقي يحثُّنا على فطرٍ دستوريٍّ وقيامةٍ وطنية، أو كأنّه أشبهُ بقِمَّةٍ روحيةٍ اجتماعيةٍ ووطنية، كان لنا شرفُ استضافتِكم فيها اليومَ على مائدةِ الخيرِ والبركة، علَّنا نفتحُ من هنا؛ من دار الطائفةِ الجامعة، وبأيديكمُ المتشابكة، أبوابَ التفاهمِ والإنقاذِ والأملِ الذي ينتظرُه اللبنانيُّون، راجينَ منَ الله سبحانه وتعالى الرحمةَ والعَون، ومتمنين لكم أيامًا سعيدة وأعيادًا مجيدة.
كلُّ عامٍ وأنتم بخير، لكم منَّا كلُّ الشكرِ والتقدير، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.