الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, شباط 23, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

صورة من التراث

صورة من التراث

1بائع-الكعك-يتحادث-مع-بعض-الصبية-في-أحد-شوارع-بيروت-في-العام-1900(1)
1بائع-الكعك-يتحادث-مع-بعض-الصبية-في-أحد-شوارع-بيروت-في-العام-1900

بائع الكعك يتحادث مع بعض الصبية في أحد شوارع بيروت في العام 1900

الشاعر كبير

أوساط عديدة في الهند تعتبر أن مؤسسة طائفة السيخ غورو ناناك تأثر بقوة بأفكار كبير

اشتغل كبير بحياكة الألبسة قبل أن يتفرغ للتعليم والدعوة إلى الله

المزار الذي أقيم تكريما للشاعر كبير في العام 1521 في المكان الذي كان يجلس فيه لإلقاء أشعاره والاجتماع بالمحبين

لماذا تصارع يا كبير مع كبير

الشّاعــــــرُ الصّوفـــــــــيُّ الهنـــــــــديُّ «كَبيـــــــــر»

مَجَّدَ في شعره التّسامحَ والحُبَّ الإنسانيَّ
وندّدَ بالتَّعصّبِ والتَّدَيُّن الخالي من الرُّوح

أخذَ بـ «دين الحبِّ»هائماً في الأرضِ
فتدافعَ الألوفُ لسَماعِ قصائدهِ وتعاليمه

رفض الرَّهبانيَّة والانسحابَ من العالم
واعتبرَ الحكمةَ ثمرةَ التّسليمِ وطَهارة القلب

يحتلُّ الشّاعر الصّوفيُّ الهنديُّ العظيم “كَبير” (1440 م ـ 1518م) مكانةً رفيعةً في أدبيّات الشّعر الصّوفيّ العالميّ وقد زاد من شهرته والشّهر ة التي يتمتّع بها شعره وشخصيّته الفريدة التي جمعت بسبب نشأته وتطوّره الرّوحيّ أغنى ما في الرّوحانيّة الهندوسية البراهميّة وبين أرقى تعبيرات الشّعر الصّوفيّ الإسلاميّ، وقد اشتُهر “كبير” بإنشاده لأشعار الحبّ الإلهيّ والإنسانيّة الواحدة والتّسامح وأظهر في شعره وتعاليمه احتقاره للتعصّب ونقده لنوع التنسّك الطّقْسيّ الصّارم الذي كان سائدا بين ناسكي الهندوس الذين كانوا يتفنّنون في أعمال الإماتة وقهر الجسد والممارسات الشّديدة باعتبارها الطّريق إلى الحقيقة، ورفض “كَبير” الرّهبانيّة في السّلوك الرّوحيّ والعزلة عن العالم فعاش بنفسه بين النّاس وتزوّج مشدّداً على أنّ السّعيَ إلى الله والتحقّق الرّوحيّ ليس نتاج العمل الذي نقوم به مهما بل ونعمة وعطاء محض ومكافأة للقلب السليم وللتّسليم التامّ للمرشد وللمولى. وركز “كبير” كثيراً على قِيَم الحبّ الإلهيّ وطهارة القلب والبساطة والتّسامح وقبول الآخر.
بين كبير ويونس أمره
هناك أوجه شبه كثيرة بين قِصّة “كبير” وبين قِصّة الشّاعر الصّوفي التّركي الشّهير يونس أمره وأهم جوانب الشّبه هو في الغموض المحيط بحياة كلٍّ من الشاعرين إذ لم يعرف الشيء الكثيرعن حياة يونس أمره كما لم يعرف الكثير عن نشأة الشاعر الصّوفيّ “كبير” وقد نسجت حول حياته العديد من الرّوايات وإن كان معروفاً أنّه تربّى وسط أسرة من النّسّاجين المسلمين. وقد زادت رواية أنه عُثِر عليه من قبل نسّاج مسلم يدعى نيرو وزوجته نعمة، في ليهارتارا التي تقع في فاراناسي (بنارس) وكان كلٌّ من نيرو ونعمة فقيرين جدّاً وأمّيّين، فقاما بتبنّي الطفل وعلّماه صناعة النّسيج. لكنّ غموض ظروف النّشأة ليس وجه الشّبه الوحيد بين “كبير” ويونس فالاثنان كانا من أعلام شعر الحبّ الإنسانيّ الذي يتجاوز الفوارق والتّعريفات والشّكليّة في الدّين وقد ذهب كلاهما إلى حدّ التّعبير عن بعض التمرّد على القوالب والتّعريفات الجامدة. أمّا وجه الشّبه الأهمّ فهو أنّ شهرة يونس أمره ودين الحبّ الذي سلكه وجعل منه ديدنه وأسلوب حياته تحوّل إلى أساس للكثير من القصائد التي نظمها محبّوه في الأزمنة التّالية ونسبوها إلى الشّاعر وقد حصل الأمر نفسه لـ ”كبير” الذي قام بعض تلامذته بعده بنظم أشعار مستوحاة من فلسفة الحبّ والتّسامح التي بشّر بها ونسبوها إليه أيضا. يحتلُّ الشّاعر الصّوفيُّ الهنديُّ العظيم “كَبير” (1440 م ـ 1518م) مكانةً رفيعةً في أدبيّات الشّعر الصّوفيّ العالميّ وقد زاد من شهرته والشّهر ة التي يتمتّع بها شعره وشخصيّته الفريدة التي جمعت بسبب نشأته وتطوّره الرّوحيّ أغنى ما في الرّوحانيّة الهندوسية البراهميّة وبين أرقى تعبيرات الشّعر الصّوفيّ الإسلاميّ، وقد اشتُهر “كبير” بإنشاده لأشعار الحبّ الإلهيّ والإنسانيّة الواحدة والتّسامح وأظهر في شعره وتعاليمه احتقاره للتعصّب ونقده لنوع التنسّك الطّقْسيّ الصّارم الذي كان سائدا بين ناسكي الهندوس الذين كانوا يتفنّنون في أعمال الإماتة وقهر الجسد والممارسات الشّديدة باعتبارها الطّريق إلى الحقيقة، ورفض “كَبير” الرّهبانيّة في السّلوك الرّوحيّ والعزلة عن العالم فعاش بنفسه بين النّاس وتزوّج مشدّداً على أنّ السّعيَ إلى الله والتحقّق الرّوحيّ ليس نتاج العمل الذي نقوم به مهما بل ونعمة وعطاء محض ومكافأة للقلب السليم وللتّسليم التامّ للمرشد وللمولى. وركز “كبير” كثيراً على قِيَم الحبّ الإلهيّ وطهارة القلب والبساطة والتّسامح وقبول الآخر.
بين كبير ويونس أمره
هناك أوجه شبه كثيرة بين قِصّة “كبير” وبين قِصّة الشّاعر الصّوفي التّركي الشّهير يونس أمره وأهم جوانب الشّبه هو في الغموض المحيط بحياة كلٍّ من الشاعرين إذ لم يعرف الشيء الكثيرعن حياة يونس أمره كما لم يعرف الكثير عن نشأة الشاعر الصّوفيّ “كبير” وقد نسجت حول حياته العديد من الرّوايات وإن كان معروفاً أنّه تربّى وسط أسرة من النّسّاجين المسلمين. وقد زادت رواية أنه عُثِر عليه من قبل نسّاج مسلم يدعى نيرو وزوجته نعمة، في ليهارتارا التي تقع في فاراناسي (بنارس) وكان كلٌّ من نيرو ونعمة فقيرين جدّاً وأمّيّين، فقاما بتبنّي الطفل وعلّماه صناعة النّسيج. لكنّ غموض ظروف النّشأة ليس وجه الشّبه الوحيد بين “كبير” ويونس فالاثنان كانا من أعلام شعر الحبّ الإنسانيّ الذي يتجاوز الفوارق والتّعريفات والشّكليّة في الدّين وقد ذهب كلاهما إلى حدّ التّعبير عن بعض التمرّد على القوالب والتّعريفات الجامدة. أمّا وجه الشّبه الأهمّ فهو أنّ شهرة يونس أمره ودين الحبّ الذي سلكه وجعل منه ديدنه وأسلوب حياته تحوّل إلى أساس للكثير من القصائد التي نظمها محبّوه في الأزمنة التّالية ونسبوها إلى الشّاعر وقد حصل الأمر نفسه لـ ”كبير” الذي قام بعض تلامذته بعده بنظم أشعار مستوحاة من فلسفة الحبّ والتّسامح التي بشّر بها ونسبوها إليه أيضا.

لماذا تصارع يا كبير مع كبير
لماذا تصارع يا كبير مع كبير

مريدا للحكيم راماناندا
رغم تنشئته الإسلاميّة فقد قُيِّض لـ”كبير” أن يسلك طريق التّصوّف والنّسك منذ نعومة أظفاره على يد الحكيم الهندوسيّ الشّهير “راماناندا”، ويُعتَقد أنّ عائلة “كبير” كانت تعيش في المكان الذي عاش فيه الحكيم وأنّ “كبير” سلك على يد معلّمه وهولا يزال طفلاً يافعاً.
وتشير المصادر إلى أنّ “راماناندا” اطّلع على الإرث الشّعري المشبوب بالحبّ الإلهيّ لمتصوّفة كبار مثل العطّار وسعدي والرّومي والشّيرازي وقد مارست هذه المدارس الشّعرية مع ما حملته من مشاعر راقية من العشق الإلهي والوَجْد الصوفي تأثيراً قوياً على الفكر الرّوحيّ الهنديّ في تلك الفترة، وقد بلغ من تعلّق “رامانندا” بالشعر الصّوفيّ الإسلاميّ حدّ الطّموح إلى إيجاد مصالحة بين هذا الشّعر القائم على الوَجْد والفناء في الله وفكرة الله المتعالي عن كل وصف وبين النّظام التأمّلي الزّهديّ العميق لتوحيد الفيدانتا الهندوسيّة، وقد وجد الحكيم في تلميذه “كبير” الرّجل الذي يمثل في حياته ذاتها (كمسلم النشأة وفيدانتي التّعليم) ومفاهيمه هذا المزج الطّبيعيّ بين الرّوحانيّتين الهندوسيّة والإسلاميّة فقام بتنشئته وفق هذه النظرة الجامعة، وكان لتعليمه ولا شكّ الأثر الأوّل في تكوين شخصيّة “كبير” وطريقه الرّوحيّ ثم شعره وتعاليمه في مرحلة لاحقة. لكن وبخلاف أتباع الفيدانتا الأوائل، فإنّ “كبير” رفض نظام الطّوائف أو الطّبقات Casts الهندوسيّ الذي يربط بين الفرد والطائفة الاجتماعيّة التي وُلِدَ فيها إلى الأبد ويحتقر طبقة المنبوذين كما رفض عبادة الأوثان المتداخلة مع الممارسات والطقوس الدّينية الهندوسيّ .
ويظهر التمازج بين الرّوحانيّة الهنديّة والتّصوّف الإسلاميّ واضحاً في شعر “كبير”من خلال المفردات الصّوفيّة الإسلاميّة وكذلك المفردات الفلسفية الهندوسيّة التي يستخدمها مثل البراهمان (الله) والكارما (وهي أعمال الشخص التي تتراكم وتحكم مساره) وتقمص الرّوح re-incarnation كما استعار “كبير” من التّوحيد الهنديّ (الفيدانتا) مبدأ الأتمان أو الروح الأعلى والسّاهاجا والعشق الإلهيّ (بهاكتي) لكنه عارض في الوقت نفسه وبشدة التعصّب في كلٍّ من الهندوسيّة والإسلام. وبسبب عدم حصوله على تعليم وبسبب تربيته البسيطة فقد كانت لغته الهنديّة تميل إلى العاميّة، والصراحة، والرِّقة على النحو نفسه الذي تتّصف به فلسفته، وكان “كبير” (الذي كان أيضا موسيقيّاً ماهراً) يبدأ عادة بإطلاق عبارات لاذعة لصدم مستمعيه وكان يتبع ذلك بإلقاء أعذب قصائد الحب الصوفي.
يتمتع “كبير” بشهرةٍ واسعة في الهند منذ خمسة قرون، ليس باعتباره شاعرا فحسب بل باعتباره حكيماً ورمزاً روحيّاً أيضاُ يبلغ عدد أتباعه اليوم نحو تسعة ملايين، معظمهم يوجد في ولاية تشاتيسغار وسط الهند حيث وُلد وعاش الجزء الأكبر من حياته، وفي مدينة مجاهر بشمال البلاد وحيث توفي أيضا عن عمر 78 عاماً.
ونظرا إلى شموليّة فكره وإنسانيّته فقد قامت جماعة السيخ التي تتبع بدورها مذهبا توفيقيا متفرعا عن الهندوسية بدمج بعض النصوص المنسوبة إلى “كبير” بالكتاب المقدّس لمذهبهم، واعتبر مؤسّس هذا المذهب، غورو ناناك، نفسه تلميذا لـ”كبير”.
وما نعرفه عن “كبير” أيضاً هو أنه تخلّى تدريجياً عن مهنة النّسج وانطلق في التّبشير بطريق السّير إلى الله وبالحبّ الإلهيّ فتحوّل حانوته إلى مكان تجمّعٍ وصلاة وتعليم. وبما أنه كان يكره التّعصب الدّينيّ فقد كان يهزأ بالمتزمّتين بغض النظر عن انتمائهم، وهو ألَّف معظم أشعاره في الحب الإلهيّ والتّسامح والزّهد وتمجيد المرشد والفناء في الله. وبالنظر لحياة الفقر والسياحة وفي الأرض التي كان يعيشها فقد اعتبره بعض الناس أوّل الأمر مجنونًا، إلا أنّهم عادوا ليروا فيه شخصاً متنوّرا قبل أن تُسبّب حرّيته الفكرية وصراحته في نقد المعتقد الشعبيّ مشاكل جدّية، إذ سيندّد خصومه بتعاليمه أمام الإمبراطور سيكاندر الذي سيضطهده ثم يحكم عليه بالإعدام فيُضطرّ إلى مغادرة بنارس.

آثاره الشعرية
برغم الإرث الشعريّ الغزير الذي خلفه فإنّ “كبير” لم يكتب في حياته سطراً واحداً بل اكتفى بإلقاء تعليمه وأقواله وأناشيده (أو قصائده) شفهيّاً أمام مستمعيه كما أنّه لم يعطِ لنفسه دور المرشد الرّوحيّ ولم يتّخذ مريدين. لكن محبّيه والمستمعين إليه كانوا يتوافدون بالمئات ويتابعونه في كل مكان يحلّ فيه. ووفقا للمؤرّخة شارلوت فودفيل فإن أشعار “كبير” تمّ خطّها وحفظها على يد أتباعه أثناء استماعهم إليه، وهي كُتبت بلهجة الأفادي المستخدمة آنذاك في شمال الهند ويتخلّلها الكثير من الكلمات العربيّة والفارسية.
وأشهر دواوين “كبير” هو ديوان “بيجاك” (وهي كلمة تعني “بذرة” و”مفتاح” في آن واحد) الذي جمع نصوصه بجفان داس عام 1600م وتُرجم إلى لغات عديدة بينها التّرجمة البنغاليّة وهي التي اعتمدها الشّاعر طاغور لنقل مائة نصّ منها إلى اللّغة الإنجليزيّة. وفي مطلع القرن العشرين نقل الفيلسوف الفرنسيّ أندريه جيد عن ترجمة طاغور 22 نصّاً إلى الفرنسيّة قبل أن تُقدِم الكاتبة الفرنسيّة هنرييت ميرابو تورانس على ترجمة الدّيوان كاملاً عام 1922.

مفارقة
عاش “كبير” حياة سياحة في الأرض ولم يتّخذ مقرّاً ثابتاً حتى سنين متأخّرة من حياته، وأدّى تجواله والشعبيّة الكبيرة التي كانت تكتسبها أشعاره إلى تحوّله إلى رمز للتّسامح والمحبّة والانعتاق الرّوحيّ، وتحوّل في نظر الملايين إلى قِدّيس وكثُر أتباعه ومحبّوه وتوافد إليه الألوف حيثما حلّ وأينما جلس، لكن كما يحصل للكثير من أقطاب المحبّة والتّسامح الدّينيّ فإنّ الكثير من الذين اتّبعوه لم يدركوا حقيقة رسالته ولم يهتمّوا بالتزام المبادئ التي علّمها بقدر اهتمامهم بتقديسه والتعصّب له، وقد ظهرت هذه المفارقة بين تعليم أهل الله وبين سلوك الأتباع جليّة بعد وفاته إذ تعارك تلاميذه وبعض الأمراء على جثمانه وإرثه، فتمّ في مرحلة أولى تشييد ضريحٍ له في مدينة مجاهر يتردّد عليه المسلمون والهندوس ليكون هذا الضّريح تجسيداً لمبادئ التّعايش والتوادِّ الهندوسيّ الإسلاميّ، لكن لم يطل الأمر حتى اندلعت صدامات بين الفريقين حول الضّريح وإدارته اضطرّ الهندوس على أثرها إلى تشييد ضريحٍ آخر له إلى جانب الأوّل.
ربما على سبيل الإدانة لهذا الاختلاف حول شاعر جسّد في حياته وشعره المحبّة والتّسامح فقد ظهرت بعد موته حكاية باتت رائجة في أوساط محبّيه ومحبّي شعره وهي رواية قد لا تكون قد حصلت فعلاً لكنّها باتت تمثّل أبلغ صورة عن الأسلوب الذي كان “كبير” سيحلّ به الخلاف حول جسده وتذكاراته.
تقول الحكاية أنّه عند وفاة “كبير” اختصم أتباعه من المسلمين والهندوس في طريقة دفنه: المسلمون قالوا يُدفن على الطريقة الإسلاميّة، والهندوس قالوا يُحرَق جثمانه وفق الطّقوس الهندوسيّة. وفيما هم يختصمون، ظهر لهم “كبير” وطلب منهم أن يفتحوا النّعش، وعندما فعلوا ذلك وجدوا مكان الجثمان كومة كبيرة من الأزهار، فاقتسموها بينهم. المسلمون دفنوا نصفها والهندوس أحرقوا النّصف الباقي.
وفي الجزء التّالي من هذا المقال نعرض لمختارات من شعر “كبير” كما نقلها عن الفرنسيّة إلى العربية الشّاعر الليبيّ عاشور الطّويبيّ.

من قصائدِ شاعرِ الحُبِّ الصّوفيِّ «كَبير»

اشتغل كبير بحياكة الألبسة قبل أن يتفرغ للتعليم والدعوة إلى الله
اشتغل كبير بحياكة الألبسة قبل أن يتفرغ للتعليم والدعوة إلى الله

1
يا عبدُ، تطلبُني أينَ؟
أنظرْ! أنا بجانبِك.
لا في معبد
ولا في جامعٍ أنا
لا في كعبةٍ
ولا في كايلاش1 أنا
لا في طقوس
واحتفالاتٍ أنا،
لا في يوغا
و لا في زهدٍ أنا.
لو كنتَ باحثاً حقيقيّاً،

ستراني
حالاً في لحظة
ستقابلني. يقول “كبير”، “يا فلان!
الإله نَفَسُ كلِّ نَفَسْ.”

2
يا صديقي!
ليكن هو مُرادُك
وأنت حيٌّ،
اعلمْ
وأنت حيٌّ،
افهم
وأنت حيٌّ:
لأنّ الخلاصَ فرضٌ
إنْ لم تكسرْ قيودَكَ
وأنت حيٌّ،
أيُّ أملٍ للنّجاة
من الموت؟
لا شيءَ سوى حُلُمٍ فارغْ،
على الرّوح أن تتّحِدَ مَعهْ
لأنّها غادرت الجسد:
إذا اُكْتِشفَ الآن،
اُكْتِشفَ لاحقاً.
إذا فَشِلنا،
ليس لنا سوى الذّهابِ للإقامة
في مدينة المَوْت.
إذا اتّحدتَ الآن،
ستحصلُ عليها فيما بعدْ.
استحمَّ في الحقيقة،
اعرفِ المرشدَ الحقيقيَّ،
ثقْ بالاسمِ
الحقيقيِّ!
يقول “كبير”: “ إنها روحُ البحث التي تُعين؛
أنا عبدُ هذه الرّوحْ”.

3
لا تذهبْ إلى حديقةِ الأزهارْ!
لا تذهبْ إلى هناكَ يا صَديقي!
حديقة الأزهارِ في داخلِك
خذْ مِقعدكَ فوقَ ألفِ بَتَلَةٍ لزهرةِ لوتُسْ،
و حدِّقْ
في الجمالِ اللّانهائيِّ.

4
يا أخي قلْ لي، كيفَ يمكنُني التخلّي عن وهمِ المايا2؟
لمّا تخلّيتُ عن علائق الأسباب، بقيتُ أشدّ قميصي عليّ
لمّا تخلّيتُ عن شدّ قميصي، بقيتُ أُغطّي جسدي في طيّاتِهْ.
ولمّا تخلّيتُ عن العاطفةِ، بقي الغضبُ؛
ولمّا تخلّيتُ عن الغضبِ، بقي الطّمعُ؛
ولمّا هُزمَ الطّمعُ، بقي الكبرياء و الصّلف؛
ولمّا انفصلَ العقلُ وأبعدَ المايا، بقي متشبّتاً بالرّسالةْ.
يقول “كبير”: “استمعْ لي، عزيزي فُلان!
من النّادرِ أن يجدَ المرءُ الطريقَ الحقيقيَّ.”

5
القمرُ يسطعُ في جسدي، لكنّ عينيّ العمياوَتَينِ لا تستطيعانِ رؤيتَهْ:
القمرُ في وجودي، وكذلكَ الشّمس.
فيّ طبلِ الأبديّةِ الذي لم يضْعُف صوتُهُ؛ لكن أذنيَّ الصُّمِّ لا تستطيعان
سماعَهْ.
طالما بقيتْ دعوى الإنسانِ: هذا “أنا” و هذا “لي”
فإنّهُ لا قيمة لأعمالِه
وعندما يموت كلُّ الحبِّ لـلـ “أنا” و للــ “لي” يكتملُ عملُ المولى.
ولا هدفَ للعملِ سوى بلوغِ المعرِفة
وحين تأتي المعرفةُ، يوضعُ العملُ بعيداً.

من أجلِ الثّمرةِ تتفتّحُ الزّهرةْ
حين تأتي الثّمرةُ تذبُلُ الزّهرة.
المسكُ في الظّبيِ، لكنّهُ لا يبحثُ عنهُ في داخلِهْ:
فهو يجوبُ البراري بحثاً عن العشب.

6
عندما يظهرُ نفسُه بنفسِهْ
يأتي المولى إلى عالمِ الظّاهر
فيصبح ممكنا أن نشاهدَه
كما البذرةُ في النّباتْ،
كما الظلُّ في الشّجرة،
كما الفراغ في السّماء،
كما أشكالُ اللّانهائيِّ في الفراغ
لذا مِن وراء اللّانهائيِّ، يأتي اللّانهائيُّ
ومنَ اللّانهائيِّ يمتدّ النّهائيُّ.

الكائنُ موجودٌ في الله واللهُ موجودٌ في الكائن:
مُختلفانِ هما على الدّوام، مُتّحدان هما على الدّوام.
هو ذاتُه الشّجرةُ والبِذرةُ والكائناتُ المِجهريّة
هو ذاتُه الزّهرة والثّمرة، والظّلُّ.
هو ذاتُه الشّمس والضّوءُ، واللّطيفُ.
هو ذاتُه الخالقُ، وهو سرابُ الوجودِ الظّاهرْ
هو ذاتُه الأشكالُ المتعدّدةُ والفضاءُ اللّانهائيُّ
هو النَفَسُ وهو الكلمةُ وهو المَعنى.
هو ذاتُه الحدُّ واللّاحدُّ وهو وراءَ المحدودِ واللامحدودْ
هو الطّاهرُ، وهو العقلُ الجوهريُّ في الخالقِ والمخلوقْ

الرّوحُ السّاميةُ تُرى في داخل الرّوحْ،
النقطةُ تُرى في داخل الروح السامية،
و في داخل النّقطةِ، يُرى الانعكاس مرة ثانية.
“كبير” مبارك إذ أُعطيَ هذه الرؤية المتسامية!
7
في داخل هذا الوعاء التّرابي أكواخٌ وبساتينْ،
وفي الدّاخلِ خالقُ كلِّ شيء
في داخل هذا الوعاء البحار السّبعة والنّجوم التي لا تُحصى.
في الداخل المحكّ وعيّاري الجواهر
وفي داخل هذا الوعاءِ، الصّوتُ الأبديُّ، و الينبوعُ المتدفّقُ إلى أعلى.
“كبيرٌ” يقول: “استمعْ لي، يا صديقي! في الدّاخلِ حبيبي و مولايْ”

8
آهٍ، كيف يمكنُني أن أعبّرَ عن الكلمةِ الخفيّة تلكْ؟
آهٍ، كيف يمكنُني القولُ هو لا يشبه هذا، وهو لا يشبه ذاك؟
لو قلتُ إنّه في داخلي، يخجلُ الكونُ:
لو قلتُ هو بدوني، فهذا باطلْ.
هو يجعلُ عالمَ الباطنِ وعالمَ الظّاهر واحداً لا يتجزّأ
الوعي واللّاوعي، كلاهما بساط لقدميه.
هو ليس ظاهراً ولا خفيّاً، هو ليس مُعلنا ولا غيرَ مُعلن:
لا توجد كلماتٌ يمكن أن تُخبرَ عنه.

9
إليكَ يا حبيبي اجتذبتَني!
كنتُ نائما في حُجرَتي، وأنت أيقظتَني.
ضربتني بسوطك!
كنتُ غارقا في أعماق بحرِ هذا العالم،
وأنت أنقذتني: حضنتني بذراعيك!
كلمةٌ واحدةٌ فقط لا ثانيَ لها-
وجعلتَني أمزّق كلَّ قيودي!
“كبيرُ” يقول: “أنتَ جعلتَ قلبكَ وقلبي واحدا”

أوساط عديدة في الهند تعتبر أن مؤسسة طائفة السيخ غورو ناناك تأثر بقوة بأفكار كبير
أوساط عديدة في الهند تعتبر أن مؤسسة طائفة السيخ غورو ناناك تأثر بقوة بأفكار كبير

10
لعبتُ ليلَ نهارَ مع رفاقي،
وأنا الآنَ في خوفٍ عظيم.
قصرُ مولاي في أعلى عليّين، قلبي يرتعد لأصعدَ دَرَجَهْ
واجبٌ عليّ ألّا أكون خجولاً، إذا رغبتُ في الاستمتاع بمحبّته.
على قلبي أن يلتصقَ بمحبوبي، عليَّ أن أخلعَ حجابي،
عليَّ أن ألاقيه بكلّ كياني
على عينيّ أن تستعرضا حفلَ قناديلِ الحبّ.
“كبيرٌ” يقول: “استمع لي، يا صديقي: هو يفهم المحبّين
إذا كنتَ لا تشعرُ بالشّوقِ إلى حبيبك،
لا جدوى أن تزيّن جسدك،
لا جدوى من وضع المراهم على جَفنيك.”

11
يا بَجعةُ، أخبريني قِصَّتَك القديمة.
يا بَجَعةُ، من أيّة أرض تجيئين؟
إلى أيّ شاطئ ستطيرين؟
يا بَجَعةُ، أين سترتاحين، وعمَّ تبحثين؟
يا بَجَعةُ،
هذا الصباحُ أيضاً،
يستيقظُ،
ينهضُ،
يتبعُني!
هناك أرضٌ
لا شكَّ فيها
و لا أسًى:
لا خوفَ من الموت.
و غاباتُ الرّبيع في ازهرار،
الرّائحةُ العَطِرَةُ “أنا”
وُلِدْتُ فوقَ الرّيح:
هناكَ
نَحلةُ القلبِِ مغمورةٌ عميقاً،
لا تشتهي
متعةً أخرى.

المزار الذي أقيم تكريما للشاعر كبير في العام 1521 في المكان الذي كان يجلس فيه لإلقاء أشعاره والاجتماع بالمحبين
المزار الذي أقيم تكريما للشاعر كبير في العام 1521 في المكان الذي كان يجلس فيه لإلقاء أشعاره والاجتماع بالمحبين

12
مولايَ الذي لم يَلِدْ ولم يولدْ، من الذي يخدمُك؟
كلّ نصير يَهَبُ عبادتَهُ إلى إلهٍ مِن خَلقه:
يقوم بعبادتهِ كلَّ يومٍ-لا أحد يطلبه،
الكاملُ: الرّبُّ المولى غيرُ قابل للانقسام.
هم يؤمنون بعشرةٍ من تجلياتِ الرّبوبية؛ لكنْ لا يوجدُ تجلٍّ
يمكن أن يكون الرّوحُ اللانهائيُّ، لأنّه سيتعذبُ بنتائجِ أعمالِهْ
الواحدُ العليُّ، غيرُ هذا.
اليوغيُّ والنّاسكُ والزّاهدُ، يجادلون بعضَهم بعضا:
“كبيرٌ” يقول: “يا أخي، من رأى نورَ العِشقِ، فإنّهُ نَجا.”

13
النهرُ وأمواجُه زَبَد
ما الفرقُ بينَ النّهرِ وأمواجِهْ؟
عندما ترتفعُ الموجةُ، فهي الماء؛
وعندما تتراجعُ، فهي الماءُ مرّةً أخرى
قل لي، سيدي،
أين هو الفرقُ؟
لأنها سُمِّيَتْ موجةْ،
لن يُنظَرَ لها كماء؟
في داخل المُطلَقِ المُتَسامي
تمُّر العوالمُ كحبّاتِ سُبْحةْ:
انظرْ إلى تلك السّبْحَةْ
بعينيِّ الحِكمة.

14
بين قطبيِّ الوعيِ واللّاوعيِ،
صَنَع العقل أرجوحةً:
تُعلّق عليها كلّ الكائنات وكلّ العوالمْ،
ولا تفقد الأرجوحةُ حركتها أبدا:
ملايينُ من الكائناتْ:
الشّمسُ و القمرُ في فلكيْهما هناك:
ملايينُ السنينَ تمرُّ،
والأرجوحةُ في حركةٍ دائمة.
الكلّ يتأرجحُ!
السذماءُ
والأرض
والهواء
والماءْ،
والمولى ذاتُهُ
يأخذُ شكلاً منظورا
معاينةُ هذه العجيبةِ
جعلتْ من “كبيرٍ” خادما

الإمام جعفر الصادق

تمكن في ظل مناخ التسامح العباسي من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء

عالِمُ الأمّةِ وحُجَّة الدّين

الإمامُ جعفرٌ الصّادق

من أوضح كراماته اجتماع المسلمين سُنّة وشيعة على إجلاله
والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ

كرّس حياته كلها للعلم ونأى بنفسه عن خلافات زمانه
وتجنب أهل السلطان رغم سعيهم للتقرّب منه وكسب ودّه

كتب إليه المنصور : لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!” فأجابه :
ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له

من أوضح كرامات الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه اجتماع المسملين جميعاً سُنّة وشيعة على إجلاله والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره الكبير في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ وصياغة قواعده وأحكامه، ويكفي القول إنّ اثنين من مؤسسي المذاهب الفقهيّة لأهل السّنة وهما الإمام أبي حنيفة النّعمان ومالك بن أنس حضرا مجلسه في المدينة المنوّرة وكانا من بين المتابعين لحلقته ودروسه، وبينما اعتبره الشّيعة الإماميّة أو الإثنا عشريّة سادس الأئمة المعصومين، فقد أفاض علماء السنّة والتفسير والسِّيَر في الإشادة بعلمه الوافر وبزهده وحكمته وحجّته البليغة، ولم يختلف حوله مسلمون طيلة العصور باستثناء ما كتبه بعض شيوخ المذهب الوهّابي المتزمّتين ممّا لا يبدّل في شيء من الإجماع الإسلاميّ حول هذا الإمام العَلَم الجليل من مشارق الأرض إلى مغاربها.

برز الإمام الصّادق ولمع اسمه في الآفاق في وقت عصيب كان قد شهد انتقال الملك من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسية التي استفادت من دعم الحركات الشّيعيّة للفوز بالملك وبمؤسّسة الخلافة قبل أن تبدّل مواقفها إلى محاربة تلك الحركات بعد أن وجدت فيها وفي انتسابها إلى آل البيت خطراً يهدّدها، لكنّ الإمام حرص مع ذلك على اجتناب الدخول في خلافات المسلمين والابتعاد في الوقت نفسه عن أهل السلطان وهذا رغم سعي الحكّام في العهدين الأمويّ والعبّاسي إلى التقرّب منه وكسب ودّه، وهو دعا في أجواء الاحتقان والخلاف للحفاظ على الوحدة ونبذ الفتن والاحتراب وأظهر حكمة بعيدة وصبراً وجلداً على ما ناله من ظلم الحكام اضطهاداً وسجناً دون سبب سوى الخَشية من مكانته وتهافت الناس من كافة الأقطار لأخذ العلم والسّلوك على يديه.

المدينة المنورة حيث ولد الإمام جعفر الصادق (ر) وعاش وتوفي
المدينة المنورة حيث ولد الإمام جعفر الصادق (ر) وعاش وتوفي

زمانه
يعتبر زمن الإمام جعفر الصادق عصراً مفصليًّا في تاريخ الإسلام والمسلمين، زمنٌ اتّسعت فيه رقعة الدّولة الإسلاميّة من المحيط الأطلسيّ حتى تخوم الصّين وتدفّقت بسبب ذلك الثّروات والأموال وبرزت معالم الثّروة والجاه في كلّ مكان، وبرغم استمرار الدّولة الإسلاميّة في “جهاد التّوسع” الجغرافيّ وصدّ التهديدات على الدّولة الفتيّة فإنّ السّمة العامّة كانت قد أصبحت منذ ظهور الانقسام حول الخلافة نزاعات سياسيّة وفتن لا تنتهي، لكن على صعيد آخر كان الإسلام يشهد توطيد أركانه كرسالة خاتمة عبر نشاط هائل في حفظ القرآن الكريم وتدوين السّيرة والأحاديث وإطلاق حركة التّدوين والنّقل والتّرجمة والاجتهاد في مختلف الأصول والفروع، وفي هذه البيئة الشديدة الحيويّة كان الإمام الصادق طيلة حياته بمثابة المحور الجامع لتلك الحركة المباركة وقطبها وقد كان أعلم علماء المدينة المنوّرة، لكنّه كان في الوقت نفسه أكثرهم تواضعاً وتراحماً وتلاحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة بشكل فطريّ، فكان يصدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه. وينقل الإمام الذّهبيّ في كتابه سير أعلام النبلاء عن عمرو بن أبي المقدام قوله “كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبييّن”.
إلى جانب علومه الدينيَّة، كان جعفر الصادق عالماً فذّاً في ميادين علوم وضعيّة عديدة، مثل: الرّياضيَّات، والفلسفة، وعلم الفلك، والخيمياء والكيمياء، وغيرها. وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أشهر كيميائيٍّ عند المسلمين هو أبو موسى جابر بن حيَّان المُلقّب بأبي الكيمياء. كما حضر مجالسه الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وقد نقل الأخير 12 حديثاً عن جعفر الصّادق في مؤلفه الشّهير “المُوطّأ”، بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسّس مذهب المعتزلة، وأخذ عنه أيضا ابن جريج وشُعبة والسفيانان ووهيب وحاتم بن إسماعيل ويحيى القطّان وخلق كثير غيرهم. وروى له مُسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة. وكان الصّادق حريصاً على أن تستفيد الأجيال من علمه الغزير، فكان يحثّ الناس على العلم والتعلّم والاستفادة من العلماء بقوله “سَلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي”.

غزارة علمه وفقهه
سُئل الإمام أبو حنيفة عن أفْقَهِ من رأى فقال: ما رأيت أحدًا أفقهَ من جعفر بن محمد؛ وذكر الإمام أبو حنيفة في هذا السياق أنّ الخليفة أبو جعفر المنصور لما قدم الحيرة بعث إليه فقال: “يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيِّئ له من مسائلك الصّعاب”، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلَّمت وأُذِنَ لي فجلست ثم التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة قد أتانا، فقال المنصور: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.”

من أقوله البليغة

يقول الإمام جعفر الصّادق (ر):
• إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتمّ فإنّه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها.
• إيّاكم والخصومة في الدّين فإنّها تشغل القلب وتورث النّفاق.
• الصلاة قربان كلّ تقي، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصّيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرّزق بالصّدَقة، وحصّنوا أموالكم بالزّكاة، وما عال من اقتصد، والتّقدير نِصف العيش وقلّة العيال من اليسارين.
• من أحزن والديه فقد عقّهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مُصيبة فقد حبط أجره، والصّنيعة لا تكون صنيعة لا عند ذي حسب أو دين.
• الله يُنزل الصبر على قدر المُصيبة، ويُنزل الرزق على قدر المُؤنة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذّر معيشته حرمه الله.
• أول حدود الصّداقة أن تكون سريرة الصّديق وعلانيّته لك سواء. والثّانية أن يرى شينك شَينه وزينك زَينه، و الثالثة لا يغيره مال ولا ولاية، والرّابعة لا يمنعك شيئًا تناله يدُه والخامسة وهي تجمع هذه الخصال وهي أنْ لا يُسلمك عند النّكبات.

نسبه
هو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد سُمي باسم “جعفر” تيمّناً بجده جعفر الطيّار الذي كان من أوائل شهداء الإسلام1. كُني جعفر الصادق بعدة كِنى منها: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى. ولُقّب بالصّادق، والفاضل، والطّاهر، والقائم، والكامل، والمُنجي.
والدة أبيه محمد الباقر هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.
والدته هي: أمّ فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق. أمَّا والدة أمّه فهي: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدّيق.
وقد اجتمعت في نسبه خصائص ميَّزته عن غيره كما قال الأستاذ عبد الحليم الجندي: “فجعفر قد ولده النبي مرّتين. وعليّ مرتين، والصدّيق مرتين، ليدلّ بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده”
وُلد جعفر الصادق في المدينة المنورة بتاريخ 24 أبريل سنة702م، الموافق فيه 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة. وقد وُصف الصّادق بأنّه مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض الوجه، أزهر، له لمعان كأنه السّراج، أسود الشعر، جَعِده أشمّ الأنف قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهراً، وعلى خده خال أسود2 .

تبوِّئه للإمامة
والده الإمام محمد الباقر خامس الأئمّة عند الشّيعة الإماميّة، وقد اتّخذ من ولده جعفر وزيراً، واعتمده في مهمّات أموره، في المدينة وفي سفره إلى الحجّ، وإلى الشام عندما استدعاه الخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك لأنّه كان أنْبَهَ إخوته ذِكراً، وأعظمهم قَدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة3 فكان أبوه الباقر مُعجباً به، ونُقل عنه أنّه قال: “إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبه خَلْقِه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلْقي وخُلُقي وشمائلي”. وعند أهل السّنّة والجماعة أن جعفر الصادق كان يُدافع عن الخلفاء الراشدين السابقين لعليّ بن أبي طالب، ويمقت الذين يتعرّضون لأبي بكر (جدّه لأمِّه) ظاهراً وباطناً ويغضب منهم.
آلت الإمامة، وفق مذهب الشّيعة الإماميّة، إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربيعه الرابع والثلاثين (34 سنة)، وذلك بعد أن توفّي والده مسموماً (وفق بعض المصادر مثل كتاب “الفصول المهمة “لابن الصباغ المالكي) وكان ذلك في ملك هشام بن عبد الملك، وتشير المصادر إلى أن الأخير كان وراء سمّ الباقر4. وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصّادق قال: “قال لي أبي ذات يوم في مرضه: “يا بنيّ أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم”، فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: “يا جعفر إذا أنا مِتُّ فاغسلني وكفنّي، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء”، فلما خرجوا قلت له: “يا أبتِ لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوماً تشهدهم”، فقال: “يا بنيّ أردت أن لا تُنازَع، وكرهت أن يُقال أنّه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحُجة” ووفق المعتقد الشّيعي فإنّ الإمام الباقر رغب من وراء هذا أن يُعلم الناس بإمامة الصادق من بعده. وفعلاً فقد قام الإمام الصّادق بغسل والده وتكفينه على ما أوصاه، ودفنه في جنَّة البقيع إلى جانب الصّحابة الذين تُوفّوا قبله5

يا عظيم
يا عظيم

زوجاته وأبناؤه
تزوَّج الصادق من نساءٍ عديدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبوها ابن عم زين العابدين، ومنهنّ حميدة البربريَّة والدة الإمام موسى الكاظم، واتّخذ إماء أخريات. وكان له عشرة أولاد، وقيل أحد عشر ولداً، سبعة من الذكور وأربع إناث، فأما الذكور فهم: اسماعيل (وإليه ينسب المذهب الإسماعيلي)، وعبد الله،وموسى الكاظم، وإسحق، ومحمد، وعلي (المعروف بالعريضي)، والعبَّاس. وأما الإناث فهنّ فاطمة وأسماء وفاطمة الصّغرى وأمّ فروة، وكانت زوجة الصّادق الأولى هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي أمّ إسماعيل وعبد الله وأمّ فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسية، يرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حميدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشّرع والدّين ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشّيعة وبالأخصّ نساؤهم، لورعها وتقواها وحكمتها6”.

وفاة ابنه البكر إسماعيل
كان الإمام شديد التعلّق بولده البِكْر اسماعيل وهو ما جعل قومٌ من أنصاره يظنّون أنه الإمام بعد أبيه، وهؤلاء قالوا بأنّ جعفر الصادق نصّ على إمامة اسماعيل، ثم وقع الخلاف بينهم: هل مات إسماعيل في حياة أبيه أم لا؟ والأشهر أنه مات في حياة أبيه سنة 145 هـ7 لكن على الرّغم من ذلك بقي فريق من الشيعة يعتقدون بإمامته وحياته حتى بعد وفاة والده الصّادق. وكان اسماعيل رجلاً تقياً عالماً، أمَّا أخوه عبد الله فقد اتُهم بمخالفة أبيه في الاعتقاد وأنّه عارض أخاه موسى الكاظم في الإمامة، وادّعى الإمامة بعد أبيه لنفسه، احتجاجاً بأنّه أكبر أخوته الباقين، واتّبعه حشدٌ من الناس قبل أن يرجعوا لإمامة موسى الكاظم8.

علاقة حذرة مع الأموييّن
كان موضوع الخلافة أساس النزاع بين المسلمين، وقد تفرّقت الأمة بسببه إلى فرق وطوائف كثيرة، كما عانت صراعات دمويّة لفترة طويلة. وقد رأى قسم من المسلمين -وهم أهل السّنّة- أنَّ الخلافة تكون بالشورى والاختيار كما قال الرسول محمد (ص)، فينتقي المسلمون أفضل الرجال وأكثرهم عدلاً وقسطاً وعلماً، وبناءً على هذا بايع المسلمون أبا بكر وباقي الخلفاء الراشدين من بعده. أمَّا القسم الثاني من المسلمين – أي الشّيعة – فإنّهم اعتبروا أن الرسول لم يعتمد الشّورى أساساً لاختيار الخليفة، بل إنّه أوصى بإمامة علي بن أبي طالب ثم ابنيه الحسن والحسين من بعده، وأنّ الخلافة تستمرّ بأن ينصّ كل إمام على الإمام الذي سيأتي خليفة من بعده. وبناء على ذلك عارض الإماميَّة خلافة بني أميَّة واعتبروها غير شرعية، وقامت عدَّة ثورات شيعيَّة على الحكم الأمويّ، عمد الخلفاء إلى إخمادها. ولمَّا كان جعفر الصّادق سادس الأئمة عند الشّيعة، فقد حرص الأمويّون على مراقبته تحسّباً لأيّة ثورة قد يعلنها على الحكم في دمشق9.
وزاد في حذر الأمويين أنّه وبعد وفاة الإمام محمد الباقر بفترةٍ قصيرة وتسلّم ابنه جعفر الصادق مقاليد الإمامة، خرج عمّه زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بالكوفة يريد قتاله وإرجاع الخلافة إلى بني هاشم. لكنّ الأمويين أحبطوا المحاولة وتوفّي زيد (الذي تنسب إليه طائفة الزّيديّة) متأثراً بسهم أصابه خلال المواجهة.
لكن على الرّغم من مقتل عمَّه على يد الأمويين، فإنَّ الإمام جعفر بن محمد لم يثُر على الدولة، ورفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة رغم حثّه على ذلك من قبل عدد من أتباعه، كما رفض الصادق التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر. في المُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ الصّادق رفض الثّورة على الحكومة الأمويَّة خوفاً على حياته، وكي لا يصيبه ما أصاب الحركات الشيعيَّة السابقة وقادتها ورجالها من قتل وهزائم وخسائر جسيمة 10. ويُقال أنّه أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصب الخليفة11.

“كان أعلم علماء المدينة، وأكثرهم تواضعاً وتراحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة، فكان يصــــدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه”

رفض التقرّب من المنصور
كان الإمام الصّادق مدركا لخطورة الصّراعات السياسيّة التي كانت تضرب عالم الإسلام، وبينما رأى كثيرون في تلك النزاعات فرصة للثّورة واستعادة الخلافة لآل البيت فإنّ الإمام الصّادق تمسّك بالابتعاد عن السّياسة سواء معارضة الحكّام أو التقرّب منهم، وبينما كان العباسيّون يُحضِّرون لضرب الدّولة الأمويّة، حاول أبو مسلم الخراساني أن يزجّ الإمام في الثورة العبَّاسيَّة نظراً لكلمته المسموعة خصوصاً بين الشّيعة الذين يرونه معصوماً، وبين سائر المسلمين الثائرين، لكنّه رفض، وتملَّص من الدّعوة، وتفرَّغ لما اعتبره الهدف الأهمّ وهو تعزيز مناعة العقيدة الإسلاميّة في مواجهة الأفكار الدّخيلة والمذاهب الفكريَّة المنحرفة التي انتشرت في تلك الفترة. إلا أنّه وعلى الرّغم من انصراف الإمام جعفر إلى شؤون التّعليم والإرشاد وابتعاده عن السياسة، فإنّه بقي محطّ أنظار الخليفة العبَّاسيّ، لا سيَّما وأنّ عدداً من أتباع زيد بن علي انضمّوا إلى مجالسه واستمعوا لكلامه ومواعظه وإرشاداته بعد أن لاحقهم العبَّاسيّون بلا هوادة12، فأقدم العبَّاسيّون على اعتقال الصّادق غير مرَّة، وزُجَّ بالسّجن لفترة من الزّمن على أمل أن تنقطع الصّلة بينه وبين تلاميذه الذين يُحتمل أن يهددوا استقرار الدّولة وينفّذوا انقلاباً على الخلافة. وقد تحمَّل الصّادق ما تعرَّض له من مضايقات من قِبل الحكومة العبَّاسيَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمرّ يقيم مجالسه العلميَّة ومناظراته الدينيَّة مع كبار علماء عصره من المسلمين وغيرهم من معاصريه.

الأثر الفقهيّ الكبير للإمام الصادق
لكن رغم تخوّف العباسيين من أصناف المعارضة وخصوصا الحركات الشّيعية ومناصريّ آل البيت فإن عهدهم كان من أكثر عهود الإسلام انفتاحا وتقبّلا للتنوّع الفكريّ وتميّز بهامش من الحريّة الفكريّة جعل حتى الملاحدة يناقشون في حلقات العلم دون خوف.
وفي ظلّ هذا المُناخ تَمكَّن الإمام الصّادق من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الكوفة: “أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول”حدثني جعفر بن محمد13” مع العلم أنّ بين الكوفة والمدينة (التي كانت معقل الإمام الصّادق) مسافة شاسعة وهذا يدل على مدى التأثير العلمي الذي أحدثه الإمام جعفر الصّادق في أرجاء العالم الإسلامي كافّة. بذلك، وبمجرّد أن ارتفع الضّغط الذي كان يمارسه الأمويّون على مدرسة الإمام بدأ الطلّاب يتوافدون على مدرسته من كل حدبٍ وصوبٍ، ينقل أسد حيدر فيقول: “كان يؤمّ مدرسته طلّاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية، وذلك بسبب ارتفاع الرّقابة وتراجع الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمّد أولادها من كل قبيلة14” ويقول الشيخ محمّد أبي زهرة في كتابه “الإمام الصّادق”:
“إن للإمام الصّادق فضل السّبق، وله على الأكابر فضل خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف النّاس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلاً. وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزّهري، وكثير من التّابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جعل الله له الشّرف الذّاتيّ والشّرف الإضافيّ بكريم النّسب، والقرابة الهاشميّة، والعترة المحمديّة15”

قبر الإمام جعفر الصادق (ر) في البقيع قبل هدمه
قبر الإمام جعفر الصادق (ر) في البقيع قبل هدمه

مناظراته الشّهيرة
ويدخل في مساهماته العلميّة والفقهيّة الوفيرة مناظراته العلميّة والدينيّة مع العلماء والفقهاء وغيرهم من أتباع الفرق والفلاسفة، وقد اتّبع الإمام الصّادق منهجاً منطقياًّ يُبرز رجاحته وإحاطته الواسعة وقدرته على استحضار كافة جوانب الموضوع وحضور البديهة في الردّ، ومن تلك المناظرات المدوّنة: مناظرة له مع الملحدين ومناظرة مع أبي حنيفة في القياس وفي حكم التوسل بالنبي، ومناظرة مع رؤساء المعتزلة، ومناظرة مع طبيب هندي. ومناظرة مع عبد الله بن الفضل الهاشميّ ومناظرة مع الزّنادقة ومناظرة في الحكمة من الغيبة. ولم تكن الأسئلة التي تُطرح على الإمام الصّادق مختصّة بالمسائل الفقهيّة أو مسائل الحديث، فقد كان عصره عصر ترجمةٍ وعلوم، وكان يأتيه علماء ومفكّرون متأثرين بتيّارات الفلسفة اليونانيّة التي كانت منتشرة في تلك الحقبة من الزّمن، ويُلاحظ هذا المعنى واضحاً في نقاشات الإمام الصّادق مع عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان يشكّك في الدين والعقيدة الإسلامية من منطلق فلسفي وكلامي.
مذهبه ومنهجه الاجتهادي
يتوافق منهج الإمام جعفر ومنهج علماء السنَّة في أمور أساسيَّة، فهو يعتمد كمصدر للتشريع بالتّدريج القرآن والسنَّة النبوية ثم الإجماع ثم الاجتهاد. لكنه -حسب المصادر الشيعية اللاحقة- أضاف إلى ذلك أمراً أساسيّاً هو الاعتقاد بالإمامة وما يترتّب عليه من تقييم للصّحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت. ويترتّب على المفهوم الشّيعي للإمامة القول بعصمة الإمام. فكانت اجتهادات الإمام غير قابلة للطعن، لأنّه معصوم عن الخطأ والنّسيان والمعصية؛ بل إنَّ أقواله واجتهاداته تدخل حكماً في إطار السنَّة16.

وفاته
توفي جعفر الصادق سنة148 هـ، الموافقة لسنة 765م كما نصّت على ذلك بعض المصادر التاريخيّة؛ قال ابن كثير( المتوفى سنة774 هـ): “ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة، وفيها توفي جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق، وقال ابن الأثير (المتوفى سنة630 هـ) في تأريخه للأحداث التي وقعت في سنة 148 هـ : “وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يُزار هو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب”. وقد كان الإمام جعفر الصادق في آخر لقاءاته مع أبي جعفر المنصور يقول له: لا تعجل، فقد بلغت الرّابعة والستّين وفيها مات أبي وجدي فرأى بعض الباحثين أنّ هذه الكلمة توحي بأنّ الإمام جعفر الصادق كان يشعر باقتراب أجله17.
ورغم قول بعض المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على يد الخليفة العبَّاسيّ أبو جعفر المنصور فإنّ كتب السّير والمدوّنات المعتمدة لم تشر إلى ذلك، واستند أصحاب نظريّة اغتيال الإمام الصّادق أنّ الخليفة المنصور كان يغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فيه: “هذا الشّجن المُعتَرِضُ في حُلوقِ الخلفاءِ الّذي لا يجوزُ نفيُهُ، ولا يحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعني وإيّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِكَت في الذرّيّة، وقُدِّست في الزُّبر، لكان منِّي ما لا يُحمدُ في العواقبِ، لِمَا بلغني من شدّة عيبِهِ لنا، وسوءِ القول فينا18” وتدّعي تلك المصادر أنّ المنصور حاول قتل الإمام الصادق أكثر من مرَّة، وأرسل إليه من يفعل ذلك، لكن كلّ من واجهه هابَه وتراجع عن قتله، لكنّ مصادر أخرى رفضت نظريّة موت الصّادق مسموماً بالتّشديد على أنَّ المنصور كان يخشى أن يتعرَّض للإمام، لأنّ ذلك سيؤدّي لمشاكل جمَّة ومضاعفات كبيرة19. وممّا قيل عن الفتور الذي كان بين الصّادق والمنصور، أنَّ الأخير كتب له يقول: “لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!”، فأجابه جعفر الصّادق: “ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها وفي نقمة فنعزيك بها”. فكتب إليه مجدداً: “تصحبنا لتنصحنا”. فكتب الصادق إليه: “من يطلب الدّنيا لا ينصحُك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك20”بالمُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ المنصور لم يُقدِم على تسميم جعفر الصّادق؛ على الرّغم من تخوّفه من أيّ انقلاب مُحتمل بقيادته، فقد كان يجلّه ويحترمه، ويرعى فيه صلة الرّحم وحقوق العمومة، وحزن عليه أشد الحزن لمّا توفّي لأسباب طبيعيَّة، بعد أن تقدَّم به العمر وضعف جسمه. وفي رواية لليعقوبيّ أنّ اسماعيل بن عليّ قال: “دخلت على أبي جعفر المنصور وقد اخضلّت لحيته بالدّموع وكأنّه متأثّر من مصيبة وألمّ به أمر جلل” وقال لي: “أما علمت بما نزل بأهلنا؟” فقلت: “وما ذاك يا أمير المؤمنين؟!” قال: “فإنّ سيّدنا وعالمنا وبقيّة الأخيار منا توفّي!!” فقلت: “ومن هو يا أمير المؤمنين؟” قال: “ابن عمّنا جعفر بن محمد” قلت: “أعظم الله أجر أمير المؤمنين! وأطال بقاءه” فقال: “إن جعفراً ممن قال الله فيهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، وكان هو من السابقين في الخيرات21 كما لم يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “مقاتل الطّالبييّن” أن الإمام الصادق قتل مسموماً.

بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم

“رفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة أو التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونــه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصـــب الخليفة”

أقوال علماء السنَّة فيه
يعتبر الإمام الصّادق أكثر الأئمة رواية في كتب الحديث عند طائفة الإثني عشريَّة، بل يُطلَق على الطائفة الشّيعية اسم الجعفريّة بسبب نسبة المذهب بمجمله إلى الإمام جعفر الصّادق، وبناءً على ذلك فإنّه لا توجد حاجة للاستشهاد بآراء العلماء الشّيعة لأنّهم مجمعون على عصمته وحُجيّة قوله، لكن الملفت وما يكتسي دلالة كبيرة على المكانة التي يحتلها الإمام جعفر الصّادق هو التبجيل الشامل الذي حظي به بين أعلام السنّة، ومن ذلك أنّه يعتبر شيخ الطريقة الخامس في سلسلة المشايخ الأربعين للطّريقة الصّوفيّة النقشبندية. وهنا بعض أهم شهادات كبار علماء السنّة في الإمام جعفر الصّادق:
قال الإمام النّووي عنه : “اتَّفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته”
وقال عمرو بن أبي المقدام: “كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين”.
وقال ابن خِلِّكان: كان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصّادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر”
وقال محمّد الصبّان: “وأمّا جعفر الصّادق فكان إِماماً نبيلاً. وكان مُجاب الدّعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه”22
وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السِّيَر: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرّئاسة
قال الشيخ محمَّد بن طلحة الشّافعي المُتَوفّى في سنة 652 هـ :”هو من عُظماء أهل البيت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيِّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه23”
وقال مالك بن أنس إمام المالكية: “وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصّادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً ويقول في كلمة أخرى: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد.
وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: “كان جعفر الصادق – من بين أخوته – خليفةَ أبيه، ووصيَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعته بالفضل؛ وكان أنبهَهُم ذِكراً، وأجلَّهُم قدراً”24
قال حسن بن زياد: “سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفْقَه من رأيت؟ فقال: “ما رأيت أحداً أفقَهَ من جعفر بن محمّد”.

الهوامش

1. راجع: الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 130
2. منبر فاطمة: الإمام جعفر الصّادق
3. موقع الشّيخ علي الكوراني العاملي. الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام): الفصل الخامس
4. A Brief History of The Fourteen Infallibles. Qum: Ansariyan Publications. 2004
5. مؤسّسة الرسول الأعظم قصّة الإمام محمد الباقر عليه السلام 2008
6. جمعيَّة الأشراف: فصل في ذكر ترجمة الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه.
7. تعريف بفرقة الإسماعيلية.
8. مؤسّسة الإمام الصّادق: المقالات العربيَّة، العقائد. لماذا حُرم السيد عبد الله بن جعفر الإمامة بعد شقيقه اسماعيل الذي مات في حياة والده؟
9. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions). USA: Facts on File
10. 108 The Sources of Esotericism in Islam – Page
11. Armstrong, Karen (2000). Islam: A Short History
12. المصدر نفسه
13. رجال النّجاشي، ترجمة الحسن الوشّاء، برقم 79.
14. أسد حيدر، الإمام الصّادق
15. محمد أبو زهرة، الإمام الصّادق: 30.
16. الوافي في الفلسفة والحضارات. تأليف: عبده الحلو، محمد عبد الملك، د. كريستيان الحلو. دار الفكر اللبناني (1999). بيروت – لبنان. صفحة: 159
17. الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 369.
18. شبكة النبأ المعلوماتيَّة: فاجعة استشهاد الإمام جعفر الصّادق.
19. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions)
20. بوّابة صيدا: إسلاميَّات…مع الصّحابة والصّالحين. الإمام جعفر الصّادق والمنصور العبّاسي
21. الرّابطة العلميَّة العالميَّة للأنساب الهاشميَّة: الإمام جعفر الصادق
22. إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار ص 208
23. مطالب السَّؤول في مناقب آل الرّسول: 436.
24. مناقب آل أبي طالب 3/396.

السياحة الدينية في منطقة حاصبيا التيميّة

المعالـــــــمُ الدّينيّةُ فـي منطِقـــــــــة حاصبيّـــــــــا

علامــاتُ حضـارةٍ وتاريــــخٍ تستحـقُّ الزّيــــــــارة

كتبنا في عددٍ سابقٍ من الضُّحى عن ميزة في منطقة حاصبيّا تفرّقها عن مناطقَ كثيرةٍ من لبنانَ وهي غنى المنطقة بالمعالم الدينيّة والمقامات التي يزورها الناس بهدف أخذ العبرة والتبرّك وذكر الله تعالى في رحابها، وأوّل ما تتميز به تلك المعالم والمزارات أنّها مقصودة ليس فقط من الموحّدين الدروز بل من الناس على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وهذا يدل على كرامة لأصحاب تلك المزارات الذي شدد القرآن الكريم على أنّ الإسلام لا يفرق بينهم:
}قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ{ (البقرة 136)
أما الأمر الثاني الذي تتميز به تلك المزارات فهو احترام الموحّدين الدّروز بخاصة لها وحرصهم على خدمتها وقد قام أفراد منهم عبر الأزمنة ببناء أكثرها والعديد منها يتولّى الموحدون خدمتها ويعتبرون ساكنيها أو من أقيمت على نيّتهم من أنبيائهم وقديسيهم. وهذا يشهد على اتّساع حدود التّوحيد وشموله وانفتاحه كما أوصى الإسلام وكتاب الله العزيز.
في هذه المقالة سنقوم مع القارئ بجولة على تلك المعالم الرّوحيّة على سبيل التعريف بمنطقة حاصبيّا وغناها بآثار الأقدمين الصّالحين ومن ثم التّعريف بكلّ من تلك المزارات وإعطاء معلومات موجزة عن أصحابها وعن تاريخها وقصدنا أيضا تشجيع قرائنا الكرام على زيارة المنطقة واستكشاف معالمها والتبرّك بقديسيها وصالحيها لأنّ في ذلك كسب للفائدة وللأجر في آنٍ معا.

مقام النّبي حزقيال
أولاً مع الزائرين لمنطقة حاصبيّا عبر طريق- بيروت – صيدا النّبطية، والذين يمكنهم أوّلاً أن يجتازوا بلدة مرجعيون متّجهين شمالاً نحو بلدة بلاط حيث سيواجههم مزار ومدفن النّبي حزقيل (حزقيال) (ع) وهو بناء قديم يعود مع السنديانة التي أمامه إلى مئات السنين، وممّا يشار إليه عند ترميم وتجديد بنائه أيام العهد العثماني ما رواه أمامنا رجل من آل حسيكي في بلدة بلاط إذ قال إنّ جدّهم من بلدة بيصور الشّوفيّة ومن آل ملاعب قد أتى به الأتراك لتجديد البناء، غير أنّ ما صادفه كان يدعو إلى الدّهشة والاستغراب إذ إنّ ما كان يبنيه في النّهار كان يُهدم أثناء الليل. ولما تكرّر الأمر ذهب إلى مشايخ البيّاضة وسألهم عن سبب ذلك، فكان جوابهم أن سألوه عمّن يدفع له أجر عمله، فقال إنّها الدولة (العثمانية) فأجابوه: هذا هو السّبب، فإن أردت إكمال البناء فعليك أنْ تشتغل لوجه الله دون أجر، وذلك ما حدث واستكمل البناء بإذن الله. ويضيف الرّجل إن القوّات الإسرائيليّة أجرت حفريّات أمام المزار عند اجتياحها لبنان في العام 1982 واكتشفت مدافن من الصّخر الطبيعي يتّسع كلّ منها إلى ثمانية نووايس لكن تم ردم الموقع في ما بعد لأسباب لا نعرفها.
وعن النّبي حزقيال تقول بعض المراجع المخطوطة إنّ من أخبار سيرته عليه السلام، أنّه كان من جملة أسرى بني إسرائيل في عهد نبوخذ نصّر الكلداني وكان عددهم سبعين ألفا، على ما قيل، فأقام فيهم مدّة ثم تنبـّأ بهم عشرين عاما وكان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المُنكر، فصدّقته القِلَّة وكذّبه الكَثرة منهم. فلما ألحّ عليهم بالإنذار وبالغ في النّصح والتّذكار ردّوا كلمته وقتلوه غير خائفي الله من فعلتهم، وهذه عاداتهم في قتل الأنبياء.

النبي رؤبيل حاصبيا
النبي رؤبيل حاصبيا

 

مقام الداعي عمار في ابل السقي
مقام الداعي عمار في ابل السقي

مقام الدّاعي عمّار
بعد زيارة ذاك المقام الشريف، ينتقل الزّائرون إلى بلدة إبل السقي، حيث أقيم على التلّة المقابلة لبلدة بلاط لجهة الغرب مقام في المكان الذي يُعتقد أنّه شهد سقوط أوّل شهيد لدعوة التوحيد هو الداعي حسن بن يقظان المعروف بالدّاعي عمّار، وأصله من طرابلس الغرب وقد أتى إلى وادي التيم لردع جماعة مارقة عن البدع والأفعال الرديّة، فلمّا اخبرهم بالمهمة التي بُعِث بها وبيّن لهم قُبح أعمالهم أنكروا وأعرضوا وأصرّوا ولم يتركوه بل أوقعوا به وجرحوه، ولمّا خرج من عندهم تبعوه إلى أرض إبل السّقي فدلّهم على مكان تواجده رجل من آل بصبوص فقتلوه وغيّبوه إلى رجمة من الحجارة، ويُعتقد أنّه المكان الذي أقيم عليه المقام الحالي على نيّة صاحبه.

مقام النبيّ شُعيب
بعدها يمكن الانتقال إلى بلدة الفرديس حيث مقام النبي شُعيب (ع)، لكن يمكن للزّائرين وهم على الطريق بين مرجعيون وحاصبيّا أن يعرّجوا إلى مكان يدعى الهرماس على نبعٍ صغير ملاصق للطريق المذكوره ويُعرف بنبع مار جرجس أو الخضر عليه السلام، وهو نبع يعتقد بعض الناس أنّه مبارك، وحتى وقت ليس ببعيد كان الناس يأتون إليه بكل إمرأة عاقر أو بالبنات اللّواتي ينشد ذويهِنّ تزويجهنّ للاستحمام في مياهه، لكن هناك شرط على الناذر والمنذور هو التزام الصمت وعدم التحدّث لأحد وذلك اقتداء بالسيّدة مريم التي أمرها القرآن الكريم بذلك بعد ولادة السيّد المسيح بقوله جلّ من قائل:
}فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا{ (مريم: 26) وبالمناسبة فهذا النّبع يُزار من جميع الطّوائف والمذاهب.
أما مقام النّبيّ شعيب (ع) في بلدة الفرديس فكان يُزار سابقاً من قبل سكّان البلدة في القرون السّابقة وهم من الطائفة الأرثوذكسيّة ويتباركون به. كما أنني كنت أشاهد في طفولتي النّسوة من النّصارى وهنّ يزرنه ويشعلن السّرُج من زيت الزّيتون لإيفاء النذور. وهو في الواقع مقامٌ بديع البُنيان، أقيم فوق الكهف الذي كان كان يسستظلّه النبي شعيب في نسكه وصلواته، وتكتنف البناء أشجار الصّنوبر من جهاته الأربع، ويوم العُطَل كأيّام الجمعة والسّبت والآحاد ربّما لا تجد مكاناً للجلوس مع عائلتك في بهوه أو في الأماكن المحيطة به لكثرة الزوّار ومن شتى المناطق والبلدان.
وسيرته كما ورد ذكره في القرآن الكريم أنّه وُلد في مدْيَن على ساحل الحجاز لجهة البحر الأحمر وكان قومه (قوم مديَن) يغشّون الناس في البيع والشراء، فإذا باعوا شيئاً استعملوا المكيال الصّغير، وإذا اشتروا استعملوا المكيال الكبير، فأرسل الله تعالى إليهم النبيّ شُعيب يأمرهم بعبادة الله وعمل الخير والصّدق في البيع والشراء. وذات يوم جاء النّبيّ شعيب تاجر من إحدى القرى وشكا إليه أنّ تجار المدينة باعوا له مئة كَيلة فلمّا كالها وجدها ثمانين كَيلة، فغضب النبيّ على هؤلاء التّجار المخادعين، وأخذ بيد التاجر وخرج معه إلى السّوق يدعوهم إلى التّوبة وإعطاء التاجر حقّه وينذرهم من عاقبة أعمالهم ومن عقاب ربّ العالمين، لكنّهم استمرّوا في ضلالهم وهددوا شُعيباً والذين معه بالطّرد، فابتهل النبيّ شعيب إلى الله تعالى قائلاً: }رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ{(سورة الأعراف:89).
آنذاك سلّط الله عليهم ريحاً صرْصَراً ثم زلزالاً قويّاً فأحرقهم وأهلكهم. وتقول الرّوايات إنّ النبي شعيب انتقل إلى بلادنا أي من شماليّ فلسطين إلى جبل عامل ووادي التّيم، وإنّ إحدى دلائل تواجده لمدّة في المنطقة وجود مزار له في حطّين في فِلِسطِين ومزار له في الفرديس يقال أنه بُني فوق الكهف الصّخري الذي كان يتعبّد فيه، كما يوجد له مقام في “ السّفينه ” في موقع تابع لبلدة الكفير وهناك بئر وجامع على اسمه في بلدة بليدا العاملية، وقد اشتغل النبيّ شُعيب بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر والدّعوة إلى توحيد الله ونبذ الأصنام والضَّلال. وتُوفي شُعيب ودُفن في مغارة في جبل حِطّين من أعمال فلسطين المحتلّة.
وقد ورد ذكر النبي شعيب 11 مرّة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى:
}وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلــه غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذلكم خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{(الأعراف:85)

3مقام-النبي-حزقيال-في-بلاط
مقام-النبي-حزقيال-في-بلاط

“احتضان الموحّدين الدّروز للمقامات والمزارات الرّوحية على تنوّعها يشهد على اتّساع التّوحيد وشموله وأنّ عمره من عمر الدّيانات السماويّة جميعها”

في رحاب خلوات البيّاضة
بعد الجولة على المزارات يمكن التوجّه لزيارة مباركة لخلوات البيّاضة في حاصبيّا منارة التّوحيد وركن اجتماع الأمّة وقِبلة المؤمنين الزّاهدين، وتقع خلوات البيّاضة على هامة رابية من الرّوابي التي تحيط ببلدة حاصبيّا لجهة الجنوب، وهذه الرّابية ربّما قّدستها وأعلت مكانها كموقع إقامة وتنقّلات الدّعاة الأوّلين في شِعاب وهضاب وادي التّيم وكذلك الإقامة الدّائمة فيها منذ مئات السنين للزّهاد الموحّدين الذين نذروا أنفسهم للعبادة وخدمة المؤمنين والزائرين فأصبحت رمزاً للبساطة والفَقر والتّواضع في سبيل الله وبرز منها مشايخ أكابر رفعوا راية الحق وكانوا بمثابة الحصن الحصين للطّائفة في المُلِمّات. وأهمّ ما في خلوات البيّاضة ابتعادها عن كل ما يفرّق الموحّدين فلا توجد هنا سياسة وولاءات وانتماءات بل اتّفاق على الوحدة ونبذ الفرقة وشؤون الدنيا وفي رأسهاسهأسها السّياسة.
نشأت البياضة في أواسط القرن الحادي عشر للهجرة أي نحو 1650 ميلاديّة، وهي لتاريخه، بالإضافة إلى الخلوة الكبيرة أو ما يُعرف “بالمجلس” تحيط بها أكثر من خمسين خلوة لجميع المناطق والعائلات التوحيديّة، ومن أهمّ مميّزاتها تواضع وبساطة المفروشات والزّهد والتقشّف في المأكل والمشرب من قبل سكانها. وفوق هذا وذاك مُحرّم العيش فيها من قبل الأزواج ومهما تكن الظّروف صعبة عند المتعبّدين الكبار، فالعُرف الدّيني يحتّم عليهم البعد عن كل الشّبهات، إذ إنّ العيش فيها فقط للعبادة والتّفقّه والتعلّم وحفظ ما هو مطلوب ومعلوم وليس التّنعّم أو المفاخرة أو المباهاة، والزّيارات مسموح بها للجميع بعد استئذان الحرّاس أو القيّمين عند مدخلها.

المجلس-الكبير
المجلس-الكبير

مزار النّبي رؤبين
بعدها ينتقل الزّائر من خلوات البيّاضة لزيارة مقام وقبر النبي رؤبين في حاصبيّا وموقعه عند أسفل البلدة بالقرب من القصر الشّهابي وبجانب مجرى ماء شتوي يُعرف بالبصيص.
والنبي رؤبين هو من الأسباط الاثني عشر من أولاد يعقوب (ع) وهو أكبرهم. وكلمة الأسباط في اللغة العربية ومعناها ولد الولد. أمّا الأسباط في بني إسحاق فهم كالقبائل في بني اسماعيل، وقوله تعالى في القرآن الكريم : }وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا{(الأعراف: 160)

“مقام النبي شُعيب في الفرديس مقصد يتمتّع بشعبيّة كبيرة بين مختلف الطــّوائف ويزار من مختلــــف مناطق لبنان”

النبي شعيب الفرديس
النبي شعيب الفرديس

مزار السّتّ صالحة
وبعد الانتهاء من زيارة بلدة حاصبيّا ينتقل الزّائرون إلى بلدة ميمس حيث مزار السّتّ صالحة كمال، التي ولدت في مطلع القرن التاسع عشر وتُوفّيت قبيل أحداث عام 1860، وكانت منذ ولادتها ضريرة، وكانت تتقن اللغة اليونانية بالإضافة إلى العربية. ويوم أحرق ابراهيم باشا المصري الحيّ الجنوبيّ من بلدتها ميمس والذي يعرف بالبيسانيّة سابقاً عام 1837 بقيت مع إمرأة أخرى ضريرة ورجل آخر ضرير في أحد أقبية القرية وإذ بجنود من بلاد البلقان يتجوّلون في القرية ويتكلّمون اللّغة اليونانية، فخاطبتهم بلغة بلادهم وبكلام قاسٍ: لماذا أحرقتم قريتنا، ولماذا هذه الأعمال الوحشيّة؟ ممّا أدهش الجنود، فتقدّم أحدهم وخاطبها: هل أنت من اليونان؟ فأجابته: نعم، آنذاك أخرج من جيبه كتاباً دينياً وقدمه إليها قائلاً: خذيه، ربّما قُتِلتُ في أحدى المعارك فأنت أولى به. هذا الكتاب انتقل بعد السّتّ صالحة فيما بعد إلى خلوات البيّاضة وبقي يُتَداول به حتى إحراقها عام 1925 من قبل المستعمر الفرنسي إذ فُقد مع جميع محتوياتها.
ويُنسب إلى السّتّ صالحة كلام عن ملامح آخر الزّمان جاء فيه: “عندما تشربون من الحيط، وتضيئون بالخيط وتكرّجون الغربال، أي الدولاب، فيصل إلى عريش مصر وأخيراً تأتي بلادنا عساكر ترتدي زي الضفادع (الثياب المرقَّطة)..أمّا مزارها ومدفنها عند مدخل بلدة ميمس الغربي الجنوبي فهو بناء لائق ويُسمح بزيارته في كل الأوقات.
بعد ذلك يمكن الانتقال إلى بلدة الخلوات حيث يقع في ظاهرها لجهة الشرق معبد النّبيّ “شئت” وهو معبد مقام ربّما فوق معبد رومانيّ أو وثنيّ قديم، ويعود تاريخه إلى آلاف السّنين، واللّافت للأمر الناووس الضّخم أمامه وهو كناية عن حجر كبير مجوّف من داخله ليتّسع الجثمان وفوقه غطاء صخري من قطعة واحدة، ويروي الكثيرون من المُعْمرين عن المستعمرين السابقين كالأتراك والفرنسييّن وسواهم أنّهم زاروا هذا المدفن وربّما قاموا ببعض الحفريات إذ لتاريخه لم تزل هناك العديد من النّواويس وبقايا هياكل وأعمدة، وحديثاً أقام أبناء البلدة بناء يليق بالعبادة والاستقبال وفيه ما يحتاجه المقيمون والزائرون.
ويروي عن هذا المقام الشيخ شرف الدين عمار من مزرعة النبيّ شِئت، وهو من مرافقي وتلامذة الشيخ الفاضل (ر) أي منذ حوالي 375 سنة إذ يصفه بقوله إنّ أمامه سنديانة ربّما هي السّنديانة الحاليّة والتي يلزم لإحاطتها سبعة رجال.

مقام الشّيخ الفاضل
أمّا مسك الختام فزيارة سيّد المقام والمقال الوليّ الطّاهر الشيخ محمد أبي هلال والمعروف بالشّيخ الفاضل في بلدة عين عطا، ومدفنه ومزاره فوق تلّة صخريّة تعانق السماء بشموخها وأوّل ما يستقبلك نَسرٌ كبير منحوت في الصّخر فاتح جناحيه، وقد بُني المدفن والمزار فوق معبد روماني قديم. والواقف على شرفاته لا يحجبه عن رؤية البحر سوى بُعد المسافة وتكاثف الغمام والضباب في الأفق البعيد، ويتألّف البناء من عدّة طبقات وقاعات وغرف للمنامة من قبل الزّوار.
ولد الشيخ الفاضل في بلدة الشّعيرة قرب كوكبا أبو عرب، وهي اليوم بلدة دارس، وله مزار في بلدة كوكبا المذكورة غير أنّه قضى معظم أيامه وحياته في بلدة شْوَيّا، إذ كان يأوي ليلاً إلى كهف يقع بين الكروم لجهة الجنوب ويأتي نهاراً إلى القرية حيث يجلس مع مريديه تحت سنديانة لم تزل قائمة مع المزار المقام على نيّته لتاريخه.
في النّهاية نقول إنّ من تيسّرت له هذه السّياحة الدينية المكرّمة لمنطقة حاصبيّا التيميّة، وهذا ليس بالصّعب في هذه الأيام، وخصوصاً لسهولة التنقّل وتيسّر الأمان، وبالإمكان زيارتها في يوم واحد والعودة إلى أيّ مكان.
إنّ القيام بهذه الزّيارة للمعالم والمقامات الرّوحية تثبيت وتجديد للاعتقاد وتعزيز للإيمان لكن شرط وجود النيّة لذلك والالتزام باحترام تلك الأمكنة وعدم التلهّي عن الهدف بأنواع التّسلية والطّعام والسّمَر كما يحصل في بعض الأحيان.
(الصور الفوتوغرافية للمصور زياد الشوفي مع الشكر)

الفينيقيين

ما لا تعرفُه عن أسلافنا الذين هيمنوا على تجارة العالم

لمـــــــــــــاذا يجــــــــب أن
نحـــــبَّ الفينيقييّــــــن؟

الفنيقيّون سيطروا على تجارة العالم القديم دون جيوش
ونَبغوا في مُسالمة الجميع ومشاركتهم وكسب احترامهم

تستّروا على معتقداتهم احتراماً للشّعوب الأُخرى الزائرة
وأقاموا نُصُبَ عبادةٍ مفتوحةٍ للزّوّار على تنوّع شعائرهم

الفينيقيّون عَربٌ نَزَحوا من جنوب الجزيرة بسبب القَحط
وبصمتُهم الجينيّة وُجِدَت في أكثرِ مدنِ البحرِ المُتَوسّط

إذا سألتَ اللبنانييّن اليوم أن يُبيٍّنوا مدى معرفتهم بالفينيقييّن، ثمة احتمالٌ بأن يُردِّدوا الحقائق الثلاث الأكثر شهرةً عن هؤلاء القوم: كانوا روّاد التجارة البحريّة، واشتُهِروا بالصِّباغ الأُرجوانيّ المستخرَج من أصداف “الموريكس”، وعرّفوا العالمَ القديم على الأبجديّة الأولى ــ وهم على الأرجح، بحسب ميولهم السياسية، إمّا يُصرّون على فكرة أنّ ثمة تاريخاً مُشترَكاً مع هؤلاء القُدامى المغامرين في البحار وهم يواصلون إرثهم حتى اليوم، وإمّا يرفضون ذلك رفضاً تامّاً. وبعدما أصبحت هذه المسألة في صميم الخلافات السياسية فقد حُرِمَ لبنانيّو هذا العصر من فَهمٍ حقيقيّ ومحايد للفينيقييّن وهم لا شكّ في ذلك أسلاف اللّبنانييّن ليس بالمعنى العِرقي بالضّرورة لكن بمعنى مشاركتنا كمجتمع وكاقتصاد للحتميّات الجغرافيّة والطبيعيّة التي كان على الفينيقييّن التعامل معها وبناء نمط اقتصادهم وتجارتهم ودبلوماسيّتهم الخارجيّة بالاستناد إليها، إنّ المعلومات والدّراسات الأخيرة بما في ذلك الأبحاث الآثاريّة والجينيّة باتت تؤكّد الأهميّة الكبرى لحضارة الفينيقييّن التي قامت على السّاحل الشرقيّ والشمالي للبحر الأبيض المتوسّط لنحو من 1470 عام (من 1550 ق.م وحتى 79 ق.م). كما تؤكّد تلك الأبحاث نواحي التميّز الأساسيّة التي فرّقت إمبراطورية البحر الفينيقيّة عن بقية الإمبراطوريّات والممالك التي تعاقبت في العهد القديم. لقد كانت الممالك الفينيقيّة مثلاً نموذَجا فريداً لمجتمع تجاريّ بحريّ لا يمتلك جيشاً ويحترم الممالك المجاورة ويهادنها ويساعدها في ترويج تجارتها وفي بناء سفنها، كما كان مجتمعاً يحترم ديانات الشّعوب التي تعايش معها ولا يركّز على إظهار شعائره ومعتقداته فلم يبنِ لذلك المعابد بل اكتفى بوضع نُصُبٍ صغيرَة تدلُّ على أمكنة العبادة كما شجّع الزّائرين من مختلف الأصول والمعتقدات على ممارسة شعائرهم في معابد صغيرة تضمّنت عموماً رموزاً وشعاراتٍ تمثّل تلك الدّيانات.
فمن هم الفينيقيّون فعلاً وما هي درجة انتساب اللّبنانييّن المعاصرين للعرق السّاميّ الفينيقي؟ وما هو سرّ التفوّق الذي حقّقه الفينيقيّون وهم شعبٌ صغيرٌ يسكن بضعة مدن على الساحل الشرقيّ للبحرِ المتوسّط في نطاق العالم القديم، كيف تمكنوا وهم شعب لم يكوِّن جيوشاً ولم يؤمن بفائدة شنّ الحروب من الحفاظ على أنفسهم وممالكهم ومصالحهم التّجاريّة والاقتصاديّة طيلة ما يقارب الاثني عشرَ قرناً؟ كيف تعاملوا مع الحضارات المختلفة في المنطقة وما هي الإسهامات الكبرى الأساسيّة التي يمكن أن تُنسَب لهم ولا زالت آثارها قائمة إلى اليوم؟.

تجار فينيقيون يعرضون بضاعة سفينتهم في أحد موانئ البحر المتوسط
تجار فينيقيون يعرضون بضاعة سفينتهم في أحد موانئ البحر المتوسط

أحدثت دراسة نشرتها مجلّة ناشونال جيوغرافيك الشّهيرة في العام 2008 ضجّة في أوساط اللبنانييّن بسبب ما توصلت إليه من أنّ واحداً من كلّ ثلاثة لبنانيين (سواء أكانوا مسلمين أم مسيحييّن) هم من أصول فينيقيّة1
استندت المجلّة العلميّة في استنتاجها إلى أبحاث الدكتور بيار زلّوعة المختصّ في دراسة الحمض النّووي والذي قام بدراسته كجزء من مشروع الجينوم الذي ترعاه مؤسّسة ناشيونال جيوغرافيك ويهدف إلى وضع بيانات مفصّلة بالبصمات الجينيّة للشّعوب المختلفة ومحاولة فَهم حركات هجرة الشّعوب القديمة وإقامتها، وعلاقة الشّعوب المعاصرة بأولئك الأسلاف.
ورغم أن دراسة الدكتور زلّوعة تمكّنت من إقامة رابط بين جينات الفينيقييّن وبين نسبة لا بأس بها من اللّبنانيين المعاصرين وسكان مناطق مختلف على سواحل البحر الأبيض المتوسط، أي مناطق الانتشار الفينيقي، إلّا أنّها لم تحسم الجدل حول أصل الفينيقييّن أنفسِهم والمناطق التي جاؤوا منها قبل أربعة أو خمسة آلاف عام من ظهورهم على السواحل الشرقية للمتوسط.
وبصورة عامّة فإنّ أكثرَ الدراساتِ التّاريخيّة تَعتبر أنّ الفينيقييّن هم كنعانيّون ساميّون من صُلب سام بن نوح، بينما تُرْجِع أكثر تلك الدراسات نَسبهم أو مصادرهم التّاريخيّة إلى جنوب الجزيرة العربيّة، فالمؤرّخ الروماني سترابون الذي عاش بين العام 64 ق.م والعام 19الميلادي أشار إلى أنّ المقابر الموجودة في جزر البحرين تشابه مقابر الفينيقييّن، وأنّ أسماء جُزُرِهم ومدنهم هي أسماء فينيقيّة مثل صور على ساحل عُمان، و جُبَيْل وجزيرة أرواد (وهي الاسم القديم لجزيرة المحرّق في البحرين) وجزيرة تاروت بالقطيف التي تقارب اسم مدينة بيروت بلبنان وقد عُثِر بتاروت والقطيف على اثار فينيقية كثيرة، كما عُثِر في جميع هذه المدن على هياكل تشبه الهياكل الفينيقية.
ويرى فرنسيس لزمان مؤلف “تاريخ الشّرق القديم” أنّ الفينيقييّن “سلكوا طريق القوافل من القطيف نحو بلاد الشّام الخصبة”. وقال هنري راولينسون إنّ أصلَ الفنيقييّن (الكنعانييّن) من سكّان البحرين والقطيف في الخليج العربي. ظعنوا من هناك إلى سواحل الشّام منذ نحو خمسة آلاف عام. وأنّهم عرب بأصولهم وأنّ هناك في الجزرة العربية مدناً أسماؤها فينيقيّة مثل صور وجبيل وأرواد.
وإذا أخذنا بمجموع النّتائج التي توصّل إليها البحث الجينيّ للدّكتور زلّوعة وآراء المؤرّخين الثّقات من أيّام سترابون الرّوماني فإنّ من الممكن الخروج برأي يوافق اللّبنانييّن جميعهم، أي أنّ اللبنانييّن يحملون أصولاً فينيقيّة بالتّأكيد (وقد أثبت علم الجينات الحديثة ذلك) لكنّ الفينيقيين أنفسهم لم يهبطوا من المرّيخ بل جاءوا ضمن الهجرات التي انطلقت من الجزيرة العربيّة التي شهدت قبل 12 ألف عامٍ ثمّ في مراحل تالية فترات قَحط وتَصَحُّر أو كوارث مثل انهيار سدّ مأرب دفعت بتلك الشّعوب النّشِطة التي قادت التوسّع الإسلاميّ في العالم في ما بعد إلى الهجرة نحو بلاد الشّام الخصبة وهي كانت أصلاً تَعرف عن تلك البلاد وتتاجر معها منذ أقدم الأزمان.

“دراسة ناشونال جيوغرافيك للبصمات الجينيّة للشـــّـعوب أكّدت: كلّ واحد من ثلاثة لبنانييّن (مسيحيّاً أو مسلماً) من أصل فينيقيّ”

نموذجٌ لحضارة التّجارة والسَّلم
يعتقد المؤرّخون أنّ الفينيقييّن تمكّنوا من الحفاظ لأكثرَ من 12 قرناً على إمبراطوريّة مزدهرة وسط الصّراعات وتعاقُب الممالك القويّة بفضل إحجامهم عن بناء قوّة عسكريّة مُكلفة اقتصاديًّا واللجوء بدلاً من ذلك إلى الاستخدام الفعّال لسلاح المصالح والتّجارة والدبلوماسيّة وقبل كلّ شيء عبر تقديم أنفسهم كمجتمع مسالم يتخصّص في التّجارة مع الحضارات التي تجاوره بدلاً من تهديدها. بذلك تآخى الفينيقيّون مع المصرييّن ومع غيرهم واستطاعوا عموماً حماية تجارتهم وسط العواصف والأمواج المتقلّبة للممالك وتعايشوا وإن بصعوبة أحياناً وبأثمان ماليّة مرهِقة مع الحِثِّييِّن ثم مع الهكسوس ثم مع الإغريق والفرس الرّومان.. وتحتوي الرّوايات القديمة على شهادات عديدة في مهارة الفينيقييّن أبرزها وصف هوميروس لهم في الأوديسّة بالقول “هؤلاء البحّارة المَهَرةُ والتّجار الماكرون” وقد أضاف هوميروس إلى ذلك وصفهم بالـ “القراصنة” في شهادة تعكس في نظر بعض المؤرخين شعور الغَيْرَةِ والحسد الإغريقيّ من هذه الامبراطورية البحريّة المقدامة لكنّها تعكس في الوقت نفسه حجم الهيمنة التي كان الفينيقيون قد حقّقوها على تجارة العالم القديم وسيطرتهم على البحار. وقد كان الإغريق في نمط حياة أقرب إلى عصر ظلمات ولم تكن لهم لغة مكتوبة عندما كان الفينيقيّون يجوبون البحار وصولا إلى شواطئ كورنوال البريطانية الجنوبيّة الغربية وأيرلندة وسيقوم هؤلاء الإغريق في وقت متأخّر (نحو 400 ق.م.) بتطوير لغتهم المكتوبة لأوّل مرّة بالاستناد إلى الألفباء الفينيقيّة.
لا يعني ذلك أنّ الفينيقييّن تمكّنوا دوماً من التّفاهم مع الدّول الغازية فقد أدّت الغزوات المتوالية التي قامت بها شعوب المنطقة إلى دمار عدد من المدن الفينيقيّة بصورة متكرّرة لكنّ الفينيقييّن أعادوا بناء مدنهم في وقت قصير وتمكّنوا عادة من توفير صيغة للتّعايش أو للمشاركة بينهم وبين القوّة المهيمنة الجديدة.

كيف أصبحت اللغة الفينيقية
لغة العالم وأمّ اللغات القديمة

يعتبر اختراع وتطوير الألفباء الحديثة أحد أعظم مساهمات الفينيقيين في الحضارة الإنسانية، لكن الفينيقيين لم يكونوا أول من استخدم اللغة وكتبوا بها، فقد وجدت قبلهم لغات عدة مثل المسمارية المستخدمة في ممالك بلاد ما بين النهرين والهيروغليفية المصرية لكن أهمية الإنجاز الفينيقي – وما جعل اللغة الفينيقية قفزة كبيرة في الحضارة البشرية- هي أنها -مثل اللغة الحديثة- كانت أول لغة لا يحتاج المرء للكتابة والتحدث بها لأكثر من عدد محدود من الرموز، وحيث كل رمز في حد ذاته يمثل صوتا محددا. وكانت هذه البساطة قفزة كبيرة بالمقارنة مع لغات قديمة، مثل المسمارية أو الهيروغليفية اللتين استخدمتا رموزا كثيرة ومعقدة.
لقد كان لدى الفينيقيين حافز مهم لتطوير لغة “عالمية” يمكن (بسبب سهولتها) استخدامها من كافة الشعوب (وهو دور يشبه الدور الذي باتت تلعبه الإنكليزية في العالم المعاصر) وهذه اللغة ستؤمن للفينيقيين وسيلة فعالة للتواصل ليس فقط مع الملوك والكهنة والقادة المهمين بل مع كثير من الناس والأجناس التي كانت تدخل معهم في تجارتهم المنتشرة في كل مكان. وقد سمحت بساطة اللغة الفينيقية بتعلمها والكتابة بها ليس فقط من نخبة المجتمع بل من الناس العاديين، وهي كانت بالتالي عاملا مهما في تطوّر العلاقات الاجتماعية بل وفي بروز مفهوم معين من “الديمقراطية” سيتطور لاحقا في الممالك الهيلينية والرومانية.
ويعود اختراع الألفباء الفينيقية إلى نحو العام 1050 قبل الميلاد وهي الفترة التي عاشت فيها المدن الفينيقية عصرها الذهبي من توسع في التجارة البحرية مع مختلف شعوب العالم القديم. وتعتبر هذه الألفباء الأقدم على وجه الأرض، وهي تتألف من 22 حرفا وأصبحت يومها الأكثر انتشارا واستخداما في الكتابة حول العالم. وتعتبر العبرية القديمة والآرامية واللغة اليونانية القديمة ثم اللاتينية والقبطية كلها متفرعة عن اللغة الفينيقية، وكانت الفينيقية تكتب في العادة من اليمين إلى اليسار، وفي العام 2005 قامت المنظمة العالمية للثقافة والعلوم (الأونسكو) بإعلان اللغة الفينيقية جزءا من ذاكرة البشرية ومن تراث لبنان.

الألفباء الفينيقية كما وجدت على لوح من الحجر
الألفباء الفينيقية كما وجدت على لوح من الحجر

تجّار عابرون للقارات
لقد حجبت شهرة الفينيقييّن كتجّار بحار الشّهرة التي حققّوها أيضا كتجّار قوافل غطَّوْا بنشاطهم رقعة واسعة من آسيا وأفريقيا وهم اعتمدوا في تجارتهم البرّيّة طريقين رئيسين، أوّلهما يتفرّع عن الطّريق السّاحليّ الشّماليّ. فيذهب من أوغاريت نحو حماه وحلب والرُّها وكركميش ونِصّيبين في القفار السّورية الشماليّة وكان هذا الطّريق يتّصل بوادي الفُرات حتّى ما بين النّهرين، أو يذهب من حَرَّان إلى نَينوى. أما الطّريق الثّاني فكان يعبر جبال لبنان إلى الزّبداني فدمشق فتدمر فبلاد ما بين النّهرين وشرق سوريا. وهذا هو الطّريق الأقصر، لكنّه الأصعب. وكانت الجزيرة العربيّة وبلاد ما بين النّهرين الصّلة الجغرافية بين فينيقيا والشّرق الأقصى خصوصاً الهند.
وفي طرقهم البريّة هذه، وبسبب الحجم والقيمة الكبيرين للبضائع التي كانوا ينقلونها في رحلاتهم وبسبب طول مدّة إقامتهم (وكانت بعض الرّحلات تستغرق 3 سنوات) كان الفينيقيّون يقيمون علاقات الودِّ مع شعوب البلدان والمناطق التي يعبرونها أو يقيمون فيها لمدة مؤقتة فيعزّزون أواصر المودّة مع القبائل، ويستعينون ببعضها كوسطاء أو كمرشدين، الأمر الذي حفظ قوافلهم من مخاطر اللّصوص وقطاع الطّرق الذين كانون يتربّصون المناطق النّائية أو الممرّات الجبليّة المنعزلة. وسهَّل ذلك للفينيقييّن إقامة المحطّات التّجاريّة على طول طرقهم التّجاريّة، كما أنّهم بنَوْا أحياءهم الخاصّة بهم في بعض المدن التي أقاموا فيها.

“أنشأوا نظاماً ديمقراطيّاً تشاركيّاً لإدارة مصالح المجتمع واحترموا المرأة واختاروا ملكـــــاً منهم فقط لحاجتهم إلى «مفاوض» لملوك الشّعوب الأُخرى !”

إعادة التّصدير
عندما اشتُهر لبنان في القرن الماضي بتجارة إعادة التّصدير وبكونه طريق التّجارة العابرة من ساحل المتوسّط فهو كان بذلك وللأسباب الجغرافيّة والاقتصاديّة نفسها يستعيد تقليداً فينيقيّاً أصيلاً كبلد خدمات وتجارة لا يمتلك الموادّ الأوّليّة ومقوّمات الاقتصاد الزّراعيّ لبلاد النيل أو بلاد ما بين النّهرين. رغم تطوّرها الاقتصاديّ فإنّ فينيقيا لم تكن تملك ما يكفي لتلبية احتياجات أسواقها الواسعة باستثناء أخشاب الأرز (وتقليد قطع الغابات وتعرية الجبال في بلادنا ليس جديداً !) وكميّات محدودة من الزّيوت والأصباغ والخمور والأنسجة وبعض المصنوعات البرونزيّة والفضّيّة أو مصنوعات العاج. لذلك اتّكل الفينيقيّون على إنتاج غيرهم يشترونه بأسعارٍ رخيصة ثمّ يبيعونه بربح جيّد، وهم استوردوا الصّوف والجلود واللّحوم من وسط سوريا، والعسل والحبوب من فِلِسْطين، والتّوابل من الشّرق الأقصى، والنّحاس من قبرص واليونان والقفقاس، والفضة من إسبانيا، والحجارة الكريمة والذّهب والكَتّان والقُطن من مصر ، والعطور من بلاد الرّافدين، والأبَنُوس والعاج من السّودان، والخيول من أرمينيا. وحقّق الفينيقيّون فتحاً تجاريّاً مهمّاً عندما وصلوا عبر مضيق جبل طارق إلى جنوب الجزر البريطانيّة حيث توجد مناجم وفيرة من القصدير وبسبب ذلك، ولاكتشافهم طريقة صهر القصدير مع النّحاس لإنتاج معدن البرونز فقد حقّق الفينيقيّون لمدّة طويلة شهرة في الصّناعات المعدِنيّة وتفوّقاً على جميع معاصريهم في هذا المجال. وقد كتب ديودورس الصّقلِّي، المؤرّخ اليونانيّ، حول هذا الموضوع قائلاً: “إنّ بلاد الأيبيرييّن (إسبانبا) تحتوي على أغنى مناجم الفضّة التي نعرفها ولم يكن لدى السكّان المحلييّن خبرة في طرق معالجة هذا المعدِن النّفيس واستخدامه، لكنّ الفينيقييّن كانوا يبادلون كميّات كبيرة من الفضّة الخام مقابل كميّة صغيرة من البضائع، ثم يقومون ببيعها في أسواق اليونان وآسيا وشعوب أخرى بأرباح ضخمة وهم اكتسبوا من ذلك ثروات كبيرة”.
وكانت رحلة التّجّار الفينيقيّين تستغرق بضع سنواتٍ أحيانًا. إذ كانوا تجارا متجوّلين، أو “مغتربين” بصورة مؤقتة، وهم كانوا يأخذون وقتهم في التعرف على أسواقهم وبناء العلاقات مع مجتمعاتها، الأمر الذي عزز موقفهم وسهل مبادلاتهم وساهم في تحقيقهم لثروات كبيرة، حتى أنهم كانوا أثناء فترة المتاجرة يزرعون المحاصيل في بعض الأماكن وينتظرون وقت حصادهم فيستفيدون أيضا بصورة مضاعفة من إقامتهم.

“بسبب عدم وجود جيـــــــش يمكن أن يدعم الدّكتاتوريـــّـــة لم يحصل في تاريخ الفينيقييّن نزاع عنيف على المُلْــــــــك ولم يُسمَع عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة بسبب الظّلم الاجتماعيّ”

سفينة حربية فينيقية مزودة بمهماز لتحطيم السفن المعادية
سفينة حربية فينيقية مزودة بمهماز لتحطيم السفن المعادية

سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.

سرّ الهيمنة الفينيقيّة
تؤكّد المعطيات التّاريخيّة التي بلغتنا عن الفينيقييّن أنّ السرّ الأهمّ لتفوّقهم التّجاريّ والبحريّ يكمن في التفوّق الحاسم وغير المنازَع الذي حقّقوه في تقنيّات بناء السّفن التجاريّة والحربيّة وهو تفوّق مكّنهم مع الوقت من إحراز تفوّق آخر في فنّ الملاحة في البحار العميقة جعل منهم أسياد البحار. وفي زمن كان الإبحار في البحر يُعتَبر مخاطرة كبيرة وأكثر الشعوب تخشى الابتعاد عن السّواحل بزوارق النّقل الصّغيرة التي كانت تمتلكها، كان الفينيقيّون يمخرون عباب البحار بسفن كبيرة (يزيد طولها على 25 مترا وعرضها على 7 أمتار) تستخدم الشّراع المربّع وتتمتّع بمتانة كبيرة وانقياد سهل لبحّارتها. ونتيجة لِحُبّهم المغامرة وإبحارهم الدّائم فقد توفّر لأمراء البّحر الفينيقييّن معلومات سرّيّة عن الممرّات البحريّة الخَطرة وخبرات فريدة في المناورة البحريّة لاجتياز كافّة العقبات وهذا التفوّق البحريّ كان ولا شكّ العامل الأهمّ وراء سيطرتهم على الملاحة في حوض البحر الأبيض المتوسّط ولجوء الحضارات الأخرى إلى خدماتهم البحرية والتجاريّة، وتمكُّنهم من بناء عدد كبير من المدن والمواقع التّجاريّة والمحطّات البحريّة والمخازن السّاحليّة وغيرها من مكوّنات الإمبراطوريّة البحريّة التي تمكّنوا من توسيع نطاقها حتى جنوب الجزر البريطانيّة وأيرلندة. وبسبب الحاجة لتعزيز الشّبكات الملاحيّة فقد جهد التّجار الفينيقيّون لربط قواعدهم البحريّة بتجارتهم البريّة، وأسّسوا مراكز تجاريّة عديدة وتقع على مسافات صغيرة من بعضها البعض لتسهيل عمليّات التوقّف بين الرّحلات والتّموين وشحن اللّوازم والإمدادات
مجتمعٌ مدَنيّ متقدّم
أدّى اختيار الفينيقييّن للتّجارة والبحر والعلاقات السَّلميّة مع شعوب زمانهم إلى نتائج عميقة على صعيد نظامهم السّياسيّ وثقافتهم وحتى عقائدهم الدّينيّة. فغَلبَة المصالح التجاريّة ونشاط البحر والقوافل جعل التّجّار هم القوّة الرّئيسة المقرِّرة في المجتمع وغياب الجيوش والقوّاد أبعد خطر الاستبداد وبروز الأباطرة على النّسق الإسبارطيّ أو الإغريقيّ أو الرّومانيّ. كان المجتمع الفينيقيّ بمثابة شركة مساهمة كبرى لكلٍّ من أفراد المجتمع فيها دور ونصيب من الثّمار المحقّقة وقد ظهر تقدّم المجتمع المدنيّ الفينيقيّ في عدد من الأمور أهمّها تنظيم الرّحلات البحريّة ونظام الحكم والعبادات ودور المرأة.

إدارة الأعمال وفق النّمط الفينيقيّ
بسبب الاعتماد الكبير للفينيقييّن على التّجارة وعلى الرّحلات البحريّة كانت الحاجة ملحّة لإيجاد إدارةٍ ذكيّة وماهرة للمغامرات البحريّة وكافّة العمليّات التّجاريّة واللّوجستية التي تفرّعت عنها فالاستثمار في أيّة رحلة كبير، والمخاطر أكبر، والمطلوب في مثل هذه الحالات استنباط ترتيباتٍ دقيقة وتبنّي نظام فعال لتخصيص المسؤوليّات والمخاطر والمشاركة في المغانم. لقد كان على جميع المستثمرين في الرّحلة (بُناة السّفينة، وربّانها، وطاقَمها ومزوّديها بالبضائع ومموّليها) أن يعملوا كشركة بالمعنى الحديث للكلمة أي أن يلتقوا ويتخذوا معا القرارات المهمّة التي ستؤثّر على مسار الرّحلة ونتائجها. ولم يكن مسموحاً بتفرّد أحد مهما كانت خبرته بالرّأي وإلّا فإنّ الأعضاء المتململين كانوا سينسحبون من المغامرة ويمتنعون عن المشاركة فيها. فضلاً عن ذلك، وبعد الاتفاق على التّفاصيل كلّها كان على هؤلاء الشّركاء أن يختاروا واحداً من بينهم ليكون الشّريك الأكبر، وهو ما يوازي في لغة العصر موقع العضو المنتدب أو المدير التّنفيذي، وكان دور هذا الشخص يتركّز في مراقبة تقدُّم الاستعداد للرّحلة وتنظيمها وإطلاقها وإدارة شؤونها ومعالجة الأمور التي تطرأ وذلك حتّى نهاية البعثة التّجارية وعودة السّفينة – أو السفن- إلى قواعدها.
لكن مع تنامي أعداد السكّان في المدينة على مرّ السنين، غدا استدعاء الجميع لمثل هذه اللّقاءات خطوةً غير عملية. ونتيجةً لذلك نشأت في ذلك الوقت أولى مجالس الممّثلين عن الشّعب. وكان يُعقد اجتماع عموميّ لجميع الشّعب، وربّما على أساس سنَويّ، واختيار أعضاء المجلس والتّعبير بقوّة عن امتنان أو عدم رضى الشّعب تجاه ما تمّ تحقيقه منذ الاجتماع العموميّ الأخير. ومن ثمّ يجتمع أعضاء المجلس عند اقتضاء الضّرورة ويعمل بأداءٍ أشبه بمجلس إدارة يُدير جميع المستثمرين، ومن ثم اتّخاذ القرارات المهمّة. وكان المجلس يمنح أحد أعضائه أيضاً الحقّ باتّخاذ قرارات يوميّة إزاء المغامرات التّجاريّة وتحمُّل مسؤوليته ليبدو في الظّاهر كقائدٍ للمدينة واستدعاء أعضاء المجلس عند الحاجة إلى اتّخاذ قرارات كبيرة.

“تعاملوا بحزم وحكمة مع أعتى القوى التي سادت زمانهم لكنّهم لم يتباهَوْا يوماً بإلهِ حرب، ولم يتغنّوْا كغيرهم بسحق الأُمم، وتدمير المــــدن وإحراقـــها ونهبها وقتــــل سُكّانها”

ملِك فينيقيّ ولكن..
على الرّغم من أنّ الفينيقييّن اتّبعوا نظام الحُكم التّشاوريّ الخاصّ بهم، فإنّهم احتاجوا إلى التّعامل مع مجتمعاتٍ وكياناتٍ أخرى كان يحكمها ملوك. وبالرّغم من أن نظامهم لم يكن مصمّماً لقيام ملك مطلق الصّلاحية فإنّهم رأوا أنّ من الأفضل، ولو لأجل المظاهر البروتوكوليّة، أن يكون لهم ملِكٌ هم أيضاً. لذا أعلنَ فينيقيّو جُبيل قائدَهم “مَلِكاً”، وشكّل ذلك سابقةً في التّاريخ القديم لأنّ الملك جاء هنا باختيار الشّعب بينما كان الملوك يصلون إلى السّلطة عبر الغزوات وسفك الدّماء ويحمون حكمهم المطلق بالقوة العسكريّة العنيفة.
لقد اختار الفينيقيّون أن يجدوا لأنفسهم “مَلِكاً” ليس لأنّ تنظيمهم الاجتماعيّ والسياسيّ كان في حاجة إلى هذا الابتكار بل لأنّهم يحتاجونه من أجل اكتساب الشّرعيّة والاحترام الدّوليّ لمجتمعهم كما أنهم يحتاجونه في التّعامل مع الشّعوب الأخرى التي كان لها ملوك وكان لا بدّ لهم من أن يقيموا علاقاتهم مع الجيران من خلال ملك لهم يمكنه التّعامل والتّفاوض مع ملوك الأقوام الأخرى.
وكان من السّهل على الفينيقييّن المحافظة على منصب الملِك، لأنّ الأخيرَ عبر اختيار المجلس له بمصادقةٍ من المدينة وسُكّانها، كان ينحدِرُ غالباً من العائلات العريقة فيها. لكن هل كان الحكم الملكيّ الفينيقيّ وراثيّاً؟ كان في حقيقته تسوية توفّق بين استمراريّة الملك وبين ضمان اختيار الأفضل. فعند الحاجة لاختيار خليفة للملِك فإنّ الخيار الأول كان يتّجه لاختيار أحد أولاد الملِك السّابق، لكن دون التزام بأن يكون الابن الأكبر للملِك هو الخيار الوحيد. إذ كان ممكناً اختيار ولد آخر معروف بالكفاءة أو ربّما عضو من أُسرة نبيلة أخرى. وكان معيار الاختيار هو جدارة الملك المعيّن لقيادة الأعمال التجاريّة للمدينة وعلاقاتها الدبلوماسيّة. وعندما كان الملِك يُقصِّر في أداء مهمّته، كان من السّهل القيام بالتغييّر إذ إنّ ذلك كان لا يتطلّب أكثر من قرار تتّخذه جمعيّة الممثّلين المنتَخبين لتمثيل المدينة. والملفت أنّه لم يسجَّل في تاريخ العهد الفينيقيّ أنْ نشأ نزاعٍ عنيف على السلطة أو محاولة أيّ فينيقيٍّ للاستئثار بالمُلك خلافاً وكانت هذه شهادة بليغة على المستوى الحضاريّ الذي ساد علاقات المجتمع الفينيقيّ ونظامه السياسيّ.
كان الفينيقيّون يدركون في الوقت نفسه أنّ ثمّة مخاطر دائمة (بسبب طبيعة النّفس الإنسانيّة) من أن يصبح القائد الجديد مُفتَتناً بالقوة، وأن يسعى إلى تنصيب نفسه ملِكاً حقيقيّاً، أي حاكماً مستبدّاً على المدينة، لكن هذا الاحتمال قلّل كثيراً منه عدم استناد الدّولة الفينيقيّة إلى جيش أو قوّة مسلّحة يمكن أن يستخدمها الطّاغية لفرض سلطانه. وأكثر ما قام به الفينيقيّون كان تشكيل حاميات قليلة العدد داخل كلّ مدينة بغرض السّهر على الأمن وحفظ النّظام العام، لكن من دون أن يكون لأيٍّ من تلك الحاميات قوّة كافية للسّير خارج المدينة بهدف خوض معارك داخليّة أو خارجيّة.
وحيث إنّ الملِك لدى الفينيقييّن كان يحكم من دون جيشٍ يفرض إرادته، لم يكن ثمّة خطرٌ يُحيق بالمجلس المُنتَخَب والشّعب. وممّا زاد هذا الشّعور بالأمان هو وجوب أن تعود جميع القرارات الرّئيسة إلى المجلس المذكور. فلم يكن بوسع الملِك أن يبرمَ اتفاقيّات تُضفي مزيداً من السّلطة على حُكمه لأنّ المجلس ما إن يشعر بتحرُّكٍ مماثل حتى يُعيِّن ملِكاً جديداً. وهكذا بدأ تقليد جُبَيل بتنصيب مَلِكٍ، ذلك التّقليد الذي استمرّ لعهدٍ طويل. ويُعتقَد أنّ الملِك كان يقطن في القسم السّكَنيّ من دار التّجارة الرّئيسيّ في المدينة، قريباً من جميع العمليّات اليوميّة التي كان مسؤولاً عنها. وهذا الملِك الذي يُشبه إلى حدٍّ كبير مديراً إداريّاً أو مديراً تنفيذيّاً لشركة حديثة، كان في تصرُّفه فريقٌ كبير من الأشخاص لتنفيذ العمل الفِعلي تحت إشرافه. وهو كان بدوره يعود بالنّتائج إلى مجلس مدراء، أي المجلس المنوَّه عنه أعلاه.
لقد عاد مبدأ المشاركة بالغُنْمِ والغُرْم بالنّفع الكبير على الفينيقييّن وأصبح قوّة دافعة وراء كلّ ما أنجزوه على مر القرون. ذلك ما جعلهم متّحدين في مجتمعٍ متكاملٍ، بدلَ أن يكونوا مجموعة من الأتباع يُهيمن عليهم قائدٌ قوي، كشأن الشّعوب الأخرى. وكونهم يتّصفون بمجتمعٍ كهذا هو الذي أمدّهم بالقوة والتّميُّز وهو الذي مكّنهم من أن يمدّوا في عمر حكمهم النّاجح والمُزدهر قروناً طويلة من الزّمن.

فينيقيون يحملون الهدايا إلى ملك الفرس
فينيقيون يحملون الهدايا إلى ملك الفرس

المساواة والمشاركة في الثروة
أحد المبادئ الأساسيّة للمجتمع الفينيقيّ كان المساواة والمشاركة في الثّروة. ولم يُقْصَدْ بذلك أنّ كلّ عضو في المجتمع يجب أن يكون مساويا كلّيّاً في كلّ نواحي الحياة للآخرين، فبعض العائلات كانت نشطة على وجهٍ خاصٍّ في التّجارة، وهي غامرت واستثمرت وحقّقت بعض الثّروات الإضافيّة لنفسها. لذلك، فإنّ المبدأ الفينيقيّ في المساواة كان يعني أنّ الضّعفاء وأشدّ النّاس عوزاً كانت تُحسب لهم حصة في الأرباح المُكْتَسبة من قِبَل المجتمع بأكمله، وعلى الرّغم من أنّ التّجارة الدّوْليّة، وبناء السّفن، وإنتاج السّلع على غرار الملابس الشّهيرة المصبوغة بالصِّباغ الأُرجوانيّ المَلَكيّ، قد جعلت الفينيقييّن من أغنى المجتمعات في العالم القديم على الإطلاق، فإنّ الهوّة بين الغنيّ والفقير في ما بينهم كانت أصغر بكثير ممّا كانت عليه لدى معظم المجتمعات الأخرى في تلك الأيّام.
فالمناطق الأخرى غالباً ما كان يحكمها ملِكٌ قوي ومجموعة صغيرة من العائلات الفائقة التّرف تطغى على طبقة “نبيلة” تابعة لكنّها محدودة الحجم، بينما يبقى على القسم الأكبر من السُّكّان كسب قوتهم يوماً بيوم. وكان شائعاً بين الفينيقييّن، وحتى الفقراء منهم، العيش في منازل تتألّف من غرفٍ عديدة، في وقتٍ كانت المنازل ذات الغرفة الوحيدة هي السّائدة في المجتمعات المجاورة. وعبر اختيارهم لأعضاء مجالسهم وملوكهم، والقدرة على استبدالهم، حرص الفينيقيّون على ألَّا تستأثر أُسرة واحدة بثروة المجتمع. واللّافت أنّ المدن الفينيقيّة لم تُقلِّد أبداً ظاهرة بناء القصور الفرديّة الباذخة كما في مصر وبلاد ما بين النّهرين وفارس ومناطق تاريخيّة أخرى.
وفي المجتمع الفينيقيّ، كان لكلّ شخصٍ صوتٌ في شؤون الجماعة، وحِصّةٌ في نجاحها. وكان من شأن مبدأ المساواة هذا أنْ أحدثَ تأثيراتٍ مهمّة. أوّلاً، لم يُسمَع طيلة تاريخ الفينيقييّن الطّويل عن قيام ثورةٍ اجتماعيّة أو فتنة أو تمرّد. فالهوّة الصّغيرة نسبيّاً بين الطّبقات العليا والدّنيا من المجتمع لم تُشكِّل عامل احتقان يمكن أن يؤدّي إلى حصول مثل تلك القلاقل، فضلاً عن أنّ شعور الفينيقييّن الدّائم بوجود تهديد كامن أو علنّي لمصالحهم فرض عليهم واجب التّضامن من أجل حماية طريقة عيشهم وازدهارهم.

احترام المرأة
كان الشّعب الفينيقي يحترُم المرأة ويُوقِّرها، وهذا ما مكّنه من الإفادة على نحو أكمل من قدرات المرأة في تنفيذ استثماراته الواسعة الانتشار وتنظيم شؤونه المدنيّة. ومع ازدهار الأعمال الفنيّة في أوساط الفينيقييّن، أخذت المرأة تُشارِك بالكامل في نشاطات المدينة، وعزا بعض الباحثين ذلك إلى أنّ الفينيقييّن كانوا يعبدون “سيّدة جُبيل”، التي كانت يُسبَغ عليها صفات “الأرض” و”الطّبيعة الأمّ”، و”حامية النّساء والأطفال”، التي تجلب خيرات الأرض للنّاس، وذلك في مقابل الإله “بعلشميم”، “إله السماء” الذي لم يجعلوه على الأرض بل في السّماء، سيّد العواصف، وهو ما كان نابعاً من هواجس الفينيقييّن بشأن البحر وصعوبة التّنبّؤ بسلوكه في وقت كان اعتمادهم تامّاً تقريباً في أكثر رزقهم على مزاجه وأحواله.

الانتشار الملاحي الفينيقي جعلهم أسياد التجارة في البحر المتوسط
الانتشار الملاحي الفينيقي جعلهم أسياد التجارة في البحر المتوسط

فنّ التّعايش مع الأقوياء
في المراحل التّالية من تاريخ “أمراء البحار” الفينيقييّن، حينما انبثقت التّجارة البحريّة، كحِرفةٍ وفنٍّ ومصدرٍ للعيش الكريم، لم يستحدث الفينيقيّون آلهةً لكلِّ غَرضٍ في الحياة كغيرهم من الشّعوب والحضارات الأخرى في تلك العصور. وبدلاً من ذلك، اتّبعوا وجهةً فريدة عكست نمط حياتهم، ومجتمعهم وتميُّزهم.
بسبب اختلاطهم بعد كبير من الشّعوب والمجتمعات المتنوّعة كان لكلٌّ منها لغته وعاداته ومعتقداته الخاصّة، وكان المصريّون القُدامى، على سبيل المثال، يبدون للآخرين بمظهر الافتخار والتّعالي على مَنْ حولهم وظهر ذلك بحِرصِهم على بناء التّماثيل الهائلة المُهيبة، والمصنوعات الذّهبيّة اللمّاعة، ونظام الحكم المُطلق، والجيوش الجرّارة الجاهزة للتحرُّك في أيّ وقت.
في المقابل، حافظ الفينيقيّون على ثقافتهم الخاصّة، لكنّهم سعَوْا في آنٍ إلى الاختلاط بالشّعوب الأخرى التي كانوا يُصادفونها في رحلاتهم التّجارية. وقد كان من خصائصهم وعاداتهم المتميّزة، أنّهم ما إن يصلوا إلى أرضٍ جديدة حتى يُظهرِوا إعجاباً كبيراً بالثّقافة المحلّيّة فيها، بما في ذلك الطقوس والمراسم. وثمّة أدلّة كافية على أنّ الفينيقييّن أظهروا عاطفةً شديدة في مدح المصرييّن وحضارتهم وفراعنتهم. وفي المقابل فقد عاملهم المصريّون كما لو كانوا “أبناء عمومة” يقطنون ناحية الشّرق من بلادهم، وكانت أشجارُ أرز لبنان وأخشابُ غاباته وصِمغه في غاية الأهمّية لعادات المصرييّن في تحنيط موتاههم، وبناء المعابد والهياكل، وتأثيث القصور، بل إنّ سلوكهم الرّاقي في الاختلاط أيضاً جعلَ وجودَهم مقبولاً بالفعل في هذه المنطقة الشّديدة الحساسيّة.
وغدت هذه العلاقة عميقة ومتجذّرة لدرجة أنّها أثّرت في تقاليد المصرييّن وأساطيرهم الدّينيّة، لا سيّما في أسطورة “إيزيس وأوزوريس”، وبسبب نزوعهم إلى المسالمة وحبّهم للتّواصل مع الشّعوب الأخرى، وإرساء الشّراكات والمبادلات التّجارية فإنّهم مالوا بطبيعتهم إلى احترام أديان ومعتقدات وعادات وتقاليد الشّعوب الأخرى، ورأَوْا في ذلك عاملاً إضافيّاً في حماية مجتمعاتهم وإنشاء روابط المودّة مع الشّعوب المحيطة بهم. وكما يقول أحد الباحثين المختصّين، فإنّ الفينيقييّن بكونهم مطّلعين على مختلف المجتمعات، ربّما “وصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنّ كلّ تلك المجتمعات كانت تعبدُ ربّاً واحداً لكن بأسماءَ وتصوُّراتٍ مختلفة”. وفيما كانوا يتّبعون هذا السّلوك السبّاق في احترام أديان الآخرين وتقاليدهم، فإنّهم في الوقت ذاته لم يجعلوا لأنفسهم نُصُباً يتعبّدونها، كتلك التي استخدمتها الشّعوب الأخرى، كأصنامٍ حجرية تُصوِّر آلهة بأجسامٍ بشريّة أو رؤوسٍ حيوانية، أو ثيرانٍ من ذهب كما فعلَ أبناء عمومتهم الكنعانيّون. فما اعتمدوه هو مجرّد “مصطبة” حجرية تدلُّ المهتمين على أنّ المكان هو مكان لتقديم القرابين والعبادة.

لوحة فسيفسائية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد تظهر بعض أنواع السفن الفينيقية
لوحة فسيفسائية تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد تظهر بعض أنواع السفن الفينيقية

مهارة دبلوماسيّة
برع الفينيقيّون في مملكة جُبيل وشقيقاتها في استخدام التّفاوض ودبلوماسيّة المصالحة والسَّلم لفضّ النّزاعات وتجنُّب المواجهات. لذلك لم يذكر التّاريخ أنّهم تباهَوْا يوماً بإلهِ حربٍ، ولم يتغنّوا كالشّعوب الأخرى بسحق الأُمم، وتدمير المدن وإحراقها وقتل سُكّانها وسلب غنائمها. ومع ذلك، لم يكونوا ضعفاء بأي شكلٍ من الأشكال، فهم بشجاعتهم هيمنوا على التّجارة عبر العالم وتعاملوا مع أعتى القوى السّائدة في زمانهم، لكنّ الحربَ لم تكن خيارهم على الإطلاق، إنّما تمسّكوا بمفاهيم السَّلم والتّواصُل واحترام الآخر. بل يذكر التّاريخ إنّهم تحالفوا مع “شعوب البحر” العنيفة التي اجتاحت المنطقة ودمّرت حضاراتها في العام 1200 قبل الميلاد ولم يصطدموا بهم خلال اجتياحهم لشواطئ شرق البحر المتوسط.
إنّ هذه المهارة في احتواء الأزَمات واجتناب الصّدامات ليست فقط في أساس النّجاح الفينيقيّ في مَدّ عمر الامبراطوريّة لقرون طويلة بل كان أحد أهم أسباب الازدهار الاقتصاديّ للمدن الفينيقيّة التي تمكّنت من توفير الأموال الهائلة التي كانت تُنْفق على الجيوش والحملات العسكريّة لاستثمارها في تحقيق مستوى معيشة كان الأعلى في المنطقة وفي تعزيز القوّة البحريّة للممالك الفينيقيّة وهيمنتها على تجارة العالم القديم.

قرطاجة

آثار لمنازل فينيقية في مدينة قرطاج في تونس
آثار لمنازل فينيقية في مدينة قرطاج في تونس

إسبارطة الفينيقييّن التي ذهبت بمجدهم

في العام 820 قبل الميلاد، حدَثَ نزاعٌ في مدينة صُور الفينيقيّة، بعد وفاة ملِكها ماتان الأول الذي أوصى بالحُكم من بعده لِوَلَدَيْه، ابنته الكبرى أليسار وشقيقها الصّغير بيغماليون. وانقسم المجلسُ الفينيقيّ بين هذَين الخَيارَين، لكنّ التجّارَ الأثرياء الكبار والكهنة، وعلى رأسهم زيكار بعل، كبير كهنة معبد ملقارت وصاحب الثّروات الضخمة، وقفوا إلى جانب أليسار الابنة الكبرى الذّكية والطموحة. وقد تزوّجت أليسار من زيكاربعل. لكنّ شقيقها الصّغير السّنِّ ومَنْ حوله أحسّوا بالخطر، وتآمروا على قتل زوجها داخل المعبد. وداهمَ الخطرُ أليسار ومَنْ ناصرها، فأقنعت شقيقها أنّها ستنطلق في رحلةٍ تجاريّة عبر البحر كشأن الفينيقييّن، وأخذت كنوزَ زوجها وفعلَ مثلها الأثرياء الكبار الذين هربوا بثرواتهم إلى السّفن، وانطلقوا بعيداً نحو الغرب.
القصة تقول إنّ سفن أليسار رست في شاطئ شمال أفريقيا بالقرب من مدينة يوتيقا (“عتيقة” في تونس اليوم)، تلك المستعمرة الفينيقيّة منذ أمدٍ والتي لعبت دوراً كبيراً في التّجارة. لكنّ المُرتحلين أرادوا أن ينطلقوا من بقعةٍ جديدة تقع على بُعد أميال من عتيقة. وتقول الأسطورة: إنّ أليسار تفاوضت مع مَلِك السُكّان البربر للمنطقة على منحها قطعة أرض صغيرة بحجم جلد ثور. وأمرت أليسار جماعتها بقطع خيوطٍ من هذا الجلد ووصلها ببعضها بعضاً ورسم نصف دائرةٍ حول تلّة عالية (كانت تُدعَى بيرسا) في تلك المنطقة القريبة من الشاطئ. وبذلك اختار الفينيقيّون المرتحلون تلّةً عالية يمكنهم من خلالها الإشراف على المناطق المحيطة بها والدّفاع عن مدينتهم العتيدة. وذُهِلَ ملكُ البربر لذكائها الخارق، وأوفى بعهده. وأخذت أليسار تبني معابد ومساكن فيها، وأُطلِقَ على هذه المدينة الناشئة اسم “قرت حدشيت”، وتعني حرفياً “المدينة الجديدة”، هذا الاسم الذي تحوّل لاحقاً إلى “قرطاجة”، تلك التي وفَدَ إليها أثرياءُ صور فُرادى وزرافات في موجاتٍ متتالية من المهاجرين.
وكان من الطبيعيّ أن تُنسَج الأساطير حول تأسيس قرطاجة والإمبراطورة القويّة التي قادتها في ذلك الزمن الغابر. ودارت تلك الأساطير حول شخصيّة أليسار (أو ديدون، أي المترحِّلة بالفينيقيّة) ورحلتها من صور تيهاً في البحر نحو شمال أفريقيا. ويعود أوّل نصٍّ يتحدّث عن مغامراتها إلى تيماوس الصّقلّي (Timaeus of Sicily) بين عامَي 256 و 200 قبل الميلاد. هذا النصُّ فُقِد، لكن بقي منه بعضُ الاقتباسات في نصوصٍ أخرى. وهو الذي حدّد تاريخ تأسيس قرطاجة حوالى العام 814 قبل الميلاد، وهو تاريخٌ مقبول من النّاحية التاريخيّة حيث إنّ ملِك صور “بيغماليون” قد حكم بين عامَي 820 و 772 قبل الميلاد.
وقد أوردَ قصّةَ أليسار وتأسيسها لقرطاجة الشّاعرُ الرّوماني الشّهير فيرجيل (Virgil) في ملحمته الرائعة “الإنيادة” (Aeneid). وتتحدّث الملحمة في بدايتها عن قدوم البطل الإغريقيّ “أنياس” إلى شواطئ شمال أفريقيا حيث أخبرته “أفروديت” قصّة أليسار، لتنشأ بعد ذلك قصّة رومانسيّة تجمعه مع المَلِكة الفينيقيّة.
ربّما من المؤسف أنّ الفينيقيين لم يحتفظوا بكتابات عن أمجادهم وحُكّامهم، وكلّ ما انتقل إلينا هو قِصَصٌ كتبها خصومهم، ولا سيّما الرّومان الذين خاضوا مع القرطاجييّن ما عرف بـ “الحروب البونيّة”، والذين كتبوا عن أليسار والفينيقييّن وقرطاجة بينما أصوات فِيَلَةِ هنيبعل لا زالت تزعق في آذانهم وجيوش الغازي الفينيقيّ الجرّارة تُحاصر روما.
لأسباب تاريخيّة وجغرافية اختلفت فلسفة قرطاجة عن مَنْشَئِها الفينيقيّ على السّواحل اللّبنانيّة ربّما لأنّ الممالكَ الأُمَّ في ظلّ الملك بغماليون هي التي ورثت امبراطوريّة الفينيقييّن البحريّة ومصالحهم التّجاريّة وفلسفتهم السلمية. بينما نزعت قرطاجة لمحاولة بناء إمبراطورية على النّمط التقليديّ أي مملكة تقوم على الجيوش العظيمة (التي تستخدم المرتزقة) والفتوحات وإخضاع الأمم الأخرى.
ولا بدّ من القول: إنّ خلاف أليسار وبغماليون وما رافقه من مكائدَ كان نذير شؤم على الإمبراطورية التي لم تكن قد شهدت حتى ذلك التّاريخ نزاعات بهذه الحدّة على المُلْك، كما أنّ قيام قرطاجة على ضرب وحدة المجتمع الفينيقيّ والطّموحات الجامحة التي غذّتها، وتبني فينيقيّو تلك المستعمرة النّائية لِعَقليّة توسّعية مناقضة تماماً لفلسفة الفينيقييّن المسالمة، كان أيضا نذير تحوّلات مشؤومة ستؤدّي قبل وقت طويل إلى انهيار قرطاجة وذهاب مجدها القصير، لكنّ النتائج الكارثيّة لن تقف عند ذلك الحدّ لأنّ التوتّر الشّديد وروح العداء الذي أثارته حملة هَنيبعل على روما ذهبت بالاحترام التّقليديّ الذي كانت تتمتّع به ممالك الفينيقييّن على ساحل المتوسّط وخلقت ما يكفي من المبررات لارتداد الرّومان على الممالك الفينيقيّة وإنهاء ملكها وإزالة آثاره إلى الأبد.

بشر الحافي

لا يجد من يحبّ الدنيا حلاوة العبادة

الإمام بشر الحافي

الصوفي الذي أمات نفسه

قل لمن طلب الدنيا: تهيأ للذل
الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيقَ

لا تعمل الحسنة لكي تُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة
ولا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح

الإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو نصر بِشْر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وعبد الله كان اسمه بعبور، أسلم على يد علي بن أبي طالب (ع). كان واحدًا من كبار أعيان السلف الصالح الذين ولدوا في القرن الثاني الهجري. ومن الألقاب التي أطلقت عليه في زمنه “الإمام العالم” “المحدِّث” “الزاهد” “الرباني” “القدوة” و”شيخ الإسلام”.
ولد سنة 152هـ، وارتحل في العلم وأخذ عن مالك وشريك وحماد بن زيد، وكان عالمًا ورأسًا في الورع والإخلاص، صَحِب الفضيل بن عياض، قال السّلمي: كان بشر من أولاد الرؤساء، فصحب الفضيل، سألت الدارقطني عنه، فقال: زاهد، جبل، ثقة، ليس يروي إلا حديثًا صحيحًا. وقال عنه أبو حاتم: ثقة رضي، ووثقه مسلمة، أصله من مرو سكن بغداد ومات بها، سنة 227 هـ وهو ابن 76 سنة. وقد أفرد ابن الجوزي مناقبه في كتاب.

سبب توبته
قيل أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله تعالى وقد وطئتها الأقدام، فالتقطها واشترى طيبًا فطيّب به الورقة ووضعها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلا يقول: يا بشر، طيّبتَ اسم الله، ليُطَيّبَنّ اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبّه من نومه تاب.

شيوخه
سمع الحديث من إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَابْنِ المُبَارَكِ وغيرهم.
حَدَّثَ عَنْهُ: أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الجَوْهَرِيُّ، وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ هَانِئ النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.

مناقبه
بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخَلْق.
كان له ثلاث أخوات زاهدات ورعات استفاد منهن، وقد أورد ابن خلكان في “وفيات الأعيان” قصة مُفادها أن امرأة دخلت على الإمام المجتهد أحمد إبن حنبل (ر) وسألته قائلة: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ أن أبَيّنَ للمشتري غزل السراج من غزل القمر، فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك. وسألته غير ذلك من الأسئلة وخرجت.
فقال الإمام أحمد عنه لابنه عبد الله: ما سمعتُ إنسانًا قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة اتبعها، فتبعها ابنه إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرف أنها أخته، ولما أخبر الإمام أحمد قال له: هذا والله هو الصحيح، لا تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.
ويروي ابن خلكان عن سبب تسميته بالحافي أنه جاء إلى إسكافي يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، وهو الزمام يوضع في النعل ويكون بين إصبعين، فقال له الإسكافي: ما أكثر كلفتكم على الناس أيها الفقراء، فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف ألا يلبس نعلاً بعدها.
ومن الروايات التي تظهر تقواه وورعه ما رواه الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” وهو أن أخته قالت له: يا أخي قد بلي إزارك، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك، فصار يأتي بالقطن ويحسب وزنه حتى انتهت أخته من الغزل، فأخذه وأخرج ألواحه ووَزَنَه فإذا بأخته قد زادت فيه فأعاده إليها وقال: كما أفسدتِيهِ خذِيه.

ومن أخبار مخالفته لنفسه
ذكر الخطيب البغدادي أن أم بشر الحافي قالت له: أطلب لي سفرجلة، فجاء بها وصار يشمها ووضعها بين يديه، فقالت له أمّه: يا أبا نصر كُلْها فما زال يشمها وأبى أن يأكل السفرجل في كل حياته.
وعن “تاريخ بغداد” أيضًا أن جارًا له بقالا كان قد عمل طعامًا لذيذًا مطبوخًا بالباذنجان، فمر بشر فنظر إليه فعلم البقال أنه اشتهاه، فتبعه وقال له: بأبي أنت، هذا الباذنجان تعمله بُنيَّة لي من غزل تغزله وأبيعه لها فخذ منه ما شئت، فقال له بشر: ارجع حفظك الله، فرجع البقال وسمعه يخاطب نفسه قائلاً: هيه، افتضحتِ، تشتهين الباذنجان بأصباغه؟ والله لا تذوقينه حتى تفارقي الدنيا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرْوَزِيُّ: سَمِعْتُ بِشْراً يَقُوْلُ:الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيْقَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بنَ الحَارِثِ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأَشتَهِي شِوَاءً مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً مَا صَفَا لي درهمه.

قال محمد بن عبد الوهاب الفراء: حدثنا علي بن عثام، قال : أقام بشر بن الحارث بعبادان يشرب ماء البحر، ولا يشرب من حياض السلطان، حتى أضر بجوفه، ورجع إلى أخته وَجِعا، وكان يعمل المغازل ويبيعها ، فذاك كسبه. وكان يأكل الخبز فقط فقيل له: أما لك أدم؟ فقال: بلى أذكر العافية فأجعلها أدماً.

حكمه ومواعظه
كان بشر الحافي لا يتكلم إلا في الخير، وإذا تكلم كان جُلّ كلامه حكمًا ومواعظ تذكر بالآخرة وتحث على الازدياد من الطاعات والخيرات، كما كان لسانه لا يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أقواله في الحكمة والحث على التقوى أنه سئل عن القناعة فقال:“ لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزئ”، ثم أنشد يقول:
أفادتنـــــــي القنـــاعةُ كُــــــــــــــلُّ عـــــــــــــزٍ وهل عزٌ أعـــزُّ مـــــــن القنـــاعــــة؟
فصِّيْــــــــــرها لنفســكَ رأس مـــــــــالٍ وصيرِّ بعدها التقــــــــــــــوى بضــاعـــةْ
تَحـــُزْ ربحـاً وتغنى عــــــــــن بـــــــخل وتنعمُ في الجنــــــــــانِ بصبرِ ساعةْ

ومن أشعاره الحِكَمية قوله:
قَطْعُ الليـــالي مـــــــــــــــــع الأيام في خَلَـــــقِ والنوم تحت رُواق الهـــــم والقلـــــق
أحرى وأعـــذرُ لي من أن يقال غدا إني التمست الغنى من كف مختَلَق
قالوا رضيتَ بذا قلتُ القُنوع غِنىً ليس الغنى كثرة الأمـوال والورِق
رضيتُ بالله في عسري وفي يُسري فلســـت أسلك إلا أوضح الطُـــرُق
ومن دعائه: “اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني”.

ثناء العلماء عليه
بدأ الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” ترجمة بشر الحافي بقوله: “وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفرة العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول”. وقال مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في هذا الرجل فقال: أي رجل قيل: بشر، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت رجالات الدنيا، لم أرَ مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءًا عقلا، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نُفخ فيه علم.
وقَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ عَقْلاً مِنْ بِشْرٍ، وَلاَ أَحْفَظَ لِلِسَانِه، كَانَ فِي كُلِّ شَعرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَطِئَ النَّاسُ عَقِبَه خَمْسِيْنَ سَنَةً، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ!

وفاته
ذكر ابن خلكان عدة أقوال في وفاته فقال: “توفي في شهر ربيع الآخر سنة مائتين وست وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وسبع وعشرين، وقيل يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل بمرو” وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة.

ثناء العلماء عليه
قال إلإمام أحمد بن حنبل يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس ولو تزوج لتم أمره. وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله، وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة مسلم، وكان في كل شعرة منه عقل ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.
وقال يعقوب بن بختان : سمعت بشر بن الحارث يقول : لا أعلم أفضل من طلب الحديث لمن اتقى الله ، وحسنت نيته فيه، وأما أنا، فأستغفر الله من طلبه، ومن كل خطوة خطوت فيه
قِيْلَ: كَانَ بِشْرٌ يَلحَنُ وَلاَ يتقن العَرَبِيَّةَ وكَانَ رَأْساً فِي الوَرَعِ وَالإِخْلاَصِ ثُمَّ إِنَّهُ دَفَنَ كُتُبَهُ.
رُوِيَ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: ألَّا تُحَدِّثُ؟ قَالَ: أَنَا أَشْتَهِي أَنْ أُحَدِّثَ وَإِذَا اشتَهَيتُ شَيْئاً تَرَكْتُه.

جماهير بغداد تؤبنه
لما مات كانت جنازته حافلة جدًا حتى أنه أخرج من بيته بعد صلاة الفجر، فلم يوضع في قبره إلا بعد صلاة العشاء. وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة، وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

من أقواله

رؤية:إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
من صور الرياء:قال قد يكون الرجل مرائيًا بعد موته! فسئل: كيف يكون ذلك؟ فال: يحب أن يِكثُر الخلق في جنازته.
خطر الشهوات: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدًا
الإخلاص في طلب العلم:لا أعلم شيئًا أفضل منه إذا أريد به الله. – يعني: طلب العلم.
من معاني التوكل:الرضى بالمقدور: يقول أحدهم: توكلت على الله! يكذب على الله! لو توكّل على الله رضي بما يفعل الله.
وصية: قال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أَخْمِل ذكرك، وطيِّب مطعمك.
العبد الخفي:لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس
علامة حب الدنيا:حب لقاء الناس حب الدنيا وترك لقاء الناس ترك الدنيا
من عقوبات حب الظهور والشهرة:لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح
ذم المدح والانبساط إليه:سكون النفس إلى المدح وقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي
ذم الشهرة:ما أتقى الله من أحب الشهرة.
الزهد:لو سقطت قلنسوة من السماء ما سقطت إلا على رأس من لا يريدها.
كتمان الحسنات:لا تعمل لتُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة.
نصيحة لأهل الحديث:يا أصحاب الحديث، أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟ قال: تعملون من كل مائة حديث بخمسة أحاديث.
الهوى:من جعل شهوات الدنيا تحت قدميه فرق1 الشيطان من ظله، ومن غلب علمه هواه فهو الصابر الغالب. واعلم أن البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه.
الصحبة السيئة:صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
نصيحة لمن يريد الدنيا: أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن يطلب الدنيا، اطلبها ممن بيديه الدنيا.
من يستحق أن يسأل:من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأَل.
علامات:علامة طاعة الله تسليم أمره لطاعته، وعلامة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليم آثاره والعمل على سنته، ولا يلتفت إلى غيره.
نصيحة سديدة:لا تكاد تضع يدك إلا على مراءٍ؛ إما مراءٍ بدين وإما مراءٍ بدنيا وهما جميعا شر شيء فانظر أشد الناس توقيا وأعفهم وأطيبهم مكسبا فجالسه ولا تجالس من لا يعينك على آخرتك.
وقفة تأمل:وقف بشر على أصحاب الفاكهة فجعل ينظر إليها فقيل له: يا أبا نصر لعلك تشتهي من هذا شيئًا؟ قال: لا ولكن نظرت في هذا إذا كان يطعم هذا من يَعصيه، فكيف من يطيعه؟!
ذم الإسراف:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الحلال لا يحتمل السرف.
الأخذ من الناس مذلة:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الأخذ من الناس مذلة.
رؤية:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: ليس هذا زمان اتخاذ إخوان إنما هو زمان خمول ولزوم البيوت.
في الوقت أَمْسُ قَدْ مَاتَ وَاليَوْمُ فِي السِّيَاقِ وَغَداً لَمْ يُولَدْ.
حلاوة العبادة:لا يجد من يحب الدنيا حلاوة العبادة.
وقال، يوم ماتت أخته إن العبد إذا قصَّر في الطاعة سُلِب من يؤنسه “
سَمِعَهُ رَجُلٌ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ.

 

إدوار سعيد

البروفسور-إدوارد-سعيد
البروفسور-إدوارد-سعيد

إدوارد سعيد
في كتابه «الاستشراق»

ثَبْتٌ علميٌّ بقاموس الاستشراق الاستعماريّ
لكنّ تعميم الإدانة أثار جدلاً بين الأكاديميين

نابليون-أمام-أبو-الهول----لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها
نابليون-أمام-أبو-الهول—-لوحة-لجون-ليون-جيروم-تلخص-حلم-الاستشراق-في-إخضاع-مجتمعات-اعتبرت-غير-قادرة-على-حكم-نفسها

“هل هو خيرٌ لهذه الأمم العظيمة-وأنا أعترفُ بعظمتها- أنْ نقومَ نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المُطلق عليها؟ في ظَنّي أنَّ ذلك خير”
(لورد بلفور)

نَشّرَ المفكّر الفلسطينيّ الرّاحل كتابه عن “الاستشراق” لأوّل مرّة باللّغة الإنكليزيّة في العام 1978 تحت عنوان (Orientalism) وأحدث الكتاب، الذي تضمّن إدانة غير مسبوقة لإرث الاستشراق وعلاقته بخطط الهيمنة الغربيّة على الشّرق، أصداءً واسعة في الأوساط الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتّحدة كما أحدث جدالاً نشطا وحماسيا، إذ انبرى عدد من المفكّرين من بينهم ألبرت حوراني وماكسيم رودنسون وجاك برك وبرنارد لويس (الذي اعتبره سعيد نموذجاً للاستشراق المعاصر المنحاز للغرب وإسرائيل) وغيرهم لنقد ما اعتبروه تعميماً غير عادل في الحكم على حركة الاستشراق وعمل المستشرقين. وقد دفع النّقاش البروفسور إدوار سعيد للردّ على منتقديه في كتب أو مقالات لاحقة. لكن بِغَضِّ النّظر عن الجدل الذي أثاره الكتاب فإنّ أصدقاء سعيد وكذلك ناقديه يعترفون بأنّ كتابه عن الاستشراق أصبح أكثر المؤلّفات الفكريّة المعاصرة شهرةً وتأثيراً في عالم الدّراسات المشرقيّة في العالم، وأنّه ساعد في تسليط الضّوء على مسألة التحيّز الحضاريّ والثّقافيّ في كتابة التّاريخ من قبل المستشرقين الغربيّين، وخلق بالتّالي مناخاً جديداً أكثر توازناً في أروقة الجامعات ومعاهد الأبحاث الغربيّة الأوروبيّة والأميركيّة ونظرتها إلى “الآخر” وخصوصاً الشّعوب العربيّة-الإسلامية والأسيويّة والأفريقيّة.
أما إدوار سعيد نفسه فقد أصبح شخصيّة عالميّة يدعى باستمرار من قبل الجامعات والمؤسّسات الثّقافيّة والفكريّة لإلقاء المحاضرات حول مختلف المواضيع الفكريّة والسّياسيّة، وقد حاضر سعيد في أكثر من 200 جامعة في الشّرق الأوسط وكندا والولايات المتّحدة وأوروبا ونشر أكثر من 20 كتاباً أربعة منها حول الموسيقيّ (وقد كان عازفَ بيانو بارعاً) كما حاضر سعيد في أشهر الجامعات الأميركيّة (مثل هارفررد وجون هوبكنز ويايل وغيرها) إضافة إلى منصبه كرئيس لمركز دراسات الشّرق الأوسط في جامعة كولومبيا والتي رقَّتهُ في العام 1992 إلى رتبة بروفِسور، وهي من أعلى الرّتب الجامعيّة ونادراً ما يحصل عليها إلّا القلّة من المفكّرين المبدعين.
اعتَبر إدوارد سعيد أنّ جذور الاستشراق كما وصفه (أي كسلاح فكريٍّ لتبرير الهيمنة وسياسات إخضاع شّعوب العربية والإسلامية خصوصا مع بداية القرن التّاسِع عشر) تكمن في عدد من العوامل أهمّها:
التّاريخ الطّويل من تقليد كُره العرب والمسلمين في الغرب الذي بدأ مع الحملات الصّليبيّة وحروب الأندلس ثم الحروب مع الدّولة العثمانيّة والتي اعتُبرت في وقت من الأوقات تهديداً خطيراً لأوروبّا. لقد تمّ لأغراض سياسيّة تصوير العرب والمسلمين بأكثر الصّور سلبيّة وإثارة للخوف ولمشاعر الكراهية باعتبارهم شعوباً همجيّة تستهدف الحضارة المتقدّمة والأرفع للمجتمعات الغربيّة المسيحيّة.
قيام دولة إسرائيل وما تبعه من صراع وجوديّ بين الدّولة الغريبة وذات الأصول الثقافيّة الأوروبيّة وبين محيطها العربيّ والإسلاميّ. وقد أدّى تأسيس وجود صهيونيّ غاصب في “أرض الميعاد” إلى استنفار العالم اليهوديّ عموماً وخصوصاً المفكّرين اليهود أو المتعاطفين مع إسرائيل لإنتاج كمٍّ كبير من الأدبيّات التي استهدفت جميعها تطبيق النّهج الاستشراقيّ عبر تقديم إسرائيل كممثّلة للديمقراطيّة وللحضارة الغربيّة الرّائدة في جميع الميادين والمهدّدة من البيئة المتخلّفة والاستبداديّة للمجتمع المشرقيّ العربيّ والإسلاميّ.
الغياب شبه التّام لأيّ تجربة مضادّة أو موقع ثقافي أو مؤسّسة كبرى لها نفوذها في الغرب يمكنها أن توفّر عنصر توازن ولو جزئي مع الجوّ الشّامل من التّحيّز والتّصوير غير الموضوعي والمبرمج سياسيّاً للشّعوب المشرقيّة.
انتقال الكثير من المقولات التي تتردّد في كتابات المستشرقين إلى صعيد الثّقافة الشّعبيّة ولاحقاً وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء، الأمر الذي سمح بتوسيع نفوذ نظرة الاستشراق المنحازة إلى المصالح الغربيّة لتصبح أيضاً ثقافة شعبيّة من صور نمطيّة مشوّهة عن العرب والمسلمين يمكن البناء عليها في العمل السياسيّ أو الغزوات العسكريّة وتحريك الرّأي العام. (مثلاً اجتياح العراق سنة 2003 والتّدخل الغربيّ في ليبيا ثم التّدخّل الغربيّ الحاليّ في سوريا والعراق.)..
ومن دون الدّخول في المناظرة التي قامت حول كتاب “الاستشراق” للبروفِسور إدوارد سعيد سنقوم هنا باختيار نماذج من التّفكير الاستشراقيّ الذي تمحورت شكوى سعيد عليه في الكتاب، وهي نماذج كثيرة وتكاد لا تحصى، علماً أنّ المقولات المنحازة والعدوانيّة أحياناً ضدّ المشرق وضدّ العرب والإسلام لم يكن مصدرها أشخاص هامشيّون أو كُتّاب مغمورون بل مفكرون أو سياسيّون لعبوا أدوراً كبيرة في بلورة السّياسات الاستعماريّة لبلادهم تجاه البلدان المشرقيّة والأسيويّة.
يؤرّخ سعيد لبدء ظهور الاستشراق الرّسميّ بصدور قرار مجمع فينّا الكَنَسيّ عام 1312م بتأسيس عدد من الكراسي الأستاذيّة في العربيّة واليونانيّة والعبريّة والسّريانيّة في جامعات باريس وأوكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامانكا كانت الفترة يومها فترة ازدهار وقوة للدّولة العثمانيّة التي ستقوم بعد 141 عاما (1453) من ذلك التاريخ بإسقاط القسطنطينيّة وتهديد روما نفسها على يد السّلطان محمّد الفاتح. لقد أدّت حيويّة المجتمع العثمانيّ والخلافة الإسلاميّة في عصر بني عثمان إلى فترة من المهادنة كانت الكلمة العليا فيها للمسلمين، وقد حقّقت الخلافة العثمانيّة في أوجها وقبل بدء انحدارها في القرن الثّامن عشَرَ إنجازات مُبهرة في جميع الميادين وقدّمت نموذجاً عن دولة منفتحة ونظام تسامح ديني وعرقي جعل جميع الشّعوب التي تعيش في ظلّها تنعم بمراحل سلام طويلة، كما جعل اليهود الذين فرّوا من أسبانيا الكاثوليكيّة أو تم طردهم منها بالجملة في العام 1492 يتوجّهون إلى الدّولة العثمانيّة طلباً للأمان ولبناء حياة جديدة مزدهرة في المجتمعات الإسلاميّة إلى جانب الأقليّات الكثيرة التي استظلّت النّظام المنفتح والمتسامح للخلافة العثمانيّة لمئات السّنين.
يلاحظ إدوارد سعيد أنّ حركة الاستشراق شهدت نهضة كبيرة في بدايات القرن التاسع عشر، وذلك عندما بلغ عدد الحجّاج الأوروبيين إلى القدس مثلاً أعداداً هائلة لا تكاد تقارن أبداً بعدد الشّرقيّين الذين كانوا يتوافدون على أوروبا لأسباب مختلفة. وأصبح الشّرق الشّغل الشّاغل للكتّاب والمؤلّفين في أوروبا حيث بلغ عدد الكتب المؤلّفة منذ عام 1800 وحتى عام 1950 نحو 60,000 كتاب.! أي بمعدّل 400 كتاب في السّنة الواحدة أيّ أكثر من كتاب واحد في اليوم، وطبعاً لا مقارنة مطلقاً بعدد الكتب التي كُتبت في الشّرق عن الغرب.
كانت الدّولة العثمانيّة بدأت تكشف عن مظاهر شيخوخة وضَعف في تلك الفترة بالتّحديد، وقد شعرت الدّول الأوروبيّة بذلك من خلال تواجدها الكثيف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ في أنحاء الدّولة، وبدأت بالتّالي ما يمكن اعتباره أكبر عمليّة استكشاف للدّولة الهَرِمة واستطلاع للسّبل التي يمكن اعتمادها لاحقاً وعندما تحين الفرصة للاستيلاء على ممتلكاتها الواسعة، وستبدأ الحركات اليهوديّة لاحقاً ومن جهتها بعمليّات استطلاع تتعلّق بمشروعها الصّهيوني لإقامة وطن لليهود في فلسطين العثمانيّة عندما تحين الفرصة لذلك.
يعتبر إدوار سعيد حملة نابليون على مصر في العام 1798-1801 أحد أهمّ الأحداث التي أثّرت على بلدان المنطقة وعلى حركة الاستشراق، وهو يعتبر أنّ لغة الاستشراق ذاتها شهدت تغيّراً جذريّاً بسبب الحملة وارتقت في واقعيّتها الوصفيّة وأهدافها لتصبح وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات (على النحو الذي تم في معاهدة سايكس-بيكو) وإعادة بنائها وتجميعها بالاستناد إلى جهود عدد من المستشرقين، وصار كِتاب “وصف مصر” نقطة تحوّل وحجر زاوية في الرّؤية الأوروبيّة للشّرق وطريقة تعاملهم مع المنطقة.

القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917
القوات-البريطانية-تدخل-بغداد-في-أواخر-1917

يتوقّف إدوار سعيد بصورة خاصّة أمام بعض المقالات والأقوال لـ آرثر جيمس بلفور، السّياسيّ البريطانيّ البارز (رئيس وزراء بريطانيا بين 1902 و1905) وصاحب وعد بلفور الشّهير والذي كان من أبرز سياسيّيّ الإمبراطوريّة البريطانيّة وأكثرهم تمرّساً في الحرب والدبلوماسيّة، ممّا جعل منه مرجعيّة كبيرة في صياغة علاقات الغرب مع الشّرق. يقول بلفور “ قبل كلّ شيء أنظُر إلى حقيقة المسألة وهي: إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التّاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذّات، لأنها تمتلك مزايا خاصّة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشّرقيّين بأكمله فيما يسمّى بشكل عام “المشرق”، دون أن تجد أثراً لحكم الذّات على الإطلاق. كلّ القرون العظيمة التي مرّت على الشّرقيّين -ولقد كانت عظيمة جداً- انقضت في ظلّ الطّغيان والحكم المطلق. وكلّ إسهاماتهم العظيمة في الحضارة الإنسانيّة -ولقد كانت عظيمة- أُنجِزت في ظلّ هذا النّمط من الحكم، فقد خلَّفَ كلُّ فاتحٌ فاتحاً آخر. غير أنك في دورات القدر والمصير كلّها لا ترى أمّة واحدة من هذه الأمم تؤسّس بدافع من حركتها الذّاتية ما نسمّيه نحن من وجهة نظر غربيّة “حكم الذّات” Sefl-rule ثم يطرح بلفور السُّؤال: هل هو خير لهذه الأمم العظيمة -وأنا أعترف بعظمتها- أن نقوم نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المطلق (عليها)؟ في ظَنّي أنّ ذلك خير. وفي ظَنّي أيضاً أنّ التّجربة تُظهر أنّهم في ظلّ هذا النّمط عرفوا حكماً أفضل بمراحل مما عرفوه خلال تاريخ عالمهم الطّويل كلّه. ونحن في مِصْرَ لسنا من أجل المصريّين وحسب، نحن هناك أيضاً من أجل أوروبا كلّها.
ويؤكّد بلفور في قول آخر ما قام به اللّورد كرومر من خدمات لمِصْرَ في قولة “وقد ارتقت خدمات لورد كرومر بمِصرَ، خلال ربع القرن الماضي، من أدنى درجات المهانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى حيث تقف الآن بين الأمم الشّرقيّة فريدة في اعتقادي دون منازع في ثرائها ماليّاً وأخلاقيّا”.
يقول إدوارد سعيد إنّ الآراء المعاصرة للمستشرقين حول الشّرقيّين تطغى على الصّحافة والعقل الشّعبي، فالعرب مثلا يُصوَّرون على أنّهم راكبو جمال إرهابيّون معقوفو الأنوف شهوانيّون شَرِهون تمثّل ثروتهم غير المُستحقَّة إهانة للحضارة الحقيقيّة، وثمّة دائماً افتراض بأنّ المستهلك الغربيّ رغم كونه ينتمي إلى أقليّة عدديّة، هو ذو حق شرعيّ إمّا في امتلاك معظم الموارد الطّبيعيّة في العالم أو في استهلاكها أو في كلاهما معاً لماذا؟ لأنّه بخلاف الشّرقيّ “إنسانٌ حقيقيّ”
وهو يضيف القول: “إنّ غربيّاً من الطّبقة الوسطى يؤمن بأنّه لَحَقٌّ طبيعيٌّ له لا أنْ يدير شؤون العالم غير الأبيض فحسب، بل أنْ يمتلكه كذلك لمجرّد أنّ العالَمَ الأخير تحديداً ليس بالضّبط إنسانيّاً تماما بقدر ما “نحن” كذلك” .
في منظومة شاتوبريان (صفحة 186) يقول:” لم تـَـدُر الحرب الصّليبيّة حول إنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض: مذهبٌ تعبُّدي هو عدوٌّ للحضارة، محبِّذ باطراد للجهل (يقصد الإسلام طبعاً) وللطّغيان وللعبوديّة، أو مذهب تعبُّدي تمكّن من أن يوقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزّمن الغابر الحكيم وألغى العبوديّة الدّنيئة “
يكمل شاتوبريان طارحاً فكرة ملفّقة طالما ترددت في الكتابة الأوروبيّة وهي كيف علَّمَت أوروبّا الشّرق ولقّنته معنى الحرّيّة حين يقول: “عن الحرّيّة لا يعرفون شيئاً من آدابها، ليس لديهم شيء، القوّة هي ربُّهم؛ وحين تمرّ بهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين يطبقون عدالة السّماء فإنّهم يبدون مثل جنود دون قائد، مثل مواطنين دون مُشَرِّعين، مثل عائلة دون أب.”
هنا يربط سعيد بين الفترة الزّمنيّة (1810) التي قيلت فيها تلك الكلمات وعاشها شاتوبريان وبين (1910) وما قاله كرومر محتجّاً بأنّ الشرقيين هم الذين يطلبون الفتح مظهراً بذلك عجزه عن أن يرى الغزو الغربيّ للشّرق ليس كغزو بل كـ “عمل خير” يعطي للشّعب المحتلّ “حرِّيته” التي طالما تمنّاها. أي أنّها ذات العقليّة بنفس الأدوات وطريقة التّفكير وحتى طريقة استعمال الألفاظ حتى بعد مرور مائة عام. ولو تمعَّنّا قليلاً فإنّنا في 2006 نجد أي بعد مرور مئة سنة أخرى تقريباً (رامسفيلد وديك تشينى وبوش وآخرين في الحزب الجمهوريّ الحاكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وطونى بلير وبراون ) يتكلّمون بذات الطّريقة والأسلوب بل وبذات الكلمات تقريباً عن اجتياح العراق واحتلاله وضرورة “تحريره” وتحرير أبنائه وزرع مفهوم الديمقراطيّة والحريّة في أرجائه بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين.
يؤكّد سعيد على أنّ القوى العظمى درَسَت بعناية جميع الأقليّات من يهود وروم أرثوذوكس وأرثوذوكس روس ودروز وشركس وأرمن وأكراد فضلا عن المذاهب والملل المسيحيّة الصّغيرة المختلفة، وتمّ في ضوء ما جُمع من معلومات وكُتب من تقارير التّخطيط لمصير كلّ مجموعة وكيف يمكن استخدامها، وكانت تلك القوى ترتجل وتصوغ وتبني سياستها في الشّرق على تلك الأسس، كما حدث في العام 1860 أثناء الصّدام بين الموارنة والدّروز في لبنان حيث ساندت فرنسا الموارنة في سياق الخطط التي تسارعت يومها لتمزيق أوصال الدّولة العثمانية.

أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقين
أرنست-رينان-لخص-التفكير-المتعالي-والاستعماري-لبعض-المستشرقينال

حوارات طاغور وأينشتاين

حِوارات طاغور وأينشتاين

بين حسابات العالِم وتجليّات العِرفان الصّوفيّ

أينشتاين: الفيزياءُ الكوانطيةُ لم تَقُلْ «مع السّلامة» لقانون السّببيّة
طاغور: ربّما، لكنْ هناك قوّة أخرى فاعلة تفسّر هذا الوجود المنظّم

أينشتاين                                                                                    طاغور

العالم موجود باستقلالٍ عن الإنسان وعن فكرِه                                          لو لم يكن الإنسان مُشترِكا
وقوانين الوجود لا يمكنُ للفكر أن يبدِّل مفاعيلها                                         في حقيقة الوجود فكيف يمكنُه أنْ يدركَه أو أن يفهمَ أبعادَه؟

في ثلاثينيّات القرن الماضي حصلت لقاءات عدّة بين عالم الفيزياء النوويّة والرّياضي الشهير أينشتاين وبين شاعر وفيلسوف هندي (كان شهيراً بدوره) هو رابندرانات طاغور. واعتبرت تلك الحوارات نصوصاً نموذجيّة لإظهار الاختلاف الكبير بين النظريّة الماديّة للكون وبين النّظريّة الدينيّة أو الروحيّة للوجود. ولا زالت نصوص تلك الحوارات تُعتّبر مادّة للبحث والتّعليق من قبل مواقع علميّة أو فلسفيّة وهذا رغم أنّها نصوص موجَزة وجرت على شكل محادثات تمّ تسجيلها يومذاك.
لم يُفلح طاغور بالضّرورة في إقناع أينشتاين أو تقديم شرح مفحم لوجهة النّظر الصّوفيّة الهنديّة لأنّه لم يكن من الحكماء أصحاب الاختبار المباشر بقدر ما كان شاعرا مبدِعاً ومتأثرا جدّاً باختبارات الحكمة والتّقليد الهندوسي الفيدانتي لكنّه تمكّن في الحوار من عرض وجهة النّظر المخالفة للنّظريات الماديّة الطّبيعيّة التي يمثّلها أينشتاين. وقد تلخّصت وجهة نظر طاغور في أنّ العالم ليس موجوداً خارج وعي الإنسان أي أنّه لا يوجد عالم مادّي من دون إنسان مدرك لهذا الوجود، من هنا قوله إنّه لو لم يكن الإنسان مشتركا في حقيقة الوجود فكيف يمكنه أن يدركه أو يفهم أبعاده؟
على العكس من ذلك فإنّ أينشتاين كان مقتنعاً بأنّ العالم موجود بقوانينه ولاسيّما قوانين السّببيّة مستقلّا عن الإنسان أو عن فكره. لذلك لم يقبل أينشتاين بفكرة أنّ هناك وعياً كونيّاً يتحكّم بالطّبيعة. في الطّرف المقابل برز عالم الفيزياء بوهر الذي طوّر نظريّة الفيزياء الكوانتيّة والذي توصّل إلى القول مع فلاسفة الفيدانتا الهنود بأنّ العالم الماديّ غير موجود إلا بمعيار حواسّنا النّسبية (وهي أدوات قاصرة عن إدراك حقيقة الوجود)..وقد فوجئ أينشتاين بنظريّة نيلز بوهر في الفيزياء الكمّيّة أو الكوانتيّة التي أثبتت أنّ العالم لا يسير وفق قوانين سببيّة صارمة وأنّ الوجود فيه قدر كبير من الحرّيّة لكنّه رغم الأدلّة القويّة على صحّة الفيزياء الكوانتيّة فإنّه أصرّ على عدم القبول بها مُطلِقا تصريحه الشّهير: “الله لا يلعب النّرد”.! وعلى هذا التّصريح ردّ بوهر على أينشتاين بالقول: “كُفّ عن إخبار الرّب ماذا عليه أن يفعل بالنّرد” مُلمحا إلى أنّ الله تعالى غير مقيّد بالسّببيّة وهو فعّال لما يريد وهو عكس النّظريّة الماديّة في تفسير الوجود التي تبنّاها أينشتناين.
أمّا طاغور فقد تضمّن موقفه تسوية تقول بوجود العالم. لكنّ وجوده يخضع إلى إرادة قوية واعية أو وعي كوني هو الذي يعطي لهذا الوجود تناغمه وتوازنه ومعناه.
في ما يلي تعرض “الضّحى” لنصوص من حوارين جَرَيا بين طاغور وبين أينشتاين، وذلك على سبيل توضيح مرتكزات التّفكير الطّبيعي أو الماديّ وفي المقابل التّفكير الرّوحيّ الذي يَعتبر أنّ من المُستحيل وجود الكون الماديّ إلّا بالتّكامل مع الوعي الإنسانيّ الذي هو انعكاس للوعي الكونيّ الشّامل الذي يحرّك الكون ويعطي لحركته صفات التّناغم والتّوازن والكمال المناقضة تماماً لفكرة الصّدفة أو العشوائيّة.
أينشتاين: هل تؤمن بوجود إلهيّ معزول عن العالَم؟
طاغور: إنّه ليس معزولاً، فالشّخصية اللّامتناهية للإنسان تستوعب الكون وما من شيء لا يمكن للشّخصية الإنسانيّة أن تشمله، وهو ما يُبرهِن أنّ حقيقة الكون هي حقيقة الإنسان.

لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930
لقاء-طاغور-وأينشتاين-في-برلين-في-العام-1930

أينشتاين: ثمة مفهومان مختلفان حول طبيعة الكون: العالَمُ كوحدة تعتمد على الإنسان، والعالَمُ كواقعٍ مستقلٍّ عن الإنسان.
طاغور: عندما يكون الكونُ متناغماً مع الإنسان، فإنّ ذلك الوجود الأزليّ، نُدرِكه كحقيقة، ونشعرُ به كجمال.
أينشتاين: إنّه مفهومٌ إنسانيٌّ محضٌ للكون.
طاغور: إنّ هذا العالَمَ هو عالَم للإنسان، ووجهة النّظر العلميّة تجاهه هي أيضاً وجهة نظر الإنسان العلميّ. العالم المنفصل عنّا لا وجود له، إنه عالمٌ نسبيٌّ، وهو يعتمد في حقيقته على وعينا.
أينشتاين: إنّه بمثابة الإدراك للكينونة الإنسانيّة.
طاغور: نعم، كينونة أزليّة واحدة، وهذه الكينونة علينا أن نحقّقها من خلال أحاسيسنا ومن خلال اختبارنا اليومي. أي أننا نحقّق في أنفسنا الإنسان الأسمى الذي لا تحدّه قيود بواسطة شخصيّتنا الخاضعة لقيود كثيرة. العلم يجعل همَّه كل ما لا علاقة مباشرة له مع حالات فرديّة، إنّه علم الحقائق الشّاملة أمّا الدّين فيُدرك تلك الحقائق ويصل في ما بينها وبين احتياجاتنا الأعمق؛ وبهذا يكتسب وعينا الفرديّ للحقيقة معنىً كلّيّاً. ونحن نُدرِكُ أنّ تلك الحقيقة حقٌّ من خلال تناغمنا معها.
أينشتاين: إذاً، الحقيقة، أو الجمال، ليسا مستقلّين عن الإنسان؟
طاغور: لا.
أينشتاين: وإذا لم يعد ثمّة بشر، فلن يكون تمثال “أبولو” جميلاً.
طاغور: لا.
أينشتاين: أُوافقكَ في ما يختصّ بهذا المفهوم للجمال، لكن ليس في ما يتعلّق بالحقيقة.
طاغور: لِمَ لا؟ فالحقيقة إنّما تتحقّق من خلال الإنسان.
أينشتاين:لا يمكنني أن أبرهن على هذا الرّأي، لكنّه بمثابة عقيدتي.
طاغور: إنّ الجمالَ هو مثال التّناغم الأكمل الكامن في الكائن الكونيّ، والحقيقة هي الاستيعاب الكامل للعقل الأرفع. ونحن الأفراد نقترب من تلك الحقيقة عبر أخطائنا وهفواتنا، وعبر تجاربنا المتراكمة، ووعينا الممدود بالنور – وإلّا كيف يتسنّى لنا أن نُدرِك الحقيقة؟
أينشتاين: لا يمكنني تقديم إثبات عليه، لكنّني أؤمن بقول فيثاغوراس بأن الحقيقة مستقلة عن الوجود الإنسانيّ وهذا يشير إلى إشكاليّة المنطق والاستمراريّة.
طاغور: الحقيقة الأرفع، التي هي واحدة مع الكائن المُطلق، لا بّدّ أن تكون في جوهرها قائمة في الإنسان، وإلّا فإنّ كلّ ما نُدرِكه نحن الأفراد من الحقيقة لن يمكننا أن نُسمِّيه حقيقة أبداً، على الأقلّ الحقيقة التي نسمّيها علميّة، والتي يمكن بلوغها فقط عبر التّحليل المنطقي، أو بعبارةٍ أخرى من خلال أداة الفكر التي نمتلكها كبشر. فبحسب الفلسفة الهنديّة هناك البرهمان، الحقيقة المطلقة، والتي لا يمكن إدراكها بالفكر المُنعزل أو بالكلمات ولكن يمكن إدراكها فقط بانحلال الفرد في بعده اللانهائي. لكن مثل هذه الحقيقة لا يمكن امتلاكها من قبل العلوم فالذي نصفه أحيانا بأنّه الحقيقة ليس سوى مظهر لها أي ما يتراءى بأنّه حقيقة للفكر الإنسانيّ، ولهذا فإنّها حقيقة حسب التّصوّر الإنسانيّ أو ما نسمّيه السّراب الكونيّ Maya أو الوجود الموهوم.
أينشتاين: ما تشير إليه ليس وهماً بالنّسبة للفرد بل هو وهمُنا كجنس (بشريّ)
طاغور: الجنس البشريّ يعود أيضا إلى وجود واحد هو الإنسانية، وهذا ما يجعل العقل البشري بمجملة قادر على إدراك الحقيقة نفسها. العقل الهنديّ والعقل الأوروبيّ يلتقيان في إدراك كشفيّ مشترك.
أينشتاين: حتى في حياتنا اليوميّة، هناك أشياء نعملها بمساعدة فكرنا دون أن تكون لنا أي مسؤوليّة عنها. فالفكر يتعرّف على حقائق موجودة خارجه لكن وجودها مستقل عنه. مثلاً: قد لا يكون هناك إنسان في هذه الغرفة لكن هذه الطّاولة ستبقى حيث هي.
طاغور: نعم ستبقى حيث هي بالنّسبة للفكر الفرديّ لكن ليس بالنّسبة للوعي المُطلق، فالطّاولة موجودة كشيء ومُدْرَكة بسبب وجود وعي فردي نمتلكه كأفراد.
أينشتاين: لو لم يكن هناك أحد في المنزل فإنّ الطّاولة ستكون موجودة في كل الحالات. لكن هذا الواقع مشكوك في صحّته من وجهة نظرك لأنّه ليس في إمكاننا أن نشرح معناه. إنّ وجهة نظرنا الطّبيعيّة في ما خصّ وجود الحقيقة باستقلال عن البشريّة لا يمكن شرحها ولا إثباتها. لكنّه اعتقاد لا يمكن لأحد أن يعوزه، حتّى الإنسان البدائيّ. فنحن ننسب إلى الحقيقة (المُطلقة) وجوداً إنسانيّاً موضوعيّاً لأنّ ذلك حاجة أساسيّة لنا. لكنْ هذه الحقيقة مستقلة عن وجودنا وعن اختبار فكرنا رغم أنّه ليس في إمكاننا أن نقول ماذا تعني أو أن نشرحها.
طاغور: في جميع الحالات، لو كان هناك أي حقيقة (مُطلقة) لكنّها غير متصلة إطلاقا بالإنسانية فإنّها إذن غير موجودة.
أينشتاين: إذن فإنّني أكثر تديّنا منك!
طاغور: إنّ عقيدتي تقوم على التواؤم التّام بين الإنسان الأسمى وبين الرّوح المُطْلَق في داخل وجودي المنفرد.

الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني
الحكمة-الشرقية-وجدت-أن-أقصر-الطرق-إلى-المعرفة-الكاملة-ليس-الاختبار-الحسي-بل-التجلي-العرفاني

في حوار آخر عاد أينشتاين إلى مثال الطّاولة الموجودة بذاتها بغضّ النّظر عمّا إذا كان في البيت سكّان أم لا فخاطب أينشتاين بالقول:
طاغور: صحيح أن الطاولة ستكون هنا حتى ولو لم يكن هناك سكان في المنزل، لكن وجودها لا يكتسب أي معنى بالنّسبة لنا ما لم يتم إدراك هذا الوجود من قبل فكر واع. فضلاً عن ذلك فإنّ من طبيعة الوعي أنّه ليس وعياً مجزّأً بل وعيٌ كونيٌّ واحد. وأضاف: العلم نفسه أثبت أنّ الطّاولة كشيء جامد هي مجرّد تجلٍّ أو ظاهر، ولذا فإنّه لولا وجود الفكر الإنسانيّ التي تنطبع عليه صورة تلك الطاولة فمن أين لنا أن نعرف بوجود مستقلٍّ لها؟ واستخدم طاغور بعد ذلك بعض معطيات الفيزياء الكمّيّة ليدعم وجهة نظره فقال: يجب الإقرار الآن بأنّ الوجود الماديّ للطّاولة ما هو إلّا مجموعة من مراكز الطّاقة الكهربائيّة التي تدور وهذه تعود أيضاً إلى الفكر الإنسانيّ.
ونقل طاغور هنا إلى أينشتاين بعض ما كان قد نُشر عن نظريّة الفيزياء الكوانطيّة التي تُثبت أنّ قانون السّببية في الطّبيعة له استثناءات كثيرة وأنّ الطّبيعة لها قدر من الحرّيّة لدرجة أنّه لا يمكن التنبّؤ بدقّة بسلوك الجزيئات أحياناً وفقاً لنمط يقينيّ جامد فقال: كنت أناقش مع السّيد مندل (وهو عالم صديق لأينشتاين) الاكتشافات الرّياضيّة الجديدة والتي تقول بأنّه في عالم الذرّات أو الجُزَيئات فإن الصّدفة تلعب دوراً، وبالتّالي فإن دراما الوجود لا تدلّ على أنّ كلّ شيء في حركة الكائنات مقرّرٌ سلفاً بصورة مُطلقة.
أينشتاين: الوقائع التي تجعل العلوم تسير في هذه الوجهة لا تقول “مع السّلامة” لقانون السّببيّة.
طاغور: ربّما لا، لكن يبدو أنّ فكرة السّببيّة غير موجودة لوحدها في عناصر الوجود، وإنّ هناك قوة أخرى تُضاف إلى تلك العناصر لتنشئ عالماً له نظامه المعيّن (أي أنه: لا عشوائيّة في الكون بل نظام بديع يتحكّم به وعيٌ كامل).

نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين
نيلز-بوهر-عالم-الفيزياء-الكوانطية-الدانمركي-وحائز-جائزة-نوبل-خالف-أينشتاين

أينشتاين: يحاول المرء أن يفهم كيف يشكل هذا النّظام الصّعيد الأرفع للوجود. فالنظام موجود بالتّأكيد، وكيف تتّحد العناصر لتقوم بتوجيه الوجود، لكن في الكيانات الصّغيرة لا يبدو هذا النّظام بيِّنا لإدراكنا الإنساني.
طاغور: هذه الثنائية (بين الوجود والوعي الإنسانيّ) هي في جوهر الوجود كذلك ما يبدو أنّه تضادّ بين الطّبيعة الحرّة والإرادة المُسَيِّرة التي تتحكّم بها لتسمح بتطوّر نظام بديع للأشياء.
أينشتاين: علوم الفيزياء المعاصرة لا تقول أنّهما (الاختيار والجبر) متناقضان. فالغيوم قد تبدو كتلة واحدة من بعيد لكن إذا رأيتها عن قرب ستجد أنّها مجموعة غير منظّمة من نقاط الماء.
طاغور: هل عناصر الوجود متمرِّدة؟ ولها ديناميّة فرديّة وإرادة؟ وهل هناك قانون في العالم الماديّ يهيمن على هذه العناصر ويوظّفها جميعاً ضمن ترتيب بديع وشامل؟
أينشتاين: حتى هذه العناصر ليست من دون ترتيب حسابيّ، فعنصر الرّاديوم مثلا سيحتفظ دوماً بخصائصه الطّبيعيّة الآن وفي مستقبل الأيام، كما فعل على الدوام. وهذا يعني أنّ هناك ترتيباً حسابيّاً في العناصر المكوّنة للوجود.
طاغور: بالتّأكيد لأنّه لو لم يكن هناك عامل التّسيير فإنّ الوجود سيكون عشوائيّاً أو اعتباطيّاً. فالتّناغم الدّائم بين الحرّيّة والجبر هو الذي يجعل الوجود جديداً وحيّاً على الدّوام.
أينشتاين: أعتقد أنّ أيّ شيء نعمله أو نعيشه يخضع لقانون سببيّة يخصُّه، لكن من حسن الحظ ّأنّه لا يمكننا النّظر من خلال ذلك القانون أو أنْ نفهم الأسلوب الذي يعمل به.

طاغور والتصوّف

طاغورُ والوَجْدُ الصوفيّ

لو لم يكن ثمّة «تأنُّس» للحقّ يُسهِّل المعرفة
لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً

المعرفةُ الأرضيةُ تراكمٌ مَعْرِفيٌّ
أمّا الحكمةُ المقدّسة فإشراقٌ داخليٌّ

رابندرانات-طاغور-في-شبابه
رابندرانات-طاغور-في-شبابه

التقَى رابندرانات طاغور ذات يوم ناسكَيْن من النُسّاك الهنود، وسألهما لِمَ لا تخرجان إلى العالم وتُعلِّمان الناس، فأجابه أحدهما: “كلُّ مَنْ يشعر بالعطش سيأتي من تلقاء نفسه إلى النهر. لا بُدَّ أن يأتي العطاشى جماعات وفُرادَى”، وما هي إلّا سنوات قليلة حتى أخذت ألوف الأنفس المتعطِّشة للمعرفة بالتدفُّق إلى نهر طاغور الفكريّ والرُّوحيّ الغزير، لتستقي منه تلك المعرفة المُفعَمة بعَبَق الحُبّ الإلهي ومَواجِد التصوُّف العاشق للوحدانيّة في ما يتعدّى التخبُّط الهندوسيّ بعقائدَ أشبه بالشِّرك وعبادة الأوثان.
كان جدُّه الأمير دواركاناث (Dwarkanath) الثّريّ ووالدُه ماهارشي ديفندرانات (Maharshi Devendranath)، الثّائر ضدّ التّقليد والتعصُّب، ينتميان إلى حركة دينية ناشئة تُدعَى “براهمو ساماج” (Brahmo Samaj)، تلك التي تتنكّر لمظاهر عبادة الأصنام والطّقوس في الهندوسيّة والتعدُّديّة الشِركيّة، وتدعو إلى عبادة الواحد الأسمى، وتُحثُّ على الخير والإحسان والتّقوى والأخلاق والفضيلة والعمل الصّالح.
حاربه الهندوسُ بشدّة لجهوده في تحويل الهندوسيّة من خلال حركة “براهمو ساماج”، التي سعى إلى تقديمها للغرب بما تنطوي عليه من تبجيل للوحدانيّة (Monotheism)، بمواجهة المعتقدات والتّقاليد الهندوسيّة المتشعِّبة.
وفي تحليلٍ دينيّ لكتاباته وأعماله الشّعريّة، قلّما ذكَرَ طاغور كتبَ “البورانا” (Puranas) التّقليديّة أو “نشيد المولى” (البهاغافاد جيتا Bhagavad Gita)، وتعاليم “الفيدانتا” (Vedanta)، وهي النّصوص الهندوسيّة الأكثر شهرة، لكنّه بدلاً من ذلك ركّز على وحدانيّة الحقيقة الإلهيّة واستشعار هذه الوحدانيّة بالحُبّ والشّوق والوَجْد. ويرى بعض الباحثين المختصّين بالفكر الهنديّ أنّ ذلك جاء بتأثيرٍ من مفهوم الأحاديّة (أو الواحديّة) في النّصوص الدينيّة الفلسفيّة العتيقة “الأوبانيشاد” (Upanishads).
العودة إلى الخالق
ولطالما شدّد رابندرانات طاغور في كتاباته وأشعاره على أنّ هدف الإنسانية هو العودة إلى الخالق. ويقول في كتابه “سادهانا” (Sadhana): “إنّها الغاية القصوى للإنسان أن يجد الواحد الذي هو فيه، الذي هو حقيقته.. المفتاح الذي يفتح به بوابة الحياة الرُّوحية”.
وفحوى رسالة طاغور، الذي لقّبه المهاتما غاندي بـ “الحارس الكبير”، أنّ الحياة هي رحلة الإنسان نحو تحقيق إمكانيّته المُثلى، وهي الاتّحاد بالحقيقة، وأفضل ما تتحقّق تلك الرّحلة عبر تجنُّب العلائق الدّنيويّة. وهو يُميِّز بذلك بين المعرفة الأرضيّة والحكمة المقدّسة، فالأولى تراكمٌ مَعْرِفيٌّ أمّا الثّانية فاستنارةٌ وإشراق داخليّ.
ويَعتبر طاغور الإنسانَ أرقى مخلوقات الله، ويصف طبيعة الإنسان بأنّها ذات وجهين: الأنا المتغيِّرة والذّات الخالدة الدّائمة، الكامنة في أعماقنا، الرُّوح السّرمديّة، لذا يرى أنّ الإنسانَ يجب أن يجهد لتحقيق هذا الكمال الجوهريّ وهذه القداسة الكامنة فيه.
وبلغةٍ شاعريّة مُرْهَفة ينأى طاغور عن التّحليل الفلسفيّ ليبثّ مَواجِدَ تحكي عن التّسليم الكلّي للخالق وخدمة الإنسانيّة بكلّ حُبّ وحنو. هذا الحُبّ الصّوفيُّ الشّاعريّ يسري كسلكٍ يربط دُررَ أفكاره الوضّاءة في آلاف القصائد الغنائيّة، التي غنّاها بصوته الشّجيّ، رؤى في حالة صفاءٍ، صفاءٌ يجعله يتقبّل الموتَ كشأن الحياة، على خُطى الفيلسوف سقراط.
ويبدو مفهومُه الدّينيّ والرُّوحاني بقوّة في كتابه المُبكر “دين الإنسان” (The Religion of Man) إذ يشدّد على وعي الوحدة الرُّوحانيّة مع الحقيقة الأسمى، حيث يتبدّى اللّامتناهي حقّاً وخيراً وجمالاً على مرآة النّفس.
وكذلك يظهر هذا المفهومُ جليّاً في ديوانه الشّعريّ الصّوفيّ “جيتنجالي” (Gitanjali)، “حيث بلغ الوَجْدُ الصّوفيّ أسمى مراحله، وهو يستطلع العلاقة بين الإنسان وخالقه في تجربة دينيّة عالميّة لا تحصرها حدود، تختصرها قصائد تعبُّدية مُفعمة بالمَواجِد الصّوفيّة التي تقوده على إيقاع الحُبّ الإلهيّ خطوةً خطوةً نحو الخالق.
وكان طاغور كلّما قرأ في صفحات الوجود على إيقاع وَجْدِه هذا، كلّما اقتربَ من الوحدانيّة بإيمانٍ عميق، صعوداً على أجنحة روحه المتسامية بصفاء السّرّ وروحانيّة الخشوع، ويهتفُ مخاطباً ربّه من شدّة الوَجْد قائلاً:
لقد أفعمتَ قلبي بحُبّك
وتجليتَ لي بقُربك
ربّاه، لو لم أكن موجوداً
فأين يتجلَّى حُبّك؟

وهذا التّلهُّفُ الشّديد في مَواجِدِه الذي يتّبع نداءَ الرُّوح وتأمُّلات العقل وشغف النَّفْس إنّما هو اهتداء إلى المُبدِع بما يتبدّى من إبداعه في أكمام الزّهور، وقَطَرات النَّدَى، وظِلال الجبال، وترامي الأكوان، ليرَى الأنوار الإلهيّة تتلألأ في مرايا الوجود.

طاغور-مع-جمع-من-محبيه
طاغور-مع-جمع-من-محبيه

“الهدفُ الأسمى للنّفس البشريّة هو إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. أي من الأنا التي تعزل الذّات عن خالقها”

تقليد “البهاكتي” الصّوفيّ
وفي هذه التّأمّلات الصّوفيّة ثمّة تشابه بين مذهب طاغور وتقليد “البهاكتي” (Bhakti) الفريد في الهند، على الرّغم من الفترة الزّمنية الطّويلة الفاصلة بينهما، إذ إنّ الرُّوحيّة الفلسفيّة هي ذاتها، فلا وجود للطّقوس والمراسم والكُهّان. وقد شارك معلِّمو هذا التّقليد فكرة الوحدانيّة، والمساواة بين البشر ومختلف الطّبقات، ورفض عبادة التّماثيل والأصنام، وهو ثمّة ما يُوازيه في التّصوُّف الإسلاميّ.
وأشهر هؤلاء المعلّمين، الشّاعرُ الصّوفيّ الهنديّ “كبير” Kabir (1440-1518)، الذي قام طاغور بترجمة مئة قصيدة له في كتابه “مئة قصيدة لكبير” (One Hundred Poems of Kabir)، وهو كان قد تصدّى للتّقليد العقائديّ الأعمى في الدّيانتَين الهندوسيّة والإسلاميّة، وعلّم مذهباً وحدانيّاً صارماً.

بين طاغور و”كبير”
يبدو واضحاً من خلال ترجمة طاغور لقصائد الشّاعر الشّهير “كبير” أنّه كان يؤمن بتعاليم هذا الصّوفيّ لا سيّما مفهوم الوحدانيّة. فقد وجد طاغور تآلفاً كبيراً مع صوفيّة “كبير” فوق التقاليد والطقوس والمراسم لأي دينٍ انتمت. والتّشابه بين هذَين الصّوفيَين مذهل، كتحدُّثهما عن الحُبّ الإلهي، والغفلة واليقظة، والموسيقى الكونيّة، وجديرٌ بالذّكر أنّ طاغورَ كان قد وضع ديوانه “جيتنجالي” قبل قيامه بترجمة “مئة قصيدة لكبير”، فالمسألة مسألة تماثُل وتآلف لا تأثير واقتباس.
وكان “كبير” يرى أنّ التعلُّمَ الحقيقيّ لا يتأتّى من دراسة النّصوص الدّينيّة أو المعرفة النّظريّة بل من محبّة المولى الأسمى. وهما يتحدّثان عن هذا المولى كحقيقة متأنّسة للإنسان. فبالنّسبة لطاغور لو لم يكن ثمّة “تأنُّس” للحقّ يُسهِّل المعرفة، لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً. وما مُبادلة نعمة هذا التأنُّس إلّا بالحُبّ المُكرّس، والتّفاني في هذا الحُبّ والاستغراق فيه.
ويقول طاغور في إحدى رسائله إنّ الشاعرَ “كبير” والشّعراءَ الزُّهادَ الأقدمين مَلَكُوا موهبة اللّغة، لكن من أجل أن نفهم لغتهم (الصّوفيّة) تماماً، لا بُدّ إلى حدٍّ ما من مشاركة تجربتهم ومشاعرهم. فالمشاعرُ المقترنة باللّغة تُنتِج عبقريةً “وأعني باللّغة أكثر من مجرّد كلمات: لغة الرّموز، والمنطق…”، ولا ريبَ أنّ طاغور شاركَ هذه المشاعر واللّغة مع “كبير” وفكره الصّوفيّ.
فالخالقُ بحسب هؤلاء المتصوّفين أوجدَ الكونَ كمرآة، والهدف الأسمى للنّفس البشريّة هي إدراك الله على مرآة الحقائق، ولا يتسنّى ذلك الإدراك إلا بالتخلُّص من الجهل. ويكمن الجهلُ في الأنا التي تعزل الذات عن خالقها، وتحثّنا على تلبية رغباتها الأنانيّة والضّيّقة. وهذا الانفصال أو العُزلة هو العبودية، والجهل هو السّبب الأوّل لعبوديّة النّفس، وهو ما ينبغي التّحرُّر منه.
ولأجل تحقيق هذا التّحرّر، علينا أن نملأ قلوبَنا بالمحبّة الشّاملة ومحبّة الآخرين. إنّما عبر حُبّ الله والغِبطة فيه تتمتّع الأنفسُ بالحرّيّة التي هي هبة من الله، فالله خلقَ تلك الأنفس بدافع الحُبّ. ولا بدّ لأجل ذلك من الاستسلام الكلّي للعليّ بالحُبّ والتّعبُّد.

اتّحاد الشّاعر والعارف
ويتجاوز فكرُ طاغور بسُمُوِّه كلَّ الأفكار الفلسفيّة والرُّوحيّة، ويتخطّى كلَّ حدود اللّغة والثّقافة والأجناس والأديان. وفي قصائده المُحلِّقة بأجنحة الصّوفيّ المُنجَذِب إلى الملأ الأعلى، يتّحِد الشّاعرُ والعارِف في وَجْدٍ ينذهل باللّامتناهي وسط المتناهي، وبالوحدة ما بين الكَثرة، وبغِبطة الوجود. فقد كان طاغور يعتقد أنّ الشّاعرَ المُلهَم بالرؤى قد يجد مكانه عن حقٍّ بين الحكماء والقِدّيسين.
وفي مقدّمة ديوانه “جيتنجالي” الذي يشتمل على ترجماته النّثريّة باللّغة الإنكليزيّة لقصائده باللّغة البنغاليّة، والذي نُشِرَ في العام 1913 مع تمهيدٍ للشّاعر الإيرلندي دبليو بي ييتس (W. B. Yeats)، وفاز بفضله بجائزة نوبل للآداب في العام ذاته، يقول طاغور: “لولا إدراكنا لمحبّة الله، لَمَا تسنَّت لنا نعمةُ الإيمان به …”.
هذه المحبّةُ أو الوَجْد الذي يؤكّد على تلك القداسة في الدّاخل … “الله في داخلنا لكنّنا لضياعنا نبحث عنه في الخارج”. إنّه التأمُّل في سرّ الوحدانية المُقدّس في داخل القلب (Jivan Devata):
هوذا الواحدُ في أعماقِ أعماقي
يوقظ كَيانَي بلمَسَاتٍ خفيّة
ويُدغدِغُ أوتارَ قلبي اغتباطاً
على إيقاعِ ترنّمِ الشوق والفرح
إنّه شغفٌ في أعماق القلب يتبدّى شعراً موسيقيّاً يخاطب الرّوح، لا كالأشعار الرّائجة التي هي مجرد تنضيد عبارات وتقطيع وأوزان خالية من الصدق. فقصائده أشبه بواحات روحيّة في صحراء من الجفاف الشّعريّ، واحاتٌ تستدعي السّموَّ إلى أسرار الكون ومشاركة “روعة رؤى” الحقيقة.
وإذا أصغينا ملّياً لسمعنا في قصائده صدى المزامير: “الأرضُ والسموات ملأى بحُبِّكَ..”. فبالنسبة إلى طاغور، وحده الحُبّ يُمكِّننا من اختبار سرّ الوحدة.
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
فأنا في الخارج ولا أعلمُ كيف أَفتح الباب
السّاعاتُ تمرُّ، والنّجومُ تُراقِب، والرّيحُ منذهل
والصّمتُ ثقيلٌ في قلبي
استيقِظْ أيُّها الحُبّ، استيقِظْ
املأ كأسِيَ الفارغ، ودَعِ اللّيلَ يتهادَى على موسيقاك

ويُشدِّد طاغور في أشعاره على أنّ الحُبَّ، الحُبُّ فحسب، يجعلنا نختبر سرَّ الاتّحاد مع حقيقة الوجود. فالحُبُّ بالنّسبة إليه “نشوة استيقاظ” على حقيقة سرّ الوحدة في أعماق القلب:
مَنْ يتمكَنْ من فَتْحِ بُرعم
ويُلقي نظرةً في داخله
ينسابُ إلى عروقه نُسَغُ الحياة
ويبسطُ ضَوْعُ الزَّهر جناحيه محلّقاً في الهواء
والألوانُ تتدفّقُ أشواقاً
والعِطرُ يفشي سرّاً عَذْباً
وتتراءى الطّبيعةُ في شعر طاغور جمالاً أثيريّاً مُلهِماً له ومُرشِداً إلى الصّفاء، وهو يتحدّث عمّا جاء به أصحابُ الرّؤى الأقدمون بإلهامٍ من الطّبيعة لاتّحادهم بها أحراراً من جدران المدن وعوائقها، تلك الجدران التي تُحدِث عُزلةً، وتجعل الإنسان يرى الازدواجات والتّضاد في كلّ مكان. ويتساءل طاغور، إذا كان الله بوحدانيّته فوق كلّ الازدواجات، أنّى للفكر أن يُدرِكه. وحدَهُ القلب بإخلاصه، وحُبّه، ووَجْدِه الصّوفيّ يتيح معرفةَ الله ومشاهدة جماله على مرآة القلب الجليّة.

الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-الصوفي-كبير-أهم-مصادر-إلهام-طاغور
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي
الشاعر-طاغور-مع-المهاتما-غاندي

المعلّم في ذكرى طاغور
“الأدب الحقيقيّ هو الذي يرتقي بالنّفس ، يرفع ولا ينزل، يصون ولا يهدم، يبعث السّعادة لأنّه يبعث الجمال الأصيل في النّفوس حيّاً وإذا لم يكن الجميل فينا وجهاً لطبيعتنا الحقيقيّة، فكيف نستطيع أن نتذوّق الجمال؟ الأدب والفن هو تعبير عن هذا الانسجام الرّفيع بين العقل والقلب، على ضوء وعي الحقيقة الأخيرة المطلقة. الأدب والفنّ مسلك للارتقاء ولترقية الآخرين، وليس هو بضاعة ينتجها أصحابها بقصد الوصف والإثارة لأجل بيعها والاتّجار بها في الأسواق.”

(من كلمة للمعلّم كمال جنبلاط في سفارة الهند في لبنان، في ذكرى شــــاعر الهنـــد الكبير طاغور سنة 1966)

مختارات من شِعر طاغور

-1-
أشعرُ بأنّ كلّ النّجوم تسطع في داخلي
والعالم يقتحم حياتي مثل سيل جارف
والأزاهير تتفتّح في جسدي
وكلّ شباب الأرض
ينتشر مثل أريج البخور في قلبي

-2-
لقد جعَلتَ وجودي بلا نهاية
ذلك هو الفرح منك
وهذا الوعاء الضّعيف أفرغته أنت
مرّةً بعد مرّة
ثم ملأتُه بحياة جديدة

-3-
الحبّ يتزيّن لنفسه
فهو يسعى لإثبات الفرح الدّاخليّ
بمظهر الجمال الخارجيّ
الحبّ سرٌّ لا قرار له
لأنّه لا يوجد شيءٌ يمكن أن يفسّره

-4-
لِمَ انطفأ المصباح ؟
لقد أحطته بمعطفي ، ليكونَ بمنجىً من الرّيح ،
ولهذا فقد انطفأ المصباح
لِمَ ذوت الزّهرة ؟
لقد شددتها إلى قلبي ، في شَغفٍ قَلِق،
ولهذا فقد ذوت الزّهرة .
لِمَ نضبَ النّهر ؟
لقد وضعت سَدّاً في مجراه لأفيدَ منه وحدي،
ولهذا فقد نضبّ النّهر .
لمَ انقطع وتَرُ المِعْزَف ؟
لقد حاولت أنْ أضربَ عليه نغماً أعلى مما تطيقه قدرته،
ولهذا فقد انقطعَ وترُ المِعْزَف.

-5-
إيهِ أيّتها الدّنيا لقد قطفتُ وردتَك
وضممتُها إلى قلبي فوخزَتني شوكتُها
ولمّا جنحّ النّهارُ إلى الزّوال ، وامتدّت العتمةُ
ألفيتُ الوردةَ ذاويةً، بَيْدَ أنّ ألمَ وخزتِها ظلّ باقياً
إيهِ أيّتُها الدّنيا ، سوف يوافيك الوردُ بشذاه وعنفوانِه
ولكنْ أوانَ قطفِ الوردِ الذي كنت أتحيّنُه قد فاتني
وفي اللّيل الحالك
لم أعُدْ أظفر بوردة
فيما عدا ألمِ وخزِها الباقي

الشعر العامي في جبل العرب الحلقة الثانية

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

الحلقة الثانية                                                                                                       حازم ناصر النجم
الغارية – جبل العرب

اللهجة البدوية في الشعر الشعبي مستخدمة على نطاق واسع
في الخليج والعراق وسوريا والأردن وفلسطين واليمن وبدو مصر

أهل الجبل دون سواهم من العرب تكيفوا مع لهجة البدو

بدوي مع ربابته – أهل جبل العرب أخذوا الربابة من البدو كمرافق لشعرهم الشعبي وبرعوا فيها

أصبح الشعر العامي (البدوي) في جبل العرب سِمَةً أساسية لـ “فولكلور” الجبل، وهو ليس اللون الوحيد المتداول، فهناك اللهجة المحلّية وما يندرج تحتها من أنماط فنّية مثل العتابا وبعض قصائد الفن وبعض الأغاني الخاصة بالأعراس والمواسم . وأقول الشعر البدوي لكي أميّزه عن اللهجات الأخرى مع الإشارة إلى أن البعض يسمّيه الشعر النبطي أو العامي أو الشعبي …
وللّهجة البدوية الصّرفة حضور متميز في شعر جبل العرب رغم أن أهل الجبل لا يتكلمون بلسان البدو إلاّ في مَثَلٍ عابر أو جملة معترضة، وأنا أشبّه هذه الحالة (أي حالة نظم الشعر باللهجة البدوية) بحالة الشعر الفصيح عند عامة شعراء الفصحى، فتجد المصري والليبي والشامي وغيرهم يتكلمون بلهجاتهم المحليّة الخاصة ويستخدمون اللغة العربية الفصحى في أشعارهم وآدابهم، وهذه حال أي شاعر بالفصحى مثل الجواهري أو قبّاني أو درويش وغيرهم، فهم يَخرُجون عن عاميّتهم إلى لغةٍ أُخرى هي لا ريب اللغة الأم الشاملة، ولكنها ليست هي المتداولة في حياتهم اليوميّة، وكذلك يخرج الشاعر العامي في جبل العرب عن لهجته الخاصة ليتكلّم اللهجة البدوية في شعرِه .
لذلك يمكن القول أن للشعر “لغة” وللتعامل اليومي “لغة” أخرى في جبل العرب (على اعتبار اللهجة لغة من باب التّجوّز) وهذا فيما يخص السِّمة العامة لفولكلور الجبل، ولهذا الموضوع سابقة تاريخية ذكرها الدكتور يوسف زيدان في كتابه “متاهات الوهم” عندما تكلم عن لغة البُرديات إذ يوضح أنه كان لدى المصريين القدماء لغة مقدسة كُتبت على المَسلاَّت والجدران وهي لغة صعبة وعميقة -يسمّيها اليونانيون “الهيروغليفية”- ولغةٌ أخرى متداولة بين العامة وهي أسهل وأبسط يسمونها “الهيراطيقية” وهي التي كُتبت على البُردي .
ولهذا الخروج عن اللغة المحكية أسباب تاريخية تربط الشاعر أو ذَوّاق الشعر البدوي بالبادية التي هي المنبت الأصيل للغة وشعر العرب وقد مهّدنا لهذا الموضوع في الجزء الأول من هذا البحث.
ولا أقول أن لهذه اللهجة البدوية الأثر الأكبر حالياً في جبل العرب، فقد أصبحت وقفاً على ذوّاقة الشعر البدوي وأصحابه، وهم يشكلون اليوم نسبة قليلة في المجتمع خصوصاً وقد نضح الإعلام المرئي والمسموع باللهجة الشاميّة والمصرية بشكل خاص، فأصبح من المألوف سماع هاتين اللهجتين دون سواهما إن كان في المسلسلات التلفزيونية أو الأغاني المنتشرة بكثرة في هذا الزمن، وتبقى اللهجة البدوية رغم ذلك صاحبة مساحة ليست بالقليلة على مستوى الوطن العربي فهي تشمل الخليج العربي والعراق والأردن وفلسطين واليمن وقبائل مصر، وبالنسبة لسورية فهي متداولة في حوران والرقة ودير الزور والحسكة وريف حلب وريف حمص وهي المساحة الأكبر في سورية .
وبشكل خاص هناك تميّز في عدد الشعراء الذين نظموا قصائدهم بلهجة البدو والذين يقطنون المنطقة الجنوبية والشرقية من جبل العرب، فهم بطبيعة الحال يحاذون بادية الأردن ولهم علاقات قديمة مع بدو الأردن فتجدهم متأثرين أكثر من غيرهم بهذه اللهجة البدوية ومتمكنين منها بحيث يستخدمونها كما هي في شكلها ومضمونها عندما ينظمون قصائدهم أو عندما يهزجون في أفراحهم، ولهم الكثير من المفردات الخاصة الغريبة بشكلها ولفظها عن المتداول في اللفظ القرويّ المحلّي في الجبل، لذلك تجد قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس شعراء المنطقة الجنوبية، الذين تعامَلَ أسلافهم مع البدو أيام الغزو والرعي والتحالفات العشائرية والتجارة الحرّة، وورثوا عن هذا السلف اللهجة البدوية الصحيحة والقصيدة البدوية المتعارف عليها، ومن قبائل البدو المعروفة ضمن هذه العلاقات: السَّرديّة وبني صخر والرّوَله والعيسى وقبائل منطقة حائل في الجزيرة العربية؛ وقد أخذ سكان جبل العرب عن هذه القبائل الكثير من العادات والتقاليد الواضحة في ضيافتهم ومفرداتهم إن كان في الترحيب أو المباركة أو العزاء، إلا أنهم قرويون متحضّرون في حياتهم العامة مثَلُهم مثَلُ البدو الذين يقطنون القرى أو المدن.
وهناك من يسأل: لماذا ننظم شعرنا بلهجة البدو في جبل العرب، والبدو لا ينظمون شعراً بلهجتنا نحن ؟! والجواب هو أن أهل الجبل قادرون على التكيّف مع اللهجات العامية الأخرى وبالذات لهجة البدو دون سواهم من أصحاب اللهجات، فتجد من الصعوبة في مكان أن يتكلم الشامي لهجة البدو، وهو إن تكلم بها يبدو لك “بدوي شامي” كما قال الفنّان سليم كلاس في مقابلة تلفزيونية عندما سُئل عن دوره في مسلسل (جواهر)، وكذلك المصري عندما يتكلم البدوية والبدوي عندما يحاول التكلم باللهجة الشامية أو اللبنانية، ورغم إتقان بعض الفنانين لهذه اللهجات إلا أن الناحية الفنية تبقى قاصرة عن مخارج الحروف الصريحة ضمن هذه اللهجة .
أما من يأخذ موضوع التقليد من ناحية فلسفية تُفضي إلى تقليد الأدنى للأعلى، فهذا تجنٍّ واضح لا يحترم خصوصية التراث

“قصائد شعراء المناطق التي لم تحاذ البادية أقرب للزجل اللبناني وفيها خليط من المحلية والبدوية على عكس الشعراء الذين تعامَلَ أسلافهم مع البــدو”

في جبل العرب، ولا ينظر إلى محدودية اللهجة المحلية المتداولة ضمن مساحة معيّنة لا تتعدّى الجبل، على الرغم من أن شعراء الجبل نظموا بلهجتهم القروية قصائد لا تقل روعة عن قصائدهم المكتوبة باللهجة البدوية، فالموضوع إذاً موضوع مساحة وانتشار أكبر ومحاكاة للواقع المفروض وليس موضوع أدنى وأعلى، ثم هو لا ينظر إلى الإبداعات والبارقات الفنّية التي نتجت عن الشعر البدوي في جبل العرب، فهناك صور جديدة ولمسات فنّية رشيقة تطاول الشعر الفصيح في عَليائه ومَثَلها قول المرحوم اسماعيل العبد الله
ضَمّ القَحَاوي وَاردَفَ لـــــ عَ النّابي سُلاّف شَفَّة واصطـــبى عَ النّــابي
يــــــــــــــــا حلـــــــــــــــو لمَّـــــة جيبهـــــــــا ع النّـــــــــابـــــــــــــــــــي روض الرّبيع اكسى الهَنيـع كْماها
والقحاوي هو زهر الأقحوان. اصطبى أي ارتقى، جيبها أي صدرها، الهنيع قيل هو الزغب الخفيف الذي يكسو الكمأة وأكسى الهنيع كْماها: إسقاط وتشبيه للثوب الذي يكسو صدرها. أما مفردة العنّابي التي تكررت ثلاث مرات فهي تحمل ثلاث معان الأول هو اللون العنّابي كناية عن الشفتين والثاني يلمح إلى الناب أي على أسنانها والثالث يقصد النابي أي المكان المرتفع .
فما أشبه هذا بذلك الوصف الوارد في شعر الخليفة العبّاسي عبدالله بن المعتزّ:
فاستمطرَت لؤلؤاً من نرجسٍ وسَقت ورداً وعَضّت على العُنّاب بالبَرَدِ
ومن الصوَر والموضوعات البديعة التي وردت في وقت مبكّر من نشأة الشعر البدوي في جبل العرب قصيدة المرحوم الشاعر شبلي الأطرش ( زعيم الجبل سابقاً) والتي يساجل من خلالها القلم مستخدماً الوزن الموافق لبحر الرّمَل ومنها :
سار مذبوح القلم أوحى الصّرير فــــوق طُلـحيّــــــــــة بدا ينثـــر لبــــــــــــــــــاه
واشــــتغــــــــل دولابــــهــــــا فنّـــــــاً يــديــــــــــــــر واليـراع انهَــــــــــل يرعَف مـــــــــــن لمـاه
قلت ها يـــــا راعــيَ السِّنّْ الصّغير هات جاوِب مغـــــــرمَـاً دهره بـــــــلاه
وانثر القـــافـــــات عالكاغــــــــــد وسير هاج بحر الفن وازبَد مـــــــــــن علاه
مذبوح القلم: إشارة للحبر الذي فيه، أوحى الصرير: صوّتت ريشتهُ المعدنية عندما لامست الورق وفي هذا دلالة على الوضع النفسي المؤلم الذي يعيشه الشاعر من خلال شدّة ضغطه على القلم والورقة، طلحية: ورقة كبيرة، ينثر لباه : ينثر مداده، السنّ الصغير: رأس القلم صغير الحجم، الكاغد: الورق
ومن هذا المطلع الشجي يدخل تحَدّياً جميلاً مع القلم، ومن ثم يصرّح بقدرة القلم العظيمة على الرغم من صِغر حجمه، كيف لا وهو حاضرٌ في يد السلطان العثماني الذي أمضى كتاباً يُفضي إلى نفي الشاعر ورفاقه يقول:
قُلـــــــــــــــــــــتْ لَهْ نعـــــمين لــــــــــو عُودَك كلّنا من رَعْفِتَك رحنا هبــــــــاه
وأراد بــ “الرَّعفة” الإشارة إلى إمضاء السلطان، وفي هذا إسقاط بديع وإيحاء وتتبيع وهي من محسّنات الشعر ومن رُقي أسلوبه .
والأمثلة كثيرة وغنيّة وفيها من التجديد والإبداع ما يضعها في مصافي الشعر الفصيح .
ولابد من الإشارة في هذا السياق إلى تأثر الكثير من شعراء الجبل بشعراء ( نجد و حايل ) من أعمال شبه الجزيرة العربية، ونلمس هذا التأثر عندما نقرأ قصائد آل الرشيد ومن عاصرهم من البدو، وأيضاً قصائد محمد العبد الله القاضي وعبد الله بن سبيّل ومحسن الهزاني وهم من شعراء نجد المميزين .

إشكاليات في الشعر البدوي
أُورد هنا بعض الإشكاليات التي يمكن اعتبارها من الجوازات أو الأسلوب المتعارف عليه في جواز الخطأ بالنسبة للمفردة الواحدة و القافية والوزن في الشعر النبطي …

“أخذ أهل الجبل بلغة البدو في شعرهم الشعبي عنوان تكيف طوعي خلّاق مع الواقع المحيط وليس فيه تغلب لثقافة البدو على الثقافة المحلية”

المفردة
بعض المفردات المستخدمة في الشعر البدوي في جبل العرب تحمل إشكالية في معناها وطريقة كتابتها ولفظها وهذه الإشكالية تصل إلى حدّ قلب المعنى في كثير من المواضع إذا ما حاكمنا المفردة في محكمة الفصحى، فمثلاً مفردة “الهيلعي” تستخدم عند العامة بمعنى: الشجاع وهي في معناها الأصيل تعني (الجبان) الذي يصيبه الهلع لأقل الأمور، إنما اتخذت العامة معناها من صيغة (الذي ينشر الهلعَ في قلوب الأعداء) وهي بذلك من الأضداد. يقول اسماعيل العبد الله واصفاً ( راعي الذلول ) في إحدى قصائده :
هيلعي الوِلدات بــــــالظلمة كَسَـــــلّْ عضب هِندي فيصلاً بِدْهُونَهـــــــــا
وفي هذا السياق تحضرني بعض المفردات أو المُسمّيات التي أورَدتَها العرب على عكس فحواها وذلك تيمّناً بفأل الخير والسلامة ومنها: “الناجي” من أسماء الجمل حيث أطلقت عليه هذه التسمية تيمّناً بنجاة راكبِه من المهالك ومنها:”المفازة” أي الصحراء وذلك تيمّناً بفوز قاطعها ونجاته. ومن هذه المُسمّيات أيضاً “السَّليم” كناية عن الملدوغ بلدغة الأفعى تيمّناً بالسلامة.
وايضاً التركيب اللغوي: (اليا) وهو بمعنى (إذا ما) فيقولون: (اليا صار) أي (إذا ما صار) وهي مستخدمة عند البدو بشكل

العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال
العصبية-للجماعة-أساس-عيش-البدو-في-بيئات-قاسية-وغير-آمنة،-لكن-بني-معروف-الموحدين-أثبتوا-أنهم-أكثر-من-ند-للبدو-في-هذا-المجال

آخر في كثير من المواضع فيقولون: (إلى ما صار) ومن الشعراء من يستخدم من هذا التركيب حرف اللام فقط فيقول: (لَ صار) كما هي عند الشاعر صالح عمار:
لَ صار حنّا نجوم وسلطان القمر بــــــــأربع طعش نيسان يومٍ يطلعي
وتفيد(اليا) في غالبية مواضعها معنى (إن) ومثالها عند شعراء البدو لمحمد القاضي شاعر نجد :
الرّجل بــــــــــــالواجب لسانه عقالـه اليا قال قولٍ تم لو حال بَهْ حال
وتأتي بمعنى (إلى أن) ومثالها عند شعراء الجبل للشاعر جاد الله سلام:
اليا مـــــا دَعوني نـــاحلٍ تقل عــَ نار سَلْيَ الدّهان اللي مجـــــــــــــــــــرَّد سَلينا
وايضاً إشكالية بعض المطالع الشجيّة التي تبدأ بجملة “يا مال قلبٍ” فهي تُستخدم بأكثر من منحى وهذا تركيب لغوي عامي مستخدم في الكثير من مطالع الشعر البدوي ويفيد معنى التأوّه ويستخدمه الشعراء بأكثر من صيغة فمنهم من يقول: “يا مَلّ..” من مَلّ الشيء بالشيء أي غمسه والمليل: العجينة التي تُدفن في الجمر أو في الرمل الساخن، ومنهم من يقول: “ياما لقلب” أي كم لهذا القلب من الهموم، ومنهم من يقول: “يامن لقلب” وهذه الجملة مستخدمة في الشعر الفصيح ومثالها لعمر بن ربيعة:
يــــــــــــــا مَن لـقلـــــــــــبٍ دَنِـفٍ مغــــــــــــرمِ هــامَ إلــــــــى هـنـــــــــدٍ ولـــــــــم يظلــــــــــــمِ
وأيضاً من الإشكاليات المُجازة في هذا الباب استخدام صيغة الماضي بصيغة الفعل المضارع وذلك بإضافة النون في نهاية الفعل الماضي الخاص بصيغة الجمع في بعض مواضع الكلام مثل ( قالون) في مكان (قالوا) ومثالها للشاعر يونس أبو خير:
من سهلة العيّن على الكَفر غارون غـــــــــــــــــــارة ذيـــــــــــــــاب الجايعــــــــــة إن وَصَفْنـــــــــا
ونلاحظ أيضاً في البيت السابق إشكالية الصفة والموصوف ففي بعض مواضع لهجة العامة ومنها البدوية تُعَرّف الصفة دون الموصوف فالأصح لغوياً أن نقول “الذئاب الجائعة” أو “ذئابٌ جائعة” وليس “ذئاب الجايعة”
ومن المفردات المستخدمة كثيراً مفردة “مير” أو “مار” والتي هي اختصار لجملة (ما غير) وأيضاً تُستخدم بمعنى “لكن” ومثالها للشاعر زيد الأطرش:
مـــــــارِ البلا كَن طبّه الذل واهــــــــوالْ يـــــــــــــا وِلد عمّي غَللّوه النشــايــــــــــــــب
ومفردة “كُود” التي تعني التأكيد أو تأتي بمعنى “غير” يقول الشاعر صياح الأطرش:
مـــــــا رَدّ مِنّا كــــــــــــــود قَرم العيــــــالـــي سلطان ذيب وعاديــــــــاً بالقِراقير
ومن لغة البدو أيضاً وما يستخدمه شعراء الجبل نقلاً عنهم إبدال الواو بالألف في بعض المفردات، مثل “ماقف، ماقد،” التي هي بالأصل “موقف، موقد” وأيضاً إشباع حركة الفتح في بعض المواقع مثل: “يقدار” بمعنى يقدر وما يوافق منحاها يقول جاد الله سلام:

أبكي على اللي بدَّل الدار بديار هيهـات من بـــــــــــــعد المفَـــــارَق يجينا
يــــــــــاقلب كنّك عالعسيرات تقدار اصبر وقيـــــــــل الله مــــــع الصَّابــــــــــــرينا

فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945
فتيات-من-مدينة-السويداء-يحملون-الماء-إلى-منازلهن-في-العام-1945

القافية
في كثير من القصائد العامية نجد خلطاً في القافية الواحدة التي يجب أن تنتهي بحرف الروي ذاته وإنما لا تقاس القصائد العامية بمقياس الفصحى عندما تكون القافية منتهية بحرفٍ من حروف المد أو منتهية بالتاء المربوطة التي تلفظ ( هاءً ) للوقف، فالعامة تخلط بين القافيتين وبرأيي ذلك مُجاز وغير مستحب في الشعر العامي لأن نهايتي الحرفين أو القافيتين تُلفظ واحدةً، فتجد مثلاً في قصيدة لزيد الأطرش :
في ربوع العــــــــــــــــــز للدنيا لفينـــــــــــا وارتقينا بــِ سما العَليا فطامه
فالقافية هنا ( الميم مع التاء المربوطة التي تُلفظ هاءً ) وبعد عدّة أبيات في القصيدة ذاتها نجد :
شَيّـــــــــــــدوا فوق الهضاب المعتلينا لِ مكارمهم صروحاً لا تُسَامى
والقافية هنا هي ( الميم مع الألف المقصورة ) واللفظ يعطيك القافيتين بصيغة الميم المحرّكة بالفتح وهذا إشكال غير مقبول في الفصحى بينما هو وارد في الشعر العامي بشكل عام وفي الشعر البدوي بشكل خاص، إذاً شعراء العامّية يتبعون اللفظ المتوافق دون الخط ودون مراعاة توافق القوافي الأصيلة، وطبعاً يحدث ذلك في مواضع قليلة وليس بصورة دائمة فتجد الكثير من الشعراء العاميين يلتزمون بالقافية كما هي في الفصيح.

الوزن
يتميز الشعر البدوي بقافيتين مختلفتين في الصدر والعجز ضمن القصيدة الواحدة وذلك في غالبية الأوزان المستخدمة في هذا الشعر وهو أسلوب يشابه أسلوب الموشحات الأندلسية، ولكن تجد بعض الشعراء يُخلّون في وزن الصدر عندما لا يُلزمونه بالقافية . وأكثر ما نجد ذلك في نموذج (الهلالي القصير) فهو في معظمه يقارب البحر الطويل وما يشذ عن الطويل في الصدر ولا يوافقه في العجز،ومثاله لإسماعيل العبد الله :
عارَكْت دهري واستمرّت ملامتي مضّــيت عمـري للزمان عــْتـاب وْلاَ
الـيا فَلَجْتَه مــــــــــــــــا ترى الحَــــــــــــقّ يفـقُمَــــهْ تـِخجـــل الخــايــــــــــــــــــــــــــــــن بــقـــولـــــــــة عـــــــاب
فلَجْتَهْ: أي أفحمته بالحجّة الحق. ولكنّ الخائن لا يخجل إذا عيّره الآخرون بخيانته!
وفي الواقع هو لا يطابق البحر الطويل في المحصّلة فهو نموذج خاص يتبع له أكثر من وزن .
يكثر في الشعر الشعبي “الخَزْم” وهو زيادة حرف أو كلمة في مقدمة صدر البيت أو عجزه تخدم المعنى وتزيد عن الوزن، وفي الشعر البدوي يزيدون حرف العطف (الواو) في غالبية الخَزْم ومنهم من يزيد ثلاث حروف مثل اسماعيل العبد الله عندما يقول:
خطا الناس لو رافقتهم يســـترونك وخطا الناس رِفْـقَتهُم رفيق ذيــاب
نلاحظ في عجز البيت زيادة الواو ومفردة (خطا) فهي تعني “بعض” والتي يتغير المعنى بإسقاطها ويطول الوزن بإثباتها، وبدونها يمكننا تقدير الكلام أن مِن الناس كذا ومِن الناس كذا، فالشاعر يقابل بين الأخيار والأشرار في شطري البيت، ولكن الشعراء يضيفون هذا “الخز” أو هذه الزيادة في سبيل إيضاح وتأكيد الفكرة أو لضرورتها مع الإشارة إلى أن الصدر والعجز لهما وزنان مختلفان في الطول والقصر فالعجز يجب أن يقصر عن الصدر في كل هذه القصيدة.
وهنا أُبدي رأيي الخاص في موضوع وزن القصيدة العاميّة أو (البدويّة ) التي نحن في صدد دراستها :
هناك تباين واضح بين عملية تقطيع الشعر الفصيح والشعر العامي على مبدأ الفراهيدي المتعارف عليه وذلك أنك عندما تقطّع البيت الفصيح فأنت لا تغيّر من حركاته شيء بطبيعة الحال أي يبقى كل شيء على ما هو ويوضَع في إطار التفعيلة الموافقة .. بينما في الشعر العامي أنت تضطرّ لتغيير الحركات التي خرجت بها اللفظة الواحدة لكي يتم لك التقطيع والوزن الصحيح وبغير ذلك أنت أمام التقاء ساكنين بشكل كثيف وأمام أحرف ساكنة على حسب مخرج الكلام العامي ومنها ما يأتي ساكن في بداية المفردة لذلك نحن نغيّر منحى البيت واللفظة الواحدة لنخرج بصيغة توافق البحر المطلوب ومثال ذلك هذا البيت من وزن المسحوب ( الشروقي)
أَفْكَرْتْ بـــــــالــدنــيا وْفَيَّضْتْ مَكَـــتُوْمْ ماحــَانْ في ليحـَـانْ صَدري وْحَامِي
نلاحظ التشكيل الذي يوافق طريقة اللفظ ومخرج الكلام كما يريده الشاعر، ولكن إذا أردنا تقطيع هذا البيت ووزنه فنحن نغيّر الحركات ليصبح البيت على الشكل التالي:
أفْكَرْتِ بـــــــــــــالدّنيا وَفَيَّضتِ مكتوْمِ ماحانِ في ليحانِ صدري وَحَامي
وبذلك نحن نتحايل على صيغة البيت التي يُلفظ بها .إذاً لا بد من القول أن بحور الشعر العامي توافق بحور الشعر الفصيح مجازاً أو تقريبياً ولا تُطابقها بشكل تام، وطبعاً هذا لا ينفي وجود أبيات تطابق البحور المتعارف عليها بشكل تام وبدون تغيير في صيغتها وأكثر ما نجد ذلك في بحر الرّمَل المعروف بــ (الهجيني) عند شعراء العاميّة فمثلاً :
“يا شهيداً ما على دَمَّكْ مَزِيدي” تطابق بحر الرمل دون أي تغيير في حركات المفردات .
ونَخلُص إلى أننا ندُل على الوزن في الشعر العامي من خلال ما يقاربه في الفصيح ولا يطابقه بشكل تام، وفي معظم الشعر العامي، المعوَّل عليه في عملية الوزن هو أسلوب أداء الشاعر.

شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
شيخ-عشيرة-مع-سيفه-وهو-رمز-المكانة-الاجتماعية
مجلس-سلطان-بااشا--في-منفاه-في-الأزرق
مجلس-سلطان-بااشا–في-منفاه-في-الأزرق

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خاتمة
هذه الصفحات عبارة عن ملامح أساسية في الشعر البدوي الخاص بجبل العرب ولا نقول هي دراسة شاملة ولكنها وافية إلى حدٍّ ما بالنسبة للمادة المطروحة وسنخصص باباً للأوزان والمواضيع وما آل إليه الشعر العامي (البدوي) في الجبل من خلال الشعراء المعاصرين الذين واكبوا حركة تطوّر الشعر النبطي إلى حدٍّ ما كما سنوضّح الدور الذي لعبه الشعر العامي في السلم والحرب وأيضاً دوره في توثيق الأحداث التاريخية المهمة في جبل العرب.

هارون الرشيد والعصر الذهبي للخلافة العباسية

الخليفة هارون الرشيد

والعصر الذهبي للدولة العبّاسية

أنشأ إمبراطورية إسلامية كانت الأغنى في العالم
وأطلق أكبر نهضة عمرانية وحضارية في التاريخ

كان يصب الماء بنفسه على أيدي العلماء بعد الطعام.
توقيراً منه للدين وتقديراَ لأهل العلم والفقهاء

خطط الرشيد جديا لشق قناة السويس ثم أحجم
خشية أن يسهِّل ذلك دخول الروم الأماكن المقدسة

ينظر العديد من المؤرخين إلى عهد الخليفة هارون الرشيد باعتباره يمثل العصر الذهبي للدولة العباسية وللدولة الإسلامية التي قامت في أعقاب الفتوحات الإسلامية الأولى. بل أحد الكتاب المسلمين رفعه إلى مكانة لا يشاركه بها أحد عندما قال أنه “لم يحظَ خليفة بعد الخلفاء الراشدين بالشهرة الواسعة وذيوع الذكر، مثلما حظي الخليفة العباسي هارون الرشيد”
ففي عهد هذا الخليفة الفاتح والمستنير أصبحت الدولة العباسية أكبر الممالك وأغناها على وجه البسيطة كما أصبحت مركز تقاطع الحضارات كلها من أسيوية وفارسية وبيزنطية ويونانية ومصرية، وأصبحت بغداد أكبر وأشهر مدن العالم كما أصبحت في الوقت نفسه أهم مركز للثقافة والعلوم والفنون في العالم.
وشهد عهد هارون الرشيد نهضة شاملة لكل نواحي الحياة بسبب تدفق الأموال إلى خزانة الدولة من أطرافها فعمّ الرخاء والازدهار وتقدمت العلوم والفنون وأنشئت “دار الحكمة” ونشطت حركة النقل والترجمة من الحضارات المختلفة وحصلت نهضة معمارية وحضارية غير مسبوقة فبنيت المساجد والدور والقصور وحفرت الترع والممرات المائية واتسعت رقعة بغداد وبلغ فيها الرخاء وطيب العيش مستويات كانت تدهش الزائرين للمدينة وخصوصا الوفود الأجنبية التي كانت تفد لزيارة الخليفة وعقد الصلات والمعاهدات مع الدولة الإسلامية وقيل أن نحوا من ألف حمام عام كانت تعمل في بغداد في أوج العصر الأول للدولة العباسية.
لكن رغم تلك الانجازات الهائلة فقد كان على الخليفة الرشيد أن يتصدى لقلاقل وفتن كثيرة قامت في وجهه نتيجة لملابسات نشأة الدولة العباسية والتمازج العرقي الواسع الذي قامت عليه وازدهار التشيّع وصحوة العنصر الفارسي والمرارة التي عبر عنها نتيجة للهيمنة السياسية للعنصر العربي، وهذا فضلا عن تعدد المذاهب والتيارات كالمعتزلة الذين أيد الخليفة المأمون (وهو ابن هارون الرشيد) مذهبهم، كل ذلك في دولة أصبحت شاسعة الأطراف ويبعد مركزها كثيرا عن الإمارات والولايات التابعة لها.
لكن رغم كل هذه الظروف فإن الخليفة هارون الرشيد تمكن من قمع الفتن وتوطيد سلطة الدولة الإسلامية وبناء جهاز إداري فعال وجيش كان الأقوى في زمنه والملفت أن انشغال الرشيد بالحروب ضد المتمردين وضد الدولة البيزنطية لم يشغله عن المهمة الأكبر وهي الإشراف على إحدى أكبر حركات العمران والثقافة والنهضة في التاريخ الإسلامي.
فمن هو الخليفة هارون الرشيد وما هي السمات الأهم لعهده والإرث الحضاري الذي تركه للأجيال التالية؟.

لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان
لوحة-زيتية-تمثل-استقبال-الرّشيد-لسفارة-الإمبراطور-شارلمان

نسبه ونشأته
هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور أبي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي، كان مولده بالري حين كان أبوه أميرًا عليها وعلى خراسان في سنة 148 هـ تولى الخلافة سنة 170 هـ (786 م) وكان عمره آنذاك 22 سنة. وحكم حتى وفاته في العام 194 هـ (809م) ولم يكن عمره قد تجاوز الـ 45 عاما.
كان في سن يافعة عندما ألقى به والده في ميادين الجهاد يرسله في الغزوات على الروم محاطا بقادة أكفاء يتعلم من تجاربهم وخبرتهم، ومن ذلك أنه خرج في عام 165 هـ (781م) على رأس حملة عسكرية ضد الروم، وعاد مجللاً بأكاليل النصر، فكوفئ على ذلك بأن اختاره أبوه وليًا ثانيًا للعهد بعد أخيه موسى الهادي.
نشأ الرشيد في بيت ملك، وأُعِدّ لتولي المناصب القيادية في دولة الخلافة، وعهد به أبوه المهدي بن أبي جعفر المنصور إلى من يقوم على أمره تهذيبًا وتعليمًا وتثقيفًا، وكان من بين أساتذته الكسائي إمام الكوفيين في اللغة والنحو والمُفضل الضَبِّي وكان لُغَوِيّـًا، وعلّامة وراوية للأخبار وأيام العرب.
أحاط الرّشيد نفسه منذ سن مبكرة بأهل الرأي والمشورة السديدة في أمور الحكم والحرب من أمثال يحيى بن خالد البرمكي والربيع بن يونس و يزيد بن أسيد السلمي، وغيرهم وكانت هذه الكوكبة من الأعلام أركان دولته حين آلت إليه الخلافة، فنهضوا معه بالدولة حتى بلغت ما بلغته من التألق والازدهار.

الخليفة العابد
على العكس من صورة الخليفة الماجن التي راجت عنه فإن الخليفة الرشيد كان قائدا شجاعا وعابدا ذا عقل راجح ملتزما بأحكام الشريعة موقرا للعلماء معظما لحرمات الدين مبغضا للجدال والكلام، يكفي القول أنه كان منشغلا معظم وقته في الدفاع عن الدولة وإخماد الفتن وفي الحج إلى بيت الله الحرام وكان يقول عن نفسه أنه يحج عاما ويغزو عاما واعتمر في وقت قلنسوة نقش عليها “ غازِ وحاجّ”.
وتعود الصورة الملفقة عن الخليفة الرشيد إلى كتاب ألف ليلة وليلة الذي جمعت حكاياته من التراث الفارسي ومن غيره بعد مئات السنين من العهد العباسي وجُعِلت شخصيّة هارون الرشيد وما يدور في بلاطه محورا من محاور الحكايات الخيالية ربما بتأثير العداء للعرب (الذي انتشر في العهود المتأخرة للخلافة العباسية) وبقصد إظهار الخليفة العربي بمظهر الجاهل المستهتر الذي لا يستحق أن يُولّى أمور الحكم.
الرشيد كما يراه المؤرخون
قال السيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء: “وكان أمير الخلفاء وأجل ملوك الدنيا وكان كثير الغزو والحج”
وقال الذهبي في ترجمته للرشيد ضمن كتابه “سير أعلام النبلاء” : وكان من أنبل الخلفاء وأحشم الملوك ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة، وكان أبيض طويلاً جميلاً وسيما إلى السمن ذا فصاحة وعلم وبصر بأعباء الخلافة وله نظر جيد في الأدب والفقه وكان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات ويتصدق بألف وكان يبكي على نفسه ولهوه وذنوبه لاسيما إذا وُعِظ وكان يحب المديح ويجزل للشعراء وكان يقول الشعر.
قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي الرشيد إلا قال: صلى الله على سيدي ورويت له حديثه “وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيَى ثم أقتل” فبكى حتى انتحب.

تولّيه الخلافة
بويع الرشيد بالخلافة في سبتمبر 786م بعد وفاة أخيه موسى الهادي، وكانت الدولة العباسية حينها مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا حتى المحيط الأطلنطي وكانت تضم شعوبا كثيرة مختلفة البيئات، متعددة العادات والتقاليد، وكانت لذلك معرضة لظهور الفتن والثورات وتحتاج إلى قيادة حكيمة وحازمة تفرض بسلطانها وحنكتها الأمن والسلام، وتنهض بالبلاد، وكان الرشيد أهلاً لتلك المهمة الصعبة في وقت كانت فيه وسائل الاتصال شاقة، ومتابعة الأمور فوق الرقعة الشاسعة للإمبراطورية الإسلامية أمرا مجهداً، لكن ساعَدَه على إنجاز مهمته أنه أحاط نفسه بكبار القادة والرجال من ذوي القدرة والكفاءة، وما يلفت في هارون الرشيد أنه أمسك بزمام هذه الدولة العظيمة وهو في نحو الخامسة والعشرين من عمره، وحولها إلى مثال باهر في العالم بمجدها وقوتها وإنجازها الحضاري.

“خاض الرشيد حروبا متواصلة ضد الروم حتى أخضعهم وفرض عليهم الجزية ونقل عاصمته من بغداد إلى الرقة القريبة من حدود الدولة البيزنطية”

إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا
إمبراطور-الفنرنجة-شارلمان-تقرب-من-الخليفة-الرشيد-وتبادل-معه-الهدايا

الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان

كان شارلمان قد سيطر على معظم بلاد الفرنجة مما دفع بالبابا في روما إلى استرضائه عبر تتويجه إمبراطورا وقد بات يملك أغلب أجزاء أوروبا الغربية. وكان شارلمان منافسا قويا للدولة البيزنطية ومهتما بإضعافها وإبعاد خطرها عن مملكته ومستعمراته، فقرر لذلك مصادقة هارون الرشيد الذي كان أيضا عدوٌّ للبيزنطيين. وقد رحّب الخليفة الرشيد التفاهم مع شارلمان وأعاد السفارة التي أرسلها إليه في بغداد محملة بهدايا لم يشهد الأوروبيين مثيلا لها من بينها فيل عظيم، اعتبر في أوروبا من الغرائب، وأقمشة فاخرة وعطور، وشمعدانات، كما بعث إليه بمفاتيح الأماكن المقدسة في بيت المقدس تأكيداً لترحيبه بالحجاج المسيحيين . لكن أبرز الهدايا كانت ساعة تعمل بالماء ورد في سجلات ديوان شارلمان أنها كانت ضخمة وتعمل بطريق مذهلة، إذ عند تمام كل ساعة كان يسقط منها كرات معدنيه على عدد توقيت الساعة وكانت تلك الكرات تسقط بعضها في أثر بعض فوق قاعدة نحاسية ضخمة، فتعطي رنيناً موسيقياً كالأجراس يسمع دويه في أنحاء القصر..وفي نفس الوقت يفتح باب من الأبواب الإثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس نحاسي يدور حول الساعة ثم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب اثنا عشر فارسا مرة واحدة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، وقد دهش شارلمان وحاشيته لهذه الساعة واعتبروها من أعمال السحر. وتؤكد مراجع تاريخية إن العرب وصلوا في تطوير هذا النوع من آلات قياس الزمن (الساعة) لدرجة أن الخليفة المأمون أهدى إلى ملك فرنسا ساعة أكثر تطورا تدار بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقال حديدية معلقة في سلاسل وذلك بدلا من القوة المائية. وهذا دليل واضح على مدى التقدم والتقني للعرب في تلك الحقبة الذهبية والتأخر الشديد لأوروبا في المقابل.

البدء-في-بناء-بغداد-
البدء-في-بناء-بغداد-

استقرار وثراء وعدل
بلغت الدولة الإسلامية في عهد الرشيد ذروة اتساعها وثرائها حتى قيل إن هارون الرشيد نظر يوما إلى سحابة مارة فقال: “اذهبي وأمطري أنى شئت فإن خراجك عائد لي” وكانت أموال الدولة تُحصّل بطريقة شرعية، لا ظلم فيها ولا اعتداء على الحقوق، بعد أن وضع القاضي أبو يوسف وهو تلميذ القاضي والمجتهد الأكبر أبي حنيفة النعمان نظامًا شاملاً للخراج يتفق مع مبادئ الشرع الحنيف، وذلك في كتابه “الخراج” وقد تم وضع نظام الخراج استجابة لطلب الخليفة الرشيد الذي كان حريصا على تنظيمه بصورة قانونية تخفف عن الرعية وتدرأ المظالم في جباية المكوس.
وكان للفائض المالي الذي تحققه الدولة العباسية أثر كبير في انتعاش الحياة الاقتصادية، وزيادة العمران، وازدهار العلوم، والفنون، وتمتع الناس بالرخاء والرفاهية. وأُنفقت الأموال في النهوض بالدولة، وتنافس كبار رجال الدولة في إقامة المشروعات كحفر الترع وتحويل الأنهر، وبناء الحياض، وتشييد المساجد، وإقامة القصور، وتعبيد الطرق، وكان لبغداد نصيب وافر من العناية والاهتمام من قبل الخليفة الرشيد وكبار رجال دولته، حتى بلغت في عهده قمة مجدها وتألقها، فاتسع عمرانها، وزاد عدد سكانها حتى بلغ نحو مليون نسمة، وبُنيت فيها القصور الفخمة، والأبنية الرائعة التي امتدت على جانبي دجلة، وأصبحت بغداد من اتساعها كأنها مجموعة مدن متلاصقة، وصارت أكبر مركز للتجارة في الشرق تأتيها البضائع والقوافل من كل مكان.
وروى السيوطي والذهبي أن هارون الرشيد فكّر في شق قناة السويس قبل أكثر من 12 قرنا من زماننا، لكنه أحجم عن تنفيذ مشروعه خشية أن يسهل شق القناة وصول جيوش الروم إلى البحر الأحمر والحجاز وتهديد تلك الجيوش الأماكن المقدسة وقيل أن وزيره المقرّب يحيى البرمكي لفته إلى ذلك المحذور بالقول “إن الروم سيختطفون الناس من الحرم وتدخل مراكبهم إلى الحجاز”، فصرف النظر عن الفكرة.
ذاع صيت الرشيد وطبق الآفاق ذكره، وأرسلت بلاد الهند والصين وأوروبا رُسُلها إلى بلاطه تخطب وده، وتطلب صداقته، وكانت سفارة “شارلمان” ملك الفرنجة في سنة 183هـ (779م) من أشهر تلك السفارات، وجاءت لتوثيق العلاقات بين الدولتين. (راجع : الخليفة الرشيد والإمبراطور شارلمان)..

اتخاذه الرقة عاصمة لملكه
بالرغم من اهتمام الرشيد بالنهضة والعلم، إلا أنه كان لخلافته بعد آخر عامر بالغزوات والتنظيم الحربي، إذ قام بتنظيم الثغور المطلة على بلاد الروم على نحو لم يعرف من قبل، وعمرها بالجند وزاد في تحصيناتها، وعزل الجزيرة وقنسرين عن الثغور، وجعلها منطقة واحدة، وجعل عاصمتها أنطاكية (وأطلق عليها “العواصم”) لتكون خط الدفاع الثاني عن الثغور الملاصقة للروم، ولأهميتها كان لا يولي عليها إلا كبار القادة أو أقرب الأقربين إليه، مثل “عبد الملك بن صالح” ابن عم أبي جعفر المنصور أو ابنه المعتصم.

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر

حكاياتٌ عن العِلاقةِ المُمَيّزَة
بين جبلِ عاملٍ ووادي التّيم

مبارزةُ خيلٍ تتحوّلُ إلى جَفاء
ووفدُ مشايخٍ يعيدُ المياهَ إلى مجاريها

كان سوق الخان (والسهل المحيط) به مركز تلاقٍ وتواصل بين وجهاء وزعماء منطقتي جبل عامل ووادي التّيم، والسّبب الوجيه لذلك أن السّوق كان الحدّ الفاصل بين ولايتيّ صيدا ودمشق حسب التقسيم الإداري السائد أيام الحكم العثمانيّ وقد بقي كذلك أيام الانتداب الفرنسيّ.
في يوم التقى في سوق الخان الزّعيم كامل بك الأسعد والوجيه الحاصبانيّ سامي بك شمس، وبعد انفضاض الاجتماع ما كان من الوجيه الحاصبانيّ إلّا أن دعا الزّعيم الوائليّ إلى المبارزة خيلاً في عرض ذلك السّهل وطوله.
وكامل بك الأسعد وهو بالمناسبة جدّ كامل الأسعد الأخير لوالدته وقد كان على قامة سمقاء ورشاقة ومهابة تفوق التصوّر، وإذا اعتلى صهوة جواده لا يبارزه سوى القلّة، ومن كان له باعٌ في مضمار الفروسية. منذ بدء المبارزة بدا واضحاً أن الوجيه الحاصبانيّ لم يُوفَّق إذ بدا تفوق غريمه واضحاً وفاضحاً، وهذا الأمر أحرجه أمام أتباعه مما أثار غضبه وجعله يتفوّه بكلام قاسٍ وشتائم مهينة لغريمه. أمّا الزّعيم الوائليّ، فرغم أنّ الدم غلى في عروقه إلا أنّه أطلق العنان لفرسه بعد أن تبعه مرافقاه مقدّماً أمثولة في ضبط النفس وتغليب الحكمة على النّزق والانفعال.
لكن ما إن عاد الزّعيم الحاصبانيّ إلى منزله في حاصبيّا حتى انتبه إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بحقّ زعيم الجنوب وكما يقول المثل العاميّ “ راحت السّكرة وأتت الفكرة”، وكان يخاطب نفسه بكثير من التأنيب: ماذا فعلت؟ وكيف تصرّفت؟ وبأيّ حق تفوهت بما تفوّهت به تجاه رجل كريم؟ النّدم، النّدم.. لكن ما نفع الندم؟ في تلك اللّيلة لم تغمض عينا الوجيه الحاصبانيّ بل تسمّر جسده فوق مقعده وهو محتار من أمره وكيف سيعيد المياه إلى مجاريها، والصّداقة الأولى إلى سابق عهدها. وفكّر أخيراً أنْ ليس لي سوى الأفاضل من المشايخ الأكارم أصحاب العمائم ومقرّبي الخواطر: “إذهب يا أبو علي النّاطور إلى الشّيخ أبوفايز علم الدّين بدوي وقلْ له كي يحضر إذ إنّني قد وقعت في مأزق كبير وليس حلّه باليسير”.
حضر الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي وكان في ريعان الشّباب ولكنّه كان في الحكمة والدّراية شيخ من أشياخ الزّمان، ومن مشايخ البياضة المتنوّرين بالمعرفة ومحبّة الخير وتقريب الخواطر وفضّ النّزاعات، كما أنه كان صاحب البيت المشهور والكرم الحاتمي المعهود. لكن بعد اطلاعه على ما حدث وما أقرّ به الزّعيم الحاصبانيّ من تسرّعه وسوء تصرّفه دُهش واستغرب ما حدث، ثم تفكر في ذاته محتاراً من أمره فالموضوع مع زعيم كبير وغلطة لا تُغتفر، وكيف سيقرّب الأمور ومن أين سيبدأ الحلّ.

حاصبيا في عشرينيات القرن الماضي
حاصبيا في عشرينيات القرن الماضي

لهذا قرّر التصرّف بسرعة فعمد إلى تشكيل وفدٍ كبير من أهل الحل والعقد من الوجهاء الذين عرفوا بنبل مساعيهم وقد قبلوا أن يرافقوا الشّيخ أبو فايز في صباح اليوم التالي إلى بلدة الطّيبة، والتي يلزمها ستّ ساعات سيراً على الأقدام.
وصل الوفد في الوقت المحدّد لدار الطّيبة، لكنّ استقبالهم كان استقبالاً فاتراً، ومع هذا لم يدبّ الوهن في عزيمتهم، وكان التّفويض بالكلام لصاحب المقام الشيخ أبو فايز. بعد الجلوس وشرب القهوة وقف الشّيخ أبو فايز وسط القاعة ثم ابتدأ بالكلام تحية واحتراماً قائلاً: دار الطيبة اسم لمُسمّى وأشمل وأغنى من أي معنىً ورحابه صدرها للأنام عندها مسرّة، لذا أتينا من حاصبيّا، قاعدة وادي التيم، للاعتذار وتقديم الإجلال والاحترام للزّعيم الكبير آملين أن نُسلِّم عليه.
أجاب المسؤول: إنّ البيك خارج القصر. عندها قال الشّيخ أبو فايز: مسيرتنا لأكثر من ستّ ساعات ويلزمنا وقت مماثل في طريق العودة، لذا فإننا لن نبرح هذا المكان إلا بعد مقابلة صاحبه وتقديم الاعتذار كما أُمِرنا، ومهما تكن النفوس متباعدة فلا شيء يمنع من تقاربها والخلاف يحصل بين الإخوة والأقارب وزعيمنا الوائلي رائد محبة وتقارب وأملنا أن لا يعيدنا خائبين.
كبير المسؤولين في دار الطّيبة، وكان على دراية وبعد نظر، هزّه هذا القول مقتنعاً ومتّعظاً ومقدّراً كلام الشّيخ ومجيء الوفد، لذا انسلّ خارجاً ثم ذهب إلى مكان تواجد الزعيم فأخبره بما سمع وبأنّ عليه أن يقابل وفد المشايخ مهما تكن الخلفيّات خصوصاً وأنهم من أهل الكرامة والاقتدار ويكفي تحمّلهم عناء القدوم من مكان بعيد لكي يرفعوا إلى مقامكم اعتذار زعيم حاصبيّا وأسفه لما حصل.

كامل الأسعد
كامل الأسعد

الزّعيم الوائلي، وبعد سماعه كلام مرافقه، عاد إلى ضيوفه هاشّاً باشّاً وخاطبهم بالقول: أهلاً وسهلاً، وشكراً بما أشدتم وتكرّمتم لكن بالنّسبة للسّيد سامي بك فإنّني لن أحادثه مطلقاً وأرجو أن لا يقع نظري على نظره، وحتى حاصبيّا مُحرّمة عليّ.
الشّيخ أبو فايز تبسّم ثم تقدم من الزّعيم الوائلي مصافحاً إيّاه بحرارة وكذلك فعل بقية أعضاء الوفد، ثم جلس الجميع. غير أنّ الشيخ أبو فايز ظلّ واقفاً وابتدأ بالحديث قائلاً: يا كامل بك ، الأخوة تتخاصم، لكنّ الكبار الكبار أمثالكم لا يوجد للحقد أو الكراهية مكان في نفوسهم، فالصّفح شيمتهم، وقد كان قدومنا إلى هنا بطلب من زعيمنا شخصياً، ونحن نزيد على ذلك أن لعن الله الخمرة وما تسبّبه، وليس بالكثير إذا كانت عند أهل التوحيد منكرة ومحرمة. ولهذا عند عودته إلى منزله في حاصبيا كان الوعي والرّشد قد عادا إلى مخيّلته فاستدعانا على عجل وطلب إلينا الإسراع بالقدوم إلى دياركم لتقديم اعتذاره الصّادق.
انتظر الشيخ أبو فايز ليرى وقع كلامه على الزّعيم الجنوبي فلاحظ أنه بقي على عبوسه، عندها أكمل القول: هل تسمح لي بأن أسألكم سؤالا بسيطا؟ قال اسأل
قال الشيخ أبو فايز: ما هذا الذي يُغطي رأسكم؟
شقّل الزّعيم الوائلي حاجبيه وقال: ماذا تقصد يا شيخ بسؤالك؟ ألا ترى العقال والحطّة؟
تبسم الشّيخ وقال : هذا مقصدي بالضّبط، أليس يكفي أن يُجلّل رأسكم العقال، وكم هي بليغة وعميقة هذه الكلمة، وخاصة إذا كانت تكلّل هامات الرّجال العقلاء أمثالكم؟
كامل بك هزّه هذا القول فانفرجت أساريره وقال للشّيخ أبو فايز: حقّاً وصدقاً، أمثالكم قليلون أيّها الشيخ الجليل، لذلك ومهما كان غضبنا لما حصل، وتقديراً وتكريماً لخاطركم الكريم، قل لسامي بك إنني ذاهب إلى حاصبيا، وقريباً تشاهدوننا في دياركم.
وهكذا وفى الزّعيم الوائليّ بوعده فأتى برفقة سبعين خيّالاً إلى دار آل شمس، وكأنّ شيئاً لم يكن. وبعد الاستقبال والعناق كان التّكريم والحداء والرّصاص يملأ الآفاق وزِد على ذلك فقد أمر الزّعيم الحاصبانيّ بذبح سبعين خروفاً على عدد الزّائرين وبقي الجميع ثلاث ليال مكرّمين معززين.

أنعم وأكرم بأبناء العم

وندعــو كريمــاً مـــــــــــــــن يـــــــــــــجـود بمالــــــــه
ومن يبذل النَّفس النّفيســة أكـــرمُ
إن الكــرام إذا ما أيسـروا ذكــروا
من كان يألفهــم في المنزل الخشنِ
(شاعر قديم)

مالت الشّمس خلف جبل القاطع، وأذن الوقت بالعودة نحو المبيت. لهذا اعتلى الشيخ أبو فايز علم الدّين بدوي ظهر دابّته واتّجه عائداً نحو بلدته، بعد جهدٍ وتعبٍ مُضْنِيَين، من غرسٍ للبذور والشتول، وسقاية ورش ونكشٍ للعشب والجذور. فالوقت ربيع، وأيام العمل في البساتين تبدأ مع الفجر ولا تنتهي إلاّ مع الغروب، خصوصاً وأنه اقتنى بستاناً كبيراً من تعب اليد وعرق الجبين.
كالمعتاد يوميّاً، يرافقه في طريق العودة جاره في العمل الشّيخ علي، والقول المتّبع عند الفلّاحين الرّفيق قبل الطّريق.
قبيل وصولهم إلى بلدتهم، بعد هبوط العتمة إذ برهط من المكاريّة خارجين لتوّهم من البلدة، وكان زِيّهم يدلّ على أنهم غرباء مساكين وقد بدا الوجَل على وجوههم. اهتمّ الشّيخ أبو فايز للأمر فاستوقفهم قائلاً:
إلى أين أنتم قاصدين؟
نحو بلادنا.
وأين هي بلادكم؟
نحن من بلدة حولا في جبل عامل.
أنعم وأكرم بأهل حولا أبناء العم الكرام.
كان هذا النوع من السّلام دارجا بين دروز المنطقة وشيعتها بالنّظر لكون الموحدين الدروز كانوا معاً من ذات القبائل التي دانت بالمذهب الشّيعيّ الفاطميّ، لذا فهم من أرومة واحدة ويربطهم تاريخ من الصّداقات والعيش المُشترك وأدب الجيرة.
بعد السلام نزل الشّيخ عن ظهر دابته ثم تقدّم نحوهم فدعاهم وأصرّ عليهم أن يقبلوا المبيت عنده على اعتبار أنّ الوقت ليلٌ والطّريق طويلة وبعيدة نحو حولا، و..”شرّ الصّباح ولا خير المسا”!
ولما وجدهم متردّدين أجار عليهم بالقول المأثور “أجير الله وأنبياءه عليكم أن تقبلوا دعوتي”.
بعد سماع هذه الدّعوة الصّادقة، ما كان من المكاريّة إلّا أن قبلوا الدّعوة وعادوا معه شاكرين حامدين.
رفيق الشّيخ أبو فايز نظر نحو الموكب وهو عائد ثم هزّ برأسه وقال في ذاته: “ما أكثر غلبة عمّي أبو فايز، كيف يستضيف هذا العدد من الرّجال مع العشاء والمنامة، وفوق هذا دوابهم وجمالهم وخيولهم، وكيف ستقابلهم زوجته وهم في وضع مادّي غير ميسور؟! ثمّ تقدّم من الشّيخ وصارحه هامساً: “لقد جلبت العنت لك ولعائلتك وكان الأفضل تركهم وشأنهم، خصوصاً وأنّهم من بلاد بعيدة ولا تعرفهم؟”
هزّ الشيخ أبو فايز برأسه وأجاب رفيقه وابتسامة رضا تزين وجهه:”اسمع يا صاحبي، النّاس للنّاس والرّزق من الخالق الرّزّاق، قِسْ على نفسك إذا حلّ بهم مكروه في هذا اللّيل، والطّريق غير آمنة ومعرّضة للكثير من الأخطار، سواء كان من قطاع الطرق أو اللّصوص، ولا يغرب عن بالك أنّهم سيمرّون قرب الحدود مع اليهود، فلربّما اعتبروهم مهرّبي أسلحة أو مجاهدين فلسطينيّين وأطلقوا عليهم النّار وهم عُزّل مساكين. ومع هذا ماذا سيكلّفوننا؟..العشاء واحد، وأختك أمّ فايز، مثل كلّ غانمة، تعمل حسابها عند طبخ العشاء تحسّباً لضيف مساء أو عابر سبيل، والمثل يقول زاد واحد يقري اثنين وزاد خمسة يقري عشَرة والله يبارك لنا وللجميع، وبعملنا هذا ربّما ننقذ أرواحاً أو نكسب أصحاباً أو نطعم جوعاناً أو نروي عطشانا”
عند سماع ذلك سكت رفيق درب الشّيخ، لكنّه في قرارة نفسه لم يقتنع بما سمعه بل إنه عد سلوكه من قبيل الوجاهة وليس الكرم.
لكنّ مبدأ الشّيخ في الحقيقة كان ينبع من الكَرَم ومَدّ يد العون لعابر السّبيل وعمل الخير للجميع. فمنزله طوال حياته كان مضافة عامرة، و”محكمة أهليّة” لفضّ المشاكل وتقريب الخواطر وإغاثة الملهوف، وقدوم الضّيوف عليه وعلى عياله كان أمراَ مألوفا.

الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي
الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي

سهرة ممتعة قضاها الشّيخ أبو فايز مع ضيوفه من سمرٍ ومسامرة وتبادل أفكار واكتساب معرفة عن بلاد بعيدة وعادات جميلة.
عند مغادرة الضّيوف صباحاً منزله، وقف كبيرهم قبيل توديعه قائلاً: “ أقسم بالله وبالنّبي والإمام عليّ، وقد تجاوزت الخمسين من عمري، لم أصادف رجلاً في حياتي كلّها وأنا تاجر متجوّل من بلدة إلى بلدة، ومن بيت إلى بيت، كما لمسنا وشاهدنا من كرمكم وأفضالكم وترحيبكم وطراوة أحاديثكم يفوق ما يتصوّره أيّ إنسان. ويكفي أنّكم كنتم المبادرين لدعوتنا قبل أن نطرق بابكم، وهنا تظهر أريَحيّتكم وشهامتكم. فهنيئاً لكم ولبلدتكم ولطائفتكم بأمثالكم، وعسى الله تعالى يقدّرنا على الوفاء، وردّ الجميل”.
دارت الأيام… ومواسم الحاصبانيّ من السّفرجل والرّمان والملفوف والباذنجان لا يصحّ تركها بعد نضجها، والخريف آن، وحان وقت القطاف والتّسويق.
لهذا، حمّل الشيخ عليّ جار الشّيخ أبو فايز أحمالاً عدّة مع رفاق له، واتّجهوا جنوباً نحو قرى جبل عامل لبيعها. ثمّ بادروا للتنقّل من قرية إلى قرية إلى أن غربت الشمس عنهم في خدرها وهم بعيدون عن ديارهم والعودة ليلاً محفوفة بالأخطار، ومع هذا لم تنفذ البضاعة ويجب تصريفها وإلا كانت عرضة للأضرار.
ما العمل، قال الشّيخ علي لرفاقه، وكيف العودة والطريق نجهلها، والغريب أعمى ولو كان بصيراً، فكيف إذا كان الوقت ليلاً وليس بيننا دليل؟!
إذ ذاك ما بقي أمامهم سوى طرق باب أحد المنازل قصد الضيافة. وهكذا حدث من قِبل أحدهم.
استقبله صاحب المنزل قائلاً: “ أهلاً وسهلاً، ماذا تريد يا أخي؟”
أجاب الطارق: “إنني ورفاق لي من بلاد بعيدة، وليس بالإمكان العودة ليلاً، فهل تسمح باستضافتنا منامة وليس أكثر؟”
“تفضلوا يا أخي، على الرّحب والسعة”.
بعد الدخول والاسترخاء من قبل الضيوف، تفرّس المضيف بهم، ثم بادرهم القول: “عسى أن تكونوا من بلاد حاصبيّا؟”
تبسّم الضّيوف، إذ وجدوا بهذه الكلمة نوعاً من التّرحيب وراحة النّفس قائلين: “نعم..”.
“إذاً من بلدة الشّيخ أبو فايز علم الدين بدوي!”
“ نعم نعم من بلدته وجيرانه، والبعض منّا من أقاربه”.
“ يا أمّ حسين” نادى صاحب المنزل على زوجته، “ تعي أنتِ والأولاد ..لأعرّفكم على أقارب وأصحاب وجيران أجلّ وأشرف رجل عرفته، وكم حدثتكم عنه وعن كرمه وأصالته وسعة محله.”
“ألا يكفي أن أرجعنا عن الطريق إلى بيته بعد أن تصدّى لنا وأجار الله وأنبياءه علينا كي نقبل دعوته؟ لقد كرّمنا بأكثر من مقامنا وأتحفنا بكرم الخلق وأدب الضّيافة، وأفادنا بأمثال وحكم بليغة من علومه وتراث عشيرته”.
لم تمضِ فترة من الوقت، حتّى مُدَّت سُفرة من الطّعام الشهي للضّيوف، والبيت بأكمله يعمّه الفرح والسرور.
الشيخ علي كان يأكل ويهزّ برأسه من وقت لآخر، ثم يوشْوِش رفاقه قائلاً: “أطال الله بعمرك يا عمّي أبو فايز وبيّض وجهك وثناك في الدّنيا والآخرة كما بيّضت وجهنا ونحن حقيقة نأكل الآن على جاهك ونغرف من معجنك”
عند عودته إلى بلدته، كان الخجل يعلو وجه رفيق الشيخ أبو فايز وهو يخبره عمّا لاقَوْه من كرمٍ وترحيب فاقَ ما يتصورونه في بلدة حولا الجنوبيّة. وكلّ ذلك عائد لفضلكم وكرمكم وبُعد نظركم. ثم أكمل حديثه قائلاً: “إنّ أصدق قول يناسب مقامكم يا شيخنا ما كنت تردده أمامنا هو: من جاد ساد، ومن بخل رُذِل، وأجود النّاس من جاد من قلّة وصانَ وجه السائل من المذلة، وأجمل المحاسن كلّها الكرم.

ثقافة و آداب

لا يجد من يحبّ الدنيا حلاوة العبادة الإمام بشر الحافي الصوفي الذي أمات نفسه قل لمن طلب الدنيا: تهيأ للذل الجُوعُ يُصَفِّي …

إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» ثَبْتٌ علميٌّ بقاموس الاستشراق الاستعماريّ لكنّ تعميم الإدانة أثار جدلاً بين الأكاديميين “هل هو خيرٌ لهذه الأمم …

حِوارات طاغور وأينشتاين بين حسابات العالِم وتجليّات العِرفان الصّوفيّ أينشتاين: الفيزياءُ الكوانطيةُ لم تَقُلْ «مع السّلامة» لقانون السّببيّة طاغور: ربّما، لكنْ هناك …

طاغورُ والوَجْدُ الصوفيّ لو لم يكن ثمّة «تأنُّس» للحقّ يُسهِّل المعرفة لأصبحَ هذا الكائن الأسمى مُطلقاً عَدَميّاً المعرفةُ الأرضيةُ تراكمٌ مَعْرِفيٌّ أمّا …

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب الحلقة الثانية                              …

الخليفة هارون الرشيد والعصر الذهبي للدولة العبّاسية أنشأ إمبراطورية إسلامية كانت الأغنى في العالم وأطلق أكبر نهضة عمرانية وحضارية في التاريخ كان …

مآثـــر وعبـــر حكاياتٌ عن العِلاقةِ المُمَيّزَة بين جبلِ عاملٍ ووادي التّيم مبارزةُ خيلٍ تتحوّلُ إلى جَفاء ووفدُ مشايخٍ يعيدُ المياهَ إلى مجاريها …

حكاياتُ الحكيم السّاخر مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن الحلقة الرابعة والأخيرة في هذه الحلقة الرابعة من حكايات مُلّا نَصْر الدِّين تختارُ “الضحى” باقةً من …

الانفجارُ الكبيرُ أثبتَ خلقَ الكونِ ودحضَ المادّيّين «لو كان معدّل التّمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أقلّ بجزء واحد من مائة …

حبيب أبو شهلا يروي قصة طريفة عن معَّاز كفرتبنيت وموكب الرئيس “إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب وإذا قلّت المراعي بيخف الحليب” هذا …

حكاياتُ الحكيم السّاخر مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن مقالبُ ومواقفُ طريفة وعِبَرٌ منَ الحياة لأشهرِ الحكماء السّاخرين عبرَ العُصور الحلقة الثالثة في هذه الحلقة …

معجزة الـ DNA عمليّةُ نسخِ الخصائص الوراثيّة للإنسان تتكرر دون خطأ مليــارات المرّات في فتــرة عمــر الكائــن الحــيِّ الواحـــد أنزيمات متخصصة تبحثُ …