الأحد, نيسان 20, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, نيسان 20, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

الحلقة الرابعة والأخيرة

في هذه الحلقة الرابعة من حكايات مُلّا نَصْر الدِّين تختارُ “الضحى” باقةً من حكايا وقصص هذه الشخصية الشهيرة في الإرث الأخلاقي والشعبي الشرقي وتُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً.

ظرافة تلين قلب تيمورلنك
ظرافة تلين قلب تيمورلنك

ظرافة تُلين قلبَ تيمورلنك
كانت جيوشُ تيمورلنك تجتاحُ أواسطَ آسيا، وسَرَت شائعاتٌ أنّ تيمورلنك كان يتّجه نحو قرية المُلّا نَصْر الدِّين.
وما أن تناهى ذلك إلى سَمعِ المُلّا حتى دعا الناسَ خلال خطبة الجمعة إلى الدعاء والصلاة.
وقال: “دعونا نُصلِّي لموت تيمور الأعرج قبل قدومه”، فصاح جميعُ القرويين “آمين”.
ووقف رجلٌ من بين المُصلّين وسأل المُلّا نَصْر الدِّين: “هل رأيتَ تيمورَ قط؟.
أجابه المُلّا: “لا ولم أركَ من قبل أنتَ أيضاً”.
فقال الرجلُ: “إنّك على حق، فأنا تيمورلنك”.
فصعق المُلّا نَصْر الدِّين لهذا النبأ، وكذلك ذُهِلَ القرويون.
ومن ثم تابعَ المُلّا خطبتَه بهدوءٍ، وقال: “دعونا نُصلِّي جميعاً مرّةً ثانية، وهذه المرّة صلاة جنازتنا”.
سأله تيمور: “كيف تُصلِّي صلاةَ جنازتك أيُّها الأحمق، فصلاةُ الجنازة تُتلَى على الميت”.
فأجابَ المُلّا: “نعم يا مولاي، لكن كما ترى فإنّنا جميعاً على وشك الموت دون أن يكون ثمة مَنْ يُصلِّي صلاةَ الجنازة علينا. لذا ينبغي علينا أن نقوم بذلك بأنفسنا”.
فضحك تيمورلنك من أعماقه وعفا عن المُلّا وأهل القرية.

تيمورلنك ووجه الشيطان
يُحكَى أنّ تيمورلنك لمّا دخلَ قريةَ المُلّا نَصْر الدِّين الشهير، قام باستدعائه.
وقال له: “يُحكى أنّك رجلٌ واسع المعارف، رجلٌ متحالِف مع قِوى الظلام وأنّك تملك قِوى غريبة وتعلم أرهبَ التعويذات، بل يقولون عنكَ إنّك في تحالفٍ مباشر مع الشيطان بحدّ ذاته!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين باستخفاف: “هذا ما يقولونه!”.
فصاح تيمورلنك بصوتٍ هادر، وقد استفزّته برودة المُلّا نَصْر الدِّين: “إن كنتَ حريصاً على حياتك، فقلْ لي إذاً كيف تبدو هيئة هذا الشيطان؟”.
فتبسَّم نَصْرُ الدِّين وناولَ تيمورلنك مرآةً، وقال له: “انظرْ في المرآة فتراه!”.

الثالث مُحِقٌّ أيضاً!
ذهبَ قاضي البلدة في إجازةٍ قصيرة. وطُلِبَ من المُلّا نَصْر الدِّين تولِّي القضاء مكانه مؤقتاً ليومٍ واحد.
فجلس المُلّا نَصْر الدِّين على كرسي القضاء، وبدا الحزمُ على مُحيّاه مُحدِّقاً في الجموع، واستعدَّ للنظر في القضية الأولى.
وبعدما سمِعَ مرافعة الطرفَ الأول، قال له نَصْرُ الدِّين: إنّك على حق”.
وقال للطرفِ الثاني بعد سماع وجهة نظره: “إنّك أيضاً على حق”.
فصاحَ أحدُ الحاضرين وسط الجموع قائلاً: “لكن لا يمكن أن يكون الطرفان على حق”.

السمكة الصغيرة للمتفلسف
السمكة الصغيرة للمتفلسف

السمكةُ الصغيرة للمُتَفَلسِف
مرَّ أحدُ العلماءِ المُتَفَلسِفين بقرية المُلّا نَصْر الدِّين، وما أنْ التقاه حتى سأله عن مكانٍ يُقدِّم طعاماً شهيّاً. فاقترح المُلّا مكاناً، فدعاه العالِمُ المُتَعطِّشُ للمحادثة للانضمام إليه.
فرافق المُلّا نَصْر الدِّين العالِمَ مُكرهاً إلى مطعمٍ قريب.
وعند وصولهما إلى المطعم سألا عن طبق اليوم، فأجاب صاحبُ المطعم: “سمكٌ! سمكٌ طازج!”
فقالا له: “أحضِرْ لنا سمكتَين”.
وما هي إلا بضعُ دقائق حتى أحضرَ الرجلُ طبقاً كبيراً تُزيِّنه سمكتان مشويّتان، واحدةٌ منهما أصغر قليلاً من الأخرى.
فانبرى المُلّا نَصْر الدِّين من دون تردُّدٍ والتقطَ السمكةَ الكبيرة ووضعها في صحنه.
العالِمَ، الذي بدَت على مُحيّاه الدهشةُ والاستغراب، لفتَ انتباه نَصْر الدِّين إلى أنّ ما قام به لم يكن عملاً أنانيّاً بشعاً فحسب، بل ينتهك الأدب ومبادئ الدين!
أصغى المُلّا نَصْر الدِّين لمحاضرة مرتجلة ألقاها العالِمُ المُتَفلسِف بكلِّ صبرٍ، لكن ما أن نفدَ صبرُهُ حتى قال له:
“حسناً يا سيّدي، ماذا كنتَ لتفعَل أنت؟”.
فأجابه العالِمُ: “إنّني كصاحبِ مبادئ وضميرٍ، كنتُ سأختار السمكة الأصغر حجماً”.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين: “هاكَ إيّاها”، ووضعَ السمكةَ الصغيرة في صحنِ المُتَفلسف.

أُمنيةٌ أخيرة!
أخذ المُلّا نَصْر الدِّين ورفيقاه يحتسون القهوة، ويتساءلون حول الموت: “إذا كنتَ مسجَّى والأهلُ والأصدقاء يبكون من حولك، فما الذي تتمنَّى أن تسمعه منهم؟”.
قال رفيقه الأول: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ طبيباً عظيماً في زماني، ومُحبِّاً لأُسرتي وعائلتي”.
ومن ثمّ قال رفيقه الثاني: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ زوجاً صالحاً ومعلِّماً تركَ أثراً كبيراً في أجيال الغد”.
أمّا نَصْرُ الدِّين فقال: “أودُّ أن أسمع منهم: انظروا!! إنّه يفتح عينيه!!!”.

سمكةُ القاضي في الشبكة!
ذات يوم، تناهَى إلى مسمعِ المُلّا نَصْر الدِّين أنّ السلطانَ قد أرسل لجنةً متخفّية سعياً إلى اختيار مُرشَّحِين أكفّاء لتولِّي منصب القاضي.
فعمدَ المُلّا إلى التنقُّل في الأنحاء واضعاً شبكةً قديمة لصيد السمك على كتفه.
ولمّا وصلَ أعضاءُ اللجنة إلى قريته، استرعت الشبكةُ انتباهَهم وسألوا المُلّا نَصْر الدِّين ما السرّ وراء ذلك.
فأوضح نَصْرُ الدِّين: “نعم، أحملُ هذه الشبكة معي لتُذكّرني بماضيَّ الوضيع كصيّادٍ فقير”.
فتأثَّر أعضاءُ اللجنة أيما تأثر، وعندما حانَ الوقت، عُيِّنَ المُلّا نَصْر الدِّين قاضياً.
وبعد فترةٍ وجيزة، التقى ممثِّلو السلطان المُلّا نَصْر الدِّين مجدداً لكنّهم لاحظوا اختفاء الشبكة.
فسألوه: “أيُّها المُلّا أين الشبكة”.
فأجاب المُلّا نَصْر الدِّين: “حسناً، لا حاجة للشبكة بعد اصطياد السمكة، أليسَ كذلك؟”.

عودةُ الجَمَل
صاحَ المُلّا نَصْر الدِّين بأعلى صوته: “لصٌّ، لصٌّ! لقد سرقَ لصٌّ جَمَلي!”.

وما أن هدأ رَوْعُه وسكَنَ صخبُه حتى بادره أحدُهم بالقول متعجِّباً: “لكن يا نَصْر الدِّين، لا جملَ لديك”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “صُهْ .. أخْفِت صوتَك، أتمنّى ألَّا يسمعك اللصُّ، لعلّه يُعيد إليَّ جَمَلاً”.

قوةٌ لا تشيخ!
كان المُلّا نَصْر الدِّين يوماً يتباهى بقوتِه التي لم تؤثّر فيها السنون. وقال: “إنّني على القدر ذاته من القوة التي كنتُ أتمتّع بها شاباً”.
فسأله القوم متعجِّبين: “وكيف أمكنَ ذلك؟”.
فأجاب المُلّا: “هناك صخرةٌ كبيرة خارج منزلي. لم يكن بوسعي أن أُحرِّكها من مكانها وأنا شابٌّ، ولا يسعني أن أُحرِّكها كذلك اليوم!”.

الحمد لله ليست يقطينة!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يستلقي تحت ظلال شجرة جوزٍ عتيقة. استراحَ جسدُه لكنّ فكرَه الوقّادَ لم يجد له راحة. كان يتطلّع إلى أغصان تلك الشجرة الهائلة ويتفكّر في خلقها.
وتساءلَ الخُجا في سِرّه: “ما الحكمةُ في أنْ تُثمِرَ مثلُ هذه الشجرةِ الكبيرة السامقة حبّاتَ الجوز الصغيرة هذه؟ فها هو جذعُها ضخمٌ، وأغصانُها ثخينةٌ بإمكانها أن تحمل بسهولة أكبرً يقطينةٍ تنمو من نبتةٍ ضعيفة مُعرِّشَة في الحقول، نبتةٌ لا يمكنها أن تحمل حتى وزنَ ثمرتها. ألا ينبغي للجوز أن ينمو من تلك النباتات الضعيفة، واليقطين من هذه الشجرة الراسخة؟”.
وفيما هو غارقٌ في تفكُّرهِ وتغشاه الحَيرةُ، سقطت حبّةُ جوزٍ من أعلى الشجرة لترتَطِمَ برأسه.
فانتفضَ نَصْرُ الدِّين مرتاعاً، وقال: “الحمد لله! لو كان ما سقطَ على رأسي يقطينةٌ لقُضِيَ عليَّ حتماً! إنّ الله رحيمٌ! وهو أبدعَ الطبيعةَ وفي نيته أن يُنقِذ حياتي”.

اخترع كذبة وصدّقها
اخترع كذبة وصدّقها

اخترعَ كذبةً وصدّقها!
ذات يوم قرّر المُلّا نَصْر الدِّين أن يُمازِح سكّان قريته. فما أن صادفَ حشدٌ منهم حتى أوهمه بوجود منجمِ ذهبٍ اكتشفه في مكانٍ حدّده لهم.
وما أن سمعَ الجميعُ ذلك حتى أخذوا يهرعون إلى ذلك المكان للاستئثار بالذهب.
وما هي إلَّا هُنيهةٌ حتى وجدَ نَصْرُ الدِّين نفسَه سائراً معهم.
وعندما سأله مَنْ يعرف سرَّ حيلتِه عما هو فاعلٌ، قال: “عندما يصدَّقَ ذلك الجمُّ الغفيرُ من الناس، فإن هناك احتمال بأنّ يكون صحيحاً!”.

لا يفقهونَ الخبزَ ويَحكِمون
اتّهمَ ثلاثةُ علماءٍ المُلّا نَصْر الدِّين بالخروج عن الدِّين، لذا استُدعَى إلى بلاط السلطان للمحاكمة.
وفيما هو يُدافع عن نفسِه، سألَ نصر الدين العلماء الذين جلسوا لمحاكنه: “أيُّها الحكماء، ما هو الخبز؟”.
فقال العالِمُ الأول: “الخبزُ هو قوتٌ، طعامٌ”.
وقال العالِمُ الثاني: “الخبزُ هو مزيجٌ من الطحين والماء عُرِّضَ لحرارة النار”.
أمّا العالِمُ الثالث فقال: “الخبزُ هو نِعمةٌ من الله”.
فتوجَّه المُلّا نَصْر الدِّين إلى السلطان قائلاً: “مولاي، كيف لكَ أنْ تثق بهؤلاء الرجال؟ أليسَ من الغريب أنّهم عاجزون عن الاتّفاق على طبيعة شيءٍ يأكلونه كلّ يوم، ومع ذلك يُجمِعُون على أنّني خارجٌ عن الدِّين؟”.

حصانُ السلطانِ يُغنِّي
ذات يوم، ألقى المُلّا نَصْر الدِّين نُكتَةً في حضور السلطان أثارت سخطَه. فأمرَ على الفور باعتقال نَصْر الدِّين وإلقائه في السجن، واتّهمه بالمروق والعصيان.
اعتذر المُلّا نَصْر الدِّين من السلطان على هذه الدعابة السَّمِجَة، وتوسَّل إليه أن يعفو عنه ويُبقِي على حياته.
لكنّ السلطان بقِيَ متشبِّثاً بموقفه، وبفعل الغضب الشديد أمرَ بقطع رأس المُلّا نَصْر الدِّين في اليوم التالي.
وعندما أُحضِرَ نَصْر الدِّين في الصباح لتنفيذ حُكم الإعدام به، خاطبَ السلطانَ قائلاً: “أطالَ اللهُ عمرَ مولاي السلطان! أنتَ تعلم أنّني مُعلِّمٌ حاذق، والأكثر براعة في مملكتك، فإذا ما أَخَّرتَ إعدامي عاماً واحداً، فسأُعلِّم حصانَكَ الحبيب الغناء”.
لم يكن السلطانُ يعتقد أنّ ذلك ممكناً، لكنّ هذا ما هدّأ من رَوعه، فأجابه: “حسناً، سأمنحُكَ عاماً. لكن الويلَ لكَ إذا حلَّت نهايةُ العام ولم تُعلِّم حصانَي الحبيب الغناء”.
وقام أصدقاءُ نَصْر الدِّين بزيارته مساءً في السجن، فوجوده فرِحاً مسروراً. فسألوه مندهشين: “كيف لكَ أن تكون مسروراً؟ هل تعتقد حقّاً أنّ بوسعك تعليم حصان السلطان الغناء؟”.
فأجابَ نَصْر الدِّين: “بالطبع لا. لكن أمامي مهلة عام، وقد يحدث الكثير في هذه المهلة. فلربّما هدأ غضبُ السلطان وعفا عنّي. ولربّما قتلته الشدائدُ أو المكائدُ أو المرض، ولعلّه يُصدِرُ عفواً عن السجناء جميعاً. أو قد يموت الحصانُ، ولا يعود للسلطان حُجّةً عليّ”.
واستدرك نَصْرُ الدِّين أخيراً وقال: “إذا لم يحدث أيٌّ من ذلك، فما أدراكم، لعلّ الحصانَ يتعلّم الغناء!”.

السجنُ ولا شِعْر السلطان!
خُيِّلَ للسلطانِ يوماً أنّه شاعرٌ. وبعدما سهِرَ ليالٍ عديدة، أكملَ قصيدةً عصماء، واستدعَى المُلّا نَصْر الدِّين ليُلقيها أمامه.
وبعدما انتهى من إلقاء قصيدته، أحبَّ السلطانُ أنْ يعرف رأيَ المُلّا نَصْر الدِّين. فقال نَصْرُ الدِّين مندهشاً: “أحقّاً يا مولاي؟”.
فأجابه السلطانُ: “بالطبع، لِمَ أحضرتُكَ إلى هنا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “حسنٌ، إنّها يا مولاي.. فظيعة”.
فاستشاطَ السلطانُ غضباً ونادَى الحرس: “ضعوه في السجن، ثلاثين يوماً”.
وبعدما أكمل نَصْرُ الدِّين فترة عقوبته، استدعاه السلطانُ مجدداً لسماع قصيدة أخرى، وعندما انتهى السلطانُ من إلقائها، نهضَ نَصْرُ الدِّين على الفور واتّجه نحو الباب.
فسأله السلطانُ باستغراب: “ما خطبكم، أين أنتَ ذاهبٌ يا نَصْر الدِّين؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “إلى السجن يا مولاي”.

لا شنقَ لمَنْ جاء يُشْنَق!
استاءَ السلطانُ كثيراً من كثرة الغشَّاشين والكذَبَة المخادعين الذين يدخلون أبواب عاصمته الزاهرة ويعيثون فيها فساداً. لذا، أمرَ بوضع حامياتٍ من الجند عند جميع بوابات المدينة المحاطة بأسوارٍ منيعة. وصدرت الأوامر للجنود بشَنْق كلّ مَنْ يكذب حول الغرض الحقيقي وراء رغبته في دخول العاصمة.
أسرجَ المُلّا نَصْر الدِّين حمارَه وانطلقَ قاصداً العاصمة.
وعند إحدى البوابات، استوقفه حارسٌ وسأله عن الغرض وراء رغبته في الدخول إلى المدينة، وحذّره من أنّ الكذب قد يؤدّي به إلى الشنق.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين بكلِّ هدوء: “هذا أمرٌ جيد، إذ إنّني أتيتُ إلى هنا لكي أُشنَق!”.
فقال الحارس مندهشاً: “إنّك كاذبٌ وسوف تُشنَق حتماً!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين: “إذاً، أنتَ تَعلم أنّني نطقتُ بالصدق، ووجبَ بذلك ألَّا أُشنَق”.

أحمق في الظلام
أحمق في الظلام

أحمقٌ في الظلام!
في إحدى الأمسيات من ليالٍ حالكات، كان المُلّا نَصْر الدِّين يعود أدراجه إلى المنزل. الطريقُ كانت قصيرة جداً، لكن عند وصوله بدا عليه استياءٌ شديد، وأخذ يقول: “يا حسرتاه، يا ويلتاه”.
وصُودِفَ مرور أحد الشبّان بالقرب من منزله وسمعه يتحسَّر.
فسأله: “بالله عليك، قُلْ لي ما خطبُكَ يا مُلّا”.
فأجابه نَصْر الدِّين: “آه يا صديقي، يبدو أنّني أضعتُ مفاتيحَ منزلي. هلَّ ساعدتني في البحث عنها؟ أنا متأكّدٌ أنّها كانت في حوزتي عندما غادرتُ المقهى”.
فهبَّ الشابُ إلى مساعدة المُلّا نَصْر الدِّين في البحث عن مفاتيحه.
وجَهِدَ الشابُ في البحث هنا وهناك عن المفاتيح لكن لم يجد لها أثراً. ومن ثم نظر فوجدَ نَصْرَ الدِّين يبحث في بقعةٍ صغيرة يُضيئها مصباحٌ معلّق في الشارع.
فسأله الشابُ: أيُّها المُلّا، لماذا لا تبحث سوى في هذا المكان؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “هل أنا أحمقٌ لأبحث في الظلام..!”.

العدل .. حسب نصر الدين
جادلَ أحدُ الأشخاص المُلّا نَصْر الدِّين، وقال له بعد نقاشٍ مستفيض: “دعنا نقذفُ قطعةَ نقودٍ ونرى مَنْ هو على حق؟”.
فسارع المُلّا نَصْر الدِّين وقَذَف قطعةَ نقودٍ في الهواء وقال مُستبقاً حُكمَ الشخص الآخر: “إن جاءت الطُرَّة لي فأنا الفائز، وإن كانت النَقْشَة لكَ فأنتَ الخاسر”!

لله في خلقِهِ شؤون!
وجدَ ولدان كيساً يحتوي على اثنتَي عشرة من الكرات الزجاجية الملوّنة التي يلعب بها الأولاد، واختلفا حول كيفية تقسيمها في ما بينهما، وأخيراً اتّفقا أن يحتكما إلى المُلّا نَصْر الدِّين.
وعندما طلبا منه أن يُقسِّم الكرات الزجاجية بالعدل بينهما، سألهما ما إذا كانا يرغبان بأن يقوم بتقسيمها بعدلٍ إنساني (أي مناصفة) أو استلهاماً لحكمةٍ ربّانية دون تساؤل منهما أو اعتراض وقد آثر الولدان بالطبع الخيارَ الثاني.
عندها قام المُلّا نَصْر الدِّين بعَدّ الكرات، وأعطى ثلاثاً منها للأول وتسعاً للثاني ..!!

الانفجار الكبير

الانفجارُ الكبيرُ

أثبتَ خلقَ الكونِ ودحضَ المادّيّين

«لو كان معدّل التّمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أقلّ بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل إلى حجمه الحاليّ”.
(عالم الفيزياء الشّهير ستيفن هوكنز)

إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
(العالم فريد هويل)

نظرية الانفجار الكبير أظهرت أن الكون اللانهائي خلق من لاشيء من قبل خالق عظيم رتب كل أمر بحسابات دقيقة لا يمكن أن تتم بفعل الصدفة

أكثرُ العلماء المادّيّين قاوموا نظرية الانفجار الكبير
لأنّها أثبتت وجود بداية للكون وبالتالي وجود الخالق

نظـــــــــــرية التّمـــــــــــدّد الكونـــــــــــيّ

لأنّ الأجرام الفضائيّة تبتعد عنّا وعن بعضها باستمرار
فذلك يعني أنّ الكون يتمّدد وأنّه نشأ من نقطة واحدة

المقصود من عرض هذا الموضوع هو إظهار مدى التقدم العلمي في تأكيد واقعة خلق الكون من العدم، وهو ما يدحض نظريات الإلحاد التي ترفض نظرية الخلق وتزعم أن الكون موجود منذ الأزل بذاته، وهو أمر بات العلماء مقتنعون إنه لا يمكن أن يتم بالصدفة بل هو إعجاز من الله تعالى، وقد أثارت النظرية اهتمام الأوساط الدينية في العالم ورأى فيها البعض دعما علميا حاسما لنظرية الخلق، ونحن نعرضها هنا انطلاقا من احترام البحث العلمي دون اتخاذ موقف منها وهو أمر يتطلب إمعانا وتمحيصا بسبب طبيعته المعقدة ، مع التأكيد على أن العقيدة التوحيدية عقيدة تقوم على العقل وعلى اليقين الإيماني الذي لا يفترض بناؤه على براهين علمية لأن الإيمان يقوم على التصديق بالرسالات السماوية وما جاء فيها وعلى اجتناب الجدل وصون الإيمان عن الأخذ والرد، فالمؤمن دليله قلبه كما يقال وهو مصدق لأنبيائه مطمئن لعقيدته راسخ في سلوكه وطاعته لخالقه وكفى بالله شهيدا.

السّؤال البديهيّ الذي يرد على خاطر أيّ إنسان متفكّر هو ولا شكّ: كيف وُجِد هذا الكون العظيم؟ وما هو مغزى هذا الانتظام المذهل في عمله وهو انتظام مضت عليه ملايين السّنين، والذي لو اختلّ ولو بشكل بسيط جدّاً فإنّ الحياة كما نعرفها قد تنتهي في طَرْفة عين. وعندما نتكلّم عن الوجود فإنّنا لا نعني فقط الفضاء ومليارات المجرّات والكواكب والظّواهر الكونيّة التي لا تحصى بل نعني أيضا أرضنا العجيبة ببحارها وأسماكها وبراريها وأنهارها وكائناتها الحيّة حتى أصغر كائن مجهري.
لقد اجتهد العلماء والفلاسفة والمفكرون عبر القرون في محاولة إيجاد جواب على ذلك السّؤال المحيِّر. فنشأ مع الزّمن عدد كبير من النّظريات، لكنّ الاختلاف تركّز مع الوقت بين القول بأنّ العالم أزليّ وقديم ممّا يعني أنّه لم يُخلق وبين القول بأنّ العالم ليس قديماً بل هو مخلوق بقدرة خلّاق عظيم هو نفسه غيرُ مخلوق وقديم أي أنه سابق لكلّ وجود متصوَّر.
لقد ساد الاعتقاد خلال القرن التّاسع عشر بأنّ الكون عبارة عن مجموعة من المواد لا نهائيّة الحجم تواجدت منذ الأزل وسيستمرّ تواجدها للأبد، وقد مهدت تلك النّظرية للفلسفة الماديّة، التي تنكر وجود الخالق والتي تشدّد على أنّه لا توجد بداية أو نهاية للكون.
وهذ النّظرية رغم عدم استنادها إلى أيّة أدلّة علميّة بل رغم كونها تناقض العلم الحديث فإنّها حازت على قبول متزايد في القرن التّاسع عشر، واشتُهر هذا النّظام الفكري بشكل خاصٍّ في الفلسفة الماديّة الجدلية لكارل ماركس.

ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير
ستيفن هاوكنغز أحد أشهر علماء الفيزياء في القرن العشرين دعم نظرية الانفجار الكبير

خرافة الكون الموجود بذاته
يعتبر الماديّون فكرة أّنّ الكون لا نهاية له وأنّه موجود منذ الأزل بمثابة الأساس الأهمّ لرفض فكرة الخلق ولتبنّيهم الإلحاد أي رفض وجود الخالق. وعلى سبيل المثال، كتب الفيلسوف الماديّ جورج بوليتزر يقول “الكون ليس شيئًا مخلوقًا” لكنّه أضاف قائلاً: لو كان قد تمّ خلق العالم من لاشيء، فلا بدّ أنّه خُلق بواسطة الإله على الفور ومن العدم.
لقد استند المادّيّون دوماً على الفكرة الساذَجة التي تعتبر أنّ من غير الممكن خلق شيء من لاشيء، وسبب وقوف النّظرية الماديّة عند هذه النّقطة هي أنّ الفكر الماديّ التصق بصورة عمياء بقانون السّببيّة الذي هو قانون يسري على الإنسان المحدود بالحواسّ الخمس وبالفكر، لكنّ المادّيّين نَسَوْا أنّ قانون السّببيّة هو نفسه مثل بعد الزمان أو المكان مخلوق ولا وجود مستقل له إلّا في الاختبار الإنسانيّ. كما أنّهم لم يستطيعوا الإجابة عن السّؤال: إذا كان لا يمكن خلق شيء من لاشيء فكيف وُجِد العالم الذي يعتبرونه قديماً من لاشيء؟
لقد أثبتت الاكتشافات العلميّة في القرن العشرين تهافت الفكرة البدائية عن قدم الكون، إذ تبين أن الكون غير ثابت كما يفترض المادّيّين، بل إنّه هو على النّقيض من ذلك، آخذٌ في التّوسّع. وإلى جانب ذلك، فقد ثبت من خلال العديد من الملاحظات والحسابات أنّ الكون كان له نقطة بداية محدّدة نشأ منها من لا شيء بواسطة ما اصطُلح على تسميته في ما بعد بـ “الانفجار الكبير”

معاندة العلماء المادّيّين
رغم ذلك ورغم كل الشّواهد العلميّة، فقد استمرّت الأوساط المادّيّة في رفض قبول حقيقة أنّ الكون قد تمّ خلقه من لا شيء. وعندما سُئل الفيزيائيّ الألماني فالتر نيرنست عن رأيه في نظريّة الانفجار الكبير، أعطى أجوبة غير منطقية عن تأثير قبول هذه الاكتشافات، حيث قال “سيكون ذلك خيانة لأُسس العلم”. وقال أستاذ الفيزياء في معهد ماساتشوستس للتّكنولوجيا MIT فيليب موريسون في فيلم وثائقيّ بريطانيّ: “أجد صعوبة في قبول نظريّة الانفجار الكبير، وأرغب في رفضها”، لكنّ الكثير من العلماء من أصحاب النّزاهة وأخلاقيّات العلم، باتوا يؤكّدون أنّ نظريّة الانفجار الكبير صائبة وينتقدون العلماء المادّيّين الذين لم يعترفوا بصحّتها بعد إرضاء لأهوائهم السّياسيّة أو الأيديولوجيّة.
ففي مقال بعنوان “الانفجار الدّينيّ الكبير” كتب جيم هولت في مجلّة نيويوركر يقول: “الانفجار الكبير هو على الأرجح الفكرة الوحيدة في تاريخ العلم التي تمّت مقاومتها فقط لدعمها لنظريّة خلق الكون من قِبل الإله”، كما انتقد عالم الفيزياء الفلكيّة البارز روبرت جاسترو في كتابه “الله وعلماء الفلك” العلماء المادّيّين لتردّدهم في قبول نظريّة الانفجار الكبير بسبب الهواجس العقائديّة، يقول:
“خَلْف ردود الأفعال هذه هناك قدْر غريب من العواطف والمشاعر، فقد تمّ انتهاك “العقيدة الدّينيّة” للعلماء بسبب اكتشاف أنّ العالم كانت له بداية. وعندما حدث ذلك، فَقَدَ العالِم توازنه وهو لو فحص النّتائج حقًا، فإنه سيصاب بصدمة، لكنْ كالعادة فإنّه عندما يصاب إنسان بصدمة فإن عقله يتّجه بصورة عفوية إلى تجاهل الأسباب التي أدت إليها. فانظر إلى فداحة المشكلة التي يعاني منها هؤلاء العلماء. لقد أثبت العلم أنّ الكون انفجر إلى الوجود في لحظة محدّدة، فمن الذي وضع المادّة أو الطّاقة المُوجِدَة للكون؟ هل أُنشئ الكون من العدم؟ هذا تطوّر غريب وغير متوقّع للجميع عدا علماء الدّين”
(روبرت جاسترو : “الله وعلماء الفلك”.)
لكن كيف حدثت هذه العمليّة التي يصفها المادّيّون بأنّها “غريبة” و”غير متوقّعة”؟ فلنلق نِظرة على تاريخ الاكتشافات العلميّة في موضوع ظهور الكَون.

العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون
العالم-الأميركي-أدوين-هابل-مكنشف-نظرية-تمدد-الكون

“ما الّذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير؟ وما هي القوّة التي وضعت الكَون كلّه في نقطة واحدة قبل أنْ تقول له “كُن”: إنّها اللهُ سُبْحانَه”

كيف تمّ اكتشاف الانفجار الكبير
اعترف المجتمع العلميّ بأنّ الكون كلّه جاء إلى الوجود في لحظة واحدة نتيجة لحدوث انفجار، أو بتعبير آخر: تم خلق الكون، وقد تم اكتشاف هذه الحقيقة المهمّة نتيجة للعديد من الملاحظات والاستنتاجات الثّورية.
ففي المرصد الفلكيّ في جبل ويلسون في كاليفورنيا، حقّق فلكيٌّ أمريكيّ يُدعى إدوين هابل عام 1929 أحد أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك، فبينما كان يراقب النّجوم من خلال تلسكوب عملاق، اكتشف أنّ شدّة الضّوء الأحمر المنبعث منها تعتمد على مدى بُعدها، وكان ذلك يعني أنّ النّجوم “تبتعد” عنّا. ووفقًا للقواعد الفيزيائية المتعارف عليها، فإنّ طيف أشعّة الضّوء للجسم المتحرّك باتّجاه نقطة المراقبة يميل إلى اللّون البنفسجيّ، في حين أنّ طيف أشعة الضوء للجسم الذي يتحرّك مُبتعدًا عن نقطة الرّصد يميل إلى اللّون الأحمر. والضّوء المنبعث من النّجوم الذي لاحظه هابل أثناء مراقبته كان يميل إلى اللّون الأحمر، أيْ: إنّ النّجوم كانت تتحرّك باستمرار مُبتعدة عنّا.
قبل مرور فترة طويلة، قدم هابل اكتشافًا آخر مهمًا جدًا: إذ أثبت أن النجوم والمجرات ليس فقط تبتعد عنا، بل هي تبتعد عن بعضها البعض أيضًا، والاستنتاج الوحيد الممكن في كون يبتعد فيه كل شيء عن بعضه البعض، هو أن هذا الكون يتسع أو”يتمدد” باستمرار.

محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني
محطة هومدل الفضائية في نيوجرسي التي استخدمها العالمان بنزياس وويلسون لاكتشاف خلفية الإشعاع الكوني

ما الذي يعنيه تمدّد الكون؟
تمدّد الكون يعني ضمنيًّا أنّه إذا استطعنا السّفر إلى الوراء في الزّمن، فإنّنا سنصل إلى النّقطة التي نشأ منها الكون قبل أنْ يبدأ بالتّمدّد وسنرى أنّ الكون نشأ بالفعل من نقطة واحدة، وأظهرت الحسابات أنّ هذه “النّقطة الواحدة” التي تحوي كلّ مادّة الكون يجب أن تكون “صفريّة الحجم” و”لا نهائيّة الكثافة”، وقد نتج الكون من جرّاء انفجار هذه النّقطة الوحيدة صفريّة الحجم.
سُمّي هذا الانفجار الضّخم الذي حدد بداية الكون بـ “الانفجار الكبير” Big Bang وسُمّيت النّظريّة بهذا الاسم تِبعًا لذلك.
تجدر الإشارة إلى أنّ “الحجم الصّفْرِيّ” هو مجرّد تعبير نظري يُستخدم لأغراض رياضيّة وصفيّة فقط. ولا يُمكن للعلم وصف مفهوم “العدم”، الذي هو أبعد من حدود الفَهم البشريّ، إلّا من خلال التّعبير عنه بأنّه “نقطة صِفريّة الحجم”. في الحقيقة، “نقطة بلا حجم” تعني “العدم”.
وهكذا جاء الكون إلى الوجود من العدم. وبعبارة أخرى، قد خُلق. وهذه الحقيقة والتي تمّ اكتشافها بواسطة الفيزياء الحديثة في القرن العشرين، ذُكرت في القرآن الكريم إذ وصف الله تعالى نفسه بأنه }بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون{ سورة البقرة: الآية 117. وكلمة “بديع” التي وردت في كتاب الله العزيز تعني الخلق والإبداع من لاشيء.
أظهرت نظريّة الانفجار الكبير أنّ كلّ الموجودات كانت في البدء كتلة بسيطة واحدة ثم تعدّدت وافترقت بعد ذلك يقول تعالى: }أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا{ سورة الأنبياء:الآية 30. وهذا يعني أن كلّ المادة الموجودة في الكون تم إنشاؤها بواسطة انفجار كبير لنقطة واحدة وتشكل الكون الحالي بواسطة افتراق أجزائه عن بعضها البعض.
وتُعْتَبر ظاهرة تمدّد الكون التي أثبتها العلم أحد أهم الدّلائل على أنّ الكون تمّ خلقه من العدم، وعلى الرّغم من عدم اكتشاف هذه الحقيقة من قِبل العلم حتّى القرن العشرين فقد ألمح الله تعالى إليها في القرآن الكريم بقوله }وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ{ (سورة الذّاريات: الآية 47).وعبارة “وإنّا لَمُوسعون” فيها إيحاء واضح إلى اتّساع الكّون لأنّ الله تعالى يستخدمها بعد عبارة “والسّماء بنيناها” فهو يعني هنا السّماء أو الفضاء الكوني وليس شيئاً آخر.
رغم الاتّفاق الشامل حول نظرية الانفجار الكبير كتفسير علميّ لسبب وجود الكون فإنّ علماء الفلك من أتباع الدّوغما المادّيّة واصلوا مقاومة نظريّة الانفجار الكبير، ليس بسبب امتلاكهم أدلّة تنقض الأبحاث العلميّة التي أكّدتها، بل بسبب تمسّكهم برفض نظريّة الخلق لأنّها تزعزع معتقدهم الإلحاديّ الذي ينفي وجود الخالق ولا يقيم اعتباراً للدّين. وقد عبّر آرثر إدنجتون، أحد أهم علماء الفيزياء المادّيّين عن هذا الموقف اللّاعقلانيّ والمكابر عندما قال “فلسفيًّا: فكرة البداية المفاجئة للنّظام الحالي للطّبيعة بغيضة بالنّسبة لي”. فهو لا يقوى على نفي الحقيقة العلميّة لكنّه يقول بكلّ صراحة إنّه “يكرهُها” لأنّها ببساطة تُثبت وجود خالق للكون.

انهيار نظريّة “الحالة المستقرّة”
عالم الفلك الإنجليزيّ السّير فريد هويل وهو ماديّ أيضًا، وكان بين الذين انزعجوا من نظريّة الانفجار الكبير في منتصف القرن الماضي سعى إلى مقاومتها عبر دعم فرضيّة تُدعى “الحالة المستقرّة” والتي كانت مشابهة لنظريّة “الكون الثّابت” في القرن التّاسع عشر. وتزعم نظريّة الحالة المستقرّة أنّ الكون لا نِهائيّ وأبديّ العمر وهي بالتّالي تعارض كليًّا نظريّة “الانفجار الكبير” التي تُثْبت وجود بداية للكون.

أبعاد اكتشاف “إشعاع الخلفيّة الكونية”
في عام 1948، قدّم جورج جامو فكرة إضافيّة بشأن الانفجار الكبير. وهي إنّه وبسبب تشكل الكون بسبب الانفجار الكبير فإنّه يجب أن يكون هناك فيض من الإشعاع الذي خلَّفَه هذا الانفجار، وعلاوة على ذلك، يجب أن يكون هذا الإشعاع منتشراً بشكل متجانس في جميع أنحاء الكون.
وقد تم بالفعل اكتشاف تلك الموجات الإشعاعية عام 1965 بواسطة باحثيْن يدعيان أرنو بنزياث وروبرت ويلسون عن طريق الصّدفة. وتُدعى هذه الموجات اليوم “إشعاع الخلفيّة الكونيّة”، ولا يبدو أنّها تشعّ من مصدر مُحدّد بل تتخلّل كلّ شيء، وبناءً على ذلك فقد عرفنا أنّ هذا الإشعاع تخلّف نتيجة المراحل الأولى من الانفجار الكبير، وتمّ منح بنزايث وويلسون جائزة نوبل تقديرًا لهذا الاكتشاف.

قمر من”ناسا” يدعم نظريّة الانفجار الكبير
ثم أرسلت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) عام 1989 القمر الصّناعي مستكشف الخلفيّة الكونية (كوبي) إلى الفضاء، لإجراء البحوث على إشعاع الخلفية الكونية استغرق الأمر ثمان دقائق فقط لكي يؤكّد كوبي حسابات بنزياث وويلسون حيث، عثر كوبي على بقايا من الانفجار الكبير الذي حدث في بداية الكون، وبرهن هذا الاكتشاف بشكل واضح على صحة نظريّة الانفجار الكبير، ولذا فهو يُعد أحد أعظم الاكتشافات الفلكية على مر العصور.
وأحد أهم الدّلائل العلميّة الإضافيّة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير كميّة الهيدروجين والهليوم في الفضاء. فمن المعروف علميّاً أنّ تركيز الهيدروجين والهليوم في الكون لا يزال مطابقًا للنّسب المحسوبة للتّركيز المتبقّي من الانفجار الكبير، ولو أنّ الكون ليس له بداية وموجود منذ الأزل، لكان يجب أن يكون كلّ الهيدروجين الموجود قد استُهلِك بالفعل وتحول إلى غاز الهليوم.

العلماء يعترفون بخطئهم
كلّ هذه الأدلّة المُقنعة تسبّبت في تبنّي المجتمع العلميّ لنظريّة الانفجار الكبير، فقد كان نموذج الانفجار الكبير هو أحدث ما توصّل إليه العلم بخصوص نشأة الكون.
برغم دفاع دينيس سكيما لسنوات طوال عن نظريّة الحالة المستقرة بجانب فريد هويل، إلّا أنه في النهاية وصف الحالة التي وصل إليها مع زميله بعد اكتمال الأدلّة التي تؤيد نظريّة الانفجار الكبير، بالقول أنّه بقي يدافع عن نظرية الحالة الثابتة ليس لاعتقاده بصحتها، ولكن لأنه تمنّى أن تكون صحيحة، واستمرّ سكيما قائلًا إنه بعد أن بدأت الأدلة في التّراكم، كان عليه أن يعترف أنّ اللعبة قد انتهت، وأنّ نظريّة الحالة المستقرّة سقطت ولا بدّ من رفضها.
وأضطُرّ جورج أبيل البروفيسور في جامعة كاليفورنيا أن يعترف بالنّصر النّهائي لنظريّة الانفجار الكبير، وذكر أنّ الأدلّة المتوافرة حاليّاً تدلّ على أنّ الكون قد نشأ منذ مليارات السّنين بواسطة انفجار كبير معترفاً بأنّه لم يعد لديه أيّ خيار سوى القبول بتلك النظريّة بعد أن أثبتها العلم.
ومع انتصار نظريّة الانفجار الكبير، تمّ إلقاء أسطورة “المادّة الأبديّة” التي تُشكّل أساس الفلسفة الماديّة في سلّة مهملات التّاريخ. لكنّ السّؤال يبقى: ما الذي كان موجودًا قبل الانفجار الكبير، وما هي القوة التي جلبت الكون إلى “الوجود” بواسطة ذلك الانفجار الكبير؟

الانفجار الكبير والخلق
الجواب على هذا السؤال يعني بكل تأكيد وجود الخالق. وقد علّق الفيلسوف أنطوني فلو المُلْحد لوقت طويل جدّاً والذي أعلن في وقت لاحق أنّه يعتقد بوجود الله – على الموضوع قائلًا:
“من المعروف أنّ الاعتراف مفيد للرّوح، لذا سأبدأ بالاعتراف أنّ على الملحد الستراتوني1 أن يشعر بالخجل بسبب إجماع علماء الكونيّات المعاصرين الذين يقدّمون لنا براهين علميّة على وجود بداية للكون”

وقد اعترف العديد من العلماء الذين لا يعتنقون الإلحاد بشكل أعمى بدور الخالق سبحانه وتعالى في خلق الكون. إذ يجب أن يكون هذا الخلّاق العظيم هو الذي خلق كلًّا من المادّة والوقت، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون مستقلّاً عن الاثنين. قال عالم الفيزياء الفلكيّة المعروف هيو روس:
“إذا كان الزّمن بدأ مع نشوء الكون، كما تقول نظريّة الفضاء، فذلك يعني أنّ سبب وجود الكون يجب أن يكون كياناً يعمل بشكل مستقل تمامًا عن بعد الزّمن، بل وموجود بشكل يسبق البعد الزّمني للكون. وهذا الاستنتاج يخبرنا أنّ الإله ليس هو الكون نفسه، وأنّ الكون لا يحتوي الإله أيضًا”.

تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2
تضافر-ألوف-العوامل-لتسهيل-ظهور-الحياة-على-الأرض-لا-يقل-إعجازا-عن-خلق-الكون-2

“معجزة الانفجار الكبير أُضيفَ إليها معجزة خلق كون صالح للعيش وهو ما يتطلّب تضافر ألوف العوامل المؤاتية التي لا يمكن أن توجد بفعل الصُّدفة”

سرّ النّظام البديع الذي يحكم الكون
في الحقيقة، تسبّب الانفجار الكبير في متاعب أكبر بكثير للمادّيّين من مجرد اعترافات أنتوني فلو، إذ إن العلم بات يثبت أنّ الكون ليس فقط تمّ إيجاده من العدم بواسطة الانفجار الكبير بل أثبت أيضا أنّ إيجاده تمّ بطريقة مُحكمة ومُمَنْهَجة جدّاً.
لقد حدث الانفجار الكبير مع انفجار النّقطة التي تحتوي كلّ المادّة والطّاقة في الكون، وتشتّت كلّ هذا في كلّ الاتّجاهات في الفضاء بسرعة رهيبة، ومن هذه المادّة والطّاقة جاء عدد ضخم ومتوازن من المجرّات والنّجوم والشّمس والأرض وجميع الأجرام السّماوية الأخرى. وعلاوة على ذلك، تشكّلت القواعد التي تحكم هذا الكون والتي سُمّيت بـ “قوانين الفيزياء”، وهي قواعد موحَّدة في جميع أنحاء الكون كلّه لا تتبدّل ولا تتحوّل. وقوانين الفيزياء التي تحكم الكون والتي ظهرت مع حدوث الانفجار الكبير لم تتبدّل على الإطلاق على مدى 15 مليار عام. وعلاوة على ذلك، فإنّ هذه القوانين تُنْتِج حسابات دقيقة للغاية، حتى أنّ الاختلاف في مجرّد مللّيمتر واحد من قِيَمِها الحاليّة يمكن أنْ يؤدّي إلى تدمير بنية وحركة الكون كلّه.
إنّ أيِّ “انفجار” لا ينجم عنه في العادة أجزاء أو نتائج مُنظّمة، وكلّ الانفجارات التي نعرفها تميل إلى إحداث أضرار، وتحطيم، وتدمير ما حولها. لذلك فإنّنا إذا علمنا أنّه وعلى عكس ذلك فإنّ الانفجار الكبير أنتج نظاماً دقيقاً جدّاً يسير وفق قوانين محكمة وحركة أزليّة منتظمة فإنّه لا بدّ من أن نستنتج عندها أنّ هناك “أمراً خارقاً للعادة” تدخّل في هذا الانفجار، وأنّ جميع القطع المتناثرة جَرّاء هذا الانفجار قد تمّت السّيطرة عليها وتمّ إدماجها وتركيبها وتشغيلها بطريقة مُحكمة للغاية.
السّير فريد هويل، الذي اضطُر إلى قبول نظريّة الانفجار الكبير بعد سنوات طويلة من معارضتها، عبّر عن هذا الموقف بشكل جيّد للغاية عندما قال:
“إنّ نظريّة الانفجار الكبير تذهب إلى أنّ الكون قد بدأ بانفجار واحد، ولكن كما يمكننا أن نرى، فإنّ أي انفجار سيجعل الموادّ تتناثر في كلّ مكان، في حين أنّ الانفجار الكبير قد أوجد بصورة غامضة ظروفاً معاكسة لذلك، حيث تكتّلت المادّة معاً في شكل المجرّات، ومما لا شكّ فيه، أنه إذا نشأ نظام مُحكم للغاية بواسطة انفجار، فعلى الجميع أن يعترف بأنّ كلّ لحظة تمرّ تُنبئ عن وجود إبداع من عقل أسمى، وبعبارة أخرى فهذا هو عمل الله.
أمرٌ آخرُ حصل في هذا النّظام الرّائع الموجود في الكون بعد الانفجار الكبير، هو خلق “كون صالح للعيش”. إنّ خلق كوكب صالح للحياة يحتاج إلى اجتماع مئات بل ألوف العوامل المعقّدة والمتداخلة لدرجة تجعل من المستحيل الاعتقاد أنّ هذا التّشكيل يمكن أن يتمّ بفعل الصّدفة.
وذكر بول ديفيز – وهو أستاذ مشهورٌ للفيزياء النّظرية – في نهاية الحسابات التي قام بها لحساب معدّل توسّع الكون، أن هذا المعدّل دقيق بشكل لا يُصدّق. فقال:
“معدّل تمدّد الكون يخضع لقياسات دقيقة للغاية، فهي ذات قيمة حرجة والتي بسبّبها حافظ الكون على جاذبيته الخاصّة ممّا جعله يتمدّد إلى الأبد، ولو كان الكون أبطأ قليلًا في تمدده فإنّه كان سينهار على ذاته كما أنّه لو كان أسرع قليلاً في تمدّده فإنّ المادّة الكونيّة كانت ستتبدّد تماماً منذ زمن طويل، فلم يكن الانفجار الكبير مُجرّد انفجار قديم عاديٍّ، لكنّه كان انفجاراً مُرتبًا ذا قيمة مُحدّدة بدقّة”.
عالم الفيزياء الشّهير البروفيسور ستيفن هوكينج يقول في كتابه تاريخ موجز للزّمن، إنّ الكون مُحكم بحسابات وموازينَ مضبوطة بدقّة أكثر ممّا يمكننا أن نتصوّر، ويُشير هوكينج إلى معدّل تمدّد الكون فيقول:
“لو كان معدّل التمدّد بعد ثانية واحدة من الانفجار الكبير أصغر بجزء واحد من مائة ألف مليون مليون جزء، لكان الكون قد انهار على نفسه قبل أن يصل لحجمه الحاليّ”.
كما يوضح بول ديفيز التّبعات الحتميّة النّاتجة من هذه الموازين والحسابات الدّقيقة فيقول:
“إنّ من الصّعب مقاومة الانطباع بأنّ الهيكل الحاليّ للكَون، بما فيه من حساسيّة لأيّة تغيرات طفيفة في الأرقام، كان وراءه من يقوم على العناية به. بالإضافة للتّوافق الذي يبدو خارقاً في القِيَم العدديّة الموجودة في الطّبيعة كثوابت أساسيّة، والذي يجب أن يُمثّل أقوى أدلّة دامغة على تواجد عامل التّصميم الكونيّ” (وهو يقصد بذلك:الخلق).
وعن الحقيقة نفسها ، كتب عالم الفلك الأمريكيّ جورج جرينشتاين في كتابه “الكون التّكافلي” يقول: “بينما نقوم بحصر جميع الأدلّة، فإنّ الفكرة الّتي تطرح نفسها بإلحاح هي أنّ قوى خارقة قد شاركت في إنتاج ما نحن فيه”.
حظيت نظريّة الانفجار الكبير لاحقاً بدعم مستمرٍّ جَرّاء دراساتٍ عدة أجريت في أواخر التّسْعينيّات من القرن الماضي، وجاءت أوّل البيانات المؤيّدة لنظريّة الانفجار الكبير من بالون مراقبة يُدعى “بومرانج” عام 2000 على شكل معلومات دقيقة حول إشعاع الخلفيّة الكونيّة، وهو أحد أهم الأسس لنظريّة الانفجار الكبير. وكان تمّ إطلاق هذا البالون عام 1998 ليرتفع 120,000 قدم فوق القارّة القطبيّة الجنوبيّة Antarctica ويقول مايكل تيرنر وهو أحد علماء جامعة شيكاغو الذين حلّلوا تلك البيانات:
“لقد عبرت كلّ من نظريّة الانفجار الكبير والنظريّة النّسبيّة العامّة لأينشتاين اختباراً رئيسياً جديدًا”.
كما أرسل مسبار مُصمّم للتّحقّق من تباين خواص الإشعاع ويلكنسون، والذي أُطلق إلى الفضاء في عام 2001، البيانات للأرض عام 2003، وكشف عن تفاصيل هامّة مطابقة للبيانات التي تمّ الحصول عليها من البالون بومرانج. بعض المعلومات التي أكّدها المسبار تُعتبر أحد أهم الإنجازات في العقد الأوّل من الألفية الثّانية، وهي كما يلي:
• عمر الكون يبلغ 13.73 مليار سنة، هامش الخطأ هنا حوالي 1%، وكان يُقدّر عمر الكون قبل ذلك بفترة تتراوح بين 15 و20 مليار سنة.
• بدأت أولى النّجوم بالسّطوع بعد ما يقارب 400 مليون سنة من الانفجار الكبير، وقد أدهش هذا التّاريخ المبكر العلماء.
• يتكوّن الكون من 4.6% ذرّات عاديّة، و23.3% من المادّة المُظْلِمة و72.1% من الطّاقة المظلمة. وهذه القياسات الجديدة ستمكّننا من الحصول على بيانات هامّة عن طبيعة الطّاقة المظلمة، والتي تُمزّق المجرّات.
أنتجت مجموعتان دراسيّتان منفصلتان تتكونان من علماء بريطانيّين وأستراليّين وأمريكيّين خريطة ثلاثية الأبعاد لما يقارب 266,000 مجرة بعد عدّة سنوات من البحث. قام العلماء بمقارنة البيانات التي تمّ جمعها حول توزيع المجرّات مع البيانات حول إشعاع الخلفية الكونية المنبثّ في جميع أنحاء الكون، وحصلوا على العديد من النّتائج الهامّة عن أصل المجرّات. وخلص الباحثون بتحليل الدّراسات إلى أنّ المجرّات تكوّنت نتيجة تجمّع الموادّ مع بعضها البعض بعد حوالي 350,000 سنة من الانفجار الكبير، واتّخذت هذه الأشكال نتيجة لقوّة الجاذبية، وقدّمت نتائج هذه الدّراسات أدلّة جديدة على صحّة نظريّة الانفجار الكبير.

“العلم أثبت أنّ عمر الكون 13.73 مليار سنة وأنّ أُولى النّجوم بدأت بالسّطوع بعد 400 مليون سنة من حصــول الانفجــار الكبير”

في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون
في هذه المساحة من الكون مئات المجرات ومليارات الكواكب وكلها تسير بحركة منتظمة منذ فجر الكون

راهين جديدة
عزّزت النّتائج التي تمّ الحصول عليها من هذه الدّراسات نظريّة الانفجار الكبير. وأكّد الدّكتور رسل كانون هذا التّأييد في عبارته التّالية:
“لقد عرفنا منذ وقت طويل أنّ أفضل نظريّة عن نشأة الكون هي الانفجار الكبير، حيث بدأ كلّ شيء بانفجار هائل في مساحة صغيرة، وتمدّد الكون منذ ذلك الحين. وفي إمكاننا القول الآن وبدرجة من اليقين تفوق ما كنّا عليه في أي وقت مضى أنّ تلك الفكرة هي الفكرة الأساسيّة الصّحيحة وقد تجمّعت كلّ أجزائها معاً بشكل مقنع للغاية”.
باختصار، فإنّنا عندما ندرس النّظام البديع للكون، نرى أنّ وجود الكون وعمله يقوم على توازن دقيق للغاية، ونظام معقّد جدًّا بحيث لا يمكن تبرير حدوثه بالصّدفة. وكما هو واضح، فليس من الممكن بأيّة طريقة أن يتكوّن هذا التّوازن والنّظام الدّقيقين من تلقاء نفسيهما بالصّدفة بعد انفجار ضخم كهذا. فتشكيل مثل هذا النّظام في أعقاب الانفجار الكبير هو دليل واضح على خلق خارق للطّبيعة.
هذه الخطة التي لا تُضاهى والنّظام الموجود في الكَون بالتأكيد يُثبت وجود خالق ذي معرفة لا نهائيّة، وقوّة، وحكمة، والذي خلق كلّ شيء من العدم، والذي يتحكّم ويُدير ذلك باستمرار، هذا الخالق هو الله ربّ العالمين.

إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب

حبيب أبو شهلا يروي قصة طريفة
عن معَّاز كفرتبنيت وموكب الرئيس

“إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب
وإذا قلّت المراعي بيخف الحليب”
هذا ما قاله راعي بلدة كفر تبنيت للوزير حبيب أبو شهلا في لقاء عابر على قارعة الطريق أصبح موضوع تداول وتندُّر في مجلس رئيس الجمهورية والوزراء.
سبب هذا القول أن قطيعاً من الماعز اعترض موكب رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري وصحبه دولة رئيس الوزراء رياض الصلح والأمير مجيد أرسلان وهم في طريقهم لزيارة الزعيم أحمد الأسعد في دارته بالطيبة أواخر الأربعينات. نزل الأستاذ أبو شهلا من السيارة وصاح بالراعي كي يُسرع بسوق قطيعه من أمام الموكب.
استهجن الرّاعي هذا التصرّف وصاح بوجهه قائلاً: مهلك يا أخي فهذه أرواح ويجب الرفق بها.
أجابه أبو شهلا هذا موكب فخامة الرئيس ولا يليق أن يتوقف. أسرع، أسرع بإبعاد هذه الماعز والأغنام عن الطريق..
ضحك الرّاعي وقال : من هو هذا الرئيس وعلى من؟؟
نرفز أبو شهلا وقال: هو رئيس الجمهورية ورئيسنا ورئيسك ورئيس كل الناس وما عليك سوى فتح الطريق وإفساح المجال!
هزّ الراعي برأسه وأجاب: عليه أن يتوقف قبل غيره لأنه رئيس الكل، وقُل له عن لساني أن مثله معنا ومع شعبه كمثلي مع قطيعي ..
اندهش أبو شهلا لفلسفة الرّاعي هذه وصراحة إجابته بعدما وجد فيها شيئاً من الحكمة، قال للراعي : ماذا تقصد بكلامك هذا؟
قال الراعي: كنت أسمع من جدي وأنا صغير كلاماً يعظني به قبل أن أسرح مع قطيعي فيقول : “إذا نام الراعي بيرعاها الذيب، وإذا قلّت المراعي بيشحّ الحليب.”
كذلك على رئيس البلاد أن يرعى جميع الناس سواسية، وإذا لم يكن ذلك فستفشل الرئاسة، ثم أدار بظهره بعدما نهر قطيعه.
هذا ما رواه الأستاذ أبو شهلا في ما بعد عن بلاغة راعي كفر تبنيت.
وبعد أن عاد الموكب الرئاسي إلى بيروت واجتمع مجلس الوزراء للتداول بشؤون المنطقة التي زارها والمشاريع التي وعدوا بها، توجه أبو شهلا إلى رئيس الجمهورية وسأله: “فخامة الرئيس ما الذي أثار إعجابكم من الخطب والأحاديث التي سمعتها سواء كان في زيارتكم لدار الطيبة أم لسرايا مرجعيون أم لسرايا حاصبيا أم سواها من الأماكن التي توقفتم عندها؟” أجاب الرئيس بصراحة: “إن مَثَل معاز كفر تبنيت الذي قاله لكم، هو الأبلغ والأشمل من جميع الخطب والأقوال، وسيبقى دائماً في البال.”
وتابع أبو شهلا بسؤال آخر: أيضاً ما الذي أعجبكم في طبيعة تلك البلاد؟
أجابه الرئيس، وكان بحقٍ أديب الرؤساء وأقواهم منطقاً وفصاحة، فقال: “في لبنان واديان مقدّسان وادي التيم ووادي قنوبين، وكلاهما متعة للعين ومسكن للنساك الصالحين. ولن أنسى مطلقاً وقفتنا قبالة مجرى نهر الحاصباني في ذلك الوادي الأشيب الأبر، يحرسه من الشرق جبل شاهق يعانق السماء كأنه أسد هصور أمام أكمة خضراء وارفة الظلال أغر”.
الوزير أبو شهلا بعدما أثار إعجابه هذا القول وهذا التشبيه، قال: “أرجو يا فخامة الرئيس أيضاً أن لا يغرُب عن بالكم أنها عرين الأهل والآباء والأجداد وأنه لم يمض على قدومنا إلى بيروت سوى ثمانين عاماً لا غير، ولتاريخه لم يزل العديد من الأعمام والأخوال والأقارب في تلك الديار، إذ أن معظم مسيحيي المصيطبة والمزرعة ومار الياس وبعض سكان الأشرفية هم من بلدات حاصبيا والكفير وميمس وما يجاورها”.
وأضاف أبو شهلا القول: “رجاءنا الوحيد هو مدّ يد العون إليهم وخصوصاً بلدتي ميمس عبر إيصال المياه الجارية إليها لأنها ورغم قربها من نبع الحاصباني يصح فيها قول الشاعر البدوي:
كالعيس في البيــداء يقتلها الظمــا
والمـــاء فــوق ظهورهـــا محمــــــول
وكان للوزير أبو شهلا فيما بعد أن جرت المياه إلى بلدته ولكن من نبع عين جفور وليس من نبع الحاصباني وهو الأقرب والأغزر.
المشهور عن المحامي أبو شهلا أنه سيد من أسياد المنابر وظريف من ظرفائها كونه مستحضراً لجميع القوانين ومصادرها وكذلك للطرائف النادرة وقد كان صاحب بداهة في استحضارها حسب كل موقف.
تسلم رئاسة مجلس النواب وكذلك عمل رئيساً لحكومة الإستقلال في بلدة بشامون لفترة وجيزة مع الرئيس صبري حمادة والأمير مجيد أرسلان، وكان لخطابه المثير الذي ألقاه من شرفة أحد بيوت بشامون، المركز المؤقت لحكومة الاستقلال، الأثر الكبير في اشتعال الثورة الوطنية ضد الإنتداب، والتصدّي للفرقة التي أتت لمحاصرتهم واستشهد آنذاك سعيد بو فخر الدين عند مدخل البلدة المذكورة قبل أن يتم الإفراج عن الحكومة الأصليّة من معتقلها في قلعة راشيا، وكانت تضم الرئيس الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي وعادل عسيران وسليم تقلا.
وفي يوم، وبصفته نائباً لرئيس مجلس النوّاب، طلب من أحد زملائه الجنوبيين أن يتكلم فإذا هو يغطّ في نوم عميق، فاستدار نحو الحاضرين وقال: زميلي يعبّر عن واقع حالنا والبلاغة في نومه ..
فضحك الجميع وعلا التصفيق مما جعل النائب الغافل يفيق من نومه مصفقاً مع الجميع دون أن يعلم ما سبب ذلك.
كان أبو شهلا يُصنّف رجال السياسة في لبنان إلى ثلاثة، فسألوه كيف ذلك؟!
قال: كان لأحدهم ثلاثة أبناء.
الأول يصدق دائماً في كل أقواله.
والثاني كاذبٌ دائماً في كل أقواله.
أما الثالث فمتقلبٌ حسب مزاجه ومصالحه.
الأول والثاني كان يعرف كيف يتعامل معهما.
أما الثالث، فكان يحار في كيفية التعامل معه. وكان يقصد أن السياسيين هم من الصنف الثالث الذي يحار المرء كيف يتعامل معهم.
عمل حبيب أبي شهلا محاميا لشركة التابلاين، وقد وصفه الأديب يوسف غانم في كتابه “مشاهير الرجال” بالقول: “الأستاذ أبو شهلا في وجهه معانٍ كثيرة كلها مدعاة للإفتتان والإعجاب، فمن إشراقٍ واستدارة وسعة جبين إلى نظرات حادّة، شوارد يتشطّى منها شرر الذكاء إلى إبتسامات كثيراً ما تتحول إلى الضحك والتطرب، فتُصوِّر لك ما في صاحبها من عذوبة ومرح واغتباط”.
مَثلٌ للثقافة العالية بين السياسيين الأوائل، فقد كان يحمل دكتوراة دولة في الحقوق من باريس، ومحامٍ بارع وخطيب مفوّه، وكاتب وأديب ومُحدّث طريف، وكان إلى أدبه المورق الزّاهر حسنُ التصرف بضروب الكلام، له في المجالس نواصي الحديث بطبعه المنصف فتحلو عنده النكتة، وينقاد إليه البيان فتسمعه وأنت معجب فيه مرتاح إلى نبراته، متعلق بعباراته وربما ازددت غبطة إذا جمعك وإياهُ مجلس للغبوق والإنس حين يصير الحديث لهواً وعبثاً.
وحقيقة الناظر إلى تمثاله أمام باحة الأونسكو، في بيروت، يقر ويلمس الكثير من هذا الوصف الجميل البديع الطروب.

حبيب أبي شهلا
حبيب أبي شهلا

الأمير توفيق أرسلان والشيخ سليم خير الدين
في زيارة موفقة للرئيس شارل دبّاس

“يا ليتكم طالبتم بالجمل كلِّه وليس بأُذُنِه”

ثورة 1925 ضدّ الفرنسيين التي اشتعلت في جبل العرب ما لبثت أن امتدت نيرانُها إلى لبنان مع قدوم مجموعة من قادة الثوّار من جبل العرب إلى جنوب لبنان. كان في طليعة هؤلاء زيد الأطرش شقيق قائد الثّورة سلطان باشا الأطرش وحمزة الدرويش وفؤاد سليم وشكيب وهّاب وسواهم. وقد وصل هؤلاء حاصبيّا بتاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1925، وحال وصولهم عقدوا الاجتماعات مع وجهاء حاصبيّا وخلَصوا إلى توزيع منشور سعى لطمأنة سكان المنطقة ولاسيّما المسيحيّين منهم إذ جاء فيه “إن قدوم الثّوار إلى هذه الدّيار ما هو سوى لإنقاذها من السّيطرة الأجنبية وأنهم قاموا بعملهم هذا باسم الوطن لا باسم طائفة دون أخرى، وأنهم يعتبرون أبناء الوطن جميعهم أخوة في النفس والمال والحرّيّة الشخصيّة، وعلى مبدأ رئيسي واحد: الدّين لله والوطن للجميع”.
لإتمام تلك الأهداف تألّفت لجنة كان الناطق باسمها المحامي نسيب أفندي غبريل المسيحي الأرثوذكسي، وهي بشكل حكومة مُصَغّرة، ثم كان بدء مهامها طرد الحامية الفرنسيّة المتواجدة في محلّة زغلة (محل دار الخليل حالياً) سلميّاً والبالغ عددهم نحو خمسين جنديّاً، وقد أوصلوهم إلى منطقة مناجم الحُمّر قرب الحاصباني بعد أن زوّدوهم بالمأكل والمشرب، ومن هنالك انتقل الجُند إلى مرجعيون بأمان.
بعد ذلك كان الثوار يُوَدّون تعزيز الأمن والأمان في منطقة حاصبيّا وراشَيّا. لكنّ عملاء القوّات المحتلة لجأوا إلى الدّسائس، وبذلك قرّروا طرد الحامية الفرنسيّة من راشيّا ومرجعيون وإبقاء وادي التّيْم بأكمله تحت سيطرتهم، غير أنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فبعد محاولتهم طرد الحامية الفرنسيّة من ثُكْنَة مَرجعيون دون التعرّض لأيِّ فريق من اللبنانيين، دخلت المخابرات الفرنسية على الخطّ، وعملت على افتعال حادثة طائفية كان الهدف منها تخويف المسيحيين من الدّروز بحيث يتعزّز شعورهم بأنّ فرنسا هي الحامية الوحيدة لهم. وبالفعل أرسلت القوات الفرنسيّة ثلاثة من عملائها وهم غطّاس كرم ونايف الحصان وخليل الجِزّيني، وقد أشار إلى تلك الحادثة الأديب سلام الرّاسي في أحد كتبه، وهو الخبير المعاصرُ لتلك الأحداث، إذْ ذَكَر بأنّ الثلاثة كَمَنوا للثوّار الذاهبين إلى مرجعيون في منطقة زيتون المغاريق قرب بلدة كوكبا. يومها كان كاهن البلدة قد دعا المجاهد حمزة الدرويش ورفاقه لاحتساء القهوة في منزله، وكان هدفه إظهار أنّ كوكبا وسكّانها بلدة مسالمة، وكانت أملاك القرية يومها بمجملها ملكاً لآل شمس في حاصبيّا. لكنّ أول عمل قام به عملاء القوّات الفرنسيّة هو إطلاقهم النار على الكاهن فأردَوْه قتيلاً.، ثم وَجّهوا رصاص بنادقهم نحو الثوّار السائرين على الطريق العام نحو مرجعيون فقتلوا ثلاثة منهم، اثنين من آل أبو دهن وآخرَ من آل شرف، وكان ما كان.. اعتقد الثوّار أنّ الرصاص أُطلق من داخل كوكبا، لذا هاجموها وأحرقوا عدداً من بيوتها وقتلوا 31 من شبانها.
بعد ذلك، ووفقا لما خطّطَته المخابرات الفرنسيّة، اعتُبِرَت تلك الحادثةُ مُبرِّراً لتدخُّل الجيش الفرنسي للقضاء على الثّورة بذريعة الدّفاع عن المسيحيين المُهَدّدين. وأرسلت القيادة الفرنسيّة بقوّاتها المتمثلة بجيش الشّرق (إحدى الفرق في الجيش الفرنسي) ومساندة الطّيران الحربيّ المرابط في مطار ريّاق العسكري. وبدأ القصف والهجوم، واستغرقت معارك حاصبيّا عدّة أيام، وبفعل القوّة الحاسمة للقوات الفرنسية وتسليحها الحديث اضطُرّ الثوّار إلى مغادرة بلداتهم، ثم كان دخول الجيش الفرنسيّ وأتباعه، فنُهِبت حاصبيّا وأحرقت، وهكذا كان حال شتّى قرى وادي التّيْم، وتشرّد الأهالي إلى الجليل والجولان وبلاد حوران لأكثر من عشرة أشهر. غير أنّه عند عودتهم إلى ديارهم لم تعمل السّلطات الرّسمية اللّبنانية على مساعدة العائدين لترميم منازلهم وممتلكاتهم، بل عَمَدَت فقط إلى دعم فئة مُعَيّنة بنت القصور والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر، وهي لم تزل ظاهرة للعيان إلى يومنا هذا في راشيا وحاصبيا ومرجعيون، بالإضافة إلى بناء الكنائس وسواها من دور العبادة، بينما لم يَنَل المواطنون الدّروز الّذين أُصيبوا أكثرَ من غيرهم تعويضات تُذكَر لتساعدَهم على إعادة بناء بيوتهم ودورهم التي احترق الكثير منها على يد الفرنسيين، كانت تلك السّلطات تعمل في حينها بإمرة القوّات الفرنسية.

الرئيس شارل دباس
الرئيس شارل دباس

مع تمادي الدّولة في سياسات التّمييز بين المواطنين طَفح الكيل وقرّر عدد من المُتنوّرين الدروز ووجهائهم التحرّك للطّلب من الدّولة إنصاف الجميع، والكفّ عن التّمييز بين مواطنيها. في تلك الأثناء كانت خلوات البيّاضة قد تعرّضت لعمليات حرق، وهبّ المشايخ وأعلام الطائفة يطالبون بأن تساهم الحكومة في إعادة بنائها وصرف الأموال لهذا الغرض، لأنّ عمليّة التّرميم كانت تتطلّب أموالاً تفوق طاقة النّاس على احتمالها.
الشيخ سليم قاسم خير الدين، الذي كان تاجراً يجلب بضاعته من بيروت كلّ ثلاثة أشهر، قرّر في إحدى رحلاته التجاريّة تلك إلى العاصمة أنْ يزور الأمير توفيق أرسلان، ويعرض عليه وضع المنطقة وخصوصاً خلوات البيّاضة وما آل آليه الأمر، ثم سأله أنْ يسمح له بأن يرافقه لمقابلة الرّئيس اللبناني آنذاك الرّئيس شارل دبّاس قائلاً:” عطوفة الأمير قد دبّت الغَيْرَة والاستغراب في نفوس الجميع، وهالنا أن نرى أنّ الكنائس والجوامع مُدّت يدُ العون إليها من قِبَل الدولة من حيث إعادة بنائها أو ترميمها، وأعتَقِدُ أنّ خزينة الدّولة للجميع!، ولهذا أليس من واجبنا أنْ نطالبها بالمساعدة على ترميم خلوات البيّاضة وسقف بنائها من جديد، إذ إن إمكانياتنا لا تسمح بذلك؟”
أجابه الأمير: “كيف يا شيخ أبو اسماعيل ستطلب من الدّولة ذلك وأنت تعلم أنّ المستشار الفرنسي هو الحاكم الفعلي، وطبعاً ستكون الإجابة سلبية وغير إيجابية، لأنّ المستشار سيرفض متذرِّعا بأنّكم حاربتم الدّولة الفرنسية وألحقتم الأذى بجنودها”
تبسّم الشيخ أبو اسماعيل وأجاب:” عطوفة الأمير، لكلِّ سؤال جواب، وكلّ ما أرجوه منكم أن تقبل عطوفتكم بمرافقتي لكم في زيارة رئيس البلاد، وعلى الله الاتكال”.
قال الأمير: “ ماذا في اعتقادكم أنّكم ستحصلون عليه من أموال؟”
أجاب الشّيخ: “إذا أعطَوْنا من الجمل أُذْنَه فهذا جزء يساعدنا يا عطوفة الأمير”.
وفي الوقت المحدّد من جانب رئاسة الجمهورية لاستقبال الأمير وصحبه، وعند مدخل القاعة في القصر الجمهوري لم يكُنْ من الأمير إلا أن طلب من الشيخ أبو اسماعيل أن يدخل أمامه فرفض الشيخ كُليّاً وأجاب:”عطوفة الأمير هذا لا يجوز والعين لا تعلو فوق الحاجب”.
تبسّم الأمير توفيق وقال:” لاعليك، أنتَ اْدخل كما طلبت منك وسترى القصد من ذلك”، وأخيراً أذعن الشيخ لرغبته ثم دخلا، وحيث أنّ البروتوكول الرّسمي يقضي بأن الداخل أولاً يجلس إلى جانب الرئيس، وبما أنه لا يوجد سوى كرسي واحد فقد أُجلس الشيخ إلى يمين الرئيس وجلس الأمير إلى جانبه.
ابتدأ الأمير بالحديث قائلاً: “ يا فخامة الرّئيس، الشيخ أبو اسماعيل قادم من حاصبيّا وباسمه وباسم مشايخ البيّاضة يطلبون من جانبكم المساعدة على إعادة بنائها لأن ذلك يفوق إمكاناتهم وخصوصاً أنّهم منهكون بتكاليف ترميم منازلهم”.
أجاب الرئيس:” هذا صعب، وربّما مستحيل يا عطوفة الأمير، فكيف ستساعد الدولة من حاربها وقتل جنودها وبعض المواطنين الأبرياء، وفوق هذا تعلمون لمن القرار اليوم، إذ ما من أمر يتمّ إلا بإذن من المستشار الفرنسي، وأعتقد أنّ الموافقة التي ترجونها من المستحيلات”.
آنذاك تَرَحْرَحَ الشيخ أبو اسماعيل في مقعده، ثم استأذن الأمير بالكلام وتوجّه إلى الرئيس شارل دبّاس بالقول:”فخامة الرّئيس، نعترف ونُقِرّ بأنّنا قد حاربنا الدولة المُنتدَبة -وليس دولتنا- وأنتم تعلمون أننا قوم نعشق الحريّة والكرامة، وأنّه لم يمضِ على تحرّرنا من الاستعمار التّركي أكثر من بضع سنوات، أمَا يكفي ذلك لكي نُستعمر من جديد؟ أمّا ما حدث في منطقتنا وخصوصاً حريق بلدة كوكبا وقتل كاهنها فهذا ولا شك من قبل عملاء، وليس للدّروز أيّة علاقة بذلك، كون البلدة المذكورة بحدّ ذاتها هي ملك لآل شمس زعماء المنطقة، والحكومة المنتدبة تعرف من المسبب وكيف تمّ ذلك، وفي النّهاية كنّا نحن الضّحيّة إذ أحرقت جميع بيوتنا وممتلكاتنا وأرزاقنا وعشنا مشرّدين نحو سنة كي يسمح لنا بالعودة. ويا فخامة الرئيس إذا أردتم مساعدتنا فليس ذلك بالمستحيل، وأرجو أنْ تنقل هذه العبارة وبالحرف إلى فخامة المستشار الفرنسي فتبلغه عن لساني ولسان بني معروف: “إن الدّولة هي بمثابة الأمّ لشعبها وإذا أخطأ الولد مع أمّه فهل تبقى حاقدة عليه إلى الأبد أم تصفح وتسامح مع مرور الزمن؟؟”.
ضحك الرئيس دبّاس طويلا ثم أجاب:”خيراً إنْ شاء الله”.
وهكذا، وبعد مدّة اتّصَلت دوائر القصر الجمهوري بالشيخ أبو اسماعيل، وطلبت إليه أن يحضر ويستلم مبلغ ثمانماية ليرة ذهبية وليرتين، وعندما أخبر الأمير توفيق بما حدث ضحك الأخير وقال له: “ياليتكم يا شيخ أبو اسماعيل طالبتم بالجمل كلّه وليس بأُذُنِه!”.
على أثر تلك المساعدة الماليّة الحكوميّة اشترت اللجنة المشرفة على أعمال خلوات البيّاضة بتلك الأموال أرضاً من السّهل، وقرب الطريق العام لصالح الخلوات، ولم تزل تلك الأرض المشتراة حينها تُعرف إلى اليوم بـ “أرض الحرام” لكونها اشتريت بمال الدولة الذي يعتبره المشايخ الملتزمون مالا حراما بسبب ظلم الدولة أو الحاكم، أما القيمة الحالية للأرض فأصبحت ربما توازي ملايين الدولارات، ويبقى الأجر عند الله لمن سعى للخير دون غاية أومِنّة.

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

مقالبُ ومواقفُ طريفة وعِبَرٌ منَ الحياة
لأشهرِ الحكماء السّاخرين عبرَ العُصور

الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة الثّالثة من حكايات ملّا نصر الدّين تختارُ «الضّحى» باقةً من حكايا وقصص هذه الشّخصيّة الشّهيرة في الإرث الأخلاقي والشّعبيّ الشّرقيّ وتُترجمها للقارئ العربي عن اللّغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفيّ إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التّعليميّة، أدبيّاً وأخلاقيّاً وفلسفيّاً.

مسألة وقت
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحرثُ قطعةَ أرضٍ له حينما اعترضه صيّادٌ على صَهوة جواده.
قال الصّيّاد: “يا رجل! هل رأيتَ أرنباً يمرّ من هنا؟”
أجابه الخُجا: “نعم”.
فبادره الصيّاد قائلاً: “في أيّ اتّجاه ذهب؟”.
أشار الخُجا إلى الاتّجاه الذي توارى فيه الأرنب.
انطلقَ الرّجلُ بعيداً من دون أنْ ينطقَ بكلمة شكر، لكنّه سُرعان ما قفلَ عائداً بعد دقائق.
وقال: “لا أثرَ له! هل أنتَ متأكّدٌ أنّه ذهبَ في هذا الاتّجاه؟”.
فأجاب الخُجا: “أنا واثقٌ.  لقد ذهبَ في ذلك الاتّجاه منذ عامين”.
حمارُ الخُجا قلَّ نظيره!
أخذَ نَصْرُ الدِّين خُجا حمارَه إلى السّوق وباعه بثلاثين ديناراً.
وسُرعان ما قام الرّجلُ الذي اشتراه بطرحه في مزاد علنيّ.  وصاحَ بالحاضرين: “انظروا إلى هذا الحيوان الرّائع! هل شاهدتم أفضل منه؟ كم هو نظيفٌ، وكم هو قويٌّ!”.
وطفقَ يعُدّ مزايا الحيوان العديدة.  وما أن فرغَ من كلامه، حتى صاح أحدهم ودفع ثمن الحمار 40 ديناراً.  وعرضَ رجلٌ آخر خمسيناً، وثالثٌ خمسة وخمسين ديناراً. أمّا خُجا الذي كان يراقب ما يحدث، فقد ذُهِلَ للاهتمام الذي أبداه الجميع بالحمار.
وفكّر في نفسه:  “كم كنتُ غبياً عندما خِلتُه حيواناً عادياً.  إنّه حمارٌ فريدٌ قلَّ نظيره بين الحمير…”.
وسُرعان ما أدركَ أنّ صاحب الحمار قد تلقَّى عرضاً جيداً وكان على وشك إنهاء المزايدة.
قال ذلك الرّجل: “75 ديناراً “، وكرّرها ثانيةً: “75 ديناراً”.
فقال الخُجا: “80 ديناراً!”.
حتى النّار تخشى زوجة خُجا!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحاول إشعالَ النّار بنفخِ جَمْرِ فحمٍ كانت على وشك أن تنطفئ في الموقد.
لكنّه لم ينجح سوى في إثارة سحابة كثيفة من الدخان أدمعت عينيه.
فاستعانَ بغطاءِ رأسٍ لزوجته، ووضعه لمنع الدّخان من استثارة عينيه، وأخذَ ينفخُ مجدَّداً.
فتصاعدَ اللهبُ من الفحم هذه المرّة.
فقال خُجا: “آه! إذاً، أنتِ أيضاً تخشين زوجتي”.
حين لا ينفع لا نحوٌ ولا صرفُ!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا ينقل عالِمَ نَحْوٍ من ضفةِ نهرٍ إلى أُخرى، فَنَطقَ أمامه بما بدا له يُسيء للصّرف والنحو.
فسأله العالِم:  “ألم تدرس قواعد اللّغة قَطُّ؟”
أجابه خُجا: “لا”.
فقال العالِم وهو يرمقه بشفقة: “إذاً، لقد ضيَّعتَ نِصْفَ عمرك”.
وبعد هُنَيْهة، التفتَ خُجا إلى عالِم النّحو. وسأله: هل تعلّمتَ السّباحة يوماً؟”.
فأجابه العالِم: “لا”.
فقال خُجا: “إذاً، لقد ضيّعت عُمْرَكَ كلّه، إنّنا نَغْرق”.
خُجا .. بين القرنين!
كان لدى نَصْرُ الدِّين خُجا ثورٌ ذو قرنَيْن كبيرَين متباعدَين.
وغالباً ما كانت تتملّكه رغبةٌ مُلِحّة للجلوس على رأس الثّور بين قرنَيه، لكنّه لم يجرؤ على ذلك.
وذات يوم حدَثَ أنّ الثّور جثَمَ بالقرب منه.  وهنا اغتنمَ خُجا الفرصة وتمسَّكَ بقرنَي الثور جالساً بينهما.
وقال متباهياً أمام زوجته: “الآن أشعرُ كأنّي ملكٌ على عرشه!”.
أمّا الثور، الذي استفزّه الاختراق المفاجئ لخصوصيّته فقد استوى على قدمَيه بغضبٍ ونطحَ برأسه إلى الأمام عنيفاً.
فقُذِفَ الخُجا عالياً في الهواء، وسقطَ في حفرة.
وقال لزوجته التي هُرِعَت لنجدته: “لا عليكِ يا امرأة! إنّها ليست المرّة الأولى التي يفقد فيها ملكٌ عرشَه”.
خُجا .. بين القرنين
خُجا .. بين القرنين

القميصُ الورديّ أنقذ الخُجا
ذات يوم، هُرِعَ رجلان إلى منزل المُلّا نَصْرِ الدِّين خُجا.
فسألهما الخُجا: “ما خطبكما؟”.
فأجابا: “لقد دَهست عربةٌ يجرّها حصانٌ رجلاً يُشبهك في السوق. فظنّنا أنّه أنتَ، وجئنا لنُبلغ زوجتك”.
فسألهما خُجا: “هل كان بطولي؟”.
فقال الرّجلان: “نعم”.
ومن ثمّ سأل مجدداً: “هل كان ذا لحيةٍ مثلي؟”.
فأجابا: “نعم!”.
وسألهما أيضاً: “ما كان لونُ قميصهِ؟”.
فأجابا: “وردياً”.
فتنفّس الخُجا الصعداء مُبدِياً ارتياحه، وقال: “ورديّاً! إذاً، إنّه ليس أنا” فأنا لا أملكُ قميصاً وردياً!”.

خطُّ الخُجا
ذات يوم، جاءَ نَصْرَ الدِّين خُجا جارُه طالباً منه أن يكتب له رسالة.
فسأله الخُجا: “لمَنْ تريد أن تُرسِلها؟”.
ردّ الرجل: “إلى صديقي في بغداد”.
فقال الخُجا: “أنا آسف، لا وقتَ لديّ للذهاب إلى بغداد”.
فسأله جارُه مُتعجِّباً: “مَنْ يطلب منك الذّهاب إلى بغداد! كلّ ما أُريده منك هو أن تكتب لي رسالة!”.
فقال الخُجا: “أعلمُ ذلك. لكنّ خطَّ يدي سيِّئٌ جداً، لدرجة أنّ أحداً هناك لن يكون قادراً على قراءة خطي، وفي نهاية المطاف سيُرسِلون في طلبي لكي أقرأ الرّسالة بنفسي. وكما أخبرتك، ليس لديّ وقتٌ للذهاب إلى بغداد”.

ملّا نصر الدين يحلم بالثروة
ذات مساءٍ راودَ نَصْرَ الدِّين خُجا حُلُمٌ… أنّ رجلاً قرعَ بابَه وسأله إذا كان بإمكانه أن يمضي اللّيلَ في منزله. وقال له إنّه سيدفع لقاء ذلك 10 دنانير ذهباً.
وافقَ الخُجا على هذا العرض، واصطحبه إلى غرفته.
وفي الصّباح الباكر، شكرَ الرّجلُ الخُجا وأخذ يَعُدّ له النّقود الذّهبيّة.
فوصلَ إلى تسعة وتوقّف.
فصاح الخُجا: “لقد وعدتني بعشرة”، واستفاق.
فالتفتَ من حوله بحثاً عن الرجل فلم يجده.
فأغمض عينيه سريعاً، وقال: “حسناً، حسناً، أعطني التّسعة!”.

خُجا ومَشْوَرَةُ زوجته
ذات مساء، استيقظت زوجةُ نَصْر الدِّين خُجا فوجدته قلِقاً، يروح جيئةً وذهاباً على الشُّرفة وهو في حالةِ اضطرابٍ شديد.
فسألته: “ما خَطبُكَ؟”.
فأوضح لها الخُجا: “اقترضتُ مئةَ دينارٍ من جاري الشّهر الماضي، ووعدتُه أن أُعيد له المالَ في آخر يوم من هذا الشهر”.
“غداً هو آخر يوم من الشّهر، ولستُ أملك تلك النّقود. ولا أدري ماذا أفعل”.

الحل عند الخجا
الحل عند الخجا

قالت له زوجته: “وما عساكَ تفعل! اِذْهَب واخْبِر الرّجلَ أنّك غير قادرٍ على الدّفع!”.
أخذ خُجا بنصيحة زوجته.
وعندما عادَ من منزلِ جاره، بدا مرتاحاً وسعيداً. فسألته زوجتُه: كيف تقبّل الأمر؟”.
فقال الخُجا: “آه، حسناً، الآن هو الذي يروح جيئةً وذهاباً على شُرفته”.

الحلُّ عند الخُجا
في أحد الأيام التقى ملّا َنصْر الدِّين أحد الأصدقاء في الشّارع.
بدا الرجل قلِقاً، فسأله الخُجا: “ما الذي يُضايقك؟”.
فأجاب الرجل: “ينتابني حُلُمٌ سيّئٌ، فأنا كلّ مساءٍ أحلمُ بوحشٍ يختبئ تحت سريري. وعندما أستيقظ وأنظرُ هناك، لا أجدُ شيئاً. وبعد ذلك يجفوني النّوم. إنّني في طريقي الآن إلى منزل الطبيب. فهو يقول إنّه قادرٌ على شفائي، وذلك لقاء مئة دينار”.
فقال الخُجا متعجِّباً: “مئة دينار! بوسعي أنْ أُخلِّصَكَ من مشكلتك لقاء خمسة دنانير!”.
فالتقط الرّجل على الفور خمسة دنانير ونقَدَها إلى الخُجا.
وقال بلهفة: “الآن أخبرني ما الحلّ”.
قال الخُجا، وهو يضع النقودَ في محفظته: “العلاجُ بسيط، اِنْزع أرْجُلَ سريرك” وتأكّد عندها أنه لن يمكن لأي وحش أن يختبئ تحته.

خُجا الملك!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا غارقاً في تفكيره وهو يجتاز طريقاً بالقرب من قصر الملك، حينما اصطدمَ برَجُلٍ.
فاستشاط الرّجلُ غضباً، وبدأ يلعن الخُجا ويصيح بوجهه.
وقال بصوتٍ عالٍ: “هل تعلم مَنْ أنا؟ أنا مستشارُ الملك!”.
فقال الخُجا: “حسناً. أمّا أنا فالملكُ بعينه”.
فسأله الرجل: “ملكٌ؟ وأيُّ بلدٍ تحكُم؟”.
قال الخُجا: “إنّني أحكمُ نفسَي. فأنا أملكُ انفعالاتي. ولن تجدني أفقدُ أعصابي كما فعلتَ أنتَ للتوّ أبداً”.
فاعتذرَ الرّجلُ منه، وذهبَ في طريقه وهو يشعرُ بالخجل لما بدر منه.

جوابٌ كاوٍ كالخَلّ
ذات يوم، قال رجلٌ لنَصْرِ الدِّين خُجا: “سمعتُ أنّ لديكَ خَلّاً عمره أكثر من أربعين عاماً”.
قال الخُجا: “هذا صحيح”.
فسأله الرّجل: “هلَّا أعطيتني شيئاً منه؟”.
قال الخُجا: “لو اَنّني أعطيتُ خلّاً لكلِّ منْ يسألني، لَمَا تجاوزَ عمرُ ها الخَلّ أربعين يوماً”.

شِجارٌ وحَلوى!
تشاجرَ المُلّا نَصْرُ الدِّين ذات يوم مع زوجته. وصاحَ بوجهها حتى لم تعُد تتحمّل، فهربت إلى منزل جارهما.
تبعها المُلّا إلى بيت جاره، لكنّ الجيران تمكّنوا من تهدئة الزّوج الغاضب، وقدّموا له ولزوجته الشّاي وقطع الحلوى، للاحتفاء بالصّلح.
لكن ما أن عاد الخُجا إلى منزله مصطحباً زوجته حتى بادرها إلى الشّجار، ثم بدأ يصيح في وجهها.. عندها فتحَت الزّوجة البابَ مجدّداً وخرجت إلى الطّريق وهي غاضبة. في تلك اللّحظة لحق بها المُلّا ناصحاً إيّاها: “هذه المرّة، اذهَبِي إلى منزل الخبّاز، إنّه يصنعُ كعكاتٍ لذيذة”.

المُلّا أمام السّلطان
تسلَّل فيلُ السلطانِ إلى قرية المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وعاثَ فساداً في الحقول.
قرّر سُكّانُ القرية أخيراً تشكيل وفدٍ، والذّهاب إلى السّلطان بغية مطالبته بإبعاد فيله عن القرية.
وحيث إنّ المُلّا نَصْر الدِّين كان معروفاً من السّلطان، فقد سأله وفد الأهالي أن يتقدّمهم ويكون ناطقاً باسمهم.
وعندما وصلوا إلى القصر، أحسَّ القرويّون برهبةٍ من هيبة المكان وخانتهم شجاعتهم. وأخذوا واحداً تلو الآخر بالانسحاب من الوفد والانسلال بعيداً، فوجدَ الخُجا نفسَه في نهاية الأمر وحيداً جَزِعاً في حضرة السلطان.
فسأله السّلطانُ المُتَكدِّر المِزاج وبصوتٍ جَهْوَريّ: “حسناً، ماذا تريد يا نَصْر الدِّين؟”.
فقال المُلّا مُتلَعثِماً: “إنّ فِيلَكَ يسْرَح في قريتنا أيُّها السّلطان”.
فردَّ السلطانُ بصوتٍ هادر: “إذاً؟”.
قال المُلّا وهو يرتجف: “إذاً…، نحن، أقصدُ أنا، جئنا نُخبركَ أنّه يشعر بالوحدة … فرجاءً أرسِل له صاحبة!”.

الفَقرُ يُنقِذ نصرَ الدّين!
استُدعِيَ مُلّا نَصْر الدِّين يوماً أمام القاضي من قِبَل رجلٍ كان قد استدان منه مالاً.
وقال الدّائن للقاضي: “هذا الرّجلُ مَدين لي بـ 500 دينارٍ استحقّ سدادُها منذ فترة طويلة. وأنا أُناشد فَضيلتكم مطالبته بأنْ يدفع لي على الفَوْر، من دون أيّ تأخيرٍ إضافي”.
أقرَّ الخُجا قائلاً: “إنّي بالفعل مَدِينٌ للرّجل بهذا المال، وأعتزم أن أُعيده له. ولهذا فإنّني قرّرت أنْ أبيعَ بقرتي وحصاني إذا اقتضى الأمر، لكنّ ذلك سيستغرق وقتاً”.
قال الرّجلُ: “إنّه يكذب، فهو لا يملك بقرةً أو حصاناً أو أيَّ شيءٍ ذي قيمة. وقد عَلِمتُ أيضاً أنّه لا يملك حتى طعاماً في منزله!”.
فقال مُلّا نصر الدين: “بما أنّه يا فضيلة القاضي يعلم مدى فَقري المُدقِع، فكيف يتوقّع منّي أن أدفع له على الفَور”.
فصرَفَ القاضي النظرَ عن الدعوى.

الفقر ينقذ نصر الدين
الفقر ينقذ نصر الدين

أقاربُ الحمار
كان نَصْرُ الدِّين خُجا في طريقه إلى السّوق مُحمِّلاً حماره سلّة كبيرة ملأى بالخضار.
وفي منتصف الطّريق، توقّف الحمار فجأة. وحاول الخُجا جاهِداً دفْعَهُ قُدُماً لكنّ الحيوانَ لم يتحرّك قَيدَ أنمُلَة.
فأخذَ الخُجا بتأثيرِ الغضبِ واليأسِ يضربُ حمارَه بعصا.
وشرعَ الناسُ يتحلّقون من حوله.
وسأله أحدُهم: “لماذا تضرب هذا المخلوق الضّعيف؟”.
ونَهَرَه ثانٍ: “توقّف عن ضربه حالاً!”.
وقال ثالث: “إنّك رجلٌ غليظ القلب!”.
فرمقَ الخُجا حمارَه بنظرة إعجاب.
وقال: “لو كنتُ أعلمُ أنَّ لديكَ الكثيرَ من الأقارب يُدافِعُون عنك، لمَا كنتُ ضربتك قَطُّ”.
“أرى أنّك متحدِّرٌ من عائلة كبيرة ومتشدِّقة”.
فانسلَّ أولئك الذين وبّخوه بعيداً وهم مُحْبَطُون، فيما انصرفَ الحشدُ تاركاً الخُجا يتعامل مع حماره كما يحلو له.

عَيِّنَةٌ تكفي
سعى نَصْرُ الدِّين خُجا إلى بيع منزله، لكنْ عبثاً.
وفي أحد الأيّام، اقتلعَ حجرَ طُوبٍ من جدارٍ في منزله.
فسألته زوجته مُرتَعِدَة: “لماذا فعلتَ ذلك؟”.
قال نَصْرُ الدِّين: “يا لَحماقتك يا امرأة، وما أدراكِ ماذا أفعل؟ فَكَي يبيع المرءُ شيئاً، لا بُدّ له من أن يعرِض عَيِّنةً منه. وأقترِح أنْ أعرِضَ هذا الحجر كعيِّنة من منزلنا”.

ثورٌ يُسابِق الجياد!
تهيَّأ المُتنَافِسون على صَهواتِ جِيادهم للانطلاق في سباقٍ للخيول.
فجأةً، وصلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين خُجا على ظهرِ ثورٍ وطالبَ بالمشاركة في السباق.
فقال له المُنظِّمون: “هل جُنِنتَ؟ فما عسى لِثَورٍ أن يفعل أمام الجياد؟”.
فقال الخُجا: “تتحدّثون كذلك لأنّكم لا تعلمون شيئاً عن ثوري. فحينما كان عِجْلاً صغيراً، كان بإمكانه أن يعدو سريعاً كمُهر. والآن وقد كَبُر فلا بُدَّ أنّه يُضاهي الجيادَ خفةً وسرعة”.

هاتِ وأعطني الحليب!
ذات مساءٍ، أوقفَ رجلٌ يحمل وعاءً من الحليب المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وسط الشارع، وكشفَ له أنّه يشكو مشكلةً وطلبَ مشورَته.
فسأله الخُجا: “ما هي مشكلتك؟”.
أوضحَ الرجل: “مشكلتي هي أنّني على الرّغم من عدم احتسائي للخمر، أشعرُ بالثّمَل عندما أستيقظ صباحاً”.
سأله الخُجا وهو يرمقُ وعاءَ الحليبِ في يده: “ما الذي احتسيته ليلة أمس؟”.
أجاب: “حليباً”.
قال الخُجا: “تماماً كما ظننت. إنّه سبب المشكلة”.
فأجابه الرّجل مندهِشاً: “هل الحليبُ يُثمِل (أي هل يتسبب بالسُّكْر؟)”.
فأوضحَ له ملّا نصر الدين المشكلةَ على هذا النّحو: “تحتسي الحليبَ وتخلدُ إلى النّوم. وتتقلّب أثناء نومك. فيَمْخَضُ الحليب، ويتحوّل إلى زُبدة. ومن ثمّ تَمْخَضُ الزبدة، فتتحوّلُ إلى جُبْن. والجُبْن بدوره يتحوّل إلى دهون، ومن ثمّ إلى سُكَّر، والسُّكر يتخمّر ويتحوّل إلى ما يُسكِر. فلذلك تستيقظ في الصّباح ثمِلاً”.
فاحتارَ الرّجلُ وسأله: “ماذا عساي أفعل؟”.
قال الخُجا: “ببساطة، إيّاكَ وشربَ الحليب. هاتِ واعطني إيّاه”.
وانتزعَ نصر الدّين وعاءَ الحليبِ من يد الرّجل وسار بعيداً، تاركاً إيّاهُ وهو يُدمدِم ويهذر.

امتيازٌ من السّلطان!
عادَ نَصْرُ الدِّين خُجا إلى قريته من العاصمة، وتحلّق القرويّون من حوله لمعرفة ماذا حدَثَ معه هناك.
قال الخُجا: “هذه المرّة، أوَدُّ أنْ أقولَ فحسب إنّ السلطانَ تحدّث إليَّ”.
وانطلقَ بعض القرويّين ليُذيعوا هذا الخبر الرّائع.
أمّا منْ بقِيَ فقد سأله: “ماذا قال لك السّلطانُ؟ بالله عليك أخبرنا ماذا قال؟”.
فأجابَ الخُجا بهدوء: “ابتعد عن طريقي!”.
عمّت البُسطاءَ والسُّذجَ فرحةٌ غامرة، لقد سمِعَ الخُجا كلماتٍ نطقَ بها السّلطانُ بنفسه، إنّهم يُشاهِدون الآن الرّجلَ الذي حَظِيَ بهذا الشّرف العظيم..

معجزة dna

معجزة الـ DNA

عمليّةُ نسخِ الخصائص الوراثيّة للإنسان تتكرر دون خطأ
مليــارات المرّات في فتــرة عمــر الكائــن الحــيِّ الواحـــد

أنزيمات متخصصة تبحثُ عن الأخطاء في نقل المعلومات
من شريط وراثيّ إلى آخر جديد ومن ثم تقوم بتصحيحها

في شريط الخصائص الوراثيّة ست مليارات معلومة مخزنة
في حيِّز لا يمكن رؤيته بأقوى الميكروسكوبات الضوئية

في العام 1953 تمكّن عالما الأحياء فرانسيس كريك وجيمس واطسون باستخدامهما الأشعّة السّينية من كشف تركيب الحمض النّووي ووجدا أنّ كامل مواصفات أجسام الكائنات الحيّة والتي تزيد على ست مليارات “شيفرة” وراثية مكتوبة بطريقة رقميّة على شريط طويل ودقيق من الحمض النّووي مخزن في نواة الخليّة وهو من الصّغَر بحيث لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئيّة.
وبهذا الاكتشاف التاريخي الذي استحق العالمان عليه جائزة نوبل تمكّن العلم من فكّ أعظم سرّ من أسرار الحياة وهو الكيفيّة التي يتمّ من خلالها توريث مواصفات أجسام الكائنات الحيّة وكذلك فهم الطّريقة التي يتمّ بها تَكوّن كائنات جديدة كاملة ابتداء من خليّة واحدة تنقسم وتتكاثر إلى مليارات الخلايا التي يتحدّد لكلّ منها وظيفة خاصّة وتذهب بالتالي لصنع عضو معيّن أو قطعة معيّنة في هذه الفسيفساء العظيمة للجسد.
وبعد أن بدأ علماء الأحياء بدراسة تركيب شريط الحمض النووي والطريقة التي يستخدمها في تخزين المعلومات الوراثيّة والآليات التي يستخدمها في تنفيذ البرامج المخزّنة عليه وجدوا أنّ فيه من الأسرار بل من المعجزات ما تعجز أكبر العقول البشريّة عن فكّها. ولقد جاء هذا الاعتراف على لسان أحد هذين العالمين وهو فرانسيس كريك الذي نال مع زميله واطسون في عام 1962 جائزة نوبل في الفسيولوجيا تقديرا لاكتشافهما تركيب هذا الشّريط المعجز حيث قال في كتابه طبيعة الحياة “إنّ أيِّ إنسان نزيه ومسلَّح بكلِّ المعرفة المتاحة لنا الآن لا يستطيع أن يقول أكثر من أنّ نشأة الحياة تبدو شيئاً أقرب ما يكون إلى المعجزة”.

ما هو الـ DNA؟
يوجد جزيء DNA داخل نواة كل من الـ 100 تريليون خليَّة الموجـودة في جسمنا، وهذا الجزيء الذي لا يمكن رؤيته حتى بأقوى الميكروسكوبات الضّوئية يحتوي على جميع الصّفات الوراثيّة للكائن الحيِّ التي ورثها عن آبائه وأجداده والتي سيورثها لأبنائه وأحفاده، فلو أخذنا نباتاً معيّناً فإنّنا سنجد أنَّ الشّيفرة الجينيّة المختزنة في الـ DNA الموجود في خلاياه قد كُتِب فيها بقدرة الله كيف سيكون حجم البذور وطريقة إنباتها، ومدّة الإنبات، وموسمه، وشكل البادرات، ونوع الأوراق وتركيبها الخارجيّ وتشريحها الداخليّ، وطريقة ترتيبها على الساق، وملايين العمليّات الحيويّة التي تحدث فيها، والتّفاعلات التي تُنتجها، وكمية الماء التي تحتاجها، والبراعم وأعدادها وتركيبها، والأزهار وألوانها ورائحتها وتركيبها، وثمار عقدها ولونها وطعمها وتركيبها الكيماويّ الحيويّ، والبذور وعددها وشكلها وتركيبها، وملايين الصّفات الوراثيّة الأخرى. وكل تفاصيل تلك العمليّات الحيويّة مكتوبة في هذا الجُزَيء الصّغير الذي لا يمكن أن يُرى حتى بأقوى الميكروسكوبات.
إنّ جُزيء الـ DNA الموجود في كروموزوم واحد من أصل الـ 46 كروموزوم الموجودة في كلّ خليّة من مئات مليارات الخلايا في جسم الإنسان يحتوي على معلومات حيوية عن الكائن الحيّ تعادل المعلومات الموجودة في موسوعة ضخمة مكوّنة من مليون صفحة مليئة. والعجيب أنّ هذا الجزيء أُعطِي الصّلاحية لصُنع نَسَخ مشابهة تماماً له من سيتوبلازم الخليّة، وهو أمر حيويّ لاستكمال تكاثر الخلايا مع نفس الخصائص الوراثيّة حتى تكوُّن المخلوق التّام والذي قد يكون بشراً أو حيواناً أونباتاً.
وتوجد معطيـات الحمض النّووي المتعلّقة بعضو أو بروتين معيّن ضمن مركّبات خـاصة تُدعى المورّثات أو الجينات. فمثلاً، المعلومـات المتعلّقة بالعين توجد ضمن متتالية من المورّثـات الخـاصّة، بينمـا توجد المعلومـات المتعلّقة بالقلب ضمن متتالية من المورّثـات مختلفة تماماً عن الأولى وهكذا دواليك.
لكنْ هنـاك تفصيل دقيق ومهمّ هنا وهو أنّ أيّ خطأ في ترتيب النّكليوتيدات المُكَوّنة لمورّثة جينيّة واحدة يمكن أن يؤدّي إلى إعطـابها وتعطيل وظيفتها، وإذا وضعنا في الاعتبار بأنّه يـوجد 200 ألف مورّثة في الجسم البَشريّ، يتّضح جليًاً استحـالـة أن تتموضع صدفة ملايـيــن النّكليوتيدات المكوّنة لهذه المورّثـات حسب التّرتيـب التّسلسليّ الصّحيـح. عالـم الأحيـاء التّطوريّ فرانك ساليسبوري يشير لهذه الاستحالة بأنّ احتمال أن يحصل مثل هذا الترتيب العجيب بالصّدفة وعبر مليارات السّنين هو بكلّ بساطة احتمال واحد من من 1 متبوعاً بستماية صفر وهو رقم يفوق الخَيال ويساوي بعلم اللوغاريتم صفراً مطلقاً. ويضيف سالزبريالقول:”إنّ احتمـال التكوّن العشوائيّ لبروتين واحد أو حمض نووي ضئيل جدًا، أمّا ظهور سلسلة كاملة مترابطة من البروتينات فهو أمر لا يمكن تصوّره حتى بالخيال”.
بالإضافة إلى كلّ هذه الاستحـالات، يصعب أن يدخل الحمض النّووي في تفـاعل معيّن بسبب شكله الهندسيّ الحلزونيّ ذي السلسلة المزدوجة. كما أنّه لايمكن أن يُسْتَنسَخ الحمض النّووي إلا بمسـاعدة إنزيمات يمكن إنتاجها فقط بواسطة المعلومات المُرَمّزة في الحمض النّووي نفسه ولأنّ كلا الجُزيئين يرتبط وجود أحدهما بالآخر، فإنّهما إمّـا أن يكونا قد وُجدا في الوقت ذاته من أجل التولّد، وإمـّا أنْ يكون أحدهما قد”أُوْجِد” قبل الآخر وعندها فإنّ التّفاعل الضّروريّ لا يمكن أن يتمّ بسبب حتميّة الوجود المتزامن للعنصرين. عالم الأحياء الأميركي جاكوبسون يقدّم ملاحظاته حول الموضوع :
”كلّ التّعليمات الخاصّة بإنتاج التّصاميم والطّاقة المحرّكة واستخلاص بعض الأجزاء من البيئة المحيطة وترتيب مراحل النّمو والآلية المنفِّذة التي تحوِّل التّعليمات المشفّرة إلى نموّ، كلّ ذلك يجب أن يتواجد آنيّاً في ذات لحظة (بدء الحياة).وهو ما يعني أنّ اندماج الأحداث صدفةً هو أمر مستحيل الاحتمال، بل يجب أن يُنسَب إلى القدرة الإلهية.”
كتب جاكوبسون ملاحظته هذه بعد سنتين من اكتشاف بُنية الحمض النّووي بواسطة جيمس واطسون وفرانسيس كريك. وبعد أكثر من 63 عاما على ذلك الاكتشاف التّاريخي لا زالت ملاحظة العالم الأميركي سارية المفعول، لأنّه وعلى الرّغم من كلّ التقدم العلميّ الذي تحقّق منذ ذلك الحين لا زالت معجزة الحمض النّووي والشيفرة الجينيّة وطريق عملها في توليد الكائنات والأنواع واستمرارها في الزّمن لُغزا مُحيِّرا ومعضلة كشفت الأرضيّة الهشّة التي تقوم عليها نظريّة “التّطوّر بالصّدفة” التي حاولت إيجاد تفسير ماديّ لنظرية الوجود لا تقوم على الإيمان بمبدأ الخلق والخالق. وحول هذه النّقطة يقول عالمان ألمانيان هما جانكر وشيرر بأنّ تخليق كلّ الجزيئات التي يحتاجها التّفاعل الكيميائي (لتكاثر الخلايا واستنساخ الشيفرة الجينيّة) يتطلّب شروطًا وظروفاً تختلف كثيراً في ما بينها، وأنّ احتمال اجتماع تلك العناصر في بُنية وظائفيّة بمحض الصّدفة هو صفر”

التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي
التركيب الحلزوني لجزيء الحمض النووي

صدمة لنظريّة التّطوّر
إنّ أكثر ما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحمض النّووي هو أنّ الطّريقة التي تمّت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات هي الطريقة ذاتها التي يستخدمها الحاسوب الرّقميّ لتخزين مختلف أنواع المعلومات في ذاكرته وفي تنفيذ برامجه. ولقد ترتّب على هذا الاكتشاف العظيم تحوّل كبير في المفاهيم المتعلّقة بالطّريقة التي تمّت بها عمليّة خلق الكائنات الحيّة وخاصّة تلك المتعلّقة بنظريّة التّطوّر والتي أصيبت بصدمة كبيرة بعد هذا الاكتشاف.
ويعود سبب الصّدمة إلى اكتشاف العلماء أنّه لا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحيّ مهما بلغت بساطة تركيبه إلّا من خلال تعديل مليارات الشّيفرات الوراثيّة المرتّبة بدقّة في جُزيء الـ DNA وهذا الأمر يتناقض تماماً مع النظريّة التطوريّة، أولاً لأنّ الصّدفة التي لا عقل لها لا يمكنها أن تقوم بإجراء التّغييرات المطلوبة في مليارات الشّيفرات الوراثيّة ضمن عمليّة التّطوّر، وثانياً لأنّ كلّ العناصر والمركّبات والأربطة والتّعليمات التي تدخل في صُنع جُزيء الـ DNA لا بدّ أن تكون موجودة معاً في الوقت ذاته لكي تنشأ الحياة ولا يمكن أن تتجمّع بفعل الصّدفة بصورة تراكميّة.
وهذه الكثافة في تخزين المعلومات غاية في الضّخامة إذا ما تمّت مقارنتها بكثافة المعلومات الرقمية المخزَّنة على الأقراص المغناطيسيّة أو الضّوئيّة الحديثة والتي يمكن لأفضل أنواعها أن تخزن نصف مليون حرف ثنائيّ في كل سنتيمتر وهذا مع العلم بأنّ عرض شريط القرص المغناطيسيّ يزيد بعشرين مرة عن عرض الشّريط الوراثيّ. ولكي يدرك القارئ ضخامة هذه الكثافة نذكر له أنّ الشّريط الوراثيّ للإنسان يتكوّن من ستة مليارات حرف وراثي مخزّنة في حيِّز لا يمكن رؤيته بالميكروسكوبات الضّوئيّة بينما لو تمّت كتابته على الورق باستخدام الأحرف الكتابيّة لاحتاج إلى مليون صفحة ورقيّة. وقد أوضح أحد علماء الأحياء هذه الكثافة بقوله إنّ الحيِّز الذي يمكن أن تحتلّه الأشرطة الوراثيّة لجميع أنواع الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض الآن وتلك التي انقرضت يمكن احتواؤه في ملعقة شاي صغيرة.
ولا بد لنا هنا من أن نؤكّد على أنّ استخدام نظام التّشفير لحفظ المعلومات عمليّة واعية بكلّ معنى الكلمة ولا يمكن أن تتم بأي حال من الأحوال من قبيل الصّدفة، فأقصى ما يمكن للصّدفة أن تعمله هو جمع بعض المكوّنات مع بعضها البعض لتنتج مكوّنا أكثر تعقيداً،ﹰ أمّا أن تقوم باختراع مثل هذا التّمثيل الرّياضي فهذا أمر لا يقبله العقل. كذلك فإنّ عمليّة النّسخ التّلقائية للمعلومات الوراثيّة لا يمكن أن تُختَرع إلّا من قبل عاقل يهمه أن يحتفظ بهذه المعلومات لأهداف لاحقة يريد تحقيقها، لأنّ الصّدفة مجرّد “حادث” أو مجموعة حوادث تخضع لقانون الاحتماليّة ولا يوجد للصّدفة “مخطّط” أو “ذاكرة” أو “تصميم” ثمّ إن سرّ الحياة الأعظم يكمن في قدرة الشّريط الوراثيّ على إنتاج نسخة عن نفسه بنفسه وبهذا السرّ تستطيع الخلايا الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها وتستطيع الكائنات الحيّة أن تنتج نسخاً عن نفسها بنفسها.
ولولا هذه الخاصيّة الفريدة لهذا الشّريط لَما أمكن للحياة أنّ تدوم على سطح هذه الأرض منذ آلاف الملايين من السّنين وإلى أن يشاء الله، فالمعلومات الوراثيّة التي تلزم لتصنيع أيّ كائن حيّ يتم توارثها من خلال إنتاج نسخة طبق الأصل عن الشّريط في كلّ خليّة قبل انقسامها إلى خليّتين وعندما يعطي الشّريط أوامره إلى الخليّة لكي تنقسم إلى خليّتين عليه أوّلاً أن يُصْدر الأوامر لتصنيع جميع الجُزيئات اللّازمة لبناء شريط جديد يودعه إحدى الخليّتين. فعلى سبيل المثال فإنّ عملية تصنيع شريط جديد في إحدى خلايا جسم الإنسان يتطلّب من الخليّة أن تقوم بتصنيع ستّة مليارات جزيء سكّر وستّة مليارات جُزيء فوسفات وذلك لبناء السّلسلتين الجانبيّتين ومن ثم تصنيع ستّة مليارات حرف وراثيّ بِنِسَبٍ محدّدة من أنواعه الأربعة إلى جانب تصنيع الأسطوانات البروتينيّة التي سيتمّ لفّ الشّريط الجديد عليها. إنّ هذا العدد الضّخم من الجُزيئات يجب أن يتمّ تصنيعه وحفظه في داخل نواة الخليّة التي لا يتجاوز قطرها الميكرومتر أوجزء من ألف من المليميتر..

العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره
العالم البريطاني فرانسيس كريك تمكن في العام 1953 ولأول مرة مع زميله جيمس واطسون من تحليل تركيبة الحمض النووي وتصويره

كيف يَسْتَنْسِخ شريط الـ DNA نفسه؟
إنّ مجرّد تصنيع الجُزيئات التي يُبنى منها الشّريط الوراثي بالأنواع والأعداد المطلوبة يُعتَبَر معجزة من معجزات الحياة، ولكن هذه المعجزة لا تقاس أبداً بالمُعجزات الموجودة في الطّريقة التي يتمّ بها بناء الشّريط من هذه الجُزيئات. يبدأ الشّريط الوراثيّ عمليّة تصنيع نسخة جديدة عن نفسه وذلك بعد أن يتأكّد من توفّر الأعداد اللّازمة من الجزيئات المكونة للشّريط الجديد حيث يقوم إنزيم خاص بالعمل على فتح الشّريط الوراثيّ من أحد جانبية ليفصل السّلسلتين الجانبيتين بما تحملان من أحرف وراثيّة عن بعضهما البعض. ومن ثم تتولّى إنزيمات أخرى بناء سلسلتين جديدتين وتثبيت الأحرف الوراثيّة عليهما بحيث تكون الأحرف الجديدة على كل سلسلة مكمّلة للأحرف القديمة المرتبطة بإحدى السّلسلتين القديمتين.
ومن ثمّ تتحد كلّ سلسلة من السّلسلتين الجديدتين مع سلسلة أخرى من السّلسلتين القديمتين مكوّنتين شريطين وراثيّين يحتوي كلّ منهما على سلسلة قديمة وأخرى جديدة. إنّ عملية نسخ المعلومات عن الشّريط القديم وتخزينها على شريط جديد تتمّ بسرعة عالية نسبيّاً حيث تتراوح بين ألف حرف في الدّقيقة في الإنسان ومليون حرف في الدّقيقة في البكتيريا. وهذا على عكس المتوقّع فحجم المعلومات المخزّنة على شريط الإنسان يزيد بملايين المرّات عن حجم المعلومات على شريط البكتيريا فكان من المُفتَرض أن تكون سرعة النّسخ في الإنسان أعلى منها في البكتيريا.
ولكنّ تقليل سرعة النّسخ في الإنسان هدفه تقليل نسبة الخطأ في المعلومات المنقولة لأنّ السّرعة العالية للنّسخ في البكتيريا كفيلة بإتمام عمليّة نسخ شريطه في دقائق معدودة ولكنّ نسخ شريط الإنسان بمعدّل ألف حرف في الدّقيقة يحتاج لما يقرب من ستّ سنوات وهذا يعني أنّ تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة يحتاج لما يقرب من ثلاثمائة عام.
ولكن بقدرة الخلّاق العظيم أصبحت المدّة التي يحتاجها الشّريط الوراثيّ لإنتاج نسخة جديدة عنه لا تتجاوز نصف ساعة وقد تم ذلك من خلال إجراء عمليّة النّسخ بشكل متوازٍ لجميع الكروموسومات المكوّنة للشّريط الوراثيّ وكذلك من خلال إجراء عمليّة نسخ الكروموسوم الواحد في عدد كبير من المواضع. وبهذه الطّريقة الذّكيّة تمّ تقليص مدّة تصنيع إنسان جديد ابتداء من خليّة واحدة من ثلاثمائة عام إلى تسعة أشهر!

في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة
في جزيء الـ دي. إن. إي الموجود في هذا الكروموزم معلومات تعادل موسوعة ضخمة مكونة من مليون صفحة

أنزيمات مُتخصّصة بتصحيح الأخطاء
ولقد وجد العلماء أنّ معدّل الخطأ في نقل المعلومات عند نسخ الأشرطة الوراثيّة في خلايا الإنسان قد يصل إلى خطأ واحد في كل ألف حرف وإذا ما تمّ حساب عدد الأخطاء الكلّيّة المحتملة في كامل الشّريط فإنّ الرّقم يبلغ ثلاثة ملايين حرف. ولكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ فعمليّة تصنيع الإنسان ابتداء من خليّة واحدة تتطلّب تكرار عمليّة النّسخ هذه عند كلّ انقسام لكلّ خليّة من خلاياه والتي يصل عددها في الإنسان الكامل إلى ما يقرب من مائة ألف مليار خلية (مائة ترليون)..
وعلى هذا فإنّ مجموع الأخطاء في الأشرطة الموجودة في خلايا جسم الإنسان سيبلغ عند اكتمال تصنيعه مائة وخمسين مليون خطأ أيّ ما نسبته خمسة بالمائة من مجموع عدد أحرف الشّريط الوراثيّ للإنسان وهذه النّسبة العالية من الأخطاء كفيلة بفشل عملية تصنيع جسم الإنسان بالكامل. ولكنْ إحدى معجزات الإتقان التّام في صنع الإنسان والحياة عموماً أنّ نظام تكاثر الجُزيئات مزوّد بنظام يعمل على تصحيح الأخطاء النّاتجة أثناء عمليّة النّسخ فبعد أن يتمّ إنتاج نسخة جديدة من الشّريط الوراثيّ تقوم مجموعة من الأنزيمات بالبحث عن الأخطاء الموجودة على الشّريط الجديد ومن ثمّ تقوم بتصحيحها.
إنّ وجود نظام لتصحيح الأخطاء في عمليّة نسخ الأشرطة الوراثيّة تدحض دحضاً كاملاً أن تكون الصّدفة تقف وراء عمليّة خلق الحياة على الأرض كما يدّعي أنصار نظريّة التّطوّر.
كما أنّ اكتشاف جُزِيء الدّنا DNA وخصائصه أثبت أنّه لا توجد خليّة بدائيّة وخليّة متطوّرة (وهذا الافتراض هو الرّكن الأساسيّ في نظريّة تطوّر الأنواع) وأنّ الفارق الرّئيسيّ بين الخلايا الحيّة هو فارق في عمليّة البَرمجة يتجسّد في جُزَيْئات الأحماض النّووية بالخليّة ومنها الحمض النّووي الدّناDNA.
إنّ الله تعالى هو }فاطر السّماوات والأرض{ الذي }إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كُنْ فيكون{ وهو الّذي }أحسن كلَّ شيء خلقَه{ هل الذي أبدع كلّ تلك الأنظمة التي لا تشوبها شائبة، ووضع كلّ التّفاصيل تماماً في مكانها الصّحيح، وتكفّل بأنْ تعمل كلّها معاً في توافق تامٍّ كما تعمل كافّة أجزاء الكَوْن الأخرى ابتداءً بالمجرّات والأفلاك والعوالم اللامحدودة وانتهاءً بأصغر الكائنات المجهريّة وملايين المخلوقات والأنواع.

الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته
الشريط الوراثي تم لفه بطريقة بالغة الذكاء بحيث يمكن قراءته بسهولة من الأنزيمات المكلفة باستنساخ كافة معلوماته

مصادر أساسية
الشّيفرة الوراثيّة سرّ الحياة الأعظم- الدّكتور منصور أبوشَريعة العبادي جامعة العلوم والتّكنولوجيا الأردنية جامعة الأميرة سُمَيّة للتّكنولوجيا
هارون يحي – الخليّة أرض العجائب
هارون يحي – هذا الجُزيء المعجزة : الحمض النّووي (دي. إن إي)
لغز الحياة في الـ دي إن إي. الدكتور نظمي خليل أبو العطا موس

جزيء الـ DNA
أكبر بنك معلومات في العالم

يُعْتَبَرُ جُزَيء الحمض النّووي أكبر بنك معلومات في العالم، ويحتوي على بيانات ملفوفة حول ما يقارب الـ 25 مليون ربطة.
الآن، لنفكّر في جميع الخُطوات التي علينا اتّخاذها لإيجاد كتاب معيّن عندما ندخل مكتبة ضخمة تحتوي على عشرات الآلاف من المؤلّفات وعلى قاعدة بيانات تحتوي على كافّة المعلومات المتعلّقة بالكتب، ورفوف منظّمة، وملصقات، والأهمّ من ذلك عدد من العاملين الجاهزين لمساعدتك في البحث.
لننتقل الآن لمقارنة ذلك مع ما يجري في كل وقت في أي خليّة من ترليونات الخلايا التي تكوّن جسدنا، وحيث تقوم أنزيمات الخلايا بالعثور على معلومات محدّدة في بنك المعلومات الوراثيّة، وهذه الأنزيمات المسمّاة أنزيمات RNA تقوم بالبحث وتجد ضالّتها في الظُّلمة الشّديدة، وهي تذهب للمكان الصّحيح من بين 25 مليون ربطة تؤلّف بنية نظام المورّثات الجينيّة، وتعثر على المعلومات المطلوبة وتأخذ نسخة منها لنفسها، وتحدث هذه العملية 2000 مرّة في الثانية الواحدة في الـ 100 تريليون خليّة الموجودة في أجسامنا. إنّه لأمر مدهش جدًا كيف أن إنزيمًا غير عاقل يستطيع إيجاد سطور قليلة من المعلومات في جُزيء الحمض النّووي الذي يحتوي على ثلاثة مليارات رسالة، وكأنه وضعها في أماكنها بنفسه؟

ديوان شمس تبريز

الرُّوميُّ أميرُ العِشْقِ الإلهِيّ

مختاراتٌ من ديوان شمسِ تبريزَ

حين طَلَعتْ شمْسُك تَبدّدت الأقوالُ

نحنُ كالسّيْلِ، كالنّهْرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُماً

إنْ لم يَحترق عقلي بعِشقِكَ فأنا غافلٌ

يُعتَبر “الدّيوان الكبير” أو ديوان شمسِ تبريزَ كما يُسمّى أحيانًا ليس فقط من أعظم الأعمال الشّعرية لجلال الدّين الرّوميّ بل هو قطعًا أعظم عملٍ شعريٍّ صوفيٍّ في تمجيد الحبّ والعشق الإلهيّ. لقد تدفّقت آيات هذا السِّفر العظيم من قلب جلال الدّين بفعل الحبّ العارم الذي اجتاح كيانه تجاه مرشده شمس الدّين التّبريزيّ وقد كانت الرّابطة الوجوديّة التي نشأت بين جلال الدّين وبين شمس تبريز إحدى القصص الفريدة بل العجيبة للعلاقة الميتافزيقيّة التي تنشأ بين المرشد وبين المُريد النّاضج فتجعل من الاثنين روحًا واحدة وتضرم في قلب كلّ منهما انجذابًا لا يقاوَم نحو الآخر وحيث يمثّل الآخر هنا الوجه الظاهر أو البشريّ لينبوع المعارف الإلهيّة و تعبيراً عن محبّة عارمة للمولى تعالى الذي تظهر تجلّيات صفاته وبحار حكمته في وجود المرشد الكامل.
وصف جلال الدّين الرّوميّ مرشده شمس الدّين التّبريزيّ في ديوان “المثنويّ” بالقول إنّه “شيخ الدّين وبحر معاني ربّ العالمين” مُضيفًا “الأرض والسّماء تبدو أمامه وكأنّها قشّة؛ لو أظهر جماله دون حجاب لما بقي شيء في مكانه، ولا ينبغي أن نُفْلِتَ ذيل ثوبه من أيدينا إن أردنا إدراك الحقيقة “ وهو رأيٌ في هذا الدَّرويش المحاط بالأسرار قُطْبًا تدور حوله رَحى القلوب التي تهيم بمحبّة الله تعالى وجاذبًا لا يقاوَم لأرواح السّالكين يشعل فيها لهيب الشّوق إلى طلب الحقّ تعالى. وقد أورد جلال الدّين في أغلب قصائد الدّيوان الكبير اسم “شمس الدّين” أو “شمس” مشيدًا به معتبرًا إيّاه “الإنسان الكامل” و”سلطان مملكة العشق وأمير قافلة الحبّ الإلهيّ” في زمانه.
وكان شمس الدّين التّبريزي معارضًا للفلسفة وعلم الكلام معتبرًا أنّ الوصول إلى الحقيقة يحتاج إلى تفانٍ تامّ ومحبّة غير محدودة لله وللمرشد وهو ما وصفه الصّوفية في ما بعد بالقول: “من لم تكن له بداية مُحْرقة لم تكن له نهاية مُشْرقة”. وكان مذهب شمس الدّين في الحبّ الإلهيّ وفناء الذّات المُفرَدةِ في الله القوّة الدّافعة لتعاليم جلال الدّين الرّوميّ في ما بعد وهو بالتأكيد القوّة المحرّكة وراء إبداع الرّوميّ لديوان شمس تبريز الضّخم ولأعماله الشّعريّة الخالدة وفي مقدََّمتها “المَثنوي” وقد جعل الرّوميّ في هذا الديوان القلب مقدَّمًا على العبادة الظّاهرة ومركز الدّائرة في علاقة السّالك بالحق تعالى، والدّيوان بهذا المعنى دعوةٌ إلى العِشق الإلهيّ الذي هو في نظر الرّوميّ ليس فقط القوّة المحرّكة للتقدُّم الرّوحيّ بل القوّة المحرّكة للكَوْنِ بأسْرِه.
في ما يلي مجموعة مختارة من “ديوان شمسِ تبريزَ” قُمنا باختيارها من النّسخة التي نقلها إلى العربيّة عن الفارسيّة الباحث الدكتور محمّد السّعيد جمال الدّين.

قَطْرٌ أنتَ، بحْرٌ أنتَ، لُطْفٌ أنتَ، قَهْرٌ أنتْ
سُكْرٌ أنتَ، سُمٌّ أنتَ، فَحَسْبُك لا توذِني

قُرصُ الشَّمسِ أنتَ، بُرج عُطارِدَ أنتَ،
واحةُ الرّجاء أنت، فعلى الطّريق دُلَّني

أمسكِ الخبزَ عنّي، أمْسِكِ الماءَ عنّي،
أمسكِ الرّاحة والنّومَ عنّي،
يا مَنْ ظمَأُ عِشقكَ يُفتَدى بمائةٍ مثلَنا

أَطَلَّ من القلبِ بَغتةً خيالُ حبيبي،
كالبدرِ من الأفقِ
أو كالزّهرِ من العُشبِ والكَلأْ

أنتَ نَوْحٌ، أنت الرّوح، أنت الفاتحُ والمفتوح
أنتَ الصّدرُ المُنْشَرحُ، أنتّ سِرّي المملوءُ بالدُّرَرِ

بَرئتُ من هذه النّفسِ ومن الهوى…
الحيِّ في بَلاءٍ والمَيْتُ في بلاء
في الحياة وفي الموت ليس لي وطن،
إنَّما وطني فضلُ الله، ليس إلّا

غريقٌ أنا في بحر كرَمِه، عبدٌ أنا لأنفاس صُبحٍ
فيه تلك الوردةُ العَطِرةُ صَوْبَ الرّوضِ تَجذِبُني

أيُّها القلبُ لا تُخاتِلْ، لا تُثِرِ الفتنةَ والغضب
لا تُشهِّر بي، ولا تَفشِ على ناصيةِ السّوقِ أمري

أنّى لنا في العالَميْن بأميرٍ لَطيفٍ مَليحٍ كأميرِنا
لم يتقطّب لهُ جبينٌ مع اَنّه رأى مائةَ ذنبٍ وخطأٍ

أنا من سلامِهِ الحارِّ وتَرْحابِه، ذُبْت منهُ خجَلاً
فمِنْ كلامِهِ النّاعمِ تذوبُ الحجارةُ ذَوْبــاً
اِحملْ إليهِ سُّمًّا، يجعلْه أحلى من السّكَّر
اِحملْ إليه قَهراُ، يُحيلُه كلَّهُ رِضًا

اُنظرْ “ماءَ الحياةِ” عندَهُ، ولا تخشَ الأجَلَ أبدا
لُذْ عندهُ بالرّضا، ولا ترتعدْ من القَضا

لو لم يكنْ حديثُه ولفظهُ، لما كانت روحُكَ تتأوّهْ
تأوّهْ، فآهاتُكَ تَسْلكُ طريقَها إلى الله تعالى

الليلُ يَمضي، فهلمَّ بنا إلى الحَضرةْ،
كي نسمعَ حديثَ المَلك،
قفِ اللّيلَ – طولَ اللّيلِ ــ قائمًا على قدميك حتى السَّحَرْ
كالقمرِِ في السّماء
جاء الرّبيعُ جاء الرّبيعُ، فسلِّمْ على السُّكارى
قد أتى الرّبيعُ من نَبيِّ الحِسانِ، برسالةٍ إلى السُّكارى

ادْخُل روضةَ الباقي، اصْعَد إلى السّطحِ
فالسّاقي أتى من دار الغَيب الخَفيّةِ برسالةٍ إلى السُّكارى

قد أتى للأرواحِ بالرّبيع، ولفتَنا صوبَ الحبيب
فانظرْ أيَّ سعادةٍ أتى بها، مِن بينِ ما أتى للسُّكارى

من قِبَلِ شمسِ الدّينِ التِّبريزيِّ، جاءَ ساقي السَّعدِ فجأةً
فقدَّمَ في القدَحِ السُّلطانيِّ الخاصِّ، خّمرًا خالِصاً للسُّكارى

إنْ لم تكنْ طالبًا، فصِرْ طالبًا معنا
إن لم تكنْ مُطرِبًا، فصِرْ مُطربا مَعنا

ولو كنتَ قارونَ، فصِرْ في العِشقِ مُفلِسا
وإن كنتَ سيِّدًا مُهابًا، فصِرْ عبدًا معنا

شمعةٌ واحدةٌ من هذا المجلس تُضيءُ من الشّموعِ ألفاً
أيّاً ما كنت مُطفأً أو حيًّا، فأنتَ تغدو منيرًا معنا

تُسرعُ أقدامُكَ في المَسيرِ، يشِعُّ منك النّورُ
وقد تغدو بأجمعِك وَردًا، دائم الضّحِكِ معنا

أقبِل بخِرقةٍ باليةٍ حينًا، كي ترى القلوبَ الحيَّة فينا
اِطْرح الحريرَ الأطلسَ جانبًا، وصِرْ في خِرقةٍ باليةٍ معنا

حين أصبحتِ الحبّةُ مُلقاةً، نَمَتْ، ثمّ شجرةً صارت
إنِ اَنتَ أدركتَ هذا الرّمزَ، صِرتَ مُلقًى معنا

يقول شمسُ الحقِّ التِّبريزيِّ لبُرعُمَةِ القلبِ
إنْ تفتّحتْ عينُكِ، صِرتِ بَصيرةً معنا

أيُّها السَّيِّدُ طاهرَ الذَّيلِ، أمجنونٌ أنتَ أمْ أنا؟
تجرّعْ معي قدَحًا، ودعِ العُتْبى والمَلامَة

قد كان قبلَك كثيرٌ ممّنْ يُنشدُ الكراماتِ
فلمّا رأى وجهَ السّاقي، أحرقَ كلَّ كرامة

أيُّها السّاقي الحبيبُ، امْلأْ ذلك القدَحَ المُقدَّم
قاطعْ طريقَ القلب، كاشفْ طريقَ الدِّين

ما يصدرُ عن القلبِ ويمتزجُ بالرُّوح
فوَرَانُهُ يُسكِرُ العينَ التي ترى اللهَ ربَّ العالمينْ

تلك خَمرٌ من كرْمٍ لأُمَّة عيسى
وهذه خمرٌ من منصورٍ1 لأمَّة “ياسينَ”.

هذا الحالُ إنْ حدثَ، يَحدُثُ غالبًا عندَ السّحَر
لِمنْ هجرَ لينَ الفِراشِ وأسهدَ الجفون

الحبيبُ الذي كان يوجِعُ قلبي، وكانَ مُعَلَّقًا فوقَ وجهِنا لا يبرَح
قد اَصبحَ الآنَ شفيقًا بالخُلّان، وليكنْ ما يكون

بتلك الطّلعةِ المُلوكيّةِ بتلك الشُّعلةِ التي أضاءت جِنَبات الدّار
تحوّلَ كلُّ رُكنٍ إلى مَيْدانٍ، وليكنْ ما يكونْ

بغضَبهِ المُراوغ بأسلوبهِ العذبِ الرائعِ
تحوّلَ العالمُ إلى أقاليمَ للسُّكر وجِنانٍ، وليكنْ ما يكونْ

ذهبَ اللّيلُ وجاء الصَّبوح ذهبَ الأسى وأقبلتِ الفُتوح
أضاءت الشّمسُ سائرَ الأركانِ، وليكنْ ما يكونْ

جاء العيدُ وجاء العيدُ، جاء الحبيبُ الذي جرى منّا لِبَعيد2
غدا العيد أعياداً، وليكنْ ما يكونْ

اْنظُرْ الرِّيحّ في الجوِّ من هوى الشَّفةِ العذبة
راحَ معَ النّاي يغنِّي الألحانَ.. وليكنْ ما يكونْ

حينّ أضاءَ ذاك القمرُ، غدا الكَوْنانِ روضةً
صارت أرواحاً تلك الأبدانُ، وليكنْ ما يكونْ

صارَ قهرُهُ رحمةً، صارَ سُمُّه بأجمعهِ عذبٍا فُراتًا
نشرَ سحابةَ السُّكْرِ والرّيْحانِ، وليكنْ ما يكونْ

صَهٍ، فأنا ثَمِلٌ، قد أوثقَ اْمْرُؤٌ يديَّ
صارَ الفكرُ مُشَتّتاً حَيْرانَ، وليكنْ ما يكونْ

جئت سعيدا يا ذا الوجهَ القمريَّ، يا سعادة الرّوحِ أقْبِلْ سعيداً
أمَا وقد كانَ ما كانَ، فليكنْ ما يكونْ

حديثُ العِشق

حبَّذا العِشقُ، حبَّذا العِشقُ لنا يا ربَّنا
ما أبدعَهُ، ما أروعَهُ، وما أحسَنَه يا ربَّنا

بماءِ الحياةِ3 نديرُ نحنُ السّماوات العُلا
لا بالكفِّ ولا بالنّايِ ولا بالدفِّ، يا ربَّنا

إن أنَّ الجسدُ أنينًا، من همِّ الخَسارة والكَسْبِ
فذاك منكَ أنتَ، فقد نفختَ، لا مِنَ النّاي يا ربَّنا

بكفِّكَ صَنعتَ نايَ الجسدِ، مليئًا بالثُّقوب
فهوَ عن هذا الأنينِ والصَّخَبِ، لا يَكُفُّ أبدًا يا ربَّنا

وما أدرى النّايَ المِسْكينَ باللّحن ِ والإيقاع
إنَّما النّافخُ هو البصيرُ وهو الخبيرُ، يا ربَّنا

من انعكاسِ وجهِ الحبيبِ، في هذا الرّوض النّضيد
بكلِّ ناحيةٍ قمَرٌ، وشمسٌ، ونجمٌ يتألّقُ، يا ربَّنا

نحن كالسّيلِ، كالنّهرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُمًا
فالبحرُ مَصَبٌّ لكلِّ سَيلٍ جارفٍ يا ربَّنا

بفضْلِ شمسِ الحقِّ التِّبريزيِّ، تولّهَ القلبُ
وهامَت الرّوحُ، وحارت العينانِ في الحبِّ، يا ربَّنا

يا لها من حرارةٍ فينا، يا لها من حرارةٍ فينا
من عِشقٍ هوَ كالشّمسِ، خَفَي منه ما خفَي وظَهرَ منه ما ظَهرَ، يا ربَّنا

حَبَّذا القَمرُ، حبّــذا القَمرُ، حبّذا خَمْرٌ تصاحِبُهُ
أضْفَتْ على الرُّوح والعالمِ زينةً وَبَهَا، يا ربَّنا

حَبّذا الهِمّةُ، حَبَّذا الهِمَّةُ التي أثارت العالمْ
حبَّذا العملُ، حبّذا المُثولُ بالحَضْرَةِ هناك، يا ربَّنا

قد وقَعنا، قد وقَعنا، فلا تقومُ قائمةٌ لنا
لا ندري، لا ندري، أيَّ حدَثٍ جَلَلٍ جرى، يا ربَّنا

عليكَ بالصّمتِ، عليك بالصّمتِ كي لا تُفْتَضَح
فالأغيارُ4 قد ملأوا ما حولَنا، يا ربّنا

تَجَلَّ يا شمسَ تبريزَ، يا ذا الكمالِ والتَّمِّ
كي لا يكونَ ثمّةُ نقصٍ، للكافِ والنّونِ، أبدًا

بين طَيّات حجابِ الدّمِ، بَدَت للعِشقِ رياضٌ ومُروج
ومعْ جمال العِشقِ غيرِالمحدودِ، بدت للعُشّاق أحوالٌ وشُؤونْ
للعُشّاقِ شارِبِيْ الثّمالةِ في الحَشاشَةِ أذواقٌ

ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا
ضريح ومقام جلال الدين الرومي في قونيا في تركيا

وفي قَرارةِ العُقَلاءِ سُودِ القُلوبِ صُنوفٌ من الإنكار

رأى الفكرُ سوقًا فشرعَ في التِّجارة
ورأى العِشقُ وراءَ سوقِ الفكرِ أسواقًا

يقولُ الفكرُ: لا تخطُ خُطوةً، فليسَ في الفِناءِ سوى الشّوك
يقول العِشقُ للفكرِ: إنَّما فيكَ أنتَ الأشواكُ

يا شمسَ تبريزَ، أنتَ شمسٌ في سَحابِ الكِلَمْ
حين طلعتْ شمسُك تبدّدتِ الأقوالُ
أطَلْتُ السُّجودَ، وقلتُ: اْحْملْ هذهِ السّجدةَ منّي لِشَمْسٍ
يحيلُ ضياؤها الحجارةَ الصّمّاءَ ذَهبًا صِرْفا

شققتُ عن صَدري، كشفتُ له الجِراحَ
قلتُ لهُ: “خبِّرْ عنّي الحبيبَ سفّاكَ الدِّماء

خَلِّصْ طِفلَ القلبِ، خَلِّصْ رَضيعَنا من التَّجوال
يا منْ تُجيرُ كلَّ حينٍ مائةً مِثلي أنا المِسْكينُ أنا

سائرُ رِفاقِكَ من حَجَرٍ، وأنتَ ياقوتٌ ومُرجانٌ، فلِمَ؟
السّماءُ عندَ البرِّيَّةِ فضاءٌ أصَمُّ، وهي عندكَ روحٌ من الرّحمنِ، فلِمَ؟

إنْ أَقبلْتَ عليَّ شَرَعتْ كلُّ ذَرَّةٍ منِّي في التّصفيقِ
وإنْ مَضَيتَ أجهشتْ كلُّها بالبكاءِ والأنينِ، فلِمَ؟

إن تَراءى خيالُك بَدتْ في كلِّ ذرَّةٍ مِنّي بَسْمةُ الهنا
وهيَ تغدو مع عَدْوِكَ بأجمعِها قواطعَ حادَّةً وأسنانًا، فلِمَ؟

أينما وُجِدتْ خَرابةٌ وُجِد الأملُ في ظهورِ كَنْزٍ
فلِمَ لا تبحثُ عن كنزِ الحقِّ في قلبٍ مُهدَّمِ البُنيانِ، لِمَ؟

لِكُلِّ أغنيةٍ، أيُّها القلبُ، أوّلٌ وآخِرْ
فكفاكَ ما أنشدتَ الآنَ، أمَا لِهذا اللّحنِ من خِتامٍ، لِمَ؟

لا تَسَلْني عن طُرُقٍ ومنازلَ، كفاكَ حديثًا، كفاكَ حديثًا.
يا مَنْ أنتَ طريقي ومنزِلي، هيّا تعالَ، أَظهِرْ سَنا وجهٍ أو جبينْ

طالما أنا واقفٌ على الحُسْنِ والقُبحِ، أنا واقفٌ
فأنا إذَنْ عن جمالك غافلٌ5، فهيّا تعالَ، اَظْهِرْ سنا وَجْهٍ أو جَبينْ.

إنْ لم يَحترقْ عقلي بعِشقِكَ، بعِشقِكَ
فأنا غافلٌ، لستُ بعاقِلٍ، هيّا تعالَ، اَظْهِرْ سَنا وجهٍ أو جَبينْ

أنتَ لي رُوحٌ وعالَمٌ، فما نَفعي بالرُّوح والعالَم؟
أنتَ لي كَنْزٌ، فما نفعي بالكَسْبِ والخُسران؟

1 إشارة إلى الحسين بن منصور الحلّاج الذي أخذ به السُّكر في العِشق كلَّ مأخذ وأدّى به التّصريح إلى حبل المشنقة والحرق.

2 إشارة إلى اختفاء المعلّم شمس الدّين التّبريزيّ لفترةٍ ثمّ عودتُه إلى جلال الدّين والمريدين.

3 – بقوة الخُلود التي تجتمعُ للمتحقّق بالله في بحرِ القُدرة

4 الذين ليسوا أهلًا للاطّلاع على أمرنا

5 – جمالُكَ حين يستقرُّ في الفؤاد، لا يُرى في الوجود بعد ذلك أيَّ قُبحٍ

الهرمسية

الحكمة الهِرمسيّة نور العالم

أَمَــــدَّت حكمــــة الإغريـــق وألهمــــت العـــــرب
وأرْسَت أوّل نظـــرة توحيديّة لفهـــم الوجـــود

ليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده

«خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثّبات. وجوهرُ الكون هو النظـــام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة».
(النصوص الهرمسيّة)

“مقدَّسٌ هو الإلهُ الواحد الذي يريد أن يُعرَف.”، إنّه نصٌّ هِرمسي له ما يُشبهه في الكتب السماوية المقدّسة، وهو جزء من نصوص تعتبر أقدم أنواع الوحي، وأول نظام أفكار قدم شرحا متكاملا – من منظور التوحيد – لحقيقة الوجود والعالم وهو شرحٌ بليغ تحول مع الوقت إلى مصدر إلهام للحكماءُ والفلاسفة والعلماء لدى جميع الشعوب، كما أنّه كان أحد أهمّ أسباب الدّور الكبير الذي لعبته مصر القديمة (الهِرمِسيّة) في تطوّر الفلسفات القديمة، ولاسيّما فلسفة الإغريق وكذلك فسلفة التصوّف الإغريقي ثم المسيحي ثم الإسلامي.
وقد بقيت “النصوص الهِرمسيّة” المعروفة بالتسمية اللاتينية (Corpus Hermeticum) لزمن وديعة الحكمة المصرية القديمة؛ حَرِص المصريون القدماء على حفظها في حِرْز حريز وعدم البَوْح بمضامينها إلاّ لِمن تأكدت أهليته، وكانت معابد المصريين لذلك عوالم مغلقة لأجيال، قبل أن تبدأ تلك الحصون الفلسفية بفتح بعض أبوابها لرواد وطلبة الحكمة من الإغريق الذين بدأوا يتوافدون على مصر لتحصيل الحكمة المكتومة، والمصانة إلاّ على أهلها، ثمّ وعن طريق الإغريق، وحركة النقل الإسلامية انتقلت إلينا هذه الحكمة باللّغة اليونانية في صياغة تعود إلى القرون الأولى للميلاد في مصر، وتحديداً الإسكندرية.
ولا بدّ من القول إنّ النصوص الهرمسية مُوغِلَة في القِدم، وهو ما أثبتته الكتابات الهيروغليفيّة القديمة بعد فكّ شيفرتها واستطلاع أسرارها، حيث وُجِدَت مُدوّنات تعود إلى آلاف السنين استقت منها النصوص الإغريقية الشهيرة التي عُرِفَت أيضاً بـ “المُتون الهِرمسيّة”. فأنَّى تطَّلّع علماءُ الآثار والمِصريّات ظهرت لهم على جدران المعابد والأهرامات نصوصٌ تُنسَب إلى “تحوت”، هِرمس المُثلّث العَظَمَة، أو تشير إليه وتُمجِّده، وهو ما صاغه الإغريق في توليفةٍ “إغريقية – مصرية” (Graeco – Egyptian) لتأمُّلاتٍ عُرفانية هِرمسيّة حول الإله الواحد الأوحد، والعقل المقدَّس والكون والإنسان.
فما هي حقيقة النصوص الهِرمِسيّة وما هو مضمونها الروحي الفلسفي، وأيُّ رسالة تحملها لنا نحن أهل هذا الجيل المعاصر.

في القرنين الأول والثاني الميلاديّيْن، عَمِلَ الإغريقُ على استنباط تعاليم “هِرمس المُثلّث العَظَمَة” من مصادرها المصرية القديمة، وإعادة صياغتها بلسانهم ونهجهم الفكري، وذلك فيما يُسمى “النصوص الهِرمسيّة” (Corpus Hermeticum)، وهي الترجمة اللاتينية التي قام بها مارسيليو فيسينو لمخطوطة أحضرها كوزيمو دي ميديتشي (Cosimo de’ Medici) حاكم فلورنسا الإيطالية العام 1460م، وهي في أربعة عشر فصلاً، وطُبِعَت منها ثماني نسخ قبل العام 1500م، ومن ثم اثنتان وعشرون قبل العام 1641م. وقد حُفِظَت هذه النصوص في مدرسة فيلسوف الأفلاطونية المُحدَثة أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) ووُجِدَت نسخة منها من خلال الفيلسوف البيزنطي مايكل بسيلوس (Michael psellus) محفوظة ضمن مخطوطات من القرن الرابع عشر الميلادي. أمّا الفصول الثلاثة الأخيرة في النسخات الحديثة فقد قام بترجمتها لودوفيكو لازاريلي Lodovico Lazzarelli (بين عامَي 1447 و 1500) المعاصر لفيسينو على نحو مستقل؛ نقلاً عن مخطوطة أخرى. وقد نُقّحَت هذه النصوص مقارنةً بمخطوطات أخرى نُقِلَت عن اللّغة العربيّة.

مكتبة نجع حمادي
في مقابل ذلك، فإنّ قِدَم الفكر الهِرمسي وسبقه طويلا للإرث الفلسفي الإغريقي تأكد بعد العثورُ على نصوص عُرفانية في ما يُسمَّى “مكتبة نجع حمادي” في مصر وتعود إلى القرن الرابع ميلادي، وبدا واضحا مدى تشابهها الكبير مع الحكمة المصرية القديمة من حيث الأناشيد والصيغة التعليميّة الإرشاديّة بين مُعلِّمٍ وتلميذه (هِرمس وأشقليبيوس)، وكُتبت هذه النصوص التي أشارت إلى مدارس الأسرار الهِرمسيّة باللغة القبطيّة.

الهِرمسيّة أساس الحكمة المصرية
اعتُبرت الحكمةُ الهِرمسيّة الحكمةَ الأوّلية الأساسية وراء “حكمة المصريين” التي تحدّث عنها “سفر الخروج” التوراتي، وكذلك نبّهت إليها محاورات أفلاطون لا سيّما محاورتَي “تيماوس” (Timaeus) و”فايدروس” (Phaedrus) (حيث تحدّث سقراط عن أسطورة “تحيوت”، أو “تيوث” Theuth باليونانية، الذي نُسبَ إليه اختراع الكتابة والحرف وانتشار الحكمة).
ويرى الباحث ستريكر (1949) أنّ نصوص Corpus Hermeticum الإغريقية هي إعادة صياغة للحكمة الهِرمسيّة المصرية. وكان بطليموس الأول سوتر (304-282 ق.م) وابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس (282-246 ق.م) وَعَدا بنشر الأدب السرّي للمصريين القدامى في مصر البطلميّة. ويؤكد ستريكر أنّ “الكوربوس” ما هو إلا نسخة إغريقية عن الفكر الحكمي المصري، فالشكل إغريقي لكنّ المضمون مصري.
وكان الباحثان المختصّان غارث فاودين وجان زاندي ذكرا أنّ جزءاً من نصوص “الكوربوس” يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في حين أوردَ الباحثُ فلندرز بيتريي (1908) أنّ بعض المقاطع تعود إلى كتابات مِصريّة خلال فترة الحُكْم الفارسي، وأنّ معظمها مُستَقى من الفكر الهِرمسيّ السرّي في ما يُسمّى “ماورائيات هرموبوليس (Hermopolis) وممفيس (Memphis) المصريّتَين”، حيث وفَّرت المنبع الأساس للهِرمسيّة البطلميّة (أي في عصر البطالمة في مصر)، وذلك ردّاً على بعض الباحثين الأوروبيين المُغرِضين الذين أرجعوا هذه النصوص إلى مصادر يونانية بل وفارسية ويهودية؛ إنكاراً لاستمداد هذه النصوص من التراث العرفاني المصري الهِرمسيّ القديم.

“الهِرمِسيّة دخلت الفكر الأوروبي في القرون الوسطى عن طريق الترجمات من الّلغة العربيّة”

دين العقل
الحكمةُ المِصريّة التي تتّبع “نهج هِرمس”، على حدّ قول الفيلسوف الإغريقي أيمبليخوس في كتابه “حول أسرار المصريين”، هي لاهوتية وفلسفية في آن وهذا الدِّين الإغريقي-المِصري الذي سادَ في فترة حُكم البطالمة لمِصر قبيل ظهور المسيحية، يضرب جذوره عميقاً في تقليد الأسرار المِصريّة القديمة، وتبدّى ذلك في النسخة الإغريقية للهِرمسيّة العريقة التي اتّسمت بكونها وِفقَ الوصف الإغريقي “دين العقل”.
أمّا الهِرمسيّة الهيلّينيّة العقلانية فصمدت على مر القرون لتُطلِق شرارة عصر النهضة في أوروبا، وتطوُّر العلوم، والفكر الإنساني كَكُلّ. وكان العالِم إسحق نيوتن يؤمن بوجود عقيدة لاهوتية قديمة نقيّة لا تزال تحتفظ بقيمتها، قام بدراستها بعناية لتساعده على فهم العالم المادي. وهو يُورِد في العديد من مخطوطاته مدى عكوفه على دراسة نصوص Corpus Hermeticum الهِرمسيّة المتناقلة منذ الأزمان الغابرة.

محبّة عقلانية وعُرفان
مّهَّدت الهِرمسيّة الفلسفيّة الطريق بروحيّةٍ تأمُّلية وصوفية إلى “محبّة عقلانية للواحد” تماماً كما يصف هذه المحبّة لاحقاً في القرون الوسطى الفيلسوفُ سبينوزا (Spinoza).
و”العرفان” (Gnosis) في الهِرمسيّة الإغريقية، وهو سرٌّ يتناقله الخاصة بالمفاتحة الرُّوحيّة، هو إشراقٌ يأتي نتيجة النشاط المّعْرفِيّ، والتأمُّل الفكري، والتطهُّر المَسلَكِي. لذا فإنّ هذه النسخة الإغريقية من الهِرمسيّة، لا سيّما الإسكندرانيّة منها، “لم يكن لها طقوسٌ ولا كهنة ولا مراسم، بل هي جماعة” تتآلف بهذا الفكر الفلسفي والوَجْد الرُّوحي وتبجيل “كلمة” الإله الواحد الخلّاقة المقدّسة1
وهذا الإثبات الوجودي الفلسفي للنسخة الإغريقية من الهِرمسيّة؛ يؤمِن بثلاثة أوجه للحقيقة: الإله الواحد، وعالم الكائنات العُلوية، والإنسان وما حوله من وجودٍ مادي ومخلوقاتٍ حيّة، وكلُّ ما في الكون “مرآةٌ” تسمح لنا بِلَمْح تبدّياتٍ للجمال الإلهي. والإلهُ الواحد هو خالقُ كلّ الوجود ومُتَعالٍ عنه وليس هو كلّ الوجود، كما جاء في وحدة الوجود الهندوسية على سبيل المثال، وهو مُتَرفِّعٌ، مُنَزَّهٌ عن “الحُلوليّة”وبالتالي تسعى الهِرمسيّة إلى الارتقاء من المعرفة إلى العِرفان (Gnosis)، ومن المعرفة حول الإله الواحد إلى معرفته هو، وهو جوهر فلسفة فيثاغورس، وهنا نجد تلاقيا وتكاملا بين الفكرَين الهِرمسي والفيثاغورسي.
ولا بُدّ من التوضيح في هذا المقام أنّ بعض الباحثين عَمَدَ، نتيجةً لعدم تضلُّعه بأبعاد المصطلحات اليونانية وجذورها، إلى الخلط بين الكائنات الإلهية العُلوية (Deities) باليونانية وبين الآلهة، فتبدو الفكرة كما لو أنها تتحدث عن تعدُّد للآلهة، وهم لم يُفسِّروها بمعناها الحقيقي أي الجواهر العُلوية أو “الجواهر الأُوَل” أو العِلَل”، وفق المفهوم الأرسطوطاليسي.
وفي الهِرمسيّة، الإنسانُ هو أشرف المخلوقات، تُحفِّزه “شرارةٌ مقدّسة” في داخله، لذا فإنّه في أعماق كينونته كائنٌ مقدّس بالفعل، وهدف التقليد الهِرمسيّ هو إيقاظ الإنسان على حقيقة “كينونته الداخلية”. والخيار الحاسم أمام الإنسان إذاً هو بين العالَم المادي والعالَم الرُّوحاني، بين الجسدي والنفسي. ويُطلَق على إحراز معرفة الذات ومعرفة الحقائق العُلوية هذه وصف “الولادة من جديد” (النصوص الهِرمسيّة، الفصل الثالث عشر)، وهي على نقيض الولادة الجسديّة: تُحرِّر النفسَ ولا تسجنها في أحابيل الجسد، إنّها ارتقاءٌ للنفس خلال الحياة بفضل “نور العقل” الحاضر. وتُفضِي هذه الولادة الرُّوحيّة، بفضل “المُعلِّم الرُّوحاني” العظيم، إلى ترقِّي النفس في معرفة الإله الواحد، فيما يُسمَّى بالنصوص الإغريقية “معمودية بالعقل” وهي تَطهُّرٌ بمعرفة الذات، والتضحية بما هو مادي حِسّي للاطّلاع على الأسرار العقلية أو الرُّوحيّة.
والروحانية الهِرمسيّة الإغريقية تلحظ في مفهوم “خلاص الرُّوح” تصوُّرَ موت رمزي للمُتَهيِّئ روحيّاً، بالنأي عن كلّ ما سبق من معتقدات فاسدة وملذّات حِسّية، والولادة من جديد تنعُّماً بأنوار العقل المقدَّس.
و”العقلُ المقدَّس” هو سيّد العوالم، والمُعيِن الذي يساعد النفس البشرية على التحرُّر من أشراك الجسد المادي، ويجعلها تستنير بنور العرفان. و”المعلِّم الرُّوحي” العظيم الذي يُنير النفس بأنوار العقل المقدّسة، هو تجسُّد لهذا العقل العُلوي، الذي يحتوي على “البذور العقليّة” لكلِّ ما هو موجود ومخلوق (تماماً كما في فكر أفلاطون، وما ردّده لاحقاً سبينوزا). فكلّ ما في الكون هو تبدٍّ لهذا العقل.
وجاء في النصوص الهِرمسيّة: “خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثبات. وجوهرُ الكون هو النظام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة”.

اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية
اسحق نيوتن تأثر بقوة بالكتابات الهرمسية

«إذا ما كانت لك القدرة على أنْ ترى بعينَيّ العقل، عندها يا بُنيِّ، سيتراءى الإلهُ الواحد لك. فالمولى يتجلَّى في الكون، ويمكنك أن ترى صورتَه بعينيك».
(النصوص الهِرمسيّة -الفصل الخامس)

الهِرمسيّة الصُّوفيّة العرفانيّة
إذاً، الهِرمسيّة هي عُرفانية لأنّها ترى إمكانية معرفة الإله الواحد بالاتحاد مع “العقل العُلوي”، وتلقِّي لطافة نور منه تُحقِّق استنارة داخليّة أو “عُرفاناً”. لكن ما لم يتّضح في الهِرمسيّة الإغريقية وهو مسألة التّضادّ أو وجود “وسيط الشر” (Evil Demiurge)، سيتّضِح فيما بعد في “العرفانيّة الأفلوطينية”، فكلّ الخلق خيرٌ وجمال، وإنّما يعود الأمر إلى خيار الفرد وطبيعته وخضوعه لأهوائه وجهله بالميل إلى هذا التضادّ.
وكان كليمُنت الإسكندري على قناعة بأنّ المِصريّين القدماء كانت لديهم اثنتان وأربعون صحيفة مقدّسة تعود إلى هِرمس. وممّا يُلفت الانتباه أنّ المِصريّين كانوا يُقسِّمون بلاد الكنانة إلى اثنين وأربعين إقليماً!
وفي هذا يقول الباحث البريطاني فريدريك غرين (1992) إنّ ثمةَ رابطاً بين الحكمة المِصريّة “الهِرمسيّة “والتعاليم المسيحية والفكر الإسلامي في القرون الوسطى من ناحية العلاقة بين المعرفة العقلانيّة والإلهام والوحي”.
وهذا يكشف دخول المفاهيم الهِرمسيّة إلى أوروبا بعدما نشرتها الترجمات العربيّة، وقد نُقِلَت نصوص هِرمسيّة من العربيّة إلى العديد من اللغات الأوروبية، بدءاً من اللاتينية وصولاً إلى الإنكليزية وتحديداً على يد العالِم الكبير إسحق نيوتن، الذي اعترف بفضل الهرمسية على انطلاقته العلميّة.

الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله
الهرمسيّة اعتبرت الإنسان كائنا مقدسا لأن فيه روح الله

الهِرمسيّات والتّهرمُس في الإسلام
كتبَ المستشرقُ لوي ماسينيون أنّ أهل الكوفة “ اطّلعوا على نصوصٍ هِرمِسيّة” وكذلك أهل البصرة، في إشارة إلى علوم وفلسفة “إخوان الصفاء”، في حين أنّ الفيلسوف هنري كوربن (Henry Corbin) تحدّث عن “التّهرمُس” في الإسلام، وأنّ الإسلام “عرفَ الهِرمسيّة قبل أن يعرف قياس أرسطو وماورائياته”.
ولفتَ الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى تأثير الهِرمسيات على التصوُّف الإسلامي وذلك من طريق ذي النون المصري (المتوفى عام 859 ميلادي) والذي شُهِرَ عنه انشغاله بالكيمياء أو الخيمياء الهِرمسية.
ويتحدّث معظم المؤرّخين العرب القدامى عن هِرمِس بأنّه نبي الله إدريس، وأنّه المذكور في التوراة باسم أخنوخ، وأنّه هو الذي بنى الأهرامات. ونجد تأثير الهِرمسيّة على التصوُّف الإسلامي في ما يُسمَّى “رسالة هِرمس في زجر النفس”، المعروفة ضمن إرث الأفلاطونية المُحْدَثة، وهي عبارة عن مناجاة للنفس وتأنيبها ودعوتها للتطهُّر والتقديس، أشبه بمناجاة الصّوفيّة وأشعارها، ونلمس مدى هذا التأثير أيضاً في كتاب “في مسالك العرفان على خطى هِرمس الهرامسة” للمعلّم كمال جنبلاط.
ويشير الباحث البروفيسور تشارلز بورنيت في هذا الصّدد إلى أنّ النصوص اللاتينيّة الأولى حول الخيمياء تمّت ترجمتها من العربيّة إلى اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، في كتابَين كما وُجِدَت نصوص خيميائية باللغتين العربيّة واللاتينية تحمل كتابات ورموزاً سرّية. وبذلك تكون النصوص الهِرمسيّة بانتقالها عبر الفكر الفلسفي الصُّوفي العربي وانتشار أصداء هذه التعاليم في أوروبا وراء انطلاق “عصر النهضة”، أكثر من التأثير الذي أحدثه سقوط القسطنطينيّة وانتقال علمائها إلى أوروبا.
وعظمة هِرمِس أقرَّ بها أساطينُ النهضة الأوروبية أمثال: إسحق نيوتن، وكوبرنيكوس، وروجر بايكون، وليوناردو دافنشي، وكذلك توماس مور، ووليم بلايك، وحتى شكسبير، وجميع قادة الإصلاح الديني، وعالِم النفس الشهير كارل يونغ. وأينما حَلّت الهِرمسيّة ومهما كانت حِلَّتُها، تطوّرت العلوم وازدهرت الثقافة والحضارة، من مكتبة الإسكندرية إلى حرّان، وثابت بن قُرّة وقومه الصابئة الذين اعتبروا هذه النصوص كتاباً مقدّساً مُنزَلاً؛ هي صحف هِرمس، وصولاً إلى بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، ومن ثم إلى قلب أوروبا إلى أحضان العُرفانييّن في فلورنسا حيث انطلقت شرارة النّهضة الأوروبيّة بفضل العقلانيّة الهِرمِسيّة.

مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة
مثل هرمس اهتم فيثاغورس كثيرا بقوانين الفيزياء والطبيعة

تسبيح من هِرمِس المثلّث العظَمة
“وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ .لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل.”

الوجه الإنساني للتجلّي الإلهي
وجاء الفكرُ الإغريقي في الإسكندرية ومصر ليُعيد “الوجه الإنساني الهِرمسيّ الأصيل” للتجلّي الإلهي، وهنا يشير الباحث “ميد” الذي قام بترجمة النصوص الهِرمسيّة من اللاتينية إلى الإنكليزية، إلى أنّ الفكر الهِرمِسيّ المُتَنَاقل عبر الأجيال إنّما يُبجِّل جمالَ وكمالَ الهيئة البشرية أو الصورة البشريّة.
وتحثّ النصوص الهرمسية على لسان هِرمس متحدِّثاً إلى تلميذه تات Tat)، على التفكُّر في الخلق الإلهي؛ في الشمس والقمر والنجوم، والنظام الذي يعمّ الكون، والسّماوات والبحار والأفلاك الدوّارة، وفي خلق الإنسان في الرحم، كلّ هذا يدلّ على وجود صانعٍ خالقٍ مُدبِّرٍ، “هو الإلهُ الواحد فوق كلّ الأسماء، غير المتجلِّي، ومع ذلك يتجلّى ويتراءى للعقل” المتيقّن (المقاطع 3، 5، 6، 10 من الفصل الخامس).
وتؤكّد النصوص بنَفَسٍ توحيديٍّ، ولو غشّاه وشاحٌ من الغموض التأمُّلي، أنّ الإلهَ الواحد “ثابتٌ صَمَدٌ، ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها. لا يشوبُه نقص. هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً. هو الحقّ كما أنّه المُطلق الأكمل الأسمى. لا تُدرِكه الحواس. ولا تُدرِكُه المعرفةُ مهما عَظُمَت”.
ويبتهلُ هِرمس إلى الإله الواحد قائلاً في تسبيحٍ صوفي عُرفاني: “وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ … لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل..!”
بيدَ أنّ هذا العرفان الذي نعِمَت به مِصْر في أدوارٍ من التاريخ، كان له في كلّ دورٍ نهاية مؤسِفَة. ففي النصوص الهِرمسيّة “نبوءةٌ” مُحزِنَة، فمصر “الحبيبة التي كانت مقرّاً للرُّوحانيات، سيأتي زمنٌ لا يسعى أحدٌ فيها إلى الحكمة، وسيسود الجهل، وستصبح مُوحِشَة، وسيغيب عنها الإله.

حــــوار حــــول حقيقــــة الكــــــون
بين هِرْمِس وتلميذه أشقلبيوس

الله ليس العقل بل مُعِلّ العقل وهو الخير٫ والخير يعطي الأشياء كلَّها ولا يأخذ منها

في ما يلي نبذة من النصوص الهِرمسيّة تمثّل حواراً بين هِرمس مُثلّث العَظَمَة وتلميذه أشقلبيوس:
هِرمس: كلّ ما هو متحرّك يا أشقلبيوس، أَلا يتحرّك بواسطة شيء آخر؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وألا يجب أن يكون ذاك الذي يُحرِّك، أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: لا بدّ أن يكون كذلك.
هِرمس: والمُحرِّك هذا، أليسَ له قوة أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: بالطّبع.
هِرمس: أضِفْ إلى ذلك، إنّ طبيعة الوسط الذي يتحرّك فيه المُتحرِّك، أليست مختلفة تماماً عن طبيعته؟
أشقلبيوس: حتماً، مختلفة بالكامل.
هِرمس: أليسَ هذا الكون شاسعاً حيث لا يُضاهيه في الاتساع جسمٌ أعظم؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وهائل أيضاً إذ إنّه يكتظ ويزخر بأنظمة عظمى أخرى في داخله.
أشقلبيوس: إنّه كذلك.
هِرمس: ومع ذلك، فإنّ الكون جسم.
أشقلبيوس: نعم، إنّه جسم.
هِرمس: وهو جسمٌ متحرّك.
أشقلبيوس: بكلّ تأكيد.
هرمس: فبأي حجم ينبغي أن يكون الفضاء الذي يتحرّك فيه وبأي طبيعة، ألا ينبغي أن يكون أكثر اتّساعاً (من الكون) كيما يفسح مجالاً للحركة المستدامة،
ولا يقيّد المُتحرِّك فيفقده حركته؟
أشقلبيوس: أجل أيُّها المُعظَّم، وأضخم اتّساعاً.
هرمس: وأي طبيعة له، ألا ينبغي يا أشقلبيوس أن تكون نقيضة تماماً، أليسَ نقيض الجسد ما هو غير مجسَّد؟
أشقلبيوس: موافق على هذا.
هرمس: الفضاء إذاً غير مجسَّد… وأكثر من ذلك، كلّ ما هو مُتحرِّك فإنّما يتحرّك بالثابت، وذاك الذي يُحرِّك هو بالطبع ثابت مستقر من المحال أن يتحرّك.
أشقلبيوس: فكيف إذاً، يا مُثلّث العَظَمَة، تتحرّك الأشياء هنا في الأسفل من قِبَل متحرّكات أخرى؟ إذْ إنّك قد قلت إنّ الأفلاك المتحرّكة تُحرِّكها الأفلاك الثابتة.
هرمس: هذا ليس تحريكاً من قِبَلها يا أشقلبيوس، بل تحرّك تجاه بعضها البعض، إنّه هذا التضاد، هو الذي يُحوِّل مقاومة حركتها إلى استقرار، حيث إنّ تلك المقاومة هي استقرار للحركة. وهنا أيضاً فإنّ الأفلاك المتحرّكة لكونها تتحرّك معاكسة للأفلاك الثابتة، فإنّها تتحرّك معاكسة لبعضها البعض، بشكلٍ متبادَل غير التضادّ عينه. ومجموعات الدّبَبَة في السماء (الدب الأكبر والدب الأصغر) والتي لا تطلع ولا تغيب، ما تظنُّ بها، هل تستقرّ أم تتحرّك؟
أشقلبيوس: إنّها تتحرّك يا مُثلّث العَظَمَة.
هرمس: وما هي حركتها يا أشقلبيوس؟
أشقلبيوس: تلك الحركة التي تلتف دائرة إلى الأبد.
هرمس: لكنّ الدوران، الحركة الدائرية حول محور واحد، هو ثابت بالاستقرار،
إذ إنّ الدوران حول محور واحد يُوقِف الحركة التي تتجاوز هذا المحور، فتصبح ثابتة، والعكس يبقى راسخاً أيضاً بفعل التضاد أيضاً. وسأضرب لكَ مثلاً هنا على الأرض ممّا تشاهده العين، رجلٌ يسبح، الماء يتدفّق ومع ذلك فإنّ مقاومة يديه وقدميه تُعطيه ثباتاً، فلا هو ينجرف معها ولا هو يغرق أيضاً.
أشقلبيوس: لقد قدّمت مِثالاً جَلِيّاًّ، لكن أيُّها المُعظَّم؛ ماذا نُسمِّي إذاً الحيّز الذي يتحرّك فيه الكلّ؟
هِرمس: “غير المجسَّد” يا أشقلبيوس.
أشقلبيوس: وما هو الإله إذاً؟
هِرمس: ليس هو كذلك، إنّما هو مُعِلٌّ لكلّ تلك الأشياء، ومُسبِّب وجودها، وليس ثمّةَ وجود من دونه.
أشقلبيوس: فماذا تقول عن الإله؟
هِرمس: الله إذاً ليس العقل؛ بل مُعِلّ العقل، وليس هو الرُّوح بل مُعِلّها، وليس هو النُّور إنّما هو مُعِلّ النور، لذا يجب أن نُمجِّد الله بهذَين الاسمين: الخير والأب، اسمين يختصّان به وحده وحسب. فليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده. وتبرز عَظَمة الخير الكبرى كمُوجِد للموجودات، المُجسَّدة وغير المُجسَّدة منها، المحسوسة والمُدرَكة، فلا تدعُ خيراً بعد الآن سوى الله؛ وإلا ستكون جحوداً، ليس ثمّةَ شيء يُدعَى خيراً في أي وقت كان سوى الله وحده، ادْعُهُ خيراً، ولن تكون جاحداً به أبداً بعد اليوم.
ورغمَ أنّ الجميع ينطِقون بالخير فإنّهم لا يفهمونه، وبذلك فَهُم لا يفهمون الله لجهلهم الخير وعجزهم عنه، إنّهم يختلفون تماماً عن الله، فيما الخير لا يتميّز عنه أبداً. لذلك فإنّ طبيعة الإله والخير واحدة. الخير هو الذي يُعطي الأشياء كلّها ولا يأخذ منها. والله إذاً هو الذي يعطيها ولا يأخذ أيضاً، فالله هو الخير والخير هو الله.

يوثيديموس

يُوثيدِيموس

سقراطُ يَدحضُ السّفسطائيّين

سقراط
لو اكتشفنا كيف نحوّل الحَصى إلى ذهب فإنّ هذه المعرفةَ
لن تكونَ لها أيُّ قيمة إنْ لم نكن نعلمُ كيف نستخدمُ الذّهب

تعتبر محاورة يوثيديموس التي كتبها أفلاطون في العام 384 قبل الميلاد واحدة من عدّة أعمال أعدّها في تلك الفترة بقصد التّصدي للمدّ السّفسطائي الذي كان قد انتشر وبدأ يعيث فساداً في الحياة العامّة وفي الثّقافة الأثينيّة التقليديّة. ومن المحاورات التي خصّصها أفلاطون للتّصدّي للسّفسطائيّين تلك المسمّاة بروتاغوراس ومحاورة جورجياس ومحاورة هيبياس وغيرها لكنّ محاورة ثيوديموس كتبت في المرحلة الوسطى من أعمال أفلاطون وهي تختلف عن المحاورات السّابقة التي تناولت السّفسطائية في تعامل سقراط السّاخر مع اثنين منهم يصبحان موضوع المحاورة الأساسيّ ويجعل منهما سقراط أضحوكة للحاضرين. وفي هذه المحاورة يبيّن أفلاطون هشاشة الحيل اللّفظية والمماحكات الفارغة التي يستخدمها أتباع هذا النّهج بهدف بلبلة المحاور وإخضاعه وكيف يستخدمان نوعاً من “اللّاأدرية” كدخان مناسب للهرب من تقديم إجابات شافية وتضييع الموضوع. ولهذا الغرض ربّما فإنّ الحوار في يوثيديموس يدور مع اثنين من السّفسطائيين لم ينالا شهرة كبيرة كما نال مؤسّس المدرسة بروتاغوراس ومن بعده جورحياس واللّذين يحظيان في محاورتين لأفلاطون سُمّيتا باسمهما بمعاملة أكثر اعتدالاً رغم الاختلاف معهما في كلّ الأمور تقريباً. وبهذا فإنّ يوثيديموس جاءت ربما في مرحلة استفحل فيها أمر السّفسطائيّين لكن مع تدهور شامل في مضمون دعوتهم لصالح المهارات الكلاميّة والأحابيل الجداليّة، وهو أمر غالبا ما يحصل في كلّ تيار إذ يكون في عزّه في ظلّ المؤسّسين الأقوياء والأفذاذ لكنّه ينتقل من بعدهم إلى فريق واسع لا يتمتّع بأيٍّ من المواهب التي توافرت لمن سبقهم وهو ما يعجل في التّداعي التّدريجي لذلك التيار الفكري الذي يفقد لا محالة ثقة النّاس واحترامهم.

إن مقارنة الحوار بين سقراط والسّفسطائيين الأوائل مثل بروتاغوراس وجورجياس بالحوار الذي أورده أفلاطون في يوثيديموس كاف لوحده لإظهار التّبدل الكبير الذي حصل للسّفسطائية في مدة قصيرة نسبيّاً من الزّمن. وبسبب هذا التّبدّل أو التّراجع في مصداقية تلك المدرسة نرى سقراط على غير عادته ينحو منحى الهزء والسّخرية المبطّنة في الحوار مع بطلَيّ المحاورة السّفسطائيّين يوثيديموس وشقيقه ديونيسودوروس. وقد ظهر الاثنان للقارئ كمثال سيّىء عن المنهج السّفسطائي وبدا واضحاً قدر التّخريب الذي باتت تلك المدرسة تحدثه في النّسيج الأخلاقي والفكري للمجتمع الإغريقي. وبالطّبع وبسبب غرابة منطق الرّجلين وأسلوب المماحكة بل اللّامنطق الذي يلجآن إليه في محاولة لكسب الحجّة، فإنّ سقراط لم يجد أيّ صعوبة في كشف هشاشة منطقهما للمشاركين الآخرين في المحاورة.
ومن أجل فهم خلفيات هذه المحاورة المهمّة (والطويلة نسبيّاً) لأفلاطون سنحاول أوّلاً إعطاء وصف موجز لمدرسة السّفسطائيّين مع مقارنتها لاحقاً بالمنطق الجَدليّ لسقراط الحكيم في تعليمه للشّبيبة ولكلّ من كان يأتي إليه طلباً للمعرفة.

من هم السّفسطائيّون
عُرِف السّفسطائيّون بالدّرجة الأولى باعتبارهم معلّمين محترفين، ذاع أمرهم في النّصف الثّاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وكانوا ينتقلون بين المدن الأثينيّة ويعرضون خدماتهم في تعليم الشّباب الإغريق من أبناء الطّبقة الثريّة مقابل أجر، وكان الغرض من تعليمهم مساعدة الشّباب على الترقّي في المناصب أو كسب الحجّة في المحاكم أو دخول مجال الخطابة والسّياسة. وبالنّظر لأنّ السّفسطائيّين لم يهتمّوا بالعلم ولا بالفلسفة بل بالجدل وفنّ المناظرة والبلاغة الكلاميّة واستخدام هذه الفنون في قهر الخصم وكسب الحجّة أو المسألة فإنّ المرداف الأقرب لتعليمهم هو ما نسمّية “الدّيماغوجيّة”. لقد تخصّصوا في فن “الإقناع” وتخريج أشخاص لديهم من حيل البلاغة وقوّة اللّغة ما يمكنهم من تشويش الحقائق وبلبلة الخصم وضعضعته. ادّعى السّفسطائيّون أنّ هدفهم بدل تعليم الفلسلفة والشؤون النّظرية هو مساعدة شباب الأسر الثريّة على النّجاح في حياتهم العمليّة والارتقاء في الحقل العامّ أو المهن وهو ما يمكن تشبيهه اليوم بدورة للتّدريب على القيادة.. وبسبب توجّه الحياة في أثينا نحو الرّخاء والثّراء المادّى أو السّلطة فقد لقيَ السّفسطائيّون إقبالاً واسعاً واشتهر الكثير منهم وحقّقوا مكانة وثروات كبيرة.
لكنّ تعليم السّفسطائيّين كان في الوقت نفسه بمثـابة نكسة أخلاقيّة وفكريّة كبيرة لأثينا والمدن اليونانيّة التي كان التّعليم فيها قبل السّفسطائيّين متركّزا على اكتساب الفضائل وقيم الأرستقراطية وخصال المحاربين الأبطال مثل الشّجاعة والقوة البدنيّة والشّهامة. وكان لنشوء الدّيمقراطيّة الأثينيّة وحالة السّلم والرّخاء دور كبير في هذا التّحول إذْ باتت الحاجة أقوى لدى الناس للترقّي الاجتماعيّ عبر قوّة الحجّة والحضور الشّخصي والبراعة في الإقناع والتّأثير على النّاس بالخطابة. ومن أبرز ممثلي المدرسة السّفسطائية بروتاغوراس وجورجياس وأنتيغون وهيبياس وبروديكوس وثراسيماخوس. وقد أقلق صعود السّفسطائيّين بشدّة الحكيم سقراط وتلميذه أفلاطون وقد خصّص الأخير عدداً من محاوراته لدحض الفكر السّفسطائيّ وإظهار فساده وخطره على المجتمع الإغريقي. وحمل العديد من تلك المحاولات أسماء السّفسطائيين المذكورين.
لذلك فإن الهدف الأوّل لأفلاطون من هذه المحاورة هو إظهار التّعارض الأساسيّ بين مفهومين لـ “المعرفة”: مدرسة السّفسطائيّين التي تقوم على الجدل وفن البلاغة وكسب الحجّة بأيّ أسلوب ومدرسة سقراط التي تقوم على المعرفة من خلال البناء المنطقيّ أو الديالكتيكي للحوار بهدف التوصل إلى المعرفة أو الحقيقة.
يعرض أفلاطون محاورة يوثيديموس ليس كحوار بين أشخاص المحاورة -كما يفعل في المؤلّفات الأخرى- بل على شكل رواية يقصّ سقراط وقائعها على صديقه كريتو وهي تتناول جلسة مع السّفسطائيَّين يوثيديموس وديونيسودوروس حضرها بنفسه مع جمع من الشبّان. وأفلاطون هنا لا يريد أن يعطي لهذين الشّخصين صفة المحاورين، لأنّهما حسب تقديره لا يستحقّانها وهو ما سيتّضح لاحقاً من خلال عرض مُجْريات “المحاورة”. .
يبدأ كريتو صديق سقراط بالسّؤال عن اؤلئك الأشخاص “الغرباء” الذين كان سقراط يتحادث معهم في اللّيسيوم وهو مكان للاجتماعات العامّة في أثينا القديمة. ويجيب سقراط بالقول أنهما “أُخرِجا” من المدينة التي كانا فيها ثم وجدا طريقهما إلى الديار الأثينيّة، وهذا الكلام يشير إلى العداء الذي كان عامّة الناس بدأوا يظهرونه للسّفسطائيين والذي كان يصل إلى حدّ سجنهم أو حتى قتلهم أو طردهم. لكنّ السّفسطائيين بدأوا مع ذلك يستفيدون من مناخ الديمقراطيّة اليونانية ويجولون في المدن عارضين خدماتهم لتعليم نهجهم في الجدل وكسب الحجّة. ويتّضح أنّ الرّجلين (يوثيديموس وديونيسودوروس) غريبان عن أثينا من قول كريتو لسقراط إنّه لا يعرف أيّاً من الرّجلين. ويردّ سقراط بتعريف ذي دلالة للرّجلين فهو يخبر كريتو أنّ الرّجلين لا يتمتّعان فقط بخبرة القتال بالدّروع والسّلاح ولكنّهما ماهران في “حروب القانون” فهما يعلِّمان من يدفع المال لهما كيفيّة سوق الحجّة القويّة أمام القضاء. وهما يمتلكان مهارة خاصّة في “حروب الكلام” لدرجة أنّ في إمكانهما أن يدحضا أيَّ حجّة سواء كانت صحيحة أو خاطئة. وإشارة سقراط الأخيرة تشير إلى علّة أساسيّة في تقنيّة السّفسطائيّين وهي إنهم على استعداد لهدم حجّة صحيحة ومحقّة من أجل كسب حرب الكلام، ولهذا السّبب بالذّات فقد شكّك أفلاطون بالمضمون الأخلاقيّ لتعليمهم واعتبر أنّ همّهم الأساسيَّ هو المبارزة بالحجّة والجدل وليس الوصول إلى الحقيقة أو الفضيلة.
يشرح سقراط لكريتو كيف تمكّن من حضور مجلس هذين السّفسطائيّين وما حصل بعد ذلك من حوار بينهما وبين الحاضرين، وبصورة خاصّة الشابّ كلينياس، الذي حضر بهدف معرفة ماذا يمكن لهذين الرّجلين أنْ يعلّماه. وكلينياس كما يصفه سقراط شابّ حقّق الكثير من التقدّم في المعارف وله معجبون كُثر رافقوه إلى مجلس السّفسطائيَّين. وهذا الوصف يجعلنا نفهم لماذا فشل الرّجلان في إقناع كلينياس بتعليمهما وبنهجهما. علماً أن أفلاطون يعطي حيّزاً مهمّا لحوار جانبيّ بين كلينياس وسقراط ليظهر الفارق الكبير في الطّريقة التي تعامل بها السّفسطائيون مع هذا المريد أو طالب العلم وبين الأسلوب الجَدَليّ المنطقيّ الذي يتّبعه سقراط.
النّقطة المهمّة التي سيبدأ بها سقراط استدراج السّفسطائيّيْن هي سؤالهما عمّا يُعلِّمانه، وهو كان يتوقّع أن يُجيبا بما يعلمه عن خبرتهما في فنّ الجدال والقانون مثلا أو الخطابة لكنّه فوجِئ بقولهما إنّهما “يعلّمان الفضيلة” وهو تصريح خطير في نظر أفلاطون الذي اعتبر أنّ من الجرأة بل الصّفاقة أن يُدليَ سفسطائي مهتمٌّ بكسب المال عبر تعليم المماحكة وقلب الحقائق بهذه الدّعوى، وهذا ما يجعله يعمد إلى عرض الحوار لإظهار كذب الادّعاء وتوضيح حجم الضّرر الذي يوقِعه السّفسطائيون في عقول العامّة وفي انتظام المجتمع والفضيلة.
يوثيديموس السّفسطائي لا يكتفي بادّعاء تعليم الفضيلة بل إنّه يزيد بالتّأكيد لسقراط أنّه وشقيقه يعلّمانها أفضل من أيِّ إنسان آخر.
صاح سقراط لدى سماعه لهذا الجواب: يا إلهي! أين تعلّمتم هذا الفنّ؟ كنت أظنّ أنّكما تتقنان فنّ القتال بالدّروع والسّلاح فقط ، لذلك أرجو أن تَعْفُوَا عن قلّة أدبي مع أشخاص عظام مثلكما، لكن هل أنتما واثقان فعلاً ممّا تقولان؟
يردّ الرّجلان بتأكيد دعواهما ويضيفان بأنّهما مستعدّان لتعليم الفضيلة لأيٍّ كان يطلب ذلك (وكأنهما يعنيان بذلك سقراط أيضاً). يردّ سقراط بأنّه متحمّس فعلاً للتّعلّم منهما وأنّ هناك أيضاً شباب مثل كلينياس وستسيبّوس ينتظرون للسّماع من الرّجلين.
يتابع سقراط مخاطباً يوثيديموس: ما يهمّني هو أن أعرف إنْ كان في إمكانكما أنْ تقنعا الشّباب الحاضرين هنا أنّ في إمكانهم تعلّم الفضيلة وأنّ عليهم أن يتعلّموها. ويشير سقراط هنا إلى وجود الشّاب كلينياس الذي يخاف عليه أنّ يسير في الطّريق الخطأ نتيجة تأثير بعض النّاس ويهمّه لذلك (على سبيل الجدل) أن يقوم يوثيديموس وشقيقه بأخذه إلى الطريق الصّحيح. بالطّبع سقراط هنا يستدرج الرّجلين وهو عالم بهشاشة منطقهما، لكنّه يريد للمجتمعين أن يلمَسوا ذلك من خلال الحوار نفسه، وهو سيلعب دوراً مهمّاً لاحقاً في هذا السّياق.

بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية
بروتاغوراس أبرز ممثلي المدرسة السفسطائية

أحابيل السّفسطائيين
يبدأ هنا فصل مثير تظهر خلاله الأساليبُ الملتوية للسّفسطائيّة في ميدان المجادلة وما سمّاه سقراط “حروب الكلام”.
وافق يوثيديموس على طلب سقراط تعليم كلينياس لكنّه اشترط على الشّابّ أن يجيب على عدد من الأسئلة.
هنا يتابع سقراط رواية ما جرى لصديقه كريتو وهو يذكر أنّ يوثيديموس بدأ بطرح السّؤال التّالي على كلينياس:
يوثيديموس: أجبني يا كلينياس من الذي يطلب العلم هل هو الرّجل العاقل أم الجاهل؟
أصيب كلينياس بالحَيْرة والصّدمة لهذه البداية، لكنّ سقراط شجّعه على أن يجيب بما يفكّر به ولا يخاف!
هنا انحنى ديونيسودوروس حتى اقترب من أذن سقراط وهمس له ووجهه طافح بنشوة الفوز قائلا: مهما كان جواب الفتى فإنّني أتنبّأ لك يا سقراط بأنّه سيتمّ دحض جوابه”
يورد أفلاطون هذه اللّفتة من ديونيسودوروس ليظهرَ من أوّل الطّريق كذب السّفسطائيين في ادّعاء تعليم الفضيلة، وأنّ همّهم الأوّل هو ربح معركة الكلام وهدم المُحاوِر وليس إسداء خدمة التّعليم والإرشاد؟
أعطى كلينياس جوابه فقال إنّ الذي يطلب العلم هو العاقل.
أجاب يوثيديموس من فوره: هناك من يمكن تسميتهم المُتعلِّمون أليس كذلك؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: وهناك الأساتذة الذين يعلمون الشّباب اللّغة والقواعد أو عزف اللّير أو غير ذلك، وهؤلاء هم الأساتذة وأنتم الطلّاب؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: عندما كنتم طَلَبة في طور التَعلّم فإنّكم لم تكونوا عندها تعلمون شيئاً عمّا تتعلمونه؟
كلينياس : كلّا
يوثيديموس: وهل كنتم عقلاء عندها؟
كلينياس: لا، بالتأكيد
يوثيديموس: لكن إن لم تكن عاقلاً يومها فهذا يعني أنّك لم تكن متعلّماً
كلينياس: بالتّأكيد
يوثيديموس: إذن وبما أنّك كنت تتعلّم ما لا تعرفه فلا بدّ أنّك كنت جاهلاً عندما كنت تتعلّم؟
كلينياس: صحيح
يوثيديموس: إذن يا كلينياس الجاهل هو الذي يتعلّم وليس العاقل كما تظنّ!
يكمل سقراط حديثه إلى صديقه كريتو فيذكر له أنّ أتباع السّفسطائيّين هبّوا في تلك اللّحظة في جوقة من الضّحك والتّهليل الحماسيّ ليوثيديموس الذي “سحق” الولد بعد سلسلة من الأسئلة التي تحمل الكثير من المنطق الشّكليّ والحيل الكلاميّة لكن التي تفتقد لأيّ محتوىً نزيه. كأنّ جمهور السّفسطائيّين كان يشهد مباراة في تسجيل الأهداف ربحها رجلهم يوثيديموس.
قبل أن يستفيق كلينياس من الصّدمة أخذ السّفسطائيّ الآخر، ديونيسودوروس بيده برفق وبدأ ما بدا أنّه فصل جديد في محاولة إذلال الشابّ. أمّا الحيلة فهي أن يظهر له ديونيسودوروس أنّ الجواب الذي أعطاه ليوثيديموس وبدا أنّه الجواب الصّحيح هو الخطأ وأنّ جوابه الأوّل الذي سفّهه يوثيديموس هو الصّحيح! وهذا هوتطبيق ما أسرّ به ديونيسيدوروس لسقراط قبل قليل عندما أكّد له بأنّ كلينياس الشابّ سيخسر الجولة مهما كان جوابه (!).
الحوار-الفخّ الذي نصبه ديونيسودوروس لكلينياس جرى كالتّالي:
ديونيسودوروس: أخبرني يا كلينياس ، عندما كان أستاذ اللّغة والقواعد يُملي عليك شيئاً ممّا يعلمه هل كان الأولاد العاقلون أم الجاهلون هم الذين يتعلّمون ما يمليه؟
كلينياس: العاقلون
ديونيسودوروس: إذن العاقلون هم الذين يتعلّمون وليس الجاهلون، وهذا يعني أنّ جوابك الأخير ليوثيديموس كان جواباً خاطئاً.مرّة أخرى. وكما روى سقراط لكريتو هبّ أنصار الرّجلين جَذلِين بالأسلوب الذي خَيّب فيه ديونيسودوروس الشابّ المسكين كلينياس مجدّداً.
أخذ يوثيديموس ناصية الحديث مع كلينياس وسأله: هل أولئك الذين يتعلمون يأخذون أشياء يعلمونها أم أشياء لا يعلمونها؟
وهنا -يقول سقراط – انحنى ديونيسودوروس باتّجاهه ليُسِرَّ في أذنه مجدّداً أنّ الأمر سيتكرّر أي أنّ كلينياس سيخسر الجولة مهما كان جوابه!
كلينياس: الذين يتعلّمون يتعلّمون الأشياء التي لا يعلمون عنها
يوثيديموس: أليست لك معرفة بالأحرف؟
كلينياس: نعم
يوثيديموس: كلّ الأحرف؟
كلينياس: كلّها.
يوثيديموس: إذن أنت لا تتعلّم كلّ ما يُملي الأستاذ بل الذي لا يعرف الأحرف هو الذي يتعلّم
بعد يوثيديموس تدخّل ديونيسودوروس ليبدأ جولة جديدة من هذه التّرّهات مع الشابّ الذي بدا عليه الضّيق أكثر فأكثر، وحسب سقراط بدا الشابّ مثل كرة يتقاذفها هذان السّفسطائيّان في لعبة مشينة ليس فيها شيء من تعليم الفضيلة بل كلّ ما فيها احتيال بالكلام واللّامنطق وهدف واحد هو تحطيم الطّرف المحاور. وقد ثارت الشّفقة على الشابّ في نفس سقراط وأدرك أنّه بات الآن في حاجة إلى المساعدة.
عند هذه النّقطة في المحاورة، وبعد أن يظهر سخافة الأسلوب السّفسطائي ينتقل أفلاطون ليقدّم حواراً مختلفاً تماماً يجري الآن بين سقراط وبين كلينياس، أي الشابّ نفسه الذي سعى السّفسطائيّان يوثيديموس وديونيسودوروس لإحباطه بمنطقهما الشّكلي الملفّق وأحابيلهما الكلاميّة. وقصد أفلاطون أن يقيم فوراً المقارنة بين أسلوب السّفسطائيين وبين الأسلوب السّقراطي في تربية الشّباب وتوجيهه نحو الفضيلة والسّعادة. من الناحية التقنيّة يبدو وكأنّ الحوار يجري جانباً بين سقراط والشابّ لأنّه يستمرّ لبعض الوقت، ممّا يعني أنّ الآخرين انشغلوا في نقاش آخر ممّا أعطى سقراط الفرصة لكي يحدّث كلينياس.
بادئ الأمر أوضح سقراط لكلينياس أن يوثيديموس وديونيسودروروس كانا يلعبان به ربما على سبيل تدريبه وشد عوده (سقراط يحاول دوماً إلقاء وجه إيجابي على أيّ أمر قبل أن يصل بمحاوره إلى النقطة التي يريد أن يخرج بها). واعتبر سقراط مناورات الرّجلين من قبيل “الرّقص الاحتفالي” حول كلينياس. وأضاف قوله إنّ الرّجلين غير جادّين وأنّهما يستخدمان علمها لنصب الشّراك للنّاس وتضليلهم عبر اللّعب على الكلام. وشبّه سقراط ما فعله السّفسطائيان بمن يسحب كرسيّاً من تحت شخص يهمّ بالجلوس عليها فيسقط الأخير أرضاً، فيغرق هذا في ضحك ساخر من صديقه الذي وقع على قفاه. وهذا التّشبيه الأفلاطوني لفعل السّفسطائيين فيه إدانة شديدة واتّهام لهم بسوء الأدب والرّعونة في التّصرّف.
ثم يبدأ سقراط هذا الحوار مع كلينياس يبدأ بسؤاله أولا: أليس ما يسعى إليه جميع الناس هو السعادة
كلينياس : لا يوجد إنسان على الأرض لا يسعى إلى السّعادة.
سقراط: بما أنّنا نسعى جميعاً إلى السّعادة فكيف نكون سعداء؟ ألا نكون سعداء إذا كان لنا العديد من الأشياء الجيّدة؟
كلينياس: بالتّأكيد
يسأل سقراط بعدها إذا كانت الصّحّة مثلا سبباً للسّعادة، وكذلك اليُسر أو الثّروة أوالوسامة أو الجمال وعلى كل هذه الأسئلة يجيب كلينياس بالإيجاب. يضيف سقراط عوامل مثل الأصل الشّريف والسّلطة وعُلُوّ المقام في وطن الإنسان كأسباب إضافية للسّعادة فيوافق كلينياس أيضاً.
سقراط: لكن ماذا تقول في اعتدال المزاج والشّجاعة والعدل، ألا يجب يا كلينياس أن نضيف هذه القيم إلى خانة الأمور الحسنة أي التي تعطينا السّعادة؟
كلينياس: بالتّأكيد
سقراط: فكّر يا كلينياس إذا كنا قد نسينا سبباً يحقق السّعادة أيضاً.
كلينياس: (بعد تفكير) لا أظنّ أنّنا نسينا سبباً وجيهاً من أسباب السّعادة
سقراط: لقد نسينا أهمّ سبب وهو حُسْنُ الطالع أو التوفيق. إنّ أبسط النّاس يعلمون أنّ التوفيق هو أهم سبب من أسباب السّعادة.
يوافق كلينياس على اقتراح سقراط، لكنّ الأخير يفاجئه بأنّ موافقته هنا في غير محلّها لأنّ كل ما ذكر من أسباب السّعادة قبل ذلك هي التّوفيق بعينه وحُسن الطالع، وبالتالي لم يكن ضروريّاً أن يذكر حُسن الطالع لأنّ في ذلك تكرار للأمر نفسه.
بعد ذلك سيُبيِّن سقراط لكلينياس أنّ الحكمة هي التي تجلب التّوفيق للمرء لأنه بفضل الحكمة فإنّه لن يضلّ المرء أبداً، وسيقوم بعمله جيّداً ويحقّق النّجاح. على هذا الأساس يبيِّن سقراط لكلينياس أنّ من يمتلك الحكمة لا حاجة له بحُسن الطالع أو الحظ.
يُذكِّر سقراط كلينياس بما كان قد بدأ به حديثه حول السّعادة وكيف تنجم عن امتلاك الأشياء الحسنة ، ثم يسأل الشّاب: هل تأتي السّعادة من امتلاك أشياء حسنة لا نستفيد منها أم من امتلاك أشياء حسنة نحقق فائدة منها؟
كلينياس: من أشياء نحقق فائدة منها.
سقراط: وهل نحقّق أيَّ فائدة منها إن لم نستخدمها؟
كلينياس: بالتّأكيد لا
سقراط: إذن أيّ إنسان سعيد لا يكفيه أن يكون لديه أشياء حسنة بل عليه أن يقوم باستخدامها.
هنا يبين سقراط أنّ المقصود هو استخدام الأشياء بالحقّ لأنّ استخدام الأشياء التي نمتلكها بالباطل هو أسوأ من عدم استخدامها، لأنّ الأوّل يفعل الشّرّ بينما الثاني لا يفعل خيراً ولا شرّاً.
سقراط يسأل بعد ذلك: أليست المعرفة هي التي توجِّهنا لاستخدام الأشياء الحسنة التي بين يدينا والعناية بها؟ وهو يبين لكلينياس أنّ المعرفة هي التي تعطي المرء ليس فقط التّوفيق بل أيضاً النّجاح. كما أنّه يظهر للشابّ أنّ الحكمة هي الخير الوحيد الذي يتحصّل للإنسان وليس الممتلكات، وأنّ الجهل هو الشرّ الوحيد الذي يصيبه. بناء على ذلك فإنّ كلّ إنسان عليه واجب تحصيل ما أمكنه من الحكمة قبل التّفكير بتحصيل المال وأنّ عليه أن يطلب الحصول عليها من أب أو من معلّم أو صديق سواء كان مواطناً أم أجنبيّاً.
هنا يثير سقراط نقطة تشكل مفترق خلاف أساسيّ مع السّفسطائيّين وهي أنّ الحكمة يمكن تعليمها ولا تأتي بصورة عفويّة للإنسان. على هذه النّقطة يسارع كلينياس للموافقة مؤكّدا لسقراط أنّه يؤمن بانّ الحكمة يمكن تعليمها، وهذا ما بعث السّرور في نفس الأخير.

أفلاطون الحكيم
أفلاطون الحكيم

سقراط يتحوّل لفضح السّفسطائيّين
بعد إعداد كلينياس وتوضيح الأمور له أخذ سقراط يمهّد لجولة مواجهة مع السّفسطائيَّيْن اللّذَيْن بدآ بمحاولة هدم معنويات الشابّ وإظهار تفوّقهما بحيل كلاميّة. سقراط أوصل كلينياس إلى أنّ كلّ امرئ يهدف إلى السّعادة، وأنّ السّعادة تأتي من الحكمة ومن المعرفة بكيفيّة التّعامل مع الأشياء، مثل الثّروة أو المهارات المختلفة. والأهمّ أنّ الحكمة أو المعرفة يمكن أن تتأتّى بالتّعليم. وفي هذا التّأكيد الذي أوصل سقراطُ كلينياسَ إليه تمهيد مهمٌّ للمواجهة لأنّ السّفسطائيّين لا يعتقدون بأن الحكمة أو المعرفة يمكن تعليمها.
توجّه سقراط هنا إلى الأخَوَيْن يوثيديموس وديونيسودوروس وقال:
أوَدّ أن أعلم رأيكما في ما إذا كان على هذا الشاب (كلينياس) امتلاك المعرفة كلها أو أن هناك نوعا من المعرفة يمكن أن يجعله صالحا وسعيدا وما هي تلك المعرفة في هذه الحال؟ وكما أوضحت سابقا فإننا نعلق أهمية كبيرة على أن نعطي هذا الشاب المزيد من الحكمة والفضائل.
على هذا السؤال البديهي كان جواب ديونيسودوروس صادما فعلا . فهو سأل سقراط: هل أنت جادّ في هذا السؤال أم إنك تمزح؟
أجاب سقراط: نحن جادّون تماما
ديونيسودوروس: أي أنكم ترغبون فعلا في أن يتعلّم كلينياس الحكمة؟
سقراط: بالتّأكيد

ديونيسودوروس: أليس كلينياس حكيماً بعد؟
سقراط: نحن نتمنّى أن يصبح كذلك وأن لا يكون جاهلاً.
ديونيسودوروس: أيّ أنّكم تريدون منه أن يكون ما ليس هو
دهش سقراط لهذا التّفلسف. لكن ديونيسودوروس أكمل منطقه الأعوج بالقول: أنت تريد من كلينياس أن يكون إنساناً آخر غير كلينياس أي أنّك تريد منه أن يموت؟
هذا الجواب من ديونيسودوروس فجّر الوضع إذْ هب ستسيبّوس وهو صديق حميم لكلينياس غاضباً مخاطباً السّفسطائيّ بالقول: لولا واجب الأدب أيّها الغريب لكنتُ قلتُ لك: ليذهبْ بك الطاعون! ما الذي يجعلك تردّد مثل هذه الأكاذيب عني وعن الآخرين.
أخذ يوثيديموس الحديث ليسأل ستسيبّوس: وهل تعتقد أنّ بإمكان إنسان أن يقول كذباً؟ ويبدأ نقاشاً طويلاً آخرَ لا يقلّ عقماً عن الحوارات السّابقة، لكن يظهر من خلاله مدى اعتماد السّفسطائيّين على المماحكة والجدل اللّامنطقي من أجل كَسب جولة النّقاش ستسيبّوس الذي يتمتّع بثقافة وبشخصيّة نقديّة وصراحة ردّ على يوثيديموس بالقول: ماذا تعني بقولك هذا يا يوثيديموس؟ لقد كنت أُدْهَشُ دائماً وأنا مندهشٌ الآن لسماع هذه المقولة التي تردّدها والتي استخدمها تلامذة بروتاغوراس وآخرون قبلهم، إنّها تبدو لي فكرة رائعة وانتحاريّة كما هي مدمّرة وهي قولكم: “لا يوجد شيء اسمه الكذب” لأنّ المرء إمّا أن يكون صادقاً في قوله أم ان يكون كاذباً. وأنا أسألك يا يوثيديموس: هل أنت جادٌّ في قولك أنّه لا يوجد هناك جهل أم أنّك تستخدم القول على سبيل المثال أو المجاز.
يوثيديموس: فلتدحض هذه المقولة إذن.
ستسيبّوس: كيف تطلب منّي أن أدحض قولك وأنت القائل بأنّه لا يمكن لأحد أن يقول كذباً؟!

“سقراط يخاطب السّفسطائيّ يوثيديموس: إنْ لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبـــــرني بحقّ السماء ما الذي أتيــت إلى هنا لتعلِّمه؟!”

الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثة
الليسيوم وهو المكان الذي تجري فيه أحداث محاورة يوثيديموس لم يبق منه إلا موقع أثري في أثينا الحديثةال

هجوم مباغت من سقراط
كان جواب ستسيبّوس مفاجئاً ومفحماً للسّفسطائيّ المغرور. وفي هذه اللّحظة قرّر سقراط التّدخّل، موجّهاً الكلام ليوثيديموس.
سقراط: إنّ لديّ فهماً شحيحاً لهذه الأمور المعقّدة وآيات الحكمة التي تأتي بها يا يوثيديموس، وأنا أبذل جهداً لكي أفهم تلك الأمور. لذلك أرجو منك أن تعذرني إن طرحت عليك سؤالاً أحمقَ وهو: إذا كان الكذب غير موجود وإذا كان الرّأي الخاطئ أو الجهل كذلك لا وجود لهما فإنّه لن يكون هناك عمل خاطئ لأنّه لا يمكن للمرء أن يرتكب خطأً في العمل، أليس هذا ما تعنيه؟
يوثيديموس: هذا ما أقصده
سقراط: سأطرح عليك الآن السّؤال: إن لم يكن هناك شيء اسمه خطأ في الكلام أو التّفكير أو العمل إذن أخبرني بحق السّماء ما الذي أتيت إلى هنا لتعلِّمه؟ ألم تَقُلْ قبل قليل أنّ في إمكانك أن تُعلِّم الفضيلة أحسن من أي إنسان آخر لأيِّ شخصٍ يرغب في تعلُّمها؟
هذا السّؤال من سقراط يُعتَبرُ ذروةَ الحبكة الأفلاطونية وهو ولا شكّ النّقطة التي تهاوى عندها مثلَ بيت من الرّمال منطقُ السّفسطائيّين.
ماذا كان ردّ فعل ديونيسودوروس على هذه الصّفعة من سقراط؟
لنسمع كيف أجاب هذا الدّعيّ قال: هل أنت جاهل إلى هذه الدّرجة يا سقراط بحيث تثير الآن كلاماً قلتَه في أوّل الجلسة أوربّما كلاماً قلتَه في العام الماضي؟
أي أنّ هذا السّفسطائيّ لم يجد دفاعاً سوى لَوْم سقراطَ كيف يثير في وجهه كلاماً قاله قبل قليل، “أو قاله السّنة الماضية”! وهذا بالطبع تدليسٌ صريحٌ واستهزاءٌ بعقول الحاضرين كـأن ديونيسودوروس يأخذ بالقول المأثور “كلام الليل يمحوه النّهار” أي لا قيمةَ لأيّ كلام أوموقف فالمسألةُ كلُّها إذن لَعبٌ.
حافظَ سقراط على هدوئه متابعاً المناقشةَ، مضيِّقاً حلقة المنطق عليهم ومظهراً تناقض كلامهم في أيّ أمر يتحدّثون به. وبالطّبع فإنّ هدفَ سقراط لم يكن النّقاش للنّقاش بل لكي يُظهر للشّباب الحاضرين بمن فيهم كلينياس وستسيبّوس هُزالَ منطق هذين الغريبين عن المدينة كما أصبح يسمّيهما، مُسْدِياً بذلك خدمة الحكمة بصورة غير مباشرة للشّبان الحاضرين.
أحد الأمثلة على تهافت منطق الرّجلين كانت مثلاً رفض ديونيسودوروس أن يجيب عن أسئلة سقراط وإصراره أن يجيب سقراط بنفسه عن أسئلته. في مكان آخر يُحرج سقراط ديونيسودوروس في مسألة فيغضب يوثيديموس على أخيه مظهراً له أنّه أعطى بأدائه الضّعيف فرصة لكي يحشرهما سقراط ويظهر فشلهما.
هنا يعيب سقراط على يوثيديموس ضَعف منطق شقيقه، فماذا كان جواب يوثيديموس:
قال بكل صفاقة: وهل تزعم يا سقراط أن ديونيسودوروس هو شقيقي؟!!!
هذه عيّنة أخرى من اللّامعقول الذي ينحدر السّفسطائي إليه عندما يجد نفسه وقد وقع في الشّرَك الذي ينصبه للآخرين وهو سلوك يقترب من السّخف المطلق.
على هذا النوع من الهذر لم يتمالك ستسيبّوس نفسه فخاطب الرّجلين بالقول: أيُّها الغريبان! يبدو لي، وبغض النّظر عمّا تعتبران نفسيكما أنّه لا مانع لديكما أبداً لإطلاق كلام فارغ ولا معنى له!
هنا يدخل سقراط على الخطّ ليقدّم للشّباب المستمعين وصفاً آخرَ ممتعاً لهذين السّفسطائيّين. فيقول: هذان الرّجلان ليسا جِدّيّيْن على الإطلاق، لكنّهما مثل ساحر مِصرَ بروتيوس يستخدمان السّحرَ ليظهرا بصور مختلفة فيصيبا النّاس بالدّهشة والذّهول.
يغتنم سقراط هذه السّقطة المنطقيّة الأخيرة من يوثيديموس ليُظهرَ في المقابل نظرة الحكمة الحقيقيّة لأمرِ الفلسفة ولأسلوب تحصيل الفضيلة والمعرفة وهو يسهم بذلك في إظهار التّناقض بين العبث السّفسطائيّ وبين الفائدة الكبيرة التي تنجم للإنسان من تحصيل المعرفة.
وهو يخاطب كلينياس وستسيبّوس وأصحابهما مُذكّرا بأنّ الجميعّ اتفقوا على أهمّية دراسة الفلسفة باعتبارها طريق تحصيل المعرفة، لكنّه يوضح أنّ المَعرفة المطلوبة ليست أي معرفة بل هي التي تحقّق الخير لصاحبها. وهو يذكر الشّباب هنا بأنّه “لو عرفنا جميع الأماكن التي يوجد فيها ذهب في العالم أو لو وجدنا طريقة لتحويل حَصى الأرض إلى ذهب فإنّ ذلك العلم لن يكون له أيُّ فائدة إن لم نكن نعلم كيف نستخدم الذّهب”، أو “لو كان هناك علم يجعل النّاس يعيشون إلى الأبد لكنْ دون أن يزوّدهم في الوقت نفسه بعلم يرشدهم إلى الكيفية التي يستخدمون بها ذلك الخلود فما هو نفع ذلك العلم؟”. وكذلك فإنّ تعلّم أيِّ علمٍ لصُنع الأشياء مثل علم جمع المال أو الطب أو أي فن من الفنون الأخرى سيكون بلا فائدة إن لم نتعلم كيف نستخدم هذه الفنون ونفيد منها في طريق الخير. وبهذا المعنى فإن الفن الذي يصنع الأشياء هو غيرُ الفنّ الذي يعلّمنا كيف نستخدمها بالصورة المُثلى، وهذا مثل الفارق بين من يعرف كيف يصنع آلة موسيقيّة مثلَ العود وبين من يعرف كيف يَعزف عليها.
وسقراط يعيد عن طريق هذه الملاحظة التشديد على أهمّية العلاقة بين المعرفة وبين استخدامها، فلا فائدة من أيّ معرفة إذا لم يكن ممكناً استخدامها في أمر مفيد. وفي هذا تمهيد لتسديد ضربةً قاضيةً للسّفسطائيّة التي تتلهّى بالمعارك الكلاميّة وتسجيل النّقاط والظّهور بمظهر التّفوّق، لكن دون أن يكون لما تقوله أيُّ فائدة أو استخدام عَمَليّ. لقد كانت السّفسطائيّة مرض حقيقيّ ابتُليت به أثينا والمدن اليونانيّة في زمن سقراط وما بعده، لكنّه نَهْج لم يَطُل الأمر به حتى ظهر فساده للجميع فلم يبقَ من آثاره إلا ما ندر.

مؤسسة التراث الدرزي

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي.

مؤسّسةُ التّراث الدّرزيّ في إصدار جديد

“حَوْران في الوثائق العثمانيّة”

تُعتَبر مؤسّسة التّراث الدّرزي أحد أهمّ مراكز النّشر المهتمّة بتاريخ الشّرق الأوسط مع إيلاء اهتمام خاص بتاريخ الموحّدين الدّروز، وهذه المؤسّسة الّتي تأسّست عام 1999 بمبادرة من رجل الأعمال الشّيخ سليم خير الدّين الذي يرئس مجلس أمنائها، أظهرت استمراريّة في العمل ومهنيّة في اختيار المواضيع والتآليف. وتهدف المؤسّسة حسب ميثاق عملها إلى “إحياء التّراث الدّرزيّ بنواحيه التّاريخيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة وذلك بدراسته وتوثيقه ونشره في العالم العربيّ وبلدان الاغتراب وفي جامعات ومراكز ثقافيّة في مختلف أنحاء العالم. وهي أصدرت منذ إنشائها سبعة عشر كتاباً باللّغة العربيّة وستّة كتب باللّغة الإنكليزيّة.
واصلت المؤسّسة نشاطها في الفترة الأخيرة بإصدار كتاب بعنوان “بين المركز والأطراف: حوران في الوثائق العثمانيّة”، وقد أشرف على إعداده ووضع مُقدَّمتَه الدّكتور عبد الرّحيم أبو حسين، أستاذ التّاريخ في الجامعة الأميركيّة في بيروت. والكتاب هو المجلّد الأوّل في سلسلة ستصدر تباعاً عن المؤسّسة وتضمّ عدداً وفيراً من الوثائق التي تولّت المؤسّسة، بإشراف الدّكتور أبو حسين ومساعديه الاستحصال عليها من أرشيف السّلطة العثمانيّة في اسطنبول وترجمتها إلى اللّغة العربيّة. ويجري حاليّاً إعداد المجلّد الثّاني الذي سيتناول عهد القائمقاميّتين في جبل لبنان، وتبتغي المؤسّسة من هذا العمل الرّائد تسليط الضّوء على سياسة الدّولة العثمانيّة، ولا سيّما تجاه الموحّدين الدّروز، وتزويد الباحثين بمستندات تاريخيّة أوّليّة حول فترة الحكم العثمانيّ تُسْهم في إغناء البحوث التّاريخيّة عن تلك الحِقبة وتصويب بعض الاستنتاجات الرّائجة بشأن تاريخ جبل لبنان وبلاد الشّام.
كما أصدرت المؤسّسة أيضاً ترجمة إنكليزيّة لكتاب المرحوم الدّكتور سامي مكارم “العرفان في مسلك التّوحيد” الذي كانت المؤسّسة قد أصدرته عام 2006. وتهدف التّرجمة إلى تعريف القرّاء باللّغة الإنكليزيّة، لا سيّما الباحثين الجامعيّين والمغتربين، بهذا الكتاب الهامّ الذي يتناول المبادىء العرفانيّة ومسلك التّوحيد.
ورغبة من المؤسّسة بتعميم فائدة كتاب “تاريخ بيروت” لصالح بن يحيى، وهو أوّل كتاب وضعه مؤلف درزيّ في القرن الخامس عشر، بادرت، بموافقة دار المشرق، صاحبة الحقّ بطباعة الكتاب وتوزيعه، إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب الذي يتناول كما هو معروف أخبار أسرة آل بحتر من أوائل القرن الثّاني عشر حتى القرن الخامس عشر، وهو أحد مؤلَّفين تاريخيين تم وضعهما من قِبَل مؤرّخين درزيَّين يتناولان فيهما تاريخ طائفة الموحّدين الدّروز والمناطق الجنوبيّة من جبل لبنان والسّاحل. (الكتاب الآخر هو الذي وضعه حمزة بن سباط تحت عنوان “صدق الأخبار” وقد تولّت تحقيقه الدّكتورة نائلة تقيّ الدّين قائدبيه).
وتناولت إصدارات مؤسّسة التّراث الدّرزي مواضيع متنوّعة مثل “التُّقية في الإسلام”، “الشّيخ تقيّ الدّين بن تيميّة”، و “العرفان في مسلك التّوحيد”، و “الأحوال الشّخصيّة للطّائفة الدّرزيّة”، و “تطوّر قضاء الموحّدين الدّروز عبر التّاريخ”، و”المجاهدون الدّروز في عهد الانتداب”، و “فنّ العمارة والزّخرفة في الإمارة التّنوخيّة”، وبالإنكليزيّة ، “المرأة الدّرزية”، و “الموسيقى في الحياة الدرزيّة”، و “ظاهرة التّقمّص”، إلى جانب كتاب شامل عن مختلف العادات والتّقاليد الدّرزيّة بعنوان “أن تكون درزيّاً”. كذلك أصدرت المؤسّسة كتب سيرة لعدد من كبار الشّخصيّات التّاريخيّة والسّياسيّة والاجتماعيّة ضمّت سلطان باشا الأطرش والأمير مجيد أرسلان والشّيخ بشير جنبلاط ورشيد طليع وعارف النّكدي وسليمان أبو عزّ الدّين وسعيد تقيّ الدّين. كما أصدرت مرجعاً توثيقيّا لكلّ ما كتب عن الدّروز وما كتبه دروز. وتجدر الإشارة إلى إصدار خاصّ للمؤسّسة هو ترجمة عربيّة لكتاب الرّئيس الفرنسيّ السّابق نيكولا ساركوزي حول الحريّة الدّينيّة واحترام الأديان وتقريب الحضارات. (راجع لائحة منشورات المؤسّسة).
وإلى جانب إصدار الكتب تولّت مؤسّسة التّراث الدّرزي تنظيم مؤتمرين علميّين في جامعة أوكسفورد بالتّعاون مع كليّة سانت أنطوني لدراسات الشّرق الأوسط. عقد المؤتمر الأوّل عام 2002 بمشاركة مجموعة مميّزة من الباحثين من لبنان وبريطانيا والولايات المتّحدة وجرى فيه عرض مواضيع متنوّعة متعلّقة بتاريخ الموحّدين الدّروز وأوضاعهم الاجتماعيّة والثّقافيّة. وقد صدرت وقائع المؤتمر في كتاب صدر بالإنكليزيّة عام 2006. وعقد المؤتمر الثّاني في عام 2004 حيث واصل المشاركون الأبحاث التي بدأوها في المؤتمر الأوّل. وتعتزم المؤسّسة تنظيم مؤتمر خاصّ في العام 2017.

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالعربية

Picture of brochuere
Picture of brochuere

العرفان في مسلك التوحيد                                   سامي مكارم
التقية في الاسلام                                             سامي مكارم
الشيخ تقي الدين ابن تيمية                                   احمد حطيط
الاحوال الشخصية للطائفة الدرزية                         الشيخ مرسل نصر
تطور قضاء الموحدين الدروز                              الشيخ مرسل نصر
حوران في الوثائق العثمانية                                عبد الرحيم ابو حسين
تاريخ بيروت                                                 صالح بن يحيى
فن العمارة والزخرفة في الامارة التنوخية                 زينات بيطار
سلطان باشا الاطرش والثورة السورية الكبرى           حسن البعيني
المجاهدون الدروز في عهد الانتداب                      عزت زهر الدين
الامير مجيد ارسلان                                        عاطف ابو عماد
بشير قاسم جنبلاط                                           رياض غنام
نيكولا ساركوزي: الجمهورية، الاديان، الرجاء          حوارات مع تيبو كولان وفيليب فردان
سجّل: أنا رشيد طليع                                        منذر جابر
مشيناها خطى:                                               سيرة عارف النكدي فارس آشتي
سيرة الاديب سعيد تقي الدين                               سليمان تقي الدين
المؤرخ سليمان ابو عز الدين                               اميمة زهر الدين

منشورات مؤسسة التراث الدرزي بالإنكليزية

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 2

The Druze Heritage: An Annotated Bibliography                                        Editor:Rana Y. Khoury
2nd edition                                                                                                  Introduction by Kamal Salibi
Mysticism in the Druze Faith                                                                      Sami Makarem
Being a Druze                                                                                            Fuad I. Khuri
The Druze: Realities and Perceptions                                                       Edited byKamal Salibi
Music in Druze Life                                                                                    Kathleen Hood
Gender & Religion: Druze Women                                                             Intisar J. Azzam

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1
مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي 1

هذه الكتب بالعربية وبالإنكليزية متوافرة في المكتبات ويمكن الحصول عليها مباشرة من مؤسسة التراث الدرزي على العناوين التالية:
هاتف: 01/739750- 01/347923
Email: info@druzeheritage.org
druzeheritage@hotmail.com
www.druzeheritage.org

اللغة والحياة

اللغة والحياة

لا يمكن لأي لغة مهما تحصنت ضد التغيير أن تنجو منه

لا يكابر احد في أن اللغة العربية، ابنة اللغة السامية، وقد نشأت في شبه الجزيرة العربية، خلافاً لما يراه الصديق الدكتور مروان المحاسني رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق، وجاء ذلك، في جميع المصادر الثابتة الدقة، والمراجع الصحيحة الاسانيد، حيث ذكرت “ان العربية من اللغات السامية، ترعرعت في قوم قحطان و عدنان، بين العرب العرباء والعرب المستعربة، وهم جميعاً في شبه الجزيرة العربية.
اما انها ابنة السامية،واخت السريانية و العبرية،فليس في ذلك ريب، الا عند الغلاة، او عند الذين ينشدون الامور السياسية، كصديقنا، قبل الالتفات الى الحقيقة العلمية والتاريخية، فالعربية من السامية، وهذا قاطع ولا نقبل الجدل فيه.
وبعد،،،فليست مشكلة اللغة العربية في ذاتها، بل في الذين يضعون مناهجها للطلاب،في المدارس ، والجامعات وليست هذه اللغة العظيمة،بحاجة الى من يدافع عنها،لا لانها لغة القرآن،ووعاء الايمان فقط،ولا لانها مخزون علوم العرب وثقافتهم وتاريخهم وخبرتهم الانسانية،وتراثهم الحضاري فحسب؛ بل لان فيها من الطواعية،والثروة اللفظية¹، والقدرة على استيعاب الفاظ الحضارة، ما يجعلها قابلةً للحياة والاستمرار.
فالمشكلة،اذاً، فينا وليست فيها. والعربية، – يا رعاك الله – لغة ثقافة، وعلينا ان نوازي فيها اليوم، بين الموروث والراهن، ونحن باستمزاجنا هذين معاً، انما نريد اثراءها بالدخيل من الالفاظ التكنولوجية، فلا تضيق (وهي اوسع اللغات) عن مواكبة هذا العصر التقني المتسارع، فللتطور احكامه في مضمار اللغة ما يجعلها وافية بحاجات عصرها. وفي برهة هائلة كالتي نعيشها، لا تكاد لغة، مهمت تحصنت ضد التعبير، ان تكون في نجوة منه.
ان نتاج هذا التقدم العلمي المكتسح، الذي يولد مئات المصطلحات الجديدة، هو حاجة تفرضها صيرورة الحياة على اللغات، فترغمها على المجاراة من اجل ان تعيش، فاللغة التي لا تتسع لحاجات عصرها مآلها الانقراض.
وانت، اذا اردت التعرف على الاطار الحضاري لشعب من الشعوب، في زمن من الازمان،فادرس لغته، ففي عروق اللغة يعيش نبض العصر.
ونعم، ان الاستجابة لمستلزمات التبدل داخل (الانسان) والتطور المحيط به من كل ناح، توجب اعادة النظر في الكثير من مسلماتنا اللغوية، فلا يضطر العرب الى البحث عن لغة صديقة، تفي بحاجات عصرهم وتحمل افكارهم الجديدة، فما تترجم عنه اللغات من عواطف وخواطر، لا يقف عند حد، ولا يمكن حبس اية لغة ضمن سياج وهمي من محتويات المعاجم، ومفردات الثقات، وتقارير المجامع العلمية، لان الميول الباعثة على التعبير، لا تأبه للمعاجم، ولا تعنى بآراء الثقات، ولا تتكيف بتقارير المجامع.. فخوالج الانسان هي لغة الحياة، ولغة الحياة فوق القواميس، واجدني في هذا السياق، مضطراً الى القول ان اعداء اللغة العربية هم اولئك الذين دفعتهم حماستهم (ربما) الى التحجر والانكماش والتصدي، بعصبية الجاهلية، لكل مفردة عصرية، غير عربية، تحتاج اليها الحياة؛ في حين تقضي محبتنا للغة وغيرتنا عليها، قليلاً من الملاينة والانفتاح، فاللغة كائن حي، يولد ويموت، وقدرها ان تأخذ وتعطي، لانه لا يمكنها ان تتطور وتستمرّ، الا اذا كانت لغة حية، تعبر بوضوح عن ثقافة الاحياء وشعورهم واغراضهم، ولكي تكون كذلك، علينا ان نجعلها تتفاعل مع اللغات الحية الاخرى، وان نقنع المتحمسين لها – على غير هداية – ان اللفظ الدخيل، ليس عدواً لنا، بل صديق.
اعرف تماماً، معرفة الخبير، ان العربية الفصحى، لا تعجز عن وضع تسميات عربية لكل ما يطرأ من الفاظ تقنية اجنبية، لأن في لغتنا من الموازين واشتقاقاتها، اي من حروفية الافعال² وتنوعها، ما يضمن لها ذلك، غير ان عدداً كبيراً من هذه التسميات، لا يفهمها اهل العروبة انفسهم، (وشبابنا الطالع بنوع خاص)، في حين ارى وظيفة اللغة (اصلاً) هي التواصل و التفهيم.
فماذا يمنعنا من استعمال اللفظ الاجنبي، بحروفه، او بحروف عربية، مثل:
“الكمبيوتر” و”الانترنت” و”التلفزيون” و”التلفون” وغيرها، كما سماها مخترعوها الاجانب، وانا ضمين لكم ان الوجدان لن يغترب، والقاموس لن يغضب، والعربية لن تبور.

ومشكلتنا اليوم، ان التسميات التي وضعتها وتضعها المجامع اللغوية³، غير كافية للدلالة على المعنى الوضعي والمعنى الاستعمالي للاجهزة التقنية، ما لم نشتق من الاسم – السهل اللفظ – افعالً تراعي الدقة العلمية والدلالة العملانية للوظيفة التي تقوم بها هذه الاجهزة، في حيز الاستعمال.
اننا – يعلم الله – نحب هذه اللغة العريقة حباً جماً، ونغار عليها غيرة بصيرة، ولقد احرقنا رؤوسنا في دراستها والتعمق في فقهها وعلومها ، وانفقنا اعمارنا بحثاً في تاريخها واصولها،غير اننا نحبها بموضوعية وانفتاح، لا بعصبية وانغلاق، ونريد لها ان تفي بمتطلبات العلم وما يحتاج اليه ذلك من جرأة وتصحيح، لأننا نريد ان نحافظ عليها بوعي مسؤول، وان نحرسها بعقولنا، خلافاً للذين يضعونها في صندوق مغلق ويحرسونه كمن يحرسون الضريح.
وبعد، فاننا على مذهب الشيخ عبد الله العلايلي، رحمه الله، ومع شعاره القائل: “ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً، التصحيح الذي يحقق المعرفة” .. واعلم ان (كل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم4).
واذا كان بعض “الاصوليين” في اللغة، يأنفون الدخيل، فما رأيهم بموقف سماحة الامام الاكبر، شيخ الازهر – وهو الاخلص للعروبة، والاعلم بالعربية – حين قال: “اللغة العربية، اوسع اللغات مذهباً، وهي واسعة الصدر للدخيل، ما ان تراه حتى تخلع عليه ثوباً من ثيابها، وترده الى اوزانها، وتتخذه ولداً من اولادها، تعامله معاملتها، فتنشق منه، وتنصرف فيه”؟
واليك طائفة من الاسماء الجامدة، السهلة، التي وضعها علماء اللغة اللبنانيون، في عصر النهضة، ولم يزل العرب يستعملونها في شتى ديارهم – منذ اكثر من مئة عام – ويا حبذا، لو كان ما يولدونه اليوم مثل هذا، فالمشكلة في الجدد القدماء لا في القدماء المتجددين، واريد به “العقلية” وليس العصر.
فقد وضع احمد فارس الشديق لفظ (حافلة) مقابل (اتوبيس) Autobus
و وضع الشيخ ابراهيم اليازجي لفظ (مجلة) مقابل (جورنال) Journal
و وضع الشيخ ابراهيم الحوراني لفظ (مجهر) مقابل (ميكروسكوب) Microscope
و وضع الدكتور يعقوب صروف لفظ (صلب) مقابل (فولاذ)
و وضع الشيخ سعيد الشرتوني لفظ (قطار) مقابل (ترام سكة الحديد) Train chemin de fer
و وضع الدكتور بشارة زلزل لفظ (اللبونة) للحيوانات الولودة التي تغذي صغارها بلبنها
و وضع الشيخ عبد الله البستاني لفظ (عقيلة) مقابل (مدام) Madame
ولفظ (آنسة) مقابل (مدموازيل) Mademoiselle
و وضع الشيخ عبد الله العلايلي لفظ (الاستون) للماسورة تمر الرصاصة المنطلقة عبرها.
ولم ينشد احد من هؤلاء العلماء، استعمال الالفاظ الوحشية الجافية.
ومن الالفاظ (الدخيلة على العربية)التي تقبلتها لغتنا، وصارت من نسيجها، اقتصر على الالفاظ التالية:
بيدر – زبون – سفينة – سكين – ساقية – مسمار – سمسار – سوق (كلمات آرامية)
بارجة – كوب – منديل – ميل (كلمات لاتينية)
ترسانة – قنبلة – بكرة – عربة (كلمات تركية)
ابريق – ببغاء – برنامج – بستان – جاموس – جوهر – خليج – دستور- صندوق (كلمات فارسية)
بطاقة – اسطورة – اقليم – بارود – برج – حوت – زواج – درهم – سفير – قانون – قرش – قرميد – هرطقة (كلمات يونانية)
وبالمقابل فان بعض اللغات الاوروبية، دخلت عليها الفاظ من العربية، خصوصاً بعد الفتح العربي لأوروبا سنة 1453 ومن هذه اللغات: الفرنسية، الاسبانية، الانكليزية، اللاتينية، وسواها.

الشعر العامي

عــن الشّعـر العامّـــيِّ فــي جبــل العــرب

-الحلقة الأولى-

سُجّل أوّل نزوح لبني معروف الموحّدين إلى جبل حوران عام 1685 م عندما قدم من جبل لبنان إلى أطراف اللّجاة أحد الأمراء المعنيّين وهو على الغالب الأمير علم الدّين المعنيّ مع عدد من أنصاره الذين استقرّوا في نجران عاصمة اللّجاة، ولكنّ الأمير المعنيّ سرعان ما عاد إلى جبل لبنان تاركًا أمر أنصاره إلى وكيله حمدان الحمدان الذي سيصبح زعيمًا للقادمين الجُدد، ويشير الدّكتور عبد الله حنّا في كتابه “العاميّة والانتفاضات الفلّاحيّة في جبل حوران” إلى محاولات استكشافيّة سبقت هذا النّزوح لأُسَر استقرّت في نجران… وأنّ هذا النّزوح الدّرزي الأوّليّ إلى جبل حوران كان مرتبطًا بالصّراع الدّائر آنذاك في جبل لبنان بين الأسر الإقطاعيّة، وكان هذا الصّراع قد بلغ ذروته فيما بعد في معركة عين دارة 1711م وقد أسفرت تلك المعركة عن نزوح أوسع لليمنيّين ( أحد أطراف الصراع ) إلى جبل حوران حيث نزلوا ضيوفاً على إخوانهم النازحين عام 1685م ثم ما لبثوا أن انتشروا في القرى الشّمالية من جبل حوران بعد صراع دامَ سنوات مع البدو الذين لم يُعمِّروا بيوتًا ولم يزرعوا أرضًا.
وفي مطلع القرن التّاسع عشر 1811م وفد إلى الجبل نزوح درزيّ ثالث مؤلّف من ستمائة أسرة قدمت من حلب، وجاءالنّزوح الرّابع في أعقاب الصّراعات الاجتماعية وتحوّلها إلى صراع طائفيّ عام 1860 م في جبل لبنان، هذا النزوح الرّابع سكنت أسره في المنطقة الشرقيّة والجنوبيّة الشّرقيّة من الجبل وقد نجم عن تلك الهجرات تغيير أساسي في بنية الجبل الديموغرافية لأنّها ضمّت حسب رأي كرد علي بالإضافة إلى فلّاحين من جبل لبنان مجموعات من وادي التّيم والجبل الأعلى (من أعمال حلب) ومن صفد وعكّا وغوطة دمشق وإقليم البلّان، وحسب رأي كرد علي فإنّ الدّروز “أخذوا يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة من اللّبنانين الغربيّ والشرقيّ” والواقع أنّ هذا الانكفاء نحو أخلاق وثقافة البداوة مردّه الأوضاع التي عاشوها في جبل حوران وظروف الحياة الاقتصادية والاجتماعية1.
ومن خلال هذه اللّمحة الموجزة لتاريخ الحضور الدّرزي في جبل العرب ندخل إلى تاريخ الشعر العامّيّ (النّبطيّ) الذي أصبحَ مكوّنا أساسيًّا في الثُقافة الشّعبيّة أو الفولكلور الجمعيّ لأهل جبل العرب.

تطوّر الشّعر العامّي (النّبطي) في جبل العرب
يعودُ بنا هذا العنوان الواسع إلى مرحلة توطُّن الأجداد في جبل العرب والموجات البشريّة المتتالية التي اتّخذت من الجبل مقرّاً لها في نهاية المطاف، منذُ أوّل نزوح من لبنان في أواخر القرن السّابع عشر ومطلع القرن الثّامن عشر الميلاديّ خصوصًا بعد معركة عيندارة عام 1711 التي أدّت إلى أكبر موجة هجرة قسريّة أو اضطراريّة لدروز الحزبيّة اليمنيّة من لبنان بعد هزيمتهم على يد حيدر الشّهابي والدّروز القيسيّة.
وكان من الطّبيعي أن تنقل تلك الموجات معها اللّغة أو بالأحرى اللّهجة التي كان أفرادها يتداولون بها في موطنهم السّابق وهي كانت على العموم اللّهجة اللبنانية المميّزة لأهل جبل لبنان ولاسيّما الدّروز الذين كانت لغتهم أقرب ما يكون إلى اللّغة العربيّة لأجدادهم الذين قدموا إلى لبنان بعد الفتح الإسلاميّ لبلاد الشّام. لكن كان من الطّبيعي أيضًا أن تتطوّر تلك اللّهجة تدريجيًّا بتغيّر الموطن والظّروف والتّفاعل الاجتماعيّ والسّياسيّ مع المحيط الجديد الجغرافيّ والسّكّاني والثّقافي. وقد تجلّى هذا التّأقلم في أشعارهم بل وصبغها منذُ البداية بالصّبغة البدويّة مع احتفاظهم باللّهجة المتداولة ذات الجذور اللّبنانية في حياتهم اليوميّة.
في البداية كانت لغة الشّعر العاميّ في جبل العرب هي اللّهجة اللّبنانية المحكيّة التي استقدمها النازحون معهم والتي استعارت من الشّعر الشّعبي اللّبناني (الزّجل) تشكيل القصيدة ولغتها، وهذه اللّغة لم تزل إلى الآن موجودة في أشعار الجبل ولكن بنسبة قليلة قياساً للغة البدو التي سيطرت على القسط الأكبر من الشّعر الشّعبي.. وتنقل لنا الوثائق التّاريخية أُولى هذه الأشعار وهي من نظم أسعد نصار المُتَوفّى عام 1825 م والذي جاء إلى الجبل من راشيّا الوادي في جنوب لبنان، وقد برزت شخصيّة الشّاعر نصّار في غُرّة القرن التّاسع عشر، إذ نظم مجموعة قصائد زجليّة لبنانيّة بحتة وهي لغته التي لم تزل محتفظةً بمعطياتها الأصليّة والتي حاكى من خلالها محبوبته في لبنان بعد أن أصبحت بعيدة عن ناظره وبعد أن حالَ جبل الشّيخ بينه وبينها ..ومنها قوله:
فوق الجبـــــــــــــــــــــــل يــــــا ريح ســــــافــــــــــــــــر بـــــــــالعجــــــــــــــــــــل
نجمي قَـــــــــــــــــــــــــــرّب عليك بْعيد خطوات المجال
غَطَــــــــــــــــــس فــــــــــــي بــــــــــــــــــــــرج عــــــالــــــــــــــــــــــي واختفـــــــــــــى
وْطَــــــــــــــــــــــــــــــــلّ وْنَفَذ من خلف ظَهْــــــرَك يــــــــــــــــــــــــا جبَل
ونلمس في هذا النموذج أسلوب الزّجل اللّبناني المتعارف عليه في إسقاط حرف المد من قافية القصيدة عندما يضطرّ إليها الشّاعر فتراه يوفّق بين “المجال” و “يا جبل” كقوافٍ وهو يعتمد بذلك على المَدّ اللفظي لمفردة (الجبل) وفي هذا شيء من الإلقاء الموسيقيّ الخاص بالزّجل، وهذا الأمر سيبقى أثرهُ جليّاً في أشعار الشّعراء المعاصرين في جبل العرب والذين جاؤوا بعد قرنٍ تقريباً من أسعد نصار أمثال ثاني عرابي وسلمان النّجم عمّار ونجم العبّاس (أبو اسماعيل) وحامد العقباني وغيرهم.
ولكن عندما بدأ أسعد نصّار يخوض غمار الواقع الجديد ووجد نفسه وسط دوّامة من النّزاعات والتّعاملات اليوميّة مع المحيط القَبَليّ البدويّ للجبل بدأ بتغيير (لغة قصائده) في محاولةٍ جادّة لتبنّي المفردات السائدة وصياغة الشّعر بما يمكّنه من إيصال الفكرة والصّورة إلى المحيط الذي يعيش فيه، وهذا ما نلمسه في قصيدةٍ يفخر من خلالها بقومه بني معروف مخاطباً فيها الشّيخ البدويّ فندي الطيّار (قبيلةولد علي من عنزة) إثر نزاعٍ امتدّ لفترة من الزمن بين الفريقين ومنها :
حِنّا بني معروف نحمي الجار لـــــــــــــو جار
نِـــــــــــــقْنـــــــــــى المــــــــزَنَّـــــــــــــــــــــــد2 فْتيـــــلـــــــــــــــــــكْ مـــــا نْـــــــــــــــــــداريــــــــــــــه
وسيــــوفنا الحــــــــــــــــُدبْ تقــــــــــــــــطـــــع كـــــــــــــــــــــــــــــل زِنّــــــــــــــــار
وســـــــــــــــــــــــلاحنـــا لـــــــــــو صَـــــــــــدَى بـــــــالـــدّم نجــــــــــــــــــليـــــــــــه
مـــــــــــا تُذكُــــــــــــــر يـــــــــــــوم مُـــــــــــــــــــرْدُك والـــــــــــــــــــــــــذي صــار
ويــــــــــــوم الجنينـــــــــــــة يــــــا فنــــــــــــــــــــدي اِنـــــــــــت نـــــــــــاسيه؟3
وهذه القصيدة تعتبر من الإرهاصات الأولى للشّعر العاميّ “النّبطيّ” في جبل العرب، ومن الواضح أنّ لغة الشّاعر الأصليّة لم تزل مسيطرةً عليه فتجد القصيدة تحمل خليطاً من المنحى اللّبناني والمفردات البدويّة على حدٍّ سواء، كما أنّه من الواضح أنّ وزن أبيات القصيدة مُضطرب في كثير من المواضع وذلك أنّ الشّاعر نظم في وزنٍ فُرِضَ عليه وهو لم يتعامل معه من قبل وهذا الوزن هو “الشّروقي” كما يُعرف في جبل العرب وأصل تسميته “المسحوب” عند البدو.
وفي تتبّعنا لحركة الشّعر العاميّ (النّبطي) في جبل العرب ندخل في شطرٍ آخر من القرن ذاته، وذلك من خلال قصائد الشّيخ أبو علي قسّام الحنّاويّ المتوفّى عام 1884م والذي برزت شخصيّته في حروب اللّجاة ضدّ ابراهيم باشا المصري في أواخر النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر أثناء الحملة المصريّة على بلاد الشّام والتي امتدّت من عام 1832 حتى 1840، وكانت قصائد الشّيخ الحنّاوي تحمل الخليط اللغوي ذاته الذي حملته قصائد أسعد نصّار، فبين أيدينا مجموعة قصائد تدُلّ على زيادة تأثّر الشّعر الشّعبي في الجبل بلغة البدو نتيجة التّعامل الأطول والأعمق مع القبائل البدويّة وبالذات “السّْمير من ولد علي من عنزة” والسّمير من ولد علي هم فرع من قبيلة الرّوَلَة الكبيرة العنزية الأصل، وكان للشّيخ الحنّاوي دورٌ تاريخيّ في هذا المجال إذ تميّز بالفروسيّة والحنكة السّياسيّة، وعلاقاته العشائريّة الواسعة كما نستدلّ على ذلك من قصائده وأشعاره ومثالنا على هذا أبيات من ملحمته الشّعرية الشّهيرة بـ “ملحمة اللّجاة” التي نظمها في العام 1838م حول حروب اللّجاة ومقاومة بني معروف لحملة ابراهيم

باشا التي قادها ضدّ الموحّدين في جبل حوران، يقول:
من بعــــد ذا ابراهيــــم جرَّد علينـا
يبغى الحرايب عســــكرًا” جرّار
دخل اللّجــا زحفًا بجيشٍ عَرمــرم
و نحنا قـــــــــــلايل و العـدوّ كثـــــــــار
صِحْنـــا كما تهدر سبـــــــــــاع الكواسر
عَ القــــــوم بــــــــــــــالبلـــــــطات و البتّــار3
وبرج الغضب جانــــــــــــــا ابراهيـــم باشا
بـــــــــــالأرناؤوط والتّـــــرك و البلغار
ذَبَحْنا الوزير وكلّ ضباط عسكـــــرو
وثلثين جيشه راح قـَصف اعْمـــــــار
ستّيـــــن كون نـــقابـــــلو و ما نهابــــــــو
و نكســـــر جيوشـو بـــــــقوّة المختار
اخذنا المدافع و الجباخان والذُّخَـر
و الذّبـْــــــح لا يُحصــــــــى لهُ مِقــدار
و كـــــم بطــــل منّا خلاوي إذا لَكـَــد
ْ على الجمع يدعي الجـــيوش دَمـار
يفعل بهم ما يفعل الـــــذّيب بــــــالغنـــــــم
بْضَرْب اليمانـــــــــي الصـّارم البتـّـار
هذي قــــــــلــــــــعتنـــــــا و هذي لجاتنـــــــا
تربـــــة اعْــــــــدانا من دخلـها حـــــار
ترى جدّنا النّعمان خليفة سمـــــــا لخــم
ومنـــــــــذر و هـــــاني ســــادةً أخيار
سلمان والمقداد أيضَـا جــــدودنـــــا
أبو ذر و رفاعـــــة وكــــــــذا عمّــار
وهذه القصيدة تجاوزت المئة بيت وثّقَ من خلالها الشّيخ الحنّاوي مرحلةً تُعَد من أخطر مراحل تثبيت الوجود المعروفيّ في جبل العرب، وهذا النّموذج من القصائد يُسمّى “الهلالي” وسيكون لنا وقفة مع هذا الوزن ومصدرهُ وسبب تسميته في فصلٍ تالٍ من هذا البحث، وفي التّدقيق بالمنحى العامّ لقصيدة الشّيخ الحناوي نجد أنها مستقرّة الوزن أكثر من تجربة أسعد نصّار في “النّبطي “ ولكنّ المفردات والتراكيب المحلّية ذات الجذور اللّبنانية لم تزل تسيطر على جسد القصيدة بشكلٍ واضح مثل ( جرّد علينا ) و (عسكرو ) (ستين كَون) إلخ، مع بروز المنحى النّبّطي الجليّ .وللشّيخ الحناويّ مجموعة قصائد تُعدّ في الطبقة الأولى من الشعر التوثيقيّ أو شعر الأخبار.
ومن ثمّ نصل إلى مرحلة الشّعر النّبطي الأوّليّ لشعراء الموحّدين الذي تحوّل مع الوقت إلى الرّكيزة الأولى للشّعر العاميّ في جبل العرب من حيث لغة القصيدة وجزالة صورها واستعاراتها ومحاكاتها للواقع. وشيخ هذه المرحلة بلا منازع هو الزّعيم شبلي بك الأطرش المتوفّى عام 1904م، والذي استطاع من خلال قصائده توثيق مرحلة وافية من مراحل الكفاح ضد الاضطهاد العثمانيّ. وشبلي الأطرش عاصر الشّيخ الحنّاوي في أواخر حياته وتعرّض للسّجن من قبل العثمانيين وخاض في نزاعاتٍ وثورات محلّية كادت أن تنهي زعامة آل الأطرش في جبل العرب وعلى رأس تلك النّزاعات الحركة الفلّاحية 1885ـــ1890 م (الثورة العاميّة الثانية)، فنجد لدى شبلي الأطرش مجموعة قصائد تخصّ هذه الشّؤون، وفي سياق تتبّعنا لحركة تطوّر الشّعر العامّيّ في الجبل نجد أنّ شعر شبلي يتربّع على عرش مرحلة النّتاج الأوّلي للشّعر النّبطي في الجبل، إذ أرسى هذا الشّاعر قواعدَ مازالت إلى الآن مستخدمة لدى شعراء الجبل بشكلٍ جليّ وذلك من خلال الأوزان المتنوّعة التي نظم بها ومن خلال الأسلوب والشّكل، ولو أخذنا مثالاً من شعره لوجدنا هذه السّمات جليّةً ومنها قوله :
يــــــــــــــــــا راكباً من عندنا فوق سـَــــحوان
حُرًّا مْعنّى يَسـْـــهــــــــــــج الدَّوّ حايل
من ساس عَيْرات اللّحاوي شْعيلان
مثــــــــــل العَنود اللّي يقود الجمـايل
إنسِفْ عليه الكُورْ وِحْــــــزام وِبْطــان
والمَيْـــرَكَهْ أمّ الهَـــــــــــدَب والظّلايــــــــل
الصّبــح من سيناب والضَّوّْ ما بــــــــــــان
ثَـــــــــوِّرْ ودونـــــــــك للنّبـــا والرّســــايل
وهذه الأبيات مُختارة من مطلع قصيدة يرسلها من سجنه في سيناب من الأراضي التركيّة إلى صديقه أبو عجاج من آل بحصاص الرّياشنة في الجبل، ونلاحظ هنا اعتناء الشّاعر بوصف النّاقة (الذَلول الحرّ بلغة البدو) التي يُقدّمها لنا بصيغة المُذكّر ـــ هذه الصّيغة التي ستأخذ مداها فيما بعد عند شعراء الجبل المعاصرين وذلك من خلال قصائدهم الغزليّة النّبطية ـــ والشّاعر هنا يُكلّف راكب النّاقة بإيصال القصيدة، وهذه الناقة كما يصفها سريعة (سحوان) وأصيلة (حُرًّا) وتقطع الفيافي (يسهج الدّوّْ) وغير منتجة أي (حايل) لم تَلِدْ فهي قوِيّة وهذه الصّفة يحبّذها البدو في الناقة التي تُخَصَّص لقطع المسافات الطّويلة، وهي أيضاً من إبِل قبيلة الشَرارات (قبيلة اللّحاوي) الذين عُرِفَ عنهم تربية النّوق المنخوبة المؤصّلة، وهي ذات لون مائل إلى الحُمرة (شعيلان) وهي كالغزال الذي يقود الغزلان (العنود اللّي يقود الجمايل) والجميلة هي مجموعة المها التي كانت تعيش في البراري العربيّة، ومن ثمّ يدخل الشّاعر في وصف كساء النّاقة من (كور) و (حزام) و (بِطان) و (ميركة) .في أبيات مختارة تتخللّها في الأصل أبيات يُمْعن من خلالها بشكلٍ دقيق في وصف كلّ ما يخصّ هذه النّاقة، ومن ثمّ يَصف الدّرب الذي ستقطعه إلى أن يصل إلى صديقه (أبوعجاج) فيمدحه بما يليق به ومن ثمّ يطرح موضوع القصيدة، وهذا الأسلوب مأخوذ عن شعراء البدو المشهورين في نجد وشمال الحجاز وبوادي الشام وهم الذين شَكّلوا مصدر التّجربة الشّعرية النّبطية لشعراء بني معروف في جبل حوران، ومن أولئك الشّعراء البدو محسن الهزاني وابن لعبون ومحمّد القاضي وغيرهم،..وما يهمّنا تبيانه هنا هو مدى تأثر الشعر العامي في جبل العرب بمعطيات ومفردات الحياة البدويّة وأيضاً إبداع الشّاعر في توظيف هذه المكوّنات والمفردات التي أصبحت من معطيات حياته اليوميّة مع التّأكيد على مفارقة لافتة وهي أنّ شاعر جبل العرب لا يتكلّم اللّهجة البدويّة إلّا في شعره، فهو لا يستخدمها في حياته اليوميّة وكلامه النّثري، وسنعرّج على هذا الموضوع في مرحلةٍ قادمة إن شاء الله.
وقد نظمَ شبلي الأطرش أيضًا في الشّعر المحلّي “المَحكيّ” وهذا المَحكي كان بلغته (لهجته) التي يتداولها ولم تحمل قصائده التي نُظمت بالمَحكي الخليطَ اللّبناني البدويّ بل كانت تعبيرًا صريحًا عن لغته الأصلية الدارجة في الحياة اليوميّة ومثالها

بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر
بدوي-على-فرسه-في-رحلة-صيد-بواسطة-الصقر

قومْ يـــــــا مـرسال يـــــــا طَيْر الحَمــــــــام
عا بلاد الشّــــــام وَدّيلـــــــــي سَـــــــلام
إنْ كان هجرك طال يا بدر البُدور
نَفسي عَزَت منّي عَلى الدُنيا السَلام
إِنْ كان هَجرك طال يا بَدر البُدور
يا نُور عيني وَمُهجَتي جُوَّا الـصُّدور
يا ريت لَو كُنـــــا هْفينا بـــــــــالقبــــــور
خان فينا دَهـــــرنا وَالــــــوَقت جـــار
بيظل فكـــري فيك يـــــا نــارًا وَنورْ
دُومْ دايـــــمْ يـــــا حلــــــوْ ليل وَنــــــــــــــــهـار
يا بو خدود معطّرة وَعيون حُــور
يـــــا بَدر يـــــا ريـــّان بــــــــــــانور النـّْـــــــوار

وهذا الأسلوب هو الأسلوب اللّبناني بعينه وهو امتداد للموشّح الأندلسي، ولكنّه باللّهجة المَحكيّة في جبل العرب، اللّغة التي انسلخت عن اللّبنانية والتي بقيت في منأىً عن الانصهار في لهجة البدو والتي هي في المحصّلة اللّهجة المَحكيّة في جبل العرب. ومن هنا كان إبداع شبلي الأطرش الذي عَرَف ماذا يكتب وبماذا يكتب .
وهنا نصل إلى المرحلة التي شهدت ولادة الشّكل النّهائي أو المكتمل للشّعر النّبطي في جبل العرب وهي مرحلة الشّاعر اسماعيل العبد الله الذي عاصرَ شبلي الأطرش في خواتيم حياته وأكملَ مسيرته الشّعرية، وقد لعب العبد الله دورًا كبيرًا في وضع اللًمسات الأخيرة على شكل ومضمون الشّعر النّبطي الجَبَليّ، وذلك بعد أن تمّ الانسلاخ بصورة أتمّ عن اللّهجة اللّبنانية التي نقلها الآباء والأجداد، ونتيجة التّوغّل في الأحلاف والنّزاعات مع البدو. واسماعيل العبد الله شاعر فارس برز في عشيّة القرن التاسع عشر ومطلع العقد الأوّل من القرن العشرين من خلال قصائده التي لاقت انتشارًا منقطع النّظير والتي كانت الوسيلة الإعلاميّة والسّلاح اللّغوي الأمضى في استنهاض الهمم والتصدّي بشعره للإعلام المعادي المحيط بواقع الجبل إن جاز التّعبير .. وقد ساهمَ اسماعيل العبد الله من خلال قصائده وحضوره في توثيق مرحلة تهاوي السّلطنة العثمانية والتي انتهت بسقوطها عام 1918م. وقد عانى الشاعر ما عاناه من السّجن وخوض المعارك في أواخر عهد الاحتلال العثماني، إلا أنّه لم يكحّل عينيه برحيل آخر جندي عثماني عن الأرض العربيّة حيث توفّي عام 1915 على ما يُرجّح .. ومن المادّة التي تركها لنا هذا الشّاعر العملاق نأخذ مثالاً بسيطاً من قصيدةٍ له يجيب من خلالها على قصيدةٍ أرسلت من قبل “اللّحاوي” أحد شيوخ قبيلة الشّرارات حيث تهكّم اللّحاوي فيها على بني معروف في جبل العرب وعلى أحلافهم من العشائر البدويّة المجاورة لهم بقوله :
من الجبــــل جِتْنا جـــــــــــــــــــموعٍ تِبَنّـــى4
مثل سَـــــعاع الجِيْـــــــجْ مِخْتِلف الاجناس5
الكنــــج وابـــــــــن مــــــــــــاضي دليلـــــهنَّه
واهل الجبل ودروز قطّــــاعة الـــــــــــــرّاس6
كــــــــــم واحـــــدٍ منهم لَابلْــنــــــــــــــــا تَمنّــى
مـــــــــــــــا يدري اِنـّـــــــــــه دومْ عَ اللّـــــــوح دَرّاس
حِنّا اليـــــــــاصــــار العدو في وطنّــا
رَصاصْنا ينزل على العظــم والــرّاس7
ومن جواب اسماعيل العبد الله على هذه القصيدة :
قم يا حَمَــــــدْ وَفِّقْ من الهِــجِن دَنّا
سِتّة رَكــــايب يا ولد نُبْــــــل القياس8
يا مَسندي جَدّي الـــــرّكـــــايب9 مْعَنّى
يَمّ اللّحــــــــــاوي شوق مدقوق الْلّعــــــاس
الشّيــــــــــخ تَوَّهْ مظـــــهرًا بَـــــــــــدوْ فَنّـــــــــهْ
من قبل واللهْ ما وَحينـــــاه بقيـــاس
سَوّى علينــــــا قـــــــــــالة الدَّرس لَــنّــــه10
كــــــــــار الفِتى يا قَرْمْ ما عَذْرَب النّاس11
نَذْرِي علـــــى كـــــــل المخاليــــــق حِنّا
الحَضَر راعـــــوا يا فتى وابن عبّاس12
عدوّنـــــــــا فـــــــي عيـــــــــــشــــته ما تهنّــــا
لوْ هو بَعيدٍ من ورا بلاد مِكْنــــــاس

الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل
الرباب مرافق أساسي للشعر الشعبي في الجبل

نلاحظ هنا أنّ الشّاعر لم يضع من شأن عدوّه بل امتدحه بالفروسية والسّيادة وهذه من أدبيّات الشّاعر الذي يأبى أن يكون عدوّه قليل الشّأن فهو يقارع الأبطال لا ضعاف الهِمّة والعزيمة ومن النّاحية الفنّية نلاحظ أنّنا أصبحنا بحاجة إلى شرح الكثير من المفردات والتّراكيب اللّغوية التي وردت في القصيدة وهذا ما سيأخذ أبعاداً أخرى في مستقبل “الشّعر الجبلي النّبطي” عندما تتفرّع عنه مذاهبٌ شعرية عديدة.
إنها القصيدة البدويّة النّبطية بأسلوبيّتها ولهجتها المكتملة والتي ستصبح لغة الشّعر العامّي الأكثر استخداماً والأوسع انتشاراً في جبل العرب، وطبعًا هذا الكلام لا ينفي وجود الأشعار الجبليّة باللّهجة المحكيّة والتي تجلّت في الفنون القصيرة والعتابا والمطاليع وأشعار النّدب ولكن أعود للتّأكيد على أنّ هذه قليلة بالمقارنة مع هيمنة الشّعر النّبطي .
هذا مثالٌ بسيط عن تحوّل منحى الشّعر بشكلٍ تامّ من اللّهجة المَحكيّة المتداولة (المتحدّرة من اللّهجة اللّبنانية) إلى لهجة البداوة خلال أربع مراحل امتدّت عبرَ أكثر من قرنٍ من الزّمن تقريبًا إلى أن أصبحت السِّمة العامّة لفولكلور جبل العرب، ومن هذه المقدّمة المُبسّطة والتي جسّدنا من خلالها ملامح من مراحل الشّعر النّبطي في جبل العرب ندخل في العدد القادم من “الضّحى” بإذن الله إلى التّعريف الخاصّ بهذا الشّعر وإلى الشعر النّبطي المعاصر في جبل العرب.

دروز سوريا والبداوة

دروز سوريــــا والبــداوة

غّلَبَةُ الشّعر النّبطي والأخـلاق العربيّــة في جبــل العــرب
عنوان لأكبر عملية تفاعـــل ثقافــي في تاريــخ المنطقــة

بيـن الدروز وقبائل الباديـة قامـت علاقـات إعجــاب ونفـور في آن
لكن الدروز أدركوا أهمية التفاعـل مـع الثقافـة والقيـم البدويـة

يعتبر تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب من اللّهجة اللبنانية التي حملها النازحون الأوائل إلى جبل حوران إلى اللهجة النَّبَطيّة البَدوية إحدى أعجب ظواهر تكيّف اللّغات المحكية وتحوّلها، والأعجب في هذه الظّاهرة أنها لم تستغرق أكثر من قرن من الزمن تحوّل فيها شعراء العامية في جبل العرب (جبل الدروز) بصورة تدريجيّة من لغة الزّجل أو الشعر اللّبناني المحكي إلى الشعر النَّبَطي السّائد بين القبائل العربية التي كانت تجوب القفار المحيطة بجبل حوران وتتفاعل مع المجتمع الحوراني الدّرزي بأشكال مختلفة. لقد كانت هناك التّبادلات التّجاريّة والأحلاف القبلية التي عزّز بعضها شوكة بني معروف، وكانت هناك أيضًا المساكنة القلقة على التّخوم ونزاعات الأراضي أو علاقات الجوار التي تتراوح بين مراحل هدوء وتفاهم وبين الاحتكاكات والغزوات والصّراعات الدامية. وكما في كل آن فقد كانت هناك الجهات الخارجيّة التي تسعى بين الحين والآخر لتأجيج النّزاع بين المجتمعين.
لكن مما لا شكّ فيه أنّ تاريخ دروز الجبل لم يكن تاريخًا منعزلا لأنّه كان في جزء منه تاريخ تطوّر علاقات السّكان الوافدين بالمجتمع البدويّ والقبائل الكثيرة التي كانت تحيط بهم وتهددهم أحيانا، وكان لهذه العلاقة أثر حاسم ومباشر في إعادة تشكيل هُوّيّة الجبل وثقافته. وربما ازداد هذا التفاعل وبلغ أقصاه خلال القرن التّاسع عشر عندما ضعفت سلطة الدّولة وانتشر الفساد في أوساط الإدارة العثمانيّة فكان على الموحّدين أن يتدبّروا أمرهم بأنفسهم مع البدو الذين اعتادوا حياة الغزو والتجاوز على حياة الحضر والزّراعة وأن يطبّقوا السّياسات والإجراءات الآيلة إلى احتواء التّهديد الخارجي عبر نوع من “تعايش الأقوياء” مع المحيط القبلي طالما أنّ الدّولة لم تكن قادرة على حمايتهم.

“بيئة الجبل تتشارك مع البيئة البدويّة في القيم والعادات والخصال العربية رغم الاختلاف الظاهر في أســـــلوب الحياة أو في المعتــــقد”

إن الكثير من سمات حياة البداوة يتحدّد بالتّناقض والتّعارض مع نمط حياة المجتمع الحضريّ وهذا الصّراع البدويّ الحضريّ كان على الدوام، كما أوضح ابن خلدون، من أهمّ سمات طبيعة حياة المجتمعات وتحوّلها وانهيارها أحيانًا. بالمعنى نفسه فقد طغى التّعارض الحَضَريّ البدوي على العلاقة بين النازحين الدّروز الذين اهتمّوا بإعمار القرى الخَرِبة وبناء مجتمع زراعي مستقر وبين القبائل البدويّة التي تتميز حياتها بعدم الاستقرار المكاني وقدر كبير من الشّظف والحياة الخشنة كما تقوم على عادات الغزو والتنظيم الاجتماعي الحربيّ، وقد كان البدو يتمتعون بحريّة تقليدية في التّنقّل واستغلال الفيافي والمراعي لكنّهم لم يلبثوا أن اصطدموا بـ “الجدار” الدّرزي وببُنية اجتماعيّة تشدها عصبيّة لا تقلّ أبدًا عن عصبية القبيلة وتماسك شديد وقوّة بأس وخبرة قتالية بل وشراسة عندما يتعلق الأمر بحماية الدّيار والذّمار والأرزاق والكرامة.
لقد حدّ الانتشار الدّرزي في بلاد حوران ونجاح الدّروز في حماية مواطنهم الجديدة من حرية الحركة التي كانت للبدو في السّابق في الجبل ومحيطه، وقلّص إلى حد ما وصول هؤلاء إلى بعض أخصب الأراضي في الجبل تلك الأراضي التي كانت مجرّد مراعي موسمية لمواشيهم في الماضي قبل قدوم النازحين من بني معروف إلى الجبل.
بذلك ارتسمت على الأرض حدود جغرافية واجتماعية وثقافية مائعة بين الفريقين وقد فرض الدّروز احترامًا متبادلًا بينهم وبين البدو إذ عاملوهم بتهيُّب واحترام وتعلّموا منهم الكثير، وفي بعض الأحيان قامت بين الفريقين علاقات إعجاب ونفور في آن واحد، وساهم هذا في نشوء إطار للتّعامل السّلمي لأكبر عملية تفاعل مجتمعي وثقافي بين بيئتين يجمع بينهما الكثير في القيم والعادات والخصال العربيّة رغم الاختلاف الظّاهر في أسلوب الحياة أو في المعتقد.
في هذا التّفاعل المجتمعي لعب عامل اللّغة أو لهجة التّخاطب مع الوقت عاملًا حاسما في صياغة العلاقة بين الطّرفين. لقد كان البدو، كما كان عرب البادية دومًا، شعب فخور وفصيح في آن، وهو شعب يكاد يتخاطب في جميع أموره العامة والمهمة بلغة الشّعر حيث كان الشّعر لغة “الدّبلوماسية” القبليّة وهو وسيلة الإعلام الوحيدة والتّواصل بل هو عماد هُوّيّة الشّخصيّة البدويّة ومصدر اعتزازها وعنوان خصوصيّتها. وقد وجد الدّروز في وقتٍ مبكّر الحاجة ماسّة للتّواصل والتّعايش مع تلك البيئة التي تغطّي القسم الأكبر من شمال شبه الجزيرة العربيّة وبلاد الشام وتتشابك عشائرها في تحالفات تجعل منها قوّة يحسب حسابها، كما أنّهم اكتشفوا في الوقت نفسه أهميّة الشعر في التّخاطب وتعزيز روابط الانتماء إلى البيئة الجديدة. لكنّ الظاهرة الملفتة هي أنّ خيار الدروز العفوي ومن دون صعوبة كان التّفاعل مع لغة البداوة وصيغة الشعر البدويّ (النّبطي) في تعبيراتهم الشّعرية حتى أصبح الشّعر الشّعبي في الجبل بمعظمه شعرًا نبطيا فكيف حصل ذلك وما هي دلالاته؟
لقد وجد نازحو بني معروف إلى جبل حوران أنفسهم أمام واقعٍ مختلف وفي محيطٍ تحكمه التّقاليد والأعراف واللغة البدويّة القبلية، لذلك فهم لم يتأخّروا في الاندماج مع الواقع الجديد، ولم تكن من حدود إثنية بينهم وبين مجتمع البلاد التي أعمروها، فقد كانت غالبيّة القبائل البدوية من حولهم من أصول يمنيّة، كقبيلة زبيد على أطراف الجبل الشمالية، وقبيلة السّرديّة في البادية الجنوبية للجبل، وهم اضطرّوا للنزوح من لبنان بسبب حزبيّتهم اليمنيّة، لذا فهم في موطنهم الجديد، جبل حوران، لم يكن بينهم وبين جوارهم حاجز لغة، وكان التباين يتمثّل بالدّرجة الأولى بالتعارض بين حياة التحضّر وحياة البداوة، هذا التباين الذي دخلت عليه السلطة السائدة وحولته أحياناً إلى تنازع ضمن سياسة فرِّق تسد. ورغم هذا كلّه فقد كانت العلاقات الطيّبة تغلب في نهاية الأمر على التناحر والقطيعة سواء مع البدو أو مع سكّان السّهل الحوراني من الفلّاحين.
في الجبل تفاعل الموحّدون مع لهجة المحيط من حولهم، لأنه كان المحيط الغالب ولأنهم كانوا غريزيا يسعون لأن يكونوا مقبولين في الوسط الحورانيّ من خلال الانسجام مع الثقافة السائدة التي لم يكونوا عنها ببعيدين من حيث المبدأ لأنهم جميعًا أبناء البوتقة العربية على تمايزاتها.
ولقد عبرت تلك العملية عن تكيّف تام للدّروز مع البيئة البدويّة والحوارنيّة الأوسع من حيث تفاعل الموحّدين مع ثقافة البادية الأصيلة وقيمها الرّاسخة. وسهّل ذلك عليهم تبنيهم الكثير من مفاهيم منظومة التعبير البدويّة في عمليّة التفاعل اليوميّ مع المحيط، كما أنّ ذلك سهل بلورة الهويّة المستحدثة للنازحين الدّروز في إطار البيئة السّورية الأوسع وفرض في نهاية المطاف الاعتراف بالدّروز في جبل حوران كواقع له شرعيّته غير المنقوصة كما فرض احترام خصوصيّتهم ودورهم في الإطار الوطني. ولنلاحظ أن عمليّة التناغم الدرزي مع البيئة الحورانية وبيئة البادية الأوسع تمثلت أيضًا بتبني بعض مظاهر الزِّي البدوي كالعباءة والكوفيّة والعقال، بالإضافة إلى التأثّر بتقاليد الرّقص الشعبي لمواطني سهل حوران الحوارنة، والأشعار الاحتفاليّة المنقولة من بيئة البادية وسهل حوران، بالإضافة إلى التفاعل مع كثير من تقاليد البادية مثل تقاليد الضيافة والاعتزاز بالعشيرة وتقاليد إعداد الوليمة الجامعة(المنسَف)، وغيرها ..
لكن اللّافت للنّظر مع ذلك أنّه بينما اعتنى الدروز بقوة بإتقان الشّعر النبطي واستخدموه بوفرة في المخاطبة اليوميّة الوديّة أو المتحدّية لأقرانهم من قبائل البادية فإنّهم لم يسحبوا ذلك التّبنّي على لغتهم اليومية المحكيّة، والتي بقي فيها الكثير من سمات اللّهجة اللبنانية الجبلية التي حملوها معهم (ولكن مع دخول اللّكنة السورية). لقد كان في هذه التسوية الفذّة ما مكن دروز الجبل من الاحتفاظ بالمكوّن الأساس لهوّيّتهم الاجتماعيّة والثقافية (تلك التي يعتمدون عليها في ممارساتهم الاجتماعية وعباداتهم ومعاملاتهم في ما بينهم) في الوقت ذاته الذي اعتنوا فيه بتطوير الشّعر البدويّ باعتباره “اللّغة ــ اللّهجة الرّسمية” للمخاطبات السّياسية والاجتماعية في مجتمع البادية الذين كانوا قد أصبحوا جزءا مميّزّا من مكوّناته.
أعددنا هذه المقالة الموجزة على سبيل التّقديم للبحث الجاد والموفّق للشاعر الباحث السوري الأستاذ حازم ناصر النّجم بشأن تطوّر الشّعر الشّعبي في جبل العرب، والذي يعرض فيه لمراحل تفاعل التعبير الشّعري في الجبل بين اللّغة ــ اللّهجة المحكيّة التي حملها النازحون بنو معروف من لبنان وبين اللغة ــ اللّهجة النّبطية البدويّة الصّرفة، والدّور الذي لعبه شعراء الجبل في حقبات متتابعة في عملية التّفاعل الذي انتهى إلى حالة من التوسّط بين الحالتين. وفي ما يلي الحلقة الأولى من هذا البحث القيّم وسيتبعها في العدد المقبل من الضّحى الجزء الثاني والأخير.

رئيس التحرير

ثقافة و آداب

الرُّوميُّ أميرُ العِشْقِ الإلهِيّ مختاراتٌ من ديوان شمسِ تبريزَ حين طَلَعتْ شمْسُك تَبدّدت الأقوالُ نحنُ كالسّيْلِ، كالنّهْرِ، كُلُّنا إليكَ نَمضي قُدُماً إنْ …

الحكمة الهِرمسيّة نور العالم أَمَــــدَّت حكمــــة الإغريـــق وألهمــــت العـــــرب وأرْسَت أوّل نظـــرة توحيديّة لفهـــم الوجـــود ليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، …

يُوثيدِيموس سقراطُ يَدحضُ السّفسطائيّين سقراط لو اكتشفنا كيف نحوّل الحَصى إلى ذهب فإنّ هذه المعرفةَ لن تكونَ لها أيُّ قيمة إنْ لم …

مؤلفان جديدان من مؤسسة التراث الدرزي. مؤسّسةُ التّراث الدّرزيّ في إصدار جديد “حَوْران في الوثائق العثمانيّة” تُعتَبر مؤسّسة التّراث الدّرزي أحد أهمّ …

اللغة والحياة لا يمكن لأي لغة مهما تحصنت ضد التغيير أن تنجو منه لا يكابر احد في أن اللغة العربية، ابنة اللغة …

الشعر العامي

دروز سوريــــا والبــداوة غّلَبَةُ الشّعر النّبطي والأخـلاق العربيّــة في جبــل العــرب عنوان لأكبر عملية تفاعـــل ثقافــي في تاريــخ المنطقــة بيـن الدروز وقبائل …

مجلّــــــةُ «الضُّحـــى» تفقـــــدُ أحـــدَ أمنائِهــــــا المؤسّسيــــن رجلُ الأعمال والمُحسن محمـــود سَلمـــان دَلال صَرْح نجاحــات وريــــادة في العمل الاجتماعــيّ كفاءته فـي التّنفيــذ والمواعيـــد …

تَوْفيق عّساف قِصّةُ رجلِ أعمــــــالٍ أحــــبَّ النّــــاسَ فأحبّـــــوه وحفــــــــظ ودَّ الوطــــــــن غسّان عسّاف: آمنَ باقتصادٍ حُرٍّ لكنْ ليس للأغنياءِ وحدَهم وكان رائدًا …

عَمود السّماء الشّيــخ بشيــر جُنبـلاط الشّيخ بشير جنبلاط (1775-1825) هو أهمُّ المشايخ المقاطعجيِّين في جبل لبنان في العهد الشِّهابيّ، وهو القائم بِدَور …

المَشـروعُ الصّهيونـــيّ ومأساةُ اليَهود العَرب نصوص للكاتب الإسرائيليّ العراقيِّ الأصل رَؤُبين سنير المؤسّسة الصّهيونيّة تتعامل مع الثّقافة اليهوديّة – العربيـــّة كما لو …

متوسّط مساحة الشقّة بين 145 و 155 متراً مربّعاً سعر البيع بين 800 و1000 دولار بالمتر المربع أعلنت جمعيَّة الغد للتّنمية والإسكان …