الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

سيّدات معروفيّات مُبْدِعات

سيتابع قارئ الضحى بدءاً من هذا العدد (36) قصة النجاح الشخصي والعلمي لسيّدات معروفيّات تمكنّ، بالجهد الشخصي والمثابرة والتشجيع من أسرهنّ ومجتمهنّ، أن يصلنَ بعلومهنَّ إلى الدرجة القصوى المتعارف عليها أكاديمياً (أي الدكتوراه في الاختصاص).

نقدّم في العدد هذا أربعة من الأخوات اللواتي أنجزن شهادة الدكتوراه اللبنانية في الاختصاص (فئة أولى)، ونلن أعلى العلامات والتقدير على ما أنجزنه، على أن تلي في أعداد لاحقة تجارب أخرى من التفوق والإبداع.
وإذا كان من كلمة أخيرة في الموضوع، نقول إحقاقاً للحق وطلباً للموضوعية، أن النجاحات «النسوية» تلك ما كان لها أن تتحقق باليسر والتشجيع اللذين لاقتهما لولا المُناخ الإيجابي حيال العلم والتعليم بكل صوره الذي ما انفك المجتمع التوحيدي يظهره عملاً بالتقليد الإسلامي المعروفي الذي لطالما حثّ على طلب العلم «ولو في الصين»، والذي شجع من دون تردد، وبتوصية مباشرة من الأمير السيّد(ق) على الأخذ بيد من يريد (أو تريد) اختبار طريق العلم الصحيح، واعتباره حلية أخرى تنضاف إلى حليتَيّ الإيمان والأخلاق- ميّزتا كلّ موحّد وموّحدة.

الدكتورة أمل بو غنّام حمزة : تعريف بالإطروحة تحت عنوان: اليابان بين الحربين العالميتين دراسة في التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي (1918-1945)

إطلالة على تاريخ اليابان بين الحربيين العالميتين

تُعَدُّ دراسة تجارب الأمم والشعوب إحدى أهم ميادين الدراسات التاريخية، للاستفادة من تجاربهم، «فالتاريخ علم التغيير»، كيف إذا كان يبحث في الديناميكية التي تميزت بها اليابان، والقدرة على التعامل مع المستجدات والتطورات، في محاولة لكشف أسرار نجاح اليابان في دخول نادي الدول الامبريالية الكبرى في مؤتمر فرساي للسلام عام (1919)، والدولة الآسيوية الوحيدة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ومنع تمدد الشيوعية، لتصبح دولة استعمارية في الحرب العالمية الثانية.

بحثت هذه الدراسة في تاريخ اليابان ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وتوصلت لنتائج عديدة للتغييرات التي شهدتها؛ وتفاعُل الأفكار الليبرالية والاشتراكية داخل مجتمعاتها التي ساهمت في نمو الأحزاب وظهور الحركات الاجتماعية فعرفت تلك الفترة بديمقراطية تايشو. كما بحثت الدراسة في العلاقات بين الطبقة السياسية والطبقة الاقتصادية في اليابان، ودور الدين والعادات وغيرها في حماية البلاد من الوقوع في التشرذم والفوضى المتأتية من تفاعل الأفكار الرأسمالية والشيوعية وثورة العمال وغيرها من القضايا.

ونجاح اليابان في تبنِّي التقدم والتطورالصناعي والاقتصادي، واعتبرت أنّ ظهور التكنولوجيا والعلوم شكّل انتصاراً لطريق الامبراطور، ودعت إلى ربط الإقتصاد الوطني بالاقتصاد العالمي، وأصبحت شريكة للدول الأوروبية في تقاسم النفوذ في الصين؛ فتقاطعت المصالح بين اليابان وأميركا في كوريا والفيليبين، وتوترت العلاقات بينهما على أثر إعلان قانون الهجرة (1924)، القاضي بالحدّ من الهجرة الآسيوية إلى الولايات المتحدة وأثارت قضية التمييز العرقي.

ساهمت الأزمة الاقتصادية بداية ثلاثينيات القرن العشرين في البحث عن سبل لمعالجة تداعياتها. فشجعت على الهجرة إلى الصين بعد أن شهدت زيادة سكانية كبيرة من أجل الحصول على مصادر للطاقة لصناعاتها. وتدهورت علاقاتها مع الدول الغربية على خلفية حادثة منشوريا في عام (1931)، ما حمل اليابان على الانسحاب من عصبة الأمم عام (1933). وسعت إلى تأسيس كتلة الينّ اليابان- منشوكو- الصين وتوسعت لتشمل مجال ازدهار مشترك لشرق آسيا العظيم، حيث أخفقت في حساباتها حين أرادت أن تفرض إرادتها على الشعوب شرقي وجنوبي آسيا بحجة تحضيرها، فانحرفت إلى الشوفينية الفاشية طمعاً في إيجاد نظام عالمي جديد في شرق آسيا، وتطبيق مبدأ آسيا للأسيويين، بعد أن أخفق النظام الحالي في بناء السلام العالمي. فتبنت نظام العسكريتارية، وسخّرت الروح العلمية اليابانية في تنفيذ سياستها التوسعية القارية، وفرضت التجنيد الإجباري والتعبئة الإقتصادية في اليابان والأراضي التي سيطرت عليها، بهدف تحقيق ازدهار مجال شرق آسيا العظيم، وتبنت نزعة قومية متشددة، نقلتها من مرحلة المهادنة مع الولايات المتحدة إلى المواجهة، متخذة من العائلة الامبراطورية مصدر إلهام للشعب الياباني .
وسارعت إلى تحقيق مذهب عموم آسيا وفرض شروط جديدة عالمية، إذ اعتبرت أنّ العالم أمام منعطف تاريخي جديد، وقدَّر الامبراطور الياباني أخلاقياً أن يصبح زعيم العالم؛ فانضمت اليابان إلى دول المحور، وأُطلقت يد اليابان في آسيا التي انحرفت عن هدفها في توحيد دول شرق آسيا لخلق اليابان العظمى. وقد استخدمت اليابان العنف تجاه الدول الآسيوية لإرهاب الشعوب الآسيوية وتحقيق مشروعها التوسعي؛ فيما أُطلقت يد ألمانيا وإيطاليا في أوروبا والمستعمرات…

شكل هذا الأمر تحدّياً للولايات المتحدة التي بدورها حاولت كبح جماح اليابان، في حين استمرت المحادثات بين البلدين من أجل تفادي الحرب. وتزامناً، أعلنت اليابان التعبئة العسكرية العامة وتحالفت القوى الاقتصادية مع القوى العسكرية وتحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية، بعد إحياء الدين الحقيقي الجامع لأبناء اليابان، في مواجهة الثقافة السياسية والمصالح الاقتصادية الأنجلو-أميركية.

أمام هذا الانقسام، فرضت الولايات المتحدة حظراً على تصدير النفط إلى اليابان التي تعتمد عليه بنسبة (80%)، للضغط عليها وفصلها عن دول المحور، فقطعت اليابان محادثاتها مع الولايات المتحدة بهجوم مفاجئ وعنيف على بيرل هاربور في (7 كانون الأول 1941). بينما كانت أميركا تجري التجارب على السلاح النووي الحديث، دخلت الحرب الحتمية واستمرت حتى استسلام ألمانيا، وبات حسم الحرب وردع اليابان أمراً ضرورياً؛ فاستخدمت الولايات المتحدة السلاح الجديد على هيروشيما وناكازاكي، لانتزاع الاستسلام من اليابان، وإجبار اليابان على التخلّي عن مقارعة الغرب، ويكون الرادع لعدم تكرار الحروب العالمية.

وقَعت اليابان تحت احتلال قوات الحلفاء، وفُرضت عليها تغييرات جذرية لتحويلها إلى دولة مسالمة، مقابل احتفاظها بوحدة أراضيها وهويتها الوطنية، وتخلّي الامبراطور عن صفة الإلوهية، وإلغاء جميع أشكال عسكرة النظام ودمقرطته. وأُجبرت على تفكيك شركات زايباتسو الاقتصادية التي موّلت الحرب. واستجابت اليابان للضغوط التي فرضتها قوات التحالف، وأدركت أن عليها استعادة ثقة المجتمع الدولي وانتهاج سياسة المسالمة تجاه دول القرار في النظام العالمي، لاستعادة موقعها العالمي في المجال الاقتصادي.

استطاعت اليابان أن تبتدع «ثنائية: الإنجاز – الاستمرارية الحركية»، التي تميزت بها عن غيرها من الأمم؛ وهي سرّ من أسرار التفوق الاقتصادي المُذهل الّذي ربطها بفلسفة «الاعتماد على الذات»؛ والعمل الدائم على أن تكون شريكة في القرارات الدولية وفهم السياسة العالمية دون الانغلاق على الذات؛ ترافق ذلك مع النشاط الإنساني المنفتح والحذر على العالم الخارجي، أو التكيّف الإيجابي.


كيف اخترت موضوعي لأطروحة الدكتوراه؟

مِنْ: ندى أمين حسن (فياض) حائزة على شهادة الدكتوراه اللبنانية في التاريخ سنة 2015.

إنّ فكرة اختياري لموضوع إعداد أُطروحة الدكتوراه، يرتبط بالمكان والزمان اللّذين ترعرعت فيهما. فقد وُلِدت في بيت متواضع، رسم ربُّه على عتبته شعارَيِّ «العلم والأخلاق»، اللّذين بقيا زاداً أحمله من عائلتي الأم أينما ساقت بيَ الحياة، لتنمو هذه المبادئ مع زوج شغوف باقتناء الكتب وقراءتها.

مارستُ مهنة التعليم، وعملت في الإدارة العامة، وأنا أتساءل عن ماهية الوظيفة، عن حقوق الموظف، وعن واجباته، وعن كيفية تقديره ومحاسبته، عن كيفية بناء روح المواطنية لدى تلاميذي، وأخيراً عن دوري في إعدادهم كبُناة للوطن؟

تساءلت كثيراً عن مدى تأثير موقع السكن لأي مواطن على مسار حياته، في بلد يتوجب أن تتساوى فيه كل الفرص بين مواطنيه؟ حين حُرِمت من إكمال دراستي الجامعية كعقاب لي على إقامتي في منطقة لا تبعد عن العاصمة بيروت سوى عشرات الكيلومترات، ولم أحظَ بهذه الفرصة سوى بعد خمسة عشر عاماً على نَيلي شهادة الثانوية العامة. كان لهذه السنين الفضل في نُضج أفكاري وتحديد تساؤلاتي واختيار موضوع رسالة الماجستير للإجابة عنها من خلال عملي كباحثة، فكانت تحت عنوان «تجربة فؤاد شهاب في بناء الدولة المدنية في لبنان بين عامي 1958 و 1964».

صمّمت أن يكون موضوع أطروحة الدكتوراة مُتَمّماً لموضوع رسالة الماجستير، حين يبحث عن مصير هذه الدولة بعد نهاية حرب لبنان (1975-1990)، ولكن للأسف ولأسباب لا مجال لذكرها، لم أحظَ بهذه الفرصة، فقرّرت السير بقراري، واختيار موضوع يتطرّق إلى هذه الدولة من خلال رؤيتها لِلّامركزية الإدارية عبر أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي جسّدت البيئة الحاضنة لمفهوم التنمية، محددة قضاء الشوف كأنموذج لذلك، فأتت الأطروحة تحت عنوان «البلديات ودورها التنموي في قضاء الشوف بين 1943 و2010»، والتي نِلت على أساسها شهادة الدكتوراة في التاريخ، سنة 2015.

ارتبطت البلديات بعلاقة راسخة بمفهوم الديمقراطية؛ فقد كانت مهمة الدولة الأساسية المحافظة على الأمن، لتتطور مهامها وتشمل تأمين الخدمات، خدمة لعملية التنمية في مجتمعاتها، حتى أنّ الشرعية الديمقراطية لهذه الدولة بدأت تأخذ مفهوماً جديداً يشمل فعالية السلطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. هذه الديموقراطية المقنّعة، بمعادلة طائفية راسخة، تظَهرُ في لبنان من خلال اللامركزية الإدارية، وبالتحديد في أحد وجوهها الإدارة المحلِّية أو البلديات، التي نشأت في لبنان قبل الجمهورية، وتنامت معها حتى يومنا هذا.

لم يكن نشوء البلدية ابتكاراً خاصّاً بالّلبنانيين، لكنّهم احتضنوا هذا الإنجاز، وعملوا على التشريع له، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاَ. وحين تناحروا، لم يجدوا بديلاً عنه، فعادوا إليه بعد تجربة إدارات الأمر الواقع، في مختلف المناطق اللبنانية خلال حرب لبنان.

وعى اللبنانيون فكرة التنمية، ونقلوا مبادئها النظرية من منظِّريها، وأيقنوا مدى الحاجة إليها في بلدهم، فعقدوا العزم على أن تكون البلدية، البيئة الحاضنة لها.

اخترت قضاء الشوف مجالاً جغرافيّاً لبحثي، لأنّه يتميز بتنوعه الجغرافي والديمغرافي، وشعرت بذلك أنه نموذج مصغّر عن لبنان، واخترت أن تكون دراستي عن موضوع البلديات فيه، مثالاً عن كل مناطق الجمهورية اللبنانية.

اعتبرت إشكاليّة البحث، «البلدية نواة الديمقراطية الأولى»، كما تطرقت إلى علاقتها بالمواطنين وقدرتها على معرفة قضاياهم ومشاكلهم، إذ تُنتخَب مباشرة منهم، وتعمل على تحقيق كلّ عمل ذي طابع ومنفعة عامين لهم.

تضمّنت الفرضيات؛ ملاءمة بيئة قضاء الشوف لتكون مجالاً لدراسة تجربة البلديات ودورها التنموي، كما تطور العمل البلدي في هذا القضاء وبخاصة بعد انتخابات سنة 1998 البلدية والاختيارية، مع لحظ مراعاة المواطنين للمعايير العائلية والطائفية عند اختيار أعضاء مجالسهم البلدية، وإظهار دور الاتحادات البلدية في تنشيط العمل البلدي وتحقيق أهدافه الإنمائية، وأخيراً عرض الصعوبات المُعيقة للعمل البلدي وكيفية معالجتها.

عالجت دراستي هذه المجموعة من الفرضيات، بكلّ تفاصيلها، ممّا سمح لي في ختامها أن أتوصل إلى معطيات إيجابية منها وسلبية، مبنية على براهين تستند إلى معايير البحث العلمي، ليكتمل بحثي بعرض رؤى مستقبلية تتعلق بالعمل البلدي وتحقيق دوره التنموي.

تناوَلت اقتراحاتي المستقبلية عدة مجالات، توزّعت بين أدوار السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والمجتمع المدني والقطاع الخاص وأخير دور المجالس والاتّحادات البلدية نفسها.

جعلتُ دراستي الجامعية نواة كتاب أصدرتُه سنة 2017، تحت عنوان «قضاء الشوف بلدات وبلديات 1860-2016»، بعد أن أكّدت خلال دراستي الجامعية أنّ سنة 1860 هي تاريخ تأسيس أول بلدية في لبنان أي بلدية دير القمر في قضاء الشوف، وأنه من الواجب دراسة هذه الفترة الزمنية لإعطاء مفهوم العمل البلدي حقّه الوافي في لبنان، وصولاً إلى سنة 2016 تاريخ إجراء آخر انتخابات بلدية واختيارية.


علّمتني الفلسفة

دكتورة عفّة محمّد محمود.

علّمتني الفلسفةُ أنّ العمرَ مهما بلغ، لا يقفُ حائلاً بين الإنسان وطموحه، ومرشدنا في ذلك أفلاطون الحكيم الذي أحبَّ الموسيقى وتعلّمها وهو في الثمانين من العمر. لذا عدت إلى مقاعد الجامعة بعد أن تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد ،وكانت فرحتي بإكمال علمي توازي فرحتي بإنجاب الأولاد. فإذا كانت ثمرة الحياة الدنيا البنات والبنون، فإنّ ثمرة الفكر العلم والتأليف والكتابة ،وبالتالي نيل الشهادات العليا.

بدأت رحلتي مع الفلسفة وحب الحكمة والحكماء، منذ الصغر وتبلورَت بشكل جليّ مع المعلم كمال جنبلاط والمطالعة الدؤوبة والمستمرة في كتبه الجمّة، حتى شعرت وكأنّ ميلادي الثاني، ميلادي الروحي قد تفتح على فلسفته وروحانيته، فكانت رسالتي في دبلوم الدراسات العليا عنه وعن فكره النيّر الخصب ،حيث حملت الرسالة عنوان: «الروحانيات والتصوُّف في فكر كمال جنبلاط».
دفعني الشغف العلمي، وحبي للمعرفة لإكمال مسيرتي ونيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة اللبنانية، الجامعة الأم التي نعتز ونفخر بمستواها الأكاديمي، لكنْ هذه المرحلة لم تكن سهلةً إذ واجهتني صعوبات جمّة ،منها البحث عن المشرف الذي يأخذ بيد الطالب ليصل به إلى برّ الأمان، والبحث عن موضوع جديد غير مسبوق.

عملت على أطروحتي طوال خمس سنوات ،تحت عنوان «فلسفة القِيم في النص الصوفي، نموذج محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي»، ونلت عليها تقدير «جيّد جداً»، طبعاً وبكل تأكيد ما من عملٍ ناجحٍ إلّا ويحتاج إلى جهدٍ كبير ومعاناة ،وملاحقة أصغر التفاصيل، ليظهر العمل أقرب ما يكون للكمال. وهنا تكمن أهمية المثابرة والمتابعة عند الطالب، وأيضاً التشجيع والتحفيز من المحيطين والمهتمين لنجاح هذا العمل، ومن الصعوبات التي رافقت عملي أيضاً، تجميع المعلومات والتقميش وضبط كل هذا بشكل متسلسل ومنظم، لتتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي ،وجلال الدين الرومي.

تتألف الأطروحة من ثلاثة أبواب، وفي كل باب ثلاثة فصول. عرضت في الباب الأول موضوع القيمة والقيم. فالقيم من أهم موضوعات الفلسفة وأصعبها، إذ إنّه حتى اليوم لم يتفق الفلاسفة على تعريف واحد موحَّد لها.فالبعض كالفلاسفة الماديين يعتبرون موضوع القيم موضوع متحوّل، ويتغير بتغير الزمان والمكان، بينما يعتبر الفلاسفة المثاليين مثل سقراط أنّ القيم العليا من الحقائق الثابتة ولا تخضع للتغيير: «وبأن السعادة تقوم في سيطرة العقل على دوافع الشهوة، ورد الإنسان الى حياة الاعتدال، ومتى عرف الإنسان ماهيته وأدرك خيره أتاه لا محالة، لأن الفضيلة وليدة المعرفة ،فمتى عرفتَ الخير حرصتَ على فعله، ومتى أدركت الشر توخيت أن تتجنبه…».(توفيق الطويل ،فلسفة الأخلاق، ص 33).

تتعدد مصادر القيم، والدين أحد هذه المصادر المهمة، فمنها قيم اعتقادية، وقيم خُلقية، وقيم عملية، حيث حرص كل من ابن عربي وجلال الدين الرومي على تثبيتها وترسيخها في الذات، والالتزام بكل الفرائض والواجبات كما وردت في النصوص القرآنية. يقول ابن عربي: «إنّ التقيد الصارم بالشريعة، وهو بالطبع الشرط للنجاح، واكتساب مكارم الأخلاق مثل الدماثة أو الحلم والتواضع والكرم والفتوة، وهي أمور ضرورية للترقي الروحي»، (كلود عداس ،ابن عربي ،ص265).

وهذا ما أكده الرومي بإيمانه بالله وعشقه للصورة الأزلية حيث يقول: «أيّها الملك! أطفئ حرصنا بماء رحمتك ،واسقِ أرواح المشتاقين شراب وحدتك ونورك، وأضئ ضمائر قلوبنا بأنوار معرفتك، وشرّف وكرّم أشراك أملنا التي نصبناها في صحراء سِعَة رحمتك بأطيار السعادة وصيود الكرامة» (الرومي، المجالس السبعة، ص 16).

في الفصل الثالث من الأبواب الثاني والثالث، حرصت على أن تتبلور منظومة القيم عند كل من ابن عربي، وجلال الدين الرومي، وذلك يتم بمراقبة الجسد وضبط الحواس، ثم ضبط النفس الأمّارة بالسوء التي تدفع بالإنسان إلى الغرائز والشهوات بالقوة العاقلة والتمييز السليم، والتحلّي بالفضائل الإلهية، والابتعاد عن الرذائل لتصبح النفس حرَّة مُعْتَقة من رقِّ الجهالة.
أمّا أعلى مرتبة يشدد عليها الصوفية فهي مرتبة القلب، والذي اعتبروه أعلى من القوة العقلية في الإنسان، يقول ابن عربي: «فاعلموا أنّ القلب مرآة مصقولة كلّها وجه، لا تصدأ أبداً، وإن صَدأت لقوله عليه السلام: «إن القلوب لتصدأ كالحديد وجلاؤها يكون بذكر الله تعالى والقرآن..، فكأن تعلّقه بغير الله صدأ على قلبه لأنه مانع من تجلّي الحق إلى هذا القلب» (الفتوحات المكية ج3،ص103).
وهذا ما يقوله الرومي عن القلب أيضا: «إلّا الأصوات في صدور الأولياء والأعزاء، وهؤلاء هم الذين يكون نفخ الصورة أنفاسهم! فباطنهم هو الذي سكرت به البواطن، وفناؤهم هو الذي استُمِدَّ وجودُنا منه، إنَّ الوليّ نور الفكر، وكلُّ صوت فيه هو لذة الإلهام والوحي والأسرار». (الرومي ،المثنوي ج1، ص268)

وأخيراً نصل إلى نتيجة مهمّة وهي أنّ العودة إلى تراث الأقدمين العارفين، والتحلّي بأخلاقهم الحميدة، الفاضلة تخرجنا من الفساد والمفسدين، وتنير ضمائرنا وعقولنا بالعمل الصالح السليم الذي فيه خيرنا وخير مجتمعاتنا كافة. لو عاد الإنسان إلى حقيقته، وسأل نفسه عمّا يريده من هذه الحياة بوعي وحكمة، لأجاب: مطلبي السلام، السلام الداخلي، والأمان والسلام في العالم ككل، وإذا كان مطلبه الارتقاء العقلي والصفاء في جنانه، لتطول سعادته، فما عليه إلّا بالتوحيد الحقيقي مسلكاً، أي بعرفان الحكمة، عرفان الصوفية الأتقياء، الأنقياء، والاقتداء بأخلاقهم الفاضلة الحميدة.

أخيراً الشكر كل الشكر لكل القيّمين على مجلّة الضحى، ونخصّ بالشكر رئيس تحريرها، العميد الدكتور محمّد شيا على التفاتته الكريمة.


الهَيدونيّة في الفِكر الغربيّ: مآلاتُها، الأفلاطونيّة عند ميشال أونفراي

نَغم كمال شاهين

«ماذا يجب عليّ أن أفعل؟» هذا السؤال الذي طرحه الفيلسوف الألماني كانط ذات يوم، ينطق بلسان حال كلّ إنسان، معبّراً عن هواجسه الأخلاقيّة – المَعرِفيّة المَعيشة. هذه الهواجس حملت البشر على استقراء ما يحيط بهم من ثقافات وحضارات تلوّنت بمختلف ألوان الإجابات: دينيّة أوّلاً، ثمّ فلسفيّة؛ وصولاً إلى العلميّة والوضعيّة. هذه الإجابات على تنوّعها واختلافها تشبّعت بالهيدونيّة، ذلك أن الإنسان سعى ولا يزال إلى تحقيق سعادته من خلال اختراع واكتشاف لَذّات ومُتعٍ تبدأ عند حدود الجسد ولا تنتهي عند الفكر والروح.

وفي محاولةٍ للإجابة عن سؤال كانط السالف الذكر، قاربت هذه الأطروحة التي تحمل العنوان أعلاه والمُخصّصة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة، فكرَ كلّ من الفيلسوف اليوناني أفلاطون الموسوم خطأً وزورًا بمعاداة الهيدونيّة واحتقار الجسد، والفيلسوف الفرنسي المعاصر ميشال أونفراي « أبو الهيدونيّة في القرن الواحد والعشرين» ومؤسس «الجامعة الشعبيّة».
انطلق البحث من الإشكاليّات الآتية:
1- كيف يقارب أفلاطون مفهوم الهيدونيّة؟ هل هي هيدونيّة مثاليّة – متعالية، أم واقعيّة – جسديّة؟.
2- كيف يقارب ميشال أونفراي مفهوم الهيدونيّة؟.
3- بماذا تختلف مقاربة أفلاطون الهيدونيّة عن مقاربة ميشال أونفراي؟.
4- على أيّة مقاييس تُبنى الأخلاق؟ هل تُبنى على الغنى والتّرف والجَشع أم هناك أخلاق لا بُدّ من إعادة صياغتها لتَرفع الإنسان إلى مستوى الإنسانيّة الحقيقيّة؟.

رامَ البحث إلى تحقيق الهدفين الآتيين:
أوّلاً: إثبات أنّ الهيدونيّة متغلغلة في النسق الفلسفي الأفلاطوني ولها عنده معنى إيجابي، فهي مرتبطة بالفضيلة بشكلٍ عامّ والعدالة بشكلٍ خاصّ، لما يتفرّع عنها من لذّات وسعادة جسديّة وروحيّة على حدٍّ سواء. فاللذّة من حيث هي وعي، تستلزم بُعدًا فيزيولوجيًّا تظهر من خلاله.

ثانيًا: توضيح العلائق التي تُسهم في نسج بناء النَّسق الهيدوني عند ميشال أونفراي، من مكوّنات الفكر الهيدوني المادّي، والرؤية التي ينظر بها الهيدونيّ المعاصر المتمثّل بأونفراي إلى العالم، والهدف الذي يطمح إليه في إعادة الاعتبار للإنسان واحترام الجسد، ما يستلزم إعادة قراءة تاريخ الفكر الغربي الديني والمعرفي والسياسي، ليُصار إلى تحديد هذا المنحى الفكري للنزعة الهيدونيّة، في كُلّ أبعادها عند كُلّ من أفلاطون وأونفراي.
ولتحقيق هذين الهدفين كان لزامًا أن تُقسم الأطروحة إلى قسمين:
– قسم أوّل عَرضت فيه الباحثة مكامن وجود الهيدونيّة في مقاربة أفلاطون في تكوين الأفراد، فلحظت العلاقة بين الهيدونيّة وبين الفضائل، مُنطلقةً من مقاربته الفضيلةَ نفسَها، مُستخدمةً مصطلح هيدونيّة وما يُرادفها أي لذّة بمعناها الجسديّ والروحيّ، فالصحّة والجمال والمواهب هي خيرات؛ كذلك الأمر بالنسبة إلى العدل والاعتدال والشّجاعة، علمًا أنّ هذا المُصطلح لا يعني عند أفلاطون الشّعور الناتج من الانغماس في الشّهوات، بل الناتج من فضيلة الاعتدال، من ثمّ تتبّعت الأبعاد الفيزيولوجيّة والنفسيّة والابستيمولوجيّة والاجتماعيّة – السياسيّة والتربويّة والفنيّة للهيدونيّة، كما قاربها أفلاطون. كذلك قامت بمحاولة تفكيك العلاقات المتشابكة بين الهيدونيّة ومفاهيم السعادة واللذّة والحُبّ والخير، من ثمّ تتبّعت مآلات الهيدونيّة الأفلاطونيّة عند كُلّ من أرسطو وأبيقور، لكونهما ساهما في تكوين الفكر الغربي منذ اليونان حتى يومنا هذا.

– قسمٌ ثانٍ توقّفت فيه الباحثة عند خصوصيّة الهيدونيّة الماديّة عند أونفراي، من حيث معناها ومن حيثُ هي نظام أخلاقي يُعيد الاعتبار إلى الإنسان كجسد ويجعله مصدرًا ومرجعًا للقيم الأخلاقيّة. كذلك عرضت في هذا القسم للإلحاد الذي جعله أونفراي أحد شروط الحياة الهيدونيّة لكونه يحرّر الإنسان من كلّ الضغوطات التي تُمارَس عليه باسم كائن ميتافيزيقي (الله). وقاربت أيضًا موقف أونفراي من الأديان التوحيديّة وثورته المعرفيّة، مضيئةً على بعض أبرز المفكّرين الذين تركوا أثرًا بالغًا على فكر ميشال أونفراي. كذلك عرضت موقف أونفراي السياسي الرافض للفلسفات الدوغمائيّة – الفوضويّة الغربيّة وأسباب تبنّيه الاشتراكيّة التحرّريّة كنظام سياسي من شأنه تحقيق هيدونيّة الجماعة، ومن ثمَّ قدّمت موقف أونفراي من الفنّ المُعاصِر. وفي نهاية هذا القسم، توقّفت الباحثة عند أبرز الانتقادات التي تناولت طروحات أونفراي.

وقد خلصت الباحثة بعد مُقاربة الهيدونيّة من منظورَي أفلاطون وأونفراي، أنّه يُمكن الخروج بفلسفة الأخلاق من المجال النظريّ البحت إلى الواقع المعيش، آخذين بالحسبان صعوبة تطبيق هذه الفلسفات الأخلاقيّة، فالفيلسوف هو ابن بيئته، وإذا ما اكتشف في هذه البيئة انحرافًا على مستوى القيم الأخلاقيّة، سعى بالوسائل المُتاحة أمامه لتقويم هذا الانحراف. أوَليس هذا ما حاول فعله كُلّ من أفلاطون وأونفراي؟ أما هذا هو حال فلاسفة الأخلاق جميعًا، في كُلّ زمانٍ ومكان؟

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى

أيها الشيخُ الجليلُ المقتدى
شيخُ عَقْلٍ حَسْبُهُ أَعْمَالُهُ
ناصراً للحقِّ دَوْماً، دِرْعَهُ
ثَابتَ القلبِ على نَهْجِ الأُلَى
في تَعَاطِيهِ، خَلُوقٌ، صادقٌ
إذ نوى أمراً، فَعَدْلاً مُنْجزاً
شيخُ قَوْمٍ عَزَّ لبنانُ بِهِمْ
هُمْ سُيُوفُ العُرْبِ، سَلْ تاريخَهُمْ
هم بنو معروفَ، هذا دأبُهُمْ
عَاشَرُوا دَوْماً بِإحْسانٍ، ولم
قد صَفَوا عِرْقاً، وسَامَوا مَحتِداً
شخصُهُم حُرٌّ، شجاعٌ، صادقٌ
حَرَّموا في الشِرْكِ فعلاً مُنكراً
في وَصَايَاهُمْ تَجِدْ حِفْظَ الوَفَا

رَمْزُنا في الدين والدُنيا مَعَا
ما أَتى منها لخيرٍ أو سَعَى
راسخاً فِكْراً وفِقْهاً، مَرْجِعَا
كرَّسُوا التوحيدَ دِيناً رائِعا
لَم يَكُنْ يَوْماً لِغَيْرٍ تابِعا
واجداً فيهِ صلاحاً جامِعَا
فيه كانوا شارياً لا بائعا
مَا رَضَوا ذلاً، وَرَدُّوا طامِعا
يُؤثِرونَ العَقْلَ نَهْجاً وادِعا
يَعْتدوا يوماً، وكانوا الجامِعا(1)
وارتَقَوا بالخُلْقِ حدّاً ناصِعا
مثلما يَقْضي نُهَاهُم(2) طائعا
والزِنا والقَتْلَ نَهْياً قاطِعا
شيمةً فيهم وَفْضلاً ذائعا

شروحات:

(1): العاملون للوحدة الوطنية.
(2):العقل عندهم سيد الأحكام.

جــبران وإيمانُه بالقدَر

كان والد جبران خليل بن مخايل بن أسعد بن يوسف بن جبران أشقر البشرة أزرق العينين، قوي البُنية، يملك مزرعة مرجحين قرب الهرمل.

لما بلغ هذا الرجل السابعة والثلاثين من العمر تزوّج أرملة تبلغ السابعة والعشرين تدعى كاملة رحمه. تُوِّجَ هذا الزواج بولادة الأديب جبران خليل جبران ثم شقيقتاه مريانا وسلطانة. غير أن الأب خليل كان يفضل بطرس ابن زوجته من زوجها الأوّل على فلذة كبده جبران، ليس لشيء وإنّما لكون بطرس يطيع زوج أمه ويساعده في حرث الأرض وخدمتها على عكس أديبنا جبران إذ يفضّل جُلّ أوقاته في التصوير والرّسم والأحلام. أمّا أمه كاملة فكانت سمراء رشيقة ذكية جداً وجذّابة، وُلِدت في بْشرِّي وماتت في بوسطن.

جبران خليل جبران

تزوجت في صباها ابن عمها حنّا عبدالسلام رحمه فأنجبت منه ولدها بطرس وعند وفاته عادت إلى لبنان لتتزوج من يوسف سلامة جعجع، لكن هذا الزواج لم يعمّر طويلاً (أقل من شهر)، ويوماً وهي تشتري من دكان للعقاقير مرهماً لأصبعها المجروح التقت بزوجها الأخير خليل جبران وهو يدخّن سيجارته فأعجبتها أناقته وتبادلا النظرات كون الأخير قد عشقتها أذناه قبل عينيه لأنه سمع صوتها يوماً وهي تغني في أحد أعياد القرية.

هذا الإعجاب المتبادل انتهى وتكلّل بزواج خليل وكاملة، هذا الزواج وصفته كاملة «بصرعة غرام». هذان الشخصان ساهما بقسط وفير وكبير في تكوين أديبنا الكبير جبران أخلاقيّاً وأدبيّاً ونفسيّاً، حيث قال الأديب جبران لعشيقته مَيّ زيادة في إحدى رسائله: ورثت عن أمي تسعين بالمئة من أخلاقي وميولي، وإنني أذكر قولها لي مرة وقد كنت في العشرين من العمر:
– «لو دخلتُ الدّير لكان أفضل لي وللناس».
– «ولو دخَلتِ الدير لما جئت أنا»، أجابها جبران.
– «أنت مُقدّر يا بني في هذه الحياة»، أجابته والدته.
– «نعم ولكن قد اخترتك أمّاً قبل أن أجيء بزمن بعيد»، عقّب جبران.
– «لو لم تجئ لبقيتَ ملاكاً في السماء».
– عقّب جبران: «ولم أزل ملاكاً».
فتبسّمت والدته وقالت: «أين جوانحُكَ؟»
أجاب جبران بعد أن وضع يدها على كتفيه قائلاً: «هنا». قالت: «إنها مُتَكسّرة».
ومن هذه الكلمة غُزِلت ونُسِجَت حكاية الأجنحة المُتَكسرة لجبران خليل جبران.

“من لم يهزّه الرّبيع وأزهاره والعودُ وأوتارهُ فهو فاسدُ المزاجِ وليس له علاج.”

الإمام الغزالــــي

يقول الأديب ميخائيل نعيمة عن صديقه جبران في كتابه الذي يحمل اسمه: «كان جبران يلعب خلف البيت عندما رأى رجلاً غريباً يسوق بغلاً عليه (قربتان) وينادي (زيت حلو) أي زيت زيتون، فأطلّت من باب بيتها عجوز في يدها سبحة طويلة وسألت الرجل أن يذيقها زيته، ففعل. وبعد جدال عنيف اتّفقت وإيّاه على السّعر ثم دخلت البيت وعادت بزجاجة فارغة وقالت لبائع الزيت أن يكيل لها ثلاثة أواق. لكن عندما سألته عن دينه وأجابها إنه مسيحيّ ومذهبه أرثوذكسي أدارت في الحال ظهرها عنه وعادت بزجاجتها الفارغة إلى بيتها وأقفلت الباب وراءها بعنف وهي ترسم علامة الصليب وتتمتم بكلمات مبهمة. بعد قليل كان جبران بجانب أمه يسألها:
– «ما هو ديننا يا أمي..؟».
– «نحن موارنة يا بُنَي».
– «ومن هم الروم؟».
– «هم نصارى مثلنا».
– «ولماذا اسمهم روم واسمنا موارنة؟».
– «عليك أن تسأل الخوري يا بُني فهو ينبؤك أفضل مني».
– «وهل يخنقنا الرب إذا اشترينا زيتاً من رجل روم؟».
– «كلّا يا بني..».
يستخلص جبران في قوله عن الحقّ شعراً:
وَالحَقّ لِلعَزم وَالأَرواحُ إِن قويت
سادت وَإِن ضعفت حَلَّت بِها الغِيَرُ
وقوله في العلم:
وأفضلُ العلم حلــمٌ إن ظَفرتَ بهِ
وسرت ما بيـن أبنـاء الكرى سخروا
وفي السعادة:
وما السعادةُ في الدنيا سوى شبَحٍ
يُرجى فإن صار جسماً ملَّهُ البشرُ
وفي الموت:
والموت في الأرض لابن الأرض خاتمة
وللأثيريِّ فهو البـدء والظّـــفرُ

رَوَيت هذه الرواية وكنّا في جلسة عند معالي وزير الثقافة في حينه الأستاذ طارق متري، فضحك ملء فمه ثم استدرك وقال: «كيف لو كان درزياً أو شيعياً أو سُنياً».
آنذاك تصدى للقول أحد الحاضرين وقال: «حدثني جدِّي يوماً عن قصة مشابهة بها ومماثلة لقصة الأديب جبران إذ قال: «ونحن في طريقنا لزيارة أقارب لنا في احدى قرى كسروان، تشاء الصدف أن نصادف رجلان يتعاونان على تحميل دابة حملاً من القش كانت قد تعثّرت به وسقط عن ظهرها. وبعدما أعادا الحمل على ظهرها كما كان سابقاً سأله من كان يُساعده قائلاً: «الآن وقد فرغنا من مساعدتك لكن نسيت أن أسألك ما هو دينك؟» أجابه صاحب الدابة: «ديني مسيحي ومذهب ارثوذكسي».
تغيّرت ملامح وجه السائل ثم أدار ظهره نحو سائله وقال: «يا ريتني كنت أساعد درزيّاً أفضل بكثير».

معالي الوزير ألقى برأسه فوق وسادة كرسيه من الضحك ثم أدار بوجهه نحوي وقال:» أرجو أن لا تغضب يا أستاذ غالب».
قلت: «كيف سأغضب وقد فضلنا صاحبنا نحن الدروز على أبناء دينه من الأرثوذكس فشكراً وألف شكر».

غير أن صاحب الرواية نهض لتوّه بعدما تأكد من مذهبي دون أن يستأذن أحداً وكأنه ارتكب جُرماً أو أفصح عن سرّ كبير.
(حدثت عام 2006م)

أصدق صورة عن لبنان الماضي الجميل..

نزل الأديب المصري الكبير طه حسين في الثلاثينيّات في أحد فنادق الجبل وأصرّ أن يحضر حفلة زجل لفرقة شحرور الوادي التي سمع كثيراً عنها. وحضر وتعرّف على الفرقة (معروف أنّ طه حسين العلماني العبقري كان ضريراً)..

العميد طه حسين

افتتح الحفل الشحرور فقال:
أهلا وسهلا بطه حْسَين
وربي عْطاني ها العَيْنتَين
العين الوحدة بتكفيني
خذلك عين وخلي عين.
فقال علي الحاج:
أهلا وسهلا بطه حْسَين
لازم لك عَينين تْنين ..
تكرم شحرور الوادي
منّي عَين ومنّك عين.
فقال إميل روحانا:
لا تقبل يا طه حسين
تاخذ من كل واحد عين
بقدمْ لكْ جَوْز عيوني
هدية لا قرضة ولا دَين.

ثم ختم طانيوس عبدو..
مش لا زم لو طه حْسَين
عين ولا أكثر من عين
الله اختصو بعين العقل
بيقشع فيها عالميلين.

أعجب كثيراً طه حسين بهذا الإبداع وشكرهم كثيراً وحمل معه إلى مصر صورة لبنان الماضي الجميل.

كتاب “تحدّي تجديد العروبة”

هو عنوان لمؤتمر نظّمه «النادي الثقافي العربي». بين 4 و5 تشرين الأول أكتوبر 2019 في فندق البرستول، بيروت. شارك فيه اثنان وعشرون مفكراً ومثقفاً لبنانياً وعربيا وقُسِّمَ إلى خمس جلسات: الجلسة الأولى حملت عنوان: «العروبة من الحاضر إلى المستقبل»، والثانية الثقافة والهوية. والثالثة: «التجديد اللغوي» والرابعة: «العرب والعالم» والخامسة والأخيرة: «العرب والاقتصاد». كانت المناقشات والتحليلات التي أسهم بها المنتدون في غير زاوية من أهداف المؤتمر، ذات مستوى فكري ونقدي عاليين إزاء الواقع والمستقبل العربيين رأت غير ورقة وجوب تشييد نظرة موضوعية ونقدية إلى التجارب التي خاضتها وعاشتها العروبة على امتداد عقود من الزمن، لقد دفعت البلدان العربية أثماناً باهظة، ومع ذلك لم تتحقق الوحدة ولا حصل العالم العربي على حريته، ولم يحصل سوى إخفاق التجارب المختلفة المنهجيات، وأثبتت أن مشكلات العالم العربي واحدة، والقضايا التي تشغله واحدة، والقوى التي تناهض تحرره وتقدمه واحدة. وفي الوقت الذي تزداد الضغوط الخارجية والإخفاقات الداخلية يصبح التحدي الأكبر أمام العرب. هو كيف يصوغون فكرة عربية تعددية وديموقراطية، مبنية على مبادئ حرية الفرد في عمله ومعتقده وحقه في الكرامة والعلم والعمل.

ومع هذا تبقى في الزمن الحاضر، إشكاليات العلاقة بين العروبة والإسلام، التي يقف الإسلام السياسي والعقائدي منها عقبة كأداء أمام تحقيق القومية العربية، فجاءت الدعوة إلى «تحدي تجديد العروبة» في موقعها وأوانها على أننا ننصح ألّا يكتفي القاري العزيز بهذه الخلاصة منا بل بمطالعة الكتاب ومختلف الأفكار التي طُرحت فيه للنهوض العام من الواقع البائس الراهن، للعروبة. هل تقوى العروبة على تجديد ذاتها؟ مسألة ربما تبدو من المستحيلات، ولكن لعلّ وعسى.

إضاءاتٌ ملوّنة على فكر جورج شامي

كتاب وضعته بتمكن الإعلامية كلود أبو شقرا مجازة في الصحافة ووكالات الأنباء – كلية الإعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية، حاولت أن تلجَ فيه عالم جورج شامي الصحافي والروائي والمفكر الإنساني، الممتد عبر عقود من السنين، هي عمره، البالغ تسعون عاماً، وأن تدخل «رحاباً» تنبض حجارتها كما تقول: «بحياة محورها: قلم وألم»، يردّد الزمان في حناياها قصصاً وروايات ومواقف ومتاعب، تذخر بثقافة واسعة رائعة، وإبداع يتحدى ويتجدد بجمعه صنوف الحياة بحلوها ومرها، وصياغتها مشاهد ولوحات ملونة، لكل واحدة خصوصيتها الجاذبة والمؤثرة في هذا العالم الذي يصح أن نطلق عليه عالماً شمولياً، تمتزج فيه الأصالة بالحداثة، وتبرز شخصية أديب وإنسان عاش تجارب كثيرة بأبعادها المختلفة. صنع أدبه بقناعته هو، بإرادته هو، وبإيمانه المتأصّل بالحرية وبرفضه الارتهان…

إنها رحلة في حياة مفكّر كبير، شق مسار تعلّمه – من فقر مدقع – بإرادة صلبة وطموح متوثب متدرّج فبلغ أعلى المراتب العلمية، شهادة الدكتوراه في الإعلام، وكُرْسِي الأستاذية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية… تقرأ سيرة حياته كما في هذا الكتاب، فتقع على نموذج من كفاح ونضال طويلين على المستويين الشخصي والوطني قلما تجده عند غيره من الكتاب، والصحافيين من استقلال في الرأي والثبات على المبدأ، كما نراه لاحقاً في حياته وتقلباتها العملية وما دار فيها من حوادث وأحداث وأشخاص وشخصيات عرفها وقاربها، وصحف تعامل معها وهي بالعشرات، لبنانية وعربية، ودور نشر، طبعت أعماله القصصية ومقالاته ودراساته الأدبية التي بلغت الآلاف، وفي مجمل مضمونها وتفاصيلها هي عبارة عن تأريخ غير مباشر لحقبة سبعين سنة أو يزيد ممّا مر بلبنان… الدكتور جورج شامي يرى من معين خبرته في المسألة اللبنانية، أن لبنان ليكون أفضل يجب أن تزول الطائفية منه، وحين تزول الطائفية يزول الميثاق، وحين يزول الميثاق تزول شعارات الاتحاد الوطني، عندها يقفل الكثير من دكاكين الشعوذة السياسية فيتمكن عند اللبنانيين الولاء للبنان ويصبح بالتالي ولاءً مباشراً غير مرهون بولاء الطائفة أو بولاء دول خارجية تستعمله أو تحركه. إنه كتاب مفيد ومثقِّف، يُقرأ ويُحتفظ به.

 

لبنان في مِئة عام أفكارٌ وتجارب

 

كتاب هدف إلى مراجعة التجربة اللبنانية خلال مئة سنة التي انقضت إلى الآن (1920 – 2020) التي تساوي بالمعنى السياسي عمر «لبنان الكبير»، أي الجمهورية اللبنانية الحالية، بكل إيجابياته وسلبياته، من خلال رجال اختصاص ناقشوا هذه التجربة، من أبواب التاريخ والسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الإقليمية والدولية، وقدم هؤلاء أوراقاً بحثية، عكست تجربتهم الشخصية أو الفكرية أو العلمية، وغير ذلك من التجارب والاتجاهات المنوعة من الفكر والسياسة، وقد اختار كل باحث، كما ظهر، من الأوراق، موضوعه وأسلوبه، فاتسمت هذه المساهمات بالحيوية، والغنى والتعبير الحر.

سبعة عشر مفكّراً وباحثاً مرموقاً كانت مساهماتهم أقرب إلى الأبحاث العلمية، ولا سيما تلك التي ناقشت القانون، والاجتماع والسياسة، والفلسفة، وأخرى كانت أقرب إلى المعالجات النظرية التي بحثت في المواطنة والاجتماع اللبناني والتعايش… كان ثمة تباين في القراءات، وهو الأمر الذي أراده هذا الكتاب لإظهار التنوع في الرؤى والمقاربات بين اللبنانيين، إلّا أنّ كل المساهمين عبروا، بالنتيجة، عن إيمانهم بأن هذا البلد هو حقيقة واقعة، لم تنقص، كما يقول: الكاتب خالد زيادة، التجارب والصراعات منها شيئاً، بل لعل التجارب، سلبية أو إيجابية قد كرست لبنان حاجة لبنيه، وحاجة من محيطه إليه.

وإن يكن الكتاب قد أغفل بعض الجوانب، كالاقتصاد، أو دور لبنان الثقافي أو غيرهما اللذين يميزان لبنان وتجربته المئوية… إنّه كتاب غني كثيراً بما حوى من حقائق وما عكس من أضواء على لبنان الراهن، وسبل علاج الأزمات فيه.

الكاتبُ الكبير الدكتور ممدوح حمادة

مُبدع من بني معروف، من هضبة الجولان المحتل.
اشتُهر بكتابة مسلسليّ (ضيعة ضايعة) و (الخربة)

روائي وصحافي ورسّام كاريكاتير سوري مواليد عام 1959 من هضبة الجولان السورية المحتلة، نزح في طفولته حيث عاشت أسرته في #السويداء إلى حين سفره إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة في كلية الصحافة في جامعة بيلاروسيا الحكومية في العاصمة مينسك حيث تخرّج منها في عام 1994 بدرجة دكتوراه. عاد إلى سوريا ولكنه لم يوفّق في العثور على عمل هناك حيث أمضى أكثر من عام ونصف في دمشق قرر بعدها العودة إلى بيلاروسيا التي عمل مدرّساً في إحدى جامعاتها لأكثر من عشر سنوات، وبعد ذلك درس الإخراج السينمائي في أكاديمية الفنون الحكومية البيلاروسية وتخرّج منها عام 2009، ويعيش الآن بشكل أساسي في بيلاروسيا، أخرج فيلمين أولهما هو (ضمانات للمستقبل) وهو فيلم روائي قصير مدته 30 دقيقة وكان مشروع تخرجه وهو من تأليفه وإخراجه، وأخرج فلماً آخر مُستمِدًّا موضوعه من الحرب السورية بعنوان «ما زلت على قيد الحياة» مدته 7 دقائق.

أعماله في التلفزيون: 
1- عيلة ستّ نجوم – إخراج هشام شربتجي.
2- عيلة سبع نجوم – إخراج هشام شربتجي.
3- عيلة ثماني نجوم – إخراج هشام شربتجي.
4- بطل من هذا الزمان- إخراج هشام شربتجي.
5- صراع الزمن (جلّنار) إخراج هشام شربتجي.
6- قانون ولكن – إخراج رشا شربتجي.
7- بقعة ضوء 2 إخراج الليث حجو.
8- بقعة ضوء 3 إخراج ناجي طعمة وفراس دهني.
9- بقعة ضوء 4 إخراج الليث حجو.
10- بقعة ضوء 5 إخراج سامر برقاوي.
11- بقعة ضوء 6 إخراج هشام شربتجي.
12- عَ المكشوف إخراج الليث حجو.
13 – شو ها الحكي (الأردن) إخراج ناجي طعمة.
14- مَبروك – إخراج هشام شربتجي.
15- مرزوق على جميع الجبهات – إخراج هشام شربتجي.
16- مدرسة الأستاذ بهجت (الأردن) إخراج أنور السعودي.
17- مدينة المعلومات الجزء الأول (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي
18- مدينة المعلومات الجزء الثاني (برنامج أطفال) إخراج فتحي الهداوي.
19- بيتي العربي (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي.
20- كليلة ودمنة (مسلسل كرتوني) إخراج رزان حجازي.
21- كليلة ودمنه (فلم) إخراج رزان حجازي.
22- ضيعة ضايعة 2008ج 1 إخراج الليث حجو.
23- ضيعة ضايعة 2010ج2 إخراج الليث حجو.
24- الخربة – إخراج الليث حجو.
25- ضبو الشّناتي – إخراج الليث حجو.
26- أهل الغرام خُماسية يا جارة الوادي – إخراج الليث حجو.
27- مشاريع صغيرة – إخراج المثنى صبح.
28- الواق واق – إخراج الليث حجو.
وشارك في كتابة عدد من البرامج الأخرى.

صدرت له تسعة كتب هي:

1- فنّ الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى عمدة الصحافة – دار عشتروت دمشق 1999.
2- الكاريكاتير في الصحافة الدورية – دار عشتروت دمشق 1999.
3- صانع الفراء – مسرحية للأطفال – دار عشتروت دمشق 1999.
4- المحطّة الأخيرة- قصة – دار علاء الدين دمشق 2000.
5- جلَّنار – قصة – دار علاء الدين دمشق 2001.
6- أم الطنافس – مجموعة قصصية دار أبعاد دمشق 2014.
7- دفتر الأباطرة – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
8- دفتر الحرب – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
9- دفتر القرية – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2017.

“قيم ما بعد كورونا: التَّضامن وروح ركّاب السفينة”

تابعنا باهتمام، وكالعادة، حضور الملتقى السابع لمنتدى تعزيز السَّلم الذي عُقد لهذه السنة افتراضيَّاً عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، في الفترة الممتدة من 7 إلى 9 كانون الأول 2020، تحت عنوان «قيم ما بعد كورونا: التضامن وروح ركاب السفينة»، برعاية من سموّ الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، وبمتابعة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح، وبرئاسة معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السَّلم في المجتمعات المسلمة ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي (2).

وقد حظي الملتقى بمشاركة وزراء وممثلي حكومات ومنظمات دولية وسفراء وقادة دينيين وشخصيات رفيعة المستوى ومئات المفكرين والأكاديميين والباحثين ورجال الدين وممثلي منظمات المجتمع المدني والشباب، وبمتابعة الآلاف من المشاهدين لجلساته وأعماله عبر منصته الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

ناقشنا على مدى ثلاثة أيام العديد من الموضوعات التي تشغل الوعي الكوني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البشرية، والتي تتسبب بالقلق الكبير على كل المستويات النفسية والمعنوية والمادية للأفراد والمجتمعات والدول، ودعا المشاركون إلى العمل على صياغة مشروع اتفاقية تحت مسمى «الميثاق العالمي للتضامن الإنساني» مع العمل على عرضه على هيئة الأمم المتحدة لضمان تحقيق قيم عالم ما بعد «كورونا» ودرءاً لعودة المجتمع الإنساني إلى ما كان عليه قبل «كوفيد – 19»، وأوصوا بإنشاء صندوق دولي موحد للطوارئ والكوارث والأزمات، كما دَعَوْا المجتمع الدولي والدول الغنية إلى التضامن مع الدول الفقيرة وإشراكها في ثمرات البحوث العلمية، وإلى توزيع اللقاحات على الجميع بلا احتكار ولا استغلال، وتشجيع المبادرة والابتكار في مجال تكنولوجيا الصحة العامة والتطبيب في الدول الفقيرة والنامية التي أظهر بعضها مؤهلات غير متوقعة في تدارك نقص الوسائل والمعدات.

وأشاد البيان الختامي للملتقى بتضحيات الطواقم الطبية وتفانيها في إنقاذ الأرواح وعلاج مرضى هذا الوباء والعناية بهم، وبجهود كل العاملين أفراداً ومؤسسات في مكافحة هذه الآفة، كما أشاد بجهود منتدى تعزيز السلم في مد الجسور مع العقلاء والحكماء من كل الأديان والمذاهب والمشارب، وثمَّن مساعي القائمين عليه العلمية والعملية لتوحيد الجهود وتصحيح الوجهة على أرضية القيم الإنسانية المشتركة لما فيه خير الناس جميعاً، كما أشاد بما تضمنته «وثيقة مكة المكرَّمة» من مضامين سامية تهدف إلى بناء جسور المحبة والوئام الإنساني، ونشر ثقافة التعايش والتسامح والتصدي لخطابات التحريض والعنف والكراهية، ودعا إلى عقد شراكات بين صناع القرار ورجال الفكر والدين لإشاعة خطاب السلم والمحبة والأخوَّة الإنسانية، والوقوف في وجه خطاب التطرف والتحريض.
وحثَّ المجتمع المدني على مواصلة جهود التعبير عن الشكر والامتنان والوفاء لمن هم في الصفوف الأمامية في مواجهة الوباء وابتكار المزيد من المواقف الاجتماعية والتعبيرات الرمزية المستوحاة من ثقافة المجتمع، وتأكيد أهمية مواصلة كافة الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية حتى تنجلي الغمة وتنكشف الأزمة.

وتدارس المشاركون بالملتقى طبيعة وأبعاد الأزمة العالمية المترتبة على وباء «كوفيد – 19» المستجد ومساءلَتها للتوجهات القيمية للإنسانية ودورَ قيم التراحم والتضامن والتعاون وإشاعة السكينة في مواجهة هذا الوضع والتخفيف من آثاره وتداعياته، مسلطين الضوءَ على النقلة النوعية والقوة الاقتراحية التي يمثلها «حلف الفضول الجديد» الذي أُطلق في الملتقى السادس (السابق) في أبو ظبي، لكونه يؤسّس لنموذج متوازن من التسامح والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية والاقتصاد المتضامن، بحيث يمكن أن يكون هو نموذج العقد الاجتماعي الجديد الذي ترنو إليه البشرية وتتطلع إليه.

كما تطرق المشاركون إلى القضايا الفقهية المستجدة التي أثارتها هذه الأزمة على جميع الصعد من منظور «فِقْه الطوارئ» المركَّب من الدليل الشرعي والواقع، بحثاً عن التيسير والرخص الشرعية لقيام موجبها، وإلى الحاجة لتعزيز دور الدولة الوطنية وتقوية التعاون الدولي لتجاوز مفارقات العولمة. وتدارس المشاركون نماذج إيجابية في التعامل مع الجائحة بروح التضامن والتعاون في مجالات مختلفة كتطوير اللقاح، وممارسة الشعائر الدينية مع الحفاظ على سلامة المصلِّين، ومساعدة الاقتصادات الضعيفة. وخصصت الجلسة العلمية الأخيرة لآفاق عالم ما بعد «كورونا»، الذي يستلهم «روح ركاب السفينة» في وعيهم بالمسؤولية المشتركة التي تمليها وحدة المصير.

وقد خلص المشاركون، بعد تبادل وجهات النظر في القضايا المدروسة، مستحضرين خصوصية الظرفية العالمية وانفتاح مآلات المجتمع الإنساني على كل الاحتمالات المرجوة والمخوفة، إلى نتائج تم تضمينها وتفصيلها بالبيان الختامي، وقد شملت «طبيعة الأزمة المتولدة عن وباء كوفيد 19 المستجد، دروس هذه الأزمة والعبر المستخلصة منها، مبادئ وقيم روح ركاب السفينة، المقتضيات العملية لـ«روح ركاب السفينة»، إذ تقتضي روح «ركاب السفينة» الدعوة إلى هبّة ضمير عالمية تعيد لقيم التعاون والتضامن والتراحم فاعليتها، وتقدّم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المفهوم المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة ليرتقي إلى إيجابية قيم الفضيلة التي تُشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة، إذ إنّ هذه الأزمة أذكت جذوة التضامن بين البشر، ولدول تسامت عن حسابات السياسة والعلاقات الدولية لترقى في استراتيجياتها إلى سقف التعاطف والترابط الإنساني.


المراجع:

1- رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية.

2- المرجع: صحيفة الاتحاد الإماراتية، 10 كانون الأوَّل 2020.

الشاعر الفارس ورجل المجتمع جاد الله سلاَّم

 

كنا قد قدَّمنا دراسةً خاصة بالقصيد النبطيّ في جبل العرب لمجلّة الغرّاء، وذلك في الأعداد 16 و 17 و 18 من عام 2016، وأوضحنا من خلالها جذورَ استخدام شعراء الجبل (للهجة البدوية) وسنعرضُ هنا لأعتى رموز هذا الشعر (النبطيّ / البدويّ) من شعراء جبل العرب الذين حُفظت قصائدهم في الذاكرة الشعبية، وما زالت تُستخدم إلى الآن في جُلّ المناسبات كالأعراس، ومآتم الشهداء والأبطال، والأمسيات الشعبية، لما فيها من معانٍ خالدة حاكت المجتمع وأصبحت جزءاً من وجوده، مثَلُها مثَلُ الأرض والغيث، وشأنها شأنُ السلاح الذي يحققَ النصر.

نعرضُ لها اليوم ونحنُ ندرك أنّ دورَ الشعر قد تضاءَل جدّاً أمام معطيات الحضارة، وقد وصلَ في بعض محطاته إلى دَرَكِ اللامبالاة ، حيث حُمِّلَ إثمَ الرَّجعية وتُهمَةَ الرِّدّة إلى البداوة من قِبلِ حُماة اللغة الأمّ ومَن في صَفّهِم من دُعاة التَّحضُّر، ولستُ بصددِ تفصيل الدفاع عن هذا الموروث وبيانِ ماهيته ودوره التاريخي، ولكن لابدّ من الإضاءة على أمثلةٍ بارزة في سجلاّته العريقة؛ بغيةَ التوثيق والإيضاح.. وستكون وقفتنا الأولى مع الشاعر الكبير جاد الله بك سلام:
ــ يعود أصل آل سلاّم إلى منطقة راشيا في لبنان، حيث هاجروا منه إلى جبل حوران بعيد أواسط القرن التاسع عشر، ومن ثم استقروا في المقرن الشرقي من الجبل…

وُلدَ شاعرنا الفارس جاد الله بن حسن سلاّم عام 1896 م، في قرية طربا الواقعة في (المَقْرَنِ الشَّرقيّ) من جبل العرب، وهو أحدُ فرسانها ورجالها المعروفين، الذين كان لهم دورٌ فعالٌ في الثورة العربية وفي الثورة السورية الكبرى، كما أنّه كان قاضياً عشائرياً يفصل في خلافات الناس، وقد توفاه الله في قريته طربا بتاريخ 22/2/1982.

وجاد الله سلام كشاعر يُعتبر من الرَّعيل الذي تأثر بكبار الشعراء الشّعبيين في جبل العرب أمثال شبلي بك الأطرش واسماعيل العبد الله، وقد تأثرَ كغيره من شعراء الجبل باللهجة البدوية ومعطياتها، حيث نظمَ بها كلَّ قصائده، وهذه نتيجة حتمية، حيث إنه عايَشَ البدوَ وجاورَهُم في فترةٍ حسّاسةٍ من عمره، وذلك في طفولته ورَيعان شبابه، إضافةً إلى أنَّ البدوَ كانوا يشكّلون مساحةً غير قليلة من محيط الشاعر، إلا أنهُ أضفى على شِعره صِبغةَ الاختصار وحاكى واقعَه بطريقةٍ تميّزَت بالسلاسة والجزالة، حيث نجد كلماته تتردد في الأفراح والمناسبات الوطنية بشكلٍ منقطع النظير، ومنها أبياته المشهورة:
هِيهِ يا الِّلي راكبين على السلايل
فوق ضُمّر يمّ طربا ناحرينا
سَلّموا عَ ربوعنا وقولوا لهايل
بالسويدا ثارنا حِنّا خذينا

ــ لقد أرَّخَ شاعرُنا لأحداثٍ مهمّةٍ في تاريخ جبل العرب، ومنها أحداث الثورة السورية الكبرى التي شاركَ في جُلّ معاركها الجسام، مثل (المزرعة والمسيفرة ومعارك الغوطة وغيرها)، ومن أبياته الخالدة في الذاكرة الشعبية هذا الحُداء الشهير في معركة المزرعة التي جَرَت في غُرّة شهر آب 1925 م:

يا الله نَطْلُبْك السِّتر يوم ان فَتَل دولابها
شَرَّابة الدَمّ الحَمَر والذلّ ما نرضى بها
جرَّد علينا مْنَ البحر عسـاكراً وِطْوَابها (1)
عينيك ياللي ما حَضَر حنّا كَفينا غيابها
يا بنت يا عين الصّقر ريح النَّفَل بِجْيابها (2)
لا تاخذين الما صَبَر يوم الخَوِي ينخى بها
وآخذِين خيّال السِّكَر المـــرجـَـــلة عَيـــّا بها (3)

وفي ثلاثينيات القرن الماضي أرسلَ هذه القصيدة إلى الثوار الذين نزحوا إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية ــ حيث لجأوا إليها من عام 1927 حتى عام 1932 وعادوا آنذاك إلى الأراضي الأردنية إلى أن عادوا نهائياً إلى سورية سنة 1936 بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورة ولبنان ــ وفي قصيدته يُذكّر بالنصر ويتأمل الفرج القريب ، ومن أبياتها:

يا رُسل يالِّلي تمِدّ مْنَ آرض طَرْبا
فوق حُرَّه كنَّها ظبْيَ الحَمَادي
سلّم على اللي ساكنين ديار غُرْبه
النشاما مْخضِّبة سْيوف الهَنادي
ديرتي قامت تِبَسَّم عُقب حَرْبه
يوم تلفوا تَخْلع ثياب الحْدادي
العَفُو ما هُوْ بَعيدٍ يوم قُرْبه
يوم يلفي الوفد ياتيكم بجادي (4)
يا طويل الباع هَدّ الحيل ضَرْبه
لا نوى ربَّك قضى كل المْرادي (5)

وفي خِضَمِّ الثورة والنصر يسجّل لنا الشّعرُ ما في نفوس المجاهدين من أنََفةٍ وشهامة، فهم يريدون الحرية والعزة ولا يرضخون للمحتل؛ وهم إن نشدوا حاجةًً فهي حاجة الحر لسلاح الحرية، لقد أرسل المجاهد صالح عْمار أبو الحسن قصيدة إلى جاد الله سلام عام 1928 وفيها يطلبُ بارودة ، ومن أبياتها:

ملفاك طربا خُشّ دار اَبو سلام
الضَّيغَمي ما هي غبيّة فعاله (6)
من مصر لبغداد لنجد للشام
لوّ الرجال بعَدّ حَبّ الرماله
ما مثلكم رَجلٍ على الحق مقدام
وللمثلنا دايم تِفقّد حواله
أريد موزر ترعب الضدّ وخصام
مَعْمَل بْرِنْد وْمِن مْعَدَّل طواله
وِمْخُومَسات بْصَفَّها عَشْرة آدْوام
أريدها يوم الوغى يا حَلاله
أدري بكم بين المخاليق فهّام
وَدّي جواباً مثل عَدّ الرِّساله

يجيب ابو سلام وقد أُعطيت البارودة لصالح عمار فوراً :

يا عْمار لا جانا من الربع منضام
حنّا بعون الله نْعَدِّل آحماله
بوجوه ربعٍ من مواريث سلاّم
عُقّالهم وآن ثار الاشْهَب جَهَاله (7)
لك طُلْبةٍ مَوْزَر تِشيله مع آحزام
تستاهله والاَّ الرَّدي ما يناله
خُوذه وَلاني مْدَوَّر الرِّبح سَوَّام
والرِّزق عند اللي يدبّر احواله (8)
تَضْرُب عَدوَّك بالعظم ضَرْب قصَّام
يوم الحرايب ما يريعَك آهواله
الطَّيْب ما بين المخاليق حَوَّام
كِلْ ديرةٍ يا عْمار بيها رجاله

ولقد اهتمَّ هذا الشاعر الفارس بقضايا وهمومِ وطنِه، وأرسلَ زَفَراتِ صدرِه مع أبيات قصائده، ووظّف رؤيتَه ونصيحتَه مترجماً الحلَّ في أكثر من نداء، ومن أجمل ما يقال في هذا السياق؛ تلك المجموعة من القصائد التي تبادلها مع الشاعر أحمد الغباغبي والشاعر حمد المُصفي وهي بعنوان (تل الفرس).. القصائد التي يتحدّى أصحابُها العدوّ الصهيوني الغاشم ومن يشدّون على يده. ومن قصيدة جاد الله سلام التي يشيرُ من خلالها إلى حرب حزيران 1967:

مَبْداي باللهْ والذي هُوْ رَجانا
هُوْ خالق الدِّنيا وْعَليه التَّدابير
يَدْمَح لنا الزَّله وْيغفر خَطانا
وِيْفكََّنا مِن لايذات العَواثير
مِن عُقب ما كِنّا بعزٍّ، دَهانا
حربٍ بْسِتَّ آيام ما عَقّبَتْ خير
أمْرٍ مْن الله مار ماهِيْ جَبانه
وْهذي آسعرات الحرب وِرْدٍ وتصدير(9)
حِنّا هَلَ الرَّدَّات عاللِّي بَغَانا
لابُدّ يومٍ يزحَفُون الطوابير (10)
ونَمْطِر على الغاصب صَواعق سمانا
والله على الباغي تدور الدواوير
عشرين عامٍ يا عَرَبنا كفانا
ما فادنا كثر الخُطَب والمشاوير
تلّ الفَرَس وِتْلول مِثْله تَرانا
وْحِنّا نراعيها بشَوف النواظير
مِن شَرْقنَا وْمِن غَرْبنا وِش بلانا
ما عاد نقبل يا عَرَبنا معاذير
القدس تنخاكم، عليها مهانه
حَنَّت على الفَرقه حنين النواعير
امشوا عليها واحفظون الأمانه
وعلى بَعَضْكُم لا تصيروا دبابير
وان ما خذينا حقَّنا باليَمانه
عيبٍ علينا الهرج عند الغنادير
شبُّون نار الحرب باربَع آركانه
والرِّبــح ما ياتي بَليَّا مخاسير (11)

وتميَّزَ شِعرُه بكثافة المفردات التي أنتجَت تركيباً جَزْلاً يخدِمُ مضمونَ القصيدة ومنحاها العام، ونحن نتكلم هنا عن لهجةٍ بدويّةٍ صِرفة لا يُخِلُّ الشاعرُ في استخدامها ولا يخلط بينها وبين العامّية القروية المتعارف عليها (والتي هي لهجتُهُ في الأصل)، ومثال هذا؛ أبياتٌ من قصيدته التي عُرفت باسم (قصيدة الدَّهر)، وهي القصيدة التي بكى من خلالها أهلَه الذين فقدَهم إثرَ أحداثٍ داخلية مؤلمة، وفيها يذهبُ مذاهبَ الحكمة والنصيحة وقد اعتملَت تقلُّباتُ الدهر في أُسْرَةٍ أجلََّتْ يدُ الجماعةِ من شأنها عبر المواقف البطولية والاجتماعية المشهودة:

الدَّهر دولابٍ على النَّاس دَوّار
واليوم دَور آرحاه داير علينا(12)
خمسَة سنينٍ نَجْرَع الصَّبر وِمْرار
مع سِتّْ هَدّنَّ القصور الحَصينا
أبكي على اللي بْميلة الدَّهر صَبّار
فَصَّال وان دارَت عليه السنينا
وابكي على اللي بَدَّل الدَّار بديار
هيهات مِن عقب المْفَارَق يجينا(13)
ياما رَكبنا فوق طوعات المْهَار
وياما على قَبّ السَّبايا حَدينا(14)
وياما مَشينا بْدِيرَة الخوف بِنْهار
وياما بْعَتمات الليالي سَرينا
أيام بِيضٍ كنّها زَهر نَوَّار
أبْيَض مِن المَقصُور هُوّ واللُّجينا(15)
وايام أسْوَد من صَدى الجاز وِشْحار
وِتْقُول عتمات الدُّجى آلمِظلمينا(16)
وايام تَدْعي واسع الفكر محتار
يَخْطي وْلوّ انّه فَرِيزٍ فَطَينا
وايّام تَدْعي عَادِمَ الشَّور شَوَّار
واليا هَرَج تلقى المَلا تابعينا
وياما هَفَت دنياك حُكَّام وِكْبار
ياما ملوكٍ قوطَرُوا ذاهبينا(17)
انظر بني عثمان يوم الدَّهر دار
جارَت عليهم مِغِبْرات السِّنينا
خَلّوا قصور العِزّ تنعي وآلاسوار
هُم بالحياة وْغيرهم وارثينا
والدَّهر خَطّ بْصَفْحَة القلب تذكار
من شُوم فِعْلَه يا آلاجاويد فينا

هي القصائد الذَّاتيَّة الموسومة بآثار الحزن التي تطغى على جسد القصيدة بشكلٍ مكثّف؛ وأقول (ذاتية) لأميّزها عن القصائد العامّة التي حاكت المجتمع من خلال الصيغة الوطنية والصيغة الاجتماعية المتمثّلة بشعر الحِكمة وشعر المدح من رثاءٍ أو ترسيخٍ للعادات والقيم. ومن قصائده الذاتية؛ قصيدته المشهورة في رثاء الأهل الراحلين عام 1917 على أثر الأحداث الداخلية المؤلمة التي أشرنا إليها، ومنها:

ما لُوم عيني وان بكت دمعها دَمّ
ما لومها وان طَوّلَت في سَهَرها
تبكي على اللي فارقوا الدَّار يا عَمّ
وِمْنَ البكا كَن زاغ منها نَظَرها(18)
صَبَرت انا وْعَيّا الصبر يَفْرِج الهَمّ
صبري على بلواي مَحْدٍ صَبَرها(19)
صَبْرَ الحديد اللي تِلوَّى على الحَمّ
ما جَضّ وان زادَ المعَلِّم شَطَرها(20)

عارف النكدي

ومن القصائد الإنسانية التي تنمُّ عن الشاعرية الحقيقية؛ هذه القصيدة التي عُرفت بــ (نشيد بيت اليتيم في السويداء) ، نظمها الشاعر عام 1948 عند افتتاح بيت اليتيم والذي يعود الفضل في تأسيسه ورعايته إلى المرحوم الأستاذ العلاّمة اللبناني (عارف النكدي) محافظ السويداء آنذاك، وقد تبارى الشعراء الشعبيون وقتها في تخليد ذلك الحدث من خلال قصائد عُرفت كُلّها باسم (نشيد بيت اليتيم)، وشاعرنا جاد الله سلام تكلَّمَ ــ وهو في الخمسين من عمره ــ بلسان الطفل اليتيم، وفي ثنايا القول ؛ نجدُه قد استغنى عن المفردات والجُمل المُغرقة في (البدويّة)، إذ هَلهَلَ القصيدة وبسَّطها في سياق كلامه بلسان الأطفال، وهذا ما يُلفِتُ النظرَ ويعبّرُ عن إحساسٍ رقيقٍ ووعيٍ مُدركٍ، فنحنُ في حضرِةِ شيخٍ وفارسٍ مجاهد فاضَت قصائدَهُ عن ساحات الوغى ومعتركِ المجتمع القَبَليّ فجاءت عاتيةً في مجال اللفظِ والصوَر، أمّا هنا، فللقول منحىً آخرَ تماماً؛ منحى السهل الممتنع ، ومن قصيدته:

 

 

لا نِذِلّ وْلا نقول اِنّا يتامى
والقَدَر من قبلنا يتّم نبينا
ما نِذِلّ ومدرستنا بانتظاما
والعيون العاطفة تسهر علينا
اليُتم ما ضرّ لَرْجالٍ عِظاما
قَـبْلنا ياما رجالْ مْيتّمينا
وان دعا داعي الوطن يوم الخصاما
وْقِيل وين اللي يرُدّ المعتدينا
مَن نشَد عنّا يجدنا بالأماما
مع طلايع جيشنا بالأوّلينا
ومَن غَرَس طيبٍ جنى عزّ وكرامه
ومَن عطت يسراه ياخذ باليمينا
والشكر لازم علينا بالختاما
للذي يرعى اليتامى القاصرينا

… عارف النكدي وجاد الله سلام، جمعتهما الإنسانية وذاكرةُ اليتمُ في حومة ما وَرَد، ومنها جاء هذا النسيجُ الماديّ والمعنويّ..


شروحات:

1. طوابها: الطُّوب: المدفع
2. ريح النَّفَل: يريد رائحة العطر، والنَّفَل: نبات برّي طيّب الرائحة، بجيابها: في ثوبها الذي يكسو صدرها
3. السِّكَر : صفة للخيل مصدرها نشوة الفارس الذي يعتز بفرسه وفروسيته, عيّا بها: أي رفض المساومة عليها.
4. الوفد: إشارة إلى الوفد السوري الذي سافر إلى باريس عام 1936م برئاسة هاشم الأتاسي بشأن التفاوض من أجل حرية البلاد واستقلالها
5. لا نوى: (لا) أصلها لو وهي من اللهجة البدوية ويكثر استخدامها عند الشعراء العاميين.
6. غبيّة: خفيَّة
7. الأشهب: كناية عن البارود، وفي البيت يصف تحوّل العقلاء (عقّالهم) إلى حالة الجنون (جهاله) عند احتدام وطيس المعارك
8. خوذه : خُذها
9. مار: من استخدامات البدو وتعني (ماغير) وتفيد أيضاً معنى (ولكن), اسعرات الحرب: سعيرها
10. هَل الرَّدات: أي أهل الثأر والنخوة
11. بليّا مخاسير: من غير خسائر.
12. دَوْر رحاه: رحاه تقرأ بتسكين أوّلها ليستقيم الوزن وهي بلفظها هذا من استخدامات العامة والرحى هي آلة حجرية قديمة تستخدم لطحن الحبوب
13. المفَارَق : بتسكين الميم و فتح الراء وتعني الفراق
14. قبّ السَّبايا: الخيل الضامرة, حَدينا: أي أنشدنا الحُداء وهو لون من الشعر الذي يخص الحروب
15. المقصور: الثوب الأبيض، اللجينا: اللجين: الفضة
16. صدى الجاز وشحار: يريد بصدى الجاز عتمةَ القبر، وشحار: أثر الدُّخان الأسود
17. قوطروا : وَلّوْا إلى غير عودة.
18. كَن زاغ منها نظرها: أي كأن نظرها مالَ وذهب
19. عَيّا: عَجِزَ, محَْدٍ : أصلها (ما أحد) ولكن تُسقط الهمزة وتُسكّن الحاء على حسب اللفظة البدوية
20. جَضّ: هي تصحيف لمفردة ضجّ والعامة تستخدمها بمعنى تضايقَ وأصدرَ أنيناً, زاد المعلّم شطرها: أي أمعنَ الحدّادُ في عمليّة طرق الحديد.

من الماضي الجميل

كان شعراء جبل العرب يلتقون كل اسبوعين يحيون التراث وكان عميد الاجتماع المغفور له المهندس ابو رياض جادالله عز الدين المحترم الرزين والمثقف المميز صاحب مكتبة على رفوفها احدى عشرة ألف كتاب تحت تصرف الجميع.

تم تداول فكرة هي ان نكرم الافذاذ بعد رحيلهم ولم يبق من سيوف المجد صانعي الاستقلال المشاهير غير اللواء ابو غالب زيد الاطرش الأخ الشقيق لسلطان ويده اليمنى في كل المواقف التاريخية فلماذا لا نُسمعه وهو على قيد الحياة رأي الشعراء به واتفقنا ان نزوره في عرين سلطان باشا الاطرش وفي مضافته فنقول رأينا به وحددنا يوم الثلاثاء في١٣-٣- ١٩٩٦ وقبيل الظهر زرت ابا رياض جادالله عز الدين وهناك التقيت الاخ العقيد الشاعر ابو نزار محمد شجاع عنده، وبحثنا الخطوات اللازمة للمناسبة؛ فاقترح ابو رياض ان نبحث في السوق عن هدية رمزية نقدمها للواء ابي غالب زيد؛ فوجدنا هدية ترمز الى الفتوّة والنضال فاشترينا سيفا كهدية رمزية ..

وفي المساء كانت مضافة سلطان باشا تغص بالشعراء وأنصار التراث، بدأت السهرة بكلمة ألقاها عميد السهرة جاد الله عز الدين باسمه الكبير وقدم الهدية (لابو غالب) باسم الجميع ونيابة عنهم ففاجأته الهدية ووقف بطوله المهيب ليقبّل السيف ويقول: وصيتي ان يوضع تحت راسي في قبري!!

ابتدأت السهرة التي كانت حفلة منضبطة ومنظمة وبرنامجها محترم من الجميع …وجاء دوري فقدمت قصيدتي هذه:

ما المجد غير تجشّم الأخطار
والذِكر غير حصيلة المشوار
الليل يغتال الوضوح تغلّساً
والصبح خير هديّة للساري
والبدر في كبد السماء مميّز
والشمس تمحو لألأ الأقمار
يا زيد مَن للخيل في يوم الوغى؟؟
حين ارتخاص الروح للأقدار؟؟
يوم العجاج امتدَّ يسحب ذيله
ليلاً يحدّ خوارق الأبصار؟
حين استجار الشرق من أغلاله
هذا العزيز الصعبُ بالثوّار؟
تالله كُنتَ الليث ينثر لبدةً
والثائرون منائرُ الأكوار
والسيف منصلتٌ تعندم راعفاً
يهوي بوهج نيزكيٍّ عاري
إن هُجتَ هاجوا دمدماً وصواعقاً
سيلَ السيولِ وجذوة الإعصارِ
مزّقت أجناد العدوّ بفتيةٍ
في كلّ موقعةٍ كسهم النار
وهززت راشيّا بجمعٍ ثائرٍ
حين اقتحمتم شاهق الأسوار
يا فارساً بالحرب يزجي مهره
مستهزئاً بالنار والأخطار
يا زيدُ أغنيت الجهاد ولم تزل
تُعطي عطاء الديمة المدرار
صلبٌ إذا اعتبكت وطار شرارها
تغشى الوطيس بهمّة المغوار
يا زيد شاخ الدهر إلّا أنكم
كبشٌ عليه غُلالة من غار
يا شاعراً أغنى القريض بشعره
يا قائداً يا أحصف السمّار
أنجزت صرحاً للتراث مشيّداً
بالسيف والتنظيم والأشعار
يا زيد ليت الدهر في امكاننا
إرجاعه قرناً بدون ضرار
فأراك في النبك البعيدة بادياً
شاكي السلاح مهلهل الأطمار
ترنو الى صوب الشمال وأهلهِ
والروح تهدي ذاتها للشاري
إنّي أحيي الآن شيخاً فارساً
في أعظم الأيام، في آذار
في دار سلطان العظيم وحصنه
نسقي أصول المجد بالتذكار
يا ربُّ هَبْ زيداً شموخاً دائماً
هذا بقيّة نخبة الأبرار

أبو حيَّان التّوحيديّ

إن خير تعريف به وأقربه إلى حقيقته الشخصية، والأدبية ما ذكره مؤلف كتاب: «أبو حيان التوحيديّ»: سيرته – آثاره. الدكتور عبد الرزاق محي الدين، في زحمة عشرات، لا بل، مئات المقالات والدراسات الكبيرة الأثر التي تناولت أعماله القلميّة المختلفة في مَدْحٍ أو نقدٍ حفلت بها مجامع الأدب، والفلسفة، والتأريخ في عصره، وقد كان اختلاف المؤرّخين فيه وفي تقديره من أقوى الحوافز على تبيّن وجه الحق في أدبه، وسيرته. وقديماً قيل: «من عظمة الرجل أن يختلف الرأي فيه» إنّه في ما صَوّر المؤرخون من ناحية العنصر، فارسيٌّ أو عربيّ، ومن حيث الموطن، بغداديّ، أو شيرازي، ومن حيث العقيدة، مؤمن مصدِّق، أو زنديقٌ مُلحد، ومن حيث الرواية، وضّاعٌ مُختلق، ومن حيث الطريقة، صوفيّ عارف ومن حيث معارفه، فيلسوف، ومتكلّم، وفقيه، ومُحدّثٌ، ونحويّ، وشاعرٌ، وناثرٌ، وبمثل ذلك جرى الخلاف في عام مولده ووفاته. ويرجح أنه وُلِدَ عام 310 للهجرة، وتوفي عام 410 للهجرة، وهو تاريخ غير مثبت.

أصله ووطنه

يقول الدكتور «زكي مبارك» في النثر الفنّي: إنّ «أبا حيّان» كان فارسيّ الأصل، وقال «السندوبي»: ما من شك في أنه فارسيُّ الأصل. وقال «محمّد كرد علي»: هو عربيٌّ، وما كان يعرف الفارسية. ووردت عبارةٌ في «معجم الأدباء» «لياقوت الحموي» يُشْتَمُّ منها أنه كان فارسي الأصل، فقد قال ياقوت: «فهو شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقّق الكلام، ومتكلّم المحققين، وإمام البلغاء، وعُمدةٌ لبني ساسان» ولكن أبا حيّان نفسه لم يُشر فيما عُثِرَ عليه من مؤلفاته أنّه كان فارسي الأصل، وفي هذه الحالة ليس بإمكاننا إلَّا أن نستعين بالقرائن، ونستنطق السّمات، فربما باستطاعتنا منها أن نستنتج أنه عربيٌّ أو فارسي، فاسمه، وكُنيته ولقبُهُ واسمُ أبيه، وجَدِّه توحي بعروبته، فهو ما يُشبه الإجماع، وكما قال «كرد علي»: عدم معرفته للغة الفارسية على طول إقامته في فارس، وتردده عليها، يرجح أنّه عربي».

معالم سيرته

طفولة أبي حيّان كانت عجباً في حياة الأطفال، وإحساسَه المُرهَف الرقيق، وأعصابَهُ المتوفزة المتوترة، وغريزة التطلّع فيه إلى كل شيءٍ حوله، وحبُّ المشاركة في كلِّ ما يرى، ويسمع، وتسجيلهُ كل ما يقول أو يقال تنامت معه حَدَّ بلوغ الشباب والنضوج الفكري، عاماً بعد عام، مُعَيِّناً أساتذته الذين درس عليهم، وشيوخه الذين روى عنهم، والكتب التي قرأها، والمؤلفات التي ألفها، والأعمال التي شغلها، في هذه الفترة من حياته. اتصل بقادة الرأي من رجال القرن الرابع، فقابس، وجادل، وناقش، وروى، وسجّل، ونقد، وعَقَّبَ، وهجا، ومَدَح، وطلع على الناس بـ «البصائر والذخائر»، و«مثالب الوزيرين»، و«الصداقة والصديق» و«الإمتاع والمؤانسة» وأخريات من مؤلفاته.

تكوينه وهيئته

كان في ما يبدو من مظاهر نشاطه العلمي، وتنقلاته الكثيرة، وامتداد عمره حتى بلغ المائة أو يزيد، أنه عاش صحيح البنية قويَّ المزاج، فقد حجّ في غير استطاعةٍ، ماشياً من العراق إلى الحجاز، مع مجموعة من المتصوّفة. أمّا سِمتُهُ وهيئته، فقد كان في ما يوصف، صوفي السمْت والهيئة، رثّ اللباس نابي المظهر، ما سبَّب حرمانَهُ من بلوغ حقّه، وزُهْدِ الأعاظم فيه وإيثارهم سواه عليه.

ملكاتُهُ وأخلاقُهُ

كان الرجل مزّوداً بكفايات يكفي أهونُها لبلوغ حَظٍّ من حياة كريمةٍ، رافهةٍ، وكان مَنْ دونَهُ منزلةً، ينعم بالجاه والمال والسلطان على حين عاش هو في فَقرٍ وتسكّعٍ واستجداء. فقد كان كاتباً أدنى ما يُقال فيه إنّه من طبقة «ابن العميد» و«ابن عَبَّاد»، و«أبي إسحاق الصابئ»، و«ابن سعدان»، و«عبد العزيز بن يوسف» وقد بلغ أكثرُ هؤلاء رُتبة الوزارة ولمّا يبلغ هو منزلة كاتب في ديوان.

حرفته

كان «أبو حيَّان» حسن الخط، عارفاً بفنونِه، وأنواعه. أَلَّفَ فيه رسالةً قَيِّمةً، ربما عُدَّتْ من أقدمِ ما أُلِّف في العربية، وزاد على جَودَةِ الخط وتزيينه وزخرفته، ضبطُ النسخ وسلامتُهُ مما يُدخلُهُ الورّاقون من تصحيف وتحريف.
عقيدته

قال أبو فرج الجوزي: زنادقةُ الإسلام ثلاثة: «ابن الراوندي»، و«أبو حيَّان التوحيديّ»، و«أبو العلاء المعري «وأشدهم على الإسلام «أبو حيّان» لأنه جْمَجم ولم يُصرِّح» وقد جاء في مراجع ومصنفات معروفة، الكتاب «لسان الميزان» «لابن حَجر العسقلاني» قال «ابن النجار» له أي «لأبي حيّان» المصنفاتُ الحسنة «كالبصائر» وغيرها، و «كان فقيراً، صابراً متديّناً، صحيح العقيدة» وجاء في كتاب «شيرازنامه» «لأحمد بن أبي الخير، وهو من رجال القرن السابع: هو الإمام المُوَحِّد العالم المتفرد، الجامع للمعارف والعلوم، لا نظير له في المكاشفات الإلهية، والبحث في التوحيد.

واقع عقيدته

كان «أبو حيّان» حنيفاً مسلماً، ما ندَّ عن شيء من أصول الإسلام العامة، وتهمتُهُ بالإلحاد فَنَحْنُ في غنىً عن التدليل على ذلك، مُحيلين القارئ إلى ما انطوت عليه مؤلفاته من روحٍ إسلاميٍّ قويّ.

مروياته ومقتبساته

أكثر «أبو حيان» في مؤلفاتِهِ الرواية عن غيره، وأغلب ما ورد من آراءٍ في اللغة، والأدب، والفلسفةِ، والفِقْهِ، عزاهُ إلى أساتذتِهِ ومعاصريه. شهدَ الناقدون، ومؤرّخو الأدب، هذا الإكثار في الرواية، مع وحدة الأسلوب وطريقة العرض على الأغلب، فاتهموا الرجل باصطناع الآراء ونسبتها إلى غيره، إمّا تخفُّفاً من أوزارها، وإمّا رفعاً لشأنها، بنسبتها إلى مُحدِّثٍ أو فيلسوف ذي شأن، أمّا عن أسلوبه فقد شبَّهه أقاي ميرزا محمَّد خان القزويني بأسلوب الجاحظ بقوله: أنْ لا كبير فرق بين أسلوبَيّ الرجلين، فأسلوب أبي حيَّان عينُ أسلوب الجاحظ، في سلاسة الإنشاء، والسهولة وعدم التكلُّف والميل إلى البَسْط والإطناب، فهو خطيبُ المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومُدْرَهُ المتقدمين والمتأخرين.

ثقافته

كان النسخ عُدَّتَهُ في التحصيل، فهو منبع ثروةٍ لغويةٍ وإخباريةٍ ضخمة، جَمَعَ منها مؤلفهُ «البصائر والذخائر»، وسواه من المؤلفات. وُهِبَ الرجلُ حافظةً قويةً، وذاكرةً مدهشةً، إلى صبر وجَلَد على تسجيل ما يحفظ، كان عصرُه أحفل العصور الإسلامية برجال العلم، وكان أساتذتُهُ خير هؤلاء الرجال في كل فنٍ من فنون الثقافة، إذا عرفنا ذلك أدركنا السرّ الذي جعل من «أبي حيَّان» دائرة معارف جيله وكتّاب عصره. وعلَّلَ «ابن حجر» تلقيبه «بالتوحيدي» إلى أن «المعتزلة» يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، على اعتبار أن أبا حيّان لدى بعض الدارسين في عصره كان ضمناً على غرار الجاحظ من المعتزلة بما يعني أنه من أهل التوحيد، المعتزلة.

الفلسفة

وصفه «ياقوت» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، تعاقب على نعته بذلك جلُّ مؤرخيه، ومع ذلك فلم يترجم له في ما وقفنا عليه من تلك الكتب التي تجرَّدَت لتاريخ الفلاسفة أمثال «تاريخ الحكماء» و»منتخب صِوان الحكمة» و»تتمة صوان الحكمة» «وتتمة التتمة» و»عيون الأنباء» على حين ترجمت هذه الكتب لمن هو دونه آثاراً في هذا الفن فتجاهُلهم له لا يعني حتماً عدم انتظامِهِ في مسلكهم في ما يقدرون بل في ما نقدِّر، إلى تناسي التاريخ الفلسفي له، كما تناساه وتجاهله جُلُّ التاريخ الأدبي. ولن ندخل في تفصيل آرائه الكثيرة في الفلسفة، وتضاعيف مفاهيمها العميقة في هذا البحث، بل سَنُلمعُ باختصار إلى نظره في الفلسفة، كما في نظر أستاذه «أبي سليمان المنطقي» بقوله: هي صناعةٌ لا بُدَّ أن تنتهي بصاحبها إلى «التوحيد» فإن انتهت بأحدٍ إلى غير هذا فمرجعُهُ إلى فساد في طريق الدراسة الفلسفية، ولذلك كان كثير الشكّ في سلامة ما ترجم عن اليونانية من نصوص تدعو إلى الجحود أو الوثنية. موضوع الفلسفة هو العالم بأسره، عدا هذا الذي يتصل بأمور الدين. فعلى من يريد الفلسفة أن يُعرض بنظره عن الديانات، ومن يُريد الدين فعليه أن يُعرض بعنايته عن الفلسفة، وليتحلَّ بهما متفرقين في مكانين مختلفين.

الحج العقلي إذا ضاق القضاء عن الحج الشرعي

لم يُشهَد في تصوف «أبي حيان» ما يُشعر بعدم المبالاة، بأصول الإسلام، ولا الفكرة التي تتلخص بالقول: إنّ من عَرَف الحقيقة سقطت عنه الشريعة، أما الاستهانة بالحج خاصة، وهي الفكرة التي شاعت بين بعض متصوفة جيله، فيبعدها عنه، فالرجل حجَّ ماشياً على قدميه عام 350ه كما أسلفنا.

أبو حيان الأديب

الآن وقد ظهرت لنا معالم من سيرة الرجل، ومنابعُ ثقافتِهِ ومصادرُها، وأثر هذه المنابع، وما كان لها من أثر فيه وتأثر به، يصحُّ أن نتجِهَ إلى أسلوبه الأدبي، وعملِهِ الفَنّيّ وما أدخله على هذه المادةِ من ضروبِ الصَقل والتزيين والتظليل والتلوين حتى تستوي على لسانه أو قلمهِ مقالةً فنيةً، وأسلوباً رفيعاً للأداء.

رأي المحدثين من الدارسين

رأي آدم متز
وأوّل من تنبَّه منهم إلى خطر «أبي حيَّان» في عالم البلاغة، المستشرق «آدم متز» في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر» فشهد وهو يرصد آثار التطور في النثر العربي مكانة «أبي حيان» منه، فاستصدر حكماَ جريئاً بإبلاغه مرتبة الأستاذية لكتَّاب ذلك العصر جميعاً، ولم يخش أن يعدّه أعظم كتَّاب النثر العربي على الإطلاق.

دراسة الدكتور زكي مبارك
وعقد مؤلفُ «النثر الفني» دراسةً مستقلّةً «لأبي حيان». في كتابه فوضعه في طليعة كتَّاب الآراء والمذاهب في القرن الرابع الهجري، وحين تكلم عن الأساليب رأى فيه كاتباً يُؤثر الازدواج، ويسجع من حين إلى آخر، كما كان يفعل «الجاحظ» الذي ارتضاه إماماً في حياته الأدبية، والعقلية، ذاهباً إلى أن نثر «أبي حيان» من أبلغ النماذج في اللغة العربية ومن أروع آيات البيان.

كما عدّهُ «محمّد كرد علي» من أمراء البيان العربي. نظر إلى فنِّه الأدبيّ فَعَدَّهُ من أعاظمِ المُنشئين والمؤلّفين في الأدب، ورأى أن رسالة «الصداقة والصديق» تمثلت فيها أفكار أربعة قرون، ورأى في تصويره الإبداعي ما تقف عنده العقول حائرةً، وإذ آضت اللغة على يديه مرِنةً مرونة العجين في يد المصور الحاذق.

رأي أحمد أمين
قال أحمد أمين، وهو يفحص أساليب النثر في القرن الرابع الهجري مستعرضاً أعلامه، أمثال «الصابئ» و»ابن العميد»، و»ابن عبَّاد»، و»عبد العزيز يوسف»، وكان يرى «أبا حيان» من نوع آخر، فكتابته يُعنى فيها بالموضوع كما يُعنى بالشكل، هو غزير العقل، واسع العلم، حسن الصياغة، جيد السبك، وبحق لقبوه بـ «الجاحظ» الثاني. وكانت كتب الجاحظ أغزر مصادر كتابه «البصائر والذخائر» فيما صرّح به في مقدمته، وتجاوز إعجابه به حدّ أن ألَّف كتاباً خاصاً به أسماه «تقريض الجاحظ» وهي خطوة لم يحدثنا التاريخ أن أحداً ألّف في الجاحظ كتاباً قبله، ولقد أطراه في مؤلفاته جميعاً ولكن الذي ينبغي أن يقال إنصافاً للرجل إنه لم يقف بمدرسة «الجاحظ» حيث تركها مؤسسها، وإنما أمدها بمعين من عبقريته وفنِّه بما رفع من قواعدها.

قال إسعاف النشاشيبي: «لو أقام كل عربي تمثالاً في بيته «لأبي حيّان» كفاءً على جميل ما أسدى للأمة العربية في مؤلفاته الأدبية» لما كان هناك إسراف في التقدير، ورعاية الفضل لأهله.

«الحق لا يصير حقاً بكثرة معتقديه، ولا يصير باطلاً بقلة منتحليه» على ما هو معروف، احتُفِلَ بألفية «أبي حيّان التوحيدي» في القاهرة في شهر آب 1994، واقتصر على ندوات وإعادة طبع ثلاثةٍ من كتبه، إلى تكريس مجلة «أدب ونقد» المصرية عدداً من أعدادها للمناسبة، مع عدد من الكتاب الكبار بينهم عبد الرحمن البدوي، فهل يستحق الرجل الدعوة إلى «سنة التوحيدي» هذا الرجل الذي اسمه اليوم على كل شفة ولسان مات مغموراً، وبقي قرابة نصف قرن لا ترجمة شخصية له في أي من المصنّفات، وهو الذي تضج كتبه بالحياة. وكلماتُهُ بالوخزات، وشكاواه بالصرخات التي هي زبدة علمه، لا بل زبدةُ عصر بأكمله… هذه بعض إضاءات منَّا على شخصيته الفريدة، وأعماله العبقرية، ما يصح أن يدرج في قائمة الأدباء الخالدين، مع الجاحظ خصوصاً أنهما كانا معاً قطبي فصاحةٍ وبلاغةٍ على مدى العصور.


مراجع البحث:

– ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
– الدكتور “زكي مبارك” النثر الفني.
– “محمّد كرد علي” أمراء البيان.
– شيرازنامة “أحمد بن أبي الخير زركوب”.
– تاريخ الحكماء للقفطي.
– طبقات الشافعية للسبكي
– لسان الميزان ج6.

– وفيات الأعيان ج1.
– البصائر والذخائر.
– دائرة المعارف الإسلامية – مرجيليوث.
– آدم متز “حضارة الإسلام”.
– الملل والنحل للشهرستاني.
– كشف الظنون.
– أحمد أمين “ظهر الإسلام.

ثقافة و آداب

أُعيذُ ذُرى حورانَ من وقع صدمةٍ رويداً أبا منصور هذي منازلٌ أتتركُها في كَرْبةٍ من زمانها وأنت الذي مازلتَ غَوثاً لأهلِها حملتَ …

لا للوجود

لو أوجدوا سكاكينَ من وردٍ وعطرٍ مميز لو صنعوا أسلحة ترش الكون عطرَ ورد ورائحة ريحان لو صنعوا مسدسات ترش الفكر في …

كان والد جبران خليل بن مخايل بن أسعد بن يوسف بن جبران أشقر البشرة أزرق العينين، قوي البُنية، يملك مزرعة مرجحين قرب …

نزل الأديب المصري الكبير طه حسين في الثلاثينيّات في أحد فنادق الجبل وأصرّ أن يحضر حفلة زجل لفرقة شحرور الوادي التي سمع …

هو عنوان لمؤتمر نظّمه «النادي الثقافي العربي». بين 4 و5 تشرين الأول أكتوبر 2019 في فندق البرستول، بيروت. شارك فيه اثنان وعشرون …

كتاب وضعته بتمكن الإعلامية كلود أبو شقرا مجازة في الصحافة ووكالات الأنباء – كلية الإعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية، حاولت أن تلجَ …

  كتاب هدف إلى مراجعة التجربة اللبنانية خلال مئة سنة التي انقضت إلى الآن (1920 – 2020) التي تساوي بالمعنى السياسي عمر …

مُبدع من بني معروف، من هضبة الجولان المحتل. اشتُهر بكتابة مسلسليّ (ضيعة ضايعة) و (الخربة) روائي وصحافي ورسّام كاريكاتير سوري مواليد عام …

تابعنا باهتمام، وكالعادة، حضور الملتقى السابع لمنتدى تعزيز السَّلم الذي عُقد لهذه السنة افتراضيَّاً عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، في الفترة …

  كنا قد قدَّمنا دراسةً خاصة بالقصيد النبطيّ في جبل العرب لمجلّة الغرّاء، وذلك في الأعداد 16 و 17 و 18 من …

كان شعراء جبل العرب يلتقون كل اسبوعين يحيون التراث وكان عميد الاجتماع المغفور له المهندس ابو رياض جادالله عز الدين المحترم الرزين …

إن خير تعريف به وأقربه إلى حقيقته الشخصية، والأدبية ما ذكره مؤلف كتاب: «أبو حيان التوحيديّ»: سيرته – آثاره. الدكتور عبد الرزاق …