الخميس, أيار 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الأمير شكيب أرسلان

الأمير شكيب أرسلان
مآثر ومواقف مشهودة

كان الأمير شكيب أرسلان شاهداً كبيراً على تحولات بدلت وجه العالم كان من أهمها وأخطرها انهيار الخلافة في اسطنبول تحت ضربات الماسونية العالمية المتحالفة مع دول الاستعمار الغربي، وقد كان الأمير شكيب قبل ذلك قد عايش الكفاح المرير للسلطنة من أجل وقف الزحف الشرس للقوى الغربية على أطراف الإمبراطورية وناضل بكل قواه في إطار الجامعة الإسلامية، بل شارك بنفسه في حملات الدفاع عن ذمار الإسلام ضد الزحف الجديد. ثم عايش الأمير بعد ذلك الحرب العالمية الأولى وما تبعها من إعادة تقسيم العالم القديم بعد هزيمة الدولة العثمانية، كما عاصر وشارك بقوة في مشروع الدولة العربية والجامعة العربية وقد وجد فيه الملاذ التالي بعد خروج الدولة العثمانية من المعادلة وكانت عينه دوماً على ما يجري في فلسطين. في هذه الفترة الغنية والحافلة من حياته كان الأمير شكيب مناضل قلم لا يلين وفكراً لا يهدأ وقلباً يخفق بحب العروبة والولاء التام للعالم الإسلامي ، وكان الأمير شكيب في اندفاعه النضالي وانشغاله على حال العالم العربي لا يتوقف عن الكتابة ونشر أفكاره والدعوة لها في مختلف المنابر وعبر شتى المبادرات وإطلاق الجمعيات وإصدار المجلات، وفي الحقيقة يعتبر الإرث الهائل الذي تركه الأمير شكيب من أثمن ما أنتجه الفكر العربي والإسلامي في النصف الأول من القرن العشرين، وهو إرث لم يَخلَق ولم يتقادم أو يفقد دلالاته وفوائده في أي مشروع لليقظة العربية. وكم يبدو فكر الأمير شكيب راهناً وحياً في هذه الفترة التي يشهد فيها العالم العربي انتفاضة تكاد تكون ترجمة حقيقية لما كان الأمير شكيب يحلم به ويتوق إليه في فترات الضعف والتراخي التي ألمت بالعالم العربي بعد انهيار الدولة العثمانية وتفرّق ملك الخلافة وسلطانها على دويلات وإمارات متنازعة متنافسة لا يجمعها جامع إلا الضعف والخضوع لإرادة الدول الكبرى..

إن مجلة “الضحى” في سعيها لمواكبة النهضة العربية والإسلامية، وكذلك في حرصها الشديد على إبراز المساهمات الكبرى لأعلام التوحيد والإسلام في تاريخ هذه المنطقة ونضالها تعتزم تخصيص حيز أساسي في إصداراتها المقبلة للإضاءة على فكر أمير البيان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس لعقود طويلة، وما زال حتى اليوم يعتبر من أهم أعمدة اليقظة العربية والإسلامية ومن أكبر روادها. وبالطبع فإن ضخامة التراث الذي تركه الأمير شكيب يجعل عملية التعريف به صعبة بل ومعضلة. إلا أننا سنسعى بكل جهدنا في عملية الاختيار للإضاءة على مواقف ونواحي ومراحل يمكن أن تساعد القارئ على تقدير الإسهام العظيم لهذا الأمير الملهم في نضال العرب والمسلمين في إحدى أصعب الفترات التي شهدها تاريخهم وأكثرها إيلاماً.

في هذا العدد نعرض على سبيل التمهيد لبعض الجوانب والمقالات المختارة التي كتبها الأمير أو كتبها عنه بعض مؤرخي عصره، والتي ترسم جوانب من شخصيته الفريدة وتعكس في الوقت نفسه فكره النهضوي وحدسه التاريخي والسياسي الصائب.

من جهاد الأمير شكيب أرسلان

قال الأمير شكيب متحدثاً عن رحلته إلى ميدان الجهاد:
“ودعت الجناب الخديوي، وذهبت إلى الإسكندرية، ومنها ركبت السكة الحديدية إلى مريوط، ومن آخر محطة لها ركبنا الخيل وأنا ومن معي من أتباعي الذين حضروا معي من جبل لبنان، وكانت جمعية الهلال الأحمر المصري قد عهدت إليَّ بقيادة قافلة ستمائة جمل موقرة أرزاقاً للمجاهدين في برقة وخصصت منها لي ولجماعتي الذين معي محمول ثلاثين جملاً موقرة من كل شيء مأكول وملبوس، فعندما وصلت إلى طبرق لقيت في ذلك الموقع أدهم باشا الحلبي، وتركت في طبرق جانباً من الأرزاق للمجاهدين، ولما وصلت إلى معسكر عين منصور المشرف على درنه حيث كان القائد العام أنور بك سلمت البعثات المصرية من الهلال الأحمر ما خصت به من نقود وأرزاق وحوائج، ولما وصلت إلى معسكر بنغازي الذي كان أميره عزيز بك المصري سلمت الباقي للبعثات المصرية التي هناك، وكان منها الدكتور حافظ عفيفي.
أما محمول الثلاثين جملاً الذي خصصه الهلال الأحمر ولجنة الإعانة بي أتصرف به كيفما شئت فقد وزعته على مشايخ الزوايا السنوسية مثل سيدي العلمي الغماري شيخ زاوية البراعصة، وسيدي محمد الغزالي شيخ زاوية ترت، وسيدي الدرد شيخ زاوية شحات، وغيرهم، وأهديت جميع ما تبقى إلى أنور باشا، ولم أستأثر لنفسي بشيء، وكذلك كانت لجنة الإعانة خصصت لي مائتي جنيه لنفقتي الخاصة فوزعتها إعانات وهدايا لأجل تطييب خواطر المجاهدين، وبقيت أنفق على نفسي من صلب مالي الذي كان معي مذ برحت منزلي في جبل لبنان.
ولما رجعت إلى مصر بعد قضاء سبعة أشهر في موطن الجهاد كان قد نفد كل ما معي من نقود، فلم أراجع الجناب الخديوي حسبما وعدته، بل أرسلت إلى أهلي بأن يبعثوا لي ما يقوم بأودي، لأنني كنت ذاهباً إلى الآستانة لمذاكرة الدولة في قضية طرابلس، وكيف يجب أن لا تقطع إمدادها لها بالطرق الممكنة حتى بعد عقد الصلح مع إيطاليا.

دوره في كبح جمال باشا

قال الشيخ الشرباصي:” عينت تركيا القائد أحمد جمال باشا قائد الفيلق الرابع من الجيش العثماني والياً على الشام والحجاز، فبغى وطغى، وأخذ بغيه يتزايد مع الأيام، وكان جمال باشا يعرف للأمير شكيب مكانته بين قومه، وأحسن شكيب استغلال هذه المكانة لمصلحة قومه، وللتخفيف من مظالم الوالي، فكان ينهنه من حدة جمال، ويشفع للكثيرين عنده، وينقذ الكثيرين من عدوانه.
ويروي أنه لما قدم جمال باشا دمشق ـ وكان شكيب يسكن في دمشق خلال الحرب العالمية الأولى ـ أراد من بطريرك الموارنة أن يأتي ليسلم عليه، فعارضه شكيب، وقال له: إن البطريرك شيخ طاعن في السن، وأنه لا يقدر على المجيء، وأن طائفته قد تحسب ذلك إهانةً لها في شخص البطريرك، وانتهى الحوار بأن يقدم أربعة من الموارنة للسلام على جمال باشا، وقد حمد الموارنة لشكيب هذا الموقف؛ ويقول الأستاذ حبيب الجاماتي:” وكان بطريرك الموارنة السابق المرحوم السيد إلياس الحويّك يجاهر بأن تدخّل الأمير شكيب بينه وبين جمال باشا حال دون بطش هذا الطاغية بالبطريرك ورجال الدين أجمعين”. ولقد كتب الأمير إلى محمد إسماعيل يقول إنه كان رئيساً لأركان حرب الفرقة العسكرية المرابطة في لبنان، وإنه كان مطلعاً على حقائق الأمور، ويذكر أن الأمير شكيب لم يكن “ مسخر الضمير لأعمال أحمد جمال باشا المستنكرة”، وأن إعادة المبعدين إلى أوطانهم فوجاً بعد فوج كانت بمساعي شكيب. ويقول الأستاذ عز الدين التنوخي:” لقد كان الأمير شكيب من أشرف من كان حول جمال من رجال العرب، دفع الله به كثيراً من الشر والأذى، وما كان يدافع عن الدولة العثمانية إلا دفاعاً عن العروبة والإسلام، وخوفاً عليهما من مثل الانتداب، والحماية، والاستعمار؛ وكان شبان العرب وأعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة لا يرضون عن هذه السياسة الشكيبية، وهي سياسة إسلامية محضة، بل كنا نعدها انتصاراً للترك على العرب، ولكنه كان مخلصاً في عقيدته، ومشفقاً من الاستعمار على عروبته”. ومن أمثلة وساطة شكيب لدى جمال لمصلحة العرب أن قراراً صدر من جمال باشا ينفي الشيخ خليل الخوري ـ وهو من كبار موظفي جبل لبنان حينئذ ـ إلى القدس، وبدأ النفي فعلاً، ولكن شكيب توسط له فأعيد الشيخ من الطريق، وفي سنة 1946م توسط الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهورية لبنان وابن الشيخ خليل ـ توسط لإعادة شكيب من سويسرا إلى لبنان، وبهذا قابل الجميل بالجميل”.

جمال باشا
جمال باشا

عداء فرنسا الشديد للأمير شكيب أرسلان

قال الشرباصي:” كانت فرنسا هي العدو الأول لشكيب، كما كان شكيب هو العدو الأول لفرنسا من بين زملائه، ولقد جاء في كتاب “ عروة الاتحاد “ أن بعض رجال فرنسا صرّح بأن شكيب هو “ عدو فرنسا القديم الدائم “، وأن الفرنسيين في المغرب نفوا تاجر كتب لأنهم وجدوا عنده مكتوباً علمياً من شكيب، وكتبت إحدى الصحف الفرنسية تقول:” يلزم إعدام شكيب أرسلان”. وفي “ الرباط “ منعوا كل كتابة من شكيب مهما كان موضوعها، وصادر الفرنسيون كتاباً لا علاقة له بالسياسة إطلاقاً، وذلك لأن فيه مقدمة علمية بقلم شكيب، لأنه “ يكفي للمنع ورود اسم شكيب أرسلان في الكتاب”، وقال ضابط فرنسي:
“عندما تقع حرب أوربية ينبغي قبل كل شيء أن يزحف الجيش الفرنسي إلى جنيف، ويقبض على شكيب أرسلان.
وعملت فرنسا على إخراج شكيب من طنجة بالقوة حين زيارته لها ونجحت في ذلك، و آذى الفرنسيون كل من احتفل بشكيب، وأغروا به صحفهم، وأرهقوه بجواسيسهم… إلخ
ولم تكتفِ فرنسا مع شكيب بالأعمال التعسفية، بل انتقلت إلى الافتراء، والتشويه، فأخذت الصحف الفرنسية تشتمه وتختلق الأنباء الكاذبة حوله، وتتساءل: من أين ينفق مع زميليه في الوفد السوري: إحسان الجابري، ونجيب الأرمنازي.

(سلسلة أعلام العرب، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، أحمد الشرباصي، ص 46ـ 47ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة–القاهرة (سنة 1383 هـ الموافق 1963م. )

رسالة الأمير شكيب للسيد رشيد في وجوب مساعدة طرابلس الغرب

قال الأستاذ الشرباصي :” وبين يدي رسالة خطية وفقت للعثور عليها، وهي بخط الأمير شكيب أرسلان بعث بها إلى السيد محمد رشيد رضا في مصر، عن وجوب مساعدة طرابلس، وتاريخها 13 شوال، ويظهر أنه شوال سنة 1329هـ أو 1330هـ، وهما السنتان المقابلتان لسنة 1911م، وأورد نص الرسالة فيما يلي كنموذج لما كتبه شكيب في هذا الشأن:”

جاهد الأمير شكيب لحماية الخلافة والدور العثماني في الجامعة الإسلامية
جاهد الأمير شكيب لحماية الخلافة والدور العثماني في الجامعة الإسلامية

صوفر في 13 شوال
خصوصي
سيدي الأخ الفاضل
أعلم أن جهادكم في تهذيب الأنفس، وإقامة الشريعة على قواعد العلم، وأخذ المؤمنين بحقيقة الدين، و إثلاج الصدور ببرد اليقين، هو الجهاد الأكبر والبلاء الأسنى، والذي فيه استكمال الحسنى، وإن الأمة التي تفهم الدين فهمكم، وتفقه الشرع فقهكم، لا يخشى عليها من اعتداء إيطالي، ولا استبداد أجنبي.
ولكن جهادكم هذا غرس لم يحن إيناعه، وزرع لم يئن ارتفاعه، ودون وصول ثمرته إلى درجة الوفاء بالغرض أيام، وليال، وأعوام طوال، بما رسخ من الأوهام، وسدِك (1) بالعقول من صدأ الترهات.ونحن الآن في خطب مستعجل الرأب، وفتق يستلزم سرعة السد، ولا يفيدنا فيه تعنيف مفرط، ولا لوم مقصر، ولا جزاء خائن أو مستهتر، ولا يغنينا مع إلحاح وافد الشر، وإطلال نازل البأس، إكبار الإهمال، والوقيعة بمدبري هذه الأعمال، بل علينا قبل ذلك واجب أعجل، وهو تلافي ما فرط فيه غيرنا، وإيلاء العذر فيما يطلبه الرأي العام منا.
وقد ظهر لنا بعد تقليب وجوه الحيل كلها، وتمحيص آراءه الإغاثة بأجمعها، أنه لم يبق إلا طريق البر، وأن هذا الطريق مهما كان شاقاً صعباً طويلاً معطشاً، فإنه هو الوصلة الوحيدة والممر الممكن، وإن طريقاً سلكه آباؤنا مراراً في فتوحاتهم ومغازيهم لجدير بأن نسلكه نحن في أحرج موقف وأضيق مجال.
فإن لم تساعد السياسة على إمرار جنود منظمة، فلا أقل من متطوعة، وإن لم يمكن نهوض متطوعة فلا أقل من تسريب ذخائر وأرزاق على ظهور الجمال، بحيث لو بديء بتيسير قطر الجمال قريباً صار المدد متصلاً، فإن في طرابلس وبنغازي والصحراء ومن معيشتهم (2) إذ ذاك، إذ هناك رجالات كثيرة، وفروسية ونجدة، وبغضاء للعدو، ولدى الدولة عدة آلاف من الجلد وأسلحة وعدة، وإنما يخشى على أولئك من الجوع وقلة الطعام.
أفلا يمكنكم في مصر عقد الاجتماعات لوضع هذه الإعانة في موضع التحقيق، وإيفاد السعادة إلى الهند، وإلى السنوسي؟
فأمَّا الهند فتمكن النجدة بالمال، وأمَّا من الصحراء فبالرجال، وأمَّا من جهة الضباط لتدريب الأهالي فالدولة تقوم بهذا الأمر.وما نستصرخ إخواننا المصريين أولي اليسار وأهل الحمية إلا للمدد المادي إن تعذر كل مدد غيره، وأي شهم يضطلع بهذا العمل أكثر منكم ؟ وأي عمل هو أشرف من هذا ؟ وأي سقوط حالاً و استقبالاً أعمق من سقوطنا إذا ذهبت طرابلس الغرب؟ لا جرم أن حسن الدفاع عنها ليقف بالطامحين عن سائر حوزتنا، ويحفظ علينا هذا النزر الباقي من كرامتنا، وإن التخاذل عن هذه النجدة يكون الإجهاز على مهجتنا العمومية، إذ تعلم أوربة أنه ليس ثمة من حياة ولا من أحياء، وأن هناك إلا أعداء بدون اعتداد.
قصدت استيراء زندكم في هذا الغرض، وليس ذلك على همتكم بعزيز، ونحن في انتظار الجواب، شد الله بكم الأزر، ووفقكم إلى هذه الغاية، أفندم
أخوكم
شكيب أرسلان

(سلسلة أعلام العرب، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام ، أحمد الشرباصي، ص 30-32، ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة–القاهرة (سنة 1383 هـ الموافق لسنة 1963م)

قوات إيطالية أثناء غزو ليبيا لانتزاعها من الإمبراطورية العثمانية
قوات إيطالية أثناء غزو ليبيا لانتزاعها من الإمبراطورية العثمانية

خوف الأمير شكيب أرسلان على فلسطين

عاد شكيب إلى وطنه، ورأى بيروت بعد الهجرة الطويلة في الثلاثين من تشرين الأول سنة 1946م، وسعد بمشاهدة وطنه حراً مستقلاً طليقاً من أغلال الاحتلال والاستبداد، وتحرك لبنان والبلاد العربية للقاء البطل بعد عودته إلى العرين، ومكث فترة يزور ويزار ويجهد نفسه بالرد على الرسائل التي كانت ترده بكثرة، وتحالف على الرجل تصلب الشرايين والنقرس، والرمل في الكليتين، وثقل الثمانين عاماً، فلم تطل مقاومته، وعجزت يدر البشر، وأقبلت يدر القدر في 9 كانون أول سنة 1946م.
وكان آخر ما قاله للأستاذ عبد الله المشنوق، حينما التقى له قبل موته بأيام: أحمد الله عزَّ وجل الذي سهل أن أفارق الحياة على أرض هذا الوطن الذي أحببته، وأنا سعيد أن أدفن أن أُلاقي وجه ربي الكريم، فأعيد هذه الأمانة إلى بارئها بعد أن تحققت أحلام طفولتي في هذه الجامعة ـ حرسها الله ـ، وسأخب رفاقي في الجهاد بأن تضحياتهم لم تكن عبثاً.
وتحدرت من عيني الأمير دمعتان، ونهض واقفاً و جذب يد الأستاذ المشنوق، وقال له: لي وصية أود أن أوصي بها، فهل تعدني بأن تنقلها إلى العالم العربي بعد وفاتي؟
فأجابه: لك العمر الطويل ـ إن شاء الله ـ.
فقال شكيب: لا بل تعدني بنقل الوصية.
قال: نعم.
وهنا طوقه شكيب بذراعيه المرتجفتين، وقال بصوت تكاد تخنقه العبارات:
أوصيكم بفلسطين.

(لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم، 1918، مراجعة الشيخ:حسن تميم، الناشر: دار مكتبة الحياة)

إذا أردنا أن نتفرنج
فلا بدّ أن نكون عرباً أولاً

يقول الأمير شكيب أرسلان:” فإذا كنّا حقاً نريد أن نتفرنج فلنقتد بهؤلاء القوم في البحث والتمحيص، وعدم قبول نظام ولا قانون إلا بعد قتل فائدته خبرا، وإذا كنا نريد أن نتفرنج فلنحذ حذو هؤلاء القوم في عروجهم معارج المدنية كلها، وسلوكهم طرق التحقيقات العلمية، إلى آخر ما وصلت إليه، مع حفظهم لعاداتهم، ونزعاتهم وأذواقهم وبقائهم كما كانوا إفرنجاً.
إذا كنا نريد بالفعل أن نتفرنج ـ أي نقتدي بالإفرنج ـ تحتم علينا أن نبقى عرباً”.
(انظر؛ سلسلة أعلام العرب، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام ،أحمد الشرباصي، ص81 ،ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة – القاهرة (سنة 1383 هـ الموافق لسنة 1963م)

فراسة الأمير شكيب أرسلان

قال الشيخ الشرباصي:” ولشكيب نظرة وفراسة صادقة، وطالما تنبأ عن أمور قبل وقوعها فجاءت كما حدث، لا لأنه أوتي علم الغيب ـ فالغيب يعلمه الله ـ ولكن لأنه يحسن التدبر للأمور، ويحسن التطلع إلى العواقب.
لقد تنبأ مثلاً أن إيطاليا ستنسحب في الحرب العالمية الأولى إلى صف الحلفاء، وكذلك كان، وتنبأ بأن انكلترا ستنكث وعودها التي أعطتها للعرب إبان تلك الحرب، وكذلك كان، وقال إن الملك حسين ملك الحجاز سيندم وسيخلع من ملكه، وكذلك كان، وتنبأ بأنه نفسه سينفى إلى جزيرة، وكذلك كان.
ولما قيل له: ولماذا اخترت جزيرة؟ أجاب: لأن انكلترا لها جزائر كثيرة؛ وقد نفي الملك حسين بعد ذلك إلى قبرص.
وكتب شكيب قبل هذه الحرب مقالاً بعنوان:” نار أوربة من شرارة البلقان” وتنبأ فيه بأمور كثيرة وقعت !.
يقول الدكتور زكي علي في هذا المقام:”الأمير شكيب كثيراً ما تكهن في الأمور السياسية الخطيرة قبل وقوعها، حتى إذا انحدر ستر الغيب عن وجه المستقبل جاءت الحوادث مصداقاً لتكهنه، ودليلاً على صواب حكمه، ولا غرو أن هذا يعزى إلى سلامة فطرته، وأصالة رأيه وغلو معدن ذكائه، وما وهبه الله من قوة فراسة فوق ما امتاز به من الخبرة وبعد النظر والتجربة خلال عشرات السنين من حياته السياسية.
ويلحظ الأمير شكيب من نفسه هذه الصفة، ويعللها بالتفكير والتأمل، وكثرة المطالعة، فيقول:”لست من الكهّان، ولا من العرافين ولله الحمد، ولا أنا بعجزي وضعفي من الأولياء الذين يكاشَفون بكثير مما وراء حجب الغيب، ولكني أفكر وأتأمل، وأُكثر مطالعة الكتب والصحف، ولاسيما ما تعلق منها بالتاريخ والسياسة، ولذلك تصح أقوالي عن كثير من الحوادث قبل وقوعها”.
ويذكر من قبيل ذلك أنه تكهن بنشوب الحرب العالمية الأولى قبل بدئها بنحو سنة وأربعة أشهر، ونشر ذلك في جريدة “ الشعب “ المصرية في 21 مارس سنة 1913م، وأعاد نشره حرفياً في مجلة الفتح المصرية في عدد 5 صفر 1351هـ ( 1932م). ويشير إلى أمور تتعلق بالبيان ويقول:” وكأنني بدون أن أكون في طوكيو قد عرفت الحالة هناك كما هي بمجرد القرائن، ومعاركة الزمن، وطول الخبرة”.

(انظر؛ سلسلة أعلام العرب، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، أحمد الشرباصي، ص 255-256،ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة – القاهرة (1383سنة هـ الموافق لسنة 1963م)

قال الشرباصي: “ لاشك أن شكيب رجل موهوب، وساعدته ظروف نشأته وحياته وجهاده على تفجير ينابيع هذه الهبة، ولكن ينبغي أن نلاحظ أن دراسته في المدارس كانت محدودة، إذ يمكن أن يقال إنه لم يبلغ نهاية الدراسة الثانوية في التعليم المدرسي النظامي، ولم يشهد شيئاً من التعليم الجامعي، ولكن المدد جاءه من دراساته الخاصة، ومطالعته العامة، إذ كان لا يبالي بطول الوقت يقضيه دارساً منقباً، مراجعاً، حتى أنه ليطالع ويكتب كل يوم ثلاث عشرة ساعة، “ بجلد لا ملل، وصبر لا نفاد له”. ولقد حدثني الأستاذ عوني عبد الهادي، فقال: إن شكيب كان يتابع كل الجرائد والمجالات والكتب، وبخاصة ما تعلق منها بالإسلام والعرب والشرق، وذاكرته قوية، ويعرف نطاق البحث ومصادر الموضوعات، فإذا أراد البحث في موضوع تناول مصادره وشرع فيه!. وبمناسبة الإشارة إلى قوة الذاكرة عند شكيب أذكر أنه تحدث عن هذه الناحية، فقال إنه فقد أصول طائفة من قصائده، فأملاها كلها عن ظهر قلب، وأملى من قصائد أخرى مفقودة أبياتاً غير قليلة، ويقول الأستاذ روفائيل بطي:” إن شكيب اشتهر بقوة الذاكرة إلى حد يكاد يبعد عن التصديق، وقد روي عنه أنه صحح لمؤرخ اليمن الشيخ عبد الواسع اليمني في كتابه :” تاريخ اليمن “ أموراً كثيرة في الفقه والتاريخ والتراجم من ذاكرته فوراً”.

(انظر؛ سلسلة أعلام العرب، شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، أحمد الشرباصي، ص 285-286،ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة – القاهرة (1383سنة هـ الموافق لسنة 1963م)

مقالة كأنها تشرح حالنا اليوم
تكالب الأمم على أمة الإسلام والعالم الإسلامي

لا يمكن أن يظل الأوروبي سيد الأرض غير مدافع، متسلطاً على ما في الدنيا ما بين المشرق والمغرب ومن أعظم الخطأ الظن بأن آسيا وأفريقيا لن تنهضا من عثار وهما ثلثا العالم

وجهاء وقادة فلسطين يجتمعون للبحث في صد الغزو اليهودي
وجهاء وقادة فلسطين يجتمعون للبحث في صد الغزو اليهودي

اشتهر الأمير شكيب أرسلان بفراسته السياسية وقدرته الاستثنائية على قراءة الآتي من الأحداث وقد أوردنا في هذا الباب نبذة عن نبوغه في هذا المجال وما شهد له معاصروه من حدس مدهش بالمستقبل. وليس أدل على هذا الأمر في الواقع من هذه المقالة التي كتبها في أربعينات القرن الماضي في عز صعود الاستعمار الغربي وهيمنته على الدنيا وخصوصاً على بلاد العرب والمسلمين، وقد كان الاستعمار فرغ من تمزيق الخلافة الإسلامية وبدأ بتنفيذ مؤامرة اغتصاب فلسطين وانقض بقواه وشركاته ومبشريه على كل أنحاء العالم القديم يتناهش خيراته، كما لو كان مشاعاً مستباحاً لكل ذي جبروت. في هذه المقالة يتنبأ الأمير شكيب بنهضة العالم الإسلامي وبحتمية زوال الهيمنة الغربية، كما يصف بدقة وألم حال الضعف لدى حكام العرب والمسلمين وما يصفه “ الرعب من سطوة الأجانب” ليخلص إلى القول بأنه “لا بد أن يأتي الزمن الذي يصبح كلٌ فيه سيداً في دياره، مانعاً لذماره؛ مساوياً في الأرض لمن ظن سلطانه سرمداً، ودوره مؤبداً”
وهنا المقالة :
قال الأمير شكيب أرسلان:” فالعالم الإسلامي الذي لا يزال محور سياستهم (الغربيون) قهره وإعناته، وتجريده من السلاح بكل وسيلة، والحيلولة بينه وبين الاتحاد والتماسك بكل حيلة، احتياطاً من وراء رسَفَانه في قيوده الحاضرة، وأماناً على ديمومة خنوعه لسلطتهم القاهرة، لا يصح أن يقال إنه بلغ من النهضة الدرجة التي تكفل له حطم سلاسله الثقيلة، واسترداد ممالكه العريضة الطويلة، واستئناف معاليه الخالية، ومصيره مع العالم الأوروبي إلى حالة متساوية، ولا أدرك بهذه السنين القلائل من اليقظة ما يكفي لتجديد ما أخلق من حاله، واستشن من شأنه، بل لا يزال ويا للأسف الجهل مخيماً على أكثر آفاقه، وما برحت العصبيات الجاهلية عاملة عملها في تفكيك عراه وبعثرة أجزائه، كما أن الرعب من سطوة الأجانب إلا من رحم ربك ملء الجوانح، واليأس من استطاعة القيام فاشٍ في الأفكار والخواطر، وكأنه إلى هذه الحالة بعينها نظر النبي ـ صلى الله عليه وسلم حينما قال:” يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل جانب تداعي الأكلة إلى القصاع، قالوا: أو من قلة منا يؤمئذ يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنكم غثاءٌ كغثاءِ السيل يُجعَل الوهن في قلوبكم ويُنزع من قلوب أعدائكم، من حبكم الدنيا وكراهيتكم الموت” أو كما قال، نعم صار المسلمون، إلا الأقل منهم إلى زمان لا تغني عنهم كثرتهم شيئاً بل صارت الفئة القليلة من غيرهم تتحكم في الفئة الكثيرة منهم، وتخبطهم بكل عصا، وهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وراح الأجنبي يفتح بلدانهم بهم ويسلط بعضهم على بعض، ويقتل هذا بذاك مستفيداً من قتل الاثنين: الذي يقاتله والذي يقاتل معه.
وإذا سألت أحدهم لماذا إعطاء هذه المقادة كلها واقتحام الموت في سبيل الأجنبي الذي تغلب عليه، أجابك أنه إنما يساق إلى الموت رغماً، والحال أن الموت الذي يخشاه في عصيان الأجنبي، هو ملاقيه في طاعته، فهو من خوف الموت في الموت، ومن حذر العذاب في أشد العذاب، فلابد لاستقلال الإسلام من زوال هذه الأوهام، ومن انتشار المعارف التي لا تجتمع مع الذل في مكان، ولا تبرح دون تلك الغاية مصاعب وقُحَم، ومصائب وغُمَم، وليال مظلمة طوال، ومعارك تشيب لها ذوائب الأطفال، وإنما الذي يخطىء فيه سكارى العز ونشاوى الساعة الحاضرة من الأوروبيين، اعتقادهم أنها حالة ستبقى على الدهر، وإن ثلثماية وأربعين مليوناً من المسلمين سيلبثون إلى الأبد رهن إسارهم وفريسة استعمارهم، ووقود نارهم، واعتبارهم الشرقيين عَمَلةً يسمن الغربيون بهزالهم، ويسعدون بشقائهم، ويقوون بضعفهم، ويحيون بحتفهم.
حقاً لقد تجاوزوا الحد ضلالاً وغروراً، واستكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً، وظنوا أنهم كتبت لهم السيادة خالصة من دون الناس وأمنوا جفوات الأيام، وأخذوا الطريق على الفلك الدوَّار فلا يدور لهم إلا بحسب المرام، كلا هذا منهم خيالٌ زائل، ووهمٌ أرقّ من شَبَح باطل، فلن يبقى الشرقيون أبد الدهر مدَنَقةُ هينة عليهم نفوسهم ولن يصبروا أكثر مما صبروا على أن يلي أمورهم من ليس منهم، ولا بدّ أن يأتي الزمن الذي يصبح كلٌ فيه سيداً في دياره، مانعاً لذماره؛ مساوياً في الأرض لمن ظن سلطانه سرمداً، ودوره مؤبداً، وعمل اليوم عمل من لا ينظر ما يكون غداً، ولاسيما المسلم الذي يقرأ كل يوم في قرآنه ما يجعله بكل جارحة من جوارحه رجلاً ولا يرضى له بالاستقلال بدلاً، وينفخ فيه من روح الأنفة ما يصور الذل كفراً، ويلقى في روعه من حب العلم ما يصير الجهل وزراً، ويحتم عليه من الأخذ بالأسباب القوة ما يخيل الضعف شركاً، كلا لن يلبث الشرق لدى دول الاستعمار هو الشحمة الرُقّى، والأمم التي لا تملك لأنفسها حقاً، ولا تنفض عن أعناقها رقاً، ولا يمكن أن يظل الأوروبي سيد الأرض غير مدافع، وصاحب الحكم غير مزاحم متسلطاً على ما في الدنيا من الجهات النفسية، مستأثراً بما بين المشرق والمغرب من الجنبات الرئيسة، فلم يبرح الدهر قلَّباً، والدوام محالاً، والتاريخ يركب الأمم طبقاً عن طبق، ويلحق من تأخر بمن سبق، وما من بهشة، إلا وراءها جهشة، وقد كذب من طمع في صفو بلا كدر، وصعود بلا حَذَر، ومن أعظم الخطأ الظن بأن الشرق لا يلمُّ على شعث، و إن آسيا وأفريقيا لن تنهضا من عثار وهما ثلثا العالم، ولقد سار الشرق في مدة وجيزة عقَبَاتٍ جِياداً، واجتاز أزماتٍ شداداً، وهو ماض في سيره إلى الأمام لا سبيل بعد اليوم إلى تعويقه، ولا حاجز يمكن أن يقف في طريقه بدسائس تلقى، ومبالغ سريّة تنفَق، وأخلاق تُفسَد؛ وذمم تشرى وأشراك تبثّ، وأسياف تُسلّ، ولا المحلقات في الجو تقدر على كم الأفواه، ولا الغازات السامة تقوى على إطفاء نور الله، وما تزيد هذه الوسائل تلك الأمم المستضعفة إلا شوقاً إلى الحرية، ونداء إلى الثارات وإصراراً على الضغائن، ومهما يكن من حيل العباد فللكون سَنَن هو سائره ولله أمر هو بالغه.

الأمير سيف الدّين يحي التنوخيّ

الأمير سيف الدّين يحي التنوخيّ

صاحب مأثرة «حط بالخرج» أنّـبه الأمير السيد لغزل قاله
فتاب وأصلح وصحب الأمير وبات من كبراء تلاميذه

هو الأمير سيف الدّين يحي بن الأمير فخر الدّين عثمان بن الأمير سيف الدّين يحي بن الأمير زين الدّين صالح بن الأمير ناصر الدّين الحسين الكبير. وابن أخ الأمير المؤرخ صالح بن يحي صاحب كتاب تاريخ بيروت. وصفه الشيخ محمّد الاشرفاني بأنه كاتب الدّارين وصائغ الدّارين وشاعر الداّرين. ففي هذه الصّفات الثلاث كفاية عن غيرها وغنى لكل طالب وقد قرنها صاحبها بالدّين الّذي هو أجلّ المقتنيات وأشرف المكتسبات. فتمّت له السّعادة في هذه الدّارالدّنيا والفوز في يوم العرض والحيقات.
الأمير سيف الدّين يحي التنوخي علم من أعلام التوحيد البارزين، الّذين عمّت شهرتهم فطبقت الآفاق، توفي والده وهو في السابعة من عمره، فنشأ يتيماً مكتسباً من العلوم أشرفها، ومن الأخلاق أنبلها، ومن المناقب تاجا وعدّة لجهاده، ومن الفضائل منهجاً يقتفي به آثار آبائه وأجداده، ومن الأعمال الصالحات زاداً لمعاده وآخرته، فساد قومه وبلغ اجلّ المراتب بالعلم والعمل والحلم والفصاحة والبلاغة وحسن الأخلاق والجود والقناعة والورع والزّهد والعفاف. نظّم الشّعر فأجاد فيه وأحسن، وبلغ فيه شأناً كبيراً، فساوى في بعضه أكابر الشعراء وفحولهم، وجرى كلامه وحكمه مجرى الأمثال، لما تميّز به من دقّة التصّوير، وحسن الأداء وجزالة الألفاظ، فصوّر النّفس البشرية ووصفها في مختلف مراحلها وتقلّب أهوائها.
نظّم في صباه قصيدة غزلية وعظه الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي (ق) على أثرها وعنّفه ولامه، فاتعظ الأمير سيف الدّين يحي وامتنع عن مدح السّلاطين، وكفّ عن الغزل وتاب توبة صحيحة خالصة وصحب السّيد الأمير مكتسباً منه المنهج القويم والسّلوك المستقيم، فعُدّ من أهل الصّلاح والفضل وأضيف اسمه إلى أسماء تلاميذ الأمير السيد (ق). كان الأمير سيف الدّين يحي خطّاطاً بارعاً وكانت له اليد الطّولى في كتابة الخطّ العجميّ (الفارسي) واشتغل بصناعة الصيّاغة بعد أن أخذ أسرارها من اسطنبول وقيل من تبريز العجم. فانشأ قوالب الحسن، وصنع تحفاً يقصّر عن وصفها اللسّان. فتحسنّت أحواله الماديّة وأصبح على جانب من الثّراء واليسر، ففرّق أكثر أمواله على الفقراء والمساكين حيث كان يطوف المناطق والقرى تخفيفاً عنهم آلام الفقر والعوز، وقد ذهبت قصّة “حطّ في الخرج” مذهب الأمثال لمعرفتها من القاصي والداني، وتفصيل ذلك أنّه كان يمتطي فرسه جاعلاً عليها خرجّاً مملوءاً بالأموال، فإذا مرّ بقوم أغنياء طلب منهم أن يضعوا في الخرج شيئاً ممّا تجود به أنفسهم زكاة عن مالهم، وإذا مرّ بالفقراء طلب منهم بأن يأخذوا من الخرج حاجتهم، فما زال على هذا المنوال حتّى عاد يوماً ونظر إلى الخرج فوجده ملآن لم يمسّ. فعلم أنّ الضائقة قد انكشفت عن الناس. وقد رأيت من المفيد أن استشهد بشيء من شعره ليستدلّ القارئ على حسن عقيدته وإيمانه ومذهبه وتقييده لجوارحه. (الوافر)

ولــــــي نــفــــس علّـــــــــــــــت شـــــــــــــرف المعــــــــــــــــــــــالــي وجســــــــــم جاثـــــــــــــــــــــم بحضــــــــــيض قــــــــــــــــــــــــــــــاع
فـــــفـــــي الـــــعــــــــــرض الكـــــثيـــــف لـــــهــــــــــا اتضّــــــــــــاع وجوهـــــرهـــــــــــــــا يشـــــــــــــبّ إلــــــــــى ارتفــــــــــــــــــــــــــاع
ومــــــــــــــا مـــــن غبـــــطـــــــــــــــــــة فـــــي العـــــيـــــــــــــــش إلاّ ذي فضـــــــــــــــــــــــلٍ رضــــــــــــــــــيّ بـــــاقتـــــنــــــــــــــــــــــــــاع
وخــــــــــــــــــــير سجيّــــــــــــــــــةٍ للمــــــــــــــــــــرء عقـــــــــــــــــــلٌ يمـــــيّــــــــــــــــــز بـــــين ضــــــــــــــــــــرّ وانـــــتـــــفــــــــــــــــــــــــــــاع
لـــــئـــــــــــــــن صــامـــــــــــــت بحــــــــــــادثـــــــة صـــــــــــــــــدور فـــــصـــــــــــــــــــدري للـــــحــــــــــــــــــــوادث ذو اتســــــــــــــــــاع
وقلبــــــــــــــــــي إن يـــــنـــــــــــــــــــــــــازعه انـــــقيـــــــــــــــــــــــــادٌ لمعصـــيــــــــــــــــــــةٍ شــــــــــديــــــــــــــــــــــــدِ الامـــــتـــــنـــــــــــــاع
ويــــــأنـــــــــــــف أن يشــــــــــــــــــمّ الــــــــــــــــــذّلّ أنفــــــــــــــــــــي وأن يرضــــــــــــــــــى بـــــــــرَغـــــــــــــــــــــــــــمٍ وانجــــــــــــــــــــداع
ويـــــــــأبـــــــــــــــــــى ذكـــــــــــــــر فـــاحشـــــــــــــــــةٍ لســـــــــــاني ويـــقـــصـــُـــــــــــــــــرُ فــــــي الـــنّـــمـــيـــمـــــــــــــــة والشّنـــــــــــاع
وأذنــــــــــــــــــــــــــي لا تصيـــــــــــــــــــــــــــخُ لقــــــــــــــــــــــول زورٍ ولا أرضـــــــــــــــــــــى الـــدنيئــــــــــــــــــــــــــــــــة بالسمـــــــــــــــاع
ولــــــــــــــــــي عيـــــــــــــنٌ إذا كشــــــفـــــــــــــــت ستــــــــــــــــــورٌ عـــــــــــــــن العــــــــــــــــــورات كـــانـــــــــــــــت فـــي قنـــــــــــــــاع
ومــــــــــــــــــا لِيَـــــــــــدي إلــــــــــــى الشـــــــــــــــرّ امتـــــــــــــــدادٌ ولا قــــــــــدمـــــــــــــــــــــي إلــــــى عـــــــــــــــــــــــــارٍ بســـــــــــــاع
وقــــــــــــــــــد قَصُــــــرت خــــــــــــطـــائي عــــــن خـــــــــــــــطاءٍ وطال إلــــــــــــــى منـــــــــــالِ الحــــــمـــــــــــــــــــــــــد بــــــاعــــــي

هذا كلام يصحّ أن يكون دستوراً لكلّ إنسان ديّن عاقل، فطوبى لمن اهتدى وبشرى لمن امتثل واقتدى. وهذه أبيات من رائيَّته الشهيرة تبيّن مقدار فضله وتظهر المنزلة التّي بلغها في الرّضى والتسليم وحسن عقيدته وحضّه على التّقوى والزّهد والخوف وعدم الاغترار بدنيا خادعة غرّارة ولذّة منقرضة يتبعها ألم وعذاب وعقاب كما تبيّن مدى شاعريته الفيّاضة فما إن يقصد معنى أو يطرق موضوعاً إلاّ ويعطيه حقّه فلا غموض ولا إبهام ولا تعقيد (البسيط)

تجــــــــــــري الأمــــــــــــور ومــــــــــــا للمـــــــــــــــــــرء معتــــــــــــبر حـــتّــــــــــــى تحــــــــــــــــلّ بـــه مـــن نـــفـــســــــــــــه العبــــــــــــــر
لا حيـــــــــــــــلة فــــــــــــي قضــــــــــــــــــاءٍ ســــــــــــــــاقه قــــدرٌ فـــفــــــي المـــقـــــاديــــــــــــر يعــــــمــــــى القــــــلب والبصـــــــــــرُ
إن القضـــــــــــــــــــــــاء إذا لاحـــــــــــــــــــــــــــت بــــــــــــــــــوادره لــــــم يـــنـــــــــج مـــن خَــــــطــــــــبِه خـــــــــوف ولا حــــــــــــذر
عــــــــــــــــــدوُّ كـــــــــــــــلِّ لبــــيـــــــــبٍ نفســـــــــــــــــهُ فــــــــــــإذا مــــــا اســـتـــحــــــكــمـــــــت مـــنه لا تبـــــــــقي ولا تــــــــــــذر
فجــــــــــــاهد الـنـــفـــــــــس عـــصيـــانـــــــــا وكــــــن رجـــــــــلا مـــــــــا عنــــــــــــده للـــــــهـــــــــوى وثــــــــــــــر ولا خـــبـــــــــــــــر
حــــــــــــلــــــو المـــــــــــــذاق ومـــــــــرّ عـــنــــــد مـــطــــــعـــمــــــه كـــالشــــــــــــهد أودع فيـــــــــــــــه الصــــــــــــّاب والصّــــــبـــــــــر
لــــــذاذة المـــــــــــــــــــرء فـــي دنيـــــــــــــــــــــاه مـــدبــــــــــــــــــــرة تفـــنـــــــــــــــــى ويـــبـــقــــــــــــــى علـــيهـــا الــــــذنب والــــــــوزر
ايّــــــــــــــأك ايّــــــــــــــاك مــــــــــــا تخـــــــــــــــــشى عواقبــــــــــــــه لا خيـــــــــــر فـــــــــي جـــــــــنّــــــــــــة مــــــن بعــــــدها سقــــــر

هذا غيض من فيض الأمير سيف الدّين يحي التنوخيّ، وقد ختم عمره بحياة هانئة وادعة، قانعة راضية مسلّمة. ويروى أن الأمير السّيّد (ق) قد أرسله إلى مصر في أواخر أيامه مع الشيخ ابن علي مرعي لكي يستحصل على بعض الوثائق الهامّة والمراجع الأصليّة التّي كان بحاجة إليها، ودراسة ما تبقّى من آثار الدّعوة التوحيديّة هناك.
توفي الأمير سيف الدّين يحي سنة 864 هـ. عن عمر ناهز الخامس والسبعين قبل وفاة الأمير السّيّد (ق) بعشرين عاماً. ولمّا لم يكن له وريث يرثه، ولا عقب يحمل اسمه، فرّق معظم أمواله ووزّعها على الفقراء والمساكين والمحتاجين من المستجيبين، كما خصّ الوقوفات الحسنة. وخصّ بها الأكابر من أهل العلم والفضل. جاعلاً معظمها للأمير السيّد حابساً جهاتها عليه. ومن أبرز آثاره الباقية مصحف مكرّم من خطّ يده الكريمة موجود في بلدة رأس المتن.

قصة إبراهيم بن أدهم (ر)

قصة إبراهيم بن أدهم (ر)

تعدّدت الروايات في أسباب توبته
لكن حياته أصبحت مدرسة للزاهدين

صحب في مكة سفيانا الثوري والفضل ابن عياض
وساح في جميع الأمصار وأنهى مسيرته في جبلة السورية

أن يكون المرء فقيراً وزاهداً في الدنيا فذلك من أسهل الأمور
لكن البطولة ترك الملك والقصور وطلب الفقر في سبيل الله

باع نفسه بدراهم ليساعد فقيراً استجار به
فأهداه الحق تعالى معجزة نقل تل التراب

تعتبر حياة ومجاهدات إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه مصدر إلهام خاصاً للزهاد والسالكين على مرّ الأزمنة ويكاد لا ينعقد مجلس أو يجتمع أشخاص على الذكر أو التباسط في شأن السلوك وآدابه إلا وحضر اسم إبراهيم بن أدهم وحكايته ليصبح هو الموضوع، وقلّما ذكرت حياته ومسيرته الشاقة في التقرب من الله والزهد بالدنيا من دون أن يثير ذلك أرق الأحاسيس ويستدر الدموع من مآقي الجالسين لشدة ما يكتنف تلك القصص من قوة العبرة وعظمة المثال. فمن هو هذا الرجل وما هو سرّه وكيف عاش حياته، وما الذي تحمله حياته الزاخرة بالمجاهدات من عبر وموعظة لأهل هذا الزمان؟

أجرى بعض المؤرخين مقارنة بين مثال ابن أدهم الذي تخلى عن الملك والجاه ليختار طريق العبادة والفقر وبين مثال البوذا الذي اختار أيضاً وبعد سلسلة من التجارب والملاحظات طريق التزهد والتأمل تاركاً وراءه حياة الملوك والقصور والخدم والحشم. وهناك بالطبع القصة المروية عن القديس فرانسيس الأسيزي الثري الإيطالي الشاب الذي ترك أيضاً حياة القصور ليتحوّل إلى زاهد سائح في الأرض ولتصبح حياته مثالاً مضيئاً على المجاهدة وترك الدنيا في سبيل التحقق الروحي.
والملفت أن حياة البوذا وتعاليمه تحوّلتا إلى تيار روحي كبير ومدرسة في السلوك يتبعها الملايين من أهل البلاد الآسيوية كما تحولت حياة القديس فرنسيس إلى الرهبانية المعروفة بإسم “الفرانسيكان”، أما إبراهيم ابن أدهم فقد عاش ومات بعد توبته فقيراً مغموراً لكن حياته تحولت لحكمة ربانية، إلى معين لا ينضب لحكايات الزهد والمجاهدة في التقرّب من الله وباتت أقواله قاموساً طويلاً من المواعظ والنصح والحكم البليغة يستلهمها من أراد ويتخذ منها السالكون مهمازاً لمضاعفة الجهود والتوبة عن الغفلة والجد في السير.
أبرز ما يلفت في قصة إبراهيم بن أدهم هو غياب التسجيل الموثق لحياته واختلاف الروايات حول حقيقته وظروف نشأته وصعوده إلى الملك، كما تختلف الروايات بشأن الأسباب التي أدت إلى توبته وتحوله إلى حياة الفقر والزهد والتعبد. حتى ظروف موته والمكان الذي يرقد فيه تضاربت حولهما الآراء وإن كان من المرجح أنه عاش أيامه الأخيرة في بلاد الشام وتوفي فيها في مدينة جبلة في الشمال السوري حيث يقع مقامه وسط جامع بني على اسمه في تلك المدينة الساحلية الوادعة.
لكن اختلاف الروايات حول حياة هذا الزاهد الكبير قد يكون فيها حكمة أيضاً لأنها حولت حياة الرجل إلى مدرسة روحية زاخرة بالدروس والأمثلة وجعلت منه بالتالي شخصية تاريخية هي في الواقع مزيج من حياته ومن الأمور والكرامات والأقوال الكثيرة التي نسبت إليه باعتبارها تليق به وتنسجم مع المثال الفريد الذي قدمه للأجيال.
إن قوة المثال في قصة إبراهيم بن أدهم، كما في حياة البوذا والقديس فرانسيس وأمثال هؤلاء الرجال تكمن في الشجاعة الاستثنائية التي تتطلب من أي إنسان التخلي عن الملك والجاه والسلطان والتحول إلى حياة الفقر والزهد والسياحة في أرض الله الواسعة. وقد أنعم الله على الفقراء وأهل البساطة في العيش بأن أبعد عنهم مفاسد الدنيا ومباهجها ولهذا فإن اختار أحدهم طريق الزهد في الدنيا فإنه لن يلاقي كبير صعوبة لأنه إنسان خفيف الحمل لا يقيده إلى هذه الفانية شيء. لكن أن يمن الله على الملوك وعظماء الناس بما يجعلهم يستفيقون فجأة ويرمون عنهم أثقال الملك والسلطان ليتحولوا إلى طريق الفقراء فإنه يبدو في نظر العامة مجافياً للطبيعة الإنسانية ويجبرهم على التفكر والتأمل ويحمل لهم درساً بليغاً لأنفسهم. كأن الله تعالى يصطفي هذا النوع من الرجال لكي يوقظوا الناس من غفلتهم بهذا النوع من التضحيات الكبرى، وهذا المثال الحي لرجال صدّقوا بأن الحياة الدنيا لا تساوي فعلاً جناح بعوضة وعملوا بما صدقوه. وقد يكون في مقدور الندرة من الرجال الاقتداء بإبراهيم بن أدهم، لكن المثال الذي قدمه في حياته يبقى في حد ذاته تعليماً حياً ومثالاً صادماً لكل من “كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ” (ق:37).

نسبه وصعوده إلى الملك
هو ابن إسحق إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر وقيل ابن عامر – العجلي التميمي – فهو عربي كريم الحسب.
ولم يحدد الرواة سنة ميلاده واختلفوا في مسقط رأسه فمنهم من قال بأنه ولد في بلخ في ما هو اليوم أفغانستان، ومنهم من قال بمولده في مكة حين كان والداه يحجان وأن أمه طافت به في المسجد الحرام قائلة للناس : “أدعوا لابني أن يجعله الله رجلاً صالحاً”.
واختلف الأمر كذلك في حال أبيه فذكر بعض المؤرخين أنه كان شريفاً وثرياً من أثرياء بلخ وروى البعض أنه كان أميراً عربياً على خراسان وأنه ورث الإمارة من أبيه، وأن الإمارة قد سعت إليه دون رغبة منه، ونسجت حول ذلك رواية لا تخلو من الطرافة جاء فيها أن أدهم (والد إبراهيم) مرّ ذات يوم ببساتين بخارى وتوضأ بأحد الأنهار التي تتخللها، فإذا بتفاحة يحملها ماء النهر فأكلها، ثم وقع في خاطره من ذلك وسواس فذهب يستحلّها من صاحب البستان، فقرع بابه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: “ادعي صاحب البستان”، فقالت: “إنه لامرأة”، فقال: “استأذني لي عليها، ففعلت . فأخبر المرأة بخبر التفاحة فقالت له: إن هذا البستان نصفه لي ونصفه للسلطان، والسلطان مقيم في بلخ، وهي على مسير عشرة أيام من بخارى”، وأحلته المرأة من نصفها. وذهب إلى بلخ.
واعترض السلطان في موكبه، وأخبره بأكله للتفاحة واستحلّه، فأمر السلطان أن يعود إليه في الغد. وكانت له ابنة بارعة الجمال، وقد خطبها أبناء الملوك فتمنعت بسبب ميلها إلى العبادة وإتباع الصالحين، فلما عاد السلطان إلى مقرّه أخبر ابنته بخبر أدهم فأبدت رغبتها في أن تتزوجه، فلما أتاه في الغد قال له: “لا أحلّك إلا أن تتزوج ابنتي، فانقاد لذلك بعد تمنّع. ولما دخل عليها عمد إلى ناحية من البيت، وأقبل على صلاته حتى أصبح – ولم يزل كذلك سبع ليال”. ثم تزوجها وقام فاغتسل وصلى ومات أثناء صلاته، فحملت منه إبراهيم. ولما لم يكن للملِك ولد فقد انتقل المُلك بوفاته إلى حفيده إبراهيم.

جامع ومقام إبراهيم بن أدهم في جبلة-سورية
جامع ومقام إبراهيم بن أدهم في جبلة-سورية

سبب توبته
إذا كانت الروايات تختلف كثيراً حول نسب ابن أدهم وظروف صعوده إلى الملك فإن هذه الروايات تتعدد أكثر عند الحديث عن توبته إلى الله واتخاذه طريق الزهد في الدنيا. لكن وبغض النظر عن السبب الذي أوقظ ابن أدهم ودفعه لترك الملك والدنيا فإن كلا من تلك القصص يحمل الكثير من الدروس لنا نحن أهل الدنيا خصوصاً في هذا الزمن الذي باتت فيه الدنيا مشغلة الناس ومصدراً للمفاسد من كل نوع. وبهذا المعنى فإن كلاً من الروايات المتداولة حول توبة ابن أدهم صالح لأن يكون هو سبب التوبة، كما أنها جميعاً صالحة ولا فرق بين أي منها لأن المهم هو التفكر في تلك الروايات وأخذ العبر منها.

الهاتف الذي أوقظه من غفلته
من أكثر الروايات شهرة حول تزهّده ما أورده ابن عساكر من أنه خرج مع بعض أصحابه إلى الصيد، وبينما كان يكرّ ويفرّ جاداً في أثر أرنب يروم رميه، إذا بهاتف من وراء الغيب يناديه بإسمه قائلاً : ” يا إبراهيم ! ( أفحسبتم إنما خلقناكم عبثاً، وإنكم إلينا لا ترجعون ) يا إبراهيم ! ألهذا خلقت أم لهذا أمرت بها؟ فلم يبالِ في بادئ الأمر. فعاوده الهاتف ثانية وثالثة . فشد لجام فرسه ووقف حائراً من شدة الجزع. ثم هتف به المنادي الخفي للمرة الرابعة . فآمن آنئذٍ أنه صوت الحق ونذير من ربّ العالمين , واطمأنت نفسه من بعد اضطراب, فرجع إلى أهله , ثم جاء إلى راعٍ لأبيه فألقى إليه ما يلبس من حلل الإمارة وحليّها, و أخذ منه أسماله ولف جسمه بها وهام على وجهه.

قصته مع الشيخ الغامض
وفي رواية ثانية أنه كان يوماً في مجلس العرش محاطاً بالأمراء والوزراء وأفراد الحاشية عندما دخل على الجمع شيخ ذو هيبة ألقت الرهبة في قلوب الجمع حتى أن أحداً لم يجرؤ على سؤاله عن هويته أو كيفية دخوله إلى هذه القاعة المحاطة بكل أنواع الجند والحرس. وقد تمالك السلطان ابن أدهم نفسه وسأل الرجل: ما الذي أتى بك إلى هذا المكان؟ أجاب الشيخ: (الذي يقال أنه سيدنا الخضر عليه السلام متنكراً في تلك الهيئة) إنني أبحث عن نزل لأبيت فيه. أجاب ابن أدهم متعجباً:”هل يبدو لك هذا المكان نزلا؟” عندها سأله الشيخ: هل هذا المكان خاصتك؟ قال ابن أدهم: نعم. أردف الشيخ سائلاً: ولمن كان قبل ذلك؟ قال ابن أدهم كان لجدي. سأل الشيخ: ولمن كان قبل ذلك؟ قال ابن أدهم: بالطبع لمن سبقه. عندها قال الشيخ: أرأيت الآن أنه نزل، إذ أن ساكنيه يقيمون فيه لبعض الوقت ثم يغادرونه. ويقال إن هذه الحادثة والدخول الغامض لهذا الشيخ كان لهما أثر فوري وبليغ في حياة ابن أدهم الذي انتبه آنئذ إلى المغزى العميق لكلام الشيخ وقرر التخلي عن الملك والبحث عن الديمومة الحقيقية في عالم الروح.

حادثة إيقاظ الملائكة له في قصره
وتُنسب توبة ابن أدهم إلى حادثة مختلفة جاء فيها أنه كان يوماً نائماً في قصره عندما سمع وقع أقدام (قيل أنهم ملائكة) فوق سطح القصر وهو أمر بدا غريباً على الرغم من الحرس الذي ينتشر في المكان. هتف ابن أدهم قائلا: أيها الطارقون في هذا الليل من أنتم وما الذي جاء بكم إلى سطح القصر؟ فجاءه الجواب:”إننا نبحث عن جمل لنا فقدناه” أجاب ابن أدهم مستنكراً:” وهل تتوقعون فعلاً أن تجدوا جملكم فوق أسطح المنازل؟ وكم كانت دهشته كبيرة عندما جاءه الردّ بالقول: “وهل تتوقع أنت أن تجد الطريق إلى الله في القصور ووسط أبّهة السلطان؟”.
في قصة مختلفة عن توبته جاء في بعض الروايات أنه كان في رحلة صيد وكان العديد من غلمانه يتقدمون الموكب حاملين عصياً من ذهب يبعدون بها الناس عن طريق موكب السلطان. في تلك الأثناء لاحظ الجمع أن شيخاً جليلاً وضع كرسيّه في وسط الطريق وجلس غير مبال. فتقدم الجند منه وسألوه لمَ جلوسك هنا ألا تعلم أنك تعترض طريق الملك؟ عندها أجاب الشيخ: تقولون ملكاً؟ ويلكم لا تقولوا الملك ولكن قولوا المملوك العبد الخاطئ الفقير، الحقير، الذليل، العاصي. وانشد يقول شعراً:
ليـــس مُـــلكٌ يـــزيله الموت مُلكــــــا انمـــا المُـــلك مُـــلك مـــن لا يموت

فلما سمع إبراهيم كلام الشيخ علم أنه من الصالحين وأنه أرسل إليه ليبلغه أمراً من عالم الحق فهرع إليه وقال له: أيها الشيخ بمَ يصل العبد إلى الكل؟ قال الشيخ “بترك الكل”. فرجع السلطان ابن أدهم عن الطريق ودخل قصره وأمر بغلق الأبواب وتضرع ثلاثة أيام بلياليها ثم خرج على الناس قائلاً: أنا عبد فقير عاص لمولاه ذليل، حقير، وقد زهدت في الدنيا ولذاتها وعزمت على تركها وسلوك طريق الحق.

من أقواله

– ذهب السخاء والكرم والجود والمواساة، من لم يواس الناس بماله وطعامه وشرابه فليواسهم ببسط الوجه والخلق الحسن.
– إياكم والكبر والإعجاب بالأعمال ومن ذلل نفسه رفعه مولاه، ومن خضع له أعزّه، ومن اتقاه وقاه، ومن أطاعه أنجاه.
– اطلبوا العلم للعمل فإن أكثر الناس قد غلطوا حتى صار علمهم كالجبال وعملهم كالذر.
– ما صدق الله عبدٌ أحبّ الشهرة بعلم أو عمل أو كرم.
– من عرف مطلوبه هان عليه ما يبذل.
– ما قاسيت في الدنيا شيئاً أشد علي من نفسي، مرة علي، ومرة لي. وأما أهوائي فقد استعنت بالله عليها واستكفيت سوء مغالبتها
فكفاني والله ما آس علي ما أقبل من الدنيا ولا ما أدبر منها.
– كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص سواء، وكل عالم لا يكون تقيًّا فهو والذئب سواء، وكل من ذلّ لغير الله، فهو والكلب سواء.
– ما لنا نشكو فقرنا إلى مثلنا ولا نسأل كشفه من ربنا.
– كان أكثر دعائه: اللهم انقلني من ذلّ معصيتك إلى عزّ طاعتك.

قصته مع صاحب البستان
من الروايات الذائعة عنه بعد توبته وتزهّده أنه سار يوماً إلى المدينة فالتقى برجل ضرير تعلّق به وطلب منه بإلحاح صدقة يحصّل بها قوت ذاك النهار. ولما كان إبراهيم فقيراً لا يملك شيئاً فإنه قال له: يا صاحبي إنني لا أملك شيئاً ولكنني أقترح عليك أن تصطحبني إلى السوق وتبيعني وتنتفع بثمني. وبالفعل أخذ إبراهيم بيد الضرير وتوجه إلى السوق حتى وجد أحد كبار التجار الذي اشتراه بخمسة دراهم عارضاً على إبراهيم أن يستعمله عنده لبعض الوقت ثم يطلقه. وقبض إبراهيم الثمن ودفعه إلى الضرير ثم سأل التاجر في أي شيء تود أن تستعملني يا سيدي؟ قال التاجر: إن لي بستاناً وفيه تل تراب، إن نقلته عتقتك. وصدم إبراهيم عندما وجد أن البستان فيه تل كبير لا يمكن حتى لعشرات الرجال نقله حتى ولو عملوا أسابيع بل أشهراً. لم يجزع وقال: “لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، استعنت بالله على هذا الأمر”، ثم قال للتاجر آتني بزنبيل ومجرفة وقرص شعير. ثم بدأ في نقل تل التراب بالمجرفة والزنبيل وأمضى يوماً كاملاً في العمل حتى إذا اتكأ طلباً لبعض الراحة أخذته إغفاءة في ظل شجرة. وكان في المكان أفعى سامة تقتل أياً من العمال الذين يحاولون العمل على نقل التراب. ولكن عندما اتكأ إبراهيم وأخذته إغفاءة جاءت تلك الأفعى وفي فمها عرق من ريحان وجعلت تهشّ الذباب عنه، كما أنه وفي ذلك الحين أيضا وأثناء نومه انتقل تل التراب بقدرة المولى تعالى. وجاء التاجر ورأى العجب العجاب. تل التراب انتقل بكامله والأفعى السامة تقف فوق وجه إبراهيم تهش عنه الذباب. صعق وصاح صيحة أوقظت إبراهيم من غفوته ليجد السيد في حالة من الدهشة والخوف. قال له ما الخطب يا مولاي فهل رأيت مني ما يسوءك؟ قال التاجر: أيها العبد الصالح لا تقل لي مولاي بل أنت مولاي وأنا المملوك، فبالله قل لي من أنت وما هو سرّك؟ أجاب إبراهيم بتأدب: يا مولاي ما كان بيننا أنه إذا فرغ التراب تعتقني وقد زال التراب بقدرة الله تعالى. قال له التاجر: بل أقسمت عليك أن تنبئني من أنت؟ قال إذا قلت لك تعتقني؟ قال أنت حر لوجه الله تعالى، فقال أنا إبراهيم ابن أدهم. قال التاجر: كل شيء معي من بعض إحسانك وإنني قد اشتريت مئة مملوك وكنت مسافراً بهم إلى بعض أقطار ملكك، وأشهدك الآن على أنني أعتقتهم كلهم لوجه الله تعالى.

ضريح إبراهيم بن أدهم
ضريح إبراهيم بن أدهم

سلوكه وأبرز خصاله
من أبرز خصال إبراهيم بن أدهم أنه وهو الملك العزيز الواسع الثراء لم يعتمد في عيشه على الآخرين، بل كان يأكل من عمل يده، ويعمل أجيراً عند أصحاب المزارع، يحصد لهم الزرع، ويقطف الثمار ويطحن الغلال، ويحمل الأحمال على كتفيه، وكان قوي البنية نشيطاً في عمله حتى أنه، وفق بعض الروايات، حصد في يوم ما يحصده عشرة رجال، وكان في أثناء حصاده ينشد قائلاً: “إتَّخِذِ اللَّه صاحباً… ودَعِ النَّاسَ جانباً”.
وفي هذا التحول فضل عظيم لأنه كان في إمكانه وهو الملك ذو الجاه أن يتنسك في صومعة وأن يعيش من بعض ما عنده أو ما يتفضل به الناس الذين كانوا يجلّونه ويتشوقون إلى نيل البركة عبر خدمته، لكن إبراهيم بن أدهم أراد أن يضرب أولاً مثالاً على قهر النفس، وذلك عندما ألزم نفسه التي كانت في صدره على أن تستبدل أنفة الملك بالخضوع والقبول بخدمة الناس، ربما في سعي منه للتطهر مما اعتبره آثام الماضي . أما المثال الثاني الذي يقدمه هذا الناسك الكبير فهو إن الزهد في الدنيا يجب أن لا يعني التواكل والإعراض عن طلب الرزق، وأن اكتساب فضائل السمو الروحي يجب أن يحصل عبر اختبار النفس في علاقتها بالآخرين وليس في الهرب من مواجهتهم والصبر عليهم.
ساح إبراهيم في الأمصار الإسلامية ، فجاب خراسان والعراق وقصد الحجاز فزار قبر الرسول الكريم وعرج على مكة المكرمة فحجّ وصحب في مكة سفيانا الثوري والفضل ابن عياض ، وقيل أنه قدم مصر ومرّ بالإسكندرية ثم صار إلى بلاد الشام ونقل عنه بأنه كان يردّد دائماً قـــولــه “ما تهنيت بالعيش إلا في بلاد الشام أفر بديني من شاهق إلى شاهق فمن رآني يقول حمال وموسوس”. طاف في بلاد الشام في سهولها وجبالها ومدنها وقراها، وزار بيت المقدس، وقيسارية وغزة، وطبرية والرملة وعكا، وعسقلان، والناقورة وأقام بعض الوقت في صور وصيدا وبيروت، والتقى في الأخيرة الإمام الأوزاعي وصحبه وزار الأردن وقضى مدة من الزمن في دمشق وحمص والرستن ورابط في إنطاكية ومرعش والمصيصة وطرسوس وسوقين وفي بعض العواصم والثغور الأخرى مجاهداً ضد البيزنطيين، ويبدو أنه ألقى عصا الترحال في الساحل السوري ولا سيما في جبلة قبل أن يلقى وجه ربّه الكريم في سنة 162هـ. (777 ميلادية) ودفن فيها وأقيم له فيها مقام ومسجد كبير بإسمه يقصده الناس من جميع الأمصار وهو أحد أبرز معالم مدينة جبلة التاريخية.

استفتاء الضحى الشبابية حول الزواج المختلط

استفتاء «الضحى الشبابية» حول الـزواج المختلط

79% لا يفكرون به و 84% لا يقبلون الخروج من الأهل

أبرز الموانع في تفكير الشباب الدرزي
العقيدة ورضا الأهل ومشكلة الأولاد

أهم مشاكل الزواج المختلط هي الندم على ترك الأهل
وتراجع الحب واختلاف الزوجين بشأن دين الأولاد

أجرت “الضحى الشبابية” استفتاء رأي ميدانياً للشباب الدروز حول موضوع الزواج المختلط، وتناول البحث عينة من 154 شخصاً وكان تركيبها كالتالي:

ذكور:45% إناث 55% أما التمثيل المناطقي فجاء كالتالي: الشوف: 38% عاليه: 23% راشيا-حاصبيا: 22% المتن: 12% وبيروت: 5%، وهو تمثيل يعكس إلى حدٍّ كبير الثقل النسبي لكل من مناطق تواجد الشباب الدروز. 93% من حجم العينة كانوا من الجامعيين أو طلاب الدراسات العليا و75% اعتبروا أنفسهم من أصحاب الدخل المتوسط، في مقابل 20% اعتبروا أنفسهم “فوق المعدل” أو من أصحاب المداخيل المرتفعة. 58% من الذين أجابوا على أسئلة الضحى الشبابية كانوا ما بين الـ 20 و24 عاماً و38% أقل من 20 عاماً، أما الفئة التي يزد عمرها على 25 سنة فلم تمثل سوى 4%.
وبهذا المعنى، فإن العينة رجحت التمثيل الشبابي والجامعي والطبقة الوسطى أو ما فوقها، وهو تمثيل يعكس إلى حد كبير الفئة المعنية بالزواج، كما أن النسبة المرتفعة للجامعيين استهدفت دراسة تأثير البيئة الجديدة على موقف الشباب الدروز من الموضوع.
نلفت النظر إلى نسب الإجابات على بعض الأسئلة تفوق الـ 100% نظراً لأن الاستفتاء سمح في بعض الأسئلة باختيار أكثر من إجابة على السؤال نفسه.

لكن، ماذا عن النتائج؟
بصورة عامة لم تكن الصورة العامة للإجابات مفاجئة، إذ عكست آراء الذين تمت مقابلتهم الرأي العام المحافظ تجاه الزواج المختلط لدى الشباب الدروز، كما هو لدى شباب الطوائف اللبنانية الباقية، مع العلم أنه لا تتوافر لدينا إحصاءات تظهر النتائج المقارنة حول الموضوع نفسه التي يمكن أن يعطيها أفراد الجماعات اللبنانية الباقية المسيحية والإسلامية.
الموقف العام من موضوع الزواج المختلط ظهر في إعلان 79% من المجيبين أنهم لن يتزوجوا من خارج البيئة الدرزية، في مقابل 11% قالوا إنهم مستعدون للزواج من طوائف أخرى و10% قالوا أنه ليس لديهم موقف من الموضوع. يلاحظ أن نسبة المعارضين للزواج ارتفعت إلى 86% عندما طرح السؤال: هل أنت مستعدٌّ للزواج من خارج الطائفة على الرغم من معارضة الوالدين. مما يعني أن عامل قبول الأهل ما زال مهماً في حياة الشباب الدروز. وقد انخفضت بسبب هذا السؤال نسبة الذين قد يفكرون بالزواج المختلط إلى 8%، كما تراجعت إلى 7% فئة الذين ليس لديهم موقف من الموضوع.
وأوضح الاستفتاء أهمية الاعتبار الاجتماعي في موقف الشباب الدرزي من الزواج المختلط، إذ اعتبر 63% من المجيبين أن المركز الاجتماعي للشريك عامل مهم في الزواج في مقابل 26% لم
يعتبروه مهماً.

الموقف من الأهل
وكشف الاستفتاء في هذا السياق عن وجود اختلاف في مفاهيم الشباب الدرزي تجاه موضوع الوالدين وأهمية أن يكونا موافقين على الزواج، إذ أن الأشخاص أنفسهم الذين اعتبروا رضا الأهل مهماً للزواج تبدلت إجاباتهم عندما سئلوا إذا كانوا يعتبرون الزواج ارتباطاً يخص الشريكين فقط، أم يخصهما مع الوالدين أو مع الأهل بالمعنى الواسع. فقد أجاب 36% أن الزواج يخص الشريكين فقط، بينما اعتبر 22% أن الزواج يخص الشريكين مع الوالدين، و31% أنه يخص الشريكين مع العائلة الأكبر بمعناها الواسع. والواقع أن هذه النسبة يمكن تفسيرها في حرص الشباب ولا سيما الفتيات منهن على تأكيد حقهن في اختيار الشريك من دون تدخل من الأهل لكن دون أن يعني ذلك الموافقة على الزواج من خارج الطائفة، إذ أن كلاً من الموضوعين يمكن اعتباره مستقلاً عن الآخر نسبياً، فقد تصر الفتاة على حقها في اختيار الزوج من دون ضغط الأهل لكن دون أن يعني ذلك التفكير بالزواج من خارج الطائفة.

الانضباط بالأسرة
بكلام آخر، فإن الشباب الدرزي يقول إن اختيار الشريك يعود إليه لكنّه يؤكد في الوقت نفسه على أن رضا الأهل عامل أساسي لإتمام الزواج، إذ وافق 85% على أن رضا الوالدين عامل أساسي لإتمام الزواج، بينما اعتبر 8% فقط أن رضا الأهل ليس ضرورياً لإتمامه. وهذه النسبة قابلة للمقارنة بالأجوبة التي حصلنا عليها على السؤال السابق وهو استعداد الشاب أو الشابة للزواج من خارج الطائفة.
وانعكست النظرة المتشككة إزاء الزواج من خارج الطائفة في مؤشر آخر مهم، إذ اعتبر 6% فقط من المجيبين بأن فرص نجاح الزواج المختلط “مرتفعة” في مقابل 46% اعتبروا فرصة النجاح منخفضة و 26% اعتبروا فرصة النجاح “متوسطة”، بينما أجاب الباقي أو نسبة 19% بأنهم لا يملكون موقفاً.


الانضباط بالعقيدة
أظهر الاستفتاء أن المعتقد أو الانتماء المذهبي يلعب دوراً مهماً في تحديد موقف الشباب من الزواج المختلط. إذ أن 70% من المجيبين قالوا إن تمسكهم بعقيدة التوحيد هي السبب الأول لرفضهم الزواج من خارج الطائفة ورد 68% السبب التعلق بالوالدين والأسرة وعدم طاقتهم على احتمال الخروج عن المنزل الأبوي. وبهذا المعنى نفسه فلقد قال 85% من المجيبين على الاستفتاء بأنهم يرفضون تبديل مذهبهم أو دينهم لتسهيل الزواج من خارج الطائفة، بينما أعلن 7% أنهم مستعدون لتبديل انتمائهم الديني أو المذهبي في سبيل الزواج بمن يختارون.

لماذا يحصل الزواج المختلط؟
كيف ينظر الشباب الدرزي إلى الزواج المختلط، وما هي في نظرهم الدوافع التي قد تجعل البعض يتجه إليه؟
الرأي العام الغالب (نحو 75%) يعطي للحب الدور الأهم في قيام علاقات تنتهي بالزواج المختلط، بينما يرد 44% ذلك الزواج إلى أفكار مثالية ترفض التمييز على أساس اجتماعي أو طائفي أو غيره. في المقابل، فإن نسبة أقل اعتبرت الزواج المختلط نتيجة لعدم الخبرة (16%) أو للنقص العاطفي (22%) أو الجهل بالنتائج (35%) أو عدم الاكتراث برضا الأهل (20%) أو عدم الاكتراث بشعور المجتمع الدرزي عموماً (24%).

لماذا يتعثر؟
إذا كان 6% من الشباب الدرزي فقط يعتقدون بنجاح الزواج المختلط، فما هو رأي الذين يعتقدون خلاف ذلك؟ وما هي أبرز الأسباب التي يعتقد المشككون أنها تؤدي إلى تعثر الزواج المختلط؟
النسبة الأهم (74%) ترد تعثر الزواج المختلط إلى اختلاف الزوجين بشأن أي دين يتعين على الأطفال إتباعه، بينما يرى51% السبب في “شعور العزلة والندم على الخروج على الوالدين” و50% في “اختفاء الحب وبدء الخلافات”، أو في ظهور الهوة على حقيقتها في القيم الثقافية والمجتمعية لكل من الشريكين.

الأهمية الخاصة لموضوع الأولاد
أظهر استفتاء “الضحى الشبابية” أن موضوع الأولاد وهويتهم الدينية ومشكلة تربيتهم ووفق أي منهج يعتبر عاملاً محورياً في تعثر الزواج المختلط. وأجاب 75% أنهم يعتبرون الهوية الدينية للأولاد موضوعاً جسيماً ومهماً (في مقابل 17% اعتبروا الأمر غير أساسي) و8% قالوا إنهم لا يملكون جواباً. وبالمعنى نفسه، فقد اعتبر 76% من المجيبين أن اختلاف الدين بين الزوجين يسبّب مشكلات للأولاد في المستقبل في مقابل 14% لم يوافقوا على ذلك.

إبن عطاء الله السكندري

الحكم العطائية

لعطاء الله السكندري

ذاعت شهرتها كأهم دليل موجز للمريد
في مجاهداته ومراقبته الدائمة لأحواله

تعتبر حكم ابن عطاء الله السكندري من أكثر النصوص الصوفية ذيوعاً في العالم وقد اكتسبت “الحكم العطائية” شهرتها الواسعة ليس فقط بسبب النظر إليها كدليل للسالكين في طريق الله، بل وبالدرجة الأولى نظراً للأسلوب المحكم والموجز الذي صيغت به تلك الحكم من دون ترتيب محدد للمواضيع لكن مع توال في السياق يجعل كلاً من تلك الحكم تمهد لما يتبعها أو تفصلها أو تشرحها.
ومن المؤكد أن ابن عطاء الله استهدف في استخدام صيغة الحكم الموجزة والمحكمة المعاني جَعْلَ كلا من تلك الحكم موضوعاً لتأمل المريد أو معيناً له على إدراك حاله ومقامه وما يعترض طريقه في السلوك من قواطع النفس أو امتحانات الحق تعالى. وأهم ما بني عليه سلوك التوحيد الصوفي هو الاعتقاد بأن الطريق إلى الله طريق مجاهدات ومراقبة وتضحية حتى المحو والموت عن النفس الترابية والقطع الكامل معها. لكن طريق المريدين إلى مرادهم محفوف بالامتحانات ومخاطر الشطط والوقوف والسقوط في حبائل الهوى وقد أراد ابن عطاء الله لذلك أن يضع بين أيدي هؤلاء دليلاً يمكن اعتباره رفيق الطريق والمعين عليها في حضور المرشد أو في غيابه..

من هو ابن عطاء الله
ولد ابن عطاء الله السكندري وعاش في القرن السابع الهجري وعاصر بذلك أعلاماً كبار مثل محي الدين ابن عربي وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وأحمد البدوي وجلال الدين الرومي وابن الفارض وإبراهيم الدسوقي, لكن لم يلتق معظم هؤلاء في الغالب. كان رجلاً صالحاً عالماً يتكلم على كرسي ويحضر بين يديه خلق كثير، وكان لوعظه تأثير في القلوب، وكان له معرفة تامة بكلام أهل الحقائق وأرباب الطريق. تدّرج في طريق القوم على يد الشيخ ياقوت وقبله على يد الشيخ أبي العباس المرسي وقال عنه الشيخ زروق: “كان جامعاً لأنواع العلوم من تفسير وحديث وفقه ونحو وأصول وكان واعظا انتفع به خلق كثير وسلكوا طريقه”.
سلوكه طريق الصوفية
أشار ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن إلى حادثة التقائه بشيخة فقال إنها جاءت بعد مجادلته أحد أصحاب أبو العباس المرسي إذ قال له “ليس إلا أهل العلم الظاهر وهؤلاء القوم يدّعون أموراً عظيمة وظاهر الشرع يأباها” لكن ابن عطاء الله عاد وقال في نفسه بعد تلك، الخصومة: “دعني أذهب أنظر إلى هذا الرجل فصاحب الحق له أمارات”. ويقول:” أتيته فوجدته يتكلم في الأنفاس التي أمر الشارع بها فأذهب الله ما كان عندي” وعلى أثر ذلك تحول ابن عطاء الله إلى أحد خواص أصحاب الشيخ المرسي وقد لازمه اثني عشر عاماً حتى أشرقت أنواره عليه وصار من صدور المقربين.

مختارات من الحكم العطائية

مِنْ عَلامَةِ الاعْتِمادِ عَلى العَمَلِ نُقْصانُ الرَّجاءِ عِنْدَ وُجودِ الزَّللِ.
اجْتِهادُكَ فيما ضُمِنَ لَكَ وَتَقصيرُكَ فيما طُلِبَ مِنْكَ دَليلٌ عَلى انْطِماسِ البَصيرَةِ مِنْكَ.
لا يَكُنْ تأَخُّرُ أَمَدِ العَطاءِ مَعَ الإلْحاحِ في الدُّعاءِ مُوْجِباً لِيأْسِكَ. فَهُوَ ضَمِنَ لَكَ الإِجابةَ فيما يَخْتارُهُ لَكَ لا فيما تَخْتارُهُ لِنَفْسِكَ. وَفي الوَقْتِ الَّذي يُريدُ لا فِي الوَقْتِ الَّذي تُرْيدُ.
الأَعْمالُ صُوَرٌ قَائَمةٌ، وَأَرْواحُها وُجودُ سِرِّ الإِخْلاصِ فِيها.
كَيْفَ يُشْرِقُ قَلْبٌ؛ صُوَرُ الأَكْوانِ مُنْطَبِعَةٌ في مِرْآتهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَرْحَلُ إلى اللهِ وَهُوَ مُكَبَّلٌ بِشَهْواتِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَطمَعُ أنْ يَدْخُلَ حَضْرَةَ اللهِ وَهُوَ لَمْ يَتَطَهَرْ مِنْ جَنْابِةِ غَفْلاتِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَرْجو أَنْ يَفْهَمَ دَقائِقَ الأَسْرارِ وَهُوَ لَمْ يَتُبْ مِنْ هَفْواتِهِ؟!
الكونُ كلُّهُ ظُلْمةٌ وإِنَّما أَنارَهُ ظُهورُ الحقِّ فيهِ. فَمَنْ رَأى الكَوْنَ وَلَمْ يَشْهَدْهُ فيهِ أَوْ عِنْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَه فَقَدْ أَعْوَزَهُ وُجودُ الأَنْوارِ. وَحُجِبَتْ عَنْهُ شُموسُ المَعارِفِ بِسُحُبِ الآثارِ.
ما تَرَكَ مِنَ الجَهْلِ شَيْئاً مَنْ أَرادَ أَنْ يَحْدُثَ في الوَقْتِ غَيْرُ ما أَظْهَرَهُ اللهُ فيِهِ.
طَلَبُكَ مِنهُ اتِّهامٌ لَهُ. وَطَلَبُكَ لَهُ غَيْبَةٌ مِنْكَ عَنْهُ. وَطَلَبُكَ لِغَيْرِهِ لِقِلَّةِ حَيائِكَ مِنْهُ. وَطَلَبُكَ مِنْ غَيْرِهِ لِوُجودِ بُعْدِكَ عَنْهُ.
ما مِنْ نَفَسٍ تُبْدْيهِ إلّا وَلَهُ قَدَرٌ فيكَ يُمْضيهِ.
ما تَوَقَّفَ مَطْلَبٌ أنْتَ طالِبُهُ بِرَبِّكَ. وَلا تَيَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طالِبُهُ بِنَفْسِكَ.
مِنْ عَلاماتِ النُّجْحِ في النِّهاياتِ، الرُّجوعُ إلى اللهِ في البِداياتِ.
مَنْ أَشْرَقَتْ بِدايَتُهُ أَشْرَقَتْ نِهايَتُهُ.
اخْرُجْ مِنْ أوْصافِ بَشَرِيَّتِكَ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ مُناقِضٍ لِعُبوديَّتِكَ لِتَكونَ لِنِداءِ الحَقِّ مُجيباً، ومِنْ حَضْرَتِهِ قَريباً.
أَصْلُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ وَغَفْلَةٍ وَشَهْوةٍ؛ الرِّضا عَنِ النَّفْسِ. وَأَصْلُ كُلِّ طاعَةٍ وَيَقَظَةٍ وَعِفَّةٍ؛ عَدَمُ الرِّضا مِنْكَ عَنْها. وَلَئِنْ تَصْحَبَ جاهِلاً لا يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ خَيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ عالِماً يَرْضى عَنْ نَفْسِهِ
كانَ اللهُ وَلا شَيْءَ مَعَهُ، وَهُوَ الآنَ عَلَى ما عَلَيْهِ كانَ.
العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِمَّنْ يَهْرُبُ مِمَّنْ لا انْفِكاكَ لَهُ عَنْهُ، وَيَطْلُبُ ما لا بَقاءَ لَهُ مَعَهُ. }فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ{.
لا تَرْحَلْ مِنْ كَوْنٍ إلى كَوْنٍ فَتَكونَ كَحِمارِ الرَّحى؛ يَسيرُ وَالمَكانُ الَّذي ارْتَحَلَ إلَيْهِ هُوَ الَّذي ارْتَحَلَ عَنْهُ. وَلكِنِ ارْحَلْ مِنْ الأَكْوان إلى المُكَوِّنِ، }وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى{.
لا تَصْحَبْ مَنْ لا يُنْهِضُكَ حالُهُ وَلا يَدُلُّكَ عَلَى اللهِ مَقالُهُ.
مِنْ عَلاماتِ مَوْتِ القَلْبِ عَدَمُ الحُزْنِ عَلَى ما فاتَكَ مِنَ المُوافَقاتِ. وتَرْكُ النَّدَمِ عَلَى ما فَعَلْتَهُ مِنْ وُجودِ الزَّلّاتِ.
لا يَعْظُمِ الذَنْبُ عِنْدَكَ عَظَمَةً تَصُدُّكَ عَنْ حُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تَعالى، فإنَّ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ اسْتَصْغَرَ في جَنْبِ كَرَمِهِ ذَنْبَهُ.
لا صَغيرَةَ إِذا قابَلَكَ عَدْلُهُ. وَلا كَبيرَةَ إِذا واجَهَكَ فَضْلُهُ.
النّورُ جُنْدُ القَلْبِ، كَما أَنَّ الظُلْمَةَ جُنْدُ النَفْسِ. فإذا أرادَ اللهُ أنْ يَنْصُرَ عَبْدَهُ أَمَدَّهُ بِجُنودِ الأَنْوارِ وَقَطَعَ عَنْهُ مَدَدَ الظُلَمِ وَالأَغْيارِ.
لا تُفْرِحْكَ الطّاعَةُ لأَنَّها بَرَزتْ مِنَكَ، وَافْرَحْ بِها لأَنَّها بَرَزتْ مِنَ اللهِ إلَيْكَ. }قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ{.
ما بَسَقَتْ أَغْصانُ ذُلٍّ إلّا عَلى بِذْرِ طَمَعٍ.
ما قادَكَ شَيْءٌ مِثْلُ الوَهْمِ.
أنْتَ حُرٌ مِمّا أنْتَ عَنْهُ آيِسٌ. وَعَبْدٌ لِما أنْتَ لَهُ طامِعٌ.
مَنْ لَمْ يُقْبِلْ عَلى اللهِ بِمُلاطَفاتِ الإحْسانِ قِيْدَ إلَيْهِ بِسَلاسِلِ الامْتِحانِ.
مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوالِها، وَمَنْ شَكَرَها فَقَدْ قَيَّدَها بِعِقالِها.
إنَّما جَعَلَ الدّارَ الآخِرَةَ مَحَلّاً لِجَزاءِ عِبادِهِ المُؤْمِنينَ؛ لأَنَّ هَذِهِ الدّارَ لا تَسَعُ ما يُريدُ أنْ يُعْطِيَهُمْ. وَلِأَنَّهُ أَجَلَّ أَقْدارَهُمْ عَنْ أنْ يُجازِيَهُمْ في دارٍ لا بَقاءَ لَها.
إذا أَرَدْتَ أنْ تَعْرِفَ قَدْرَكَ عِنْدَهُ فانْظُرْ في ماذا يُقيمَكَ.
خيرُ ما تَطْلُبُهُ مِنْهُ ما هُوَ طالِبُهُ مِنْكَ.
الحُزْنُ عَلى فُقْدانِ الطّاعةِ مَعَ عَدَمِ النُّهوضِ إلَيْها مِنْ عَلاماتِ الاغْتِرارِ.
رُبَّما أَعْطاكَ فَمَنَعَكَ وَرُبَّما مَنَعَكَ فأَعْطاكَ.
كَفى مِنْ جَزائِهِ إيّاكَ عَلى الطّاعَةِ أَنْ رَضِيَكَ لَها أَهلاً.
مَنْ عَبَدَه لِشَيْءٍ يَرْجوهُ مِنْهُ أَوْ لِيَدْفَعَ بِطاعَتِهِ وُرودَ العُقوبَةِ عَنْهُ، فَما قامَ بِحَقِّ أَوْصافِهِ.
مَتى أعْطاكَ أَشْهَدَكَ بِرَّهُ، وَمَتى مَنَعَكَ أَشْهَدَكَ قَهْرَهُ. فَهُوَ في كُلِّ ذلِكَ مُتَعَرِّفٌ إلَيْكَ وَمُقْبِلٌ بِوُجودِ لُطْفِهِ عَلَيْكَ.
رُبَّما فَتَحَ لَكَ بابَ الطّاعَةِ وَما فَتَحَ لَكَ بابَ القَبولِ. وَرُبَّما قَضى عَلَيْكَ بِالذَّنْبِ فَكانَ سَبَبَاً في الوُصولِ.
مَعْصِيَةٌ أَورَثَتْ ذُلاً وافْتِقاراً خَيرٌ مِنْ طاعَةٍ أوْرَثَتْ عِزّاً وَاسْتِكْباراً.
مَتى أَوْحَشَكَ مِنْ خَلْقِهِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُريدُ أَنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الأُنْسِ بهِ.
لا تُطالِبْ رَبَّكَ بِتَأَخُّرِ مَطْلَبِكَ وَلكِنْ طالِبْ نَفْسَكَ بِتَأَخُّرِ أَدَبِكَ.
وُرودُ الإمْدادِ بِحَسَبِ الاسْتِعْدادِ. وَشُروقُ الأنْوارِ عَلى حَسَبِ صَفاءِ الأسْرارِ.
الغافِلُ إذا أَصْبَحَ يَنْظُرُ ماذا يَفْعَلُ، وَالعاقِلُ يَنْظُرُ ماذا يَفْعَلُ اللهُ بِهِ.
لولا جَميلُ سَترِهِ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ أهْلاً لْلْقَبولِ.
النّاسُ يَمْدَحونَكَ لِما يَظُنُّونَهُ فيكَ، فَكُنْ أنْتَ ذاماً لنَفسِكَ لِما تَعْلَمُهُ مِنها.
إذا أَرَدْتَ أنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الرَّجاءِ فاشْهَدْ ما مِنْهُ إلَيْكَ. وَإذا أَرَدْتَ أنْ يَفْتَحَ لَكَ بابَ الخَوفِ فاشْهَدْ ما مِنْكَ إلَيْهِ.
حَظُّ النَّفْسِ في المَعْصِيَةِ ظاهِرٌ جَليٌّ، وَحَظُّها في الطّاعَةِ باطِنٌ خَفيَ، وَمُداواةُ ما يَخْفى صَعْبٌ عِلاجُهُ.
غَيِّبْ نَظَرَ الخَلْقِ إلَيْكَ بِنَظَرِ اللهِ إلَيْكَ، وَغِبْ عَنْ إقْبالِهِمْ عَلَيْكَ بِشُهودِ إقْبالِهِ إلَيْكَ.
مَنْ عَرَفَ الحَقَّ شَهِدَهُ في كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ فَنِيَ بِهِ غابَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَمَنْ أحَبَّهُ لَمْ يُؤْثِرْ عَلَيْهِ شَيئاً.
إنَّما حَجَبَ الحَقَّ عَنْكَ شِدَّةُ قُرْبِهِ مِنْكَ.
إنَّما احْتَجَبَ لِشِدَّة ظُهورِهِ، وَخَفِيَ عَنِ الأبْصارِ لِعِظَمِ نُورِهِ.
جَلَّ حُكْمُ الأزَلِ أَنْ يَنْضافَ إلى العِلَلِ.
رُبَّما دَلَّهُمُ الأَدَبُ عَلى تَرْكِ الطَّلَبِ اعْتِماداً عَلى قِسْمَتِهِ وَاشْتِغالاً بِذِكْرِهِ عَنْ مَسْألَتِهِ.
مَنْ أُذِنَ لهُ في التَّعْبيرِ فُهِمَتْ في مَسامِعِ الخَلْقِ عِبارَتُهُ، وَجُلِّيَتْ إلَيْهِمْ إشارَتُهُ.
مِنْ عَلاماتِ اتِّباعِ الهَوى المُسارَعَةُ إلى نَوافِلِ الخَيْراتِ، وَالتَّكاسُلُ عَنِ القِيامِ بِالواجِباتِ.
مَنْ لَمْ يَعْرِفْ قَدْرَ النِّعَمِ بِوجْدانِها عَرَفَها بِوُجودِ فُقْدانِها.
تَمَكُّنُ حَلاوَةِ الهَوى مِنَ القَلْبِ هُوَ الدّاءُ العُضالُ.
أنْوارٌ أُذِنَ لَها في الوُصولِ وَأَنوارٌ أُذِنَ لَها في الدُّخولِ.
فَرِّغْ قَلْبَكَ مِنَ الأَغْيارِ تَمْلأهُ بِالمَعارِفِ والأسْرارِ.
لا تَسْتَبْطِيءْ مِنْه النَّوالَ، وَلكِنِ اسْتَبْطيءْ مِنْ نَفْسِكَ وُجودَ الإقْبالِ.
ما فاتَكَ مِنْ عُمُركَ لا عِوَضَ لَهُ، وَما حَصَلَ لَكَ مِنْهُ لا قيمَةَ لَهُ.
ما أحْبَبْتَ شَيئاً إلا كُنْتَ لَهُ عَبْداً، وَهُوَ لا يُحِبُّ أنْ تَكونَ لِغَيْرِهِ عَبْداً.
لا يَزيدُ في عِزِّهِ إقْبالُ مَنْ أَقْبَلَ، وَلا يَنْقُصُ مِنْ عِزِّهِ إدْبارُ مَنْ أدْبَرَ.
وُصولُكَ إلى اللهِ وُصولُكَ إلى العِلْمِ بِهِ، وَإلّا فَجَلَّ رَبُّنا أنْ يَتَّصِلَ بِهِ شَيْءٌ أوْ يَتَّصِلَ هُوَ بِشَيْءٍ.
النَّعيمُ وإنْ تَنَوَّعَتْ مَظاهِرُهُ إنَّما هُوَ بِشُهودِهِ وَاقْتِرابِهِ. وَالعَذابٌ وَإنْ تَنَوَّعَتْ مَظاهِرُهُ إنَّما هُوَ لِوجودِ حِجابِهِ. فَسَبَبُ العَذابِ وُجودُ الحِجْابِ، وإتْمامُ النَّعيمِ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِ اللهِ الكَريمِ.
مِنْ تَمامِ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ أنْ يَرْزُقَكَ ما يَكْفيكَ وَيَمْنَعَكَ ما يُطْغيكَ.
العِلْمُ النّافِعُ هُوَ الَّذيِ يَنَبِسِطُ في الصَّدْرِ شُعاعُهُ ويُكَشَفُ بِهِ عَنِ القَلْبِ قِناعُهُ.
خَيرُ عِلْمٍ ما كانَتِ الخَشيَةُ مَعَهُ.
إذا عَلِمْتَ أنَّ الشَّيْطانَ لا يَغْفُلُ عَنْكَ فَلا تَغْفُلْ أنْتَ عَمَّنْ ناصِيَتُكَ بِيَدِهِ.
مَنْ أثْبَتَ لِنَفْسِهِ تَواضُعاً فَهُوَ المُتَكَبِّرُ حَقّاً. إذْ لَيْسَ التَّواضُعُ إلّا عَنْ رِفْعَهٍ. فَمَتى أثْبَتَّ لِنَفِسَكَ تَواضُعاً فَأنْتَ المُتَكَبِّرُ حَقّاً.
التَّواضُعُ الحَقيقيُّ هُوَ ما كانَ ناشِئاً عَنْ شُهودِ عَظَمَتِهِ وَتَجَلّي صِفَتِهِ.
المُؤْمِنُ يَشْغَلُهُ الثَّناءُ عَلى اللهِ عَنْ أنْ يَكونَ لِنَفْسِهِ شاكِراً. وَتَشْغَلُهُ حُقوقُ اللهِ عَنْ أنْ يَكونَ لِحُظوظِهِ ذاكِراً.
الكائِنُ في الكَونِ، وَلَمْ تُفْتَحْ لَهُ مَيادينُ الغُيوبِ، مَسْجونٌ بِمُحيطاتِهِ، وَمَحْصورٌ في هَيْكَلِ ذاتِهِ.
أنْتَ مَعَ الأكْوانِ ما لَمْ تَشْهَدِ المُكَوِّنَ، فَإذا شَهِدْتَهُ كانَتِ الأكْوانُ مَعَكَ.
كَيْفَ تَطْلُبُ العِوَضَ عَلى عَمَلٍ هُوَ مُتَصَدِّقٌ بِهِ عَليكَ، أمْ كَيْفَ تَطْلُبُ الجَزاءَ عَلى صِدْقٍ هُوَ مُهْديهِ إلَيْكَ؟!

فضائل الصوم

الصوم لغة هو الإمساك عن الشيء، فيقال صام عن الطعام أي أمسك عنه فلم يأكل، ويقال صام عن الكلام أي أمسك عنه فلم يتكلم. أمّا شرعاً، فإن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والشهوات من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس. والصيام ركن من أركان الإسلام وقد فرض في السنة الثانية للهجرة عملاً بقوله تعالى: ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون”(البقرة 183)، ثم حددت الآية شهر رمضان شهراً للصوم وبينت فضل هذا الشهر: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ”(البقرة 185)، ولاحقاً اجتهد العلماء والفقهاء كثيراً حول الصوم، وعملوا على تفسيره ظاهراً وباطناً وغاية، فبعضهم رأى أنه صوم عن الأكل والشرب والشهوات فقط، والبعض اشترط النية مع الصيام بينما اعتبر بعض الصوفية الصيام صوم النفس عن الهوى والعبودية التامة لله تعالى.

رغم تنوع آراء العلماء والفقهاء والمذاهب إلا أنهم أجمعوا على أن من أهداف الصوم أن يشعر الغني والميسور بألم الجوع والعطش والحرمان فيكون دافعاً قوياً له نحو عمل الخير والزكاة والصدقة في المجتمع. ومن أهدافه أيضاً تقوية العزيمة وتدريب المؤمن على الصبر وإعانة النفس على شهواتها، فيقول الإمام الغزالي في الإحياء عن أسرار الصوم: “الحمد لله الذي أعظم على أوليائه المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة”، فنراه وضع الصوم سلاحاً للنفس يعينها على قهر شهواتها، لتستطيع بذلك التغلب على جوانبها الحيوانية والإرتقاء في معراج الإنسانية. ثم نقل عن رسول الله (ص) قوله: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع”، وكذلك نقل عن رسول الله (ص) قوله لزوجه: “داومي قرع باب الجنة”، فقالت له:” بم يا رسول الله”، قال:”بالجوع”.

أمّا الإمام جعفر الصادق(ع) فيقول: “الصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع ، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء والالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمة وتخفيف السيئات وتضعيف الحسنات”.

والأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي يشدّد على حفظ البطن عن الشهوات والشبع دوما وليس في الشهر الفضيل فقط، فإن شهوة الطعام والشبع من محركات الشهوة ومغارسها، وحجاب للنفس عن معرفة باريها.

أمّا المتصوفون فيرون في الصوم معاني أبعد من صيام الأكل والشرب والشهوات، إذ يرون فيه نكرانا للذات وتقرباً من الله تعالى، وما يراه المؤمنون صياماً لله يروه هم صياماً بالله، وقد عبر الإمام القشيري عن هذا الإيمان بقوله:”من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله. فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة. والصوم لله تحقيق العبادة، والصوم بالله تصحيح الإرادة. والصوم لله صفة كل عابد، والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر، والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة، والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة.

أمّا المبالغة في الصوم فهو أمر غير مستحب بحسب ما نقل من أحاديث عن الرسول (ص) وبعض صحابته، وذلك لما يسببه من ضرر على الصحة، والصحة أمانة لدى الإنسان لا يجوز التفريط بها، وقد روي أن سلمان الفارسي(ع)المشهور بورعه وزهده وتعففه زار أبا الدرداء فوجد أم الدرداء في حيرة فقال لها: “ما شأنك؟” فقالت: “إن أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا، يصوم النهار ويقوم الليل”، فقال سلمان(ع) لأبي الدرداء: “ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه وبات عنده، فلما كان من آخر الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فحبسه سلمان، فلما كان الفجر قال سلمان: “قم الآن”، فقاما فصليا، فقال له سلمان: “إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك ولضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه”، ولما بلغ هذا القول الى رسول الله(ص) قال: “صدق سلمان الفارسي”.

صالح بن يحيى وحمزة بن سباط

صالح بن يحيى وحمزة بن سباط
مؤرِّخـان أضــــاءا تــــــــاريخ لبنـــــان الوسيــــط

التاريخ المدوّن عن دور الدروز في لبنان والمنطقة
لا يتناسب مع دورهم الحقيقي خلال نحو ألف عام

مؤرخو لبنان أعطوا أهمية لا تستحقها لأحداث 1860
وتجاهلوا العصر التنوخي الذهبي قبل حكم فخر الدين

لاَ يتناسَب الإسهامُ المدوّن للدّروز في التاريخ اللبنانيّ إطلاقاً مع دَوْرهم الحقيقي والفاعل خلال ما يزيد على الألف الأخير، ذلك أن حجم الكتابات الدرزيّة في تاريخ لبنان لاّ يتعدَّى الخمسة في المئة ممّا كتبَه الموارنة في هذا الموضوع على المثال، وهذا على الرغم من الدَّور القياديّ الذي اضطلع به الدروز خلال ما يزيد على ثمانيَة قرون من حكم لبنان، فضلاً عن دَوْرهم الحاسم والجوهريّ في وضع أسس الكيان اللبناني وإخراج ملامحه منَ القوَّة إلى الفعل عبر التاريخ، وكل هذا يستحقّ بالطبع ما هوَ أكبر بكثير من ذلك التدوين الشحيح الذي يدعو بحقّ إلى الكآبة والأسَف.
الأهم من ذلك هو أن تلك الفجوة الفاغرة في تأريخ دور الموحدين الدروز فتَحَت المجالَ واسعاً أمام تأريخٍ غير متوازن أفسح في المجال لقيام تاريخ غير متوازن فَاُهْمِلَتْ حقائق أساسية على حساب حقائق اُخرى، وهُـمِّشَتْ أحداث كبيرة بينما زِيدَ بصورة غير مبررة في قيمة أحداث لا تُضاهيها من حيث الأهميَّة والتأثير، واستُـثْمِرَت السّلبيَّات في تاريخ لبنان على حساب إيجابـيَّاته، وأكبر مثال على هذا حَوادث 1860 الأهلية. فقد اُلِّفَ فيها قديماً وحديثاً، وطُبِعَ واُعيدَ طباعة العَشرات منَ الكتُب والمقالات أكثر بكثير ممَّا اُلِّفَ مثَلاً حول العهد التنوخي أو المعني قبل حُكم فخر الدِّين الكبير وغيرهما، فَاُعيدَ تذكير اللبنانيـين مراراً بالمـَذابح الطائفيَّة في مقابل طمس صَفَحات ناصعَة من تاريخ لبنان سادَها التعايُش الأخَويّ والتَّوَحُّد الحكيم بينَ مختلَف مكونات البلد، وكأنـَّهُ يحلو لبعض اللبنانيـين الـمُشارَكة الدائمة في الطقس الإحتفالي الوَثني أمام مَذبح ” تيفون” الطائفي، مُساهَمة منهُم في الأسطورَة التي ألْهَبَت مُخَيَّـلَةَ الجَميع عن المؤامَرة المحُوكَة على لبنان. مقابل هذا النّزوع إلى “أدلجة” التاريخ، فإنَّ وثيقةً تاريخيَّة درزيَّة هي مخطوطة حمزة بن أحمد بن سباط الَّذي انتهى من تدوينها العام 926 هـ. (1520م)، تقدِّم لنا فسحة ضوء حقيقيَّة تخوِّلنا الاطّلاع على تفاصيل دقيقة من مرحلةٍ تاريخيَّة قلَّت مصادرُها في ما يتعلَّق بأحوال جبل لبنان.
وَلاَ بُدَّ لَنَـا قبلَ الحديث عن أهميَّـتها أن نَـتَحدَّثَ عن تاريخ الأمـير صالح بن يحـيى البحتري الذي سَبَق ابن سباط ومَهَّـدَ لَـهُ الطَّـريق.
“تاريخ بيروت” للأمير صالح بن يحيى
تُعْـتَبَر أخبارُ السَّلَف من ذُُرِّيـَّـة بحـتر بن علي أمير الغَرب في بيروت وثيقَة تاريخـيَّة عَزَّ نظيرُها، جَمَعَها ودَوَّنـها أحَدُ أبنَـاء تلكَ الذُرِّيـَّة النيِّـرين، الأمير صالح بن يحيى في النِّصْف الأوَّل منَ القرن التاسع للهجْرَة ( الخامس عَشَر للميلاد).
وتَعودُ أهَميَّـتُها البالغَة إلى كوْنها الروايَة المفَصَّلة الوحيدة التي تحفَظ لنا روايات شَفهيَّة ومُستنَدات خطِّـيَّة ومَرْويَّات عيانيَّة تعودُ كلُّها إلى حقبَة “مُظلمة” من تاريخ بيروت وما جَاوَرها في ذلكَ العَصر.
لقَد كانَت بيروت واحدَة من أربَع مناطق أو ولايات تألَّفَت منها “الصفقَة الشماليَّة”التي كانت بدَوْرها واحدَة من أربع “صَفقات” تُمثِّلُ بمَجموعها كبرى مقاطَعات”الممالك الشَّاميَّة” في أيـَّام المماليك”مَملكَة دمشق”(راجع مقدّمة الكتاب د. الصليبي). وَكانَت بيروت تُعتَبَر منَ المناطق الريفيَّة التابعَة لتلكَ المَملَكة آنَذاك، وقَد اكتنَفَ الغُموض التاريخ الوسيط لهذه المَناطق التي حَكَمتْها” اُسَرٌ منَ الأُمَرآء والمقدَّمين التقليديـين”.
كانَ من حسْن حَظِّ آل بُحتر التنوخيـّين الذينَ حَكموا ولايَة بيروت لفترَة طويلة أن يخلِّدَ أخبارَهُم مُؤَرِّخُهُم الأمير صالح فَحفظَ لنا بعَمله سجِلاًّ حافِلاً أصبَحَ مَصْدَراً أساسياً للدَّارسين والباحثين المُختَصِّين.
ولاَ تقتصرُ أهميَّةُ هذا المصدر على ناحيَةٍ واحدَة من أبواب البَحث، وإنَّما تَـتعدَّاها إلى مواضيع ذَكرتها المُقدِّمَة الفَرنسيَّة للنَّصِّ المُحَـقَّق. فهُوَ واحد منَ المصادر النَّادرَة التي تتيح للباحث اسْتشْفاف جذور لبنان المُعاصر في القرون الوسطى. ذلكَ أنَّ المعرفَة بأوضَاع الأَرياف اللبنانيَّة- السُّوريَّة في ذلكَ الزَّمان مَعدومَة دونَ هذا التَّاريخ. كما أنَّ مَرويَّاته تُغطِّي المَرحَلة الكبيرَة التي شهدَت مُنطَلَقات الإمارَة الدِّرزيَّة وبداياتها، ومن ثمَّ قدرتها الحفاظ على حُكْمٍ ذاتيٍّ بعدَ أنْ ضَمَّتْ إليْها الجزء الأكبَر من جَبَل لبنان. ويستطيعُ الباحثُ أيضاً أن يرصدَ في تفاصيل هذا التاريخ سجِلَّ العلاقات التي كانَت سائدَة بينَ البحتريـّين وحُكَّام دمَشق آنَذاك، فَضْلاً عن الوثائق المَوجودَة في مَتنه، كما أنه يُمَكِّن من دراسة التـنظيم الإداري في المُقاطَعات الأيوبـيَّة والمَمْلوكيَّة، وَالتـنْظيم الإقطاعي والعَسكري في البلاد.
ربَّمَا كانَ تاريخُ الأمير صالح بن يحيى المُصَنَّف الدِّرزي الوحيد المَعروف خلال خمسة قرون تلَتْ نشوء المَذهَب التَّوحيديّ. ومنَ المعروف أنَّ ذَلكَ المَذهَب اتَّخَذَ مَنحًى تأويلـياً لآيات القرآن الكريم اسْتناداً إلى نَظريَّة الإمامَة. وقد ارْتدَّ عن تعاليمه بعضُ كبار دُعاته وشوَّهوا مقاصدَه قوْلاً ومُمارَسَة، ففتحوا المجالَ واسعاً لإلصاق التـُّهَم الزّائفَة به، وتشويه حقائقه وإطلاق التفاسير المَغلوطَة حَولهُ، ولاَ شأن لها به لا من قريب ولاَ من بعيد. لم تؤَثِّـر تلكَ الرّدَّة على خَطِّ مسَاره الأصيل، بل قُضيَ عليها بالسَّيف حيناً وبالمَوعظة الحَسَنة أحياناً كثيرة. ولم تعرف الطَّائفة مذَّاك اختلافاً كبيراً أو صغيراً حولَ نهجها الفكريِّ الْمُتَّـبَع، وذلكَ يعودُ في الدَّرَجة الأولى إلى فَضيلَة التَّخيـير الْمُتَّـبَعَة في أمور المَسلك والعقيدَة. فالمَسلكُ التَّوحيديُّ يجتهدُ ليتكامَلَ مع جسم الأُمَّة وَرُوحها ويُحافظ على حُرِّيـَّة الغَوْص والتَّحَـقُّق في العبادات على مثال الصُّوفيَّة الشَّرعيَّة التي خَطَّتْ صَفحات ذهَبيَّات في التراث الإسلامي العريق. وأصبَح من ثوابت الأُمور في تاريخ لبنان، ومنذ القَرن الحادي عَشَر الميلادي (الخامس للهجرَة)، أنَّ الطَّبَقة السِّياسيَّة الدِّرزيَّة أخَذَت على عاتقها مَهاماً ومسؤولـيَّات هيَ في مَحصولها الأكبَر لصالح الدُّوَل والقوى المُتعاقبة التي ادَّعَتْ كلٌّ بدَوْرها تمثيل الأُمَّة والجَماعَة. وكانَت المحَصّلة الأساسيَّة لتَدخُّلات العُقَّال (رجال الدِّين) لصالح المَواقف الدَّاعمَة للوحدَة الدَّاخليَّة للطائفَة من جهَة، وللتَّوَحُّد مع المَوقف العام الذي تَـتَّخذُهُ القوى المُمَثِّلَة للجَماعَة من جهَة اُخرى. ويَـبْدو هذا الثَّابت صَحيحاً في الحقَب البحتريَّة والتنوخيَّة والمَعْـنيَّة، مع استـثناء فترة حُكم الأمير فخرالدِّين المَعني الثَّـاني الكبـير.
وإذا افتَرَضنا رَسماً بيانياً تَـتمَثَّلُ فيه التوَجُّهات العامَّة لنصِّ الأمير، وَجَدناهُ يتألَّفُ من خَطَّيْن متوازيَـيْن لاَ يتقاطعان، بل يُسايرُ أحدُهُما الآخَر من بداية الأحداث إلى آخرها. فنحنُ هنا أمام تاريخ لطَـبَقتَيْن، تُواكبُ الأولى منهُما الأحداثَ السياسيَّة والعسكريَّة والإداريَّة في علاقاتها بالولاة والقوى الْمُتغيِّرَة، في حين نجدُ الثانيَةَ تغوصُ في زُهدها وصُوفـيَّتها باحـثةً لنفسها- إضافةً إلى عُلوم الدِّين- عن عالَمٍ ثقافيٍّ في اُمَّهات الكتُب التراثـيَّة بروح التَّبَعيَّة للأصُول من غير انشقاقٍ أو قطيعَة.
وأمَّا العلاقَة بينَ الطَّبَـقتَيْن فنجدُها مَبنيَّة على التواصُل الأكيد والدَّعم الرَّزين لتَوَجٌّهٍ عَام ثابت نحوَ الوحدَة والتوَحُّـد.
وهذه ميزةٌ ذات طابع درزيّ يحْظى بها تاريخُ الأمير صالح بن يحـيى لم تُستَـثمَر بعد في الدِّراسات والأبحاث التاريخيَّة. ولهذه الميزة بُعدٌ مهم آخَر، فهيَ تُظهر لنا من خلال استقراء منهجيّ للنُّـبَذ الـمُثبتَة، إرهاصات الحَرَكة الثقافيَّة الخطيرة الشأن التي سيقوم بها الإمامُ التَّوحيديُّ الكبير الأمير السيِّد جَـمَال الدِّين عبد الله التنوخي في أواسط القرن التاسع للهجرَة (الخامس عشَر للميلاد).
إنَّ مَسلكيَّةَ الأمير السيِّد الاجتماعيَّة، فَضْلاً عن أعماله الفكريَّة والمَدرَسَة النشيطَة التي كوَّنَها، تُمَـثِّلُ حَرَكةً نهضويَّةً كانَ لها أبعد الأثَر وأخطره على المُجتَمَع التَّوحيديِّ في “جزيرة الشَّام” كلِّها. وقد أصبَحَتْ بفعل هذا الأثَر مثالاً يُحتذَى طوال خمسة قرون ونيف، ذلكَ أنَّ الأهميَّة الجَوهريَّة التي يحظى بها روحياً واجتماعياً تزدادُ قيمتُها مع تقدُّم الزَّمَن وليسَ العكس.

“صدق الأخبار” لحمزة بن سباط
توفِّيَ الأمير صالح وما زالَ الأمير السيِّد في ريعان عمره، وفي كلِّ حال فهُوَ لم يتعرَّض في كتابه لتَرجَـمَة مُعاصريه الأحياء، لكنَّ أعمالَه التاريخيَّة أثارَت انتباهَ البعض في مُجتمعه لأهَميَّة التَّدوين والتأليف. فأتى بعدهُ مُباشَرة مَن سارَ على خطاه وصَنَّفَ تاريخاً لاَ يقلُّ شهرَة عن وثيقة سَلَفه، وهو كتاب “صدق الأخبار” لحَمزَة ابن الفَقيه أحـمَد بن سباط الآنف الذّكـر.
اعتَمَد ابنُ سباط على تاريخ الأمير صالح بشكلٍ أساسي، فاقـتَدى بفكرته، واتَّـبَعَ نهجَه، وسلَكَ خطاه. أكثر من هذا، لَخَّصَ العديدَ من فقراته مُرتكزاً على تَسلسُل البطون والأفخاذ كما رتَّبَها سلَفُه. وأكملَ، اعتماداً على هَذَين الطَّريقة والأسلوب، سردَ أخبار الذّريَّة التنوخيَّة، فغطَّى بذلكَ الحقبَة الأخيرَة من عهد المماليك، وأنجَزَ عمَلاً لهُ أهميَّته على صَعيدَيْن: الأوَّل منهما يتعَـلَّقُ بالتاريخ العام للمنطقة حيث يَحْظى نصّ ابن سباط بقيمَة تُوازي التي لنَصِّ الأمير صالح بنَوعيَّة المادَّة وإنْ كانَت لاَ تُضاهيها بالشّمُول أو التَّوْثـيق والاتِّسَاع.
والثاني منهما- وهوَ الأهَمّ- يتعلَّقُ بتاريخ الفَترَة الذَّهَبـيَّة للنَّهْضَة التوحيديَّة التي كانَ رائدُها الأميرُ السيِّد إمام عبَيه والغَرب، ومن ثُمَّ إمام “الجَزيرَة” كلِّها.
لقَد كانَ أحـمَد بن سباط والد حَمزة المُـؤَرِّخ “منَ التلاميذ، وكانَ فقيهاً،همَّاماً فطناً، بارعاً. علَّمَ جَـمَاعةً كثيرةً وذاعَ خبَرُه بالتَّـعليم وكانَ خَطيبَ جَامع قرية عبَـيه” (كما ورد في النص).
وقد توفِّيَ المُصلحُ الكبير وحَمزة لَمَّا يزل فَـتياً نابهاً، فقد رثاهُ بقصائد كما ذَكَر هو في تاريخه. وقد أتاحَت هذه المُعاصَرَة لحَمزة أن يكتبَ لنا سيرةَ الأمير مَصْدَراً رئيساً وحاسماً في دراسة البيئة الفكريَّة والإجتماعيَّة التي كانت سائدَة في ذلكَ العَصر، وما قامَ به الأميرُ السيِّد من نهضة خلَّفَت آثاراً جوهريَّة ما زالَت تشعُّ حتَّى يومنا الحاضر.

الأسطول الفرنسي يدخل بيروت بعام 1860 بحجة حماية المسيحيين

توَقَّـفَ تاريخ الأمير صالح العام 840 هـ، ثمَّ أضافَ إلَيه ذَيْـلاً امتَـدَّ تاريخُه إلى 857 هـ. وأمَّا ابنُ سباط فإنهُ أكملَ ذلكَ التاريخ وتوقَّفَ في سَنة 926هـ. وتميَّزَت تلكَ الفَترة طوال النصف الأخير منَ القرن التاسع والربع الأوَّل منَ القَرن العاشر الهجريَـين بأنها الفترة الذَّهَبيَّة في التُّراث الثقافي الدرزي، فَـترة الأمير السيِّد وتلاميذه. وتأتي شهادَةُ ابن سباط على تلكَ الفَـترة شهادَة مُعاصر يَقِظ أثبتَ لنا في تاريخه أسماء تلكَ الكَوْكَبَة النَّـيِّرَة التي انتَشرَت في طول البلاد وعَرضها في ما سُمِّيَ بـ:”التلاميذ”، وكانَ يليقُ بكُلِّ واحدٍ منهُم كما يظهَر في كتابه، أن يكونَ شَيخَ البلاد وعَيْنها كما هوَ مُتناقَل من أقوال السَّلَف.
إنَّ دراسةَ المواقف الدِّرزيَّة العَسكريَّة وتالـياً السِّياسيَّة، فَضلاً عن مسلكيَّة الموحدين الدروز الثقافـيَّة في ذلكَ العَصر استناداً إلى مَصادر تاريخيَّة درزيَّة لأَمْر ضروريّ في أيـَّامنا هذه، حَيث تشهَدُ سوقُ الكتاب غَمْراً دافقاً منَ المَنشورات التي تَـتنَاوَل الدُّروز فَـيُقابلونها بالتَّبرؤ منها حيناً، وبالتجاهُل والاشمئزاز أحياناً كثيرة. فلقَد تعدَّدَت نداءات المُؤَرِّخين وأصوات المُفَكِّرين لكتابة جديدة لتاريخ لبنان تأخُذ بتَعَدُّد المَصادر في خَلفيَّتها الطَّائفيَّة والحياديَّة لقراءَة ذلكَ التاريخ قراءَةً تعطي لكُلِّ وجهَة نَظَر حقَّها في خدمَة رؤية وَطنيَّة تعمَلُ فعلاً من أجل وحدَة لبـنَان.
وهَل من قيامَةٍ للُبنان من دونَ العَوْدَة إلى حوارٍ بينَ طوائفه يرتقي بها من الذَّاتيَّة الطَّائفيَّة المُنعَزلة إلى الوَطَن الكبير؟ وهَل للُبنَان في ذاته من معنَى إذا نَزَعنا منهُ، من خلال عَشوائيَّة التاريخ السَّائدَة، هيُولاهُ المُكَوَّنة من عيشٍ مُشترَك يبدو لنَا اليَوم وكأنهُ الحُلْم الضّائع في ضَباب التَّعَصُّب والانعزال على الرُّغم من أنه كانَ في حقَبٍ كثـيرة من تاريخه وَاقـعاً سَائـداً؟
في تاريخ لبنان جوانب مُضيئة وأخرى مُظلمة، تَـتَوَهَّجُ الأولى في حاضرنا إذا قَصَدنا لها أن تَـتَوهَّج وتُنـير لنا مَعالم الطَّريق إلى الغَد الأفضَل، بَينما تزيد الثانيَة من هَيَجان ” تيفون” العصبيَّة الطائفيّة إذا كنَّا لاَ نريد أن نرَى في الأمْس الغائب إلاَّ أشباحها ومآسيها.
في كُلِّ حال، يذَكِّرُنا نصّا ابن يحيى وابن سباط بصَفحَةٍ ناصعَة من تلكَ الجوانب المُضيئة في تاريخ لبنان، عسى أن تكون مثل هذه الوثائق التاريخيَّة رافداً ثقافيّاً من أجل إقامَة حوار متوازن في سبيل إعادَة كتابة تاريخ لبـناننا العَزيـز بمنهجٍ حضاريّ.

نفائس من كتاب
«سر الأسرار ومظهر الأنوار»
للشيخ العارف عبد القادر الجيلاني (ر)

العارِف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه وعِلم العارف سر الله تعالى لا يعلمه غيره

صلاة الطريقة مؤبدة ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قـوى الباطن بالاشتغال على أسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية

في مقام الاستهلاك وفناء الفناء يبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه

صوم الطريقة أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً. أما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله تعالى

يعتبر الشيخ عبد القادر الجيلاني من أشهر أعلام التصوف الإسلامي ويعود نسبه ونسب أمه فاطمة (أم الخير) إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقال عنه ابن الوردي “إن نسبه الشريف من أبويه خالص لسلامته من الموالي وانتهاؤه إلى علي كرّم الله وجهه”.
جلس للوعظ في مدرسته بباب الأزج في بغداد في بداية521 هـ، واستطاع بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم، وقد كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشدّ تأثراً بوعظه، فاستطاع أن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، وقيل إنه تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطّاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة آلاف من اليهود والنصارى. وكان بسبب شخصيته الفذة وهيبته يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه، حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائمهم وطواقيهم تقليداً له وهم لا يشعرون.
للشيخ عبد القادر أكثر من 30 مؤلفاً من أشهرها: “تحفة المتقين وسبيل العارفين” و “حزب الرجاء والانتهاء”، و”جلاء الخاطر في الباطن والظاهر”، و”فتوح الغيب” و”رسالة في الأسماء العظيمة للطريق إلى الله “، و”الفتح الرباني والفيض الرحماني” و”سر الأسرار في التصوف”، وهو كتاب مشهور عرض فيه لأسس السلوك العرفاني وأسراره وأبرز ما فيه إقامته للفرق في مفاهيم العبادة بين أهل الطريقة العاكفين على الزهد وقطع العلائق كلها وأعمال القلوب وبين عبادة أهل الظاهر. وقد اقتطفنا لهذا العدد من “الضحى” بعض الفصول من كتاب سر الأسرار، والتي تسلّط ضوءاً كاشفاً على تعليم عبد القادر الجيلاني الذي يعتبر أيضاً مؤسس ما يعرف في أوساط التصوف بالطريقة القادرية أو الجيلانية.

في بيان الطهارة
وهي على نوعين: طهارة الظاهر التي تحصل بماء الشريعة وطهارة الباطن وهي تحصل أيضاً بالتوبة والتلقين والتصفية وسلوك الطريقة. فإذا انتقض وضوء الشريعة بخروج نجس يجب تجديده بالماء كما قال عليه الصلاة والسلام “من جدد الوضوء جدد الله إليه إيمانه”، وكما قال عليه الصلاة والسلام “الوضوء على الوضوء نور على نور”. فإذا انتقض وضوء الباطن بالأفعال الذميمة والأخلاق الرديّة كالكبر والحقد والحسد والعجب والغيبة والكذب والخيانة – كمثل خيانة العينين والأذنين واليدين والرجلين كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم “العينان تزنيان” إلى آخره فتجديده (وضوء الباطن) بإخلاص التوبة عن هذه المفسدات وتجديد الإنابة بالندم والاستغفار والاشتغال بقمعها من الباطن وينبغي للعارف أن يحفظ توبته من هذه الآفات لتكون صلاته تامة كما قال الله تعالى {هذا ما توعدون لكل أوّاب حفيظ} (ق:32). فوضوء الظاهر وصلاته مؤقتة ووضوء الباطن وصلاته مؤبدة في جميع عمره في كل يوم وليلة متصلة.
في بيان صلاة الشريعة والطريقة
أما صلاة الشريعة فقد عُلمت بقوله تعالى {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد منها أركان الجوارح الظاهرة بحركة الجسمانية من القيام والقراءة والركوع والسجود والقعود والصوت والألفاظ، ولذلك جاء الفضل الجمع يعني قال الله تعالى {حافظوا}.
وأما صلاة الطريقة فهي صلاة القلب، وهي مؤبدة، فقد عُلمت بهذه الآية {والصلاة الوسطى} (البقرة:238) والمراد من الصلاة الوسطى صلاة القلب لأن القلب خلق في وسط الجسد بين اليمين والشمال وبين العلوي والسفلي وبين السعادة والشقاوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) والمراد من الإصبعين صفتا القهر واللطف، فبهذه الآية والحديث يعلم أن الأصل صلاة القلب، فإذا غفل عن صلاته، فسدت صلاته وصلاة الجوارح لقوله عليه الصلاة والسلام (لا صلاة إلا بحضور القلب)، لأن المصلي يناجي ربه ومحل المناجاة القلب، فإذا غفل القلب بطلت صلاته وصلاة الجوارح لأن القلب أصل والباقي تابع له كما قال عليه الصلاة والسلام ( ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
فأما صلاة الشريعة فمؤقتة في كل يوم وليلة خمس مرات والسُنّة أن يصلي هذه الصلاة في المسجد بالجماعة متوجهاً إلى الكعبة وتابعاً بالإمام بلا رياء ولا سمعة.
وأما صلاة الطريقة فهي مؤبدة في عمره ومسجدها القلب وجماعتها اجتماع قوى الباطن على الاشتغال بأسماء التوحيد بلسان الباطن وإمامها الشوق في الفؤاد وقبلتها الحضرة الأحدية جل جلاله وجمال الصمدية وهي القبلة الحقيقية، والقلب والروح مشغولان بهذه الصلاة على الدوام، فالقلب لا ينام ولا يموت بل مشغول في النوم واليقظة بحياة القلب بلا صوت ولا قيام ولا قعود فهو يخاطب الله تعالى بقوله {إياك نعبد وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) متابعاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال القاضي في تفسير هذه الآية إن فيها إشارة إلى حال العارف وانتقاله من حالة الغيبة إلى الحضرة الأحدية سبحانه وتعالى، فاستحق بمثل هذا الخطاب ما قاله عليه أفضل الصلاة والسلام (الأنبياء والأولياء يصلون في قبورهم كما يصلون في بيوتهم)، أي أنهم مشغولون بالله تعالى ومناجاته بحياة قلوبهم. فإذا اجتمعت صلاة الشريعة والطريقة ظاهراً وباطناً فقد تمت الصلاة يعني تكون صلاته صلاة تامة وأجرها عظيم في القربة بالروحانية والدرجات بالجسمانية، فيكون هذا المصلي عابداً في الظاهر وعارفاً في الباطن، وإذا لم تحصل صلاة الطريقة بحياة القلب فهو ناقص وأجره يكون من الدرجات لا من القربات.

في بيان طهارة المعرفة في عالم التجريد
وهي على نوعين : طهارة لمعرفة الصفات وطهارة لمعرفة الذات .
فطهارة معرفة الصفات لا تحصل إلا بالتلقين وتصفية مرآة القلب بالأسماء من النقوش البشرية والحيوانية ثم يحصل له النظر بعين القلب لينظر بنور الصفات إلى عكس جمال الله تعالى في مرآة القلب، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام (المؤمن ينظر بنور الله)، كما قال (المؤمن مرآة المؤمن)، وقيل “العالِم يُنقش والعارف يُصقـل” فإذا تمت التصفية بملازمة الأسماء حصلت معرفة الصفات بمشاهدة في مرآة القلب.
وأما طهارة معرفة الذات في السر فلا تحصل إلا بملازمة أسماء التوحيد الثلاثة الأخيرة من الأسماء الإثني عشر في عين السر بنور التوحيد. فإذا تجلت أنوار الذات ذابت البشرية وفنيت بالكلية، فهذا مقام الاستهلاك وفناء الفناء، وهذا التجلي يمحو جميع الأنوار كما قال الله تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص:88) وقال تعالى {يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب}(الرعد:39) فيبقى الروح القدسي بنور الله ناظراً إليه منه معه فيه له بلا كيفية ولا تشبيه لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء} (الشورى:48) فبقي النور المطلق محضاً ولا يمكن الإخبار عما وراء ذلك لأنه عالم المحو فلا يبقى ثمة عقل يخبر عنه ولا موجود ثمة غير الله تعالى كما قال عليه السلام “لي مع الله وقت لا يسع فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل” فهذا عالم التجريد من غير الله تعالى كما قال تعالى ” تجرد تصل إليّ” والمراد من التجرد فناء الكل من صفات البشرية فيبقى في عالمه متصفاً بصفة الله تعالى كما قال عليه السلام “تخلقوا بأخلاق الله تعالى” أي اتصفوا بصفاته.

في بيان زكاة الشريعة والطريقة
فأما زكاة الشريعة أن يُعطى من كسب الدنيا إلى مصرفة مؤقتة معينة في كل سنة من نصاب معين، وأما زكاة الطريقة فهي أن يعطى من كسب الآخرة كله في سبيل الله إلى فقراء الدين والمساكين الأخروية.
والزكاة (زكاة الشريعة) سميت صدقة في القرآن كما قال الله تعالى {إنما الصدقات للفقراء}(التوبة:60) لأنها تصل في يد الله تعالى قبل أن تصل بيد الفقير والمراد منه قبول الله تعالى.
وزكاة الطريقة فهي مؤبدة وهي أن يعطى ثواب كسب الآخرة للعاصين لرضاء الله تعالى فيغفر الله لهم مثل ثواب الصلاة والصوم والزكاة والحج وثواب التسبيح والتهليل وثواب تلاوة القرآن والسخاوة وغير ذلك من الحسنات فلا يبقى لنفسه شيء من ثواب حسناته ويبقي نفسه مفلساً فالله تعالى يحب السخاوة والإفلاس كما قال عليه السلام “المفلس في أمان الله تعالى في الدارين”.
فالعبد وما في يده كان لمولاه فإذا كان يوم القيامة أعطاه الله تعالى بكل حسنة عشرة أمثالها كما قال الله تعالى {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160)
وفي معنى الزكاة أيضاً تزكية القلب من صفات النفسانية كما قال الله تعالى {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} (البقرة:245) والمراد من القرض أن يعطى ما له من الحسنات في سبيل الله تعالى إحساناً إلى خلقه لوجهه الكريم وشفقة لا منة كما قال الله تعالى {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة:264) لا طالباً عوض الدنيا فهذا من قسم الإنفاق في سبيل الله كما قال جل وعلا {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}(آل عمران:92).

في بيان صوم الشريعة والطريقة
صوم الشريعة: أن يمسك عن المأكولات والمشروبات وعن الوقاع في النهار.
وأما صوم الطريقة فهو أن يمسك جميع أعضائه عن المحرمات والمناهي والذمائم مثل العجب والكبر والبخل وغيره ظاهراً وباطناً ليلاً ونهاراً فكلها يبطل صوم الطريقة.
فصوم الشريعة مؤقت وصوم الطريقة مؤبد في جميع عمره. فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) فلذلك قيل “كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم”، أي يمسك أعضاءه عن المناهي وإيذاء الناس بالجوارح كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {إن الصوم لي وأنا أجزي به} وقال الله تعالى في الحديث القدسي {يصير للصائم فرحتان: فرحة عند الإفطار وفرحة عند رؤية جمالي}.
قال أهل الشريعة: المراد من الإفطار الأكل عند غروب الشمس ومن الرؤية رؤية الهلال يوم العيد، وقال أهل الطريقة الإفطار عند دخول الجنة بالأكل مما فيها من النعيم. والمراد بالرؤية هي رؤية الله تعالى يوم القيامة بنظر السر معاينة.
وأما صوم الحقيقة فهو إمساك الفؤاد عن محبة ما سوى الله تعالى وإمساك السر عن محبة مشاهدة غير الله كما قال الله تعالى في الحديث القدسي {الإنسان سري وأنا سره}. والسر من نور الله تعالى فلا يميل إلى غير الله تعالى وليس له سواه محبوب ومرغوب ومطلوب في الدنيا وفي الآخرة. فإذا وقعت فيه محبة غير الله فسد صوم الحقيقة فله قضاء صومه وهو أن يرجع إلى الله تعالى ولقائه وجزاء هذا الصوم لقاء الله تعالى في الآخرة.

 

مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد - 1914
مسجد ومقام الشيخ عبد القادر في بغداد – 1914

في بيان حج الشريعة والطريقة
الحج على نوعين: حج الشريعة وحج الطريقة
فحج الشريعة بحج بيت الله بشرائطه وأركانه، حتى يحصل ثواب الحج، إذا نقص شيء من شرائطه نقص ثواب الحج لأن الله تعالى أمرنا بإتمام الحج بقوله عز وجل {وأتموا الحج والعمرة لله} (البقة: 196).
فمن شرائطه الإحرام أولاً ثم دخول مكة ثم طواف القدوم ثم الوقوف بعرفة ثم المبيت بمزدلفة ثم ذبح الأضحية في منى ثم دخول الحرم ثم طواف الكعبة سبعة أشواط ثم شرب ماء زمزم ثم يصلي ركعتي الطواف في مقام إبراهيم (عليه الصلاة والسلام) ثم يحلل ما حرم الله تعالى عليه من الصيد ونحوه. فجزاء هذا الحج العتق من الجحيم والأمن من قهر الله كما قال تعالى {ومن دخله كان آمنا} (آل عمران :97) ، ثم طواف الصدور ثم الرجوع إلى وطنه.
وأما حج الطريقة فزاده وراحلته أولاً الميل إلى صاحب التلقين وأخذه منه، ثم ملازمة الذكر باللسان وملاحظة معناه حتى تحصل حياة القلب له ثم يشتغل بذكر الباطن حتى يصفيه بملازمة أسماء الصفات فتظهر كعبة السر بأنوار الصفات كما أمر الله تعالى إبراهيم وإسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) بتطهير الكعبة أولاً بقوله تعالى {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين} (البقرة: 125) إلى آخر الآية.
فكعبة الظاهر تطهيرها لأجل الطائفين من المخلوقات وكعبة الباطن تطهيرها لنظر الخالق مما سواه ثم الإحرام بنور الروح القدسي ثم دخول كعبة القلب ثم طواف القدوم بملازمة الاسم الثاني ثم الذهاب إلى عرفات القلب وهو موضع المناجاة فوقف فيها بملازمة الاسم الثالث والرابع، ثم ذهب إلى مزدلفة الفؤاد وجمع بين الاسم الخامس والسادس، ثم ذهب إلى منى السر وهي ما بين الحرمين فوقف بينهما ثم ذبح النفس المطمئنة بملازمة الاسم السابع لأنه اسم الفناء ورافع حجاب الكفر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الكفر والإيمان مقامان وراء العرش وهما حجابان بين العبد وبين الحقّ أحدهما أسود والآخر أبيض) ثم حلق رأس الروح من الصفات البشرية بملازمة الاسم الثامن ثم دخل حرم السر بملازمة الاسم التاسع ثم وصل رؤية العاكفين فيعتكف في بساط القربة والإنس بملازمة الاسم العاشر ثم رأى جمال الصمدية بلا كيف ولا تشبيه ثم طاف سبعة أشواط بملازمة الاسم الحادي عشر ومعه ستة أسماء من الفروعات ثم يشرب من يد القدرة شربا كما قال الله تعالى {وسقاهم ربهم شرابا طهورا} (الإنسان: 21) بقدح الاسم الثاني عشر ثم يُرفع برقع الوجه الباقي المقدس من التشبيه فينظر بنوره إليه وها معنى قوله تعالى في الحديث القدسي {ما لا عين رأت} يعني لقاء الله تعالى {ولا أذن سمعت} يعني كلام الله تعالى بلا واسطة الصوت والحروف {ولا خطر على قلب بشر} يعني ذوق الرؤية والخطاب، ثم حلل ما حرم الله بتبديل السيئات إلى الحسنات بتكرار أسماء التوحيد كما قال الله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} (الفرقان: 70) ثم العتق من التصرفات النفسانية ثم الأمن من الخوف والحزن كما قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس:62) رزقنا الله وإياكم بفضله وجوده وكرمه ثم طاف الصدور بتكرار الأسماء كلها ثم الرجوع إلى وطنه الأصلي الذي في عالم القدسي في أحسن التقويم بملازمة الاسم الثاني عشر وهو متعلق بعالم اليقين وهذه التأويلات في دائرة اللسان والعقل وأما ما وراء ذلك فلا يمكن الإخبار عنه لأنه لا تدركه الأفهام والأذهان ولا تسع الخواطر في ذلك، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن من العلوم كهيئة المكنون لا يعلمها إلا العلماء بالله فإذا نطقوا بها لم ينكره إلا أهل الغِرّة) فالعارف يقول ما دونه والعالم يقول ما فوقه فإن عِلم العارف سر الله تعالى ولا يعلمه غيره كما قال الله تعالى {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء(البقرة : 255)} أي الأنبياء والأولياء {فإنه يعلم السر وأخفى} {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه:7-8).

اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا
اسم عبد القادر الجيلاني مخطوطا

زراعة الكيوي في جبل لبنان

زراعــة الكيــوي فــي جبــل لبنــان
خيــار اقتصــادي وفوائــد كبيــرة

ارتفاع الطلب والأسعار والإنتاجية المرتفعة ومقاومة الآفات وتدني كلفة الإنتاج تجعل من الكيوي بين أهم الزراعات البديلة في الجبل

الكيوي تحب الماء والضوء والتغذية الوافية
وتكره التربة الكلسية والرياح الشديدة

تعتبر شجرة الكيوي من الزراعات الاقتصادية المهمة التي يمكن إدخالها إلى الجبل، نظراً لملاءمة البيئة الجبلية لها ولإنتاجيتها العالية وسهولة صيانتها وارتفاع الطلب عليها والأسعار الجيدة التي تحققها في الأسواق، وهو ما يجعل منها بين أفضل الزراعات الجديدة أو البديلة. ويذكر أن المحاولات الأولى التي تمت حتى الآن لاقت نجاحاً ملفتاً من ناحيتي الإنتاجية والدخل الاقتصادي وأدت تلك النتائج إلى نمو تدريجي لزراعة الكيوي في لبنان، وزرعت هذه الشجرة في بعض الأماكن على ارتفاع 1250 متراً عن سطح البحر وأعطت إنتاجاً وفيراً. ومن أهم ميزات شجرة الكيوي سرعة تأقلمها مع العوامل الطبيعية وتحمّلها للبرودة. بالنظر للفوائد الكبيرة التي يمكن أن تجلبها هذه الزراعة لاقتصاد الجبل نعرض في ما يلي لدليل عملي مفصّل حول أنواع هذه الشجرة وطريقة زراعتها وتغذيتها والعناية بها والفوائد الاقتصادية الجمة التي تحملها للمزارعين.

صفات الكيوي
الكيوي من النباتات المتسلقة والمتساقطة الأوراق التي تحتاج الى سقائل أو أسلاك لترتكز عليها، بالإضافة الى أنها معمّرة ومربحة لأن عمرها الاقتصادي أو الإنتاجي قد يصل إلى حوالي 40 عاماً.
تشبه الكيوي شجيرات الكرمة إلى حدٍ ما، من حيث كونها قوية النمو وغزيرة الإنتاج؛ ثمارها بيضاوية الشكل وقشرتها بنية اللون وتحمل أوباراً. لون لبّ ثمار الكيوي غالباً ما يكون أخضر، وهي تتحمل التخزين لفترة طويلة تفوق الـ 5 أشهر، أما النضج والقطاف فيأتي تدريجياً أي تقطف على دفعات وهذا يخفف مخاطر التلف ويساعد المزارع على التحكم بالسوق والأسعار وليس العكس. يبلغ وزن ثمرة الكيوي من 50 الى 120 غراماً حسب الأصناف والإرتفاع عن سطح البحر والصفات البيئية، وتدخل شجيرات الكيوي في طور الإنتاج بعد عامها الثالث من زراعتها في الأرض، وهذا يعود الى نموها القوي وخصوبة التربة ونوعيتها. ولثمار الكيوي فوائد غذائية وطبية وصناعية إضافة الى نكهتها اللذيذة والمرغوبة من المستهلكين. وحتى الآن ما زال الطلب عليها كبيراً في مقابل عرض محدود، الأمر الذي ينعكس بارتفاع أسعارها كما يدل على حاجة السوق المحلية الى التوسّع في زراعة مساحات كبيرة من هذه الشجرة. ويلاحظ أن أفرع شجيرة الكيوي سريعة النمو وطويلة وتقسم الى مجموعتين: أفرع ثمرية قوية تتميز بكثافة البراعم الزهرية التي تتمركز على الأطراف السفلية للفروع بعمر السنة وهذه تعطي ثمار العام التالي، وأفرع خضرية رفيعة سهلة الكسر.

راعة الكيوي
اُكتشفت الكيوي في جبال الصين بداية القرن العشرين ودخلت الإنتاج الاقتصادي في نيوزلنده العام 1930. أزهار الكيوي ثنائية المسكن أحادية الجنس لأنها تحمل أزهاراً أنثوية على شجرة وأزهاراً ذكرية على شجرة أخرى. أما الأزهار المؤنثة فمفردة وهي ذات مبيض ضخم، بينما الأزهار المذكرة كبيرة الحجم ويتجمع فيها العضو الحامل لأكياس حبوب اللقاح على شكل باقة. هذا يعني أن لا إنتاج في الكيوي إذا ما زرعت من جنس واحد. وتحتاج كل سبع شجيرات مؤنثة من الكيوي الى شجرة واحدة ذكر، وهذا في حال توفّر حشرات النحل التي تنقل حبوب اللقاح من أزهار الشجيرات الذكرية إلى أزهار الشجيرات الأنثوية، أما في حال عدم وجود النحل، فيستحسن عدم غرس أكثر من أربع شجيرات إناث لكل شجيرة من النوع الذكري وأن يراعى زرع الذكر في وسط الإناث.

شجرة الكيوي الناضجة يمكن أن تنتج 50 كلغ
شجرة الكيوي الناضجة يمكن أن تنتج 50 كلغ

نتاج الكيوي
ينتج الكيوي حالياً في جميع البلدان تقريباً وبكميات مختلفة. أهم الدول المنتجة للكيوي حسب الإحصاءات الدولية الموثقة هي أولاً إيطاليا التي تحتل المركز الأول بعد تقدمها على نيوزلنده في 2005 وبلغ إنتاجها في ذلك العام حوالي 415 ألف طن. ويبين الجدول المرفق ترتيب الدول الثماني الأولى في إنتاج ثمرة الكيوي.

الكيوي-ثمرة-شهية-ومرغوبة-على-االمائدة
الكيوي-ثمرة-شهية-ومرغوبة-على-االمائدة

إنتاج الكيوي في لبنان
بدأ إنتاج الكيوي في لبنان اقتصادياً منذ ثمانينات القرن الماضي خاصة في الجنوب، وتوسّعت هذه الزراعة لتشمل مناطق أخرى من جبل لبنان (الشوف – جبيل) والبقاع (البقاع الغربي) والشمال (عكار). وتعتبر زراعة الكيوي ذات جدوى إقتصادية عالية نسبة لأسعارها المرتفعة.

أهم أصناف الكيوي
1. شجيرات الكيوي الأكثر انتشاراً في العالم هي من نوع ديليشيوزا Deliciosa، وقد شاع هذا النوع نظراً لامتيازه على الأنواع الأخرى من حيث حجمه الكبير نسبياً وقدرته على تحمل التخزين لمدة طويلة (أكثر من 5 أشهر)، بالإضافة إلى طعمه المميز والزكي. ومن أهم أصنافه الذكرية، طوموري Tomuri وماتوا Matua اللذان يتلاءمان مع الأصناف الأنثوية التالية:
2. هايوورد Hayward: تتناسب أزهارها في الوقت نفسه مع طوموري وماتوا، صلابتها جيدة، إنتاجها متوسط أقل نسبياً من إنتاج الأصناف الأخرى لكن كمية الإنتاج منتظمة ومتزايدة عاماً بعد عام. تمتاز ثمار هذا الصنف بحجمها الكبير ووزنها الذي يتراوح ما بين 80 و100 غرام، شكل الثمرة بيضاوي، لون القشرة بني فاتح تكسوها شعيرات وبرية. يحتوي هذا الصنف على نسبة متوسطة من السكر ما يجعل معدل الحموضة متوسطاً ويعطيه مذاقاً طيباً ورائحة مميزة.
3. مونتي Monty: اُكتشف في نيوزلنده قبل العام 1920 واُستخدم كمنتج للتسويق العام 1957. صلابة الثمار جيدة جداً، تمتاز في الإنتاج الكثير والمتعاقب. تتخذ الثمار شكلاً مخروطياً يتراوح وزنها ما بين 60 و80 غراماً خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول لذا ننصح بعدم زراعة هذا الصنف على المرتفعات.
4. برونو Bruno: اُكتشف في نيوزلنده العام 1920 تمّ تسويقه العام 1928، الثمرة صغيرة الحجم تزن حوالي 40 غراماً، مستطيلة الشكل بنكهة عطرة. تمتاز بنضجها المبكر، وتعتبر ثمار هذا الصنف الأغنى بالفيتامين ث (c).
5. آبوت Abbot: اُكتشف أيضاً في نيوزلنده وفي العام 1920 وتمّ تسويقه في العام 1930. صلابة الثمرة جيدة، كثيرة الإنتاج، أزهارها صغيرة الحجم وتزهر باكراً مقارنة بالأصناف السابقة. تمتاز الثمرة بشكلها البيضاوي، وبحجمها المتوسط (تزن حوالي 60 غراماً) نكهتها عطرة، لكن تظهر بعض التشققات على قشرة الثمرة.

الكيوي-يتحمل-الخزن-لمدة-طويلة
الكيوي-يتحمل-الخزن-لمدة-طويلة

التخزين:
نادراً ما تنضج ثمار الكيوي على الشجرة، لذا فإن تبريد الكيوي لمدة 15 يوماً يساهم في نضجها. ويمكن تبريد الكيوي لمدة تفوق الـ5 أشهر في مراكز تبريد متخصصة على درجة حرارة من صفر الى 4 درجات فوق الصفر. وإذا أردنا التسريع في النضج، توضع ثمار الكيوي في برادات يحتوي على ثمار التفاح لأنها تفرز غاز الاثيلين الطبيعي مما يسرّع في نضج ثمار الكيوي.

الاحتياجات البيئية

الحرارة: شجرة الكيوي تحتاج لظروف بيئية مناسبة لنمو النبات وإنتاجه، تحتاج في فصل الشتاء درجات حرارة منخفضة أقل من 8 درجات مئوية فوق الصفر وحوالي 600 ساعة برودة كمعدل وسطي ثم تدخل الأشجار في مرحلة الراحة والركود بالإضافة الى تحول البراعم الخضرية الى براعم زهرية، كما أن زراعة الكيوي الاقتصادية تكون على ارتفاع يتراوح ما بين 300 و1400 متر عن سطح البحر.

الرطوبة: من الأفضل أن لا تقل نسبة الرطوبة عن المعدل المطلوب لأن شجيرات الكيوي محبة للماء.

التربة: إن أفضل التربة لزراعة أشجار الكيوي هي الأراضي العميقة والجيدة الصرف والغنية بالعناصر الغذائية الضرورية لها كالتربة الطميية أي المختلطة والطميية الرملية التي تكون حبيبات التربة متباعدة نسبياً مما تسمح للجذور بالتنفس وعدم تجمع المياه حولها مما يؤدي إلى اختناقها وانتشار الأمراض الفطرية على الجذور. أما إذا زرعت غراس الكيوي في التربة الكلسية فإنها لا تعطي ثماراً على الإطلاق.

الرياح: تتأثر نباتات الكيوي بالرياح الشديدة التي تؤدي الى تكسير فروعها وأغصانها الصغيرة. لذا ينصح بزراعتها في الأماكن المحمية نسبياً من الرياح خاصة الشمالية الشرقية منها.

الري: نبات الكيوي حساس جداً لنقص الماء في التربة ويحتاج الى رطوبة عالية بمعدل 80 في المئة والى حوالي 85 ليتراً من الماء كل ثلاثة أيام وهذا إذا كانت التربة مختلطة. أما إذا كانت مائلة الى الرملية، فتحتاج الشجيرة إلى 100 ليتر من الماء كل ثلاثة أيام، ومن المهم هنا أن نتجنب الري اليومي للكيوي، وذلك لإفساح المجال أمام المجموع الجذري للنبات بالنمو والتغلغل عميقاً بين حبيبات التربة بحثاً عن الرطوبة والمواد الغذائية. نشير أيضاً إلى أن أفضل طرق الري للكيوي هو الري بالتنقيط بواسطة أنابيب النقطة، وللري بالتنقيط فوائد كبيرة وعديدة للنباتات المثمرة من أشجار فاكهة وخضار أهمها: منع إنبات عدد كبير من الأعشاب البرية التي تزاحم الكيوي على الغذاء، توفير مياه الري، توفير كلفة اليد العاملة، كما أن الري بالتنقيط يعتبر وسيلة مساعدة لتوزيع الأسمدة الكيميائية الذوابة على جميع النباتات بالتساوي وتوفير كمية لا يستهان بها من الماء، كما أن الري بالتنقيط يقلل بشكل كبير من إنتشار الأمراض خاصة التي تنمو وتعيش طيلة فصل الشتاء على الأعضاء المترممة، أي الأوراق والفروع الصغيرة بعد تساقطها على الأرض. أيضاً، إن الري بالطرق القديمة والبدائية إضافة الى الري بالرذاذ يؤدي الى تجمع حبيبات التربة السطحية على المسامات التنفسية مما يؤدي الى عدم وصول الهواء الى الجذور، بينما الري بالتنقيط يبقي سطح التربة على حالها بعد الحراثة والمسامات التنفسية مفتوحة.

الضوء: إن أشجار الكيوي محبة للضوء، لكن تنجح زراعتها في بيئة لا تتميز بفترة ضوء طويلة لسرعة تأقلمها مع الظروف المناخية التي تحيط بها. وللضوء أهمية كبيرة لأشجار الكيوي: 1- يقوي الفروع والأغصان ويساعد في تخشبها وعدم بقاء جزء من فروعها غضة التي تؤدي الى يباسها في فصل الشتاء وبالتالي إنخفاض في الإنتاج. 2- زيادة في تكوين البراعم الزهرية مما يؤدي ذلك الى زيادة في الإنتاج. 3- تصبح شجيرات الكيوي أكثر مقاومة للأمراض والحشرات. 4- يساعد الضوء أيضاً على تحويل المادة البكتينية القابضة الى سكريات أحادية سهلة الهضم، وإعطاء الثمار اللون الطبيعي المميز ونكهة ورائحة زكيتين، ويساعد أيضاً في تركيز الفيتامينات في الثمار وتسريع عملية النضج …الخ.

التسميد: تحتاج شجيرات الكيوي الى الأسمدة العضوية والكيميائية، قبل الزرع يوضع في الحفر المهيئة بوقت سابق حوالي كيلو غرام واحد من السماد العضوي المخمر ومئة غرام من السماد الكيميائي (سوبر فوسفات ثلاثي) ويُخلط السمادان مع تراب قاع الحفرة ثم تغرس شتول الكيوي. إن هذا السماد هام جداً في تقوية المجموع الجذري لشجيرات الكيوي. يستحسن عدم إضافة أسمدة جديدة في السنوات الثلاث الأولى لتشجيع الجذور على الدخول عميقاً في التربة. وتعتمد في وضع الأسمدة العضوية والكيميائية الطريقة التالية: يحفر خندق بعمق حوالي 15 الى 20 سم حول جذع الشجرة متوازياً من حيث قطره تقريباً مع دائرة تفرع الأغصان وتوضع بداخله الأسمدة العضوية المخمرة، ثم يطمر الخندق حتى تصبح الأسمدة قريبة من الجذور الماصة وكي لا تفقد رطوبتها وبعض العناصر الغذائية حيث يتفكك السماد ويتحلل.

طريقة التسميد: وللأسمدة العضوية فوائد عديدة منها؛ تحسين خواص التربة والحفاظ على رطوبتها،.كما إنها الحاضنة الوحيدة لتكاثر الكائنات الحية الدقيقة في التربة، والتي تساعد في تفكيك وتحليل السماد وتحويله إلى غذاء قابل للامتصاص من قبل جذور النبات، إضافة الى نسبة الآزوت التي تحتويها…الخ. أما الكمية التي تحتاجها شجرة الكيوي من الأسمدة العضوية والكيميائية إبتداءً من السنة الرابعة بعد الغرس فتزداد في موازاة نمو الشجرة وقد تتراوح ما بين 10 و 20 كلغ سماد عضوي حيواني إضافة إلى 0,5 إلى 1 كلغ سماد كيميائي ذواب على أن يحتوي هذا السماد على آزوت بنسبة 35% تقريباً وفوسفور حوالي 15% وبوتاس 30 الى 40%، إضافة الى العناصر الصغيرة خاصة الحديد والبور. وتضاف كمية السماد الكيميائي على خمس دفعات الى النبات مع الري على أن يكون الفارق بين المرة والأخرى عشرة أيام على الأقل في الموسم الواحد، أي يضاف الى مياه الري من (100 الى 200) غرام من ذلك السماد.

الإكثار: يتكاثر نبات الكيوي بواسطة البذور وأسهلها العُقل أي أخذ العقل بعمر السنة من الشجيرات بطول حوالي 40 سم وتغرس في أرض المشتل أو في أواني خاصة بشكل مائل، على أن يبقى على سطح التربة برعمة أو اثنتان من العقل، بالترقيد أو بـ “التدريخ” كما في الكرمة حسب لغة المزارعين.

التقليم: يفضّل ترك غراس الكيوي سنتين أو ثلاث حسب قوة نموها دون تقليم مع إزالة النموات القريبة من سطح التربة لإدخالها باكراً في مرحلة الإنتاج. أما تقليم الكيوي فيتم على مراحل عدة، في التقليم الشتوي تنزع الفروع المتزاحمة والغضة والضعيفة والمكسورة وتقصر أطراف الطرود المنتخبة لتكوين شكل الشجرة وحسب وضعها على السقائل أو الأسلاك أو الجدران المائلة مع المحافظة على البراعم الزهرية. وفي السنوات المقبلة ومع إزدياد إنتاجها، تقصر الطرود أكثر سنة تلو الأخرى حتى الوصول أو إزالة ثلثي الفروع. يتم التقليم الصيفي بعد تكوين فكرة عن كمية الإنتاج على الشجرة أي أثناء فترة النمو خلال شهري حزيران وتموز. تزال الفروع التي لا تحمل ثماراً وغير المرغوب بإبقائها للعام المقبل ويقصّر بعضها إذا دعت الحاجة بالإضافة الى الفروع النامية على منطقة الجذع مما يؤدي الى تحويل الغذاء للفروع المقلمة وإلى الثمار لتكون كبيرة الحجم ومميزة. هذا التقليم يساهم في تحضير الأشجار للموسم المقبل.

حقل من أشجارالكيوي النامية
حقل من أشجارالكيوي النامية

أبرز عناصر الجدوى الاقتصادية لزراعة الكيوي

تستند الجدوى الاقتصادية لزراعة الكيوي في لبنان وارتفاع أسعار ثمار الكيوي إلى عوامل عدة أهمها:
الإنتاجية المرتفعة وهي حوالي 3 طن للدونم الواحد أو ما بين 25 و50 كلغ بالشجرة الناضجة.
بدء الشجرة بالإنتاج المبكر بعد عامها الثالث من الزرع.
عدم نضج الثمار دفعة واحدة، الأمر الذي يبعد احتمالات كساد المحصول أو تلفه ويحافظ على السعر على مدى الموسم.
قدرة الثمار على تحمّل التخزين لفترة طويلة وعمليات التعبئة والنقل والشحن دون تعرضها لأية أضرار مما يجعل ثمار الكيوي متوافرة على مدار العام.
الأسعار المرتفعة لثمار الكيوي نتيجة لكون الطلب عليها كبيراً بالقياس إلى محدودية الإنتاج وارتفاع كلفة المستورد منها.
النكهة المميزة وتزايد شعبية الثمرة لدى المستهلكين.
تدني كلفة العمليات الحقلية بعد الزرع.
إمكان استخدام ثمرة الكيوي في الصناعات الغذائية مثل العصائر والكومبوت وغيرهما.
قدرة شجيرات الكيوي على التأقلم مع العوامل الطبيعية العديدة في جميع المناطق اللبنانية.

 

 

أسعار ثمار الكيوي لا زالت مرتفعة نتيجة لكون الطلب عليها كبيراً بالقياس إلى محدودية الإنتاج وارتفاع كلفة المستورد منها

آفات الكيوي
لا تأثير يذكر إقتصادياً للأمراض والحشرات التي تعتري شجيرات الكيوي، إنما يجب الإنتباه الى عدم إدخال شتول جديدة موبوءة الى بساتين الكيوي خاصة الديدان الثعبانية (نيماتودا Nematodes)، إضافة الى مرض إهتراء ساق النبات الذي يطمر جزءاً منه تحت سطح التربة، أي يجب أن يراعى أثناء زراعة النبات أن تكون منطقة إلتحام الطعم بالأصل المطعم عليه بمستوى سطح التربة. يسبب هذا المرض فطراً يدعى Phytophtora Cactorum، وتجنباً لإصابة ثمار الكيوي بحشرة ذبابة الفاكهة، يمكن وضع مصائد فورمونية لترقب وجود هذه الحشرات وإصطيادها. ننصح بعدم إستعمال المبيدات الزراعية السامة لمكافحة الأمراض والحشرات على شجيرات الكيوي لتجنّب القضاء على الأعداء الطبيعية لهذه الآفات. من جهة أخرى، لجذوع شجيرة الكيوي رائحة تجذب الحيوانات منها القطط التي تفرك جسمها بالشجيرة مسببة بتكسر النبتة والفروع الطرية.

كبار المنتجين في العالم
كبار المنتجين في العالم

القيمة الغذائية
والطبية للكيوي

تحتوي ثمرة الكيوي على 10% سكريات و 1% بروتين، وعلى أملاح معدنية منها البوتاسيوم والكالسيوم والمغاغنيزيوم والفوسفور، و80% من وزن الثمار ماء، وللعلم فإن الثمرة تحتوي على حوالي 150 ملغراماً من فيتامين سي C، وهذه النسبة تعادل أربعة أضعاف ما تحتويه ثمار الحمضيات. وتعتبر الكيوي فاكهة مفيدة جداً للنظم الغذائية الهادفة لإنقاص الوزن، لأنها تساعد على الشعور بالشبع والامتلاء. ويشير الخبراء في التغذية إلى أن لها فوائد كثيرة لأنها تنتج وحدات حرارية قليلة للجسم، فالثمرة الواحدة تعطي 20 وحدة حرارية نظراً الى أنها تحتوي على الألياف، وتساعد في عمليات الهضم وفي تنقية الجهاز الهضمي وتخفيض معدل الكولسترول في الدم.
ثمرة الكيوي غنية بالمواد المضادة للتأكسد Antioxidants وبالبوتاسيوم، وهي تساهم في خفض ضغط الدم. ويقول باحثون إن تناول ثلاث حبات من ثمرة فاكهة الكيوي يومياً يمكن أن يخفض ضغط الدم. كما يمكن أن يقلل معدلات الكولسترول المرتفعة والترايغليسريد وهو ما يؤدي إلى حماية القلب والأوعية الدموية ويخفف من مخاطر التعرض للجلطات، كما يحدّ من مخاطر التعرّض لتدهور مقلة العين المتصلة بتقدم الإنسان في العمر. ويساعد الكيوي في التخفيف من اضطرابات الجهاز التنفسي وأزمات الربو.
ويرى خبراء التغذية أن الكيوي تغطي حاجة الجسم من فيتامين ث (c)، ومن أهم فوائدها التالية:
مقاومة التهابات الأنسجة والتهابات المفاصل.
مقاومة حالات الرشح الشديد
زيادة المناعة
مقاومة اضطرابات الدورة الدموية
تنشيط الجسم وخلايا الأنسجة العصبية
مساعدة مرضى فقر الدم
المساعدة في عملية الهضم
تليين الأمعاء

رابعة العدوية

شاعرة العشق الإلهـي

عرفت رابعة العدوية خالقها، فتهذبت أخلاقها وسارت في منعرجات الرقي الروحي، فأعطتنا المثل الأعلى في التوحيد، طريق النفوس التقية النقية، والعقول المدركة للأسرار وأول الشروع في الحكمة هو الانسلاخ عن الدنيا ليكن مطلبك هو الله، ومقصدك هو الله، ولطفك هو الله وفكرك هو الله .
كان أبوها ينتظر غلاماً فجاءت بعد ثلاث بنات، فسماها رابعة، أي البنت الرابعة – حزن الوالد المسكين وكان يدعو الله تعالى بقلب منكسر أن يرزقه ما يسدّ رمق بناته الجائعات: رأى في نومه من يقول له “إقصد عيسى ابن زادات – أمير البصرة– واكتب رقعة تقول فيها “يازادات إنك تصلي في كل ليلة مئة ركعة، وفي كل ليلة جمعة أربعمائة، ولكنك في الجمعة الأخيرة، نسيت، فادفع أربعمائة دينار لصاحب هذه الرقعة».
ذهب أبو رابعة، كما أوحي إليه في حلمه، لملاقاة ابن زادات، وما إن التقاه حتى ألقى إليه بالرقعة. دهش ابن زادات لهذا الأمر وسأله: أنت؟ من أخبرك بالأمر؟ لم يكتم أبو رابعة الأمر، بل أخبره عن وليدته الرابعة ووحيه، فما كان من ابن زادات إلا أن حمل المال وقصد الصغيرة في بيتها وقد شعر أن لهذه المولودة كرامة عند الله.
كانت طفولتها قاسية جداً، وأبوها لا يملك المال ولا الطعام بل كانت ثروته فقط قارباً صغيراً ينقل المسافرين في نهر دجلة من مكان إلى آخر، مقابل بعض أرغفة يسدّ بها رمق بناته الصغيرات.
أما حياة رابعة الصبية فكانت بدورها مليئة بالمصاعب والمصائب. وكانت لذلك تجلس ليلاً نهاراً لمناجاة ربها والتأمل في أحوال دنياها فلا يزيدها ذلك إلا زهداً بهذه الفانية.
وبعد مسيرة الجوع والحرمان شاءت الإرادة أن تدخل رابعة امتحاناً أقسى يليق بمعدنها الصلب وإيمانها الذي لا يتزعزع. إذ مات أبوها ثم ماتت أمها بعد زمن قصير فأصبحت يتيمة الوالدين ولم يعد لها من هذه الدنيا الفانية مورد رزق سوى هذا القارب الذي تركه لها والدها المسكين، فكانت تعمل عليه لتأتي ببعض الطعام إلى أخواتها الصغيرات.
اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك.
ثم شاءت القدرة أن تقع اليتيمة أسيرة أحد اللصوص الذي باعها لأحد التجار، تعمل ليل نهار كخادمة وقبل بزوغ الفجر تجلس اليتيمة تناجي ربها، تصلي بصوت عالٍ ودموعها السخية تنهمر من عينيها وتقول: “سيدي بك تقرب المتقربون في الخلوات ولعظمتك سبحت الحيتان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تعانقت الأمواج المتلاطمات. أنت الذي سجد له الليل وضوء النهار، والفلك الدوار، والبحر الزخار، والقمر النوار، والنجم الزهار، وكل شيء عندك بمقدار، لأنك العلي القهار”. استيقظ الرجل في ليلة وسمع تلك المناجاة الباكية فرق قلبه وقال لها: “منذ الصباح أنت حرة يا بنيتي، تذهبين حيث تشائين. لكن العتق الذي أنعم الله به على رابعة وضعته على الفور هدية على أعتابه فحولت حرية النفس إلى أسر الزهد والعبادة إحقاقاً لحق الرب وتوحيده”.
جاء محمد بن سليمان الهاشمي، يغريها بالمال، لترضى به زوجاً فكتبت اليه تقول: “الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، ولو خولني الله أمثال ما خولك وأضعافه، ما سرني أن أشتغل عن ذكر الله طرفة عين”. سمعت رجلاً من الموحدين يهتف: إلهي إرضَ عني.
فقالت له: “لو رضيت بالله، لرضي الله عنك”. قال: وكيف أرضى بالله قالت: “يوم تفرح بالنعمة، كما تفرح بالنقمة، لأن كليهما من عنده”.
جاءها أمير البصرة، حاملاً لها مالاً كثيراً، فلما رأته دهشت وبكت، ورفعت رأسها الى الله وقالت له: “ربي يعلم، إنني أخجل أن اسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف آخذها ممن لا يملكها؟؟”، فرجع من حيث أتى.
سمعت صالح المر يقول: من أدمن على قرع الباب يفتح له قالت: لا تقل هذا، فمتى كان الباب مغلقاً في وجه مؤمن حتى يفتح له؟
هي القائلة: “اللهم إني ما عبدتك حين عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ولكني علمت أنك رب تستحق العبادة فعبدتك”.
قالت لبعض العابدين الذين زاروها: “لِمَ تعبدون الله؟”، قال أحدهم: “أعبده خوفاً من عذاب النار”، وقال آخر: ” أعبده حباً بالجنة”. قالت: “بل نعبده لذاته، ويكفينا نعمه التي لا تحصى، لنخر له ساجدين”.

مختارات من شعرها

أحبك حُبّين
عرفت الهوى منذ عرفـت هـواك وأغلـــقت قلبــــي عمـــن ســــواك
وكــنــت أناجيــك يـــا مــن تـــرى خفـــايــا القلــــوب ولســنــا نــراك
احبـك حبيـــن حــبّ الهـــــــــوى وحبــــاً لأنـــــك أهـــــل لـــــــــذاك
فأمــــــا الــذي هــو حـــبُّ الهوى فشغلـــي بذكـــرك عمــــن ســواك
وأمـــــــا الـــذي أنـــت أهـــل لـــــه كشفــــك للحجــب حتــــــى أراك
فــلا الحمــد فـي ذا ولا ذاك لـــي ولكــــن لك الحمــــد فـي ذا وذاك
وأشتـاق شـوقــين شـوق النــــــوى وشـوق لقــرب الخلـــي مــن حماك
فأمـــا الـــذي هــو شــــوق النــوى فمســــرى الدمــــوع لطــــول نـــواك
أمــــــا اشتيـــاق لقـــــرب الحمــــى فنـــار حيــاة خبــت فـي ضيـــاك
ولست على الشجـو أشكو الهوى رضيـت بمـا شئـت لي في هـداك

أنت لي مؤنس
يــا سـروري ومنيــــتي وعمــــادي وأنيســــي وعُــــــدتي ومـــــــرادي
أنـــت روح الفــــؤاد أنــت رجائي أنــت لــي مؤنــس وشــوق كزادي
أنــت لـــولاك يــا حيــــاتي وأُنسي مــا تشـــتــتُ في فسيــح البـــــــلاد
كـم بــدت مِنــة وكـم لك عنـــدي مـــن عطـــــاءٍ ونـــعمـــةٍ وأيـــــادي
حُبـــــك الآن بُغيـــــتي ونعيـــــــمي وجــــــلاءُ لعيــــــن قلبـيَ الصـادي
ليـــس لي عندك ما حييت بـراحٍ أنــت منــــى مُمَــكنُ في الســـــواد
إن تكــــن راضيــــاً علــــيّ فإنــي يا مُنى القلــب قد بدا إسعــادي

راحتي في خلوتي
راحتــــي يــــا إخوتي في خلـــوتي وحبيبــــي دائمـــا فـي حَضــــرتي
لـم أجــــد لـــي عن هــواه عِوضـا وهـــــواه فـي البــــــرايا مِحنتـــــــي
حيثــــما كــنت أشاهِد حُســــنه فهــــو محــــــرابي إلـــيــــه قبلتــــــــي

 

شكوى
وارحمتـــا للعاشقــين! قلـــوبـــهـــم فـي تيـه ميــــدان المحــبة هائمــــــه
قامت قيامة عشقـهم فنفوسهـــــم أبــداً علـــى قـــدم التذلل قائمـــــه
إمــــا إلـى جنـــات وصــل دائمــــا أو نــــار صــدٍ للقلـــوب ملازمـــه

زادي قليل
قليـــــل مـــــــــا أراه مُبـــلّــغـــــــــــي أللــزاد أبــكي أم لطول مســـافــتي
أتحــــرقُني بالنـــار يـــا غاية المنــى فأيـــن رجائــــي فيك أين مخـــافتي

خمر العشق
كأســــــي وخمـــري والنديم ثلاثـة وأنــــا المشوقة في المحبــــة: رابعـــه
كــأس المســـــرة والنعيـــم يديـرهـا ساقي المدام على المدى متتابعه
فإذا نظــــرت فــــلا أُرى إلا لــــــه وإذا حضـرت فلا أُرى إلا مـــعـــه

إذا نطقت كنتَ حديثي
وتخــلَّلَتَ مســـلكَ الــــروحِ منــــي وبه سُمّــــي الخلـــيل خليــــــــلا
فإذا ما نطــــقتُ كنـــت حديثــي وإذا ما سكـــــتُ كنــت الغليـــلا

حبيبي
حبيـــــبٌ ليـــــس يعـــدله حبيـب ولا لســـــــواه فـي قلبــــي نصيـب
حبيبٌ غاب عن بصري وشخصي ولكــــــن في فــــؤادي مــــا يـغــيب

نصرة دروز لبنان

نصرة دروز لبنان
لثـــــورة 1936 فــي فلسطيــن

المفرزة الدرزية في حملة القاوقجي نالت الثناء
على انضباطها وشجاعتها وكفاءتها القتالية

دروز جبل لبنان لعبوا دوراً مهماً في تسليح الفلسطينيين
وسلطات الانتداب جندت كل قواها لإحباط التهريب

الأمير مجيد أرسلان ينتقد الحكومة بشدة
لمشاركتها في معرض تل أبيب الزراعي

لعب دروز لبنان دوراً مهماً -وغير موثق بصورة كافية- في نصرة ثورة العام 1936 ضد الاستيطان اليهودي والاحتلال البريطاني في فلسطين. واتخذت هذه النصرة شكلين أساسيين: المشاركة المباشرة في الجهاد الوطني إلى جانب الفلسطينيين ثم تنظيم حملات وقوافل لنقل السلاح إلى الفلسطينيين لموازنة عمليات التسلّح الكثيفة من قبل اليهود. في هذه المقالة نعرض لخصائص المرحلة التي كانت تعيشها فلسطين في تلك الفترة ولتفاصيل المشاركة الوطنية والدرزية المهمة بالقتال المباشر والسلاح في تلك الثورة التي أجهضت بفعل القمع البريطاني ومناشدات التهدئة العربية. وكانت هذه آخر الانتفاضات الجادة لمحاولة وقف السيل اليهودي الذي تدفق على الأرض المقدسة بتآمر مشترك من الانتدابين البريطاني في فلسطين والأردن والفرنسي في لبنان وسورية.

بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسّام في 19 تشرين الثاني 1935، عادت مجموعته الثورية إلى الجهاد ضد اليهود في أواسط نيسان 1936، فكان ذلك بداية لأكبر ثورة فلسطينية بين الحربين العالميتين، استمرت حتى 1939، وتخللها إضراب شامل، وكان شعار الفلسطينيين فيها، وفي ما سيعقبها من ثورات ومواجهات، عبارات القسّام التي قالها لرفاقه عند استشهاده: “لا تستسلموا. موتوا شهداء”.
لم يواجه الفلسطينيون اليهود فقط، بل واجهوا أيضاً البريطانيين المنتدبين على فلسطين، الآخذين على عاتقهم تسهيل هجرة اليهود وإقامة الوطن القومي اليهودي تنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم. لذا كان الفلسطينيون بحاجة إلى المساعدات من الدول العربية. ولقد قدمت لهم القوى الوطنية في هذه الدول، وبخاصة في دول المشرق العربي، النصرة في سنة 1936 بقدر ما تسمح به الظروف والإمكانات، وبقدر الحرية المتاحة لها للتحرّك في إطار الهيمنة البريطانية على العراق وشرق الأردن إضافة إلى فلسطين، والهيمنة الفرنسية على سورية ولبنان، وفي إطار تبعية حكومات تلك الدول للسلطات المنتدبة.
وفي ما يتعلق بلبنان يمكن القول إنه واكب ثورة 1936 وأثّر وتأثر بها، كما واكب وأثر وتأثر بما سبقها وأعقبها من حروب وأحداث مرتبطة بالقضية الفلسطينية بسبب مجاورته لفلسطين وعروبة أبنائه وتوجههم القومي. كما يمكن القول إن نصرته للثورة الفلسطينية جاءت على صعيد شعبي لا رسمي تجلت في إرسال بيانات وبرقيات التأييد، وتشكيل اللجان لجمع الإعانات للمصابين وعائلات الضحايا، وتزويد الثوار بالسلاح والقتال إلى جانبهم، والقيام بالمظاهرات والإضرابات، وتقديم الاحتجاجات على المخطط الصهيوني البريطاني واعتداءات الصهاينة وقمع البريطانيين لانتفاضات الفلسطينيين.
كانت الهيئات الرسمية في لبنان عاجزة آنذاك، ولو أرادت، عن تقديم أي دعم للوطنيين الفلسطينيين، وذلك بسبب هيمنة الفرنسيين على جميع الأمور، وتواطؤهم مع البريطانيين في إقامة الكيان الصهيوني، والاشتراك معهم في تنفيذ المخطط الاستعماري التقسيمي في المشرق العربي. وقد كان دور الهيئات الحكومية التابعة للمنتدب ليس فقط دون المأمول، بل كان أيضاً وفي مجالات عديدة دوراً قمعياً لنشاط تلك التيارات، إضافة إلى اتخاذ بضعة مواقف أخرى تخدم اليهود وتضر بالقضية الفلسطينية. فالحكومة اللبنانية، مثلاً، منعت تظاهر الطلاب لتأييد الفلسطينيين وشجب السياسة البريطانية، بحجة المحافظة على الأمن، كما أنها بالحجة نفسها وبحجة منع الظهور المسلح، تصدّت للجماعات المسلحة التي كانت تقصد فلسطين للقتال إلى جانب الثوار وإيصال السلاح إليهم.

موقف وطني للأمير مجيد أرسلان
وفي الوقت الذي كانت تنطلق فيه الدعوات لمقاطعة البضائع اليهودية والبريطانية، وافقت حكومة أيوب ثابت، في عهد رئيس الجمهورية إميل إده، على حضور لبنان معرض تل أبيب الزراعي في أيار 1936، إبَّان الثورة الفلسطينية، ووافق على هذا الحضور معظم أعضاء المجلس النيابي اللبناني، بحجة أن ذلك يفيد الاصطياف، ويعزز علاقات لبنان مع فلسطين. وقد أشاد أرباب الصناعة في دمشق واللجنة القومية في فلسطين والصحف الوطنية والجماهير البيروتية الإسلامية بموقف المعارضين للاشتراك في المعرض، وبخاصة موقف الأمير مجيد أرسلان، وهاجموا المؤيدين للاشتراك، وبخاصة الرئيس إميل إده ورئيس الحكومة أيوب ثابت. ومما جاء في بيان اللجنة القومية المعمم على الصحف ما يلي:
“إن اشتراك حكومة لبنان في المعرض الصهيوني تعدٍ على قدسية دماء شهداء فلسطين العربية وعلى أية رابطة تربطنا بلبنان. وهي حين تُقدِم بهذا الاشتراك على ما أحجم عنه الأجانب، إنما تتعمد الإساءة إلينا. إن في رسالة رئيس جمهورية لبنان إلى المعرض الصهيوني لروحاً عدائية يجدر بلبنان الشقيق أن يمحو أثرها بالعدول عن الإشتراك في المعرض المذكور”.
وما كان رئيس الجمهورية إميل إده موافقاً على حضور معرض تل أبيب الزراعي فقط، بل هو أبدى، بحسب تصريحه، الارتياح لقيام الوطن اليهودي في فلسطين. فلقد صرّح في 27 حزيران 1937 لجريدة “إيكو دو باري” بما يلي: “إن خلق جمهورية صهيونية ليس من شأنه ألا يسرنا”.

مشاركة الدروز في الثورة
مع اشتداد الإضراب العام في فلسطين حتى توقفه في 12 تشرين الأول 1936، وكذلك انتشار الاضطرابات بين العرب من جهة واليهود والبريطانيين من جهة أخرى، ازدادت حركة الاحتجاجات والاضرابات في المناطق والمدن اللبنانية، وكثرت البرقيات المرسلة من الزعماء والأئمة واللجان الطلابية، والتي تحتج على سياسة السلطة البريطانية، كما نشطت حركة جمع التبرعات لإغاثة المنكوبين العرب بواسطة لجانِ الإعانات المشكّلة في المدن، وبواسطة جريدة بيروت التي افتتحت الاكتتاب لجمع التبرعات. وواكب هذه التحركات المؤيدة والداعمة للثوار الفلسطينيين نقل السلاح إليهم، والتحاق بعض المقيمين اللبنانيين في فلسطين بالثوار، والتحاق العديد من اللبنانيين المقيمين في لبنان بهم. وبفضل هؤلاء اللبنانيين الذين انضموا إلى الفرق الفلسطينية المسلحة أو شكلوا فرق قتال صغيرة، توسع نطاق الثورة إلى ميدان جديد هو منطقة صفد شمال فلسطين، حيث برزت العصابات المسلحة من الموحدين الدروز. وفي هذه المنطقة استشهد لبنانيان في معركة الجرمق التي خاضها الثوار بقيادة الشيخ سعد الخالدي.
كان بعض اللبنانيين يلتحقون بثورة فلسطين عن طريق دمشق، وبخاصة بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها اسمها “اللجنة المركزية للجهاد”، كانت تتولى نقل هؤلاء اللبنانيين إلى فلسطين حيث ينزلون في ضيافة الأمير محمد الصالح في غور بيسان ويتسلمون منه السلاح. وكان بعض ناقلي السلاح إلى الثوار الفلسطينيين ينخرطون في صفوفهم، ويقاتلون إلى جانبهم.
وممن كان له دور في حوادث فلسطين الجارية بين العامين 1936 و 1939 أفراد العصابات اللبنانية المطاردين من السلطة أو المحكوم عليهم بالإعدام . ومن هؤلاء عصابة اسماعيل عبد الحق التي ظهرت في أواسط كانون الأول 1936 في جوار بلدة “يركا” حيث عادت إلى سلب المارة بحسب ما جاء في إبلاغ الحكومة الفلسطينية إلى حكومة لبنان. فانتدبت الحكومة اللبنانية ثلاثة من مفتشي شرطة التحري لمعاونة شرطة فلسطين في تعقب اسماعيل عبد الحق ورفاقه. ثم ظهرت عصابة اسماعيل عبد الحق في ضواحي عكا، واستقوت بانضمام بقايا عصابة فؤاد علامه، التي تشتتت بعد مقتله في سنة 1935. وأخذت عصابة عبد الحق “تقاوم اعتداءات الصهيونيين باعتداءات مثلها”. وقد خرجت قوات من الجيش الانكليزي لمطاردتها فاشتبكت معها في قتال دام ساعات عدة سقط فيه عدد من القتلى والجرحى. وتمكنت العصابة من الانسحاب بعد أن اعتقل الجيش اثنين منها. وقد أشار راديو لندن إلى اشتباك الجند البريطاني مع هذه العصابة، وقال إن أفرادها مسلحون بأحدث أنواع الأسلحة.
وبالاضافة إلى الالتحاق الفردي والجماعي، غير المنظم، بالثورة الفلسطينية التحقت بالثورة سرية لبنانية بحملة فوزي القاوقجي التي بدأ الاستعداد لها في أوائل شهر حزيران 1936، ووصلت عناصرها الآتية من العراق، ومن مناطق سورية التالية: دمشق وحمص وحماه وحوران، ومن جبل لبنان، إلى نقطة التجمع الأخيرة في ميدان الجهاد في فلسطين، في الواحد من شهر آب.

بعض اللبنانيين التحقوا بثورة فلسطين عن طريق دمشق بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها باسم “اللجنة المركزية للجهاد”

يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947
يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947

القاوقجي يغيّر المعادلات
قسّم القاوقجي حملته إلى خمس مفارز أو سرايا هي سرية فلسطينية بقيادة نائبه فخري عبد الهادي، وسرية دمشقية حورانية أردنية بقيادة الشيخ محمد الأشمر، وسرية حموية حمصية بقيادة منير الريّس، وسرية عراقية بقيادة الضابط العراقي (جاسم)، وسرية درزية من جبل لبنان وجبل العرب بقيادة حمد صعب من قرية الكحلونية، إحدى قرى قضاء الشوف . أما الدوافع إلى تقسيم القاوقجي لحملته إلى سرايا على أساس مناطقي، فهي ميل عناصر كل سرية إلى القتال مع بعضهم البعض “وحتى تتبارى وتتنافس كل فئة منها في إظهار خصائصها العربية الكريمة” بحسب ما ذكر قائد إحدى هذه السرايا منير الريس.
قبل وصول القاوقجي كان الثوار الفلسطينيون عبارة عن شراذم متفرقة، مستقلة عن بعضها البعض، يكمنون في سفوح الأودية أو رؤوس الهضاب والجبال، حتى إذا مرّت قافلة انكليزية أو يهودية من أمامهم، يصلونها ناراً حامية، ثم يسرعون إلى قراهم، مما كان يجعل أمر ملاحقتهم في القرى ميسوراً، ولا يضطر الإنكليز إلى كبير عناء وكثرة عدد لمواجهتهم وملاحقتهم. وبعد وصول القاوقجي إلى فلسطين في 25 آب 1936 تسلّم قيادة الثورة الفلسطينية بالنظر إلى خبرته وتجاربه، وأصدر بلاغات إلى الأمة الفلسطينية والأمة العربية الإسلامية كي تذيع أخبار المعارك المنتصرة، وتحث على حمل السلاح والجهاد من أجل إنقاذ فلسطين من الظلم والاعتساف، وأسس محكمة ثورية ولجاناً خاصة للإعاشة والتموين مرتبطة به.
وبناءً على ذلك، وعلى تنظيم القاوقجي للثوار، وعلى كون المجاهدون الذين أتوا معه إلى فلسطين مدربين ومنظمين، ومعظمهم خاضوا معارك الثورة السورية الكبرى، حصل تغير جوهري في نوعية العمليات العسكرية وغدا هناك زمر يتراوح عدد الوحدة منها ما بين خمسين وسبعين رجلاً، تمارس ما تعتقد بأنه حرب وطنية تدافع بها عن بلادها في وجه الظلم والتهديد بالسيطرة اليهودية، كما اشتدت حماسة الفلسطينيين إلى القتال، وإلى الاستمرار في الإضراب العام، بعد فتور في هذين الأمرين.
نجاحات القاوقجي تفاجئ البريطانيين
بدأت السرايا التي شكّلها القاوقجي القتال في جبل جريش في 25 آب 1936 حيث تمّ اسقاط طائرتين انكليزيتين. وخاضت معركة في 2 أيلول، وانتصرت على الانكليز وأوقعت بهم العديد من القتلى والجرحى وأسقطت لهم طائرتين. ثم خاضت معركة جبع في 24 أيلول وانتصرت على الفرق الإنكليزية على الرغم من الإمدادات التي أتى بها الانكليز إلى فلسطين. وقامت بهجوم ناجح على مراكز الجيش الإنكليزي في نابلس في 29 أيلول وهزمته في بيت أمرين، وخرّبت خطوط مواصلاته في هذه المنطقة مما اضطره إلى استقدام قوات إضافية إلى فلسطين لسحق الثورة. فكان لهذه الانتصارات الباهرة أثر كبير في فلسطين، إذ ضعفت هيبة الجيش الانكليزي، وتلاشت الدعايات المضللة، وتأججت نار الحماسة في النفوس، وازداد الأمل بالنصر، كما كان لها أثرها أيضاً في سورية والأردن والعراق، إذ اشتد الهياج في هذه الدول، وقوي تأييد الثورة الفلسطينية، وتألفت لجان الإسعاف والإعانات التي كانت تتلقى المساعدات والأموال بالمزيد من البذل والعطاء.

فوزي القاوقجي
فوزي القاوقجي

القاوقجي يثني على المفرزة الدرزية
أما عن السرية اللبنانية، فقد جاء في مذكرات فوزي القاوقجي، في الحديث عن الفوضى والمشكلات التي عانت منها حملته، ما يلي: “اعترف ان المفرزة الدرزية اللبنانية كانت نموذجاً عظيماً للمجاهدين في تحمّلهم وصبرهم وقلة مشاكلهم، وكان قائدها حمد بك صعب مثال النخوة والاقدام”. وعن خسائر “السرية الدرزية” يرد في مذكرات القاوقجي استشهاد محمود أبو يحيى من جبل العرب في معركة بلعا “وهو الذي كان له الفضل في الصمود والمحافظة على خط دفاعنا المركزي. وقد أبدى – شأنه في كل معركة عرفته فيها في معارك الثورة السورية – من الجرأة والشجاعة ما يعجز عن وصفها القلم”. كما يردّ في “يوميات أكرم زعيتر” استشهاد المجاهد حسين البنّا من شارون، إحدى بلدات قضاء عاليه في معركة بلعا، واستشهاد ملحم سعيد سلّوم حماده من بعقلين، إحدى بلدات الشوف، في معركة كفرصور في 8 تشرين الأول 1936، بعد أن أردى ضابطاً بريطانياً من ثقب الدبابة. ولقد تحاشى أهله في بعقلين الإجابة عن أسئلة السلطة المتكرّرة عن سبب موته وإقامة عزائه من دون جثة، نظراً لما كان يتعرض له أهل المجاهدين من ملاحقات ومضايقات وعمليات دهم في وقت ساعدت فيه السلطة المنتدبة الفرنسية على سورية ولبنان السلطة المنتدبة البريطانية على فلسطين، على قمع الثورة الفلسطينية ومنع وصول المساعدات إليها والتحاق المجاهدين من سورية ولبنان بها.

خلافات على الطريقة العربية
واجهت القاوقجي مشكلاتٌ عديدة منها غياب الدعم العربي المطلوب، والمشكلات الداخلية بين مجاهدي حملته، والتي منها عصيان المفرزة العراقية بسبب الرواتب، وهي التي كانت أكثر انتظاماً من غيرها. ومنها الخلافات الفردية بين الحماصنة والشوام، التي كانت تصل أحياناً إلى استعمال السلاح، ومنها تحول الخلافات الفردية إلى خلافات بين السرايا، وإصرار بعض الزعماء على تنفيذ آرائهم وخططهم، وعودة بعض العناصر إلى مواطنها، واتصال بعض العناصر برجال الاستخبارات البريطانية في فلسطين ورجال الاستخبارات الفرنسية في درعا. وكان القاوقجي يبذل جهداً كبيراً في حل هذه المشكلات وتلافي أضرارها ويضطر أحياناً إلى تسريح المشاغبين. كل هذه العوامل، إضافة إلى إنهاء الإضراب العام في فلسطين تلبية لنداء ملوك العرب وإعلان الإنكليز للهدنة، اضطرت فوزي القاوقجي إلى الانسحاب من فلسطين في تشرين الأول 1936.

سباق تسلح بين الفلسطينيين واليهود
كان الفلسطينيون في أمس الحاجة إلى السلاح في صراعهم مع اليهود والجيش البريطاني، وهو الذي كان بكمّه ونوعه أهم أسباب انتصار اليهود في جميع الحروب العربية الإسرائيلية. لقد كانت سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين لا تسهّل هجرة اليهود واستيطانهم فقط، بل توفّر لهم أيضاً الحماية بسياستها المنحازة، وتصادر الأسلحة من العرب وتقمع انتفاضاتهم التي قامت من أجل وقف هجرة اليهود إلى فلسطين ومنع إقامة كيانهم العنصري.
وفي المقابل، كان اليهود يحصلون على السلاح إمّا من مصادر السلطة البريطانية أو بواسطة التهريب بتواطؤ مع المسؤولين البريطانيين. واكتشاف شحنة الأسلحة والذخائر في ميناء يافا، المهربة إليهم داخل براميل، في أواخر سنة 1935، كان من أهم أسباب ثورة الفلسطينيين في سنة 1936، كما أن اليهود عملوا بشتى الأساليب على إفراغ أسواق البلدان العربية المجاورة وبيوت الأهالي من السلاح لتلافي احتمال انتقاله إلى الفلسطينيين، والّفوا لهذا الغرض شركة لشراء السلاح من سورية ولبنان بعد انتفاضة الفلسطينيين في سنة 1929، المعروفة، بانتفاضة البرّاق، وبعد تعاظم شعور العداء في الدول العربية إزاءهم وإزاء البريطانيين. وقد اكتشف رجال الأمن اللبنانيين شركة يهودية تشتري السلاح من سورية ولبنان، وتجمعه في مستودع في صحراء الشويفات، وتنقله إلى اليهود. وهذه الأسلحة هي بنادق ومدفع رشاش وقنابل يدوية.
منذ أن قامت الثورة الفلسطينية في سنة 1936 شرع الكثيرون من أبناء سورية ولبنان وشرق الأردن بنقل السلاح إلى الفلسطينيين والقتال إلى جانبهم. وإذا كان أكثر ناقلي السلاح قد فعلوا ذلك بدافع وطني، فإن قلة منهم توخّت الربح؛ لأن البندقية، مثلاً، كانت تُشترى في لبنان بـ 14 ليرة وتباع في فلسطين بـ 31 ليرة، ومع هذا الدافع التجاري لهؤلاء، فقد أسدوا خدمة جلّى للفلسطينيين، وللمتطوعين للقتال إلى جانبهم؛ لأنهم بحاجة إلى السلاح والذخيرة. وكان بعض السلاح المنقول إلى فلسطين من بقايا سلاح الثورة السورية الكبرى، وبهذا ردّ الدروز للفلسطينيين في سنة 1936، الجميل الذي صنعوه مع مجاهدي الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

قوافل السلاح تنطلق من الشوف وعاليه
لم يكن نقل السلاح وتسرّب المسلحين إلى فلسطين عمليةً سهلة، بل كانا مغامرة محفوفة بالمخاطر، وبخاصة بعد تكاثر حواجز القوى الأمنية لمنعهما. وقد حفلت عشرات الأعداد من الصحف المختلفة الصادرة آنذاك، وبيانات السلطات، ونشرات راديو فلسطين، بأخبار الاشتباكات الكثيرة بين الجند والمسلحين في مختلف المناطق اللبنانية، ولا سيما مناطق الحدود اللبنانية الفلسطينية، والمسالك الرئيسية التي كانت الكمائن تقام فيها، كما حفلت بأخبار المداهمات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع، وفي لبنان الجنوبي، بحثاً عن السلاح وناقليه.
جرت أضخم مسيرة من مسيرات المنتقلين إلى فلسطين، في ليل 10 – 11 أيلول سنة 1936، وضمت ما يقارب المئة مسلح من مختلف قرى الشوف وعاليه. ولدى وصولهم إلى تومات نيحا، اصطدموا برجال الدرك الذين كمنوا لهم في هذا المكان؛ إذ كان مخبرو السلطة قد أعلموها بتحركهم، وبأن في نيتهم نقل السلاح إلى الثوار الفلسطينيين والالتحاق بهم. لكن هذا الاشتباك لم يحل دون متابعة أكثر المسلحين لطريقهم في حين عاد قلة منهم إلى قراهم.
اهتمت السلطة الفرنسية المنتدبة بهذه الحادثة. وبناءً على توجيهاتها إزداد اهتمام الحكومة اللبنانية والمسؤولين الأمنيين، فعززوا قوى الدرك على الحدود اللبنانية الفلسطينية، واهتم على الأخص محافظا جبل لبنان ولبنان الجنوبي، اللذان تجري الحوادث في منطقتيهما. فحضر محافظ جبل لبنان إلى اعالي الشوف في 14 أيلول 1936، واجتمع بقائمقام الشوف وقومندان الدرك وزوّدهما بالتعليمات اللازمة، ثم عاد إلى بيروت حيث اجتمع برجال السراي الصغير. وحضر محافظ الجنوب إلى بيروت في 18 أيلول ليقابل أمين سر الدولة، ثم عُقد اجتماعٌ أمني ضمه ومدير الداخلية وقائمقام الشوف، حيث إتفق على تعزيز قوى الأمن واتخاذ الإجراءات المتشددة والكافية للقضاء على ما سمي “تهريب السلاح”. ومن جملة ما اتخذ من إجراءات استعانة قوات الدرك في مرجعيون بالمتطوعين لمساعدتها في مهماتها.

القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ
القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ

عمليات دهم وقمع بالجملة
باشر رجال الدرك ابتداءً من 12 أيلول مداهمة بيوت المسلحين الذين عُرفت اسماؤهم من رجال الاستخبارات وممن القي القبض عليهم من المسلحين الذين عادوا من تومات نيحا ولم يكملوا طريقهم إلى فلسطين. وداهموا ايضاً بيوت المتهمين بامتلاك السلاح، والمتعاطفين مع الثوار الفلسطينيين، الذين كان يخشى أن يقودهم التعاطف إلى القتال مع الثوار أو تزويدهم بالسلاح. وصادروا في بضعة أيام كميات كبيرة من الأسلحة بلغت من الشوف وحده 51 بندقية و1050 رصاصة. وارتفع هذا العدد كثيراً مع تتابع عمليات الدهم والتفتيش فبلغ ما جمع من بلدة نيحا، حتى تاريخ 19 أيلول 1936، 59 بندقية. وتمّ اعتقال الكثيرين. ورافق عمليات الدهم اشتباكات عدة منها اطلاق النار على رجال الدرك في 13 أيلول من الاكمات القائمة وراء بلدة مزرعة الشوف عندما كان رجال الدرك يسوقون الموقوفين منها، والاشتباك قرب بلدة عين زحلتا الذي جرى بعد بضعة أيام وقُتل فيه أحد أبناء البلدة محمد كرامي.

السلطات تحتفل بإحباط تهريب الأسلحة
كان اعتقال مئات الأشخاص مثار إدانةٍ من الوطنيين؛ لأن اعتقالهم بحسب ما جاء في احتجاج أمين الريحاني على أعمال الحكومة “يخدم المخططات البريطانية والصهيونية ويعزل الثورة الفلسطينية”. بيد أن ما احتج عليه الوطنيون كان مدعاة لتقدير السلطة. فقد منحت الحكومة اللبنانية قائمقام الشوف ميدالية الاستحقاق اللبناني الفضية ذات السعف لأنه بفضل التدابير التي اتخذها في ظروف صعبة ساعد على توطيد النظام والأمن في قضاء الشوف ” كما جاء في مرسوم منحه هذا الوسام. كما منحت الحكومة ميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثانية لضابط بيت الدين والمختارة، وميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الرابعة لجنوده، لنجاحهم في تشتيت عصابة كبيرة في ليل 10 – 11 أيلول وتوقيف الكثير من المسلحين. وجاء في مرسوم منح الضابط الميدالية بأنه تمكّن خلال يومين من إماطة اللثام عن أفراد تلك العصابة وعددهم سبعون، واعتقال 64 شخصاً ومصادرة 48 بندقية و1879 خرطوشة.
ومع استمرار الثورة في فلسطين حتى سنة 1939 استمر انتقال المسلحين اللبنانيين إليها وتهريب السلاح إلى مجاهديها. ولم يكن ذلك يتم عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً عبر المناطق السورية وبفضل مبادرات منظمة أو فردية. فبعض أهالي منطقة راشيا نقلوا السلاح إلى أهل أقليم البلان(الجولان) وبخاصة أهل مجدل شمس، وهؤلاء بدورهم نقلوه إلى فلسطين. وكان المسلّحون اللبنانيون ومهربو السلاح يستعينون بأهل الإقليم في أثناء انتقالهم إلى فلسطين لمعرفة هؤلاء بالمسالك المؤدية إلى قراها الشمالية.

تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين
تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين

محاكمات عسكرية وغرامات باهظة
واستمرت الكمائن والمداهمات والاعتقالات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع وفي لبنان الجنوبي، وهي لم تكن تخلو من الاشتباكات، منها الاشتباك الذي جرى في ليل 9 – 10 آب 1938 في سد بنت جبيل، بين كونين وبنت جبيل، وأدى إلى جرح مسلحين عدة ومقتل مزيد أبو حمدان من قرية الكحلونية (الشوف)، مما عزّز اتهام السلطة لابن هذه القرية، حمد صعب، قائد السرية اللبنانية في حملة فوزي القاوقجي إلى فلسطين، بأنه المسؤول عن تهريب السلاح. وبسبب هذه الحادثة، وسواها من الحادثات مع الجماعات المسلحة، لفتت المفوضية العليا الفرنسية الحكومة اللبنانية إلى تعدّد حوادث هذه الجماعات، وطلبت منها اتخاذ تدابير فعّالة لمقاومة هذه الأعمال.
كان المعتقلون يحالون إلى المحكمة العسكرية في بيروت. وقد بلغ عددهم في 4 كانون الأول 1938، 350 شخصاً. وكانت المحكمة العسكرية تصدر أحكامها بالجملة، فقد أفرجت بتاريخ 9 كانون الثاني 1937 عن 65 معتقلاً من أبناء الشوف بعد أن قضوا في السجن مدداً أكثر من المدد المحكوم عليهم بها. وأصدرت أحكامها بتاريخ 3 كانون الأول 1938 على 50 رجلاً بالسجن لمدة سنتين، ودفع غرامة مالية مقدارها ألفا ليرة (وهو ما كان يمثّل مبلغاً باهظاً) عن كل سجين.
توقّع المسؤولون البريطانيون المزيد من أعمال المقاومة العربية “وذلك بالنظر للجهود المتصاعدة في تهريب الأسلحة إلى داخل فلسطين”، فطلب القنصل البريطاني في بيروت والمندوب السامي في فلسطين من السلطة الفرنسية المنتدبة ومن الحكومة اللبنانية وقف تسرب الجماعات المسلحة من لبنان إلى فلسطين. وتضمنت مذكرة المندوب السامي السر أرثر واكهوب إلى الحكومة اللبنانية في أواخر تشرين الثاني 1937، زيادة الحاميات العسكرية على الحدود.

السلطات الفرنسية تتنصل
وأرسلت سلطة الانتداب البريطاني تقريراً إلى لجنة الانتدابات التابعة لعصبة الأمم، في اوائل 1939، أشار إلى استفحال حركة تهريب الأسلحة وإلى أن موظفي الأمن العام صادروا كمية من البنادق، معظمها مصنوع في ألمانيا، وكمية من المسدسات. وعند إثارة هذه القضية أمام لجنة الانتدابات لم ينكر ممثل فرنسا الكونت دوكه المحاولات الكثيرة لتهريب السلاح وجهود الأمن العام لوقفها، كما انه صرّح بأن لا مصلحة لسلطة الانتداب في سورية ولبنان في تشجيع حركات التهريب وتقديم المساعدات للثوار الفلسطينيين، بل مصلحتها في عكس ذلك.
إن تأييد السوريين واللبنانيين للثوار الفلسطينيين، وتقديم الدعم المادي والأسلحة لهم، وقتال البعض إلى جانبهم، كان مثار تقدير الثوار الفلسطينيين وإصدارهم بيانات الشكر، ومنها بيان القائد العام للثورة يوسف سعيد أبو درّة في 7 آذار 1939 إلى السوريين واللبنانيين، الذي جاء فيه: “لا عجب ولا غرابة فإن أخوّتهم الإسلامية ودماءهم العربية الزكية التي تسري في تلك العروق الحية جعلت إخواننا سكان سوريا ولبنان، خصوصاً أهالي بيروت، يبذلون الجهد في مساعدة إخوانهم في الدين والعروبة”

2 من ذاكرة جبل العرب

خيال بخيال

من طرائف القضاء العشائري في جبل العرب

الزمان عشّية القرن التاسع عشر؛ أواخر عهد السيطرة العثمانية على بلاد العرب، أي منذ نحو مئة عام ونيّف.
المكان منطقة البلقاء شمال الأردن؛ جنوبي حوران من ولاية الشام.
زيد شابٌّ هو ابن أحد وجهاء قبيلة من قبائل أهل الشمال؛ وهؤلاء قبائل بدويّة مواطن حلّها وارتحالها بين الحجاز جنوباً وحوران إلى الجنوب من دمشق شمالاً. كان زيد قد استيقظ في مضارب أهله مبكّراً عند الفجر على حلم مثير، لم يرغب أن يعود للنوم ثانية بعد رؤياه تلك، فبادر يطبخ القهوة المرّة في المضيف، بينما رعاة والده انطلقوا يسوقون قطعان الإبل والأغنام والماعز إلى مراعيها، وما أن ارتفعت شمس الصباح قليلاً حتّى تنبّه شابٌّ آخر من العشيرة هو صاحب لزيد؛ الى حركة صاحبه في المضيف المشرع على الشمس. كان زيد قد أنجز طبخ القهوة، فقدِم إليه صاحبه للمسامرة؛ هما صديقان؛ يكاشف كل منهما صاحبه بما يخفيه عن سواه.
قَوّكْ (أي قواك الله – وهذه تحيّة بدويّة بقاف ملكونة؛ أي ملتبسة بجيم مصريّة)
يا هلا؛ قالها زيد؛ وأردف: “تفَضّل فُتْ (أي أدخل).
وما أن جلس الصاحب حتّى قصّ زيدٌ عليه قصّة حلمه؛ ذلك انّه رأى نفسه عريساً لـ “شمسة” وأنه شاركها السرير في ليلة عرسهما، أمّا شمسة تلك؛ فهي شابّة فائقة الجمال وابنة لأحد وجهاء عشيرة أخرى في القبيلة.
أيّامٌ قليلة مضت، شاعت على أثرها قصّة حلم زيد في أوساط القبيلة، قصّة تناقلتها النّسوة همساً بادئ الأمر، ثمّ انتشرت بين الرّعاة وتناقلها الرّكبان (أي المسافرون على ظهور الإبل في أرجاء البوادي) وطارت الحكاية بين آذان الإبل؛ كما يقول المثل البدوي.
اعتبر أهل الفتاة القصّة مسألة كرامة، أغار شقيقا شمسة على إبل لعشيرة زيد صاحب الحلم، ونهبا بعض الجمال والمواشي واحتجزاها رهينة ً أو يُنظرَ في الأمر عند قاضٍ؛ وإلاّ فالشّرُّ والعراك بين العشيرتين.
بادر والد زيد إلى إبلاغ رجال عشيرة الفتاة عن طريق وسيط بالتّريّث؛ والاحتكام لقاضي القبيلة في الأمر تجنّباً للقتال وسفك الدّم.
قاضي القبيلة رأى في المسألة عقدة غير مسبوقة، ولم يرَ لها من حلّ عنده، فحوّلها عنه، ولمّا كانت النّوايا سليمة عند رجال القبيلة؛ فإنّ الرغبة باسترداد الإبل المنهوبة بالقوّة كانت مسألة مُؤجّلة حقناً للدّماء، لذا أُحيلت مسألة الاحتكام إلى قاضٍ آخر من قبيلة أُخرى، لكنّ هذا لم يجد عنده باباً للحكم فيها. فحوِّلت الدعوى إلى “ابن زهير” وهذا قاضي قضاة قبائل أهل الشمال، نظر الرجل في القضيّة مَليّاً، أنظرَ المختصمين شهراً لعلّه يجد حلّاً يرضيهم، لكنّه لم يصل إلى حل، ولكي يؤجّل عراكاً مُحتملاً بين القوم قال لهم: “لا يقدر على حل مشكلتكم هذه إلاّ القاضي الشيخ سلامة الأطرش في الضّلع؛ في قرية العانات (الضّلع؛ تسمية كانت تطلق على جبل الدّروز – محافظة السويداء حاليّاً – من قِبَل القبائل البدويّة في تلك المنطقة، لأنّ النّاظر إليه من جهة الجنوب والشمال يراه ممتدّاً في الأفق على شكل قوس أزرق لطيف يشبه الضّلع، أمّا العانات فهي قرية تقع في أقصى جنوب الجبل ممّا يلي بادية الحماد الأردنيّة؛ وتبعد عن مدينة السويداء نحو أربعين كيلومتراً باتجاه الجنوب).
قَبِلَ المختصمون بما أشار ابن زهير عليهم، وما هي إلاّ اْيّام حتى توجّهوا إلى الضّلع قاصدين قرية العانات، وصلوا ضيوفاً وعرضوا الأمر على القاضي، قال لهم: مَلّكوا. “أي: أن يرضى كل من الفريقين بتقديم عطاء من جِمال ومواشٍ اْو مال دلالة على قبول كل منهما بما سيحكم به القاضي.” فقبلوا، (والتمليك هذا يخسره من يخسر الدعوى، ويُرَدّ لمن يربحها)، كما طلب القاضي من أهل الفتاة ردّ الإبل المرتهنة لأصحابها مع ما أنجبته من خلائف، فوافقوا مقابل القبول بالحل الذي سيقضي به الرجل. وضرب لهم موعداً ليأتوا إليه مع كل ما يملكه والد الفتى من خيل ومواشٍ ومال.
ذات عصرٍ بعد نحو شهر قَدِمَ المختصمون إلى القاضي الاْطرش في العانات، أودع كل منهم ما يحمل من سلاح لديه، كانت القصة قد شاعت في قرى الجبل، ووفدَ الناس ليرَوْا ما سيحكم به الشيخ سلامة في المسألة المثيرة للنزاع.
في الصباح التالي ومع شروق الشمس كان القاضي قد طلب من والد الفتاة أن يقف على الحافّة الشرقيّة لمطخ العانات (البرْكة)، بحيث تكون الشمس من خلفه، وبحيث ينطبع خياله وخيال كل ما يمرّ من خلفه على صفحة الماء أمامه.
أمرَ القاضي الأبَ ألاّ يلتفت وراءه بتاتاً، وأن يحصي كل ما يمرّ أمامه من خيالات تظهر على صفحة الماء، وفي الوقت ذاته طلب من أهل الشاب أن يُمَرّروا من خلف الرجل فرساً ثُبّتَتْ فوق سَرْجِها بارودة، يتبعها عشرون من النوق، ومثلها من الجِمال، ومئة رأس من الغنم، ومثلها من الماعز، وكان القاضي كلّما مرت أعداد من المواشي خلف الرّجل يؤكّد عليه: اضبط عَدَّك، فيجيبه: إيْ والله قد ضبطت.
كان العمل بتمرير مواشي أبي زيد من خلف والد شمسة قد انتهى، هنا سأله القاضي هل ضبطت العّدّ؟
نعم.
أمُتأكدٌ أنت ممّا عَدَدت؟
إيْ والله.
كم عَدُّكَ؟
فرس وبارودة وعشرون ناقة وعشرون جَمَلاً، ومئة من الغنم ومئة من الماعز.
قال له القاضي: حسناً، لقد وصلك حقّكَ واستوفيت.
صُدِمَ الرجلُ:
كَيْفَ وصلني حقي وأنا لم استلم شيئاً ؟
خيالٌ بخيال، أردف القاضي قائلاً: هذا حقّك، زيد رأى خيالاً في منامه، وأنت رأيت خيالاً على الماء، هذا كل ما في الأمر.
كان القاضي قد أعدَّ وليمةَ مصالحةٍ للحاضرين، وجمعَ الفريقين على الطعام، وأنهى بذلك نزاعاً بين قوم من أهل الشمال كاد أن يقودَ إلى حربٍ قَبَلِيّةٍ في بلاد لم يكن للدولة فيها من وجود إلاّ في المدن الكبرى.

موت النّمر الأخير في جبل العرب

بدوي يرعي أغنامه
بدوي يرعي أغنامه

منذ زمن لا يتعدّى قرناً وبضع عشرات من السّنين، نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان البدوي صبرا الصّبرا من قبيلة العظامات التي اعتادت الارتحال بين بادية الحماد وأطراف سهل حوران شتاءً وحتّى أوائل الربيع ثمّ تعود مصعّدة ًإلى الجبل في أواسط الربيع والصيف؛ قد خيّم قرب قرية حبران التي ترتفع نحو 1400 متر فوق سطح البحر، جنوب شرق السويداء بحوالي خمسة عشر كيلو متراً قرب الطريق إلى صلخد. كانت الأحراش تغطي معظم السفوح والقمم الجبليّة آنذاك، وكان هذا يوفّر حِمًى غنيّاً لكثير من الوحوش والأحياء البرّية المتنوّعة.
صبرا هذا رجل عصاميّ، امتلك ثروة من الغنم والماعز عبر المشاركة في الحصول على ربع مواليد المواشي التي يرعاها في أراضي بني معروف(الدّروز)؛ بالإضافة إلى عدد من الجمال التي ينقل على ظهورها أمتعته ومؤونته، وثلاثة عشر كلباً لحراسة مواشيه ومضاربه.
نهض صبرا مبكراً كعادته، لم يسمع صوتاً لأيّ كلب من كلابه الثلاثة عشر!. دهش البدويّ؟!، إذ لم يحدث له مثل هذا من قبل، سريعاً؛ ارتدى عباءته المنسوجة من وبر الجمال اتّقاء برد الصباح الجبلي القارص، تناول بندقيّته وخرج إلى الخلاء مستريباً؛ نادى كلابه بأسمائها؛ لا سِمرْ، لا جَدَع، لا جَدّوع، ما من مُجيب؛ لا نُباح ولا عُواء. صاحَ بأعلى صوته: “يا عيال شَيْ غريب بها الدّيرة”.
وعلت أصوات وساد في المضارب هرجٌ ومرج.
ما إن ابتعد الرجل قليلاً عن الزرائب حتّى وجد أحد كلابه مقتولاّ وقد ضرّجته الدّماء، لحق أثَرَ عراك على الأعشاب والتراب بين الأشجار الحرجيّة، وجد كلباً آخر مقتولاً أيضاً !، سأل نفسه مذعوراً: “ يا الله وِشْ ها البليّة” ؟ مشى بضع عشرات من الأمتار. هذا كلب قتيل. تذكّر صبرا أنّ الرعاة ما أخبره الرعاة من أنّ نمراً كان يعدو على المواشي بين حين وآخر، فتوجّس ريبة مما يحدث ومضى يلحق مَجَرّ العراك، أدرك بحدسه الفطري أنّ ما يراه يدلّ على أنّ معركة ٍ ضارية بين كلابه وبين وحشٍ أكثر شراسة من الذئاب التي تعوّدت على صدّها بخسائر لا تقارن بما يرى أمامه.
تابع جريرة العراك. كلب رابع قتيل. كان همّ الكلاب إبعاد النمر عن الزرائب. لا بدّ أنّه كان جائعاً. البدويّ لاييئس ولا يتشاءم إذا ما هاجم الذئب قطيعه، هو إنسان يؤمن بقضاء الله، هناك مثلٌ بدويٌّ يقول: “ شاة الذيب للذيب”.
استمرّ صبرا يتبع أثر العراك. كلب خامس. فسادس؛ فسابع. فتاسع وعاشر؛ وحادي عشر وهلمّ جرّاً؛ تابع سيره؛ لابدّ أنّها مهارشة مميتة مع وحش شرس، كان بعض كلابه قد نفق؛ آخرون يلفظون أنفاسهم، وَلْوَلَ الرجل؛ فخسارته لكلابه مصيبة، الكلب جزء هام من ثروة مالك الغنم؛ وكل من يقطن في هذه البقاع الموحشة. كل من في الحي فزع إليه، الجميع يتبع آثار العراك إلى جانبه؛ بل أخذ بعضهم يباريه ويسابقه بحذرٍ ودهشة وخوفٍ دفين مما يرون، ابنه الشاب “فيّاض” سبقه في تقصّي أثر المُهارشة، وصل إلى حيث انتهت المعركة، أدهشه المشهد، كان النمر قد ارتمى أرضاً؛ منهكاً مُدمًّى عاجزاً عن الحركة، يئنّ أنيناً خافتاً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ مهارشة الكلاب قد هدّت قواه، وقريب منه الكلب الثالث عشر؛ كبير الكلاب “سِمْر” ملقًى على الأرض؛ دامي الوجه والجسد يئنّ أنين طفل يطلب الغوث من ذويه. في فوران الغضب والخوف وشهوة الانتقام؛ استكبر فيّاض حجراً؛ أهوى به على رأس الوحش، نظر حوله مذعوراً؛ قفز إلى أعلى رُجْمةٍ من حجارة بالقرب منه؛ خلع ثوبه الأوحد الذي يستر جسده وأخذ يلَوّح به عارياً ينادي القوم أن يسرعوا إلى حيث يقف.
لم يلبث أن وصل صبرا إلى حيث انتهت المعركة كان النّمر لم ينفق بعد؛ خاصرته لم تزل تنبض؛ أطلق إلى رأسه رصاصة رحمة من بارودته، ثُمّ التفت إلى كلبه المُدَمّى؛ مشى إليه؛ قرفص فوق رأسه النازف؛ رفعه قليلاً عن العشب الرّطب وقبّله دامع العينين؛ وخاطب ابنه فيّاض : “هيّا رُحْ يا ولد؛ اذبح فطيماً (خروف صغير) وأطعم الكلاب التي لم تَمُت بعد عسى الله يشفيها”..
كانت الشّمس قد قاربت الضّحى في سماء قرية حُبْران في ذلك اليوم الدّامي؛ منذ نحو مئة وثلاثين عاماً من عامنا هذا، ومنذ ذلك اليوم لم يَعُدْ أحد يذكر أنّه شاهد نَمِراً في جبل العرب..

2011