الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مؤتمر الازهر

مؤتمر الأزهر الشَّريف لمواجهة الغلو والتطرُّف

قيادات إسلاميَّة ومسيحيَّة من مائة وعشرين دولة
تصدر ميثاقاً حول التسامح الديني ومحاربة الإرهاب

وفد مشيخة العقل يقدم ورقة عمل ويلتقي الإمام الطيب

شيخ الأزهر الإمام الدكتور محمد أحمد الطيب
شيخ الأزهر الإمام الدكتور محمد أحمد الطيب

سجل الأزهر الشريف في مصر سابقة ريادية على مستوى التصدي للمفاهيم المنحرفة ودعوات الغلو ونشر الفتن بين الناس بإسم الدين وذلك بالدعوة إلى عقد لقاء تشاوري ضم قيادات دينية إسلامية ومسيحية ومفكرين من 124 بلداً في العالم، وذلك بهدف تكوين تقييم موحد لظواهر التطرف والغلو وإعلان موقف مشترك يدعم خيار التسامح والوسطية والتقارب بين الأديان والمذاهب ويدين التطرف والإرهاب. واعتبرت دعوة شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور محمد أحمد الطيب إلى اللقاء العالمي مبادرة جريئة استهدفت تأكيد موقع الأزهر الشريف كمرجع إسلامي أول وكمبادر في إدارة حوار بناء بين الأديان والمذاهب يستهدف احتواء التوترات وإدانة ظواهر العنف والتطرف ورفض الآخر. وبدا واضحاً أن شيخ الأزهر ينظر بعين القلق الشديد لموقف بعض الحركات المتطرفة من المسيحيين في المنطقة والإعتداءات التي يتعرضون لها في عدد من الأماكن، وهي سوابق اعتبرها غريبة جداً عن الإسلام وعن تاريخ التسامح والتعايش الطويل الذي رعته كافة العهود الإسلامية بين مختلف مكونات المجتمع.وقد ظهرت بوادر هذا النوع من التوتر والإنشقاق داخل المجتمع المصري نفسه وبين بعض الأوساط الإسلامية الرجعية وبين الطائفة المسيحية التي تعتبر أكثر وجود مسيحي في العالم العربي بل في غرب آسيا.
دعوة من شيخ الأزهر إلى سماحة شيخ العقل
وُجِّهت الدعوةُ إلى ما ينيفُ على مائة دولة من مختلف أقطار العالم كما ذكرت التقارير، لمرجعيات لها جهودها «الطيِّبة في نشر السماحةِ والتعايُش بين أتباع الطوائف المختلفة»، وربَّما تكونُ هي المرَّة الأولى التي يدعوُ فيها «شيخُ الأزهر» المرجع الروحيّ الرسمي لطائفة الموحِّدين الدّروز سماحة شيخ العقل نعيم حسن إلى مؤتمر إسلاميّ أزهريّ مع طلب كتابةِ ملخَّصٍ مُركَّز حول إحدى تلك قضايا محاور المؤتمر ليُستفاد من ذلك في تحديدِ رؤية كاملة حولها».تندرجُ دعوةُ الأزهر الشّريف الاستثنائيَّة هذه في سياقٍ متجدِّدٍ وثيق الصِّلةِ بالدَّور الكبير الّذي وجد فيه هذا الصَّرحُ التاريخيّ العريق أنّه مهيَّأ له في رفع لواء «الوسطيَّة» في الإسلام بمواجهة كلّ ظواهر الغلوّ والتّطرُّف. وأُرفِقت الدَّعوةُ الكريمةُ بلائحة عناوين المحاور المطروحة للبحث، والتي تفرَّع منها مواضيع لتكون مادَّةً خاضعةً للدَّرس و«التأصيل»، حيث أُشير إلى اتّجاهٍ في غاية الأهمّية، وهو منحى «تصحيح المفاهيم»، والعودة بها إلى رحاب الإسلام السَّمح الَّذي هو، في كلِّ حال، النَّهج الأثيل الَّذي التزمَ به الأزهرُ عبر التّاريخ.
حضور واسع
افتتح شيخ الازهر الدكتور محمد أحمد الطيب جلسات المؤتمر صباح يوم الأربعاء في الثالث من شهر كانون الأوّل 4102 في القاهرة وتصدر الحضور غبطة البابا تواضروس الثاني، وبطريرك الكرازة المرقسيّة، ووفود مشاركة من السعودية والمغرب وإيران ووفد كبير من لبنان ترأسه سماحة مفتي الجمهوريّة اللبنانيَّة الشيخ عبد اللطيف دريان وضمّ مفتيي المناطق و الدكتور محمد السمّاك وممثّل المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وبعض الشخصيّات الناشطة، والوفد الممثل لسماحة شيخ العقل الذي تألف من الشيخ غسان الحلبي وقاضي المذهب الشيخ غاندي مكارم والشيخ هادي العريضي رئيس اللجنة الدينية في المجلس المذهبي.

كلمة الإمام الطيِّب شيخ الأزهر
في كلمته الإفتتاحية البليغة دعا شيخ الأزهر الإمام الطيِّب إلى التوحُّدِ في مواجهةِ التطرُّف بكلِّ توجّهاته ومدارسه ذاكراً الخطر المطبق على بلادنا وشعوبنا وقد دهمها من داخلها وخارجها، «فإنك حيثما قلَّبت النَّظر في خريطة الشرق الأوسط فإنه يروِّعك هذا الوضع المأساوي ، والذي يعييك البحث فيه عن سبب منطقي واحد يبرِّرُ هذا التّدمير المتعمَّد الذي حاق بالأرواح والدّيار والإنسان، وراح يستهدفُ تفتيت أمَّة، وفناء حضارة، وزوال تاريخ».
وتحدَّثَ شيخُ الأزهر متسائلاً عن «هذه الصّورة الكريهة لدِيننا الحنيف التي طالما تمنّاها أعداءُ الإسلام وانتظروها، الأمر الّذي يدفع إلى البحث عن أسبابها خارج إطار الحديث عن المؤامرةِ التي لا شكّ أنَّ مسوِّغات الكلام عنها موجودةٌ بدليل غزو العراق بعد حملةٍ عُرفت باختلاق الأكاذيب وتلفيق العِلل، الأمر الّذي ينطبقُ أيضاً على ما يحدث في سوريا وليبيا واليمن. وتطرّق إلى سببٍ يُسألُ عنهُ العرب وهو المراوحة في حالة الاقتتال التي تبقيهم في وضع الضعف والهزال، وتؤجِّجُ عندهم منهج الفرقة والتنازع والاختلاف». وتساءل «لماذا لا يكون لنا اتّحاد يشبه الاتحاد الأوروبي، مقدِّراً جهود الساعين إلى جمع الشَّمل. ثمَّ تحدَّث عن إساءة استخدام مفاهيم التكفير، والجهاد، والخلافة تاركاً للعلماء مهمَّة إعادة توضيح المفاهيم الحقيقية للدين الحنيف، ومستحضراً ما يجري في الأقصى والقدس للحثِّ على التضامن وتحقيق الوحدة الاسلاميَّة التي كانت وستبقى الهدف الأسمى للأزهر الشّريف.

البابا تواضروس : احترام التنوع
ثمَّ تكلَّم البابا تواضروس الثاني موضحاً بأنَّ مصر قدَّمت نموذجاً راقياً لحياة حضاريَّة تنبذ الإرهاب والتطرُّف، وأنَّ المسيحيَّة في تاريخها على أرض مصر نادت وما زالت تنادي بحقوق كثيرة أوَّلها أن الإنسان في أيِّ مجتمع هو النور الّذي ينير للآخَرين، كما نادت باحترام التنوُّع وبالحوار. ثمَ تعاقب على الكلام عديد من العلماء من المغرب والسعودية ونيجيريا وكوسوفا وعُمان، ومن لبنان تكلَّم المطران بولس مطر، وسماحة السيّد علي الأمين.
بعد ذلك، انعقدت الجلسة الأولى تحت عنوان «تصحيح المفاهيم وتحريرها»، والجلسة الثانية بعنوان «الغلوّ والتطرُّف»، والجلسة الثالثة تحت عنوان «المواطنة والعيش المشترك»، قرأ فيها المشاركون بحوثَهم ومداخلاتهم، وبعضها كان له طابع أكاديمي، وبعضها تضمَّن محاولات رصينة في تحديد أسباب الإشكالات المطروحة واقتراحات عقلانيَّة ومسؤولة للخروج من واقع الأزمة إلى الأفق الحضاريّ المطلوب. وكان لباحثين أزهريّين صوتٌ له أصداء نهضويَّة عميقة، وتميُّزٌ في أصالةِ الطَّرح والمعالجَة، وغوصٌ مستنير في عمق المفاهيم بروحٍ إيمانيَّةٍ جامعة.
وكان لوفدِ مشيخة العقل مداخلة بعد الجلسة الثانية التي ترأّسها مفتي مصر الدكتور شوقي علام تحدَّث فيها ممثِّلُ سماحته حيث أوضحَ بأنَّ مشيخة العقل أرسلتْ ورقةَ بحثٍ وفق ما ورد عبر الدّعوة الكريمة التي تلقّتها ولخَّص موضوعها بإيجاز، وصولا إلى تقديم تحيات سماحة شيخ عقل الموحّدين الدروز إلى المؤتمر وإلى الإمام الأكبر للأزهر الشريف وعن فائق التّقدير والاحترام لدور الأزهر القيادي «في بلورة الفكر الإسلاميّ الوسطي السَّديد»، وفي مواجهة ما تتعرَّضُ له الساحة الإسلامية من أزمات، وما صدر عنه من وثائق أساسيَّة نخص بالذكر وثيقة الأزهر الشّريف لنبذ العنف، والوثيقة المتعلّقة بالحريّات الأساسيّة، وبالمقاربة العامَّة الواردة في وثائق أخرى عن «تحديد علاقة الدّولة بالدِّين إلخ. ..وكلُّها خطوات سديدة في درب نهضةٍ حضاريَّة تتجاوز بها الأمَّةُ إشكالاتها العالقة، شرط المضيّ قدُماً بروح التسامح والحوار والتأصيل الثقافيّ المرتكز على فسحة العقل المؤمن بهدْي الله تَعالى ونور رسالته موضحاً بأنّه كان للدعوةِ صدًى طيِّب في قلبه وقلوب أهلنا جميعاً، وهو يأمل أن يؤتى المؤتمر ثماره المرجوَّة لخير الأمَّة الإسلاميَّة جمعاء.

لقاء مع الإمام شيخ الأزهر
تتوَّجت الزيارة والمُشاركة في المؤتمر بلقاء وفد مشيخة العقل مع الإمام الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر الّذي كان يستقبل بعض الوفود في غرفة خاصّة خارج قاعة المؤتمر. وبعد ترحيبه بالوفد شاكراً له حضوره ومبلِّغاً إيّاه سلامه إلى سماحته، تحدَّث ممثّل المشيخة معبِّراً عن مدى الأثر الطيِّب الّذي تركه تلقّي الدعوة الكريمة من الأزهر الشَّريف، ليس فقط لدى صاحب السماحة، بل وأيضاً لدى أهلنا لما يعني لهم الأزهر، هذا الصّرح الاسلامي العريق، من حضور في الوجدان والذاكرة، وهو صرحٌ لطالما كان في طليعة الّذين ناضلوا وكافحوا على مرّ التاريخ من أجل عزّة الإسلام وصورته النهضويَّة والحضاريّة. ولفت إلى أنّه منذ أن تسلّمَ د. الطيّب هذا المقام تبدَّت في مواقفه وكلماته الرّوح النهضويَّة، وحمل لواء الإسلام النيِّر، وهذا المؤتمر اليوم هو التعبير القويّ عنها. ثمَّ قُدِّم له كتابان أحدهما يعبِّرُ عن المسلك الأخلاقي التوحيدي، وآخَر كتبه أمير البيان شكيب أرسلان تناول فيه أسباب تأخُّر الأمَّة الإسلامية.

الجلســــة الختاميّــــَة وبيان الازهــر العالمي
صباح يوم الخميس بتاريخ 3/12/2014 عُقدت الجلسة الرابعة تحت عنوان «الإرهاب ودور المؤسَّسات الدينيَّة في مكافحته» والتي ترأسها مفتي الجمهورية اللبنانية سماحة الشيخ عبد اللطيف دريان، وبعد إنهاء المداخلات التي تكلَّم فيها البعضُ عن الأعمال الشنيعة المرتكبة في العراق، وفلسطين وغيرهما، وكذلك عن الجرائم المرتكبة بحق المسيحيّين، عُقِدت الجلسة الختاميَّة بعد نصف ساعة تقريباً واقتصرت على قراءة البيان الختامي الّذي تلاهُ وكيلُ الأزهر الدكتور عبّاس شومان، بعد التوافق على تسميته «بيان الأزهر العالمي»، والّذي تضمَّن بنوداً في إدانة العنف والإرهاب وأعمال الميليشيات، والتأكيد على أنَّ المسلمين والمسيحيّين في الشرق هم أخوة ينتمون إلى حضارةٍ واحدة، وأنّ العلاقات المشتركة هي علاقات تاريخيَّة وتجربة عيشٍ مشترَك ومُثمر وأن تهجير المسيحيّين وغيرهم هو جريمة مستنكَرة، وأن بعض المسؤولين في الغرب وإعلاميّيه يستثمرون هذه الجماعات المخالفة لصحيح الدِّين. كما تضمَّن دعوة إلى لقاء حواريّ عالميّ للتعاون على صناعة السّلام وإشاعة العدل في إطار احترام التعدُّد العقديِّ والمذهبيّ والاختلاف العنصريّ. كما أشار إلى عمليَّة «غسل الأدمغة» بتشويه المفاهيم التي يتعرَّضُ لها عددٌ من شباب الأمَّة. ودعا إلى تنظيم التعاون بين دول العالم العربي وتطوير آليّاته وطالب بقوّة في أن يتحمَّل العلماء والمراجع الدينيَّة في العالم العربي والاسلامي مسؤوليّاتهم أمام الله والتاريخ. كما أدان الإعتداءات الإرهابيَّة التي تقوم بها القوّات الصهيونيَّة في الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة وخاصَّة في القُدس الشَّريف.

بيان تاريخي من الأزهــر الشريــف
حــــــــــول التســــــامح الـدينــــــي

تعدُّدَ الأديانِ والمذاهب كان وسيبقى مصدرَ غنى لها وللعالم
والإسلام هو دين السلام والوحدة والعدل والإحسان والأُخوةِ الإنسانيةِ

أصدر المشاركون بمؤتمر الأزهر لمواجهة التطرف والإرهاب، المنعقد بالقاهرة في نهاية الجلسة الختامية بياناً شاملاً أعاد التأكيد على المضمون الإنساني والعالمي للإسلام معلناً البراءة التامة من كل أشكال التطرف والتمييز الجيني أو العنصري مندداً بغسل الأدمغة التي يتعرض لها بعض الشباب بإسم الدين لتحويلهم إلى أداة للقتل والإرهاب والفتن، وفي ما يلي أهم البنود التي تضمنها البيان:
أوَّلاً: إنَّ كلَّ الفِرَقِ والجماعاتِ المُسلَّحةِ و»المليشيات» الطائفيَّةِ التي استعملت العنفَ والإرهابَ في وجه أبناء الأمةِ رافعة – زوراً وبهتاناً – راياتٍ دينيةً، هي جماعاتٌ آثمةٌ فكراً وعاصيةٌ سلوكا، وليست من الإسلامِ الصحيحِ في شيءٍ، إنَّ ترويعَ الآمِنين، وقتلَ الأبرياءِ، والاعتداءَ على الأعراضِ والأموالِ، وانتهاكَ المقدَّساتِ الدينيةِ – هي جرائمُ ضد الإنسانيَّةِ يُدِينها الإسلامُ شكلاً وموضوعاً، وكذلك فإنَّ استهدافَ الأوطانِ بالتقسيمِ والدولِ الوطنيةِ بالتفتيتِ، يُقدِّم للعالم صورةً مشوهةً كريهةً عن الإسلام.
من أجلِ ذلك فإنَّ هذه الجرائمَ لا تتعارَضُ مع صحيحِ الدِّين فحسب، ولكنَّها تُسيء إلى الدِّين الذي هو دين السلام والوحدة، ودِين العدل والإحسان والأُخوةِ الإنسانيةِ. إنَّ تعدُّدَ الأديانِ والمذاهب ليس ظاهرة طارئة في تاريخنا المشترك؛ فقد كان هذا التعدد وسيبقى مصدرَ غنى لهم وللعالم.
ثانياً: المسلمون والمسيحيون في الشرقِ هم أخوةٌ، ينتمون معاً إلى حضارةٍ واحدةٍ وأمةٍ واحدةٍ، عاشوا معاً على مدى قُرون عديدة، وهم عازِمون على مُواصلةِ العيشِ معاً في دولٍ وطنيةٍ سيِّدةٍ حُرةٍ، تُحقِّقُ المساواةَ بين المواطنين جميعًا، وتحترمُ الحريَّات. وإن التعرُّضَ للمسيحيين ولأهل الأديان والعقائد الأخرى باصطناع أسبابٍ دِينيَّةٍ هو خُروجٌ على صحيحِ الدِّينِ وتوجيهاتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتنكرٌ لحقوقِ الوطنِ والمواطنِ.
ثالثاً: إنَّ تهجيرَ المسيحيين وغيرِهم من الجماعاتِ الدِّينيَّةِ والعِرقيَّةِ الأخرى جريمةٌ مُستَنكرةٌ، نُجمِع على إدانتِها؛ لذلك نُناشد أهلَنا المسيحيين التجذُّرَ في أوطانهم، حتى تزولَ موجةُ التطرُّفِ التي نُعاني منها جميعاً، كما نُناشِدُ دولَ العالم استبعادَ تسهيلِ الهجرةِ من جدولِ المُساعداتِ التي تُقدِّمُها إليهم؛ فالهجرةُ تُحقِّقُ أهدافَ قُوَى التهجيرِ العُدوانيَّةِ التي تستهدفُ ضربَ دولِنا الوطنيَّة وتمزيق مجتمعاتِنا الأهليَّة.
رابعاً: إنَّ بعضَ المسؤولين في الغرب وبعض مُفكِّريه وإعلاميِّيه يَستثمِرونَ هذه الجماعاتِ المُخالفةَ لصحيحِ الدِّينِ لتَقديمِ صُوَرٍ نمطيةٍ يَفتُرون فيها على الإسلامِ شِرعةً ومِنهاجا. ولمُواجهة هذه الظاهرةِ السلبيةِ يُطالب المؤتمرُ المنصِفين من مُفكِّري الغربِ ومُسؤولِيه تصحيحَ هذه الصُّوَرِ الشريرةِ وإعادة النظَرِ في المواقف السلبيَّة؛ حتى لا يُتَّهم الإسلامُ بما هو بَراء منه، وحتى لا يُحاكَم بأفعالِ جماعاتٍ يَرفُضها الدِّين رفضاً قاطعاً.
خامساً: يَدعو المؤتمرُ إلى لقاءٍ حواريٍّ عالميٍّ للتعاون على صِناعةِ السلامِ وإشاعةِ العدلِ في إطارِ احترامِ التعدُّدِ العقديِّ والمذهبيِّ والاختلافِ العُنصري.
سادساً: لقد تعرَّض عددٌ من شباب الأُمَّةِ ولا يَزالُ يَتعرَّضُ إلى عمليَّةِ «غسل الأدمغة» من خِلال الترويجِ لأفهامٍ مغلوطةٍ لنصوصِ القُرآن والسُّنَّة واجتهادات العُلمَاء، ومن هذه المفاهيمِ مفهومُ الجهاد، ومعناه الصحيح في الإسلام هو أنه ما كان دفاعاً عن النفس وردّاً للعدوان، وإعلانُه لا يكون إلا من ولي الأمر وليس متروكاً لأي فرد أو جماعة مهما كان شأنها.
سابعاً: دعوة دول العالم العربي إلى تنظيم تعاونها وإلى تطوير آليات هذا التعاون بما يحقق الاستقرار والأمن والازدهار.
ثامناً: يطالب المؤتمر بقوة العلماء والمراجع الدينية في العالم العربي والإسلامي أن يتحملوا مسؤولياتهم أمام الله والتاريخ في إطفاء كل الحرائق المذهبية والعرقية وبخاصة في البحرين والعراق واليمن وسوريا.
تاسعاً: إدانة الاعتداءات الإرهابية التي تقوم بها القوات الصهيونيَّة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخاصة في القدس الشريف، والتي تستهدف الإنسان الفلسطيني المسلم والمسيحي على حد سواء، كما تستهدف المساجد والكنائس وبخاصة المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، ويناشد المجتمعون المجتمع الدولي التدخل بفاعلية ومسؤولية لوضع حد لهذه الاعتداءات الآثمة وإحالة مرتكبيها إلى محكمتي العدل والجنايات الدوليتين.
عاشراً: إن المؤتمر يؤكد على أن الشرق بمسلميه ومسيحييه يرى أن مواجهة التطرف والغلو وأن التصدي للإرهاب أيا كان مصدره وأيا كانت أهدافه هو مسؤوليتُهم جميعاً.

الغجر في العالم العربي

الغجر في العالم العربي

لغز قديم وحياة شقاء ..وموسيقى

ثاروا على العباسيين في القرن التاسع الهجري
وملك أميرهم مصر متمرداً على الخليفة المأمون

إنطلقوا من الهند إلى أكثر من 45 دولة في العالم
في أكبر موجات نزوح لشعب في تاريخ البشرية

تعرضوا للإضطهاد والعزل في المجتمعات الأوروبية
لكنهم نعموا بحرية وأجواء التسامح في العالم العربي

يعتبر الغجر المنتشرون في العالم أحد أغرب ظواهر المجتمع البشري وعلاماته الفارقة، إذ نشأ إلى جانب الحضارات البشرية المختلفة شعب جديد له ثقافته ولغته وأسلوب عيشه ومعتقداته لكنه شعب لا يمتلك أرضاً أو مستقراً معيناً فهو لذلك في ترحال مستمر لا يحلّ في مكان حتى يبدأ بعد أسابيع أو أشهر رحلة جديدة بين الأمكنة، وهو شعب يختلف عن البدو الذين لا يخرجون عن نطاق مكاني معين و«يمتلكون» عملياً مراعي وواحات أو يتشاركون فيها فيرعون فيها إبلهم وأغنامهم ويمارسون التجارة أحياناً. أما الغجر فإنهم لا يمتلكون أرضاً وهم شعب متنقل في نطاقات جغرافية أوسع وغير ثابت في مكان ولا يوجد له لهذا السبب نشاط اقتصادي محدد أو واضح، ولهذا فقد طور الغجر «اقتصاداً» خاصاً بهم يلائم طبيعة حياتهم غير المستقرة وأمزجتهم وتقاليدهم، علماً أن الكثير مما يقومون به حملوه معهم من المناطق التي انطلقوا منها في جنوب الهند ومنطقة السند قبل أكثر من ألفي عام. بصورة عامة، يعيش الغجر من مهن وحرف بسيطة مثل الغناء وإحياء الأعراس وقراءة الطالع وصنع الحلي وحدادة الكير وصنع بعض الأدوات الموسيقية وعلاج البهائم ‏ وصناعة المراجيح وتجارة الخردة والعطارة‏,‏ وألعاب السيرك مع حيواناتهم المدرّبة من قردة وكلاب وثعابين‏,‏ وعندما تضيق الحال بهم فإنهم يدفعون أطفالهم إلى التسوّل وقد اتهموا في بعض المجتمعات بإحتراف النشل وقد برعوا فيه إلى درجة أنهم باتوا مضرب مثل في خفة اليد فبات الناس يحذرون حتى الاقتراب منهم في الأسواق.
لكن من الخطأ وضع جميع الغجر في سلة واحدة، فهم أصلاً تحولوا إلى فروع كثيرة لكل منها ما يميّزه في أسلوب عيشه وفي الأعمال التي يقوم بها وقد استقر الكثير منهم وتوقفوا عن الترحال الدائم وتحول الكثير إلى العمل في مهن ثابتة كالزراعة أو بعض الصناعات بعد أن اندثر العديد من الحرف التي تميزوا بها في الماضي فلم يعد هناك مثلاً من يشتري الطبول أو يصلح طباخات الكاز (الكيروسين) أو يعالج أسنانه عند الغجر أو يشتري منهم الخردة وبعض العدة المصنوعة من الحديد المحمى، فكل هذه الأمور اختفت مع تقدّم أساليب العيش في العالم. وقد اختار عدد قليل من الغجر الاستقرار في المدن ونال بعضهم التعليم واندمجوا لكن غالبيتهم ما زالت تفضل حياة الحرية والتنقل، إذ أن روح الغجر وشخصيتهم وثقافتهم وأسلوب عيشهم لا تزال مرتبطة بأسلوب التنقل والحرية التي يوفرها لهم.

هجرات الشعب الغجري بين سنتي 900 و 1720
هجرات الشعب الغجري بين سنتي 900 و 1720

لكن الخطأ في النظر إلى الغجر كان على الدوام اعتبارهم شعباً متجانساً لأنهم وإن كانوا يتحدّرون جميعاً من الهجرات التي جاءت من جنوب الهند ومنطقة السند فإنهم تفرقوا مع مرور القرون على عشرات البلدان وتعايشوا مع حضارات مختلفة فنشأت الفوارق الكثيرة بينهم حتى على مستوى اللغة والعادات وهناك من يحصي اليوم أكثر من 30 أو 40 عشيرة أو فرعاً من الغجر في العالم يختلف كل منها في الكثير من الأمور، وبطبيعة الحال هناك فارق بين الغجري الذي يعيش في بريطانيا أو ايرلندا أو رومانيا وبين ذلك الذي يعيش في مصر أو في جنوب العراق أو لبنان.
ولا يوجد إحصاء محدد لعدد الغجر في العالم لأن الكثيرين منهم سعوا للإندماج بالمجتمعات التي يقيمون فيها وأخفوا أصلهم الغجري وكذلك لأن الغجر لا يمتلكون وثائق هوية في بعض البلدان وهم ليسوا مشمولين بتعداد السكان، لكن مصادر مؤسسات الغجر وأهمها الاتحاد العالمي للغجر تقدر أعدادهم ما بين 12 مليوناً في العالم منهم نحو 1.3 مليون يعيشون في العالم العربي.

مصدرهم وهجراتهم
يتفق جميع الباحثين والمؤرخين على أن الغجر هم من الشعوب الهندو-آرية وقد يكونون من الفئات الدنيا التي كانت مكلفة بالأعمال الوضيعة أو من طبقة المنبوذين Untouctables أو الـ Harijans الذين كانوا يعاملون معاملة أقرب إلى العبيد ويتعرضون للتمييز الطبقي الشديد. وقد أظهر تحليل جيني أجري عام 2012 على فئات مختلفة من الغجر أنهم قدموا من شمال غربي الهند وأنهم من أصل عرقي واحد وقد قدموا كمجموعات من شمال غربي الهند قبل نحو 1500 عام، علماً أن لغة الغجر تدل على أنهم جاءوا من منطقة راجستان. وقد تكون الهجرات الغجرية الأولى حصلت على نطاق ضيق في القرن الثالث الميلادي عندما تمكّن ملك فارس أردشير من احتلال أقسام من الهند (تمثل اليوم معظم باكستان) في العام 227 ميلادي، ويبدو أن فارس كانت تعاني من نقص في العمالة وقد تكون شجعت على الهجرات الأولى للغجر باتجاه الغرب. وبعد 200 عام من ذلك التاريخ سعى ملك فارس بهرام غور (420-438م.) لاستقدام الآلاف من الغجر من الهند للعمل في إيران في مهن الرقص والغناء ويقال إنه استقدم نحو 10 آلاف منهم وأعطاهم عند وصولهم ثيراناً وأتاناً وقمحاً بحيث يمكنهم تأمين معيشتهم بالعمل في الأرض، في المقابل كان على هؤلاء الهنود أن يرفِّهوا عن فلاحي الإمبراطورية الفارسية بالغناء والرقص دون مقابل، إلا أن الموسيقيين الهنود وجدوا من الصعب القيام بالعملين في آن واحد بحيث انتهت السنة الأولى بعد قدومهم دون أن يتمكنوا من حرث وزرع الأراضي التي أوكلت إليهم، عندها طلب منهم الملك أن يتركوا الأرض ويتنقلوا في البلاد على حميرهم ويخيموا أينما شاءوا على أن تكون مهمتهم دوماً إدخال الحبور إلى حياة الفلاحين ورعايا الملك، ونظراً إلى أن ترك الزراعة وحياة الترحال الدائم يجعلهم بلا عمل يؤمن عيشهم فقد سمح الملك لهم بتقاضي أجور على أعمال الترفيه وخدمات إحياء الأفراح غناء ورقصاً وتقاضي المال على بعض الخدمات والأعمال الأخرى.

الهجرات الكبرى
لكن الهجرات الكبرى لهم بدأت في القرن العاشر أو الحادي عشر الميلادي وقد توجهت تلك الهجرات غرباً قاطعة مناطق فارس باتجاه جنوب العراق وتركيا، وتابع قسم منهم طريقه بإتجاه البلدان الأوروبية وتحوّل قسم بإتجاه الشرق فإتجه إلى دول البلقان وروسيا، وتظهر الخريطة المرفقة الطرق المفترضة لهجرات الغجر والتاريخ الزمني التقريبي لتوجههم نحو المقاصد التي اختاروها. وتظهر الخريطة أن هجرات الغجر انطلقت جميعها من الشرق باتجاه الغرب والشمال لكن حصلت بعد ذلك هجرات معاكسة عندما استولى اليونان البيزنطيون على أنطاكية في العام 855 فأطلق ذلك حركة هجرات جديدة، إذ توجه بعض الغجر إلى اليونان في طريقهم إلى البلدان الأوروبية بينما هاجر البعض الآخر إلى كريت حيث عادوا منها إلى لبنان وفلسطين ومن هؤلاء مثلاً الزغاري وهم من الغجر الذين يعيشون الآن في إيران.
أما هجرة الغجر جنوباً باتجاه القارة الأفريقية فلم تبدأ إلا في الربع الأخير من القرن العاشر الميلادي، أما هجراتهم إلى العالم الجديد في الولايات المتحدة وأميركا الجنوبية فقد بدأت في مطلع القرن التاسع عشر واشتدت مع العام 1860 وهو تاريخ الحرب الأهلية وتحرير العبيد في الولايات الأميركية الجنوبية.
اللافت أن الغجر الذين خرجوا من الهند ربما بسبب الاضطهاد والفقر الشديد اعتبروا أنفسهم بعد ذلك بمثابة «سادة الأرض» وهم إلى اليوم يفتخرون بإنتمائهم الغجري وينتقصون من قيمة غيرهم من الأقوام ويطلقون عليهم كلمة (Gadjo) ومعناها بلغتهم «غير المهذب» أو «المتعجرف». وهذه الكلمة تدل على أنهم احتفظوا بنوع من الكره لأسيادهم السابقين وعبروا عن ذلك بإلصاق تهمة العجرفة أو التكبر على الأقوام التي احتكوا بها، وقد يكون في هذه التسمية شيء من الصحة إذا عرفنا أن الغجر الذين هربوا من الهند طلباً للحرية والكرامة الإنسانية تعرضوا إلى أنواع اضطهاد جديدة كانت أقسى أحياناً في البلدان التي حلّوا فيها خصوصاً في أوروبا.

تاريخ اضطهاد
ففي القرنين الخامس عشر والسادس عشر كان الغجر أو «الروما» عرضة للاضطهاد في أكثر بلدان أوروبا الغربية بل كان وضعهم أقرب إلى العبيد، وأدى تكاثر أعدادهم إلى إثارة مخاوف الحكومات وكان الرأي العام معادياً لهم وقد نسجت حولهم روايات مثل قيامهم بخطف الأولاد وامتهانهم السرقة والنشل وغير ذلك فابتعد عنهم الناس، وتحت تأثير تلك المشاعر المعادية أخرجت سويسرا جميع الغجر من أراضيها وحرّمت عليهم دخولها بقانون نص على أن أي غجري يعثر عليه في سويسرا يتم إعدامه فوراً، وقامت بريطانيا بترحيلهم ثم أصدرت قانوناً مشابهاً للقانون السويسري في العام 1554وكذلك فعلت ألمانيا والسويد وفرنسا والدانمارك ورحّلهم البرتغاليون إلى مستعمراتها البعيدة وراء البحار. ورغم التحسن النسبي في أوضاعهم، إذ سمح لهم بالتجوال في عرباتهم، فإن التصنيف الرسمي للغجر بقي يضعهم في فئة العبيد، فكانوا في بعض دول أوروبا يقطعون جزءاً من آذان نسائهم كعلامة فارقة لتمييز الغجريات عن الحرّات وكان يتم دمغ رجالهم كما تدمغ المواشي وتمّ تنظيفهم عرقياً في عدد من المناطق. بفعل هذه الأجواء المعادية توجه قسم كبير منهم نحو شرق أوروبا مثل بولونيا وروسيا حيث تلقوا معاملة أفضل طالما واظبوا على دفع الضرائب إلى خزائن الدولة. في وقت لاحق ومع تحسن أوضاع الهجر نسبياً برز في وجههم خطر جديد هو محاولات دمجهم قسراً بالمجتمعات القائمة وذلك عن طريق تقييد حريتهم في الترحال والتجول وتخصيصهم بأماكن محددة واتخذت محاولات الدمج القسري في ألمانيا ثم إسبانيا شكل فصل الأسر عن بعضها، وكانت الحكومات تأخذ أطفال الغجر قسراً إلى معسكرات تعليم وتنشئة للدولة بحيث يتم إعدادهم ليكونوا مواطنين عاديين وينسوا تقاليدهم الغجرية، لكن كل تلك المحاولات فشلت واحتفظ الغجر بشخصيتهم وهويتهم وثقافتهم وتقاليدهم. كما أجرى الأوروبيون محاولة لخلق «وطن للغجر» في مناطق بين رومانيا وبولونيا والمجر، لكن الغجر رفضوا ذلك من منطلق حماية أسلوب عيشهم الحر والتنقل وعدم الإنتماء إلى مكان محدد.
لكن شعب الغجر أنشأ اتحاداً عالمياً يمثلهم في كل البلدان ويستهدف مناقشة قضايا وجودهم وحماية حقوقهم كما تبنى غجر العالم تسمية واحدة للغجر في جميع البلدان هي «الروماني» Romani كما صنعوا لأنفسهم علماً يرمز إلى أمة الروماني، وكان من اللافت أن علمهم يشبه إلى حد كبير علم الهند كما يبدو في الصورة المرفقة، إذ تتوسطه عجلة ذات 16 شعاعاً بينما العلم الهندي تتوسطه عجلة ذات 24 شعاعاً ويرمز اللونان الأخضر والأزرق في علم الغجر إلى الحقول الخضراء والآفاق الواسعة وبالتالي حال الترحال الدائم في بلاد الله الواسعة.

الغجر في التاريخ العربي
المكان الوحيد الذي وجد فيه الغجر مجالاً للعيش بصورة طبيعية نسبياً كان المنطقة العربية والدولة الإسلامية التي كانت بطبيعتها دولة جامعة وتعمل بمبدأ أخوة الدين ولا توجد فيها عنصرية قومية مثل العنصريات الأوروبية، وكان مظهر الغجر الرحل (وكانوا يسمون «الدوم») شبيهاً بمظهر البدو، علماً أن العديد منهم استقروا في ضواحي المدن الكبيرة مثل البصرة والقاهرة وكانت لهم مهن ودخل قسم كبير منهم في الجيش وشارك في الحملات العسكرية للملوك والخلفاء. وقد اشتغلوا في البصرة كشرطة وحراس سجون، وقد اختصوا أيضاً بالعمل في الملاحة البحرية، واستقر بعض السبابجة مع ذريتهم في البصرة حتى أن أحد أحيائها يحمل اسمهم ، فيما قطن البعض الآخر أهواز العراق ليعملوا في الزراعة ورعي الأغنام.

ثورة الغجر على العباسيين
من مفارقات تاريخ الغجر في المنطقة أنهم بلغوا في مطلع العصر العباسي درجة من القوة والإنتشار العددي شجعتهم على إحداث قلاقل وفوضى عارمة في جنوب العراق وكان الغجر يسمون في المنطقة «الزطّ» والغجري «زِطّياً».
في العام 201 هـ (816م) ثار الزطّ على الخليفة العباسي المأمون وقطعوا الطرق بين وسط العراق وجنوبه ونهبوا الغلال، وتعاظمت ثورتهم وانضم إليهم فقراء ومَوالون إلى أن تمكنوا في العام 205هـ (820م) من التحكم بمنطقة جنوب العراق بكاملها وفشلت جيوش المأمون في إخماد الثورة التي استمرت بصورة متقطعة حتى عهد الخليفة المعتصم وأثرت في هيبة الدولة العباسية وكانت ربما مع ثورة الزِنج لاحقاً (255-270 هـ / 869-883م)، أحد أسباب انهيارها. وقد أرسل المعتصم الذي كان قائداً عسكرياً ماهراً في العام 219هـ (834م) أحد أشهر قواده وهو عجيف بن عنبسة لحرب الزطّ، فعمد الأخير إلى جمع المعلومات عن أماكن تجمعهم وقطع عنهم المياه وهاجمهم فهزمهم وأسر وقتل الكثيرين واستسلم الزطّ له فنقلهم من مناطقهم بزوارق إلى بغداد وعددهم اثنا عشر ألف مقاتل وخمس عشرة ألف امرأة وطفل، وكانت الزوارق تمرّ بموكب لثلاثة أيام وهم ينفخون بأبواقهم، ومن بغداد نقلتهم الدولة العباسية إلى أنطاكية لمواجهة الدولة البيزنطية ولتخفيف خطرهم على الاستقرار والإفادة من قوتهم.
لكن حين هاجم الروم أنطاكية عام 241هـ (855م) فإنهم ساقوا جميع الزطّ مع ما كانوا يمتلكونه من ماشية ومتاع إلى داخل بلاد الروم، ولم يفلت منهم إلا قليل وكان نقل شعب الزط أو الغجر إلى بيزنطة إيذاناً بموجة هجرات تالية بلغت بهم بلدان أوروبا الغربية ثم الشرقية حيث توزعوا في القارة واتجهوا إلى حياة مسالمة، لكن لم يرحل كل الزط من العراق بل بقيت قلة منهم وخرج منهم عام 295هـ (907م) رجل يدعى حاتم الزطّي والتحق ببقايا القرامطة بعد هزيمتهم على يد الفاطميين وتزعّمهم، ويحكى انه حرّم عليهم الثوم والبصل والفجل والكرّاث، كما حرّم عليهم إراقة دماء الحيوانات.
المفارقة الأغرب هي أنه بينما كان الزطّ يثيرون القلاقل في وجه الخليفة المأمون فإن أحد أبرز قادته الذين شاركوا في فتح مصر كان زطّياً وكان يدعى السّريّ بن الحكم بن يوسف الزطّي، وقد دخل مصر مع الجند الخراسانيين المرافقين لليث بن الفضل عامل الرشيد عام 182هـ ، وحين نشبت الفتنة بين الأمين والمأمون تزعم الزطّي الجند الخراسانية ودعا للمأمون واستولى على غرب الدلتا وصعيد مصر، وبعد موت السريّ خلفه ابنه أبو نصر محمد الذي مات عام 206هـ وأعقبه أخوه عبيد الله بن السريّ فاستولى على مصر كلها بعد حروب دامية، ولما أراد المأمون أن يقره والياً أعلن العصيان واستقل بالملك، وفي سنة 221هـ، (835م) توجه المأمون عبد الله بن طاهر إلى مصر فهزم الزطّي الذي طلب الأمان ثم رحل إلى العراق ليقضي نحبه في سامراء عام 251 هـ.

الغجر-انتقلوا-من-الخيم-إلى-البيوت-النقالة-التي-تجرها-الخيل-أو-السيارات-وهم-يعتنون-كثيرا-بتزيينها
الغجر-انتقلوا-من-الخيم-إلى-البيوت-النقالة-التي-تجرها-الخيل-أو-السيارات-وهم-يعتنون-كثيرا-بتزيينها

 

 

من اليمين علم الغجر مستوح من علم الهند التي يعتبرونها وطنهم الأصلي كما أنه يظهر العجلة في الوسط كرمز ترحالهم الدائم بينما يرمز اللونان الأخضر والأزرق الى السفر في بلاد الله الواسعة
من اليمين علم الغجر مستوح من علم الهند التي يعتبرونها وطنهم الأصلي كما أنه يظهر العجلة في الوسط كرمز ترحالهم الدائم بينما يرمز اللونان الأخضر والأزرق الى السفر في بلاد الله الواسعة

الغجر في ظل الدولة العثمانية
عرف الغجر في ظل الدولة العثمانية الحياة الحرة غير أن السلطان سليم في عام 1530م اصدر فرماناً يضبط فيه بقاء الغجر في عدد محدد من مقاطعات الإمبراطورية، وأعفى ابنه السلطان سليم الثاني الغجر العاملين في مناجم البوسنة من الضرائب، ولكن مع تراجع موارد الدولة العثمانية في أواخر القرن السابع عشر ازدادت الضرائب عليهم حتى أثقلتهم ، إلا ان حياتهم بقيت في ترحال مستمر وتعدّدت أعمالهم وتحوّلت من الصناعات التعدينية إلى صناعة المكانس وتنظيف مداخن المنازل ، كما عملوا موسيقيين وراقصين ومدربي دببة وحدّادين . وفي البلاد العربية أعفاهم العثمانيون من الضرائب والتجنيد، وعاشوا كما يشاءون يمارس بعضهم التسوّل والتنجيم ويقيمون الحفلات الساهرة، ويصنعون الطبول والغرابيل ويصنعون الخناجر والمقصّات ويعالجون الأسنان.

الغجر في العالم
الغجر في العالم

تسميتهم
كان الغجر يسمون في بلادهم الهند الـ«دوم» Dom وهو إسم مشتق من كلمة Doma السنسكريتية التي تدلّ على أناس مكلفين بأعمال وضيعة وهؤلاء الناس موجودون في الهند على نطاق واسع ضمن نظام الطبقات ويدعون الهاريجان harijans ويعود الفضل إلى المهاتما غاندي في تحريرهم إذ قاد حملة وطنية للتآخي معهم واعتبارهم بشراً لهم نفس الحقوق. بعد ذلك ومع توجههم نحو أوروبا تحول اسم Dom إلى روم Rom فعرفوا به هناك لكن الإسم الذي عرفوا به في منطقة الشرق الأوسط هو “دوم” Dom أو دومي وأصبح دومري، ومن المألوف في لبنان مثلاً أن يقال عن مكان بعيد وغير مسكون (ما فيه ولا دومري!) ويعتقد أن موجات الغجر انقسمت في القرن السادس الميلادي وأدى ذلك إلى تسميات مختلفة لهم حسب المنطقة التي انطلقوا إليها.
في المنطقة العربية يسمى الغجر بأسماء عدة منها الكالور والقرباط والزط والزرغاري وهذه الأسماء تشير أكثر إلى أنساب قبلية فكان الغجري يسأل عن أصله فلا يقول «غجري» بل يقول «زرغاري» أو «قرباط» لأن ذلك يوحي بإنتمائه إلى شعب معين وكان هذا أفضل من أن يقول «دومي» التي تعني غجرياً بالمطلق. وأطلق عليهم أيضاً إسم السبابجة وفي العراق الكاولية وفي بعض مناطق الخليج الصلبي، والسبابجة صفة أطلقت على بعض الزط بسبب لون بشرتهم الأسمر الداكن، والفرد من هذه الجماعة يقال له «سبيجي». لكن الكلمة الأكثر انتشاراً في بلاد الشام هي كلمة «نَوَر» وهي جمع «نَوَري» والنور تستخدم أحياناً كإهانة أو للدلالة على أشخاص لا قيمة لهم أو هم في أدنى سلم الاعتبار. وفي إيران تستخدم كلمة «كولي» بنفس المعنى أي للحط من قيمة شخص عبر تشبيهه بالغجر.

لغتهم ولهجاتهم
أظهرت الدراسات اللغوية والإثنية أن لغة الغجر تشبه في الكثير من تعابيرها اللغة الهندية Hindi وهناك مفردات عديدة مشتركة بين الهندية ولغة الغجر وهذا ليس مفاجئاً إذا أخذنا في الاعتبار أن موجات الغجر هي هجرات لشعوب شمال غربي الهند ووسطها، أما قواعد اللغة الغجرية فهي أقرب إلى قواعد اللغة البنغالية.
لكن الدوم أو الغجر ومع احتفاظهم بأساسيات اللغة التي حملوها معهم من الهند فإنهم أخذوا بلغة الشعوب التي هاجروا إليها لذلك ليس مستغرباً أن ترى بعضهم يتكلم لغتين أو ثلاثاً لكنهم عموماً لا يتعلمون القراءة والكتابة بلغة البلد الذي يقطنون فيه فهم لذلك أميّون بالمعنى الفعلي. لكن بالإضافة إلى التحدث بلغة البلدان التي يعيشون فيها أو انتقلوا إليها فإن الدوم يتكلمون عادة إحدى لهجات اللغة المشتركة لغجر العالم، لكن اللهجات تباعدت مع مرور الزمن بحيث افترقت وتمايزت حسب المناطق الجغرافية، ولهذا السبب اتخذ الاتحاد العالمي للغجر قرارات بتوحيد لغة «الروماني» كما تسمى في أوروبا ووضع أسس كتابتها وقواعدها بما يحفظها من احتمال التحول إلى لغات عديدة لا يمكن للناطقين بها أن يتواصلوا في ما بينهم. في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي يتحدث الغجر بلغة الدومري (وهي اللغة المميزة لغجر المنطقة) داخل مجتمعهم ومع أفراد أسرهم، وقد تمكنوا من الحفاظ عليها بسبب تقليد التحدث الشفهي بها من جيل إلى جيل. ويستخدم تعبير نوري للدلالة على شعب الغجر لكن كلمة «النوري» هي عملياً إحدى لهجات اللغة الدومرية، واللافت أن غجر الشرق الأوسط يتحدثون العربية بلهجة البلد الذي يعيشون فيه، فهم يتحدثون باللهجة المصرية في مصر وبالسورية في سورية وباللبنانية في لبنان، وتستخدم اللغة الدومرية أيضاً في أفغانستان وروسيا وأوزباكستان.
بالطبع معرفة الغجر السطحية بلغة البلاد وأهلها وغياب أي تقليد للكتابة أو النقل باللغة الدومرية جعل الغجر مجموعة ضعيفة وهامشية، إذ أن القدرة على التواصل بالكتابة كانت عبر التاريخ ولا تزال أهم واسطة لحفظ الهوية والتاريخ الخاص بشعب بحيث يمكن تناقله من جيل إلى آخر. لذلك تجد قليلاً من شعب الدوم يمكنه اليوم أن يحكي تاريخ شعبه لأن انعدام الكتابة حرمهم من التدوين، كما أن عدم وجود هذا الإرث المكتوب يجعل الغجر غير قادرين على شرح حقيقتهم وتاريخم وتميزهم الثقافي، لذلك تراهم غالباً يسعون للتعبير عن أنفسهم بالرقص والغناء أما في المجتمعات العربية المحافظة يحتاج الغجر إلى التواصل مع أهل البلد وشرح هذا الإرث وإلا فإن العرب المسلمين في أكثريتهم سينظرون نظرة نفور أو عدم رضى إلى تقاليد الدوم نساء ورجالاً في الرقص والغناء.
وتعتبر لغة الدومري في الأصل قريبة من الهندية لكن أضيفت إليها في المنطقة التعابير الفارسية والتركية والعربية، وهي لغة تكاد تندثر بسبب لجوء الغجر المتزايد لاعتماد لغات ولهجات الشعوب التي يعيشون بالقرب منها، وقد أدت حالات الاضطراب والحروب التي ألمت بالعراق وسوريا إلى تأثر الغجر بصورة كبيرة نظراً إلى تشكك الجماعات الأصولية في صحة إسلام الغجر واتهامهم بالتقية وبإهمال ممارسة الفرائض والشعائر الإسلامية.

الموسيقى-حياتهم
الموسيقى-حياتهم

” افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن  “

موسيقى-للعيش
موسيقى-للعيش

حياتهم وعاداتهم
حافظ الغجر في كل مكان على ستار من الكتمان والغموض حول عاداتهم وأساليب عيشهم فهم يتكلمون لغتهم الخاصة في وجود الأجانب ولا يتحدثون إلى الصحافيين ويكرهون أي اهتمام غير عادي بهم أو باعتقاداتهم، لكن مراكز الأبحاث والجهات الرسمية تمكنت عبر الزمن من رصد مجموعة من الخصائص التي تميز حياة الغجر وتفسر كونهم شعباً أو إثنية مختلفة لها عاداتها واحترامها لهويتها.
من أهم سمات حياتهم أنهم يخافون البحر ويفضلون عبور الصحارى مراراً على عبور نهر ولو مرة واحدة، هذا مع العلم أنهم اضطروا لركوب البحر للوصول إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية وقد يكون ذلك بسبب اشتغال نفر قليل منهم بالبحرية أو صيد الأسماك.
إحدى المشكلات التي تواجه الغجر هي عدم وفرة المياه بسبب عزلة مضاربهم وكثرة الترحال، لذلك فإن المياه عندهم مخصصة للشرب وسقي الحيوانات والطبخ، وهي تعتبر ثمينة يحافظون عليها ويتجنبون هدرها.
يعطي الغجر أهمية كبرى لعذرية الفتاة ويشجعون الزواج المبكر وعلى أهل العريس أن يدفعوا مهر الفتاة لذويها، وكان الغجر يطبقون تقليد تزويج الصغار وهي عادة متبعة أيضاً في الهند وهو ما أثار بعض الجدل في أوروبا لكن هذه العادة لم يعد معمولاً بها إلا نادراً. وزواج الغجر يتم بأسلوب الخطف أو «الشراء» حيث يبيع الأب ابنته لقاء ثمن أو بإتفاق العائلتين وهو الأكثر شيوعاً. وزواج الغجري أو الغجرية بغير الغجر منكر ويطرد فاعله من العشيرة، وفي حفل الزواج يقوم رئيس الجماعة بكسر رغيف خبز قسمين ويضع ملحاً داخل كل قطعة ويقدمها للعروسين ويقول لهما (عندما تملّان هذا الخبز والملح يملُّ أحدكما الآخر) ثم يتبادل العروسان القطعتين قبل الأكل ولهذا الطقس أهمية خاصة في مجتمع الغجر تقترب به من الحفل الديني تجعله في مرتبة طقوس مقدسة، والحامل الغجرية تعفى من جميع الشؤون المنزلية.

ترحيل-الغجر-من-ألمانيا-النازية-عام-1940
ترحيل-الغجر-من-ألمانيا-النازية-عام-1940
الغجر في العالم العربي
الغجر في العالم العربي

مفهومهم للطهارة
يعتقد الغجر بأن الأجزاء السفلية من الجسم مثل الأعضاء التناسلية غير طهورة وهم لذلك يغسلون الثياب التي تستخدم في الجزء السفلي من الجسد على حدة ولا يمزجونها مع بقية الثياب، كما أن الولادة عندهم تعتبر ناقضة للطهارة لذلك يستحسن أن تحصل الولادة خارج المنزل وتبقى المرأة التي أنجبت غير طاهرة لمدة أربعين يوماً.
والموت عند الغجر يفسد الطهارة أيضاً وهو يؤثر على جميع أفراد أسرة الميت الذين يبقون غير طاهرين لمدة معينة بعد الدفن. وعلى عكس أجدادهم الهنود فإن الغجر يدفنون موتاهم ولا يحرقونهم فهذا الأسلوب غير متبع أو مسموح به في الإسلام ولا في المسيحية وهي المجتمعات التي يعيشون غالباً في ظلها.
وللغجري ثلاثة أسماء الأول (سري) والثاني (بين أفراد العشيرة) والثالث (بين الناس) وفي السجلات والقيود وتهمس الأم بالاسم الأول (السري) في إذن الوليد مرة واحدة عند الولادة وذلك لتضليل الأرواح الشيطانية الشريرة وعند بلوغه سن الرشد.
ولا يموت الغجري تحت خيمته أو في فراشه أو عربته بل يأخذونه إلى خارج الخيمة ويحضر الشهود وتغسل جثته بعد الوفاة بالماء المالح ويلبسونه ثياباً جديدة وبعد إعلان الشهود وفاته تجتمع العشيرة للبكاء والنحيب وتدفن معه الشوكة والملعقة والكمان ويعزف عليه لحن حزين وتوزع النقود على الشهود وينسى بعد موته.

ديانتهم ومعتقداتهم
يميل شعب الدوم عموماً لتبني الديانة الشائعة في البلد الذي يعيشون فيه. ففي الشرق الأوسط يعني ذلك تبني الدين الإسلامي، وهم غالباً ما يحجون إلى مكة المكرمة لكن بينما يوجد بينهم مسلمون مؤمنون حقاً وممارسون فإن أكثريتهم مسلمون بالإسم فقط ولا يقومون بالفرائض الدينية مثل الصلاة والصوم، فهم يعتبرون أن الدين مسألة خاصة وهم لا يحبون الحديث في أمر الدين مع أي كان لكنهم يتأثرون كثيراً بفكرة سيطرة الأرواح على حياة البشر ويفسرون كل ما يحدث لهم أو للعالم بتأثير أرواح شريرة أو لعنة معينة، لذلك ترى قارئات الطالع من نسائهم يعرضون على الزبون إعطاءه شراباً يقيه من العين ومن الخط ونوايا الشر وغير ذلك. ولا يوجد بين الدوم العرب إلا عدد قليل جداً من المسيحيين وذلك لسبب بديهي هو عدم اهتمام المجتمع الغجري بالدين وثانياً لأن تحول الغجري أو الدومي إلى مسيحي في بلد مسلم يجعله عرضة لضغوط كثيرة ولاسيما وأن أكثر تلك الحالات القليلة تتم بواسطة مبشرين محليين أو أجانب.
حتى في الدول الأوروبية حيث تبنوا الديانة المسيحية لا يوجد بين الغجر رهبان أو قساوسة أو حتى كنائس وما زال كبير السن بينهم وهو غير زعيم العشيرة- المرجع الأول في أمورهم وتوجيههم وهو الحكم في نزاعاتهم، ويعتقد الأوروبيون أن الغجر ما زالوا يمارسون طقوس «الشاكتية» التي حملوها من الهند. وتعتبر الشاكتية أحد أربع أكبر تيارات دينية في الهندوسية وهي تتصل بفرع اليوغا الهندية المسمى Tantric yoga التي تقوم على التحكم بالفكر والجسد وتطهير النفس واتباع تلك الطريقة يمكنهم من الحصول على قوى غير عادية ومن قراءة المستقبل والقيام بالكثير من الأمور التي يعجز عنها الإنسان غير المتمرس بطرق اليوغا.

” ديانتهم موروثة من اليوغا الهندية مع إيمان بالأرواح وقدرتها على التأثير سلباً وإيجاباً في مصير البشر “

لوحة-الغجرير-النائم-لهنري-روسّو-تظهر-حياة-السعادة-التي-يعيشها-الغجري-في-الطبيعة-وتناغمه-التام-مع-الحياة-البرية
لوحة-الغجرير-النائم-لهنري-روسّو-تظهر-حياة-السعادة-التي-يعيشها-الغجري-في-الطبيعة-وتناغمه-التام-مع-الحياة-البرية

مصادر عيشهم
يتميز نمط عيش الغجر العرب بتنوع واسع فمنهم من يزال يعيش نمط العيش المتنقل (رحّل) وهؤلاء يقدمون خدماتهم في إحياء الحفلات كموسيقيين أو كعمال معادن للأماكن التي يخيمون فيها أو لمجموعات أخرى من الغجر الرحّل وبسبب نمط عيشهم المتنقل فإن هذه الفئة يتم التعامل معها بكثير من الشكوك والحذر. في المقابل هناك منهم من يعمل كعمال موسميين مثل المساعدة في قطاف المحاصيل في وادي الأردن أو في قطاف التبغ في شمال الاردن. وهناك غجر من سكان الخيام يتنقلون في لبنان بين سهل البقاع وبين المناطق اللبنانية كما يفعل البدو الرحّل، وغالباً ما يرتبط ذلك بإعتبارات موسمية في القطاع الزراعي علماً أن قليلاً من الغجر العرب يعملون في الارياف ويعيشون حياة المزارعين لأن مفهوم امتلاك الأرض لا يدخل في نمط حياة الترحال الذي يغلب عليهم. وفي بعض البلدان مثل العراق فمن المألوف ان تشاهد قوافلهم من الجمال والحمير تنتقل من منطقة إلى أخرى تقدم خدمات الأعراس وحفلات الرقص والغناء وقراءة الطالع وأعمال الخفة والأعمال البهلوانية، لكن عدم امتلاك الغجر للأراضي التي يقيمون مخيمهم عليها يجعلهم دوماً عرضة لضغوط تضطرهم لإخلاء مواقعهم والانتقال إلى مكان آخر.
بعض الغجر يمكن اعتبارهم يعيشون حياة ترحال جزئي أو موسمي فهم يعيشون في بيوت قريبة من المدينة خلال العام (في فصل الشتاء) بينما يعيشون في خيامهم في العراء بقية أيام السنة. أحد الأمثلة على ذلك غجر منطقة كرمان في إيران فهم يؤمنون عيشهم كحرفيين أو كباعة ووسطاء أو قارئي الطالع أو راقصين وغير ذلك من المهن الصغيرة، وبينما يمارس الرجال أو النساء هذه الأعمال فإن أطفالهم ينتشرون في الشارع للتسول ولا يذهبون إلى المدارس.
بين الغجر الذين يمكن اعتبارهم متوطنين ثابتين أي أنهم تركوا حياة الترحال الغجر القاطنين في لبنان وفلسطين وقبرص. وهؤلاء يعيشون في أكواخ أو في شقق في مناطق شعبية في المدن أو القرى. وبالطبع فإن الغجر المتوطنين لديهم فرص أكبر للتعليم والحصول على أعمال دائمة لكن العديد منهم يصعب عليهم إيجاد عمل بسبب تصنيفهم غجراً لكن السبب الأهم هو أن معظمهم أميّون ولا يملكون أي مهارات تؤهلهم للاستخدام في عمل ثابت وهم لذلك يسعون للعمل المياوم ويعرضون خدماتهم لأصحاب العمل في الزراعة أو غيرها.
في لبنان يعيش قسم من هؤلاء في مناطق بائسة مثل مخيم شاتيلا وهو مخيم يتألف من بنايات مهدمة بفعل القصف وأكواخ تم بناؤها باستخدام الأنقاض إذ لا يسمح بإدخال مواد البناء إلى المخيمات. ويقع مخيم شاتيلا في نطاق مشروع حكومي طموح لإعادة تخطيط وإعمار ضواحي بيروت والمسمى مشروع «أليسار» وهو ما قد يعني إجبار الغجر القاطنين في المخيم على مغادرته.
ويعتبر غجر قطاع غزة من الغجر المتوطنين وتشتهر نساؤهم بالرقص في الأعراس وقد أنشأن اتحاداً أو نقابة لهن بهدف منع المنافسة على الأسعار.
بسبب النظرة المعادية للغجر المنتشرة في المنطقة العربية فإنهم حيثما وجدوا يسعون لإخفاء هويتهم وتبني شخصية أو هوية بديلة فهم في لبنان مثلاً يحبون أن يعتبروا من شعوب البدو الرحل وفي إيران ينسبون أنفسهم إلى شعب الكاشكاي وفي فلسطين المحتلة يسمون أنفسهم عرباً وفي الأردن ينسبون أنفسهم إلى التركمان .
أما الغجر أنفسهم فيتميزون في صفوفهم بين مجموعات أو «عائلات» مختلفة من الدوم. فالقرباط والنور يعيشون في أماكن متجاورة في سوريا لكنهم يختلفون كثيراً في طريقة عيشهم وأعمالهم ولغتهم وثقافتهم الشعبية. القرباط مثلاً طوروا لأنفسهم مهناً وحرفاً مثل العلاجات الأولية للأسنان والأشغال المعدنية والنجارة وأعمال البناء بينما يستمر النور في التركيز على الترفيه موسيقى ورقصاً وتسولاً كما تفشت بين نسائهم بعض المهن غير الأخلاقية وهم يفتقدون أي شعور بالإنتماء إلى شيء أو مكان أو اعتقاد سياسي أو ديني. لهذا فإن قرباط سوريا يرفضون نسبتهم إلى النور ويعتبرون ذلك إهانة لهم.

خاتمة
يمكن القول إن الغجر تمتعوا في العالم العربي في ظل الممالك الإسلامية والدولة العثمانية بحرية أكبر مما نعموا بها في أي مكان في العالم، وقد اعتاد المجتمع العربي وبسبب الإسلام وتسامحه تجاه الشعوب المختلفة على الاختلاط بمختلف الأقوام التي كانت تفد إلى الحواضر العربية من كل مكان في العالم فكان مألوفاً وجود الأفارقة بسحنتهم السوداء أو السمراء ووجود الآسيويين والفرس والروم والهنود والتركمان والأرمن وغير ذلك وهذا التنوع الكبير في الحواضر العربية الكبرى التي كانت مراكز للتجارة والثقافة استفاد منه الغجر ونعموا بالمناخ المنفتح الذي كان يوفره وقد بلغ التسامح مع الغجر حداً شجعهم على إثارة القلاقل وخلق المتاعب للدولة العباسية التي اضطرت إلى إخماد تمردهم بالقوة، لكن في ما عدا تلك الفترة فإن الغجر رافقوا التاريخ العربي لكنهم عاشوا على الدوام على هامشه ولم يساهموا فيه بسبب طبيعة انتشارهم وأسلوب عيشهم وميلهم الطبيعي للإنغلاق. أما في الظروف الحالية للمنطقة فإنهم يعانون ولا شك بسبب حالة الفوضى وانهيار الأمن وهم يجدون أنفسهم في ظروف خطرة لم يعتادوا عليها منذ مئات السنين، ولا يملكون ما يعينهم على اتقاء شرورها. إنها لعنة الشتات وافتقاد حماية المكان وعصبية الجماعة والتي لا يوجد من دونه أمان في زمن اختلاف الدول وانهيار المجتمعات وسيطرة الفوضى.

بيتـــــــــي كان الطريق الفسيح
وكنت أهيم في الأمكنة
لكنهم منعوا التجوال عليّ
أشعر الآن أنني ميت

محجوز ومقموع
كأنني أعيش في حفرة
سجين أحزاني
أنشد شيئاً واحداً: الحرية

يمكنني أن أرى الأشجار
لكن لا أرى نحلاً كثيراً
لأن النحل يطير كما يحلو له
وليس مقيداً مثلي
يمكنني أن أرى المطاحن
لكن لا يمكنني أن أسير في التلال
لأنني ممنوع عن ذلك
بأمر القانون

يمكنني أن أرى الأبراج
لكن لا يمكنني أن أشمّ رائحة الأزهار
فأنا لست معتبراً
جزءاً من هذه الطبيعة

يمكنني أن أرى العشب الأخضر
لكن فقط من خلال زجاج النافذة
كم أشتهي أن أقترب منه
وأتأمل خضرته على الدوام

يمكنني أن أرى السماء
والسحاب السابح في أرجائها
أشعر بالحسد وأنا أتأمل
كيف أن كل شيء حر هناك

أرى العصافير تقطع زرقة السماء
لا تدري ربما كم هو سهل عليها
أن تذهب أو أن تعود من أي مكان
أنظر إليهم أسراباً فأخرج تنهيدة حسرة
وأتمتم بكلمات مرة

” غجر لبنان وفلسطين وقبرص توقفوا في معظمهم عن الترحال وانتقلـــوا إلى أماكن ســــكن ثابتـة  “

الغجر وفن الرقص الشرقي

يعتبر الغجر ولاسيما عشيرة الغوازي منهم المؤسسون الحقيقيون للرقص الشرقي وقد قامت نساؤهم بتطوير هذا الفن فانتشر بسببهن في المجتمعات العربية حتى أصبحت له مدارسه ليس فقط في المنطقة بل في الدول الغربية أيضاً وتكرس كأحد فنون الرقص العالمية. وكان للغجر أيضاً تأثير كبير على تطور رقص الفلامنكو الإسباني والموسيقى البوهيمية أو التسيغان في أوروبا الشرقية وخصوصاً في هنغاريا ورومانيا وبولونيا.
وكان للغجر تأثير كبير على تطور الرقص الشرقي في مصر بل إن البعض يعتبر أنهم ساهموا مساهمة كبيرة في حفظ الغناء الشعبي المصري إذ احترفوا إنشاده‏، كما برعوا في الربابة والمزمار‏,‏ ومن النادر أن تجد عازف مزمار أو راوي سيرة شعبية أو مداحاً في مصر لا يكون منهم، ‏وفي غزة أنشأت الراقصات الغجريات نقابة بهدف توحيد أسعار الخدمات التي يقدمنها ومنع المنافسة بينهن. وفي العراق كتبت الصحف في بداية التسعينات عن غزو الغجريات للمسرح القومي كممثلات بارعات وسمي أحد أحياء بغداد بحي «الطرب» بسبب وجود مجموعة من الغجر تمارس فنون الغناء والعزف والرقص وتقطن فيه.

جباع عليَّة الشوف

جبـــاع عليّة الشوف

نصفها مزارعون ونصفها موظفون
كثيرون نزحوا للعمـــــــل ولم يعودوا

برز منها فؤاد سليم وكثير من المتعلّمين
رجا البتلوني: عين البلدية على التطوير الزراعي

5 بحيرات لتجميع مياه الأمطار أحيت الزراعة
مع 350 دونماً من الأراضي الزراعية الجديدة

المدرسة الرسمية مقفلة منذ 20 عاماً
بسبب هجرة السكان ومعهم التلاميذ

يدخل الى باحة منزل جدّيه، حيث اجتمع أقاربه لاستقباله، والضحكة تعلو وجهه وتملأ عينيه، يجلس سعيداً وهو يتكلم اللغة العربية بلهجة أبناء بلدته، ولا يخفى على جلسائه أنه يبذل جهداً فيها. يحدّثهم عن مشروعه بتأهيل «القبو» خلف المنزل ليصبح مكان اقامته، أو على الأقل مقصده لتمضية الأيام التي سيقضيها في لبنان. ويحرص على ابلاغ الكل أن من يريد أن يراه يجب أن يأتي الى «جباع» لأنه لن يذهب الى أي مكان وسيستغل كل لحظة من فرصته للتمتع ببلدته الأم.
يبدو شغف رشاد، الشاب العشريني، الذي ولد ويعيش في أميركا، غريباً خصوصاً اذا قورن بتصرف أهل البلدة وغيرهم من سكان القرى الذين نزحوا الى المدينة وتركوا أرض الأجداد إلا ربما لزيارات مقتضبة، في المقابل تجد هذا الجباعي «الأميركي» المولد متعلقاً ببلدته الأم التي لا يربطه بها في الواقع الا إسمه وهويته وبعض ذكريات من زيارات صيفية متباعدة. لا بدّ أن يكون لهذه البلدة الجبلية التي تسمّى «عليّة الشوف» سحر يراه القادم من الخارج، ولا يراه بالصورة نفسها أهل الأرض الذين غادروها.
يعود أصل اسم «جباع» الى كلمة «جبع» في اللغة الآرامية، والتي تعني العليّة أو الإرتفاع. وترتفع هذه البلدة الشوفية ما بين 1200 و1300 متر عن سطح البحر وتبعد 67 كلم عن بيروت، تحدّها من الجنوب نيحا وباتر، ومن الغرب وجبليه (التي تتقاسم جباع ملكيتها مع حارة جندل) ومن الشمال مرستي، ومن الشرق سلسلة جبال لبنان الغربية. وتصل أراضي البلدة إلى حدود مشغرة شرقاً حيث كان الأهالي يزرعون القمح في التلال والمنحدرات الشرقية لجبل نيحا والمعاصر المطلة على بلدة مشغرة البقاعية.
يبلغ عدد سكان البلدة حالياً نحو ألفي نسمة، وبحسب آخر احصائيات في لوائح الشطب يوجد فيها 1100 ناخب. أما عائلات البلدة فهي بحسب التسلسل الأبجدي: اسماعيل، البتلوني، الخفاجي، الخازم، حمّاد، سعد الدين، سليم، شرف، وهلال. وهناك عائلات صغيرة قدمت من قرى أخرى واستقرت في جباع من بينها: أبوعلي وأبوكروم وملاعب وعزام وأبو هدير.
تاريخياً كانت عائلتي سعد الدين وسليم من أكبر أسر البلدة، وكانتا لذلك تتناوبان مداورة على رئاسة البلدية والمخترة، إلا أن البلدة شهدت تبدلاً ديمغرافياً تمثّل في زيادة عدد أفراد عائلات مثل البتلوني وحماد وهلال، ويشغل منصب رئيس البلدية حالياً الأستاذ رجا البتلوني ومنصب المختار الشيخ محمود قاسم سليم.
كانت جباع تتصف في الماضي بزراعة الجوز والتين والعنب والتوت. ومثلها مثل باقي القرى الجبلية، كانت تحتضن تربية دود القز، وكان هناك تجار يشترون الشرانق وينقلونها الى المتن وكفرشيما، حيث توجد معامل حل الحرير ونسجه وحياكته. وفي مرحلة لاحقة أنشئ في القرية مكتب للحرير تابع للدولة اللبنانية التي غدت تشتري الشرانق من الأهالي عوضاً عن التجّار، وكان أغلب الأهالي يعتمدون على تلك المواسم، الا أن هذه الصنعة توقفت في البلدة منذ نحو ثلاثين سنة.

هجرة ونزوح
كغيرها من القرى اللبنانية، شهدت جباع حركة نزوح مستمرة إلى المدن منذ الخمسينات، فضلاً عن حركة الهجرة إلى مختلف بقاع الأرض. ويرى رئيس البلدية المهندس رجا البتلوني أن موجات النزوح كانت نوعين: الأول كان النزوح الوظيفي، ويشمل أولئك الذين التحقوا بالمؤسسة العسكرية أو تعاقدوا مع كلية التربية، وكان عليهم الانتقال مع عائلاتهم الى حيث أشغالهم. ويشير هنا الى أن أبناء تلك الأسر أتيح لهم بالتالي الحصول على التعليم العالي أو الجامعي. أما النوع الثاني من النزوح فقد كان اقتصادياً، وقد حصل بعد الأحداث اللبنانية بعد أن زادت البطالة، ولم يعد هناك انتاج زراعي في بلدة تقوم على الزراعة، فنشأت بذلك موجة من نزوح الشباب إلى المدن أو إلى الخارج بحثاً عن لقمة العيش. ومع الأسف، فإن نسبة كبيرة من الذين تغربوا استقروا في المناطق التي يعملون فيها ولم يهتموا دوماً ببناء منازل لهم في القرية، لهذا نجد، حسب البتلوني، أن الذين يبلغون الخمسين من العمر وما فوق هم الذين يملكون منازل في جباع، أما الجيل الجديد فهم ببساطة غادروا.
يذكر أن المهاجرين من جباع توزّعوا بين مغتربلت قريبة مثل الإمارات والسعودية والكويت وأخرى بعيدة مثل أوستراليا وأميركا وكندا، وهناك جباعيون توجهوا صوب أميركا الجنوبية بين كولومبيا وفنزويلا والبرازيل، أما في أفريقيا فإن أكثريتهم تعمل في ليبيريا. وهناك عدد أقل من أبناء البلدة اتجهوا إلى بلدان أوروربية مثل فرنسا وسويسرا والسويد وألمانيا أو حتى روسيا.

رجا-البتلوني---اهتمام-بالزراعة-وموارد-المياه-في-جباع
رجا-البتلوني—اهتمام-بالزراعة-وموارد-المياه-في-جباع

تغيّرت الايام
كل شيء تغيّر عن الماضي وليس فقط موارد الرزق. ويروي الشيخ أبو حاتم أمين سليم، إبن الثلاثة وثمانين عاماً، كيف كانت الحياة في أيام صغره، وكيف كانت الإلفة تغمر أبناء بلدته: «كانت حياتنا كلها تعب، ولكن كنّا سعداء، وكنّا أكثر ما نفرح على العيد حيث كانت كل القرية، بكل عيالها، تجتمع على العين، ثم يجول الأهالي على المنازل منزلاً منزلاً يعيّدون بعضهم بعضاً، ونحن الأولاد نتبعهم». ويشرح كيف كانوا يصنعون من علب الكبريت نسخة بدائية من تلك المفرقعات التي نجدها اليوم في عصرنا.
كان الناس يسهرون باستمرار عند بعضهم بعضاً، أما الزفاف فكان يستمر ثلاثة أو أربعة أيام ويدعون إليه أبناء القرى المجاورة (نيحا ومرستي)، وعند جلب العروس كانوا يعزفون على المجوز ويهزجون ويعقدون حلقات الدبكة.

زمن الحرب
شهد الشيخ أبو حاتم حقبة الإحتلال الفرنسي، وكان وقتها دون العشر سنوات. ويلفت الى أن جباع نالها من الحرب التي نشبت بين الفرنسيين والانكليز في لبنان، اذ كان الانكليز في جباع والفرنسيون في بعذران، حيث أخذوا يضربون المدافع على البلدة. كان الانكليز يمكثون في وسط البلدة، على العين، وظلوا فيها أقل من سنة.

كثيرون سافروا
أما الدخول الى العسكرية فسبق زمن الشيخ أبو حاتم، وكان العسكري يغيب نحو الشهر، وعندما يأتي من خدمته كانت كل القرية تزوره ويقيمون السهرات. وعلى زمن الفرنسيين كان هناك عسكر من جباع في الجيش الفرنسي، فضلاً عن ذلك سافر كثر من جباع. ولا يذكر الشيخ متى بدأت الهجرة الى الخارج ولكنه يذكر أنه كان صغيراً عندما كان هناك مسافرون يأتون من أميركا.
في الماضي لم تكن هناك لا طرقات ولا سيارات، وكان الأولاد بعمر الشيخ أبو حاتم يطلّون على حافة الوادي، اذا مرت سيارة يتفرّجون عليها. وبعد الـ 1958 قامت مصلحة التعمير بإعمار القرى وفتح الطرقات وصولاً الى جباع، ومن جون الى مرستي.
وقبل وصول البوسطة الى جباع، كانت هناك بوسطة تأتي من باتر وتمرّ في جبليه حيث كان أهالي جباع يلاقونها مشياً على الأقدام، وفي أوائل الستينات أتت أول بوسطة الى جباع وكانت تنقل الناس الى بيروت.
في البدء لا يتذكر الشيخ أبو حاتم أول مشوار له الى بيروت، لافتاً الى أنهم كانوا يقصدونها لشراء الحاجيات. ومن ثم يضحك ويتذكر أن أول مشوار نزل فيه الى المدينة كان ولداً بعمر الـ 10 أو 11 عاماً، ونزل بغير علم أهله برفقة شاب يعمل في العاصمة وأقنعه بمرافقته بهدف العمل. وهكذا حصل، نزلا مشياً على الأقدام حتى عينبال حيث استقلا البوسطة الى بيروت، ومن ثم تعلو ضحكته وهو يشرح كيف ناما على الرمل في تلك الليلة، فذلك الشاب، صديقه، كان يعمل في مطعم ولديه أخت في بيروت، وكان المفترض أن يبيتا ليلتهما عندها. إلا أنه وبينما كانا يتمشيان ليلاً على الشاطىء التقيا بأحدهم نائماً على الرمل، ودعاهما الى النوم الى جانبه ففعلا. وفي اليوم الثاني توجها الى بوسطة الباروك للعودة، ولم يكن مع كل منهما سوى ليرة واحدة، ولأنهما ولدان سُمح لهما بركوب البوسطة. وعندما وصلا الى الباروك، التي تبعد بطبيعة الحال عن بلدتهما جباع، لم يكن لديهما مكان ينامان فيه، فناما على أحد سطوح المنازل، وفي اليوم التالي عملا في إحدى الورش وبقيا طوال النهار يعملان بلا أكل، وفي نهاية النهار التقيا بشخص يعرفانه فدعاهما للمبيت في منزله، ثم أمّن لهما عملاً ليومين أو ثلاثة في إحدى الورش، ومن ثم قبضا أجرتيهما وعادا أدراجهما الى القرية. ويشرح الشيخ أبو حاتم وهو يضحك من كل قلبه كيف لم يجرؤ على العودة الى منزل أهله الذين انشغل بالهم عليه، أما صديقه فكانت والدته تعرف أنه نزل الى بيروت للعمل، وعندما رأوا صديقه سألوه عنه وذهب أخوه لاصطحابه، وأخذ نصيبه من التأنيب. «الحشرية خلتني انزل على بيروت، بدي اشتغل».
يذكر الشيخ أبو حاتم أنه مع ذلك كان منذ صغره يحب العلم كثيراً، فكان يأخذ البقرات ويربطها في حقل يقع إلى جانب المدرسة ويذهب إلى الصف. لكن وبسبب ظروف العيش فإنه لم يستطع أن يتابع ذلك الطريق واتجه إلى العمل في سن مبكرة . لذلك كانت أمنيته أن يوفر التعليم لأولاده وقد نجح بتعليم ابنه حاتم الذي تدرج حتى حصل على درجة الدكتواه في علوم الكمبيوتر وهو يعمل حالياً في الولايات المتحدة.

أبو-حاتم-أمين-سليم-شاهد-على-تبدل-الأزمنة
أبو-حاتم-أمين-سليم-شاهد-على-تبدل-الأزمنة

العمل البلدي
تأسست البلدية في جباع في خمسينات القرن الماضي لكنها تأثرت كثيراً بسفر الأعضاء في فترة شهدت هجرة نشطة إلى البلدان العربية. وكان آخر رئيس بلدية في تلك الفترة الشيخ جميل سعد الدين الذي سافر إلى ليبيا في تلك الفترة ما أدى، مع سفر غيره من أعضاء المجلس، إلى توقف عمل البلدية وبالتالي إلى حلّها. وبقي الوضع على هذه الحال حتى حصول الانتخابات البلدية سنة 1998، فأصبح هناك مجلس بلدي من تسعة أعضاء. وعلى خلاف البلديات بشكل عام، يعتبر رئيس البلدية المهندس رجا البتلوني أن بلدية جباع متضامنة في ما بينها كما أن روابط المودة في القرية فلا أحد يشتكي على أحد. ويشير الى أن الأعضاء يُنتخبون بأصوات 70 أو 80 في المئة من الأهالي، وأنه يشغل منصب الرئيس منذ 2004، والفريق نفسه تقريباً ينتخب كل دورة.
يبدأ البتلوني تعريف بلدته، التي تبدو عزيزة عليه، بأنها قرية ريفية زراعية، اذ أن القسم الأكبر من أبنائها الكبار في السن يهتمون بالزراعة، وهناك قسم آخر كبير من أبنائها في السلك العسكري من جيش وقوى أمن داخلي، بالاضافة الى الأساتذة في ملاك وزارة التربية. ويعتبر وضع التعليم في البلدة، نسبة الى عدد السكان، ممتازاً جداً، فهناك أكثر من عشرة أطباء وما لا يقل عن 15 مهندساً، هذا فضلاً عن حملة شهادات الدكتوراه والدراسات العليا، وهم كثر وفي شتى الاختصاصات.
ورغم تراجع الزراعة في البلدة الا أن أغلب الأهالي يملكون أراضي زراعية، ولا يزال هناك بعض المهتمين بهذا القطاع من المتواجدين في البلدة. أما المزروعات فتتنوع بين التفاح والإجاص والدراق والمشمش والعنب والتين والبندورة والخيار حسب مواسمها، وتعدّ هذه المزروعات للبيع وليس فقط للإستخدام المحلي.

منتزه-العين
منتزه-العين
طبيعة-عذراء--في-مأمن-حتى-الآن-من-المد-السكني
طبيعة-عذراء–في-مأمن-حتى-الآن-من-المد-السكني

 

 

 

 

 

 

 

نظام للصرف الصحي
وفي ما يخص النواحي الخدماتية، يلفت الى أن التمديدات الصحية تطال نحو 70 في المئة من منازل البلدة، وهناك مشروع لاستكمال شبكات الصرف الصحي خلال السنتين المقبلتين، هذا فضلاً عن وجود محطة لتكرير الصرف الصحي تمّ تدشينها سنة 2006 وهي في قيد العمل. وعندما تسأل البتلوني عن درجة التكرير وكيفية استخدام المياه المكرّرة، يشير الى أنها من الدرجة الثالثة حيث تصبح المياه نظيفة وخالية من أي بكتيريا وصالحة بالتالي لأغراض الري.
وتجدر الاشارة هنا الى أن البتلوني على تماس مباشر مع فريق عمل محمية أرز الشوف ومواكب للأمور البيئية التي يبدي حرصاً واهتماماً خاصاً بها. وفي هذا الصدد، يشير الى أن هناك محاولات لتصنيع المنتوجات الزراعية؛ ومن خلال محمية أرز الشوف أقامت البلدية مشروع مشغل انتاج زراعي منذ نحو سبع سنوات لتشغيل سيدات البلدة، الا أن هذا المشغل ضعيف، وفقدت السيدات الحماس للعمل بسبب عدم تصريف الانتاج. ويتوقف البتلوني عند غياب الوعي البيئي والوعي بالمعايير التي تفرضها الجهات الاجنبية في الانتاج الزراعي لتشتري المنتجات. ويلفت الى أن بعض السيدات لم يلتزمن بالمعايير المطلوبة مما ساهم في كساد الانتاج، ويعتبر أن ذلك شيء طبيعي، وأن هذه المسائل تحتاج الى الوقت.
على خلاف بلدة نيحا المحاذية، لا يوجد في جباع رأسماليون، ويعتبر البتلوني أن أبناء البلدة يعدّون من ذوي الدخل القليل ولكن هناك إكتفاء.

بحيرة-تجميع-مياه-الأمطار-في-جباع
بحيرة-تجميع-مياه-الأمطار-في-جباع

أعلام من جباع

خرجت من بلدة جباع في تاريخها القريب مجموعة من الرجالات والأعلام على رأسهم المناضل فؤاد بيك سليم الذي كان قائداً للجيش في الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش ضد المحتل الفرنسي سنة 1925. وكان شقيقاً فؤاد بك، نصري وعارف، ضابطين في الجيش الأردني، وهناك نالوا لقب البكوية.
ومن الأعلام الدكتور أسعد بك سليم الذي كان طبيب صحة عامة، حصل على شهادة الدكتوراه من الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1910 وكان يسكن في برج البراجنة. ويعتقد الشيخ أبو حاتم أنه في ذلك الوقت لم يكن هناك طبيب غيره في كل الشوف. وكان جد أسعد بك ويدعى حسن، صغيراً دون العشر سنوات عندما التقى بأشخاص على العين يجمعون الميري واخطأوا في الحسابات ولم يفلحوا في تصحيحها، فقال لهم إنه حلّ العقدة الحسابية، وعندما شرح لهم المسألة وجدوا أنه محق. كان والده متوفياً وعمه معهم في اللجنة، فسأل المسؤول عن اللجنة اذا كان بإمكانه تعليم الفتى على حسابه الخاص وهكذا حصل، ومن بعده غدا كل أولاده متعلمين.

عيون ماء ومغاور طبيعية
توجد في جباع عينا مياه، واحدة وسط البلدة أمام مبنى البلدية، وهذه تمّ اكتشافها قديماً وبنيت على أيام ما كان الشيخ أبو حاتم بعمر الخمس أو ست سنوات، وهي معلم أثري اذ أنها ضمن مغارة، وبحسب البتلوني هي ليست بمستوى المغارات المعروفة في لبنان الا أنها جميلة، وقد تمّ العمل على تصوينها ببوابة حديدية حيث يمنع على أحد دخولها دون إذن من البلدية. وتم تزويد العين بالانارة لكنها ليست مؤهلة لاستقبال الزوار، اذ ينبغي العمل على تأهيلها. وتوجد في جباع أيضاً مغارتان في أسفل البلدة إحداهما تدعى مغارة «الحواكير» والثانية «معبور الوادي» أو «قلعة زادي». وهناك عين مياه ثانية هي عين الشعشوع أقيمت في محيطهاإستراحة تحمل اسمها وتستقبل الناس من مختلف المناطق.
ومن المعالم الطبيعية في جباع نبع له قيمة خاصة بالنسبة للبلدة يطلق عليه اسم نبع «جعيتي» أو «جعيتا» وهذا النبع يؤمن أهالي البلدة بأنه يقوم على سرّ رباني وليس نبع ماء عادياً، فهو ينبع من تحت صخرة ضخمة وتتدفق مياهه البيضاء النقية في الربيع من كل سنة لتتوقف في أول الصيف. وبسبب هذا التكريم القديم للنبع فإن كثيراً من الأهالي يحبون زيارته وأخذ مياه منه للتبرك. هذا بالاضافة الى نبع الغابة الذي يستخدمه المزارعون في ري مزروعاتهم، وهو بحسب الشيخ أبو حاتم، مازال نظيفاً ولم يلوّث، رغم أنه يخرج من تراب الشحّار الأحمر. وهذه الينابيع الثلاثة توزّع مياهها وفق نظام مشاركة محدد بين المزارعين بحيث يستفيد كل مزارع، وحسب قطعة الأرض التي يملكها، من ساعات ري معينة.

المدرسة نزحت مع من نزح
وتوجد في البلدة أيضاً مدرسة رسمية مقفلة منذ نحو عشرين عاماً، ويشير البتلوني الى أنه ليست هناك امكانية لفتح المدرسة اذ أن القانون يفرض وجود عدد محدّد من الطلاب حتى يعاد افتتاحها، وذلك غير متوفر، اذ أن معظم أهالي البلدة موجودون في المدن وموزعون بين بيروت وبقعاتا والشويفات. ويلفت الى أنه ضمن اعتبارات البلدية اعادة تأهيل مبنى المدرسة، ولكن ليس هناك أي مشروع حاضر حالياً في هذا الصدد.
تحتوي جباع أيضاً مستوصفاً صحياً، داراً للبلدة، نادياً رياضياً،

بيوت جباع ومحالها: أبيض وأزرق

أزرق-وأبيض
أزرق-وأبيض
أزرق وأبيض 2
أزرق وأبيض 2

إنفردت بلدة جباع بتجربة هي الأولى من نوعها في مجال التجميل العمراني، إذ اشرفت البلدية وبالتعاون مع الأهالي على توحيد ألوان البيوت والمحال التجارية على طول الشارع العام الممتد من أول خراج القرية من جهة بلدة نيحا وحتى نهاية الطريق من ناحية بلدة مرستي. وقد تمّ طلاء البيوت والمحال باللون الأبيض بينما طليت النوافذ وأبواب المحلات ومداخل البيوت باللون الأزرق، كما تمّ بناء الأحواض وزراعتها باللافندر والروزماري.
وكان رئيس بلدية جباع شاهد في تونس وفي الجزائر قرى سياحية جميلة وقد تمّ طلاء بيوتها بالأبيض والأزرق وزيّنت نوافذها بأحواض الزهور، فأعجبته الفكرة وقرر محاولة تجربتها في جباع. وبالفعل أضفى استخدام اللونين الأبيض والأزرق في تجميل ساحات القرية لمسة جمالية لا تخفى عن الأنظار. ويشير البتلوني الى أنه تمّ تنفيذ المشروع منذ نحو خمس سنوات بتمويل من الصندوق البلدي الذي يموّل مشاريع انمائية، وتكفلت البلدية بالمبلغ الاضافي. ويلفت الى أن عدداً من البلديات استحسنت الفكرة ولكن مشروعاً من هذا النوع يحتاج الى الأموال، كما أنه لا يمكن تنفيذه بقرار منفرد من البلدية، إذ يحتاج ذلك إلى تعاون أهل البلدة والذين قد لا يرغب بعضهم في تغيير طلاء منازلهم، علما أن هناك صعوبة أخرى تنجم أحياناً عن كون الكثير من البيوت الجبلية من الحجر الصخري الذي لا يستحسن طلاؤه، وعندها فإن التركيز يمكن أن يحصل على النوافذ والأبواب وغيرها من المعالم الخارجية.
تجربة جباع الجمالية قد تصلح لأماكن عديدة وقد يمكن تطويرها، والمهم أن يتم الاطلاع عليها من بلديات المنطقة وبلديات الجبل بصورة عامة.
رغم تواضع الأزرق والأبيض في جباع فإن مجرد المحاولة دلّت على وجود حسّ اجتماعي ومدني متطور لدى الأهالي، ومن المؤكد أن الفكرة يمكن تنفيذها في كثير من القرى الجبلية، مع تكييفها وفق تركيبة كل قرية وطبيعة ساحاتها.

بقعاتا

من ربع ليرة الى 800 دولار للمتر المربع من الأرض

بقعاتا.الجدَيْدِة

مركــــــز الشــــوف التجــــاري والسكنــــي.
سلــة مشاكــل ومدينــة مكتومــة القيــد

بقعاتا الشوف أو بقعاتا الجدَيْدِة في تعريفها الرسمي نموذج فريد على الطريقة التي بدلت فيها حضارة الاستهلاك وجه الجبل وبالتحديد منطقة الشوف، لم تولد بقعاتا نتيجة قرار أو مشروع أو مخطط عمراني محدّد، ولم تنشَأْ حول صناعات معينة أو جامعات أو حرف إنتاجية أو قطاعات خدمات استوجبت خلق مدينة بالحجم الذي باتت عليه؛ بل أن المدينة التي بات يسكنها الآن نحو 20,000 نسمة نشأت وتطورت مثل استنساخ صيغة الدكّان كبيراً كان أم صغيراً وفكرة السوق أو البازار، وذلك قبل أن يتم استكمالها مثل أي تكوين حضري بالمؤسسات الخدماتية المختلفة من مؤسسات صحية أو تعليمية أو صناعية.
نمت بقعاتا بالدرجة الأولى في موازاة التحوّلات الكبرى التي شهدها المجتمع اللبناني ومجتمع الجبل بصورة خاصة خلال العقود الخمسة الماضية، وهي تحوّلات انعكست في مناطق عديدة من لبنان بنمو مدن تجارية لم تكن في السابق ربما موجودة أو كانت مجرد مواقع منسية على طرق المواصلات، لكن حاجة الناس إلى أسواق قريبة بعثتها من رقادها وحوّلتها إلى حواضر كبيرة مزدحمة بالسكان وحركة الأعمال. وقد ساهمت تطورات، مثل اتساع قطاع الوظائف الحكومية والخاصة وحركة التعليم وموجات الهجرة إلى الخليج وأفريقيا وغيرها من المغتربات، في نمو تلك الحواضر في أكثر من منطقة في لبنان غالباً على حساب القرى المجاورة وسكانها.
وجاء قيام أسواق تجارية في المناطق أيضاً نتيجة التنميط المتزايد لقطاع الاستهلاك والتوجّه التدريجي لنوع من «اللامركزية التجارية» في الكثير من السلع الأساسية غير المتخصصة، والتي بات المستهلكون يفضلون الحصول عليها من أسواق قريبة بدلاً من تحمّل عناء وتكلفة الحصول عليها من بيروت أو غيرها من المدن الساحلية.
لا يختلف النمو الانفجاري لمدينة بقعاتا عن ظاهرة نمو الضواحي الجديدة في لبنان في أكثر من منطقة، وذلك باعتباره تلبية لحاجات طرأت واستجدت، ووجد مع الوقت من التجار وأصحاب الأعمال من هبّ لمحاولة تلبيتها وبناء تجارة عليها. لكن كما في العديد من الضواحي المماثلة، فإن النمو العفوي للمدينة الجديدة غالباً ما يتم من دون مراعاة لمخططات حضرية وغالباً ما يترافق بمشكلات عديدة تخطيطية وبلدية واقتصادية واجتماعية بحيث سرعان ما يظهر الوجه الآخر للتطور السريع قسطاً أكبر من المشاكل والمعاناة للسكان.
ما هي قصة بقعاتا؟ كيف تطورت -في نحو خمسين عاماً- من حقول زرع وبرية إلى إحدى أكبر مدن جبل لبنان؟

هنا محاولة للتعريف بالظاهرة وتفهمها وتقديمها في ضوء جديد لقرّاء «الضحى».

لم يكن الشيخ أبو زياد يوسف محاسن يتصور أن تلك البقعة الهادئة التي انتقل للسكن فيها سنة 1961 عندما كانت «برّية» ليس فيها سوى بعض المنازل، ستتحول الى أكبر مركز تجاري وسكني في منطقة الشوف، وأن تزدحم لدرجة أن يصعّب العيش فيها. الشيخ أبو زياد الذي كان من أوائل الناس الذين سكنوا في بقعاتا، ومن الذين سجّلوا نفوسهم فيها، يشرح كيف بدأت بقعاتا سنة 1958، حيث أنشأت الدولة في ما يُعرف حالياً بالسوق، غرفاً للمهندسين ومستودعاً للترابة والحديد يوزع على القرى الشوفية التي تدمرت منازلها إثر زلزال سنة 1956. وفي السنة نفسها فتحت المياه لبقعاتا من الأقنية التي كانت تمر عبرها الى المزرعة، وأوصلوا إليها الكهرباء، مما فتح عيون الناس على البناء فيها. الأراضي في ذلك الحين كانت ملكاً لأبناء بلدة الجديدة، وأخذ الناس يشترون منهم. وابتدأ متر الأرض بربع ليرة، وكان الشيخ أبو حسيب علي منصور حيدر يبيع الأراضي «شلفة» ويقسّط المبلغ 10 ليرات و25 ليرة، وهكذا تملّك الناس في بقعاتا.
ويروي الشيخ أبو زياد أن الشيخ أبو حسن نعيم الفطايري كان أول القادمين الى بقعاتا سنة 1959 حيث أخذ مستودع الحديد والترابة الذي افتتحته الدولة، وكان هو من أوائل الذين سكنوا في بقعاتا صيفاً شتاء. كان الشيخ أبو حسن يملك محلاً تجارياً ويبيع بأسعار زهيدة جداً، وكانت بقعاتا الطريق المؤدية الى كل المنطقة وكل الناس يمرون فيها، فأصبح الناس يترددون الى محله الذي شهد اقبالاً كثيفاً، وأصبحت بقعاتا تتوسع رويداً رويداً الى أن حصلت أحداث 1975، وشكّلت مقصداً لأهالي المتن وعاليه الذين وجدوا فيها منطقة أكثر أمناً من مناطقهم.
موقع بقعاتا الاستراتيجي، كان ولا يزال يميّزها عن باقي القرى، فهي تشكّل محور الشوف ونقطة وسط، وكانت معظم البواسط التي تتنقل بين بيروت والقرى الشوفية تمرّ فيها، وكان الناس ينتظرون تلك البواسط على الطريق العام التي كانت الوحيدة المشقوقة، فيما كانت باقي الطرقات طرقات رِجل. ولكن الفارق عن الماضي أنه لم يكن كل شيء متوفراً في بقعاتا كما هي الحال اليوم، وكانت دير القمر هي المقصد المفضّل لشراء الحوائج من جهاز العروس والأثاث وغيرها، بينما كانت بعقلين تلعب دوراً أقل أهمية كسوق لعدد من القرى القريبة والمجاورة.
سكانيا،ً بدأت بقعاتا بعدد من العائلات كان صغيراً، ومن الذين بنوا منازل في نطاقها وسجلوا نفوسهم فيها عائلات الفطايري وحيدر ومحاسن وحرب ونصرالله والغضبان وفياض وسليم وخضير وغيث والغصيني.

مدينة مكتومة القيد
شهدت بقعاتا في نحو خمسة عقود نمواً غير مسبوق جعل منها إحدى أسرع المدن نمواً في لبنان. وقد أدى نمو المدينة إلى «استهلاك» معظم مساحة الجديدة، مثلاً إذ باتت مساحة بقعاتا نحو مليوني متر مربع من أصل مليونين وثمانمائة وخمسين ألف متر مربع هي المساحة الإجمالية لبلدة جديدة الشوف. ويعيش في بقعاتا نحو 20 ألف نسمة وهو ما يوازي عشرين ضعف أبناء بلدة الجديدة. لكن على الرغم من تطورها الهائل كمدينة تجارية لها كيانها وخصوصياتها وحاجاتها، فإن بقعاتا ما زالت تعدّ من الناحية القانونية حياً من أحياء الجديدة.
يستمر ذلك رغم صدور قانون في 31 أيار سنة 1966 قضى بفصلها عن الجديدة، إلا أنه صدر بعد ذلك قانون آخر في 13 أيار 1993 قضى بإلغاء القانون السابق وباعتبار بقعاتا حياً من أحياء الجديدة لعدم توافر الشروط اللازمة فيها لإنشاء بلدية واعتبارها بالتالي بلدة مستقلة. لكن الحقيقة خلف هذا الجدل القانوني هي أن بقعاتا ما زالت ضحية خلافات متأصلة بين العائلات الرئيسية لبلدة الجديدة، وقد أبقتها تلك الخلافات مكتومة القيد الرسمي، ولم يشفع لها النمو الهائل في عدد سكانها الذين أتوا إليها «من كل فج عميق» ولا العدد المتزايد من المؤسسات والأعمال التي تعمل في إطارها، ومعظم السكان والعاملين والتجّار فيها يشعرون بنوع من اليتم البلدي لأنهم على ضخامة التحديات والمشاكل يشعرون بالإهمال وبتجاهل مصالحهم كمواطنين، كل ذلك بسبب غياب المرجعية الواضحة وقدرة السكان على التأثير في الطريقة التي تساس بها الأمور الحيوية للبلدة.

من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف
من-دكاكين-صغيرة-قبل-نصف-قرن-إلى-أكبر-مدن-الشوف

 

فورة عقارية

نتيجة للتهافت على العقارات ذات الاستخدام التجاري شهدت أسعار العقارات قفزات متتالية وصلت بسعر الأرض إلى نحو 800 دولار للمتر المربع في العقارات المحاذية للطرق العامة الرئيسية، علماً أنه في المجمل لا يقل السعر عن 160 دولاراً للمتر المربع.
وبالنسبة للشقق والتي تبدأ مساحتها عادة من 150 متراً مربعاً، فأسعارها تتراوح ما بين 100 و150 ألف دولار.
أما في ما يخص الايجارات فيتراوح ايجار الشقق السكنية ما بين 250 و400 دولار والمكاتب ما بين 250 و350 دولاراً، أما المحال التجارية فيرتفع ايجارها في بعض المواقع الحساسة الى ما بين 600 و900 دولار لـ “الباب” الواحد.

نزاعات عائلية
يلقي رئيس بلدية الجديدة السيد بهيج الفطايري ضوءاً إضافياً على خلفيات النزاع البلدي حول بقعاتا فيقول إنه عندما استحدثت البلديات في الشوف وأصبحت هناك بلدية في الجديدة، حدث اشكال أثناء الانتخابات البلدية جعل كل أعضاء البلدية يأتون من آل الفطايري، وهو ما أثار حفيظة العائلات الأخرى في الجديدة فتقدم بعض الأشخاص من آل نصر الله وهم (حسين نصرالله، سعيد نصرالله، ونبيه نصرالله) بطلب فصل بقعاتا عن الجديدة وكانوا هم من أوائل السكان الذين تسجلوا في بقعاتا، إضافة الى علي منصور حيدر وأبو حسن نعيم الفطايري. وبالنظر إلى الشعبية التي كانت لبعض تلك الشخصيات وما كانت تتمتع به من نفوذ سياسي فقد صدر قانون يقضي بفصل بقعاتا عن الجديدة واضافتها الى عداد قرى الشوف، لكن القانون اشترط أن تتوافر في البلدة شروط حد أدنى مثل أن يكون فيها خراج و300 شخص مسجلين في نفوسها في القيود الرسمية، وقد فُتح لبلدة بقعاتا بالفعل سجل خاص بها في دائرة الأحوال الشخصية. لكن القانون بقيّ معلقاً من سنة 1964 حتى 1992، حيث قُدّم طلب بإلغاء قانون الفصل لعدم تحقق الشروط إذ أن الذين سجلوا نفوسهم في البلدة لم يتجاوز عددهم الـ 180 نسمة. وعليه فشلت بقعاتا في تعبئة المزيد من السكان المسجلين، وأخفقت بالتالي في الفوز بفرصة الاستقلال وتأكيد حضورها الرسمي كقرية إلى جانب بقية القرى اللبنانية. وتسير هذه الظاهرة إلى مفارقة غريبة مفادها أن الغالبية من سكان بقعاتا ما زالوا متعلقين بالقرى التي جاؤوا منها ولا يعتبرونها نفسياً بلدتهم، وهم على استعداد للعيش فيها لكنهم لن يتخلوا عن انتمائهم للقرية التي جاؤوا منها، أي أن الانتماء إلى بقعاتا ما زال في نظر الغالبية الساحقة انتماءً «مدنياً» لا سياسياً مثل الانتماء إلى مدينة بيروت التي يسكنها الآلاف من أبناء الجبل، لكن قلما يفكّر أحدهم بنقل نفوسه إليها، وبالتالي شطب إسمه وإسم أسرته من سجلات القرية وعائلاتها.

مشكلة انتماء .. وخدمات
وبالطبع، فإن العديد من السكان الذين نقلوا نفوسهم إلى بقعاتا يعتبرون استمرار إلحاقها بالجديدة وضعاً غير طبيعي، إذ كيف يتم إلحاق مدينة يقارب عدد سكانها الـ 20 ألفاً بقرية صغيرة لا يزيد عدد سكانها على ألف نسمة؟ وهل يمكن في هذه الحال لبلدة بقعاتا أن تجد الاهتمام الكافي من مجلس بلدي يعلم جيداً أن سكانها لا يشاركون في الانتخابات البلدية ولا يمكنهم بالتالي أن يحاسبوا المجلس البلدي على أي تقصير مفترض في خدمتهم. وبغض النظر عن مستوى الخدمات التي يقدمها لبقعاتا، لا يؤثر سكانها على حجمهم في نتائج الانتخابات البلدية.
رئيس بلدية الجديدة بهيج الفطايري يختلف مع هذا الرأي ويجيب بلهجة حازمة عندما تسأله عن بقعاتا: «ما في شي إسمو بقعاتا» فهي مجرد «حي من أحياء جديدة الشوف، ويمكنك أن تقول أكبر حي من أحيائها». ويستعجل نفي الظن الشائع بأن بلدية الجديدة تحصّل مداخيل كبيرة من بقعاتا دون أن يقابل ذلك تقديم خدمات كافية. يقول: «بقعاتا لا تجلب أية مداخيل لأنها ليست في عداد القرى، ولكن مع وصول المساحة الى بقعاتا أصبحت البلدية تحصّل بعض الرسوم». لكن أحد المستثمرين النشطين في بقعاتا يؤكد أن بلدية الجديدة تحصل على مداخيل كبيرة من رخص البناء والاستثمارات، لافتاً الى أن «كل ما يتعلق ببقعاتا تُدفع عنه رسوم، ورسومها أعلى من غيرها». وينتقد البلدية التي «لا تقوم بدورها البلدي اذ لا تقوم بأية تحسينات على الطرقات التي يمكن وصفها بالسيئة، هذا عدا مشكلة المجاري والصرف الصحي التي تتفاقم أكثر فأكثر مع ازدياد العمران»، ويقول «لو كانت البلدية حاضرة بقوة لكانت فرضت معالجة مشكلة الجور الصحية بالقوة أو أمنت بديلاً». على ذلك يردّ رئيس البلدية بالقول إن هذه المسائل بسيطة، ويربط حلّها بسكان بقعاتا ومدى تجاوبهم مع توصيل شبكات صرفهم الصحي بالشبكة الرئيسية التي أصبحت جاهزة، لافتاً الى أن هذه المسألة أصبحت منتهية تقريباً: «خلقنا أمراً واقعاً، أوصلنا شبكات الصرف الصحي، ومحطات التكرير في الجديدة أصبحت جاهزة». ويشير الى أن الزفت للطرقات جاهز، ولكن وزارة الاشغال العامة والنقل لن تقبل بتعبيد الطرقات الا بعد انتهاء توصيل شبكة الصرف الصحي.

مركز-البلدية
مركز-البلدية

نقطة وسط لأبناء القرى البعيدة

شهدت بقعاتا وتشهد حركة نزوح كثيفة من القرى الشوفية ومن أقضية حاصبيا وراشيا والمتن وعاليه، اذ باتت تشكّل نقطة مركزية خدماتية تسهّل حياتهم. وفي هذا الصدد، تشرح نادين زيدان، مهندسة معمارية تخرجت من الجامعة اللبنانية في دير القمر، الأسباب التي دفعت والدها الى شراء شقة في بقعاتا والانتقال للعيش فيها منذ أربع سنوات. تقول زيدان: «إن باص الجامعة لم يكن يصل الى بلدتها مرستي اذ أن آخر محطة له كانت نيحا، وكان عليها ملاقاته يومياً الى نيحا، فبدأت عملية البحث عن مكان أقرب الى الجامعة». وتتابع: «غرّتنا المدينة، وصارت بقعاتا اقامتنا الدائمة، وحتى عندما نزور قريتنا صيفاً نشعر أننا نريد العودة الى بقعاتا فهي قريبة من كل شيء وتوفّر الكثير الذي نحتاجه». تقول مازحة: «أتعلّم الموسيقى حالياً في مركز في بقعاتا، وقد كان ذلك غير ممكن طبعاً في مرستي». وتلفت زيدان الى أن الكثير من أبناء قريتها نزحوا الى بقعاتا وهم مع بداية شهر أيلول من كل سنة يبدأون بتوضيب أغراضهم للانتقال إليها..وهناك آخرون اختاروا الانتقال الى بقعاتا منهم صاحب البناية التي يسكنون فيها وهو من آل كوكاش من العزونية.
ريبال أبو سعيد انتقل أيضاً للعيش في بقعاتا بحثاً عن المكان الأقرب الى جامعته، فابن العشرين ربيعاً ترك بلدته شويت وقصد بقعاتا لأن كل شيء فيها متوفر مما يسهّل حياته كطالب جامعي، على عكس بلدته. أبو سعيد طالب هندسة مدنية في جامعة CNAM في بعقلين، واختارها لأنها أرخص من الجامعات في بيروت، وهو يعيش في شقة مع ثلاثة شبان من بعلشميه وقبيع وكفرقوق قصدوا بقعاتا للأسباب نفسها.

يفيد الفطايري أن البلدية بدأت العمل فعلياً سنة 1998، معتبراً أن المشكلة الجوهرية في بقعاتا هي أن فيها الكثير من البناء العشوائي والمخالفات، وهناك مخالفات بناء على المجاري. وعند سؤاله عن صلاحيات البلدية في قمع هذه المخالفات يجيب: «المشاكل التي على مستوى الدولة لسنا قادرين عليها، لدينا شرطيان بلديان فقط وليس بإمكانهما ملاحقة كل الأمور»، مع أن الشرطي البلدي مثل رجل الأمن وله صلاحية. ويضيف القول: «حدودنا الملكيات الخاصة، والناس لا تتجاوب مع البلدية ولا يدفعون الضرائب برضاهم، فلا أحد تعني له البلدة أو يشعر بالانتماء اليها، وفي المطلق سكان بقعاتا لا يتفاعلون».

«مزراب ذهب» أم أوهام
أحد أسباب النجاح الكبير لبلدة بقعاتا هو الشهرة التي اكتسبتها في السنين الأخيرة باعتبارها منطقة استثمار واعدة وأنها أشبه بـ «مزراب ذهب» لكل من يملك فيها عقاراً أو تجارة. وساعدت هذه الصورة بالطبع على زيادة الطلب على عقارات بقعاتا والسمقانية خصوصاً المحاذية للطرق الرئيسية،كما أن استمرار النزوح الكبير إلى بقعاتا من مختلف مناطق الجبل وبعض المناطق الأخرى ساعد في استمرار الطلب على العقار على وتائر مرتفعة، وأدى بالتالي إلى ارتفاعات متتالية في الأسعار.
لكن الصورة الحقيقية قد تكون مغايرة لما هو شائع، إذ أن القطاع التجاري في بقعاتا بدأ يشهد حالة من التشبّع أو الفائض في عرض المحلات، كما أن التكاثر الهائل للمحلات أدى إلى تخمة في الكثير من القطاعات وإلى منافسة، وظهر ذلك في النسبة المتزايدة للمحلات التي تفتح وتدفع مبالغ طائلة على الديكور قبل أن تقفل أبوابها. عن هذه الظاهرة يقول الفطايري إن الناس تُغّش ببعض الأمور، ولأن بقعاتا مزدهرة تجارياً يلجأون للاستثمار فيها، فالذي يسمع عن بقعاتا من بعيد يعتقد أن الاستثمار فيها سيرفعه الى فوق الريح من دون أن يأخذ قدرتها الاستيعابية في الاعتبار، ويسأل: «هل يعقل أن يكون في سوق بقعاتا 20 فرن مناقيش مثلاً، وقس على ذلك ما يحصل في بقية القطاعات»؟.

مخططات .. من دون تنفيذ
إحدى المشكلات التي تواجهها بقعاتا هي موجات البناء العشوائي التي سعت لاستغلال الطلب الكبير على العقارات المختلفة في البلدة. فما هو الإطار القانوني للاستثمار العقاري في بقعاتا، وكيف يتم تنظيمه في الوقت الحاضر من قبل السلطات المعنية؟
تقول المهندسة ريما أبو فخر (وهي مهندسة منطقة تعمل في التنظيم المدني في بيت الدين) إن بقعاتا مصنّفة منذ سنة 1994، وأنها لم تكن منظّمة قبل هذا التاريخ. وتلفت الى أن البلدة تقع ضمن منطقتين عقاريتين، الجديدة والسمقانية، فحتى ساحة الشهداء وما هو بمحاذاتها، العقارات تابعة لـ الجديدة، ومن ساحة الشهداء باتجاه السمقانية تتبع العقارات لـ «السمقانية».
وتمتد بقعاتا جغرافياً الى ما قبل مستشفى عين وزين بنحو 30 متراً، أما حدودها مع الكحلونية فتنتهي عند المدافن على طريق المزرعة القديمة.
في ما يخص المساحة، تقول أبو فخر إنه يتم العمل على مسح بقعاتا، لافتة الى أن الجزء الموجود في السمقانية ممسوح، ويتم العمل حالياً على مسح الجزء الموجود في الجديدة. كما تغيّر التصنيف في الجديدة بعد صدور التخطيط الجديد وفقاً للقرار 2012/38، والذي شمل بعض التعديلات ومنها مسألة لافتة، وهي فرض انشاء موقف سيارات اضافي للشقة في بعض المواقع المفروض فيها انشاء موقف للسيارات، والتي تقع ضمن التصنيفات A, C & D. وتشير أبو فخر الى أن التصنيف في «عين وزين» و«بتلون» رفع أسعار العقارات في بقعاتا.
لكن ارتفاع الأسعار لا يعني لزاماً الجودة بسبب بعض المقاولين والمطورين العقاريين الذين يستهدفون البناء للبيع وتحصيل الربح السريع ولا يهمهم المشاكل التي قد تظهر في البناء في ما بعد. وفي هذا الصدد، يقول المهندس المعمار هيثم أبو كروم الذي يعمل على مشاريع هندسية عدة في بقعاتا: «هناك نسبة لا يستهان بها لا تلتزم بأدنى الشروط والمواصفات، وذلك في سعيها الى الربح بأي وسيلة واستهتارها بالزبون.
ولا ينتقد أبو كروم القطاع الخاص فحسب، بل يتعداه الى البلدية التي تنفذ بعض المشاريع بطريقة غير مهنية، معتبراً أن المشكلة ليست مادية بل غياب التخطيط. ومن هذه المشاريع على سبيل المثال الأرصفة المائلة التي أنشأتها البلدية لـ «تسهيل وقوف السيارات» منذ بضع سنوات، والتي «لم تكن مدروسة واضطرت البلدية إلى تكسيرها بعد فترة قصيرة».
بين الأمس واليوم
كانوا في الماضي يقولون: «نيال يلي الو مرقد عنزة ببقعاتا»، ولكن هذا الحال تغيّر اليوم، ومن كان يشعر بنعمة العيش فيها بات يتحسر على تحوّل هذه النعمة الى نقمة، ومنهم الشيخ أبو زياد الذي عندما تسأله اذا ما أحس في مرة من المرات لو أنه لا يسكن في بقعاتا، يهز رأسه ويقول: «نعم هذه الفترة، في الماضي كنت أتمنى أن أجلس أمام باب منزلي، كانت بقعاتا هادئة، أما اليوم أصبح السكن صعباً فيها وعلى كل الصعد من الضجيج والازدحام، حتى ضعف العلاقات الاجتماعية وغياب الانسانية وصولاً الى الفساد المستشري». ويقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: «في الماضي بيعت أرض في جديدة 12 مرة بالكلام من دون أي حجج، وكان اذا تخلف أحد عن وعد ما يظل 10 أيام لا يمرّ أمامه خجلاً منه، أما اليوم فانقلبت المعادلة وكل شيء تغيّر في هذه المدينة الضخمة».

قصّة عمرها في بقعاتا

عندما تسأل أم نزار حسن عن عمرها تجيبك بضحكة: «ربك أخبر، الأرجح أنني من مواليد 1924 أو 1925». أصل أم نزار وعائلتها من بتلون ولكنهم انتقلوا للعيش في بقعاتا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، حيث استأجروا منزلاً قبل أن يبنوا منزلهم الخاص في بقعاتا أيضاً التي سجلوا نفوسهم فيها، والتي تشعر بالانتماء اليها أكثر من بلدتها الأم. وفي هذا الصدد تقول: «بلدك المنيح مطرح ما انت مستريح».
عندما تسألها عن الحياة التي عاشتها في بقعاتا، تخبرك أم نزار بحماس ومحبة أنها انتقلت وعائلتها اليها على أيام ما كان كيلو اللحمة بـ 4 ليرات وكيلو السكر بـ 40 قرشاً، ولم يكن في ذلك الوقت غير محل واحد فيه خضار ولحوم، وكانت هناك محطة بنزين واحدة. وقتها كانت بقعاتا عبارة عن سهول زراعية يعتمد فيها على زراعة القمح وكروم العنب، ولم يكن فيها سوى بضعة منازل.
كان البيت هاجس أم نزار «لم يكن يهمني أن أسكن في الايجار ولكن كان كل همي أن يكون لنا بيت.. البيت الحقيقي». والبيت الحقيقي بالنسبة لأم نزار ليس المنزل الذي تسكنه في حياتها، بل تقصد فيه المدفن الذي اطمأنت الى تأمينه لها ولعائلتها في مدافن بقعاتا. وعندما تسألها عن البناء وشراء الأراضي في الماضي وعن قصة المنزل الذي بنوه، تعدل جلستها، تشرب رشفة من فنجان القهوة، تسرد قليلاً وتقول: «كان زوجي يعمل على المرفأ في بيروت، وأول قطعة أرض اشتريناها كان المتر فيها بليرتين ونصف وبعناه بـ 5 ليرات، ثم اشترينا أرضاً المتر فيها بليرة واحدة وبعناه بـ 30 ليرة، أما هذه الأرض فاشتريناها سنة 1975 بـ 15 ألف ليرة».
وتسترسل أم نزار في الحديث عن ذكرياتها في بقعاتا والأيام التي قضتها فيها، فعن علاقتها بجيرانها تقول: «من زمان كانت الحياة محبة، فمع أن كل منا آتٍ من بلد ولكن كنت أشعر أنهم أكثر من أهل لي. كنّا مرتاحين جداً ونشعر بالسعادة، وعندما انتقلت من جيرتهم بكينا على الفراق، علماً أننا ما زلنا على تواصل. أما اليوم فتغيّرت النفسيات، لم تعد المحبة موجودة كالسابق، وكثر الغلاء والفحش والفساد».

بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف
بقعاتا-كما-تبدو-من-الأقمار-الصناعية-وهي-تتوسط-منطقة-الشوف

آثار رومانية ..مهملة

من الأشياء التي تميّز بقعاتا أيضاً، وقلة يعرفون عنها، احتضانها آثاراً رومانية عبارة عن نواويس وبركة مياه، وهي موجودة في بقعة يطلق عليها اسم المصنع، وتقع على الطريق الى عين وزين. ويفيد رئيس البلدية أن هناك عدداً من النواويس المكتشفة في أكثر من موقع، ولكن هذه الآثار مهملة ولم يسجّل أي تحرك رسمي في اتجاه حمايتها.

نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي
نواويس-عدة-متجاورة-تشير-ربما-إلى-أن-المكان-استخدم-مدفنا-وأن-بقعاتا-كانت-موقعا-معمورا-في-الماضي

تحقيق راشيا الوادي

راشيا الوادي خزانة التاريخ

مرّ عليها الكثير ولم تفقد أصالتها

القلعة التاريخية معرض جامع لتوالي الممالك
والسوق الأثرية تحمل بصمات الإرساليات الأوروبية

اللبنانيون يأكلون دبسها ويصطلون حول مدافئها
لكن قوافل الهجرة ذهبت بالمئات من شبابها

متربعة في صدر حرمون، حارسة لصدى استقلاله، مشرعةً نوافذها لهذا الجبل الشامخ بمجده التليد، غامزةً بعينٍ السهول المحيطة التي يأنس لها القمر في بدره الوضاء، وبأخرى لهضاب وأودية يفوح منها روح المكان التيمي، إنها راشيا الوادي، هذه البلدة العتيقة الوادعة التي تأنس العين لرؤيتها والتي شاء التاريخ أن تكون مسرحاً لأحداث كبيرة ونموذجاً للعيش المشترك منذ أن بزغ فجر الاستقلال من قلعتها وكان لوقفات أبنائها الكثير من المعاني والعبر في صناعة الصمود والتحدي والعنفوان.

معالمها الجغرافية والمناخية
على أقدام جبل الشيخ وعلى سفوح سلسلة جبال لبنان الشرقية تقع بلدة راشيا الوادي على علوٍ يقارب الـ 1200م، وهي المركز الإداري لقضاء راشيا الذي يضم 26 بلدة وقرية تحتضن تنوعاً بيئياً وتراثياً فريداً. تبعد هذه البلدة عن بيروت 85 كلم ويمكن الوصول إليها عبر طريق شتورا، المصنع، راشيا أو عن طريق مرجعيون، حاصبيا، راشيا. يبلغ عدد سكانها المقيمين 8500 نسمة، وتعتبر إحدى البلدات المصدّرة للإغتراب، إذ غذّت المغتربات القريبة والبعيدة بمئات الشبان الذين كان لهم دور مهم وفعّال في تنمية البلدة خصوصاً من خلال الأموال التي تمّ استثمارها في مجال البناء أو في النشاط الذي يقيمه المغتربون عند عودتهم للإستقرار مجدداً في لبنان أو في البلدة.

راشيا في التاريخ
دعيت راشيا الوادي نسبة الى وادي التيم وتمييزاً لها عن جارتها الجنوبية راشيا الفخار ويقال إن الاسم لفظة أّرامية مركبة من مقطعين “راش – أّيا” ويعني “رأس أيا“ هو إله المطر والعواصف، وللتسمية هذه علاقة قوية على الأرجح بتاريخ جبل حرمون.

قلعة راشيا
يعود تاريخ بناء قلعة راشيا إلى العهد الروماني، إذ بنى الرومان حصناً منيعاً لمراقبة القوافل التجارية، وفي العام 1099غزا الصليبيون المنطقة واختاروا القلعة حصناً لهم نظراً لموقعها الاستراتيجي الذي تحيط به المنحدرات من ثلاث جهات، بينما تواجه الجهة الرابعة منه قمة حرمون المطلة على الأراضي السورية والفلسطينية واللبنانية. وأضاف الصليبيون إلى القلعة أبراجاً استعملت كمراكز للمراقبة والدفاع. وتختصر القلعة بأقسامها الأربعة المختلفة التاريخ العريق للبلدة وللعهود والممالك التي مرت عليها.
فالقسم الأول: يحتوي على بناء وآثار رومانية منها دهاليز من الجهة الجنوبية الغربية يؤدي الى خارجها.
والقسم الثاني: يحتوي على أبنية وآثار صليبية ولاسيما الآبار المنحوتة في الصخر والتي ردمت كلها ولم يبقَ منها سوى بئر واحد صالح للإستعمال، والاقبية السفلى للقلعة وهي القاعة الأثرية الكبرى والمخزن من الجهة الشمالية الشرقية والبرج من الجهة الغربية الجنوبية وهو أعلى نقطة في القلعة.
القسم الثالث: يضم أبنية وآثاراً شهابية يعود تاريخها إلى العام 1370عندما تولى الأمير أبو بكر الشهابي ولاية حاصبيا والذي كان يأتي برفقة زوجته وابنته للصيد في راشيا فبنى منزلاً داخل القلعة.
أما القسم الرابع: فيتمثل في ما أضافه الفرنسيون في العام 1920 عندما دخلوا القلعة وأكملوا بناء السور الشرقي مستخدمين حجارة المنازل المجاورة. وقام الفرنسيون بمسح معالم أثرية للقعلة عن طريق ترميم الجدران وكسائها بالورقة الاسمنتية.
يذكر أن الشهابيين هم الذين بنوأ مدخل القلعة والسور والقناطر من الجهة الجنوبية الغربية والتي توجد في صدرها لوحة حجرية منقوش عليها بعناية الأبيات التالية:
لله قصــــــر قـــد علـــــت أركـــــــانه وغـدا فريد الحســـــــن والإتقــــان
إيـــــوانه فيــــه المســــــرة والهنـــــــــا للــه مــــــا أحــــلاه من إيـــــــــــــوان
غـــــــرف حســـــان قــــــjد أنــــــورت من شمــــــس مشرق ذلك الديوان
بنــــيان عز للآلـــىء قد أعلمــــــت يعلو البنـــاء بفضـل جهد البانــــي

أهم ذكريات القلعة
وفي يوم 22 تشرين الثاني من العام 1925 أثناء الثورة السورية الكبرى كان نصيب راشيا وقلعتها معارك حامية، إذ حاول الثوار اقتحامها وكانت معقلاً للجيش الفرنسي وسقط 105 شهداء من أبناء منطقة راشيا في تلك المعركة.
وبين 11 و 22 تشرين الثاني من العام 1945 حوّلت السلطات الفرنسية القلعة التاريخية إلى معتقل لرجال الاستقلال وكان من بينهم بشارة الخوري، رئيس الجمهورية، ورياض الصلح رئيس الحكومة وسليم تقلا وزير الخارجية والأشغال العامة، والزعيم الطرابلسي عبد الحميد كرامي وعادل عسيران وزير التجارة والصناعة، وكميل شمعون وزير الداخلية.
وفي العام 1946 بعد جلاء الفرنسيين تمركّز فيها الدرك اللبناني وبعض إدارات الدولة الرسمية وبقي الوضع كذلك حتى نقل القلعة في العام 1964 إلى عهدة الجيش اللبناني.

سوق راشيا الأثرية
تعتبر سوق راشيا الأثرية أحد أهم و أبرز المعالم السياحية وقد تمّ بناؤها في عهد الفرنسيين وذلك على شكل شارع بطول 300م تحيط بها المحال على الجانبين مبنية من الحجر القديم وخصصت للمشاغل الحرفية والمنتوجات التراثية المحلية التي تتميز بها البلدة. وتمّ رصف الشارع داخل السوق بالحجارة البازلتية بأسلوب ملفت للنظر يضفي على السوق روعة تجعل من هذه السوق الأثرية من أبرز المعالم السياحية في البقاع وفي لبنان.

زراعة الكرمة ومعاصر دبس العنب
يلعب القطاع الزراعي دوراً مهماً وإن لم يعدّ رئيسياً في حياة أبناء البلدة، لكن على الرغم من التراجع النسبي في أهمية الزراعة فإن هناك الكثير من العائلات التي تعوّل على هذا القطاع ولاسيما زراعة الكرمة التي لا تزال إحدى أهم الزراعات التي تمتاز بها راشيا وجوارها.

صناعة الفضة من ينقذها

تعتبر صناعة الفضة من الصناعات القديمة في راشيا حيث تعود إلى القرن السابع عشر وحكم الشهابيين الذين كانوا يعتمدون على حرفيي راشيا لتزيين نسائهم . أما اليوم فقد تراجع هذا القطاع وهو مهددٌ بالزوال إذ لم يبقَ في البلدة سوى عدد قليل ممن يتعاطون هذه الحرفة.

صالح-القضماني---مدفأة-لكل-ذوق
صالح-القضماني—مدفأة-لكل-ذوق

الزراعية للبلدة مما يبرّر وجود عدد من معاصر دبس العنب التي يبلغ عددها 4، وهي تستقبل كميات كبيرة من العنب سواءً من القرى المجاورة لها أو من قرى حاصبيا وهذا دليل على جودة دبس العنب الذي تفخر به راشيا ويجعل دبسها مطلوباً بقوة من المستهلك. وقد أصبحت صناعة الدبس اليوم أكثر حداثة من ذي قبل ولاسيما لناحية العصر والتوضيب . أما تصريف الإنتاج فهو لا يقتصر على سوق راشيا والجوار، إذ يقصد البلدة تجار من مختلف الأراضي اللبنانية لابتياع الدبس كونه لا يزال مادة أساسية على موائد الكثير من اللبنانيين لا بل أن محلول دبس العنب يقدّم مشروباً مثلجاً في أرقى المناسبات.

التعاونيات الزراعية
إلى جانب معاصر العنب التي تفخر بها البلدة هناك دور مهم تضطلع به التعاونية الزراعية التي تلعب دوراً مهماً في التصنيع الزراعي ولا سيما تصنيع الخضار والفواكه بطرق علمية مدروسة خالية من أي مواد من شأنها أن تضرّ بالصحة العامة، وهذا ما يساعد على تصريف المنتجات الزراعية، كما يخفف من كساد المواسم ويرفع عن كاهل المزارع عبء تخزين منتجات ومحاصيل يمكن أن تتراجع نوعيتها أو تتلف بمرور الوقت، أضف إلى ذلك أن التعاونية وفّرت فرص عمل لعدد من الصبايا اللواتي لا يستطعن أو لا يرغبن في العمل خارج البلدة.

دور تربوي بارز
تعتبر بلدة راشيا مرجعاً أساسياً في العملية التربوية، إذ يوجد فيها عدد من المدارس الرسمية والخاصة . وهناك على سبيل المثال مدرسة رسمية توفّر الدروس من الروضة حتى المرحلة المتوسطة وثانويتان رسميتان هما ثانوية حرمون ذات اللغة الفرنسية وثانوية أخرى تدرّس اللغة الانكليزية، بالإضافة إلى عدد من المدارس الخاصة الرائدة في المجال التربوي والتي تخفف عن كاهل أبناء البلدة وجوارها مشقة الانتقال إلى المدن لتوفير تعليم جيد لأبنائها.

راشيا تقود صناعة المدافئ
يعود تاريخ صناعة المدافئ في راشيا الى العام 1937 عندما كانت هذه حرفة يدوية قبل ان تصبح اليوم آلية بحتة بسبب الطلب الكبير على ما تنتجه البلدة من مختلف أنواع المدافئ. وقد ازداد عدد المشاغل التي تنتج المدافىء أو الصوبيات إلى إثني عشر مشغلاً وأصبحت هذه تنتج ما يقارب الـ 5 آلاف مدفئة سنوياً يتم تسويقها على كافة الاراضي اللبنانية.
كوّنت راشيا لنفسها شهرة واسعة في صناعة المدافئ التي تعمل على المازوت أو الحطب واشتهرت صناعتها بسبب الطابع الحرفي لتلك الصناعة التي تنتج مدافئ حسب الطلب وفي تصاميم مختلفة تراعي اختلاف الأذواق، وقد ارتقت راشيا بهذه الصناعة إلى حدٍ باتت معها أشبه بصناعة قطع فنية، إذ يتم تشكيل المدفأة وفق تصميم خاص مما يعطي لمنتجات راشيا تنوعاً كبيراً ونفحة فنية ترفع الصناعة إلى مرتبة الفن بكل معنى الكلمة. وبسبب هذه الشهرة فقد ازداد الإقبال على مدافئ راشيا حتى باتت هذه الصناعة –الحرفية بوسائلها- غير قادرة على تلبية الطلب. يشرح الشيخ صالح سلمان القضماني أحد مالكي مؤسسة أبناء الشيخ سلمان القضماني أوجه تميز إنتاجه بالتأكيد على أن مؤسسته لا تستخدم الآلات الحديثة كما يحصل في معظم مصانع المدافئ في المنطقة بهدف إنتاج أكبر كمية ممكنة بل تتخصص في إنتاج قطعة مميزة وفريدة تسرّ الزبون الذي يأخذها وهو متأكد بأنها فريدة ولا مثيل لها. وهذه القطعة لا يمكن لطريقة التصنيع الميكانيكية أن توازيها من حيث الجودة أو اللمسات الفنية اليدوية. ويشير إلى أن الحرفة التي يعمل فيها تطورت لجهة إدخال تقنيات تحقق الاحتراق الكامل خصوصاً في مدافئ المازوت وكذلك تقنيات توفير المازوت.

رئيس بلدية راشيا العميد مروان زاكي

علـى المغتربيــن لعــب دور أكبــر
فــي إنمــاء اقتصــاد راشيــا

مشاريع للتشجير وإقامة برك تجميع مياه الأمطار
وأربعة مولدات أنهت أزمة الكهرباء في البلدة

رئيس-بلدية-راشيا-العميد-مروان-زاكي
رئيس-بلدية-راشيا-العميد-مروان-زاكي

التقت مجلة “الضحى” رئيس البلدية العميد مروان زاكي في حوار تناول الوضع الإنمائي في راشيا والتحديات التي تواجه البلدية والآثار السلبية للاغتراب، كما تناول رؤية البلدية للمستقبل وأهم المشاريع التي تعمل عليها. وفي ما يلي الحوار.

هل هناك مشاريع قيد الدرس أو التنفيذ؟
نعم هناك مشروع الصرف الصحي الذي يتم درسه بغية تنفيذه في أقرب وقت، وهذا من شأنه حل مشكلة كبرى في زمنٍ بات فيه التمدد العمراني كبيراً جداً.

ما هي المشاريع الخدماتية التي تعدونها؟
نسعى بقوة لإنشاء مراكز خدماتية في راشيا وأول الغيث كان افتتاح مكتب للتنظيم المدني والعمل جارٍ لفتح فرع للضمان الاجتماعي لتوفير مشقة الانتقال الى زحلة على أن يكون هذا المركز في خدمة راشيا والجوار. كما أننا نعمل مع فعاليات المنطقة السياسية من أجل زيادة فروع للجامعة اللبنانية ومحاولة استقدام جامعة خاصة تخفف وطأة الانتقال إلى زحلة وجوارها.

راشيا بلدة غنية بالآثار والتراث كيف يمكن الإفادة من ذلك؟
نحن في صدد إقامة مهرجان سياحي في الصيف بغية الاستفادة من الواقع السياحي والتراثي، ولاسيما أن هناك قلعة تاريخية هي قلعة الاستقلال مع ما تحتويه من المعالم التاريخية.

كيف يتم التعامل مع الاغتراب ؟
هناك أعداد كبيرة من أبناء البلدة الذين كتب عليهم الاغتراب وعدد لا بأس منهم نجح في بلدان الاغتراب فأصبح متمسكاً بالغربة أكثر من الوطن وهو ما ينعكس سلباً على الاقتصاد المحلي. فلا استثمارات في مشاريع من قبل المغتربين وجلّ ما نراه هو تشييد المنازل الفخمة والفيلات، في حين أن هناك الكثير من المجالات التي يمكن الإفادة منها مثل إقامة فندق في راشيا يستقطب السياح إلى البلدة، إذ لا يوجد مكان يمكن أن يستقبل السائح لليلة واحدة.
كما أن غياب المؤسسات والمصانع من شأنه أن يضعف فرص العمل للشباب ويساهم في الجمود الاقتصادي والمزيد من الهجرة.

هل هناك من دور تضطلع به البلدية على صعيد البيئة ؟
نعم البيئة هي أحد الاهداف الاساسية في العمل البلدي ولاسيما من ناحية زيادة المساحة الخضراء ولهذه الغاية تمّ توقيع عقد مع وزارة البيئة بغية تشجير أحد الجبال القريبة من البلدة بالاشجار الحرجية البرية،كما نسعى مع المشروع الاخضر لإقامة عدد من البرك الاصطناعية في منطقة اليابسة.

رئيس محترف الفن التشكيلي شوقي دلال

حمايــة تــراث راشيــا من زحــف الإسمنــت

تفعيل السوق التاريخي يحتاج إلى سياحة وإلى إحياء الحرف والصناعات التقليدية

شوقي-دلال
شوقي-دلال

تقع بلدة راشيا في موقع متميز فهي صلة وصل بين لبنان وسورية وفلسطين وتمثّل بسبب تراثها الغني وحجمها السكاني وقاعدة الصناعات والحرف التقليدية التي تضمها إحدى القرى الأولى لبنانياً في تعبيرها عن تراث البلد وتاريخه وثقافته. في هذا الحوار مع رئيس جمعية المحترف الفن التشكيلي الأستاذ شوقي دلال تستكشف “الضحى” آفاق الحركة الثقافية والنشاط الإبداعي في راشيا وتسأل الأستاذ دلال كيف يمكن تفعيل الغنى الثقافي لبلدة راشيا، وكيف يمكن توفير الحماية له من التقدّم العمراني الزاحف؟

بدأنا بسؤاله عن الغنى الثقافي في منطقة راشيا.
راشيا بلدة تراثية قديمة وكان لها دور بارز عبر التاريخ وهذا ما تدل عليه مكتشفاتها الأثرية والآثار القديمة الموجودة في أماكن مختلفة، فكانت بلدة للتبادل التجاري في العصور القديمة وهذا ماتدل عليه الخانات الموجودة في جوارها حتى أن منطقة “الفاقعة” المجاورة لها وجد فيها العديد من النقود القديمة وهذا دليل على وجود تجارة ناشطة ولاسيما أيام الفينيقيين كما أنها كانت مقصد تجار الفراعنة لإجراء عمليات التبادل .

كيف تفسرون لنا ظاهرة المنازل التراثية القديمة في راشيا التي تزينها؟
منازل راشيا التراثية المزدانة بالقرميد يعود تشييدها الى العام 1850 إبّان فترة الإرساليات الأجنبية إلى لبنان وتحديداً الفرنسية منها. فالنمط المعماري لمنازل القرميد بدأ عندما جاءت إحدى البعثات ودعت الى بناء منزل كمقر صيفي للمفوض السامي، ثم أخذ هذا النمط المعماري بالتكاثر مع معلمي الشوير ولا يزال القرميد الفرنسي يغطي معظم منازل راشيا حتى يومنا هذا .

كيف يمكن حماية هذا الإرث؟
المطلوب منا جميعاً المحافظة على هذا الإرث الجمالي الذي تركه لنا الأجداد وعلى الدولة سن القوانين التي من شأنها أن تساهم في المحافظة على التراث القديم في ظل إمتداد غابة الإسمنت المشوهة له.

سوق راشيا التاريخي معلم قل نظيره في البقاع وربما في لبنان. لماذا لا يتم تفعيله؟
لتفعيل دور سوق راشيا من الناحية التراثية السياحية والتجارية يلزمه مخطط ومشاريع سياحية تجعل منه مركزاً مهماً لا بل قبلة أنظار السياح ولاسيما لجهة تفعيل الصناعات الحرفية والأعمال اليدوية وما شابه ذلك.

ما هي أبرز الميزات الثقافية التي اتسمت بها راشيا؟
كما سبق وذكرنا الإرساليات الأجنبية أسهمت أسهاماً واسعاً في إغناء راشيا ثقافياً من خلال إنشاء مدارس مازال بعض أبنيتها ماثلاً حتى اليوم ومنها الإرساليات الروسية والفرنسية والإلمانية. كما كان للدور الثقافي أهمية في القرن الماضي، حيث صدرت بعض الصحف مثل صحيفة حرمون في أربعينات القرن الماضي.

كيف يساهم محترف الفن التشكيلي في الحفاظ على التراث الثقافي ؟
جمعية محترف الفن التشكيلي استندت في انطلاقها إلى هذا الكم من التراث الذي ذكرناه و السؤال الذي كنا نطرحه إذا كان لدينا هذا الكم من التاريخ لماذا لا نسلط الضوء عليه ومع هذا الشعار انطلقت الجمعية في نشاطها العام 1992.

منير مهنا مدير مركز الخدمات الإنمائية في راشيا

مشروع لكتابة تاريخ راشيا وحرمون
واستعدادات مبكرة لمئوية الثورة السورية الكبرى

من يحقق مشروع تلفريك التزلج من راشيا إلى جبل الشيخ؟

منير مهنا
منير مهنا

التنمية في نظره رؤية تقود المبادرات وإرادة سياسية وتكاتف وتنسيق ودور للبلدية والهيئات الأهلية وهي لا يمكن بالتالي أن تتم بصورة عفوية وبمبادرات متفرقة. في هذا الحوار يشرح مدير مركز الخدمات الإنمائية في راشيا منير مهنا رؤيته للوضع التنموي في راشيا ويعرض للعديد من الفرص والإمكانات المتاحة التي يجب تفعيلها.

كيف ترون واقع وأفق التنمية في راشيا؟
تنطلق العملية التنموية من الموارد المتوافرة في البيئة المحلية، سواء كانت تلك الموارد ثروات طبيعية أو مادية بالإضافة الى طاقات الأفراد والجماعات والمؤسسات وما تراكم من منجزات للجماعة عبر الزمن. وتحدث التنمية عندما يتم ربط تلك المدخلات في سياق مخطط يستهدف تحسين مستوى نوعية الحياة لدى الناس. وما نراه في راشيا على الصعيد التنموي ما زال في بداياته والموارد المتاحة لعملية التنمية ترتكز على تاريخ البلدة مثل وجود قلعتها التاريخية التي تعود الى القرن الحادي عشر أو إلى السوق الأثرية التي يعود تاريخها الى القرن السابع عشر مع بنية معمارية تظهر في بيوتها القرميدية الجميلة وتعدادها يزيد على 250 بيتاً، من دون أن ننسى أنها في حضن جبل الشيخ- حرمون وما يحمله من إرث حضاري عظيم. يعني ذلك أن المدخل الأساس للتنمية في راشيا يبدأ من هذه الوجهة السياحية والطبيعية، وهذا الإتجاه يشهد حركة دفع ضعيفة، لأن موقع راشيا ما زال غير مهيأ من ناحية البنية التحتية المناسبة لاستقبال السياح والوافدين رغم وجود تلك المقومات .

هل من أنشطة أو مبادرات لتفعيل السياحة في راشيا؟
الأنشطة وحدها لا تكفي إذا لم تكن جزءاً من مشروع متكامل ترعاه مؤسسات محلية وعلى المستوى الوطني. مثلاً، دور البلدية أساسي في هذا المجال وكذلك دور الجمعيات الأهلية، وقد عرفت البلدة خلال عقد التسعينات وحتى العام 2005 حركة مهرجانات سياحية ساهمت فيها البلدية مع الجمعيات الأهلية وفي طليعتها محترف الفن التشكيلي في راشيا الذي أطلق العديد من المبادرات وعلى رأسها مهرجان المغتربين ومهرجان الشعر الزجلي ورحلة التجلي في السادس من آب، كما أن البلدة تشهد توافد الآلاف من طلاب المدارس والمغتربين لزيارة قلعة راشيا على مدار العام وخلال فترة الإحتفالات بعيد الإستقلال.

هل هناك مشاريع معينة لقلعة راشيا؟
هناك اتجاه في قسم الشؤون الحرفية التابع لمركز الخدمات الإنمائية في راشيا لتطوير منتجات للتسويق السياحي ووضعها في قلعة راشيا، كما أن الفنان عارف أبولطيف يقيم معرضاً دائماً لمنحوتاته في جناح خاص في القلعة وقد أنجز الى جانبها تمثالاً خاصاً لقائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش حيث تاريخ الثورة السورية الكبرى سنة 1925 تحتضنه قلعة راشيا على أسوارها ومن خلال اللوحة التي تحمل أسماء شهدائها الأربعمائة الذين سقطوا في مواجهة المحتل الفرنسي في تلك الحقبة من التاريخ ..

هل يمكن لراشيا أن تلعب دوراً أكبر ثقافياً وسياحياً؟
أعتقد أن من لديه هذا التاريخ يمكنه أن يقيم الكثير الكثير من المبادرات والأنشطة ذات الصلة .المهم هو توفّر الإرادة والرؤية وتكاتف الهمم والتعاون المشترك بين كل الإمكانيات لتحقيق تنمية مستدامة في راشيا والعودة بها الى ما كانت عليه في مطلع العشرينات من القرن الماضي كعاصمة مزدهرة لوادي التيم الأعلى ونقطة مضيئة على درب التواصل ما بين الشام والقدس … هذا ما نطمح اليه مع تطلعنا الى دور أساسي للحكومة اللبنانية في تحقيق التنمية المتوازنة في المناطق. فراشيا تملك الكثير لتقدمه للوطن الذي ما زالت حكوماته عاجزة عن تقديم مشاريع تنمية حقيقية تنقل راشيا من وضعية الى أخرى … فهل نشهد مثلاً تحقيق مشروع إقامة تلفريك التزلج من راشيا الى جبل الشيخ ، أو إقامة المنتجعات السياحية وحماية تراثنا المعماري من الإندثار والهدم ؟

هل من مشاريع مستقبلية تعملون عليها حالياً؟
إن المشروع الدائم هو حفظ تراث راشيا المادي وأرشفة إرثها الشفوي والمكتوب، هنا أشير الى مشروع كتابة تاريخ راشيا وجبل حرمون وهو مشروع مستمر منذ العام 2003 وما زال متواصلاً، ونعمل على التحضيرللإحتفال بالمئوية الأولى للثورة السورية الكبرى ( تحضير أفلام ، معرض صور ، متحف للثورة …) وهو مشروع كبير جداً ويلزمه إمكانيات كبيرة، نأمل أن ننجزه في حينه بما يليق بالمناسبة ورمزيتها.

مؤامرة الحشيشة في الجبل من يقف وراءها؟

ترويج الحشيشة بين شبيبة الجبل يستهدف استرهان
مدمنين يمكن تجنيدهم لأغراض أشد إيذاء عند الحاجة

هناك مؤامرة كبيرة على الجبل سلاحها هذه المرة هو الإفساد وتقويض احترام الذات ونشر الفتنة والفساد عبر سلاح خطير هو المخدرات. الدليل الواضح على المؤامرة هو التكثيف المفاجئ والواسع النطاق لنشاط ترويج المخدرات في الجبل، والأسلوب المنهجي الذي يتم به ويدل على احتراف وعلى وجود برنامج وضعت له أهدافه وحددت وسائله وأساليبه بصورة دقيقة.

أما الأهداف فهي ضرب مجتمع الموحدين الدروز من الداخل عبر ضرب أهم قوة في هذا المجتمع وهي الشباب وخلق مشكلات داخلية تسبب الإرباك وتضعف المعنويات وتوفّر المناخ المثالي لأمور أخرى مثل تقديم المعلومات أو حتى تنفيذ المآرب الأخرى. لأن مدمني المخدرات وجلّهم من العاطلين عن العمل أو ذوي المداخيل الصغيرة سيحتاجون بعد قليل من دخولهم دوامة الإدمان إلى المال لتمويل الإدمان وسيصبحون بذلك بيئة مناسبة لتجنيد البعض منهم ولإدخاله في العالم السفلي للعسس وأدوات التنفيذ لشؤون أخطر عندما تدعو الحاجة.

أما البرنامج فهو الدخول من باب الحشيشة لأن عرض المخدرات الأقوى يتم دائماً في مرحلة تالية . أما البداية فيجب أن تبدو بريئة مثل “جرب هالسيجارة.. هيك أطيب” أو “خذلك نفس أركيلة غير شكل” ويلاحظ أن الحشيشة تدخل هنا من باب آفة التدخين وتدخل خصوصاً من باب تلك العادة التي تفشت وهي عادة تدخين النارجيلة (الأركيلة) واستخدام أنواع التبغ المنكَّهة (المعسَل) مما يجعل من هاتين العادتين معبراً سهلاً إلى الحشيشة. وقد يكون ذلك أولاً بعيارات صغيرة لا تثير أي شبهة لكن تناول هذا المخدر الخطير لا بد وأن يتنامى ليصبح إدماناً. وتشير مصادر مطلعة إلى أنه وفي سبيل نشر العادة يتم منذ مدة توفير الحشيشة بأسعار زهيدة (بدليل انتشارها السريع) من قبل أشخاص يمكن أن يتحولوا لاحقاً إلى حلقة أساسية في الاتجار بها بين الشباب. أما الهدف فهو الترويج ونشر العادة بين أوسع قاعدة من الشباب وخلق “السوق”، أو قل خلق “المشكلة” أولاً قبل الانتقال لاستغلالها في المراحل التالية. والسؤال بالطبع هو من يقف وراء حملة الترويج ومن يمولها؟
كافة المعلومات والمؤشرات التي نملكها تشير فعلاً إلى أن تعاطي الحشيشة بات شائعاً في قرى الجبل، سراً وأحياناً علناً، يحكى مثلاً أن أحد المحال في منطقة الشوف يوصل الأركيلة إلى البيوت “ملغومة” بالحشيشة عند الطلب!! ويتسع استخدام الحشيشة وبوجوه مختلفة في أوساط الشباب ولا سيما الذين تتراوح أعمارهم ما بين15 و25 سنة، علماً أن العادة تطاول فئات عمرية أكبر وإن بنسب اقل. ويلعب المروجون دوراً كبيراً في رسم صورة مخادعة عن الحشيشة، بأنها تساعد على الابداع وتوسع الخيال.. ومن المفاهيم الخاطئة الشائعة أن تدخين الحشيشة كتدخين التبغ ولا يدمن عليها، وأنها أقل ضرراً من تدخين التبغ. وبعض الاشخاص يعتقدون ان الحشيشة غير ضارة لأنها “نبات” ولا يعرفون كم وكم من النباتات لها خصائص مخدرة وأحيانا سموم عالية بل ومميتة، وهذه أساليب للترويج كاذبة ومخادعة. فالحشيشة مادة مخدرة تؤثر على الدماغ بشكل كبير، وتعاطي الحشيشة بكثافة وباستمرار قد يؤدي إلى ضمور في الدماغ والإضرار بالوظائف العقلية للمدمن عليها، فضلاً عن آثارها المدمرة على الرئتين (راجع : مخاطر الحشيشة على الصحة البدنية والعقلية).

يذكر أن انتشار المخدرات أصبح آفة عامة تضرب نسبة متزايدة من شباب لبنان، وعلى الرغم من غياب إحصاءات رسمية عن استهلاك المحرضات والمخدرات العقلية فإن بعض الأوساط العاملة في هيئات ومنظمات المكافحة وإعادة تأهيل المدمنين تقدر بأن عدد المصابين بالإدمان المزمن أو المرضي على المخدرات يتراوح بين 10 آلاف و15 ألف شخص ونحن نتحدث هنا عن المدمنين الذين يحتاجون إلى عناية طبية أو علاجية ولا نتحدث عن الاستخدام غير المنتظم أو المتقطع للحشيشة أو غيرهما من المخدرات. كما أن الرقم يتزايد باستمرار بحسب تقارير نشرتها منظمة “سكون” اللبنانية والتي توفّر الوقاية والعلاج النفسي لمتعاطي المخدرات.
وتشير “سكون” إلى أن المخدرات تطاول كل فئات المجتمع اللبناني، ولكن تتركز بشكل أساسي بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15-25. وتبين دراسة أجراها مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة العام 2001، على أساس ثلاث عينات من السكان اللبنانيين (بينهم طلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات) أن سن متعاطي المخدرات للمرة الأولى انخفض بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، إذ أصبح يطاول الشريحة التي تتراوح أعمارها بين 15-20 سنة، مقابل 25-30 في بداية الـ التسعينات

من القرن الماضي. وتظهر الدراسة ارتفاع وتيرة الاستهلاك متعدد الوجوه للمواد المخدرة، وافتقار الغالبية العظمى من المواطنين ولا سيما الشباب للمعلومات عن مخاطر المخدرات. ويتبين أن هذه المعلومات تعود للعام 2001 ، مما يعني أن الواقع اليوم لا بدّ أنه أصبح أكثر سوءاً بكثير لأن كل الإحصاءات تشير إلى أن مشكلة المخدرات في اتجاه مستمر للنمو والتحول إلى وباء حقيقي.
ويعتبر رئيس جمعية جاد (شبيبة ضد المخدرات) جوزف حواط، أن هناك خطة لضرب شبيبة لبنان من خلال المخدرات. والمعروف أن من بي

مطلوب إنشاء مكتب أهلي لمكافحة الإدمان في كل قضاء وجمعية أهلية من المتطوعين لمتابعة الوضع على الأرض

الاستراتيجيات الفعّالة التي تستخدم لتدمير المجتمعات جرها إلى الإدمان على المخدرات ، وذلك بهدف إضعافها من الداخل وشل إرادة الشباب وتخريب طاقاتهم والسيطرة على عقولهم وإلقائهم في هوة كئيبة من تعطل الإنتاجية أو القدرة على العمل، فضلاً عن افتقاد احترام الذات واحترام الأقران والمجتمع الأوسع. وبالطبع أول خطر يتعرض إليه المدمن هو صعوبة الحصول على عمل شريف أو خسارة العمل الذي يكون قد حصل عليه، وهذا يعني أن المدمن ينتقل من حضيض إلى حضيض أعمق اقتصادياً ونفسياً واجتماعياً.

وتستخدم استراتيجية نشر المخدرات خصوصاً من قبل أجهزة المخابرات والقوى المعادية، أو التي تضمر شراً بمجتمعنا، وهذه من أهم الوسائل التي تعتمدها إسرائيل لضرب الشباب الفلسطيني وشلّه بحسب شهادات فلسطينيين مقيمين. ومن الشواهد على ذلك ما خرج به فيلم وثائقي أعده مخرج فلسطيني من أرقام مخيفة جداً، تشير الى أن أكثر من 50 في المئة من الشباب الفلسطيني في القدس مدمن، وإسرائيل تدفعهم دفعاً للإدمان عبر توفير المخدرات الرخيصة واستخدام شبكات الترويج المحترفة والتي ينتمي معظمها إلى صفوف الشباب وغالباً الفئة الأكثر إدماناً والتي باتت في حاجة للاتجار وتحصيل المال لتمويل العادة وربما الدخول إلى نشاطات أخرى غير قانونية متصلة بعالم المخدرات.

ما العمل ؟ وكيف نحمي شبابنا؟

إن الجواب المطلوب على ما نعتبره عملاً مخططاً ومنظماً لإضعاف مجتمعنا وحرمانه من أهم قوة للبناء والدفاع عن وجوده يجب أن يُجابه بعمل مخطط ومنظم أيضاً ولا يقتصر ذلك على الشكوى أو التحذير الكلامي أو التوعية فقط. ومن أبرز الخطوات العاجلة التي تقترحها “الضحى” في هذا المجال:

  • يجب أولاً على المجتمع المدني وبالتعاون مع الجمعيات المتخصصة في
    مكافحة الإدمان أن يؤسس في كل قضاء من أقضية الجبل هيئة يمكن تسميتها المكتب الأهلي لمكافحة الإدمان، على أن تكون مهمته جمع المعلومات عن ظاهرة الإدمان وترويج الحشيشة أو غيرها من المخدرات.
  • يستند المكتب إلى جمعية أهلية ذات قاعدة أوسع تضم متطوعين من الشبان والشابات في كل قرية، على أن يكون هدف هؤلاء متابعة الوضع وتقييمه على الأرض ومساعدة المكتب الأهلي على تكوين صورة مستمرة عن واقع الإدمان في قرى القضاء وطبيعة المشكلة وأساليب الترويج وغيرها.
  •  التعاون مع الأجهزة الأمنية لملاحقة المروجين والإبلاغ عنهم والتشهير بهم.

حلل باحثون من 4 جامعات بريطانية نتائج 35 دراسة على استخدام الحشيشة حول العالم، وأظهروا أن تعاطي الحشيشة لمرة واحدة كاف لأن يرفع خطر الإصابة بإنفصام الشخصية schizophrenia (الفصام) بنسبة 41 في المئة. وتبين بعض الدراسات أن تدخين الحشيشة في عمر المراهقة يرفع خطر ازدياد حالة الفصام في عمر العشرينات أو الثلاثينات، وأن تعاطي الحشيشة خلال سن المراهقة قد يؤدي الى تلف دائم في الدماغ. وربطت الدراسة بين تعاطي الحشيشة وبين تبلد الحواس كما نشبت على أعراض الفصام التي تسببت بها الحشيشة نشوء حالات متطورة من جنون الاضطهاد (بارانويا) أدت في بعض الحالات إلى ارتكاب بعض المدمنين جرائم قتل بدم بارد تحت تأثير الحالة النفسية التي تعتريهم.

ويحمل تعاطي الحشيشة المخاطر الإضافية التالية:

  • ارتفاع نسبة التعرض للسرطان وتلف وانسداد الخلايا الرئوية Emphysema، بالإضافة إلى مشاكل رئوية أخرى مرتبطة بالتدخين مثل التهاب الشعب الهوائية والربو.
  • إضعاف قدرة المرء على التركيز والتعلم، ومعظم الأشخاص المدمنين يشعرون بالتعب والانحطاط الجسدي والكسل الذهني كل الوقت ويفقدون الحافز أو الهمة للقيام بأعمالهم اليومية وكسب الرزق.
  • الحشيشة تضاعف احتمال الإصابة بأمراض القلب، إذ تزيد معدل ضرباته وقد تؤثر على ضغط الدم.
  • على عكس ما يشاع فإن تعاطي الحشيشة قد يحدث بعض الاسترخاء المؤقت لكنه على العموم وبسبب أعراض الإدمان يجعل المدمن أكثر عصبية وأكثر ميلاً للقلق والاكتئاب.
  • تعاطي الحشيشة المستمر قد يساهم في خفض عدد الحيوانات المنوية عند الرجل وقمع الإباضة لدى النساء.
  • بعض متعاطي الحشيشة يشعرون بالرغبة في استهلاك مخدر أقوى للحصول على ردود فعل أعلى، إلا أن ردود الفعل السلبية قد تكون أعنف من خلال التأثير الأقوى على الصحة العقلية.
  • دعوة الهيئات والمنظمات المتخصصة في معالجة ظواهر الإدمان لتنظيم ندوات وورش عمل في قرى الجبل تستهدف التوعية بمخاطر الإدمان وسبل معالجته والاعتناء بضحاياه من الشباب.
  • التشجيع على قيام المبادرات الرياضية والشبابية التي توجه طاقات الشباب إلى النشاطات الرياضية وتحارب العزلة وتشجّع على احترام النفس والمساهمة في الحياة الاجتماعية.

تحقيقات