الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

معركةُ مرج دابق وموقعُ التنوخييِّن والمعنييِّن فيها

 كثيرون من النّاس، يسمعون عن حدثٍ ما، أو شخصيّةٍ ما، أو معركةٍ ما، ذات طابَع تاريخيٍّ (قديماً كان أم حديثاً)، لكنّ الأغلبيّة منهم لا يحاولون التعمُّق في المعرفة الدقيقة والجوهريّة للمعركة أو الشخصيّة أو الحدث، مكتفين بالاسم فقط، أو ببعض العموميات عنها… ومتجاهلين الأثر والتأثير الذي أحدثته، كلٌّ منها، على مختلف الأصعدة والمستويات… مع العلم أنّ ما خلّفته من آثار سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو عسكريّة أو نفسيّة… إلخ، يفوق بكثير ما تُحدثه الهزّات الأرضيّة والأعاصير والكوارث – على أنواعها – على البشر والشّجر والحجر مجتمعة…

 من هذا القبيل، تمثّل بعض المعارك الكبرى في التاريخ، (والتي يُطلق على بعضها اسم «المعارك الفاصلة») أنموذجاً حيّاً في مجتمعاتنا، كما في دولنا، رغم القرون التي مرّت على حدوثها، وما تمخّض عنها من مُتَغيّرات لم تنحصر آثارها بالزّمان والمكان فقط، بل تجاوزتهما إلى قرون وشعوب ودول لاحقة، وربّما لم يكن لها وجود من قبل وقد كانت «معركة مرج دابق» التي حصلت بين العثمانييّن والمماليك عام 1516 (كما بين حلفاء كل منهما)، إحدى هذه المعارك الكبرى في تاريخ الشرق، فألغت سلطنة وسلاطين، وأوجدت بديلاً عنها وعنهم، مثلما شطبت إمارات وأمراء، وقام على أثرها إمارات جديدة وأمراء جُدد (مثلما هو الحال مع التنوخييّن والمعنييّن)…

 لقد أَحدثت تغيُّرات جذريّة تتعلّق بالانتقال من مرحلة القرون الوسطى إلى مرحلة العصور الحديثة، لا سيّما في المجتمع اللبناني خاصّة، وبلاد الشرق عامّة…
كما أفرزت «تبديلاً سلطويّاً» على جانب كبير من الأهميّة، التاريخيّة والجغرافيّة، فضربت السلطنة (المملوكيّة) وسلاطينها (المماليك)، من قِبَل «بكوات» و«حُماة أطراف وحدود» (عثمانييّن) فانقلبت الآية رأساً على عقب، فانهار السلاطين القدماء مع سلطنتهم، وقام على أنقاضها وأنقاضهم سلطنة جديدة – بغير اسم، وسلاطين جدد – بغير أسماء أيضاً – وكان تغييرٌ هائلٌ في «الحكم» و «السّيطرة والتسلّط» على جغرافيا واحدة موحّدة وديموغرافيا واحدة (ولكن غير موحّدة)، في ظلّ سُلطة جديدة، نفضت عن كاهلها لقب «الباكويّة» و«حُماة الحدود» لترتقي إلى منصب السلاطين وأصحاب سلطنة مترامية الأطراف، ذات طابع «إمبراطوري»، ولكن بمعزل عن «صفة الإمبراطور»…

 تلك هي «معركة مرج دابق»، إحدى أكبر معارك التاريخ العالمي – كما وصفها المؤرّخ السوفياتي نيقولاي إيفانوف – التي أخذت اسمها من الموقع الجغرافي الذي حدثت فيه بتاريخ 24 آب 1516. وهي ذاتها التي دفعت بالعثمانيين المنتصرين على المماليك إلى أن ينطلقوا بعدها خارج الحدود الجغرافية لبلاد الشرق، مهدّدين دول الغرب بأنظمتها وملوكها وأمرائها وناسها وممتلكاتها، وفي كلّ شيء…

فماذا عن هذه المعركة؟ وما الأسباب الكامنة في وقوعها؟ وماذا حصل أثناء سيرها؟ وماذا تمخّض عنها من نتائج على الصعيد العثماني – المملوكي، وعلى الصعيد التَّنوخي – المعني تحديداً؟

 في الحقيقة، إنّ معركة «مرج دابق» لم تكن «بنت ساعتها» – كما يقال – بل كانت نتيجة لأسباب كثيرة أدّت في النهاية إلى حصول هذه المعركة التاريخيّة بين العثمانيين والمماليك، الذين يجمع بينهم الدين الإسلامي، والمذهب السنّي خاصّة.

 فضلاً عن ذلك، هناك كثير من القواسم المُشتَركة بين الجانبين، إذ يتشابه تاريخ كل من دولة المماليك والدولة العثمانية في وجوه كثيرة، ففي الدولتين سادت العلاقات التي تميّز هنا الإقطاع الشرقي، وكلتاهما مثّلتا سلطة عسكرية عملت تحت راية الإسلام السنِّي المؤمن. وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة لم تنشأ بينهم أية خلافات سياسية أو عقائدية ولا حتى تنافس تجاري أو اقتصـادي أو غيره. وحتى سقـوط القسطنطينيّة عــام 1453، كــان الحكّام العثمانيون يعترفون بالأولويّة الدينية والسياسية للمماليك كزعماء لدار الإسلام، بينما خصصوا لأنفسهم دوراً متواضعاً هو دور «البكوات حماة الأطراف» الذين يدافعون عن الحدود العامة لدار الإسلام. أما المماليك، من ناحيتهم فقد ظلّوا ينظرون

إلى تحركات العثمانيين كجزء من المسألة الإسلامية العامة. كما أنّ القاهرة اعتبرت الاستيلاء على القسطنطينية نصراً للمسلمين قاطبة.

 بيدَ أنّ الوضع تغيّر جذرياً بعد عام 1453. وكان تبادل البعثات والاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الاستيلاء على القسطنطينيّة آخر مظهر من مظاهر الوفاق العثماني – المملوكي. فقد لاحظ حكام القاهرة بقلق شديد، أنّ دولة إسلامية قويّة وديناميّة أخذت تنمو على حدودهم وتشقّ طريقها الخاص بها. ثمّ تزايد قلقهم عندما نشطت في اسطنبول (القسطنطينية)، العاصمة الجديدة للسلطنة العثمانية، المساعي لتغيير كلّ نظام العلاقات الذي أوجده الإسلام وكان له فيه دور القائد الموجّه. ويؤكد مؤرّخو المماليك أنّ «البكــوات حُماة الحدود»، وللمرة الأولى بــدأوا يتكنـَّوْن بألقاب «الملوك» أو «السلاطين» بعد أن كانوا يكتفون بلقب «غازي» الذي يعني المكافح في سبيل العقيدة. على أنّ سلاطين المماليك كانوا في رسائلهم يُطلقون عليهـم ألقاب «أمير» أو «خوند كيار».

 ويؤكّد ابن إياس أنّ محمّداً الثاني كان أوّل زعيم في بني عثمان اتّخذ لنفسه لقب «سلطان»(١) وبدأ على الأقل يدَّعي بمساواة نفسه بحكّام مصر.

 كان اتخاذ الألقاب السلطانيّة يرمز إلى تحوّل العثمانيين إلى سياسة الدولة العظمى. وكان المقصود بذلك تأكيد الدور العالمي الجديد للسلطنة العثمانية. فقدّم مناصرو فكرة الدولة العظمى السلطان محمّد الثاني على أنّه الحاكم المسلم الأعظم بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، أمّا هو فقد اعتبر نفسه وريث ملوك الرّوم البيزنطييّن. وقصد سمّاه أحد مادحيه من اليونانيين ويدعى جيــورجـي تـرابيزونتس «إمبراطور الروم». سعى محمّد الثاني، كما يذكر المؤرّخ التركي المعاصر خليل اينالجيك إلى الجمع بين التقاليد الإسلامية والتركيّة والبيزنطيّة في الزعامة الدنيويّة وجعل اسطنبول العاصمة الجديدة للسلطنة ذات الامتداد الواسع(٢).

 أدّت سياسة الدولة العظمى التي انتهجها محمّد الثاني إلى تدهور حاد في العلاقات العثمانية المملوكية. وأصبح الصراع على الهيمنة وبالدرجة الأولى على الأولويّة في زعامة العالم الإسلامي، السبب الأساسي والرئيسي للنزاع العثماني – المملوكي. وتفاقمت العلاقات أكثر فأكثر إثر شائعات تقول إنّ بني عثمان هم من أصل عربي، من قبيلة حجازية كانت تقطن وادي الصّفرا. وبسبب انتشار محبّة العثمانيين على نطاق واسع، تهدّد بناء المجتمع المملوكي بأسره. فقدّم العثمانيون بديلاً موضوعياً للأزمة الخلقية والاجتماعية التي عصفت بالعالم العربي في القرن الخامس عشر. زِدْ على ذلك أنّ العثمانيين باكتسابهم مشاعر الفلّاحين أثاروا عداء الفئات العليا في المجتمع وأضفَوْا على الصراع كلّه طابع التناقضات الطبقية. وهكذا أصبح التنافس على أشدّه بين هاتين القوّتين. وتمثّل أول اختبار سافر للتنافس العثماني – المملوكي بفضيحـة ديبلوماسية عام 1463 عندما رفض السفير العثماني الانحناء لحاكم مصر. وفي عام 1464 أدّى الصراع على السلطة في قونيـه وقضيـة ميراث قــرمــان إلى أول صدام سياسي كبير. كما حـدد الاستيلاء على قونيه وضم قرمان في عام 1468 إلى الممتلكات العثمانية بداية لمواجهة واسعة. وتحوّلت الدول الإسلامية الفاصلة بين الفريقين كدولة الرمضانييّن الذين حكموا كيليكيا (آسيا الصّغرى) ودولة القادرييّن الذين حكموا كابادوكيا (قيساريه)، إلى ساحة رئيسية للصراع بين ‏الدولتين، فدعّمت كلّ منهما المناصرين لها وأمدتهم بالمال والسلاح وأحيانا بالقوّات المسلّحة.

 تحوّلت القاهرة واسطنبول إلى ملجأ سياسي لكل زعيم يفرّ من غضبة سلطات بلاده. وحصل عدد كبير من الزعماء اللاجئين على مساعدات للعمل ضد حكوماتهم. فتمكّن العثمانيون من التحكّم بالطرق التجارية وعلى مصادر المواد الخام الاستراتيجية البالغة الحيوية بالنسبة إلى المماليك كأخشاب السّفن مثلاً، فبذلوا جميع المحاولات لتقويض طاقة مصر العسكريّة، ووضعوا العراقيل على طريق شراء المماليك الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر. وقد اعتبر د. كانتيمير ذلك أحد الأسباب الرئيسية للنشاط العثماني في شبه جزيرة القرم والقفقاس بما في ذلك حملة العثمانييّن على تشير كاسيا في عام 1484 التي دُمِّرت خلالها كلّ المراكز الأساسية التي كانت تؤمن الإمدادات البشريّة للمماليك(٣).

 ثمّ أدّت الصدامات المسلحة (1483-1485) التي نشبت مع حاكم كابادوكيا علاء الدولة القادري الذي طلب مساعدة الجيوش العثمانيّة، في أوّل حرب عثمانيّة- مملوكيـّة (1486-1491)، فاستطاع المماليك إلحاق الهزيمة بالعثمانييِّن ثلاث مرات، إلّا أنّهم لم يتمكّنوا من إحراز نصر حاسم. وفي عام 1491. ونتيجة لوساطـة تونس، عقــدت اتفاقية سلام بينهما، وتخلّى العثمانيون عن مطالبهم في كابادوكيا وكيليكيا، اللتين تقرر اعتبارهما مشمولتين بحماية الحرمين الشريفين مكة والمدينة المقدستين، أي اعتبارهما في الواقع تحت حماية المماليك. إلّا أن هذه الاتفاقيّة ظلّت هَشّة للغاية، وتحت ستار علاقات السلام والإخلاص الظاهري استمرّ الصّراع بين الدولتين دون انقطاع… ثمّ بدأ المماليك يتوجّسون خيفة من العثمانيين، لا سيّما في أواخر القرن الخامس عشر، عندما بنى العثمانيون أسطولاً قويّاً…

 وفي حرب 1499-1503 ضد البندقية، أظهر هذا الأسطول مزايا عسكرية لا بأس بها، وكفاءة عالية في مجابهة أفضل الأساطيل الأوروبية. فأخذت الطوائف الإسلامية، الواحدة تلو الأخرى تلتمس المساعدة والحماية لدى العثمانيين. وفي عام 1485 وصلت إلى اسطنبول بعثة من غرناطة، وطلب المغاربة الإسبان (الأندلس) من با يزيد الثاني «تقديم المساعدة لهم بوصفه حامياً للدّين الإسلامي». فقرّر الباب العالي تلبية الطلب. وفي صيف عام 1486 أُرسل الأسطول

العثماني إلى غرب البحر الأبيض المتوسط، واجتاح البحّارة العثمانيون بقيادة كمال علي باشا، وهو كمال رَيس الشهير، شواطئ إسبانيا وإيطاليا ومالطا. ومنذ ذلـك التـاريــخ خـاضـت السفن الحربية العثمانية وبعض السفن التجارية حرباً متواصلة ضد القوات البحرية للدول الأوروبية المسيحيّة. في هذا الوقت، كان كلُّ انتصار جديد للعثمانييِّن يعني هزيمة قاسية للمماليك، ويؤدّي قبل كلّ شيء إلى الانتقاص من هيبتهم بصفتهم «سلاطين المسلمين». ولم يخفّف ظهور العدوّ المشترَك لهما (وهو العدو الصّفوي الشيعي في إيران) من التناقضات بين الدولتين السنيّتين (الشقيقتين) اللتين كانت كلّ منهما
تتصرّف بمعزل عن الأخرى.

 اتّخذت علاقات الدولتين في الشرق الأدنى شكلاً أكثر غرابة. فقد رفض المماليك بعناد، بدءاً من عام 1502، أي تعاون مع العثمانيين لمقاتلة الصّفويين، حكام إيران، رغم عداوتهم لهم. كــان العثمانيّون في وضع أكثر حرجاً من المماليك وكان بإمكان هؤلاء أن يقدموا لهم مساعدة أكثر فاعلية. لكنهم، وفي تلك الفترة بالذات، قرّروا تلقين حكــام اسطنبــول درســاً لا يُنسى. كــان قانصوه الغوري، كزعيم للمسلمين السنّة، مُلزماً أن يشنّ حملة ضد باشوات قيزيل . غير أنّه فضل اتّخاذ موقف المراقب من بعيد وترك «الدولة التي يحرسها الله» وحيدة في مواجهة الصفوييّن.
ودون تبصّر بنتائج ما يقوم به اسماعيل الصفوي من أعمال عدوانية متزايدة وعلاقات وطيدة مع البرتغاليين أراد المماليك تدبير استفزاز لإثارة صدام بين إيران وبين تركيا، لكي يتحطّم أحــد العدوين بيد العدو الآخر، ثمّ يتقدم المماليك للقيام بدور مُنقذ الإسلام السنّة وربما بدور وريث السّلطنة العثمانية. وتدلّ مدوّنات ابن إياس أنه لم يكن يساورهم أي شك في قوّتهم العسكريّة الذاتية، وأنّ العثمانيين لن يتمكّنوا من التغلب على الصَّفوييّن. فتحوّلت مسألة النزاع مع المتطرّفين الشيعة إلى حجر عثرة بين الدولتين السنّيتين. وتبيّن أنّ هذه المسألة هي القشّة التي قصمت ظهر البعير في النزاعات العثمانيّة – المملوكية.

 لقد اعتُبِرت سياسة المماليك تجاه اسطنبول مظهراً من مظاهر العداوة السافرة التي أضعفت مواقع المماليك في مصر، وقوّت المشاعر المعادية لهم في
الأوساط العثمانية الحاكمة، فأخذ الحكام العثمانيون يميلون تدريجيّاً إلى اعتبار المماليك عدوّهم الرئيسي والأشدّ خطراً. هذه القوى بالذات وفـي مقدمتهـا القوى الانكشارية، هي التي أوصلت إلى الحكم السلطان سليم الأول، الملقب بالرّهيب، الذي اعتلى عرش السلطنة العثمانية في 24 نيسـان (أبريل) 1512.(٤)

 وهكذا أصبح السلطان العثماني سليم الأوّل وجهاً لوجه مع قوى كبرى تمثّل تهديداً لوجوده على رأس السلطنة أوّلاً، كما لوجود السلطنة واستمرارها من

جهة ثانية. لذلك أصبح الاستعداد للحرب هو الخيار الأكبر. وفضّل البدء بحربه مع الصّفويين، كرسالة للمماليك ومقدّمة للقضاء عليهم عبر توجيه ضربة قاضية لهم في معركة حاسمة، وهكذا كان…

 بدأ سليم الأوّل يستعد للحرب مباشرة بعد طرح مسألة من يستطيع، بل من ينبغي أن يكــون الخليفة الحقيقي وزعيم دار الإسلام. خلال فترة قصيرة تمكّن سليم الأول من إنجاز الإصلاح العسكري، وقمع تحرّكات باشاوات قيزيل داخل البلاد، وتجهيز جيش جرّار. وفي أيار (مايو) 1514 بدأ هذا الجيش حملة ضد الصفوييّن. ووصلت في الوقت ذاته إلى القاهرة بعثة عثمانية كرّرت اقتراحها بعقد تحالف بين العثمانييّن والمماليك لمحاربة اسماعيل الصفوي. لكنّ المماليك رفضوا الاقتراح، وتمسّكوا بسياستهم مع تفضيل اتخاذ موقف الانتظار. وفي العاشر من حزيران (يونيو) 1514، قرّر المجلس العسكري في القاهرة إرسال قوّة مراقبة عسكرية إلى حلب، التي أثارت غضب الطّرفين المتحاربين لكنّها لم تلعب أي دور في تطوّر الأحداث.

 نتيجة حياد مصر المراوغ، وفشل الحملة الصليبيّة الأوروبية التي أجهضتها انتفاضة الفلاحين عام 1514 في هنغاريا، نشأت ظروف مناسبة تماماً لتحقيق مخطّطات سليم الأوّل. وبفضل تفوّق العثمانيين الملموس في مجال تنظيم الجيوش وتجهيزها التقني تقرّر مصير الحملة سلفاً. في 23 آب (أغسطس) 1514 نشبت معركة تشالديران، فتكبّد جيش الصفوييّن هزيمة ساحقة ودخل سليم الأوّل تبريز عاصمة إيران الشيعيّة في 5 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام. كانت هزيمة باشاوات قيزيل الذين فقدوا قرابة الـ (50) ألف رجل(٥) في مرج تشالديران، مفاجأة غير منتظرة بالنسبة إلى المماليك على حد قول ابن إياس. وقد اهتزت القاهرة‎ ‏لهزيمة الصفوييّن ولم يستطع حكّام مصر إخفاء خيبة أملهم. وأمام دهشة العالم الإسلامي كلّه، لم يبتهج المماليك لانتصار العثمانييّن على باشاوات قيزيل. كانت لمعركة تشالديران نتائج حاسمة على مصير المعركة المُرتقبة مع المماليك. ففي ربيع عام 1515 وصلت إلى القاهرة تباشير الأنباء عن استعدادات العثمانيين العسكرية. فقد كان الجيش والأسطول العثمانيّان يستعدان لشن حملة على مصر. وسيطر على اسطنبول جو محموم للحرب التي صوّرها العثمانيون ضد المماليك كما لو كانت واجباً على كلّ مسلم خوضها. كما أصدر علماء السلطنة العثمانية ثلاث فتاوى تضفي على الحرب طابع الجهاد الديني التحرّري. فقد ورد في إحدى هذه الفتاوى أنّ المماليك خانوا الإسلام وأنهم يساعدون الكفّار. وأعلن مفتي اسطنبــول الأكبر: «أنّ من يساعد أعداء الله هو عدو الله أيضاً»(٦). أمّا الهدف المُعلن للحملة فهو تحرير المضطهَدين وحماية المسلمين من العدو الخارجي. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تطوّرات الموقف بعد السيطرة على تبريز والانتصار على قوات الشاه، والتفرّغ لحرب المماليك.

 وأصبح الامتداد العثماني باتجاه البلاد العربية والسيطرة عليها أمراً حتميّاً، ووجد المماليك أنفسهم أمام عدوّ قويّ لا مفرّ من مواجهته، في ظلّ علاقات عثمانيّة – مملوكيّة تأرجحت بين مدّ وجزر لسنوات طويلة، تمهيداً لساعة الصفر، المتمثلة في معركة «مرج دابق» الفاصلة…

 تُعَدُّ ظاهرة ضمِّ العثمانيين للبلاد العربية، خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، من الظواهر التاريخيّة الجديرة بالدراسة، بفعل أنّ هذا الضمَّ امتدّ أربعة قرون من التاريخ الحديث، وفي أجزاء استراتيجيّة في آسيا وإفريقيا، وشكَّل العالم العربي أحد العوالم الجغرافيّة الثلاثة الكبرى التي تكوّنت منها الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، أمّا العالمان الآخران فهما عالم الأناضول وعالم الروملِّي.

 والواقع أنّ الظروف الداخلية والخارجية في المنطقة العربية قد دفعت العثمانيين إلى ضمِّ البلاد العربية، وكأنّ العالم العربي أراد استبدال الحكم المملوكي بحكم عثماني جديد كون الشعوب العربية اعتادت على نمط الدول والدويلات السلطانية. لكنّ المنطقة العربية غدت مزدحمة بالصراعات الإقليمية بين الصفوييِّن والمماليك والعثمانيين، وعُرضة لتهديدات القوى الأوروبية وأطماعها، وبخاصة القوى البرتغالية التي شغلت تهديداً مباشراً لسواحل شبه الجزيرة العربية الجنوبية، الشرقية منها والغربية بفعل وقوع موانئها على طريق التجارة مع الهند.

وجاءت نتائج ضمّ العثمانيين إقليم الجزيرة الفراتية أنْ فتحَ الباب أمام العثمانيين للتمدّد باتجاه الأراضي العربية، لتأمين خطوط استراتيجية جديدة، إنْ في بلاد الشام أو في العراق تصل إلى المحيط الهندي.

وكان التنافس على زعامة العالم الإسلامي قد بلغ آنذاك أشدّه بين القوى الإسلامية الثلاث العثمانيين والمماليك والصفوييّن، ما دفع العثمانيين إلى الاصطدام بالصفوييّن وتحجيم قوّتهم، ومن ثم التفتوا نحو المشرق العربي ليصطدموا بالمماليك. وكان السلطان سليم الأول مستعداً لتنفيذ خططه الكبرى في الشرق، لأنّ العرب أرادوا من هذا القادم الجديد حالة خلاص أخرى على يديه ينتشلهم من الحكم المملوكي المُتَعسّف(٧). في الوقت الذي فشلت فيه كل المقترحات العثمانية مع المماليك وسلطانهم قانصوه الغوري في مصر، الذي وجد في الصراع العثماني الصّفوي إضعافاً للجانبين، وعامل قوّة له، إلّا أنّ حساب الحقل لم يطابق على حساب البيدر المملوكي، حيث فسّر العثمانيون موقف حياد المماليك موقفاً عدائيّاً منهم، ممّا قرّب ساعة الحسم في «مرج دابق». هذا، ومن المعروف أنّ أيّة حرب، مهما كانت، تكمن فيها عوامل وأسباب وأهداف، مباشرة وغير مباشرة، وصولاً إلى حصولها في الوقت المناسب. ولم تكن معركة «مرج دابق» خارج هذا الإطار إطلاقاً.

 لقد عدّ العثمانيون سياسة المماليك هذه مظهراً من مظاهر العداوة السافرة، وأخذوا ينظرون إليهم على أنّهم العدو الرئيس، وقد نجح السلطان سليم الأول في تسريع الأحداث تجاه المماليك لكي يوفّر لنفسه أسباباً استراتيجية جيدة تمكّنه من ضم الممتلكات المملوكية، وتمثَّل ذلك بسيطرته على موانئ قيليقيا لتأمين الطريق المائي الذي يربط إستانبول بـ «بياس». واكتفى قانصوه الغوري، أثناء الصدام بين العثمانيين والصفويين، بإرسال قوّة مراقبة إلى حلب لحماية الأراضي الواقعة تحت النفوذ المملوكي، لكن إرسال هذه القوة وقيامها بمنع الجيش العثماني من عبور طرق تمر بأراضي واقعة تحت السيطرة المملوكية، أدّى إلى تدهور العلاقات بين سليم وقانصوه الغوري، وبدا واضحاً أنّ الأوّل عاد من تشالديران وهو ينوي الدخول في حرب مع الثاني، لأنّه كان يخشى وجود دولتين كبيرتين معاديتين له وتشرفان على حدوده الجنوبية.

 كان من أبرز هذه الاتجاهات أنّ السلطان سليم الأول أسرع بعد عودته من إيران إلى ضمِّ إمارة ذي القدر الفاصلة بينه وبين المماليك، والمشمولة بحماية هؤلاء، وقبض على حاكمها علاء الدولة وقطع رأسه وأرسله إلى القاهرة. ويبدو أنّ السبب المباشر لضم هذه الإمارة

االسلطان العثماني سليم الاول

يتعلّق بغاراتها المتكرّرة على القوافل العثمانية، ومنعها إمدادات الحرب من المرور إلى الجبهة الشرقية، فانتقم منها سليم، وملك مرعش وألبستان وعينتاب وملطية، ومعنى ذلك أنّ الطريق أضحى مفتوحاً الآن أمامه في مواجهة المماليك(٨). والواقع أنّ ضمَّ سليم الأول إمارة ذي القدر كان عملاً جريئاً، لأنّ المماليك كانوا يعدّون أنفسهم، منذ زمن بعيد، سادة للإمارة، ثم إنّ تعيين حاكم عثماني عليها يُعَدُّ عملاً معادياً، وكان سليم الأوّل يريد استدراج قانصوه الغوري للذهاب إلى شمال بلاد الشام لمراقبة الوضع هناك، ثم الانقضاض عليه فجأة.

 عدَّ قانصوه الغوري تصرّف سليم الأول هذا بمثابة إعلان للحرب، وقرّر أن يستعيد هيبته في المنطقة وأمر بالاستعداد للحرب. ويبدو أنّه كان يودّ أن لا تتطور العلاقات بينه وبين السلطان العثماني إلى حرب، ويعمل جاهداً على تفاديها، إذ إنّه أدرك الأحوال السيئة التي كانت تمرّ بها السلطنة المملوكية وسط اتّساع التعاطف مع العثمانيين، بفعل القوى المناهضة لها في مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، بالإضافة إلى مناهضة البرتغاليين لها في المياه الإسلامية وفي المحيط الهندي.

وانتقلت المشاعر المعادية للدولة إلى صفوف الجيش المملوكي، فانخفضت درجة الانضباط بشكل ملحوظ. وارتفعت أصوات الجند تطالب بالمال والمكافآت واللحوم، وأخذوا في التمرّد، وراحوا يعيثون فساداً في الشوارع العامّة.

 نتيجة لهذه العوامل، أيقن الغوري أنّه غير مستعد لخوض غمار حرب كبيرة ضد العثمانيين الأقوياء، وحاول تأخير اندلاعها بكل الوسائل، إلّا أن السلطان سليم الأول أصرّ على أن يكون السيف هو الحَكَم إنْ لم يعلن الغوري خضوعه له. وكان هذا هو ذروة الاستهانة به. وشعر سلطان مصر أن جيشه لا يستطيع وحده الصمود أمام الجيش العثماني الجيد التسليح والتجهيز، فسعى إلى التحالف مع الشاه اسماعيل الصّفوي ضد العدو المشترك، ولعلّ ما شجَّعه على سلوك هذا المسلك، أنّ الشاه كان مستعدّاً بعد تشالديران لمتابعة العمل ضد السّلطان سليم الأول.

 ولكن الكراهية التي كان يكنّها الشاه للغوري لم تكن تقلّ عن كراهيته للسلطان العثماني، بالإضافة إلى أنّه لم يفكر، بعد تشالديران، في خوض معركة مكشوفة مع العثمانيين، واكتفى بتثبيت حكمه في إيران والقيام ببعض المحاولات الارتدادية الضيقة. ولهذا، لم تُسفر محاولة الغوري التحالف مع الشاه إسماعيل عن نتيجة إيجابية بل انعكست سلباً على علاقاته مع العثمانيين، الذين رأَوْا في هذه المحاولة طعنة للدولة العثمانية من الخلف، وأضحت الحرب حتميّة بين الطرفين(٩).

 وعلى الرغم من ذلك، لم يفقد قانصوه الغوري الأمل بالمفاوضات السلمية، وعملت الدبلوماسية العثمانية على ترسيخ هذا الوهم في ذهنه، مستغلّة ذلك لإرباك العدو وإبقاء المبادرة في يد السلطان سليم الأول، الذي ظلّ، حتى اللحظة الأخيرة، يحتفظ بإمكان تحديد مكان وزمان المعركة. ولجأ كل طرف إلى تنفيذ الأساليب التي تضعف قوى الطرف الآخر، كالاتّهام بخيانة الجهاد ضدّ أوروبا، وكما اتّهم العثمانيون المماليك بخيانة العالم الإسلامي كذلك اتّهم المماليك السلطان سليم الأول، الذي لقبوه بـ «ملك الروم»، بالارتداد عن الدين الحنيف والسنّة. وكسب كلّ طرف أعواناً له من بين رجالات الطرف الآخر فتحوّلت اسطنبول والقاهرة إلى ملجأ سياسي لكلّ زعيم من غضب سلطانه. لكنّ إفادة السلطان سليم الأول من اللاجئين إليه من المماليك كانت أكثر من إفادة السلطان الغوري من اللاجئين إليه من العثمانيين، حيث إنّ التفكك الداخلي في الدولة المملوكيّة كان يعطي السلطان العثماني فُرَصاً أفضل للإفادة المثمرة، على عكس الجبهة الداخلية العثمانية الصلبة. واستطاع العثمانيون جذب بعض كبار رجال المماليك، أمثال يونس بك، والي عينتاب، وخَير بك نائب حلب، التي تُعَدُّ خط الدفاع الأول عن الشام ومصر، في حين لم يستفد الغوري من الذين لجأوا إليه من العثمانيين سوى إفادة معنوية، ما أدّى إلى استنزاف المقاومة المملوكيّة وفقدانها حيويتها(١٠).

 أزعج السلطان قانصوه الغوري ضمّ السلطان سليم الأول أراضي إمارة ذي القدر إلى أملاكه، فاضطرب الموقف السياسي، ولم يكن أحد يدري ما يدور في خلد السلطان العثماني. وما أن تأمَّنت جميع منافذ بلاد الجزيرة وشمالي العراق ومسالكهما، من خلال السيطرة العثمانية عليها، حتّى تحرك الجيش العثماني عبر الأناضول في (أوائل 922هـ/ ربيع 1516م) بقيادة السلطان، وتعداده ستون ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ويمَّم وجهه شطر بلاد الشام. ولما علم الغوري بأنباء التحرك العثماني، حرّك هو الآخر جيشه الذي خرج به من القاهرة، وقد بلغ تعداده ثمانين ألف جندي.وتبادل الرّجلان الرسائل في مرج دابق شمالي حلب، حيث عسكر جيشاهما، وبدا كأن هناك مشروعاً للتفاوض وحقن دماء المسلمين، وهو ما كان يريده الغوري على عكس سليم الأول الذي كان يضمر الدخول في معركة، بعد أن نجح باستدراج المماليك إلى ساحة القتال بأسلوب ذكي بارع، وأمَّن خطوط مواصلاته مع الأناضول عبر حلب، المدينة الاستراتيجية، لذلك فشلت المفاوضات وأهان كلّ منهما رسل الطرف الآخر، وأضحت الحرب وشيكة الوقوع. وعبّأ كلّ عاهل جيشه استعداداً للّقاء الحاسم، الذي بدأ في (25 رجب 922هـ/24 آب 1516م)، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة استمرّت أقل من ثماني ساعات، أسفرت عن انتصار واضح للعثمانيين، ولم يصمد المماليك أمام مدفعيّة هؤلاء المتفوقة. وانتحر السلطان الغوري أثناء انهزام الجيش، حيث تناول السّم عندما علم بنتيجة المعركة، ووقع عن حصانه بعد أن فقد وعيه ومات على الفور. ومما يجدر ذكره أن انسحاب كل من خير بك نائب حلب، وجان بردي الغزالي نائب حماة من جيش الغوري وانضمامهما إلى صفوف السلطان سليم الأول، كان من العوامل التي أثرت على نتيجة المعركة.

 استثمر السلطان سليم الأول انتصاره هذا وضمَّ حلب وحماة وحمص ودمشق، وكان السكان يُرحِّبون به ويحتفون بمقدمه بصورة لم يألفها أيّ سلطان عثماني من قبل. وعيَّن السلطان على هذه المدن ولاة من طرفه، واستقبل في دمشق وفوداً من العلماء فأحسن وفادتهم، وفرَّق الإنعامات، وأمر بترميم المسجد الأموي وقبريّ صلاح الدين الأيوبي والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كما شيَّد مسجداً باسمه، ولما صلّى الجمعة أضاف الخطيب، عندما دعا له، هذه العبارة «خادم الحرمين الشريفين». كانت بعض القوى المحلّية الحاكمة في بلاد الشام تقف موقف المتردِّد من هذه الحرب، لتتخذ، بعد انتهاء المعركة، الموقف الذي يتناسب مع مصالحها، مثل آل معن، لكن بعض القوى الأخرى، ومنهم آل بُحتر، فضّلوا الوقوف إلى جانب المماليك، وترتّب على مثل هذه المواقف أن ارتفعت مكانة آل معن وهبطت مكانة آل بحتر(١١).

فخر الدين الاول في حضرة السلطان سليم الاول في دمشق

 وبالفعل، فقد شكّلت معركة «مرج دابق» هذه، محطّة مفصليّة هامّة في تاريخ المنطقة، ومن بينها لبنان بالطبع. إذ كان الانتصار العثماني فيها هو بحدّ ذاته انتصاراً لحلفاء العثمانيين أيضاً، كما كانت هزيمة المماليك، هزيمة لحلفائهم أيضاً. وفي الوقت الذي وقف فيه التنوخيّون إلى جانب المماليك في هذه المعركة، بينما وقف المعنيّون في صفّ العثمانيين، فقد مثّل فوز العثمانييّن بدايةً لسطوع نجم بني معن والإمارة المعنيّة، على حساب التنوخييّن وإمارتهم التنوخيّة، التي أَفُل نجمها وزالت سيطرتها بعد نفوذ استمرّ حوالي ثمانية قرون كأوّل إمارة عربيّة إسلاميّة في الشرق دام حكمها 800 سنة.

 وعندما أنهى السلطان سليم الأوّل فتوحاته في بلاد الشام ودخل دمشق، ذهب إليها وفد يضم أمراء المناطق اللبنانيّة لتقديم الطاعة وإعلان الولاء للحاكم الجديد، وكان الوفد الكسرواني برئاسة عساف التركماني، ووفد الشوف برئاسة فخر الدين المعني الأول، وجمال الدين الأرسلاني. تقدم فخر الدين المعني الذي تكلم باسمهم، وقبل الأرض أمام السلطان العثماني ودعا له الدعاء التالي «اللّهم أَدِم دوامَ من اخترته لملكك، وجعلته خليفةَ عهدك، وسلطته على عبادك وأرضك، وقلدته سنَّتك وفرضك، ناصر الرّعية النيّرة الغراء، وقائد الأمة الطاهرة الظاهرة، سيّدنا ووليّ نعمتنا أمير المؤمنين، الإمام العادل، والذكي الفاضل، الذي بيده أزمة الأمر بادِشاة، أدام الله بقاءه، وفي العزّ الدائم أبقاه، وخلّد في الدنيا مجده ونعماه، ورفع إلى القيامة طالع سعده، وبلغه مأموله وقصده… أعاننا الله بالدعاء لدوام دولته بالسعد والتخليد بأنعم العزّ والتمهيد. آمين»(١٢). أعجب السلطان سليم بشخصية فخر الدين الأول

 الوقورة وبمظاهر إخلاصه وببلاغته. وأقرّه كما أقرّ رفاقه الأمراء اللبنانيين على إقطاعاتهم، وسمح لهم بممارسة امتيازات الحكم الذاتي الذي كانوا يتمتعون به في ظل حكم المماليك. كما جعل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني والياً على بلاد الغرب، والأمير عسّاف التركماني أميراً على بلاد كسروان وبلاد جبيل وأوصاهم خيراً بقومهم. ويقول محمّد كرد علي في هذا الإطار: «وقَدِمت إليه الناس من كلّ جانب إلّا الأمراء التنوخييّن القيسيين، فإنّهم لم يأتوا لأنّهم كانوا من حزب الدولة الشركسيّة»(١٣).

 وبالنّظر إلى ما كانت عليه المناطق اللبنانية في أيام العهد المملوكي من حكم إقطاعي بين الأمراء والمقدّمين والمشايخ وزعماء العائلات والولاة، فقد أبقى العثمانيون على هذا الحكم، حفاظاً على الأمن والنظام من جهة، وحتى لا يؤلّبوا اللبنانيين عليهم من جهة أخرى، معتمدين على شعار مركزي في تعاملهم مع سكان المناطق اللبنانية مفاده: «فرض الطاعة عليهم وجباية الميري منهم».

 وكان من الطبيعي أن يمنح العثمانيون حلفاءهم من أمراء لبنان حكماً ونفوذاً مميّزاً، كمكافأة لهم على مناصرتهم ضدّ خصومهم المماليك، في معركة تعتبر بمثابة «كسر عظم» بين الجانبين (هي معركة مرج دابق). وقد كان المعنيّون من أوائل الذين نالوا هذه المكافأة، وترأّسوا على غيرهم بموجب فرمانات سلطانية عليا. وقد جاء الاعتراف العثماني بزعامة الأمراء المعنيين وترئيسهم على سائر الأمراء اللبنانيين، و«بحق أبنائهم من بعدهم فيها بحيث تنتقل السلطة من أمير معني إلى أمير معني آخر دون أن يكون لغيرهم من الأمراء الوطنيين يد في الحكم الأعلى»(١٤).

 جاء ذلك، لإحداث الخصومات والانقسامات بين الأمراء اللبنانيين وبقاء النَّير العثماني فوق رقابهم مجتمعين، وهذا ما أدّى بالفعل فيما بعد إلى العداوة التي تأصّلت بين المعنيين من ناحية، وبين آل سيفا وآل فريخ من ناحية ثانية، وما نتج عنها لاحقاً من مآسٍ وكوارث بحق المعنيين وبلادهم خاصّة، وبحق اللبنانيين ككُل من ناحية ثانية… وصولاً إلى القضاء على الأمراء المعنييِّن، الواحد تلو الآخر، كمقدّمة للقضاء على إمارتهم وحكمهم كأسرة عام 1697، بعد أن مَدْمَكَتْ الأساس للكيان اللبناني الحديث، على ركائز وطنيّة

عروبيّة صحيحة، رغم كل الاتهامات والافتراءات الباطلة التي لا تطال إلّا الوطنيين المخلصين للمواطنين والوطن على السواء.

 بعد هذا العرض شبه التفصيلي عن معركة «مرج دابق»، يجدر بنا التطرّق إلى الأسباب الكامنة في هذا الانتصار العثماني على المماليك، والذي كانت بمثابة الضربة القاضية على هذه السلطنة التي حكمت قروناً عدّة، وبعض النتائج التي تمخّضت عنها. لذلك نستطيع تسجيل الملاحظات التالية:

  1. كانت الجيوش العثمانيّة جيّدة التسليح والتجهيز، وطبقّت الأساليب التكتيكية الحديثة.
  2. لجأت هذه الجيوش إلى تدعيم مواقعها بواسطة قلاع متحركة، تشكلت من عربات مربوطة بعضها بالبعض الآخر.
  3. وزّع السلطان سليم الأوّل قوّاته ومدفعيته بحيث تستطيع الاختباء خلف سلاسل من العربات المتصلة بعضها ببعض، وخلف حواجز من الأشجار والأخشاب.
  4. امتازت المعدات المقاوِمة للخيّالة، كالشوكات والخطّافات الحديدية المربوطة بالحبال، بأهمية كبيرة في المعركة، إذ كان الجنود العثمانيون يُطلقون هذه الأدوات على فرسان المماليك المدججين بالسلاح، فيسحبون فرسانهم من على ظهور الخيل ويقتلونهـم بالفأس أو بالسيف.
  5. كان العثمانيون يمتلكون أفضل مدفعية في العالم آنذاك، واستخدموا أحدث أنواع المدفعيّة النّحاسية المركبة على عجلات يجرّ الواحد منها زوج من الثيران، في حين لم يعرف الجيش المملوكي مثلها.
  6. على الرّغم من أنّ جنود الجيش العثماني كانوا ينتمون إلى قوميّات مختلفة وطوائف دينيّة متعددة، إلّا أن هذا الجيش عُرِف بانضباطيّته وتماسكه المعنوي على عكس الجيش المملوكي الذي تنازعه الإحجام.
  7. انسحاب بعض أمراء بلاد الشام من الجيش المملوكي وانضمامهم إلى الجيش العثماني عند بدء القتال، أمثال خَير بك نائب حلب وقائد الميسرة، وجان بردي الغزالي ما أثّر سلباً على قوّة ومعنويات السلطان الغوري.
  8. تراجع القاعدة الإسلاميّة للمماليك بفعل الانتفاضات الشعبيّة ضدّهم، في القرى والمدن الإسلاميّة (١٥).
  9. أفرزت هذه المعركة نهاية سلطنة وبداية حكم سلطنة أخرى على أنقاضها، دامت سلطتها نحو أربعة قرون حفلت بأحداث تاريخيّة مهمّة، وبمتغيّرات سياسيّة هامّة في تاريخ بلاد الشام ومصر والعراق والبلقان وأوروبا.
  10.  أدخلت هذه المعركة الرّعب في قلوب الأوروبيين، كما في قلوب الفرس.
  11. أزالت من الحكم في الإمارة اللبنانية إمارة تاريخيّة عريقة، هي الإمارة التنوخيّة التي حكمت نحو ثمانية قرون)، لتخلق على أثرها الإمارة المعنيّة (الحليفة للتنوخييّن تاريخياً ومن أنسبائهم)، دون أن تتخلّى عن مهمّة التنوخييّن الوطنيّة والعروبيّة والإسلاميّة، فكانت امتداداً لها واستمراراً كخير خلف لخير سلف…
  12. كرّست هذه المعركة السلطان سليم الأوّل «خليفة على المسلمين» و«حامي الحرمين الشريفين» والسلطان الأقوى في عصره. كما كانت المفتاح الذهبي الذي فتح به السلطان سليم بلاد الشام…

 على هذا الأساس، تُعتبر معركة «مرج دابق» التي جرت في شمالي حلب بين العثمانيين والمماليك في 24 آب 1516، نهاية عهد وبداية عهد جديد، تجاوزت في تأثيرها المنطقة الجغرافيّة التي وقعت فيها، إلى ما يتعدّى حدود السلطنتين معاً، بكل ما رافقها من تغيّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وديموغرافيّة وعسكريّة… فكانت بحقّ إحدى معارك التاريخ الكبرى في الشرق والغرب معاً، والانقلاب الكبير في التحالفات والولاءات المختلفة، كما بالصراعات والاصطفافات المضادة على مختلف الأصعدة… وهذا هو سرّ أهميّتها التي أخرجتها من الجغرافيا وأدخلتها التاريخ… بعد أن نقلت المرحلة من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، في نقلة نوعيّة مميّزة على جميع المستويات…

المراجع

  1. ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، القاهرة 1961-1962، المجلد الخامس، ص 364-365.
  2. نيقولاي إيفانوف «الفتح العثماني للأقطار العربية» (1516-1574)، نقله إلى العربية يوسف+ عطا الله، راجعه وقدّم له د. مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1988، ص 54.نيقولاي إيفانوف، المرجع السابق نفسه، ص 56، نقلاً عن: Demetrius Cantimir, «Histoire de l’Empire Ottoman où se voyant les causes de son agrandissement et de sa décadence», traduit en français par M. de Joncquières, Paris 1943, Tome2, p. 95.
  3. للتفصيل في ذلك، يستحسن العودة إلى:
  4. نيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 58-59، ود. جلال يحيى، «المدخل إلى تاريخ العالم العربي الحديث»، دار المعارف بمصر 1965، ص 25-27. ومحمّد كرد علي «خطط الشام». دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الثاني 1972، ص 205-206. ود. محمّد سهيل طقّوش «تاريخ العثمانيين»، دار النفائس، بيروت، ص 152-153.
  5. ابن إياس «بدائع الزهور في …»، مرجع سابق، المجلد الخامس، ص 361. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، دار النهضة العربية، بيروت 1973، ص 73-75. وأيضاً: محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 189. وسعيد أحمد برجاوي «الإمبراطورية العثمانية»، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1993، ص 91-93.
  6. إيفانوف، مرجع سابق، ص 60، نقلاً عن: بارتولد «الخليفة والسلطان»، موسكو 1966، ص 60.
  7. محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 191. وسيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت، الطبعة الأولى 1989، ص 356.
  8. راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
  9. راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
  10. – ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص73 و89-92. وأيضاً: سيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مرجع سابق، ص 338-342. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 166.
  11. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص60.
  12. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص69-71. ومحمّد فريد بك المحامي، مرجع سابق، ص 192-193. وعبد الكريم رافق، «العرب والعثمانيون»، ص 61. وسعيد أحمد برجاوي، الإمبراطوريّة العثمانيّة، مرجع سابق، ص 95-96. ود. طارق قاسم، تاريخ لبنان الحديث، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص 12-15.
  13. د. إميل توما، فلسطين في العهد العثماني، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان/الأردن، لا ت، ص 22. وسعيد أحمد برجاوي، ص 97. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 28.
  14. محمّد كرد علي، خطط الشام، الجزء الثاني، دار العلم للملايين، بيروت 1972، ص 213.
  15. فيليب حتّي، «لبنان في التاريخ»، دار الثقافة، بيروت 1978، ص 437-438. وأيضاً: عادل إسماعيل Adel Ismail, L’histoire du Liban», Tome 1, Paris 1955, p. 58-59.
  16. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، 67. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 169. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 11 و14.

تجربة محمّد علي باشا في لُبنان وسوريا

تميّزت الدّيموغرافية الاجتماعيّة – السكانيّة في بلدان المشرق العربي: العراق – سوريا – فلسطين – لبنان بالتنوّع الطائفي والقبلي والاثني والقومي. مع ما لهذا التنوع من صلة بالتحولات السياسية والاقتصادية، خاصّة بالحروب التي جرت وتجري ليس فقط بين أطراف النسيج المجتمعي المشرقي، أيضاً مع ما يحيط المنطقة من صراعات وحروب أدّت بنتائجها لهجرات واسعة من وإلى بلدان المنطقة.

وكان لمصر تجربتان قريبتان مؤثّرتان في الأوضاع السياسية والاجتماعية مع سكان المشرق، تمثلتا بتجربة محمّد علي باشا، 1805 – 1849 الذي امتد نفوذه إلى المشرق العربي ما بين عامي 1832 – 1840 – وتجربة جمال عبد الناصر 1952 – 1970 –
التي تميزت بما قام به من مقاربات للتعاون بين الدول العربية، ارتقت إلى وحدة مصر وسوريا – 1958 – 1961 – وإلى مشاريع اتّحادية مع العراق والسودان واليمن وليبيا وغيرها من أقطار عربية.

وسنحاول في هذه الدراسة مراجعة العلاقة التاريخية بين مصر وبلدان المشرق، انطلاقاً من تجربة محمّد علي ومؤثراتها التاريخية، فمصر التي كان عدد سكانها في بداية القرن التاسع عشر، أربعة ملايين نسمة، في حين بلغ عدد أفراد جيشها، أربعمائة ألف جندي. بينما كان عدد السكان الأقباط نحو المليون نسمة (الإحصاءات الفرنسية). وكان الأقباط هم الشريحة المتعلمة والتي تقلّصت نسبة الأمية بينهم إلى الحدود الدنيا.

أمّا سبب هذا التمايز التربوي بين الأقباط والمسلمين فناتج عن السياسات التي قامت بها الإرساليات الغربية على الصُّعد التربوية – التعليمية، تلك الإرساليات التي حصرت مهمتها بتعليم المسيحيين، حاملة فيما حملته ليس فقط مؤثرات عصر التنوير، حيث أجبرت الكنيسة مواطنيها سواء في مصر، أم في بلدان المشرق العربي على التعليم تحت طائلة المحاسبة القاسية، بل كان هدف الإرساليات أيضاً خلق مُناخات عند قوى اجتماعية معينة يراد تحضيرها كوسيط تجاري بين البلدان العربية والبلدان الغربية.

وفي عودة إلى ما قامت به الإرساليات فإنّ المشروع الناصري قام أيضاً بتجربة مماثلة ما بين عامي 952 – 1970 إذ طرح مشروعاً لمكافحة الأميّة، فكان للمساجد والكنائس والمدارس وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني دور في تنفيذ مضامين هذا المشروع الذي كانت نتائجه استفادة نحو خمسة ملايين مواطن مصري منه.

التنوع الطائفي والسياسات الاستعماريّة في المشرق العربي ١٨٠٥ – ١٨٤٠

أمّا الصورة التي كانت عليها الطوائف غير الإسلاميّة فتبدو كالتالي: بلغ عدد السكان في المشرق العربي من غير المسلمين – المليون ونصف المليون نسمة – كان هذا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. لكن هذه الطوائف لم تكن على وئام مع بعضها البعض، وهذا ما أدّى في فترة تاريخية معيّنة إلى انقسام الكنيسة إلى قسمين؛ الأوّل: يتبع الكنيسة اللاتينية الغربيّة. الثاني: يتبع الكنيسة اليونانية الشرقية، حيث قُسّمت الكنيسة الكاثوليكية إلى عدة كنائس، ولكلّ كنيسة توجهاتها الخاصة من حيث ارتباطها ليس فقط بالخلافة، بل أيضاً بالبابوية وبالرعايا التابعين لها.
لقد احتفظت الكنيسة اللاتينية في الشرق بوحدتها، كونها تمثل الإرث الباقي من التراث الثقافي للعالم القديم. لكنها كانت قد انفتحت على الثقافة الغربية خلال فترة حكم محمّد علي، فعمل قسم من نُخَبها بعد عودتهم إلى بلادهم في المؤسسات العامة، وقسم آخر تم تأهيله للتعامل التجاري مع الدول الأوروبية، كما أنّ نُخَباً متنوّعة كانت قد أخذت مواقع لها في المؤسسات التي أشرف عليها هو وولده إبراهيم سواءً في مصر أم في بلدان المشرق – الإدارية والمالية والخدماتية – خاصة وأن من يتم اختيارهم كانوا يتقنون ليس فقط اللغة العربية، وإنّما أيضاً اللغات الأجنبية (الإنجليزية – الفرنسية).

أمّا بشأن الكنيسة الشرقية التي قُسّمت إلى ست كنائس، فقد أُطلق عليها اسم الكنيسة الأرثوذكسية، بينما الكنائس الأخرى فقد انقسمت إلى نساطرة ويعاقبة، حيث أثّر الانشقاق الذي حصل في العام 1054 على هذه التقسيمات، بين الكنيسة الرومية والكنيسة القسطنطينية التي انفصل قسم من رعاياها تحت تأثير الحملات التبشيرية الغربية والمرسلين الأجانب، ليلتحقوا بالطوائف أو الأديان الأخرى. أمّا بالنسبة للموارنة في لبنان، الذين بلغ عددهم خلال فترة حكم محمّد علي، مائة وخمسون ألف نسمة، فقد تعاونوا مع محمّد علي، خلال وقبل سيطرته على بلدان المشرق العربي، وبقي هذا التعاون مستمراً حتى عام 1840.لقد كان وقع العلاقات الأرمينيّة مع محمّد علي، حين سيطر على مقاطعة كيليكيا إيجابياً، حيث تم التعاون بينهم وبين محمّد علي، وذلك بهدف السيطرة على كرسي القدس، لكنّ الأرمن كانوا يرغبون أيضًا بأن يشملهم نظام الامتيازات الذي تتمتع به الطوائف المسيحية الأخرى، ولكن خاب ظنُّهم.

أمّا عن وضعية الطائفة الإنجيلية التي كانت تعترض على سلطة البابا ولا تعترف بها، وهم ممّن لا يعترفون سوى بالإنجيل كمُرشد ودليل وحيد لهم، فلم يحظَوْا بالامتيازات، وبالتالي لم تتمَّ معاملتهم كما كانوا يرغبون من قبل الدول الراعية (راجع قاسم سمحات، محمّد علي والمشروع الفرنسي في بلاد الشام). هذه هي وضعية الطوائف المسيحية واتّجاهاتها والمتناقضات الموروثة بين بعضها البعض.

أمّا عن واقع اليهود، حيث بدأ الاهتمام بهم نتيجة قوّتهم الاقتصادية والمالية في البلدان الأوروبية. فقد كانوا قبل حملة نابليون بونابرت يعيشون مضطَهَدين
في الدول الأوروبية، وكان هناك تمييز صارخ بينهم وبين الطوائف المسيحيّة، إذ كان الموروث الشعبي المسيحي يتّهمهم بأنهم ساهموا (بصلب السيد المسيح).

لكن موقعهم المالي والاقتصادي كان سبباً من أهم أسباب إعادة الاعتبار وامُسَلّمات محمّد عليلتّعامل معهم بشكل مختلف، وكقوى محتملة يمكن استغلالها لتنفيذ المصالح الاستعماريّة في المنطقة العربية. هكذا بدأ نابليون يتصرّف مع قضية اليهود، ومن بعده الساسة الإنجليز. فنابليون كان قد وعد القادة الصهاينة حين حملته على مصر عام 1798، بتبنّي مطالبهم السياسية في فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ استمرّت الوعود الإنجليزيّة، والإنجليز هم الذين رأوا في المطالب الصهيونية فرصة لهم لاستعمار المنطقة، واستغلال خيراتها. أمّا الفرنسيّون فكانوا قد طوروا علاقاتهم مع الطائفة المارونية، هذه الطائفة التي انفتحت مبكّراً على الثقافة الغربية، وكان للإرساليات الفرنسية دورٌ مهمُّ في هذا الانفتاح.

لقد أصبح لبنان بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، ومن خلال علاقة الموارنة بفرنسا، مركزاً للتبشير الغربي، إذ سهّلت الامتيازات التي أُبرمت مع الدول الغربية، وأدت إلى علاقات مميّزة بين فرنسا والموارنة إلى تسلل النفوذ الفرنسي إلى البلاد التي تخضع للخلافة. إنّ نظام الامتيازات قد أعطى ذريعة للفرنسييّن والإنجليز وغيرهم للتدخّل في شؤون المنطقة، وذلك على حساب وحدة المجتمعات المُنضوية تحت علَم الخلافة. لقد أصبح الموارنة كما غيرهم من الطوائف المسيحية يخضعون للقوانين الأجنبيّة – الفرنسيّة، خاصة أن العلاقات بين فرنسا وهذه الطوائف كانت قد بدأت منذ الحروب الصليبية (1096) حيث كان هدف تلك الحملة كما قال البابا آنذاك، إقامة علاقات وطيدة بين مسيحيي الدول الأوروبية ومسيحيي الشرق. كان الهدف الأساسي وجود دائم من القواعد الطائفية التي يمكن تحريكها بوجه بعضها البعض.

لقد كانت مُجمل الطوائف تعيش فيما يشبه الغيتوهات من حيث انغلاقها على نفسها، ممّا أفقد كلّاً منها الشعور بالأمان، خاصة أن النظام المِلَلي العثماني كان يعزّز هذا الخوف، وممّا أعطى معنًى مضاعفاً لهذا الخوف نظام الامتيازات العثماني الذي أُعطي للدول الغربية، وساعد على خلق التباسات في هويّة هذه الشرائح الوطنيّة. إنّ السياسة الغربية كانت تعزز الخلافات بين الطوائف – فرِّق تَسد – خاصة أنّ سكان بلاد الشام الذين يتجاوز عددهم المليون والنّصف، كان ربعهم من الأقليات غير الإسلامية، كان الوالي العثماني يعمل على تحريك هذه الطائفة ضدّ تلك، وقد ازدادت هذه الحساسيّة بعد حصول الدول الغربية على الامتيازات.

الإنجليز والمشروع الصهيوني في فلسطين

 في الشرق فشلت حملة نابليون، فأخذ الإنجليز يعملون لتحقيق ما بدأ به نابليون، وهم الآباء الحقيقيون للمشروع الصهيوني في فلسطين. فبريطانيا كانت بحاجة لتوظيف الرأسمال الصهيوني المتنامي في مشاريعها السياسيّة والاقتصادية. ولهذا فقد وجدوا فيما يسعَوْن إليه من أنّ الرأسماليين اليهود هم الطبقة الأكثر نشاطاً في المجالات التجارية والمالية الغربية وغير الغربية. لذا عملوا على توظيف الرأسمال اليهودي في استغلال اقتصاديات أسواق الشرق، فالرأسمال اليهودي كان يملك مؤسسات مصرفية كبيرة خاصة في ألمانيا، وبالأخص في البورصة في برلين، إذ نرى أنّ خمسة من أصل تسعة أفراد هم من الرأسماليين اليهود ممّن كانوا يوقعون على جدول الأسعار في البورصة الألمانية. لهذا سعى البعض من المتموّلين الصهاينة لتوظيف الرأسمال اليهودي في المشاريع السياسيّة، ليس فقط في الغرب وإنّما أيضاً في الشرق. لذا عمل الانجليز لتوظيف هذه الإمكانيات في فلسطين، حيث بدأ اليهود المضطهَدون يهاجرون من أوروبا إلى فلسطين.

 إنَّ هذه التوجهات التي بدأ يعمل لتحقيقها الصهاينة، كانت من بنات أفكار الساسة الإنجليز الذين رسموا معالم المشروع الصهيوني، وعملوا على تنفيذه خطوة خطوة. إنّ رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون، والذي كانت تربطه صداقة متينة ليس فقط باللورد الصهيوني (أشلي) صاحب النفوذ في جمعية يهود لندن، بل أيضاً بغيره من الرأسماليين اليهود، وهم كُثُر ممّن لهم نفوذ في البلاط الملكي في بريطانيا. وقد عمل هؤلاء وغيرهم على تبنّي المشروع الصهيوني والسير بتنفيذه حتى يتحقّق. لذا كان المخطّط يقتضي بأن تحتلّ إنجلترا سوريا. ضماناً لتحقيق المشروع الصهيوني. وتمهيداً لاستعمار فلسطين وتحقيق إنشاء الكيان الصهيوني. وكانت البدايات بأن قام الإنجليز بدفع الجماعات اليهوديّة المضطهَدة في أوروبا لتعود إلى (بلادها القديمة) كما جاء في التوراه. وكما كان يروّج لذلك الإنجليز، ولتحقيق هذا الهدف، قابل بعض الساسة والمتموّلين من الصهاينة محمّد علي وابنه إبراهيم، وعرضوا عليهما إمكانية استثمار أراضٍ في الجليل قُدِّرَت مساحتها بمائتي قرية، لمدّة خمسين عاماً، على أن يتّخذ الباشا قراراً بإعفاء سكّانها من الضرائب. وطلبوا منهما الموافقة على استقدام خبراء زراعيين لتدريب الفلاحين على الطرق الحديثة في استغلال الأرض. وكانت هذه البداية العمليّة لتحقيق المشروع الصهيوني، التي تكتّلت وراءه المصالح الغربية.

 جاءت موافقة محمّد علي، مقابل تعهُّد من الرأسماليين اليهود بمضاعفة الرأسمال اليهودي في المناطق التي تقع تحت إدارة السلطة المصريّة. لقد تعهد الرأسماليون الصهاينة بإقامة العديد من المشاريع ومنها إنشاء البنوك في المدن المصرية والسورية والفلسطينية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. وما حصل من أنّ الرأسمالييّن الصهاينة، كان دورهم ينحصر في المجالات التجاريّة، حيث سيطروا على جزء مُهمّ من اقتصاديّات بلدان المشرق العربي. كان ذلك بمساعدة الإنجليز. لقد كان بالمرستون الراعي الأول للمشروع الصهيوني، هذا المشروع بدأ يدفع اليهود الأوروبيين كذلك القاطنين في المناطق المختلفة من الدولة العثمانية بالهجرة إلى فلسطين. وهذه الدعوة كانت المُقدَّمة الأولى للاستيطان في فلسطين. لقد أصبح اليهود تحت الحماية الإنجليزية، على غرار ما بدأه الفرنسيّون من حماية للرعايا الكاثوليك. وبهذا التوجّه يكون الإنجليز قد قدموا خدمة لدولتهم أوّلاً، وليس لليهود الذين تم دفعهم للهجرة من الدول الأوروبية والاستيطان في فلسطين. لقد تقاطعت مصالح الخلافة العثمانية مع مصالح الإنجليز في خلق حاجز قوي أمام مطامع محمّد علي في السيطرة على البلاد السورية. فالإنجليز، وعلى لسان بالمرستون اعتبروا أنّ الكيان الصهيوني في فلسطين يُعتبر ذا وظيفة حيوية كونه سيستخدم لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي وبالتالي عن مصر، إضافة لكونه يُستخدم لإقامة منطقة عازلة، ممّا سيؤمّن للإنجليز طرق التجارة إلى الهند.

 إنّ توسع محمّد علي في بلدان المشرق العربي – كما يشير إلى ذلك جورج أنطونيوس في كتابه يقظة العرب – وامتداده إلى الجزيرة العربية والبحر الأحمر، ومن ثمّ إلى بلاد الشام – قد أكسبه السيطرة على المناطق الواقعة على طريق من أخطر الطرق التجارية في العالم. لذلك كان هدف المشروع الإنجليزي إحداث بلبلة داخل المؤسسات التابعة للحكم المصري في بلاد الشام وبالتالي إفشاله، كما اعتُبر المشروع الانجليزي خطوة تهدف لإضعاف السيطرة والدور الفرنسي في سوريا.

محمّد علي يمد نفوذه إلى بلدان المشرق

يرى المتابع لتاريخ العلاقات المصرية مع بلدان المشرق العربي – فلسطين – سوريا – لبنان – العراق – العلاقات المميّزة والراسخة، خاصة بين لبنان ومصر أي بين محمّد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. نتابع ذلك ليس فقط من خلال العدد الضخم من أصحاب الكفاءات من اللبنانييّن الذين احتضنتهم مصر، أي بين محمّد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. ففي عصر محمّد علي 1805 – 1849 لم يقتصر الأمر على تحالف عسكري استمرّ طوال فترة حكم الباشا والأمير بشير الشهابي، بل تجاوز ذلك ليستعين محمّد علي بالكفاءات الزراعية والطبّية والإدارية، كذلك ممّن لهم خبرة في الطباعة، أيضاً في الإدارة خاصة في الشؤون المالية وغير ذلك. وفي هذا الشأن هاجر إلى مصر من اللّبنانيين الآلاف من الكفاءات المهنيّة، والذين برز منهم العديد ممّن ساهموا في تأسيس المسرح والسينما والصحافة في مصر. كذلك كان للبنانييّن دور فعال في النهضة الثقافية والعلمية والزراعية التي عرفتها مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، تلك الفترة التي برزت فيها المخططات الأجنبية الآيلة لاحتلال المنطقة وتقسيمها ما بين الثنائي المُستعمر الإنجليزي والفرنسي، أمّا في العهد الناصري فقد قام لبنان بدور إعلامي وثقافي وتربوي قومي عربي فعال، وُظِّف لخدمة المشروع الناصري..

ثورة الدروز على ابراهيم باشا

 لكن سقطة مشروع محمّد علي إنّما كانت عجز ابنه، وقائد جيوشه ابراهيم باشا، عن فَهم الخصوصيّات المحلّية لمجتمعات المشرق العربي. فهي وبخلاف مصر كانت أكثر تنوُّعاً وتتضمّن تاريخاً من «الحكم الذاتي» الذي كان مُكرَّساً على نحو رسمي من السلطنة العثمانية. وكان اصطدامه بالجماعة الدرزية في لبنان وسوريا على وجه التحديد أحد نتائج عجزه عن فَهم تاريخ المشرق. فالجماعة تلك، وبفعل ما أسدته قديماً من خدمات قتاليّة للدولة الإسلامية عموماً، وبخاصة في معاركها مع الغزوات الفرنجية، حيث أبلى أمراء تلك الجماعة (الدروز) بلاء شديداً في مواجهة الغزوات الصليبية، ومنها محاولتهم إيقاف إحدى الحملات الصليبية شمال بيروت على ضفة نهر عاد وأُسمي «نهر الموت» بسبب من العدد الضخم من الشهداء الذي قدمته الجماعة تلك على ضفة النهر ذاك (ويقال أنّه سقط لهم أكثر من ثلاثين أميراً عدا العدد الكبير من الخيّالة والمشاة). ثم كانت حملتهم الموفّقة انطلاقاً من قاعدتهم في الجبال اللبنانية المطلة على الساحل لتحرير بيروت من الحكم الإفرنجي وكادت تنجح لولا النجدات التي أرسلت لحاكم بيروت الإفرنجي. فكانت معارك بينهما أهمها «عين التينة»، حيث قُتل فيها أميرهم الذي كان على رأس القوة المهاجمة، انكفأوا بعدها إلى قواعدهم في الجبال. وكان عليهم انتظار قدوم صلاح الدين الأيوبي ليحرروا بيروت معه أوّلاً، جنباً إلى جنب، بل أصرّ صلاح الدين أن يصطحب أميرهم إلى جانبه في تحريره لبيت المقدس.

 كان للمجابهات الدرزية التي بدأت في لبنان، ومن ثم امتدّت إلى السويداء في سوريا، دور أساسيّ في إضعاف شوكة إبراهيم باشا. تلك المجابهات التي تحوّلت في سوريا إلى ثورة دفع ثمنها الجيش المصري أعداداً كثيرة من الضحايا والذين قدروا بالآلاف؛ نتيجة لجهل محمّد علي وعدم استيعابه للخصوصيّات السياسية والاجتماعية والطائفية التي تتشكل منها التركيبات الأثنية والطائفية المتنوعة في المشرق، خاصة تلك العلاقة المعقّدة التي بُنيت على أساسها دولة لبنان، وبالأخص علاقة دروز لبنان بمواطنيهم اللبنانييِّن من الموارنة. لقد تسرّع محمّد علي حينما ألغى الامتيازات التاريخيّة التي كان يتمتع بها دروز لبنان، تلك الامتيازات التي دفع الدروز وغيرهم ثمناً غالياً

لتحقيقها عبر قرون منذ مشاركة أسلافهم في الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام، وأدّت إلى عدم شمولهم بنظام السخرة، كذلك عدم إلحاقهم بالتجنيد الإجباري، إضافة لعدم التعرّض لحملة السلاح منهم.

 لقد حافظ الدروز وغيرهم من مكوّنات مجتمعية على هذه الامتيازات من الخلافة العثمانية، بعد أن دفعوا ثمناً غالياً لها. فمعظم الشرائح الاجتماعية متّحدة بالأرض وبالمكان، ودون الأرض لا حياة لهم، ودون المكان هم ضعفاء. فبينهم وبين المكان الذي يعيشون فيه وحدة عضويّة، هم بمعظمهم فلاحون يقدّسون الأرض التي يعتبرونها أمّاً وأباً لهم. المناطق التي يعيشون فيها يمكن القول إنَّها مناطق جبليَّة وعرة. لذا، فهم دوماً وأبداً في مواجهة المجهول. هذا الوضع هو الذي أعطى معنى لثقافتهم حيث يقدّسون الحرية. فضلاً عن ذلك فهم من الطوائف المتمسّكة بتقاليد توارثوها أباً عن جدٍّ، وقد تكون عزلتهم في الأمكنة التي عاشوا فيها، هي التي أعطت معنًى للتمسُّك بسلاحهم، فسلاحهم هو الوجه الآخر لحريتهم، أمّا مفهومهم للكرامة فيرتبط ليس فقط بكونهم (أقلّيات) مُتجذّرة بالأرض، وبالتالي فإنّ حمل الدروز للسلاح يهدف لتأكيد هذه الخصوصية. لذا لم يكن الدروز فقط يرفضون التجنيد الإجباري والسخرة معاً بل أيضاً المسيحيّون وغيرهم من المسلمين، وما بين هذا وذاك فإنَّ الدوافع المُضافة بالنسبة للدروز تمثَّلت بتقاربهم المتأخّر نسبيّاً مع الإنجليز في مواجهة ما كانت عليه علاقة الموارنة بالفرنسيين، وعلاقة السنّة بالخلافة العثمانيّة، وعلى رأس هذه العوامل المضافة بين الدروز والموارنة، العلاقة المتوترة مع جيرانهم من المسيحيين، تلك الناجمة عن مقتل بشير جنبلاط، وهذا ما عبّر عنه بوضوح كمال جنبلاط في مذكراته التي تُرجمت إلى العربية ونشرت مباشرة بعد اغتياله عام 1977.

 ولا عجب فالدروز إضافة لما ذُكر، مثلهم مثل الشيعة كان القسم الأكبر منهم قد نزح من مصر إلى لبنان بعد انهيار دولة الفاطميين في نهاية القرن الحادي عشر. لذا، فقد تكون التحالفات التي قام بها محمّد علي مع بشير الشهابي، عنواناً من العناوين التي ساهمت في خلق المُناخات لنموّ وبروز التوتّرات والصراعات بين الدروز والموارنة والتي تكثّفت وأدت إلى إعدام بشير جنبلاط عام 1825، إلّا أن تلك الصراعات تقلّصت بحيث أدّت إلى تشكيل جبهة لبنانية ليس فقط ضد النفوذ المصري والتي أدت إلى انسحابه من لبنان ومن المواطن العربية الأخرى في سوريا وفلسطين عام 1840، بل أدّت إلى ما يفتخر به الطّرفان، الماروني – الدرزي اليوم ويتباهى به كل منهما، حيث توحّدوا مع مكوّنات مجتمعية أخرى ضد الوجود المصري، وأعلنوا عن ذلك في اجتماع جمعهم في أنطلياس وأطلقوا عليه عامّية أنطلياس، هذه العاميّة التي وُظَّفت مطالب المشاركين فيها وإن بشكل غير مباشر لصالح الخلافة العثمانية، وبشكل غير مباشر فَتَحت تلك الانتفاضة الأبواب واسعة للنفوذ الاستعماري الإنجليزي – الفرنسي
في المنطقة.

رسم لإبراهيم باشا

عودة إلى محمّد علي ومخطّطاته العسكريّة تجاه المشرق العربي

يلاحظ المؤرّخ للفترة الممتدّة من 1805 إلى 1827، من أنّ محمّد علي قد خطا خلالها خطوات مهمة، ليس فقط في إنشاء مؤسسات الدولة المصرية، بل الملفت تحديثه للقوانين وصولاً لتحقيق خطوة مهمّة باتجاه تبنيه للأنظمة والقوانين المعاصرة والنقيضة لنظام الخلافة شبه الإقطاعي، نظام تسود فيه الكثير من ثقافة عصر التنوير، خاصة قيم المواطنة والمساواة. ونلاحظ ونحن نستعرض الأوضاع التاريخية التي مرّت بها المنطقة، المؤثرات السلبية للخلافة العثمانية تجاه كل ما كان يخطّط له محمّد علي ويتّخذه من قرارات. لقد حملت مؤثّرات العصر السياسية والثقافية والاجتماعية، آراء متناقضة ومتباينة بين مشروعين للسياسة المصرية، هما مشروع محمّد علي الذي رسم فيه موقعاً لمصر الممتدة إلى محيطها وعمل من أجل تحقيق ذلك على التكيف مع السياسة الدولية، إذ إنّ جلّ ما كان يطمح إليه الباشا هو تأكيد زعامته لمصر وبسط نفوذه على الولايات العربية الشرقية سوريا – العراق – فلسطين – لبنان، وهذا ما تحقق له، في حين كان مشروع إبراهيم باشا مختلفاً، إذ رأى أنَّ الظروف السياسية والاجتماعية في الولايات المشرقية لا يمكن أن تسري عليها القوانين والتشريعات الضرائبيّة المعمول بها في مصر، أيضاً كان يرى أنّ على مصر أن تعمل لتحقيق حالة انفصال عن الخلافة العثمانية، وهذا ما قام بتنفيذه على الأرض بعد عام 1833، حيث حاصر الأستانة واحتل كل المدن والمناطق المحيطة بها، تمهيداً لاحتلال عاصمة الخلافة، ولكن كانت مراسلات إبراهيم إلى والده، تطالب بإسقاط الخلافة وتشريعاتها وقوانينها الإقطاعية، في حين أنّ محمّد علي كان يرفض ذلك، وهذا ما أدى إلى وصول مصر إلى العزلة التي عرفتها بعد عام 1841. لقد كان إبراهيم مُجبراً على احترام وتنفيذ كلّ القرارات التي تأتيه من والده في مصر، وإن لم يكن مقتنعاً بالكثير منها، كما أنّ محمّد علي كان يريد فرض التشريعات والقوانين العثمانية السارية في مصر على البلدان المشرقية، ومنها السُّخرة والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة على الفلاحين وغيرهم من شرائح المجتمع.

إبراهيم باشا يصطدم بالإرث العثماني – الاستعماري

لقد كانت الولايات العربية المشرقية قبل دخول القوات العسكرية المصرية إليها مقسّمة إلى أربع مقاطعات، وهي حلب ودمشق وعكّا وطرابلس، فالعثمانيون كانوا يعتبرون عكّا هي المدينة الأهم، وذلك لموقعها الجغرافي البحري، ولوجود حاكم موثوق وقوي تابع لهم، في حين كان محمّد علي يرى أنّ السيطرة على عكّا تفتح الطريق له للوصول إلى كلّ المناطق السورية – اللبنانية، وهذا ما كانت ترفضه الخلافة. لقد كانت عكّا وحاكمها حاجزًا بين محمّد علي وطموحاته. لكن تلك المنطقة كانت قد خضعت لحكم الباشا منذ العام، 1833، إضافة إلى نابلس وطرابلس والقدس وجبل لبنان والمدن السورية المتعدّدة، تلك المناطق التي كانت تخضع للخلافة والتي أصبحت فيما بعد تخضع لمحمّد علي، إذ إنه قبل السيطرة المصريّة على فلسطين كانت الخلافة قد أصدرت فرماناً بتنحية عبد الله باشا والي عكّا والأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وذلك لوجود مقاربات وتعاون بينهما وبين حاكم مصر محمّد علي. إنّ هذا القرار هو ما دفع كِليهما إلى اللجوء إلى مصر عام 1822، والطلب من محمّد علي التوسط مع الباب العالي لإعادتهما إلى منصبيهما، وبموجب هذه الوساطة أصدر الباب العالي فرماناً بإعادتهما إلى منصبيهما. وبهذا فقد توطّدت العلاقة بينهما وبين الحكم المصري، خاصة بين حاكم مصر والأمير بشير الشهابي بحيث أصبح الشهابي طوع بنان محمّد علي. لكن الباب العالي الذي لم يَرُقهُ ذلك، كان يعمل في السر على إثارة المشاكل ليس فقط في وجه طموحات محمّد علي الذي كان يرغب في مدّ نفوذه للولايات العربية في المشرق، بل أيضاً في وجه بشير الشهابي. لذا، فقد توحَّدت السياسة العثمانية مع بشير جنبلاط ومع الأرسلانيين – الموحِّدين، أيضًا مع عبد الله
باشا والي عكا الذي تنكّر بعد ذلك لمحمّد علي، وقام بمواجهته حين تقدّم بجيشه للسيطرة على فلسطين وسوريا.

بدأت الخلافة تخطط لإضعاف الأمير بشير الشهابي السنّي المتنصّر على المذهب الماروني بسبب الخيوط التي نسجها مع القوى الغربيّة، ممّا أدّى إلى صراعات سياسية بين الدروز والموارنة. ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى صراعات عسكرية أدت إلى إعدام بشير جنبلاط على يد عبد الله باشا والي عكا. وبمقتل بشير جنبلاط كان قد أصبح بشير الشهابي الحاكم المُطلق على جبل لبنان، والركيزة الأساسية التي سيعتمد عليها محمّد علي خلال سيطرته على بلدان المشرق العربي. ولم يقف الأمر عند مقتل بشير جنبلاط، بل إنّ هذا الحادث كان قد فتح أبوابًا واسعة لصراعات مفتوحة بين الطوائف المختلفة خاصة بين الدروز والمسيحيين.

أسوار عكّا القديمة – فلسطين

مُسَلّمات محمّد علي

 لقد أدرك محمّد علي أنّ حماية سلطته في مصر، لا يمكن أن تتحقّق إلّا بضم سوريا إلى مصر، فإذا نظرنا إلى المُجريات التاريخية لأمكننا أن نرى أن ضم الفاطمييّن بلاد الشام لدولتهم في مصر، وكذلك الحملة الفرنسية على مصر، إضافة إلى سائر الغزوات كانت تأتي عن طريق العراق وسوريا، كغزو الفرس في عهد قمبيز، وغزو الاسكندر، والفتح الإسلامي في نهاية الثلث الأوّل من القرن السابع الميلادي، وغزو الأيوبيين والأتراك، جميعها كانت تأتي من خلال دمشق. لذلك لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلّة إلا بمد نفوذها إلى الأراضي السورية.

 إنّ حدود مصر لا تبدأ من السويس، بل تبدأ من طوروس، كما كان لمحمد علي دوافع اقتصادية وسياسية أُخرى خاصة حاجته للمواد الأوّلية التي ستكون عوناً للباشا لتطوير مشروعه الاقتصادي، أضف إلى حاجته لتجنيد السكان في الجيش، سواءً إجباريّاً أم بالسّخرة، وذلك لفرض النظام والأمن داخل البلاد المصريّة وغيرها من المناطق التي امتدّ نفوذها إليها. هكذا بدأت أحلام محمّد علي تتحقّق.

 لقد استفاد محمّد علي من اضطراب الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في الولايات العربيّة المشرقية – سوريا، فلسطين، لبنان، فاتّصل بحلفائه المُفتَرضين الأمير بشير الشهابي ومصطفى بَربَر آغا الذي أقدم على تحريك الوضع في طرابلس، طارداً الحاكم العثماني، مُعلناً الولاء لمحمد علي.

جزء من بحث طويل

المراجع

  1. أحمد بهاء الدين شعبان: صراع الطبقات في مصر، مقدمات ثورة 25 يناير 2011، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012.
  2. أحمد صادق سعد: تاريخ العرب الاجتماعي، تحول التكوين المصري من النمط الآسيوي إلى النمط الرأسمالي، دار الحداثة، بيروت 1981.
  3. أدوار جوان، راجع بتصرف مصر في القرن التاسع عشر – سيرة جامعة – تعريب – محمّد مسعود – ط1 – القاهرة 1921.
  4. ألبرت حوراني: تاريخ الشعوب العربية، ت. نبيل صلاح الدين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997.
  5. أمين هويدي: مع عبد الناصر، دار الوحدة، بيروت 1984.
  6. الانتفاضة الطلابية في مصر، سلسلة وثائق، دار ابن خلدون، يناير 1972.
  7. أنطوان خليل ضومط: الدولة المملوكية، التاريخ السياسي والاقتصادي والعسكري، دار الحداثة 1982.
  8. إيريك رولو جاك فرنسيس هيلد، جان ريمون لاكوتير، إسرائيل والعرب الجولة الثالثة، ت. لجنة، الدار التونسية للنشر 1968، تونس.
  9. بابر يوهانزن، محمّد حسين هيكل: أوروبا والشرق من منظور واحد، من الليبراليين المصريين، ت. د. خليل الشيخ، كلمة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ط1 2010.
  10. بازيلي: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي، ت. يسر جابر، مراجعة منذر جابر، دار الحداثة، بيروت 1988.
  11. برنابي روجرسون: ورثة محمّد، ت. د. عبد الرحمن الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، القاهرة.
  12. بولس قرألي: السوريون في مصر، ج1، بيت شباب 1933.
  13. بيير ديستريا: من السويس إلى العقبة، ت. يوسف مزاحم، لا ناشر، صدر 1974.
  14. ثورة 23 يوليو: الأحداث، الأهداف، الإنجازات، صفحات متعددة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964.
  15. جابر عصفور، زمن جميل مضى، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2010.
  16. جاك بيرك: مصر الأمبريالية والثورة، ت. يونس شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1981.
  17. جمال عبد الناصر: الميثاق، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1962.
  18. جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، القاهرة، لا تاريخ.
  19. حسر اللثام عن نكبات الشام، ط 1، مصر، 1895.
  20. حلمي النمنم: سيد قطب وثورة يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2010.
  21. حلمي النمنم: سيد قطب سيرة التحولات، الكرمة للنشر، القاهرة، 2014.
  22. رافق عبد الكريم: بلاد مصر والشام من الفتح العثماني إلى حملة نابليون، دمشق 1968.
  23. رأي المؤتمر الوطني في الأحلاف، 1955، لا دار نشر، بيروت.
  24. رؤوف عباس: ثورة يوليو، إيجابياتها وسلبياتها بعد نصف قرن، كتاب الهلال، يوليو 2013.
  25. سعد الدين إبراهيم: في سوسيولوجيا الصراع العربي – الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت 1973.
  26. سليمان أبو عز الدين: إبراهيم باشا في سوريا، دار الشروق، القاهرة 2009.
  27. سليمان البستاني: عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده، تحقيق ودراسة خالد زيادة، دار الطليعة، بيروت 1978.
  28. عادل حسين: الانهيار بعد عبد الناصر… لماذ؟، دار المشعل العربي 1985.
  29. عبد الرازق عيسى: وثائق أساسية من تاريخ الشام في ظل حكم محمد علي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2012.
  30. عبد الرحمن الرافعي: الزعيم الثائر أحمد عرابي، دار الشعب، القاهرة 1968.
  31. عبد الرحمن عبد الرحيم: محمّد علي وشبه الجزيرة العربية، دار الكتاب الجامعي، القاهرة 1986.
  32. عبد العال الباقوري: بوابة مصر الشرقية مصر وفلسطين عبر التاريخ، الثقافة العربية، القاهرة 1978.
  33. عبد الله إمام: حكايات عن عبد الناصر، دار الوطن العربي، دون تاريخ نشر.
  34. عبد الله امام: الناصرية، دراسة بالوثائق في الفكر الناصري، منشورات الوطن العربي، بيروت، لا تاريخ إصدار.
  35. عدنان السيد حسين: العامل القومي في السياسة المصرية، دار الوحدة، بيروت 1987.
  36. العروبة والقرن الحادي والعشرون: مجموعة، راجع دراسة سمير مرقص، وبرهان غليون ومشير عون وسيد يسين ورضوان السيد ومحمود حداد وحسن منيمنة وعبد الرؤوف سنو وغسان العزي وسعيد بن سعيد العلوي، منشورات تيار المستقبل، بيروت 2009.
  37. عفيف فراج، في السياسة والأدب السياسي، دار الآداب، بيروت، 2008.
  38. علي بركات: تطوير الملكية الزراعية في مصر، 1813 – 1914، القاهرة 1970.
  39. عمر الليثي: اللحظات الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر، كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، القاهرة 2009.
  40. عمر لطفي بك: الامتيازات الأجنبية، مطبعة الشعب، القاهرة 1322 هـ.
  41. فرحان صالح: الحرب الأهلية اللبنانية وأزمة الثورة العربية، دار الكاتب، بيروت 1979.
  42. فرحان صالح: حول تجربة الإخوان المسلمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015.
  43. قاسم سمحات: محمّد علي باشا والمشروع الفرنسي في بلاد الشام، دار المواسم، بيروت 2016.
  44. قيس جواد العزاوي: الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، دار آفاق، القاهرة 2014.
  45. كامل إسماعيل الشريف: الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، دون تاريخ، دون دار نشر.
  46. كلمة صريحة، ج10، صدر عن إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، القاهرة 1956.
  47. لقد سعى عبد الناصر، كما يذكر سمير مرقص، إلى العمل من أجل تحقيق المواطنة في بعدها الاجتماعي، تلك التي كانت على حساب السياسي والحداثي. لقد حققت ثورة يوليو في المجال الاجتماعي الإصلاح الزراعي وحققت التأميم، كما أنجزت المسألة الوطنية، محررة مصر من النفوذ الإنكليزي، لقد أتاحت الثورة الفرصة المتساوية أمام الجميع في التعليم، مما مكن الشعب المصري من الترقي. إن ما قامت به ثورة يوليو – عبد الناصر – كان من نتيجته تغيير جذري في البنية الاقتصادية الاجتماعية في مصر.
  48. مارلين نصر: الشعور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر، 1945 – 1970، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت 1990.
  49. مجلة الهلال: إبراهيم باشا، جزء خاص، دراسة محمّد عودة، رؤوف عباس، عاصم الدسوقي، يونان نجيب رزق، ديسمبر 2004.
  50. محمّد حسن: مصر في المشروع الإسرائيلي للسلام، دار الكلمة للنشر، بيروت 1980.

Economic and Social Council in Lebanon

Prelude:

In 1993, the government introduced and applied its economic policy aiming at linking two major goals: the first is to maintain and stabilize the macroeconomic situation, while the second is to initiate a reconstruction plan for the country which considers the demanded funds that exceeded the accessible available financial resources being available during that period. Policymakers were capable to partially achieve its attained objectives. However, the adoption of such policy for the following two decades of the reconstruction boom that the country witnessed during the post Taef Agreement has caused serious concerns in terms of real economy, and increased the fragility within the macro-economy, with these factors reflecting a serious threat to the economic balance, while not ignoring its initial unstable condition.

A shift towards a new economic policy that differs from the strategy prevailing for more than two decades is becoming more than a need, to undermine the fragile balance at the macroeconomic level and to improve the ascending –but simultaneously fair- distribution of wealth and income which guarantees economic justice. Currently, adopting such a policy is a necessity to achieve growth, under the condition if the policy is based on applying comprehensive economic stability and social welfare, and efficient consumption of natural resources.

The Economic and Social Council is involved at present in a major role to assist the government in formulating a socio-economic and environmental framework, which will, in turn, ensure the economic growth and sustainable development measures


Lebanese Economy: A Historical Overview:

During the three-decade period before the civil war, the country witnessed a booming economy resulting initially from attracting maritime activities and related activities, and later on attracting capital resources seeking investment stability and security. The proportion of exported goods with respect to that of the imported reached 72 percent, according to the World Bank figures in dating back to 1973. The monetary policy included two measures: depositing substantial gold assets to cover the monetary base, and accumulating gold reserves to enhance confidence in the emerging currency after separation from Syria. The combined effect of these two measures led to an increase in financial flows to the newly independent state.

In the mid-1950s, several services sectors were active, mainly financial services and tourism, and transportation including its three pillars: maritime, air, and land. The development of these sectors was integrated with the inflow of foreign capital besides the simultaneous role of the political authorities that accompanied these sectors’ activities through introducing the banking secrecy law and allocating credit facilities and investments for services companies. Establishments like ‘Middle East Airlines’ and ‘Casino Du Liban’ exhibit finest examples for institutions initiated during that period.

Lots of critics highlighted the observed prosperity within the macro-economy and discussed the importance of such economic policy which developed the role of Lebanese economy compared to those of regional countries. Majority of opinions and analyses during that period linked such advancement exclusively to the services sectors. It was considered that any investment opportunities to grow the status of the real sectors -precisely agriculture and manufacturing- should be limited to the specific sectors’ initiatives and its related resources, not to mention the absence of any policy that benefits productive sectors as is the case of services.

Regardless of the growth observed within economic indicators, the economic model at that stage indicates a structural discrepancy with a clear bias towards services sectors while utterly ignoring productive sectors. This approach has also led to unbalanced development and financial disparity among various social classes, resulting in increased poverty in regions lacking active tourism and financial sectors, and substantial evolution of misery among poverty belts. This governmental attitude severely neglected social affairs and was accompanied by unfair macroeconomic policy to deepen discrepancies between social classes.


General Assembly of the Economic and Social Council of Lebanon.

Macroeconomic indicators: Instable and biased system

Economists have indicated in their studies over the latest three-decade period the almost complete absence of a clear strategic macroeconomic policy. But the general view of the macroeconomy has been still firm. On the other hand, reports released by international institutions continuously alert and point out two weakness parameters that could severely undermine macroeconomic equilibrium through the twin deficits hypothesis or phenomenon, which is the result of the fiscal deficit and the current account deficit.

Current Account Deficit

Despite the persistent deficit in the current account (value and quantity of imports exceed exported goods and services), cash flows were sustainable, and government was able to finance this deficit. Lebanon has been attracting resources to finance its deficit, which shows the country’s favorable position in the perception of financing countries on the one hand, and the aptitude of its expatriates -within regional countries as well as international diaspora- on the other hand to arrange financial transfers exceeding $7.5 billion annually.

The deficit in the current account reflects structural concerns that imply limitations on the productive economy to produce and export goods and services. This has also led to a massive deficit in the balance of trade exceeding $16 billion by year-end, as estimated by reports released by the Central Bank. Moreover, only a part of these remittances that finance the current account is not long-term funds that enhance capital accumulation, do not generate investment prospects, and have no positive effect on creating job opportunities. The majority of these transfers originate from expatriates and diaspora who were forced to emigrate due to political crises and poor economic conditions which led to a narrowing labor market.

There is no doubt that the long-term and continuous deficit in the current account imposes specific orientation on the fiscal and monetary policies that aim at maintaining high levels of remittances as a solution to fund deficits, regardless of the negative implications of such policies on the economy. Financing the current deficit through attracting foreign capitals exposes the economy in general to wide-ranging cyclical fluctuations especially if these capital inflows are only available in the form of short-term investments, which was the scenario during the past quarter-century. There is a clear conflict between the monetary policies that call to attract deposits allocated to finance public debt, and the fiscal policies seeking to attract foreign direct investments (FDIs). The latter type of capita resources have a real effect in creation of job and enhancing economic growth rates. As a result, high-interest rates attract foreign deposits, while low-interest rates contribute to attracting production-oriented capitals, improving the economic cycle, and increasing growth rates.

Budget Deficit 

The budget deficit is the second factor that lies beneath the fragility in the national economy and the instability of continued budgetary deficit, which will also result in increasing the pace of public debt.

In reality, governments do not go bankrupt as per the narrow definition of monetary bankruptcy. The government’s ability, however, to finance its deficit is only limited to additional borrowing, will lead to insecure public debt plans and future borrowing potentials. But it’s worth mentioning that the general fiscal policies in Lebanon are dedicated to discharge the dangers of such critical issues, and still considering the accumulated resulting negative implications during the last two decades.

There is no doubt that the budget deficit led to hindering the role of fiscal policy tools in managing the economy as the fiscal authority solely assumed this economic role, without ignoring the limitations and consequences of this exclusive approach. The increased borrowing to finance interest costs of public debt does not facilitate job creation growth, but on the contrary, broadens the gap between incomes and sectors, thus increasing social disparities and causing more economic tensions. In addition to this, the comprehensive linkage between the banking sector and the debt tools weakens the credit rating of the economy as well as rating of the banking sector itself regardless of its solidity in terms of liquidity standards and solvency, the firm control of the fiscal authority, internal monitoring policies, and the conservative approach.


Post-Taef Agreement Economic Policy:

The economic policy in Lebanon, both related to monetary and financial aspects, was formulated to suit a specific economic era of the country’s history. Although it relatively achieved targeted objectives, the approach had its negative implications on the economy and society at later stages. The approach during this period can be summarized as follows:

The Era of Reconstruction and Beyond

The economic policy that facilitated the five-year reconstruction process between 1993 and 1997 has succeeded in saving the economy the risks of instability caused by the pressures of urban spending, as well as prices in the broad economic sense. The following points summarize the most important achievements of this policy:

Primarily, a fixed exchange rate of the Lira against the US Dollar has alleviated inflation rates at low levels, where this stabilization served as a reliable factor to realize equilibrium among different macroeconomic variables.

Secondly, the fixed exchange rate policy of the national currency during the two decades, besides high-interest rates compared to the prevailing global rates, attracted capitals and deposits from abroad which had a significant role in public and private borrowing.

Thirdly, the combination of fixed exchange rates and high-interest rates has enabled banks to achieve impressive and steady growth in all of their budgetary items over the last 25 years, reinforcing the robustness of the banking sector and its ability to finance the economy in the subsequent decades.

Regardless of the achievements and accomplishments of the economic policy in that era, it carried and still bears some real risks, including:

Firstly, from a social point of view, wage and purchasing power recovered only a fraction of what it has lost compared to its levels before the years of financial collapse between 1984 and 1992. Moreover, the economic growth -regardless of its fluctuating increase over more than two decades- did not witness a parallel decline in the rates of unemployment and immigration. On the contrary, such rates accelerated in the last seven years despite the observed economic growth, albeit at low rates. Such economic approach accompanied by the absence of social policy has resulted in widening the socio-economic gap, threatening to tear social and even national integration.

Secondly, the increase in interest rates has led to a decline in investment within the real and productive economy (agriculture and industry), and a decline in the accumulation of real capital, which in turn was reflected in declining employment rates.

Economic Policy: Disabled and Disabling Dimensions

Policymakers base the pillars of economic programs on two traditional approaches: monetary policy and fiscal policy, seeking the alignment and consistency of these two pillars to achieve two goals: economic growth and reducing unemployment. This should proceed in parallel to the context of macroeconomic stability, economically known as the golden triangle.

But the public budget deficit and the rapid growth of public debt have disrupted financial policy instruments. In other words, these fiscal tools are disabled to carry out any of their initial roles in managing the economy. The role of fiscal policy in the face of the cyclical economic fluctuations is impeded as they are directed to secure servicing the public debt, maintaining acceptable levels of the budget deficit, limiting any possible collapse of production in the private sector, as well as hindering the role in redistribution and re-financing the production of public services.

The monetary policy, which is usually entrusted to maintain the exchange rate of the local currency, has solely assumed the tasks of managing the economy. By its nature, the monetary policy is capable of carrying out only limited roles of fiscal policy which is countering the cyclical fluctuations of economic activities, but for sure with limitations. Monetary policy is also demanded to secure financial and capital inflows that fund public and private indebtedness. It thus preserves and accelerates a special form of growth that does not accompany imbalanced weights of accumulated capital in the production sectors and decrease unemployment rates.


Weak and Declining Investment Inflows

The followed monetary policy was able to attract exclusive deposits but was accompanied by constraints that prohibited the inflow of real long-term investments which are required to generate job creation growth. Corruption is the most important and most serious obstacle in this matter, followed by poor productivity in the public administration due to bureaucracy, lack of modernization of the legislative and procedural framework suitable to enhance investing environment as provided by other regional economies, and at last comes to the high-interest rates.

Corruption in the Concept of Political Economy and its Impact on the Flow of Capital

The precise definition of what constitutes the political economy of corruption shows the capacity of this issue to damage governmental and constitutional foundations. The basis of corruption is the greed of those within the circle of power decision and coercion –which are the two powers originally given by the authority of the state- who employ their power to seize public money, resources, and/or blackmail citizens.

This brief definition reveals how dangerous corruption can be on the structure of the state. The social contract, in its original and abstract sense, gives the state the right to resort to coercion in only three basic cases, while a fourth case emerges with the evolving of the market economy. First is the case is to achieve security, public order and the administration of justice derived from humanitarian and legal principles and frameworks. Secondly, to preserve private property and to ensure respect for contractual obligations. Thirdly, to impose duties and taxes. The fourth case involves the intervention of the authority to correct any imbalances that might emerge due to various market forces in the free-exchange economic model.

The before-mentioned show the strongest reason for the failure of the economic policy to attract capital directed towards investments, while to some extent succeeded in attracting deposits. In reality, the investor examines first and foremost how the authorities apply its power, as the profitability prospects of any investment depend on the legitimate use of power, and the investors’ rights to own their invested assets and how to manage them, and not to fear any loss due to power abuse. Therefore, an investor’s assessment of a country’s corruption index is at the forefront of the data he uses to calculate and evaluate the risks associated with any investment potential.

Weak Productivity in Public Administration

Bureaucracy and the absence of modern legislations are considered major obstacles to investment in Lebanon, as they tend to increase the cost of investment in terms of money and time. Lebanon’s low ranking on the ease of business is a proof that bureaucracy weakens the country’s ability to attract investments. For example, the issuance of a building permit in Lebanon requires an average of 244 days compared to just 49 days in the UAE, according to the Doing Business 2017 report by the World Bank. Based on this report, Lebanon ranks second to last among the Arab countries, only followed by Sudan. Here we note the importance of taking the necessary legislative and executive measures to implement the project prepared by Prime Minister Rafic Hariri’s government in the early 1990s to adopt the so-called ‘one-stop-shop.’ It is also necessary to prepare practical and direct decrees to implement e-government law.

High-interest Rates

This factor hinders foreign and local investments, as investors allocate a considerable weight to this rate when evaluating the feasibility of any investment project. High-interest rates on investment loans lead to the exclusion of investment projects, that might be feasible and profitable if compared with the return on investment at lower interest rates on loans.


The Economic and Social Council in Lebanon: A Modern Perspective.

As the Economic and Social Council for Lebanon, we seek development within various aspects, including economic, social, and environmental measures. Economic growth in this development framework is a goal defined by three criteria: financial stability, progress within social justice and equal opportunities through public spending, and the protection of natural resources from illicit exploitation. Violation of any of these constraints would demoralize the foundations on which the entire sustainable development path should be developed.

Critics recognize that committing to a strict control framework by the potential economic policy imposed by sustainable development will inhibit economic growth by traditional evaluation criteria. The traditional measurement of economic activity does not include the negative assessment of social and environmental degradation, nor any positive evaluation of any progress within these two fields.

The bases for calculating economic activity has now evolved where recent approaches include social and environmental impacts on economic growth. Human and natural resources are truly capital assets that have the greatest contribution to economic activity, and maintaining and developing them is the sole process to achieve real prosperity. The goal of good governance in this context is to achieve a sustainable balance between growth requirements on one hand and social and environmental criteria on the other.

The second and current version of the Economic and Social Council in Lebanon is composed of 71 elected members representing various economic bodies, trade unions and free trade unions, and industry experts. The office of the General Assembly consists of nine members, in addition to 10 specialized committees: The Committee on General Economic Issues, The Committee on General Social Issues, The Committee on Human Development and Human Rights, The Committee on Productive Activities, The Committee on Science and Technology, The Environment Committee, The Committee on Regional issues and Agriculture, The Committee on Labor, Occupations and Crafts, and the Youth and Sports Committee. This Consultative Council is a platform for discussion and interaction between various productive forces linking expertise that strives to develop an integrated socio-economic and environmental vision for Lebanon.

The council did not wait for the legislative and executive authorities to initiate and research issues, but it rather took a keen sense of the economic, social and environmental conditions in Lebanon, and called on stakeholders to present solutions for the current situation.

In this context, the committees per their competence, called upon the stakeholders in Lebanon to discuss common visions that facilitate the process of drafting recommendations to the executive and legislative authorities in Lebanon. The members of the specialized committees analyze the situation and implement the most effective policies to solve the crisis.

The Economic and Social Council and the Political Parties Document

Since its formation by year-end 2017, the Council has taken several steps to contribute to the society and presented ideas and proposals aimed at moving the economic cycle and absorbing the effect of the existing imbalance. One of the most prominent steps was requesting the Lebanese parties to present the economic aspect of their electoral programs to the Council, to formulate an economic vision that is compatible with the visions of most political forces in Lebanon. Accordingly, seven parties responded to this call and set up an economic dialogue table. In six meetings, representatives of these parties made an extraordinary effort to reach common ground, despite the different political and economic backgrounds from which they originate. The first agreement among them was the issuance of a document composed of 22 articles aimed at reducing public expenditure. This document intends to be at the heart of the ministerial statement of the upcoming government. It undoubtedly contributes -over three to five years period- to reduce the deficit in the general budget to below five percent of GDP, especially as political parties contribute to the preparation of the document and approval of such items are present in the executive and legislative authorities.

Current Economic Challenges and Approaches

The Economic and Social Council seeks to mobilize the parliamentary blocs and political decision-makers, in addition to the forces involved in the production process (employers and workers), to urge them to develop an economic policy based on activating productive sectors.

The Council’s Committee on Economic Issues has prepared an immediate action paper and a medium-term plan to stimulate economic growth. The Council’s General Assembly discussed and approved the paper in mid-October 2018. It seeks to stimulate equitable and sustainable economic growth and points out various topics of social and developmental dimensions. It also takes into account the citizens’ concerns and the realization of their demands and aspirations to ensure the sustainable human growth on the real economy, based on production which in turn requires a full package of structural reforms at the economic, financial and administrative levels.


Summary

Lebanon currently faces challenges due to structural weaknesses in its economy, including the lack of employment opportunities and the inability to create them, the deficit in both the budget and current account, in addition to a broad gap in the balance of trade, the increase in the size of private debt and obligations of the private sector (both businesses and households). This is in addition to the considerable weight of public debt on the economy and on the structure of interest rates in the domestic market, and the poor level of public services. Lebanon also suffers from situational factors such as the crisis of displaced Syrians, the decline in the value of remittances, and the slow pace of projects (extraction of oil and gas, electricity, etc.). Lebanon also faces challenges stemming from the absence of governance, including non-compliance with laws and regulations, weak state bodies and lack of power, and the absence of regulatory frames. All of these challenges are driving down economic growth and increasing unemployment rates.

Several steps are essential to activate the economy and improve growth to broaden the structure of the economy and its size, which allows the reformation of middle-income social class, re-distribute job opportunities and production aspects on a broader set of citizens, in addition to enhancing social safety nets (such as social security, pension funds, retirement system, etc.).

Reforming the judiciary system, enhancing its independence, and improving its effectiveness are transitory measures to improve the performance of state institutions and ensuring local and foreign investment potentials. It is also essential to provide an appropriate investment environment and financing structure, besides diversifying financing and funding means (expanding the activity of the Beirut Stock Exchange), and involving citizens in the capital base of the economic sectors. It is also important to commit to public-private partnership and expedite implementing decrees of Law No. 48 issued on September 7, 2017. Removing infringements on public property is a necessity, and effectively managing them for the benefit of the state, preserving the national heritage and proper investing of natural resources and assets for the sake of present and future generations through the initiation and transparent management of a sovereign fund.

الحَصيلةُ اللُّغَوِيَّة ولُغات الخِطاب الإعلاميّ

«اللّغة قدرةٌ ذهنيةٌ مكتسبةٌ، يمثّلها نسق، يتكوّن من رموز منطوقة، يتواصل بها أفراد مجتمع ما»1. وهي تنطوي في طبيعتها على الحقائق التالية2:

    1. إنّها مجموع المعارف اللُّغوية، بما فيها المعاني والمفردات والأصوات والقواعد التي تنتظمها جميعاً. تتولد وتنمو في ذهن الفرد ناطق اللّغة أو مستعملها فتمكّنه من إنتاج عبارات لغته كلاماً أو كتابةً، كما تمكّنه من فهم مضامين ما ينتجه أفراد مجموعته من هذه العبارات، وبذلك تُوجِدُ الصّلة بين فكره وأفكار الآخرين، وتتداخل في تكوين هذه القدرة عواملُ فيزيولوجية، تتمثّل في تركيب الأذن، والجهاز العصبي، والمخ والجهاز الصوتي لدى الإنسان.
    2. إنّ هذه القدرة تُكتسب ولا تُولَد مع الإنسان، وإنّما يولد ولديه الاستعداد الفِطري لاكتسابها، ويدفعه في العادة شعوره بالانتماء إلى مجموعته البشريّة، نفسيَّاً واجتماعيّاً وحضاريّاً، ورغبتُه في التعايش وتبادل المنافع والمصالح بينه وبين أفراد هذه المجموعة.
    3. تتمثّل هذه القدرة المكتسبة بطبيعتها في نسق مُتّفق، أو مُتعارَف عليه بين أفراد ما يُسمّى الجماعة اللّغوية، أو الجماعة الناطقة بلغةٍ ما. وتدخل في تكوين هذا النسق في العادة وحدات أو أنساق أخرى متفرّقة يرتبط بعضها ببعض وهي:

 أ) النّسق الصّوتي: وهو الذي يحدّد نطق الكلمات أو أجزاء الكلمات، وفق الأنماط المقبولة أو المتعارف عليها لدى الجماعة اللّغوية.

ب) النسق الدَّلالي: ويعني ترتيب الوحدات المعنويّة وفق سماتها الدلاليّة المعروفة أو المقبولة في اللغة.

ج) النسق الإعرابي أو النّحوي: ويعني ترتيب كلمات الجملة أو الجُمل في أشكالها المقرّرة في اللغة.

د) النّسق الصّرفي: وهو النّسق الذي تُعالَج فيه بُنى الكلمات وأنواعها وتصريفاتها أو اشتقاقاتها.

هـ) النسق المُعجمي: ويقصد به مجموع المفردات اللّغوية المتاحة للتعبير عن المعاني والمواقف المختلفة في إطار اللغة.


أهميّة اللغة وأنواعها:

إنّها وسيلة الإنسان للتعبير عن حاجاته ورغباته وأحاسيسه ومواقفه، وإرضاء غريزة الاجتماع لديه، وهي أيضاً وسيلته٣ إلى تنمية أفكاره وتجاربه، وإلى تهيئته للعطاء والإبداع والمشاركة في تحقيق حياةٍ مُتحضّرةٍ. ويزداد اكتسابه للمهارات والخبرات كلّما نمت لغته وتطورت وزادت علاقاته بالآخرين قوّةً واتّساعاً.

على الرّغم ممّا أسلفنا القول من أنّ اللّغة عبارة عن «رموز منطوقة أو كما عرّفها بعض العلماء «أصوات٤ يُعَبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم» فإنّ لِلُّغة بمفهومها العام مدلولاً أوسع من ذلك، إنّها وسيلة للتفاهم والتواصل والتعبير عن العواطف والأفكار العامة، لا يحدد مدلولها بالكلمات والعبارات، التي تصطلح على معانيها أو دلالاتها أمّة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات، إذ إنّها تشتمل على كلّ ما يمكن أن يعبر به الإنسان عن فكرة أو انفعال أو موقف أو رغبة معيَّنة، فالصورة لغة، والأشكال المرسومة لغة، والحركات الجسميّة لغة. إنّ كلّ أعضاء الحواس يمكن استعمالها في خلق لغة، فهناك لغة الشمّ ولغة اللّمس، ولغة البصر ولغة السمع، وهناك لغة كلّما قام شخصان فأضافا معنىً من المعاني إلى فعل من الأفعال بطريق الاتفاق، وأحدثا هذا الحدث بقصد التفاهم بينهما. فعِطرٌ يُنشر على ثوب، أو منديل أحمر أو أخضر يطلّ من جيب سُترة أو ضغطة على اليد يطول أمدها قليلاً، أو كثيراً، كلّ هذه تُكَوَّنُ عناصر من لغة، ما دام هناك شخصان قد اتّفقا على استعمال هذه العلامات في تبادل أمر أو رأي٥.

المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

توطئة:

صُمِّمت السياسة الاقتصاديّة الرّاهنة التي بدأ تطبيقها في العام 1993 لتحقيق هدفين مترابطين هما تثبيت استقرار الاقتصاد الكلّي وإطلاق برنامج إعادة الإعمار وما تطلّبه ذلك من موارد ماليّة تخطّت وقتها حجم الادّخار الذي كانت متوفّراً. حقّقت تلك السياسة هدفيها جزئياً، غير أنّ الاستمرار باعتمادها لعقدين كاملين بعد فورة إعادة الإعمار التي شهدها لبنان بعد اتفاق الطائف أحدث انحرافات في الاقتصاد الحقيقي ودفع بالاقتصاد الكلّي نحو هشاشة متزايدة أضحت تهدد التوازن الاقتصادي غير المستقرّ أصلاً.

إنّ التحوّل نحو سياسة اقتصاديّة مغايرة لتلك التي سادت على مدى ربع قرن أكثر من مطلوب، بغية تقويض التّوازنات الهشّة على مستوى الاقتصاد الكُلّي و توزيع الثّروات والمداخيل بعدالة تصاعدية. من الضروريّ في هذه المرحلة اعتماد سياسة تهدف إلى تحقيق نموّ مبني على الاستقرار الناجز والرّفاه الاجتماعي و على ترشيد استهلاك الموارد الطبيعيّة.

يلعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان حاليًّا دوراً هاماً في محاولة صياغة سياسة اقتصادية اجتماعية و بيئيّة متكاملة للبنان لتحقيق النموّ و التنمية المُستدامة.


لمحة تاريخيّة عن الاقتصاد اللبنانيّ:

شهد الاقتصاد اللبنانيّ في العقود الثلاثة التي سبقت الحرب الأهلية فترة عُرفت بالفَورة الاقتصادية، وذلك بفعل استقطابه للحركة المرفئِيّة في المنطقة بدايةً وللرّساميل الساعية للأمان لاحقاً. لقد شكّلت مثلاً نسبة السّلع المصدّرة إلى السّلع المستورَدة 72% في العام 1973 بحسب مراجع البنك الدولي. هدفت الإجراءات النقديّة التي تمثّلت بإقرار تغطية ذهبيّة وازنة للنّقد والبدء بمراكمة الذهب احتياطاً نقديّاً إلى تعزيز الثقة بالعملة الناشئة بعد الانفصال الجمركي عن سورية ممّا أدّى إلى زيادة التدفّقات الماليّة إلى الدولة المستقلّة حديثا.

نشطت في أواسط خمسينيّات القرن الماضي قطاعات الخدمات ومن ضمنها قطاعات المال والسياحة والنّقل البحري والجوّي والبرّي على وجه الخصوص. تطوّرت هذه القطاعات متكاملةً مع الرّساميل الوافدة وأتى هذا النشاط مترافقاً مع دعم كبير من قبل السلطة السياسية عبر إقرار قانون السريّة المصرفيّة وتخصيص تلك القطاعات بالتسهيلات والاستثمارات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر شركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان.

كان من البديهي بسبب الازدهار الذي شهده الاقتصاد اللبناني في تلك المرحلة أن يسيل الحبر الكثير حول أهميّة هذا النموذج الاقتصادي ودور الاقتصاد اللبناني في المنطقة. ربطت معظم التحاليل هذا الازدهار بنموّ قطاعات الخدمات حصراً، واعتبرت بأنّه على قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي) أن تتطوّر بمقوّماتها الذاتية من دون أيّة سياسة اقتصادية عامة ولا أيّة سياسة قطاعية حاضنة كما كان الحال في قطاع الخدمات.

إنّ النموذج الاقتصادي في تلك المرحلة، وإن شهد نموّاً منظوراً في المؤشّرات الاقتصادية، قد حمل خللاً هيكليّاً بسبب اعتماده على قطاعات غير حقيقية. أدى هذا النموذج أيضاً إلى إنماء غير متوازن وسبّب خللاً اجتماعيًّا فتفاقم الفقر في المناطق حيث لم ينشط قطاعا المال والسياحة، وكبر حزام الفَقر والبؤس حول العاصمة. ترافقت هذه المرحلة مع إهمال شديد للشأن الاجتماعي ما أدّى إلى تعميق الفروقات بين الطبقات الاجتماعية.


الهيئة العامة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.

المؤشّرات الكُليّة في الاقتصاد:  عدم اسقرار في التوازن

يُجْمِع الاقتصاديّون في معظم دراساتهم المُعَدّة في العقود الثلاثة الأخيرة على غياب كامل للسياسة الاقتصادية أو شبه غياب، ولكن بالرغم من ذلك فإن الاقتصاد الكلّي كان ولا يزال بحالة من الاستقرار. في المقابل نرى في التقارير الدوليّة تنبيهات متكررّة تشير إلى دلالتي ضعف تقوّضان توازن الاقتصاد الكُلّي وهما عجز الميزان الجاري وعجز الموازنة العامّة، أو ما يُعرَف بالعجز المزدوج.

عجز الميزان الجاري

إنّ العجز في الميزان الجاري مُزمن ومُستدام، ولكنْ بالرغم من هذه الاستدامة لم تتوانَ التدفّقات النقدية عن تمويل هذا العجز. إنّ قدرة لبنان على استقطاب الموارد المالية لتمويل عجزه يظهر مدى مكانته لدى الدول من جهة، و مدى قدرة مُغْتَرِبيه ومكانتهم وانتشارهم في المنطقة والعالم من جهة أخرى ما يعزز قدراتهم التحويليّة التي تتخطى السبعة مليارات والنصف مليار دولار أميركي سنويّاً.

إنّ العجز الجاري يعكس أيضاً خللاً بنيويّاً يُضعف قدرة الاقتصاد على إنتاج سلع وخدمات تصديريّة ما يؤدي إلى عجز كبير في الميزان التجاري تجاوز الستة عشر مليار دولار في نهاية العام 2017 بحسب تقارير المصرف المركزي. كذلك فإنَّ التحويلات التي تموّل هذا العجز، جزئيًّا أو كلّيّاً، ليست تحويلات استثمارية طويلة الأمد تُراكم رأس المال وتعمل على تحفيز الاستثمار وتولِّد فرص عمل. هذه التحويلات هي بجزئها الأكبر تحويلات مصدرها الكفاءات اللبنانية الاغترابية التي دفعتها الأزمات السياسية والأوضاع الاقتصادية في لبنان الناتجة عن ضيق سوق العمل إلى الهجرة.

ممّا لا شكّ فيه بأنّ العجز المُزمن والمُستدام في الميزان الجاري يفرض توجّهات في السياستين المالية والنّقدية تهدف إلى الإبقاء على نِسب مُرتفعة من التّحويلات الماليّة بغرض تمويل العجز، مع ما يتأتّى من إجراءات نقديّة لها أثر على الاقتصاد برمّته. إن تمويل العجز الجاري برساميل مُسْتَقطَبة من الخارج يُعرِّض الاقتصاد عامّةً لتقلّبات دوريّة واسعة خاصةً إذا أتى جزء كبير من هذه الرّساميل بشكل استثمارات قصيرة الأجل كما كانت الحال خلال ربع قرن مضى. هناك تضارب بين التوجّهات النقديّة الهادفة إلى استقطاب ودائع لها دور في تمويل الدين العام من جهة، والتوجّهات النقدية والمالية الساعية إلى استقطاب استثمارات أجنبيّة مباشرة لها دور فاعل في خلق فرص عمل وتسريع معدّلات النموّ الاقتصادي من جهة أخرى. فالودائع من الخارج تجذبها نِسب الفوائد المرتفعة فيما الفوائد المتدنّية تساهم في جذب الرساميل المنتجة وتعزّز الدورة الاقتصادية وترفع نسب النمو.

عجز الموازنة العامّة

يكمن السبب الثاني في هشاشة الاقتصاد الوطني وعدم الاستقرار في التوازن في العجز المتمادي في الموازنة العامة وما ينجم عن هذا العجز من تسارع في وتيرة الدين العام. لا بدّ من الإشارة بأنّ الدول عامةً لا تفلس بالمعنى المالي الضيق للحالة، إلّا أنّ عدم قدرة المالية العامة بشكل دائم على ردم العجز إلّا من خلال اللجوء إلى المزيد من الاقتراض يؤدي إلى الإخلال في خدمة الدين و في القدرة على الاستمرار في الاقتراض. والحَرِيّ ذكره أنّ توجّهات السياسة النقديّة عامّة و بالتحديد في لبنان تُسَخّر مجمل إجراءاتها لتفادي الوقوع في هكذا خلل، مع ما نتج عن هذه الإجراءات من انعكاسات سلبيّة تراكمت على مدى عِقدين من الزّمن.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا العجز أدّى إلى تعطيل دور أدوات السياسة المالية في إدارة الاقتصاد وإلى اضطلاع السياسة النقدية مُنفردة بمهام تلك الإدارة مع ما نعرفه عن محدودية السياسة النقدية في علاج هذا الخلل منفردةً. إنّ الاقتراض المتزايد بهدف إيفاء الفوائد على الدين العام لا يولِّد نمواً خلّاقاً لفرص العمل، لكنّه يساهم في توسيع الهوّة بين المداخيل و القطاعات ممّا يزيد من الفروقات الاجتماعية و يولّد مزيداً من التوتّر.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ ارتباط القطاع المصرفي برمّته بأدوات الدين العام يُضعف التصنيف الائتماني للبلاد و يؤثر على تصنيف القطاع رغم متانته من حيث معايير السيولة، والملاءة، ورقابة السلطة النقدية، والرقابة الذاتية، والتوجهات المُحافظة.


السياسة الاقتصاديّة في لبنان ما بعد الطائف:

إنّ السياسة الاقتصادية في لبنان بشقّيها النقدي والمالي، صيغت لتلائم حقبة اقتصادية محدّدة من تاريخ البلاد، فحقّقت أهدافها مرحليًّا وما لبثت أن أرخت بِوِزْرِها على الاقتصاد والمجتمع في مراحل لاحقة. يمكن إيجاز هذه الحقبة على الشكل التالي:

في مواكبة حقبة إعادة الإعمار وما بعدها

إنّ السياسة الاقتصاديّة التي واكبت وسهّلت عملية إعادة الإعمار في السنوات الخمس 1993-1997 نجحت في تجنيب الاقتصاد مخاطر عدم الاستقرار التي تولّدها ضغوط الإنفاق الإعماري على الموارد المالية كما على الأسعار بمفهومها الاقتصادي. ومن أهم ما حققته تلك السياسة من إيجابيات يمكن أن يتلخّص بالتالي:

أوّلاً، ساعد تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي على استقرار نسبة التضخم على مستويات منخفضة فكان هذا التثبيت بمثابة المرساة التي كان يعوّل عليها لإحداث توازنات مستقرّة في كافة متغيِّرات الاقتصاد الكُلِّي.

ثانياً، أدّت سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على مدى عقدين ومن خلال أسعار فائدة مرتفعة مقارنة بالأسعار السائدة عالميًّا إلى استقطاب رساميل وودائع من الخارج، كان لها دور مساهم و فعال في الاقتراض العام والخاص.

ثالثاً، سهّل تزاوج سعر الصرف الثابت والفائدة المرتفعة على المصارف تحقيق نمو مؤثر ومضطرد في كافة بنود ميزانياتها وعلى مدى ربع القرن الفائت، هذا ما عزز متانة القطاع المصرفي، وقدرته على تمويل الاقتصاد خلال العقود اللاحقة.

بالرغم ممّا حقّقته السياسة الاقتصادية في تلك الحقبة من نجاحات إلّا أنها حملت وتحمل بعض المخاطر ومنها:

أوّلاً، من الناحية الاجتماعية، لم تَسْتَعِد الأجور والقدرة الشرائية إلّا جزءاً يسيراً ممّا كانت عليه في الحقبة التي سبقت سنوات الانهيار النقدي 1984-1992. كما أنَّ النموّ الاقتصادي، وعلى تفاوت وَتيرَتِه خلال أكثر من عقدين من الزمن، لم يُحدث تراجعاً موازياً في نسب البطالة والهجرة بل تسارعت وتيرة ارتفاع هذه النّسب خلال السنوات السبع الأخيرة رغم ما تحقّق في تلك الفترة من نموّ اقتصادي وإنْ بمعدّلات منخفضة. وقد نتج عن ذلك، مع غياب السياسة الاجتماعية، اتساعٌ متنامٍ للهوّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي باتت تهدّد بتقويض الانصهار المُجتَمَعي وحتى الوطني.

ثانياً، إنّ ارتفاع نِسَب الفوائد أدّى إلى تراجع الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي المنتج (زراعة، صناعة) وإلى تراجع تراكم الرأسمال الحقيقي، ما انعكس على تراجُع في نسب العمالة.

ثالثاً، إنّ تثبيت سعر صرف العملة أدّى إلى ارتفاع كلفة الإنتاج المحليّة، ما أحدث تراجعاً في تنافسية الإنتاج.

سياسة اقتصادية ذات بُعد مُعطَّل ومُعطِّل

تقوم السياسة الاقتصادية، بتوجّهاتها التقليدية، على ركيزتين هما السياسة النقدية والسياسة المالية، وتسعى من خلال تلازمهما وتناسقهما إلى تحقيق هدفَيّ النموّ الاقتصادي والحد من البطالة في إطار من الاستقرار الكلِّي وهذا ما يُعرف بالمثّلث الذهبي في علم الاقتصاد.

لكنّ العجز في الموازنة العامة والنموّ المُتسارع للدَّين العام أدى إلى تعطُّل أدوات السياسة المالية أي: إنّها لم تعد قادرة على الاضطلاع بأيٍّ من أدوارها في إدارة الاقتصاد. فدور السياسة المالية في مواجهة التقلّبات الدوريّة للنشاط الاقتصادي معطّل لأنّ أدوات هذه السياسة أضحت مُسخّرة لتأمين خدمة الدين العام ولإبقاء عجز الموازنة على مستويات يحدّها انهيار الإنتاج في الاقتصاد الخاص، كذلك دورها معطل في إعادة التوزيع و في تمويل إنتاج الخدمات العامة.

أمّا السياسة النقدية الموكل إليها مهمّة الحفاظ على سعر الصرف ، فقد حُمِّلت منفردة مهام الإدارة الاقتصادية. غير أنَّ هذه السياسة بطبيعة أدواتها قادرة على الاضطلاع بأحد أدوار السياسة المالية فحسب ألا وهو دور مواجهة التقلّبات الدورية للنشاط الاقتصادي وذلك ضمن حدود ضيّقة. فالسياسة النقديّة هي أيضاً مُسخّرة لهدف تأمين التدفُّقات الماليّة التي تموّل المديونيّة العامّة والمديونية الخاصة. إنّها تبقي لذلك على شكل من أشكال النّمو الذي لا يترافق ونسب وازنة لتراكم رأس المال في قطاعات الإنتاج، كما لا يترافق مع تراجع نسب البطالة، لا بل يُسرِّعُها.


ضعف وانحسار التدفّقات الاستثماريّة

ترافقَ توجُّه السياسة النقديّة إلى جذب الودائع حصراً مع وجود معوقات منعت تدفق الاستثمارات الحقيقية الطويلة الأمد بالحجم الذي يتطلّبه النمو المولِّد لفرص العمل. يشكل الفساد أهمّ تلك المعوقات وأخطرها، يليه ضعف الإنتاجية في الإدارة العامة بسبب البيروقراطية وعدم تحديث الإطار التشريعي والإجرائي الملائم للاستثمار والمنافس للتسهيلات التي تقدمها اقتصادات أخرى، وتأتي بعد ذلك مُعدّلات الفائدة المرتفعة.

الفساد بمفهوم الاقتصاد السياسي وأثره على تدفّق الرّساميل الاستثمارية

إنّ التحديد الدقيق الذي يعتمده الاقتصاد السياسي لماهية الفساد يُظهر قدرة هذه الآفة على تقويض الأسس التي تقوم عليها الدولة. إنّ أساس الفساد هو جنوح الجشع عند من لديهم سلطة القرار وسلطة الإكراه، وهما سلطتان مستمدتان أصلاً من سلطات الدولة، بحيث يوظّفون هاتين السلطتين للاستحواذ على المال العام أو الموارد العامة أو لابتزاز المواطنين.

يُظهر هذا التعريف المُقْتضَب خطر الفساد على بنيان الدولة. فالعقد الاجتماعي بمفهومه المبدئي والمجرد أعطى الدولة حق اللجوء إلى الإكراه في حالات ثلاث أساسية أُضيفت إليها حالة رابعة فرضها التطور نحو اقتصاد السّوق. الحالات الأساسية للجوء إلى السلطة الإكراهية هي أوّلاً، واجب إحقاق الأمن والانتظام العام وفرض العدالة المُستمَدة من المبادئ الإنسانية والقوانين، ثانياً، واجب الحفاظ على الملكية الخاصة وضمان احترام الالتزامات التعاقدية، وثالثاً واجب فرض الرسوم والضرائب. أمّا الحالة الرابعة فتطال سلطة التدخل لتصحيح الاختلالات التي قد تُحدثها قُوى السوق في النظام الاقتصادي المبني على التبادل الحرّ.

هذا التعريف المُختَصر للفساد يُظهر السبب الأقوى لفشل السياسة الاقتصادية في استقطاب الرساميل الاستثمارية، فيما نجحت إلى حدٍّ ما في استقطاب الودائع. فالمُستثمر ينظر أوّلاً وأساساً لكيفيّة استعمال السّلطات لسلطتها، إذ إنّ ربحيّة الاستثمار أو عدمها تكمن في شرعيّة هذا الاستعمال أو عدمها، كما يكمن حق المستثمر في ملكيّة أصول استثماره وكيفيّة إدارتها، وعدم الخوف عليها. لذلك يأتي تقييم المُستثمر لمؤشّر الفساد في بلد ما في طليعة المُعطيات التي تُحْتَسب على أساسها المخاطر الملازمة لاستثماره.

ضعف الإنتاجيّة في الإدارة العامّة

تُعتبر البيروقراطيّة و غياب التشريعات الحديثة من معوقات الاستثمار في لبنان كونها تزيد من كلفة الاستثمار مالاً مبدَّداً ووقتاً مهدوراً. إنّ مرتبة لبنان المتدنِّية على سُلَّم سهولة الأعمال هي خير دليل على أنّ البيروقراطية هي أحد أسباب ضعف قدرته على جذب الاستثمارات. يتطلب استخراج ترخيص بناء في لبنان مثلاً ما معدله 244 يوماً مُقارنة بـ 49 يوماً في الإمارات بحسب تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2017 الصادر عن البنك الدولي. يُصَنّف لبنان بحسب هذا التقرير في المرتبة ما قبل الأخيرة بين الدول العربية يليه السودان. هنا نشير إلى أهميّة اتّخاذ الإجراءات التشريعية و التنفيذية اللازمة لتطبيق المشروع المُعَدّ من قبل حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بداية تسعينيّات القرن الماضي لاعتماد ما يُعرف بالشبّاك المُوَحَّد لتأسيس الشركات one stop one shop. من الضروري أيضا إعداد المراسيم التطبيقيّة والمباشرة بتطبيق قانون الحكومة الالكترونية.

أسعار الفائدة المرتفعة

هي من معوقات الاستثمار كونها تدخل في صميم النموذج المتَّبع لتقييم جدوى أيّ مشروع استثماري، بحيث إنَّ الفائدة المرتفعة على القروض الاستثمارية تقود إلى استبعاد مشاريع استثماريّة قد تكون مجدية في ما لو قُورن المردود الاستثماري بنسبة فائدة أدنى على القروض.


المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان:
نظرة جديدة للوضع الاقتصادي الاجتماعي و البيئي

إنّ الإنماء الذي ننشده كمجلس اقتصادي واجتماعي للبنان هو إنماء اقتصادي واجتماعي وبيئي. فالنّمو الاقتصادي في هذا الإطار الإنمائي هو هدف تحدّ بلوغه قيود ثلاث وهي: الاستقرار المالي، التقدم الاجتماعي المتمثّل بتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص عن طريق الإنفاق العام الرِّعائي، وحماية الموارد الطبيعيّة من الاستنزاف المُتَفلِّت. وما الإخلال بأيٍّ من هذه القيود سوى تقويض للأُسُسِ التي يُبنى عليها المسار الإنمائي المُستدام برمته.

من المُسَلَّم به أنّ التزام السياسة الاقتصادية المنشودة بالضوابط الصارمة التي يفرضها الإنماء المستدام سوف يكبت النمو الاقتصادي بالمقياس والقياس التقليديين. فالقياس التقليدي للنشاط الاقتصادي لا تشمل حساباته التقييم السلبي لمدى التدهور الاجتماعي والبيئي، ولا التقييم الإيجابي للتقدّم على هذين المَيدانين.

لذا تطوّرت أسُس احتساب النشاط الاقتصادي راهناً باتّجاه مقاربة تشمل الوقع الاجتماعي والبيئي للنموِّ الاقتصادي. فالموارد البشريّة والموارد الطبيعية هي بحق أصول رأسماليّة لها المساهمة الأكبر في النشاط الاقتصادي، والمحافظة عليها وتطويرها هي السبيل لتحقيق الإزدهار الحقيقي. وما هدف الحَوْكَمة الجيِّدة في هذا السِّياق إلّا التوصُّل إلى توازن مُستدام بين متطلّبات النُّمو من جهة، وبين الضوابط الاجتماعية والبيئيّة لذلك النموّ من جهة أخرى.

يتألَّف المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان منذ تشكيله بنسخته الحالية الثانية في نهاية العام 2017 من 71 عضواً مُنتخباً يمثلون الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية ونقابات المهن الحرّة والخبراء في لبنان. انبثق عن الهيئة العامة هيئة مكتب مؤلّفة من 9 أعضاء بالإضافة إلى عشَر لجان متخصّصة هي التالية: لجنة القضايا الاقتصادية العامّة، ولجنة القضايا الاجتماعية العامّة، ولجنة التنمية البشرية وحقوق الإنسان، ولجنة النشاطات الإنتاجية، ولجنة العلوم والتكنولوجيا، ولجنة البيئة، ولجنة السياحة، ولجنة قضايا المناطق وشؤون الزراعة، ولجنة قضايا العمل والمهن والحرف، ولجنة الشباب والرياضة. يشكل هذا المجلس ذو الدور الاستشاري منصّة نقاش وتفاعل بين كافة قوى الإنتاج و تجمع خبرات تعمل جاهدة لصَوْغ رؤية اقتصاديّة اجتماعيّة بيئيّة مُتكاملة للبنان.

لم يكتف المجلس بانتظار أن تُبادر السلطتان التشريعية و التنفيذية و تطرح عليه قضايا للبحث، بل بادر إحساسا منه بدقّة الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية في لبنان و دعا أصحاب الشأن لتدارس سُبُل الخروج من الوضع الراهن.

في هذا السّياق، تنصرف اللجان بحسب اختصاصها إلى دعوة أصحاب الشأن في لبنان للنقاش بغية الوصول إلى رؤى مشتركة تسهّل عملية صَوْغ توصيات تُرْفَع للسلطتين التنفيذية والتشريعية في لبنان. كما أن أعضاء اللجان من أصحاب الاختصاص يعملون على تحليل الوضع ودراسة أنجع السُّبل للخروج من الأزمة.

المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و وثيقة الأحزاب

بادر المجلس ومنذ تشكيله في نهاية العام 2017 إلى درس خطوات متعدّدة للمساهمة في تقديم الأفكار والاقتراحات الهادفة إلى تحريك الدورة الاقتصادية واستيعاب الخلل القائم. من أبرز تلك الخطوات كانت دعوة الأحزاب اللبنانية الأساسية لتقديم الشقِّ الاقتصادي في برامجها الانتخابية إلى المجلس، بغية صياغة رؤية اقتصادية تتوافق عليها معظم القوى السياسية في لبنان. بناءً على ذلك، لبّى سبعة أحزاب تلك الدعوة، وأقيم في المجلس طاولة حوار اقتصادية جمعت حولها الأحزاب السبعة. بذل ممثِّلوا الأحزاب على مدار ستّة اجتماعات جهداً استثنائياً من أجل الوصول إلى حدٍّ أدنى مشترك على الرغم من تباين الخلفيّات السياسية والاقتصادية التي ينطلقون منها. كانت باكورة الاتفاق فيما بينهم إصدار وثيقة من اثنين وعشرين بنداً تهدف إلى خفض النّفقات العامة. تصلح تلك الوثيقة لأن تكون في صلب البيان الوزاري للحكومة المرتقبة لأنّها تساهم من دون أدنى شك، وعلى مدار ثلاث إلى خمس سنوات، إلى خفض العجز في الموازنة العامة إلى ما دون الخمسة بالمائة من الناتج المحلي، خاصةً وأنّ الأحزاب السياسية المساهِمة في إعداد الوثيقة والموافِقة على هذه البنود موجودة في السلطتين التنفيذية والتشريعية.

التحديات الأساسيّة الرّاهنة للاقتصاد وسُبُلُ معالجتها

يسعى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في حركته باتّجاه الكتل النيابية وصحاب القرار السياسي، بالإضافة إلى القوى المشاركة في العملية الإنتاجيّة (أصحاب عمل وعمال)، إلى حثّهم على وضع سياسة اقتصادية ترتكز على تفعيل القطاعات الإنتاجية.

لقد أعَدَّت لجنة القضايا الاقتصادية العامة في المجلس ورقة إجراءات فوريّة وتوجّهات على المدى المتوسط لتحفيز النمو الاقتصادي، وتمت مناقشة هذه الورقة وأُقِرَّت من قبل الهيئة العامة للمجلس في أواسط تشرين الأوّل من العام 2018 الحالي. تهدف الورقة إلى تحفيز النمو الاقتصادي العادل والمُستدام و تلحظ نقاطاً عديدة ذات أبعاد اجتماعيّة وتنموية. كما تأخذ بعين الاعتبار معالجة هموم الناس وتحقيق آمالهم وتطلّعاتهم لتأمين نمو مُستدام لاقتصاد حقيقي مُؤَنْسن يرتكز على الإنتاج أوّلاً وهذا يتطلَّب رزمة من الإصلاحات البنيويّة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والإدارية.


خُلاصة

يواجه لبنان حاليًّا تحدّيات ناجمة عن ضعف بنيوي في اقتصاده منها عدم وجود فرص عمل وعدم القدرة على توفيرها، والعجز المزدوج المتمثل بعجز الميزان الجاري وعجز الموازنة، إضافة إلى عجز كبير في الميزان التّجاري و ارتفاع حجم الديون الخاصة والالتزامات المترتّبة على القطاع الخاص (أسر، شركات). كلّ هذا بالإضافة إلى ثقل الدّين العام على الاقتصاد وعلى بنية الفوائد في السوق المحلّية، وضعف مستوى الخدمات العامّة. كما يعاني لبنان من تحديات ناجمة عن عوامل ظرفية مُتَمثّلة بأزمة النازحين السوريين والتراجع في قيمة التحويلات الماليّة والبطء في إنجاز المشاريع (استخراج النفط والغاز، الكهرباء، الخ). يواجه لبنان أيضا تحديات ناجمة عن غياب الحَوْكَمة منها عدم الالتزام بالقوانين والأنظمة، وضعف أجهزة الدولة وغياب هيبتها، وغياب دَوْر الهيئات الرّقابية. تدفع كلّ تلك التحديات إلى انخفاض نسبة النّمو الاقتصادي وارتفاع معدّلات البطالة.

المطلوب لتفعيل الاقتصاد وزيادة النمو خطوات من شأنها توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني وحجمه، بما يسمح بإعادة تكوين الطبقة المتوسّطة وتوزيع فرص العمل ومجالات الإنتاج على أكبر شريحة من المواطنين إضافة إلى تأمين شبكات أمان اجتماعي (ضمان اجتماعي، ضمان الشيخوخة، نظام تقاعد، إلخ.)

يشكّل إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته وزيادة فعاليته نقطة عبور إلى تحسين أداء مؤسسات الدولة، وضمانة للاستثمار المحلّي والاجنبي. المطلوب أيضا توفير البيئة الاستثمارية والبنية التمويلية، مع التنويع في سبل التمويل (توسيع نشاط بورصة بيروت)، وإشراك المواطنين في القاعدة الرأسمالية للقطاعات الاقتصادية. من المُهم أيضا الالتزام بالشراكة بين القطاعين العام والخاص والإسراع بإعداد المراسيم التطبيقية للقانون رقم 48 الصادر بتاريخ 7 أيلول 2017. من الضروري أيضا إزالة التعديات على الأملاك العامة وإدارتها بشكل فعّال لصالح الدولة، والحفاظ على التّراث الوطني واستثمار الموارد الطبيعيّة من أصول وموجودات لصالح الأجيال الحاضرة والمقبلة، من خلال إدارة شفّافة لصندوق سيادي بعد إنشائه.

معركة حطّين

مثلما يبزغُ ضوء النّهار من عتمة اللّيل الحالك، هكذا بزغ نجم صلاح الدّين الأيوبيّ من عتمة الحقبة التاريخيّة السالفة بكلّ آلامها وسوداويّتها، فكانت «معركة حطين» (في 4 تموز 1187) لؤلؤة انتصاراته، و«بداية النّهاية» للوجود الفَرنجي (الصّليبي) في هذه المنطقة.
إذ إنّ المكان الجغرافي يبقى مجرّد جغرافيا فقط إذا لم يكن هناك إنسان يُدخله التاريخ، هكذا هو الحال مع «حطين» التي كان للقائد صلاح الدين شرف إدخالها التاريخ من بابه العريض، فغدت بذلك «جغرافيا تاريخيّة» و«تاريخاً جغرافيّاً» بامتياز، وعلى هذا الأساس تبقى حِطّين دائماً أكبر من كلّ ما كُتب وما سيكتب عنها.
فلا تاريخ بلا جغرافيا، ولا جغرافيا بلا تاريخ، ولا تاريخ وجغرافيا بلا إنسان يعطي الجغرافيا أهميّتها التاريخيّة، ويعطي التاريخ أهميّته الجغرافيّة؛ بمعنى التّلازم الوثيق بين المكان والزّمان والإنسان. هكذا هي «حِطِّين» (كموقع جغرافي)، و4 تموز 1187 (كزمن تاريخيّ) وصلاح الدين (كإنسان قائد كبير).
ولعلّ المُستشرق البارز هاميلتون جيب كان مُصيباً في قوله: إنَّ «صلاح الدين الأيوبيّ نجح في كلّ ما نجح فيه ليس لأنّه استراتيجيّ عسكريّ باهر، أو سياسيّ تكتيكيّ ماهر، فقط، بل لأنّه تمسّك أولاً وأخيراً بالمُثُل الأخلاقيّة، وبضرورة لمّ الشمل وتوحيد الكَلِمة».
فماذا عن معركة حِطّين وقائدها صلاح الدّين؟ وماذا عن البُعد الاستراتيجي لها؟ وما الدروس والعِبَر المُستخْلَصَةُ منها على الصعيد الغربيّ، وعلى الصعيد العربيّ، وعلى الصعيد الإسرائيليّ الصهيونيّ؟
تُعْتَبر معركة حِطّين من أهمّ المعارك في التّاريخ التي أثارت اهتمام العالم الغربيّ والعربيّ والإسلاميّ، ولا تزال دروسها ومآثرُها جديرة بكلّ اهتمام.
فعندما تتفرّق الكلمة، تضعف المواقف، وتنهار القوى، وتتزعزع الإرادات، وتضيع الأوطان، وتُهان الهوية. وإذا توحدت، يحصل النقيض، وتحتفظ أيّة أمّة بكيانها وهيبتها وهويّتها، ولقد عرفت بلادنا العربية وأمتنا هذين النقيضين في القرن الحادي عشر للميلاد، لمّا كان كلّ حاكم عربي يغنّي على ليلاه، ولا يفكّر إلا بشخصه ومُلكه ونفوذه، بعيداً عن مصلحة الجماعة، في الوقت الذي توحّدت فيه قوى الغرب لشنّ حربها على الشرق بغية «انتزاع الأماكن المقدّسة من أيدي المسلمين».
لقد خيّم على بلادنا، في ظل أولئك الحكّام، جوٌّ من التّفرقة والتمزّق، بينما كان جوّ الوحدة يخيم على الغرب رغم كثير من الخلافات والعداوات بين ملوكه وأُمرائه، الذين أوجدوا قاسماً مشتركاً فيما بينهم ضدّ المسلمين والشرق.
تذرّع الفرنجة – الذين أُطلق عليهم اسم الصّليبييّن – بحججٍ وذرائعَ شتّى في سبيل الاستيلاء على بيت المقدس وانتزاعه من أيدي المسلمين. ولمّا كان للعامل الدينيّ أثره الأوّل والأساس في ذلك العصر، فقد كان لكلمة البابا أوربانوس الثاني ودعوته إلى تجنيد الجيوش لهذا الغرض، إضافة إلى دور الرّهبان والقساوسة ورجال الدّين المسيحيين، فقد كان لكلّ ذلك تأثيره المهمّ على سير الحملات التي عُرفت بـ «الصليبية» بدءاً من سنة 1096 ميلادي، مع أن العوامل الأخرى – غير الدينيّة – كانت لها أهميتّها الأولى غير الظاهرة. فوق كلّ ذلك، ورغم هذا الخطر الذي كان يهدد الأقطار العربية والإسلامية، إذ كانت هذه الأقطار موزّعة بين خلافتين: الخلافة الفاطميّة في مصر، والخلافة العباسيّة في بغداد…، أمّا الأندلس فقد كانت تتعيش حالة من التمزّق والانحدار نحو السقوط المتدرّج في عصر ملوك الطوائف وعموماً فقد كانت خلافة بغداد والقاهرة كلتاهما تعانيان من الوهن وتردّي السلطة وشيوع الفرقة ما يغري بالإغارة عليهما واستباحة حماهما، ولقد جاءت الغزوة الصليبيّة الأولى على الشرق العربي/الإسلامي سنة 1096، ونجحت في تكوين مملكة لاتينيّة في القدس بقيادة «غودفروا دي بويون» ابن كونت بولونيا، كما نجح الفرنجة فيما بعد بتأسيس عدد من الإمارات كإنطاكية والرّها وطرابلس.
انتشى الصليبيّون بنشوة النّصر، وتتالت غزواتهم، وما أن كانت الحملة الثالثة التي قادها ريتشارد الأول ملك إنكلترا، والملقّب «بقلب الأسد»، والى جانبه ملك فرنسا فيليب أوغست، حتى كانت الأمّة العربيّة والإسلامية تعيش وضعاً أفضل من زمن الغزو الأوّل (عام 1096) في ظلّ قائد شجاع، تمكّن من إدراك مكامن الضّعف والقوّة فوحّدها وانتشلها من الحضيض، وأعاد لها هيبتها الزاهية، ذلك هو صلاح الدين الأيوبيّ، الذي وجّه للصليبييِّن ضربة قاضية في معركة من أكبر معارك التاريخ الفاصلة؛ هي معركة حطين في 4 تموز 1187.

ولد يوسف بن نجم الدين أيوب (الذي حمل لقب صلاح الدين فيما بعد) في قلعة تكريت التي كان والده حاكماً عليها، وقد انتقل مع والده إلى الموصل على أثر خلاف بين الوالد وبين «بهروز» حاكم بغداد الفعلي تحت اسم خلافة عباسيّة صُوَرِيّة لادور لها، ودخل وأخوه شيركوه في خدمة عماد الدين زنكي حاكم الموصل، ولما شبَّ صلاح الدين انخرط أيضاً في خدمة هذا الحاكم العظيم.
كان صلاح الدين من القادة الموهوبين عسكريّاً، ذا شخصية فذّة، وإرادة قويّة، ومعرفة في فنون الحرب والسياسة، وكان ذا خُلق متين، يتميّز بإنسانيّة ونبل، قلَّ أن وُجدت في تلك الفترة التي عاش فيها، وقد نال إعجاب خصومه وأعدائه وتقديرهم قبل أصدقائه، وإنّ أفضل حُكْمٍ ما نطقت به الأعداء قبل الأصدقاء – كما يقولون-.
كان صلاح الدين الأيوبي يصحب عمّه في غزواته ويتولّى قيادة قسم من الجيش، ويُبلي البلاء الحسن. وكانت له وقائع مشهورة في تلك السنّ المبكرة، وخاصة بما وُفِّق فيه من دفع الصليبييّن عن الاسكندرية في إحدى غاراتهم البحرية.
ولم تكن ناحية القيادة وحدها هي التي لفتت الأنظار إلى صلاح الدين، بل إنّ شجاعته وإقدامه وآدابه وحسن معاملته للأهالي قد جعلت له منزلة محمودة، فقال في ذلك أحد المؤرخين:
«والذي أدهش المسيحييّن من أمر صلاح الدين هو مروءتُه وشهامته وكرامته وكرمه وحلمه ومحافظته على العهود» ففي تلك الفترة كانت مصر تتخبّط في حالة من الفوضى والاضطراب لا توصف، فدفع إليها نور الدين زنكي جيشاً لإنقاذها بقيادة أسد الدّين شيركوه، وكان صلاح الدين في عداده، وقد اشتبك هذا الجيش عدّة اشتباكات مع الصليبييّن في غزوتين، أمّا في الغزوة الثالثة فقد استولى شيركوه على مصر بدون دماء، وخلع عليه العاضد، آخر خليفة فاطمي (وكان هذا في حالة من الضعف والمرض لاحول له ولا طول)؛ بالوزارةَ لمباشرة مهام الأمور فيها.
وعلى أثر موت شيركوه، لم يعد يصلح للوزارة في مصر غير صلاح الدين، فصدر إليه أمر الخليفة الفاطمي في 23 آذار / مارس / سنة 1169، وقد جاء فيه: «هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجة عند الله لديك، فأوفِ بعهدك وخذ كتاب أمير المؤمنين بيدك». وكان اللقب الذي عُرف به صلاح الدّين: «الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدّنيا والدين يوسف بن أيوب».
ولم يكن صلاح الدّين حين قُلِّد الوزارة أربى على الثانية والعشرين من عمره، ولكنه عمرٌ حافلٌ بخبرة الحرب والقيادة والإدارة، وقد استطاع بحنكته أن يظفر بحبّ المصريين، وألّا يفقد ثقة سيّده في الشام والعراق نور الدين زنكي.رغم دبيب الرّيب بينهما.
ولعب القَدَرُ دوره إلى جانب صلاح الدين، عندما تُوفّي نور الدين زنكي والخليفة الفاطمي العاضد وآموري ملك القدس، فخلا له الجو وأصبح السيّد المطلق في مصر، والقائد الأقوى بين جميع قادة المسلمين آنذاك، فراح يجمع الصفوف ويحشد القوى ويستعدّ للذّود عن حياض العروبة والإسلام. وكان أمله الكبير يتمثّل في توحيد مصر وسورية وفلسطين. وبذلك وحده يمكن إنقاذ البلاد ودفع الخطر الصليبيّ عنها.
بلغت قوة صلاح الدين ذروتها، مما دفع الصليبيين إلى أن يعقدوا معه هدنة مدّتها أربع سنوات بدءاً من عام 1185. إلا أن سياسة «أرناط» الصّليبيّ صاحب حصن الكرك وانقضاضه على قافلة للمسلمين أثناء سيرها من القاهرة إلى دمشق، عام 1187م كانت سبباً مباشراً في خرق الهدنة وإعلان الحرب،فكانت «معركة حِطّين» هي الفاصل الرّئيس بين استمراريّة التهديد بالتوسّع الصليبيّ في المنطقة ، وبين حياة التخلّص من ذلك الكابوس المُذل…
والحقيقة أنّ صلاح الدين كان قد فرغ من إحياء الجبهة الإسلامية المتّحدة بعد أن دانت له الموصل بالطاعة، واستطاع توحيد مصر والشام والعراق والجزيرة، الأمر الذي جعل الفرنجة في فلسطين مطوّقين من الشمال والجنوب والشرق، وزاد من سوء وضع مملكة الفرنجة في بيت المقدس، اضطراب أوضاعها الداخلية نتيجة لوفاة ملكها المريض «بغدوين الرابع»، وقيام ملك قاصر هو «بغدوين الخامس» الذي لم يلبث أن توفي هو الآخر ممّا أدى إلى سلسلة من المؤامرات الداخليّة بين الفرنجة انتهت بتنصيب «غي لوسينيان» على عرش المملكة الصليبيّة سنة 1186 م، وكان غي هذا رجلاً ضعيفاً لم يستطع أن يحظى باحترام أمراء دولته وعلى رأسهم «أرناط» صاحب حصن الكرك، ‎الذي لم يشأ أن يترك الفرنجة في فلسطين ينعمون بفرصة الهدنة لتصفية خلافاتهم الداخليّة، واختار أن ينقضّ على قافلة المسلمين تلك التي أُشير إليها، فعجّل بالمعركة الحتمية بين صلاح الدين والفرنجة برفضه إطلاق سراح أسرى رجال هذه القافلة، ولما اتضح لصلاح الدين عجز الملك «غي لوسينيان» عن ردع «أرناط» وإجباره على ردّ الأسرى لم يعد أمامه إلا القتال؛ فقام بحركة تعبئة شاملة لقواته التي أخذت تتوافد عليه من مصر وحلب والجزيرة وديار بكر، ولمّا اكتملت قواته خرج على رأسها من دمشق في آذار 1187 ليهاجم حِصْنَيِّ الكرك والشّوبك، فاصطدم بالفرنجة عند صفوريّة في موقعة سقط فيها معظم أفراد جيشهم بين قتلى وأسرى، في حين عَدّ المسلمون هذا النصر «باكورة البركات».

أمّا الصليبيون فقد ثابوا إلى رشدهم بعد هذه الهزيمة التي حلّت بهم، فوحّدوا صفوفهم، وحاولوا أن يتناسَوْا خلافاتهم، وحشدوا قواتهم عند صفوريّة، وهنا ظهرت براعة صلاح الدّين العسكريّة مستفيداً من دروس أسلافه القادة العرب، فقرّر ألّا يتقدم نحو الصليبييِّن لمنازلتهم، واختار أن يستدرجهم ليسيروا نحوه فيصلوا إليه مُنْهَكين من طول الطريق وحرارة الجوّ وقلّة الماء، ولذلك بادر صلاح الدين بمهاجمة مدينة طبريّة وإحراقها – وكانت في أيدي الفرنجة – الأمر الذي استثارهم فزحفوا لتخليصها في ظروف قاسية. وكان صلاح الدين ورجاله ينتظرونهم قرب طبريّة ناعمين بالماء الوفير والظلّ المديد، مدّخرين قواهم لساعة الصفر، وعندما سمع صلاح الدين بأن الصّليبييِّن شرعوا في الزّحف إليه، تقدّم على رأس رجاله نحواً من خمسة أميال ليرابط غربيّ طبرية عند قرية حطّين، الواقعة في منطقة غنيّة بالمرعى وفيرة الماء، بها قبر النبي شُعَيب، وكان ذلك في تمّوز 1187، في يوم راكد الهواء، شديد الحرارة، بلغ فيه الفرنجة «سطح جبل طبرية» المشرف على سهل حطّين، وهي منطقة على شكل هضبة ترتفع عن سطح البحر أكثر من 300 مترٍ ولها قِمّتان أشبه بالقرنين، ممّا جعل العرب يُطلقون عليها اسم «قرون حِطين». وقد حرص صلاح الدين على أن يقف رجاله بحيث يحولون بين الفرنجة والوصول إلى ماء بحيرة طبرية في وقت «اشتد بهم العطش»، ثم أمر صلاح الدين بإشعال النار والأعشاب والأشواك التي تكسو الهضبة، وكانت الرّيح تهبُّ باتجاه الفرنجة، فحملت حرّ النار والدّخان إليهم، فاجتمع عليهم العطش، وحرّ الزّمان، وحرّ النار، والدّخان وحرّ القتال» على حد قول ابن الأثير.
وعندما أشرقت شمس يوم السبت، الرّابع من تموز 1187، اكتشف الفرنجة أنَّ صلاح الدين استغلَّ ستار الليل ليضرب نطاقاً حولهم حتى أحاطت بهم قواته «إحاطة الدائرة بقطرها». وبذلك بدأ الهجوم الشّامل على الفرنجة وهم في أسوأ الظروف فأخذتهم سهام المسلمين، وكَثُر فيهم الجراح وقوي الحرّ وسامهم العطش الفرار» حسب قول المؤرخ ابن واصل.
وقاتل الجيش الفرنجي ببسالة لا نظير لها متحمّلاً عطشه ونار خصمه، لكنّ هجمات المسلمين ظلت تتكرّر دون أن تترك للعدو مجالاً لالتقاط أنفاسه فانهزم مشاتُه، أمَّا فرسانه فقد لاذ قسم منهم بالفرار مُخترقاً صفوف المسلمين بقيادة «ريموند» أمير طرابلس، وارتدّ قسم آخر نحو تلّ حطين حيث نُصبت خيمة الملك «غي» والتفّ حولها نحو ماية وخمسين فارساً يدفعون المسلمين عنها، وأدرك صلاح الدّين أنّ هزيمة الصليبيين تتم ساعة تُدَكّ خيمة مليكهم، فأرسل إلى تلك الخيمة وحاميتها موجة من الجند المهاجم إثر موجة، حتى رآها تُدَكّ، ويقع الملك «غي» وسائر الأمراء والفرسان الصليبييِّن، وفي مقدمتهم «رينو دي شاتيّون» المعروف عند العرب بـ«أرناط» (صاحب حصن الكرك)، كلّهم وقعوا أسرى بين أيدي الجنود المسلمين، وقد سيقوا مع غيرهم من أكابر الفرنجة (خاصة جيرار مقدّم فرسان الدّاوية) الى صلاح الدين في مخيّمه، فأحسن استقبالَهم وأمر لهم بالماء المثلّج ليرووا ظمأهم، لكنّه قطع رأس «أرناط» بسيفه تنفيذاً لوعد قطعه على نفسه إذا وقع هذا الأميرُ في قبضته، وذلك لخيانته الميثاق الذي كان قد سبق وارتبط به معه، ولجرائمه السابقة في قتل الأسرى، وكان صلاح الدين قد ذكّر ‎أرناط بجرائمه وقرَّعه بذنوبه وعدّد عليه غَدراته.

ويختلف المؤرّخون في تقدير عدد قتلى الصليبييِّن وأسراهم في هذه الوقعة حيث ذكر بعضهم «إنَّ عدد قتلاهم كان اثنين وعشرين ألفاً، وذكر آخرون أنّه كان خمسين ألفاً». كما ذكر أنّ المسلمين قتلوا ثلاثين ألفاً وأسروا مثلها، لكنّ أدقّ وصف يمكن اعتماده في هذا المجال هو قول المؤرخ ابن الأثير: «وكثر القتل والأسر فيهم، فكان من يرى القتلى لا يظن أنهم أسروا واحداً، ومن يرى الأسرى لا يظن أنهم قتلوا واحداً، وكذلك قال المؤرخ «أبو شامة» في كتابه «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين».
في الواقع، لقد أثبت صلاح الدين الأيوبيّ أنّه ليس هناك سلام بغير قوّة، وأن احتلال الأراضي لا يقضي على الأمم، ولكن الذي يقضي عليها هو احتلال إرادتها، وليس بعدد السنوات يُقاس عمر الشعوب والأوطان… (وقد استردّ صلاح الدين بيت المقدس بعد نحو 90 سنة على احتلال الصليبييّن لها). ولكن، ماذا أدخل صلاح الدين في القاموس العسكريّ من مصطلحات جديدة من خلال معركة حطين؟ وما الأهمية الكامنة فيها؟

أولاً: كرّس بما لا يقبل الشّكَّ تأثير العوامل الجغرافيّة وتضاريس الأرض على سير المعارك والحروب، والرَّبط والدمج بين الجغرافيا والحرب في العلم العسكريّ.

ثانياً: استخدم استراتيجيّات جديدة سبق الغرب الأوروبيُّ (والأميركي فيما بعد) فيها بأكثر من 800 سنة (كاستراتيجية الحرب الاستباقيّة (أو الوقائيّة) + واستراتيجيّة الأرض المحروقة، قبل الروس والألمان (والأميركييّن فيما بعد) + واستراتيجيّة «السلاح الكيماوي» البدائي الممثل بحرائق الأشجار والأعشاب الجافّة + استخدام «سلاح التعطيش» ضد الصليبييِّن و«طمر الينابيع» وتدمير صهاريج المياه وتلويث الآبار فأصبح أعداؤه بين حرَّين، وهم عطشى: حرّ النار وحرّ الصيف. يضاف إلى ذلك «سلاح الاستدراج» الذي استخدمه صلاح الدين ضد أعدائه، إلى المكان الذي اختاره هو، وفق استراتيجيّة السيطرة على الموارد المائيّة والزراعيّة)… وصولاً إلى توصية هامّة تقول: وكم من أرض قتلت جاهلها فعلاً.

ثالثاً: لم يتفرّد صلاح الدين برأيه وموقفه الشّخصيّ في معاركه – ومن بينها معركة حطين بالطبع-، بل كانت استشارته لمعاونيه ومساعديه (المستشارين) ذوي الخبرة في الشؤون الجغرافيّة والمسالك والبحر من أهم العوامل المساهمة في الانتصار أيضاً … ولعلّ أشهرهم كان القاضي الفاضل…

رابعاً: إنّ هذه السياسة العسكريّة التي اتبعها القائد صلاح الدين كانت نتيجة «المدرسة العسكرية الصلاحيّة النوريّة» حيث من هذه المدرسة تخرّج أيضاً العادل والكامل والمظفّر الذين انتهجوا «استراتيجية المياه» (التعطيش + طمر الآبار + تلويثها وتسميمها + إغراق الأراضي بالمياه لتصبح مستنقعات موحلة تعيق تحركات العدوّ العسكرية). بالإضافة إلى «استراتيجيّة الاستدراج» + وسلاح طوبوغرافية الأرض + والمناخ والأمطار والحرارة + واستراتيجية تخريب وتدمير (وفق سياسة «الأرض المحروقة» المعروفة اليوم) + وحرق الأعشاب والغابات لإنتاج الدّخان الخانق (كسلاح كيماوي طبيعي…)…


في ضوء ذلك، نتساءل: ماذا أفرزت معركة حطّين من نتائج ذات طابع استراتيجي غربياً وعربياً وإسرائيلياً؟ وما هي العبرة المركزية منها على مختلف الصّعد؟

على الصعيد الغربي:

أولاً: إدراك القوى الغربيّة ذات الطابع الاستعماري العنصري لأهمية الموقع الجغرافي (الجيو-سياسي والاستراتيجي) للمنطقة العربية بين القارات الثلاث: آسيا وأوروبا وأفريقيا، فضلاً عمّا تزخر به من طاقات بشريّة وطبيعيّة دفينة تشكل خطراً داهماً في وجه القوى الدولية إذا امتلكها شعب هذه المنطقة وتحكّم بها، إضافة إلى ما تتميّز به على صعيد الممرّات المائية والبحار والمضائق كعصب مهم جداً مستقبلاً.

ثانياً: شكلت «حروب الفرنجة» (المعروفة بالحروب الصليبيّة) رأس الحربة للغرب ضد هذه المنطقة تحت حجج وذرائع شتّى. وهذه الحروب هي ذاتها التي أفرزت أخطر وأقدم وصيّة لضرب العرب والمسلمين منذ نحو ثمانية قرون، ولا تزال تُدَرَّس في الغرب، وهي المتمثّلة بوصيّة الملك الفرنسي لويس التاسع (قائد الحملة الصليبيّة إلى مصر وقد اعتُقِل على أثرها وسجن بين جدران دار ابن لقمان لمدّة شهر كامل في جزيرة الورد عام 1250)، حيث قال فيها – بعد تأمّل وتفكير عميقين – موجّهاً كلامه إلى الغربيين: «إذا أردتم أن تهزموا العرب والمسلمين فلا تقاتلوهم بالسّلاح وحده. فقد هُزِمتم أمامهم في معركة السّلاح. ولكن حاربوهم في عقيدتهم ووحدتهم، فهي مكمن القوّة فيهم»…
هذا، وقد شكّلت هذه الوصيّة أخطر وثيقة في هذا الاتجاه (وهي محفوظة في دار الوثائق القوميّة في باريس)، وهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عمليّة التبشير والاستشراق.
كما أوصى في نهايتها بضرورة «العمل على قيام دولة غريبة في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً، وأنطاكيا شمالاً، ثمّ تتجه شرقاً وتمتد حتى تصل إلى الغرب»…

ثالثاً: على أساس وصيّة الملك لويس التاسع وأهميّة المنطقة العربيّة في مشروع الشرق الأوسط، كان مؤتمر «كامبل بنرمان» (رئيس الوزراء البريطاني) عام 1905، الذي دعا إليه كبار المفكّرين والاستراتيجيين الغربييّن، طارحاً عليهم السؤال الوحيد وهو: «ما هي الوسائل الكفيلة بتأخير سقوط الامبراطوريات الاستعماريّة، كي لا تنهار مثلما انهارت امبراطوريتا الإغريق والرومان؟». وبعد عامين على هذا المؤتمر صدر التقرير الذي عُرف فيما بعد بـ «تقرير كامبل بنرمان» (عام 1907) حيث جاء فيه إنّ من يسيطر على منطقة شرقي البحر الأبيض المتوسّط، يستطيع التحكّم في العالم. حيث في هذه المنطقة يتواجد شعب واحد، تتوفر عنده كلّ مقومات الأمّة والقومية، وفي أرضه ثروات هائلة تشكّل عصب حياة الغرب والغربييِّن، وهي بالنّسبة لهذا الشعب بمثابة «روحه»، ويجب على الغرب التحكّم بهذه الروح والسيطرة عليها. كما يجب العمل على إبقاء هذا الشعب بحالة من التمزّق والتّفرقة والتقسيم والقتال الدّاخلي.. وكانت التّوصية الأخيرة في تقرير بنرمان هذا شبيهة تماماً لوصيّة الملك لويس التاسع، حيث تقول: «يجب العمل بكل الإمكانات لخلق حاجز بشري قوي وغريب، يفصل الجزء الآسيويّ عن الجزء الأفريقيّ في المنطقة العربيّة، عدوّ لسكان المنطقة، وحليف للغرب»… وبعد أربعين عاماً كانت ولادة «إسرائيل» في هذه المنطقة المحدّدة بالضبط، وحقيقة الأمر أنه على أساس ذلك، كانت اتّفاقية سايكس -بيكو (1916)، ووعد بلفور(1917)، ومؤتمر فرساي (1919)، ومؤتمر سان ريمو (في إيطاليا 1920) الذي وزّع الانتدابات على الدّول العربيّة وكانت فلسطين من حصّة بريطانيا تمهيداً لقيام «الوطن القومي اليهودي» فيها. والغرابة «أنّ قلّة بسيطة في الوطن العربي تعرف بأن اتفاقية سايكس-بيكو كانت صهيونية مئة بالمئة» ولو كانت الواجهة لها بريطانيّة فرنسيّة.. وكذلك الحال بالنسبة لوعد بلفور البريطاني عام 1917، حيث يجهل الكثيرون من أبناء العرب والمسلمين, أنّ وعداً فرنسيّاً أعطي لليهود الصهيونييّن في باريس (هو وعد جولز كامبو) قبل خمسة أشهر من وعد بلفور البريطانيّ (وتحديداً في حزيران 1917) رفعه كامبو ‎إلى سوكولوف بعد اجتماعات عدّة حضرها رئيس الوزراء الفرنسي يومها (ريبو)، حيث كان كامبو يومها السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة، في الوقت الذي كان فيه ناحوم سوكولوف، ممثّل الحركة الصهيونيّة في فرنسا…

وهكذا، في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 1917، نشرت الحكومة الفرنسية الرّسالة- الوعد التي أرسلتها إلى ممثل الحركة الصهيونيّة في فرنسا، وفيها إعلان صريح من جانب الحكومة الفرنسيّة عن عطفها على المخطط الصهيونيّ، والرسالة موقّعة من قبل السكرتير العام لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة كامبو، جاء فيها:
«لقد تفضّلتم بتقديم المشروع الذي تكرّسون جهودكم له، والذي يهدف إلى تنمية الاستعمار اليهودي في فلسطين. إنّكم ترَوْن أنّه إذا سمحت الظّروف من ناحية، وإذا توافر ضمان استقلال الأماكن المقدّسة من ناحية أخرى، فإنَّ المساعدة التي تقدّمها الدّول المتحالفة من أجل بعث القوميّة اليهوديّة في تلك البلاد التي نُفِيَ منها شعب إسرائيل منذ قرون عديدة، ستكون عملاً ينطوي على العدالة والتعويض».
وتضيف الرّسالة: «إنّ الحكومة الفرنسيّة التي دخلت هذه الحرب الحاليّة، للدفاع عن شعب هوجم ظلماً والتي لا تزال تواصل النّضال لضمان انتصار الحقّ على القوة، لا يسعُها إلّا أن تشعر بالعطف على قضيَّتكم التي يرتبط انتصارها بانتصار الحلفاء، إنَّني سعيد لإعطائك مثل هذا التأكيد».
وقليلون جداً في الوطن العربي هم الذين أدركوا صهيونيّة مارك سايكس وجورج بيكو، كما يعترف كريستوفر (ابن مارك سايكس) بصراحة في كتابه الذي صدر عام 1953، ويتناول فيه ريتشارد سبثورب أحد رجال الكنيسة في القرن الماضي، كما تتناول دارسته الأخرى حياة والده مارك (وعنوان كتابه هذا: دارسة مأثرتين) حيث يقول عن والده في جهوده نحو الصهيونيَّة «كان قد اعتنق الصهيونيّة سنة 1915» (أي قبل توقيع المعاهدة بسنة واحدة) اعتناقاً لم يَدْرِ به العرب، وكانت مساعيه من أقوى العوامل في حصول اليهود على وعد بلفور.
كذلك الحال بالنسبة للرَّئيس ويلسون الأميركي صاحب المبادئ الأربعة عشر المتضمِّنة حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، فإنّه لعب دوره الخطير إلى جانب الوطن القومي اليهودي من خلال وعد بلفور وهو الذي قال عن اتفاق سايكس بيكو إنّه ظاهرة من ظواهر الاستعمار وعمل مناقض لحقِّ الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، وعن طريق المفاوضات التي جرت بين بريطانيا وأميركا بصدد وعد بلفور والنص الذي يجب أن يصدر به كان للرئيس ويلسون دوره الأول في اختيار الكلمات التي تضمّنها هذا التصريح حيث انتقاها كلمة كلمة، فأتت بما هو معروف اليوم بوعد بلفور وبشكل كتاب رسمي موجّه من بلفور وزير الخارجية البريطانية إلى اللورد روتشيلد الصهيوني، وقد تلقّى ويلسون رئيس الولايات المتحدة من لويد جورج ومن وايزمن نصَّ ما اتُّفق عليه من عبارات وعد بلفور فوافق على ذلك وباركه قبل أن يصدر الوعد رسميّاً في 2 ت2 سنة 1917. وعلى هذا الأساس، كانت أميركا الدّولة الأولى التي اعترفت «بقيام إسرائيل» فور إعلان دافيد بن غوريون عن قيامها 1948. وكذلك كان حال أوّل مندوب سامٍ بريطاني على فلسطين عام 1920، الصهيوني هربرت صموئيل، تمهيداً لقيام هذه الدولة على أرض فلسطين العربيّة تنفيذاً لوصيّة الملك الصليبي لويس التاسع عام 1250، وتقرير كامبل بنرمان 1907… ولقد قال حاييم وايزمن عن هربرت صموئيل: إنه صموئيلنا. نحن عيّنَّاه في هذا المنصب…

رابعاً: أَلَمْ يقُل الجنرال غورو الفرنسيّ أمام قبر صلاح الدّين الأيوبي في دمشق (بعد معركة ميسلون) عام 1925: ها نحن عدنا يا صلاح الدين؟ وكذلك فعل الجنرال اللّنبي حين دخل فلسطين والقدس بعد الحرب العالميّة الأولى ومطلع عهد الإنتداب؟
خامساً: أَلَيْسَ مشروع المستشرق الأميركي برنارد لويس اليوم حول تقسيم الشرق الأوسط بموافقة الكونغرس الأميركي بالإجماع، الدليل الحيّ للحفاظ على أمن وسلامة إسرائيل في المنطقة، والانتقام من معركة حطين وقائدها صلاح الدين الأيوبي في القدس وتهويدها؟

على الصعيد العربي:

أولاً: كان قيام دولة الاحتلال الصهيونيّ على أرض فلسطين العربيّة سنة 1948، ردّاً صليبيّاً جديداً على معركة حطِّين وقائدها الأيوبيّ، واستمراراً للحروب الصليبيّة ومُكَمّلاً لها…
ثانياً: العمل بكلّ الجهود الغربيّة والصهيونيّة على جعل فلسطين «دولة يهوديّة» وتهويد القدس ردَّاً على «مملكة القدس الصليبيّة»… والإبقاء على الشعب العربي والدّول العربيّة في حالة انقسام وتمزّق وتفتيت وخلاف، ليسهل على «إسرائيل» التحكّم بمقاليد الأمور.
ثالثاً: أعادت حرب تشرين الأول 1973 الرّوح إلى معركة حطين… وكان توحيد الجبهة السوريّة المصريّة بقيادة الرئيس حافظ الأسد والرّئيس أنور السادات هو التَّجسيد الحيّ للوحدة السوريّة المصريّة التي أفرزت الانتصار في معركة حطّين… وهذا هو الدرس الهامُّ من «الوحدة السياسيّة والعسكريّة» حيث يستبسل الجنديُّ العربي عندما يتوفّر له القرار السياسيّ بالقتال… وكان من الممكن أن يلاقي الإسرائيليّون نفس الهزيمة الصليبيّة في حطّين، وقد عاشوا حالة الهزيمة هذه بتفاصيلها الدقيقة لولا الجسر الجوّي الأميركي الذي أنقذ أسرائيل من نهاية قاسية… وبدأت التفكير باستخدام السلاح النّووي…
رابعاً: هذا، وفي ذكرى مرور ثمانية قرون على معركة حطين احتفلت القاهرة بهذه الذكرى عبر ندوة فكريّة مهمّة بدعوة من منظّمة تضامن الشعوب الآسيويّة والأفريقيّة تحت عنوان «حطين صلاح الدين ومستقبل العمل العربيّ الموحّد»، شارك فيها عدد كبير من الباحثين والمفكّرين العرب والأجانب، وقد أشرف على التحضير لها أحمد حمروش رئيس اللجنة المصريّة للتضامن من الآسيوي الأفريقي، وعبد المجيد فريد رئيس مركز الدّراسات العربيّة في لندن (شارك فيها: شيخ الأزهر الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وبابا الاسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسيّة البابا شنودة الثالث والكاتب الكبير محمّد حسنين هيكل وعبد الرحمن الشرقاوي وأحمد شوقي ود. عبد العال الصكبان ود. محمّد حسن الزيّات ود. قاسم عبده قاسم…).

على الصعيد الإسرائيلي الصهيوني:

من هذا المنطلق، ليس صدفةً أبداً أن تعمد القيادات الإسرائيلية وبمناسبة مرور 800 عام على معركة حطين، إلى إعداد احتفال أقامته أكاديميّة العلوم التاريخية في تل أبيب: دعت إليه عدداً كبيراً من المؤرخين والأساتذة والباحثين من شتى أنحاء العالم. وهذا نموذج يدلّ على مدى الوعي الصهيوني بأهميّة استخدام التاريخ ضمن أسلحة الصّراع ضد العرب. كذلك كان طبيعيّاً أن يطرح الصهاينة سؤالهم عن الأسباب التي دفعت الصّليبييِّن إلى الجلاء عن بيت المقدس بعد حوالي قرنين من الزمن، كي يتلافَوْا هم، نفس المصير الذي لاقاه الصليبيّون في ذات البلاد التي اغتصبوها باسمهم ضمن عملية الثأر التاريخي. حيث إنّ المكوّنات الأساسيّة بين الحركة الصليبيّة والحركة الصهيونيّة متشابهة.
وقد اكتشف الإسرائيليّون أنّ الصليبييِّن هُزموا وجَلَوْا عن هذه البلاد بسبب الخلافات بين أُمرائهم من جهة، وانقطاع الروابط بينهم وبين القوى التي تزوّدهم بالمال والسلاح وأسباب البقاء، لذلك تعلّمت إسرائيل الدرس وعملت – وتعمل – على إبقاء الروابط الخارجيّة وتدعيمها، ولهذا تشترك في برنامج حرب النجوم الأميركي واتفاقيّة منظَّمة التجارة الحُرّة وتسعى للانضمام إلى الحلف الأطلسيّ… كما يقوم الكيان الصهيونيّ بدرس المستوطنات الصليبيّة بمنظور معاصر ليحاول من خلالها فهم المشكلات التي أدّت إلى فشل الكيان الصليبيّ باعتباره كياناً دخيلاً…

خلاصة عامّة:

في الواقع، إنّ معركة حطّين بالنّسبة إلى الفرنجة كانت أضخم من كارثة حربيّة لأنّه لم ينتج عنها أسر ملكهم وضياع هيبة مملكتهم وسلطتها الفعليّة في فلسطين وحسب، وإنّما نتج عنها نقص واضح في الفرسان المحاربين، بعد أن سقط زهرة فرسانهم بين قتيل وأسير، وهكذا غدت فلسطين عقب معركة حطين في متناول قبضة صلاح الدين، فشرع يفتح البلاد والمدن والثغور الصليبيَّة واحداً بعد آخر، حتى توّج جهاده بتحرير بيت المقدس في سنة 1187، وتابع فتوحاته نحو بيروت حيث كان التنوخيّون الموحّدون في إمارتهم إلى جانبه بقيادة الأمير حِجى وبعد فتحها لمس صلاح الدين رأس حجى قائلاً له «ها نحن أخذنا بثأر آبائك فاطمئِنّ»، ثمّ أقطعه المقاطعات التي كانت لآبائه باستثناء بيروت.
هذا، ولا بدَّ من الإشارة إلى أهمّيّة بيت المقدس في نظر صلاح الدين الأيوبيّ والمسلمين قاطبة، عندما ردّ على الملك الإنكليزي، ريتشارد قلب الأسد أثناء المفاوضات بينهما قائلاً له بشكل قاطع: «أمّا القدس فهو لنا كما هو لكم، وهو عندنا أعظم ممّا عندكم. ففيه مسرى نبيِّنا ومجمعُ الملائكة… فلا تتصوّر أنّنا ننزل عنه! أمّا البلاد فهي لنا في الأصل، واستيلاؤكم عليها كان طارئاً لضعف من كان فيها من المسلمين في ذلك الحين».
فهذه هي رسالة صلاح الدين الأيوبيّ، قبل ثمانمئة وثلاثين عاماً تقريباً. وهي رسالة صالحة لأيّامنا هذه رغم مرور هذه المدّة من‎ الزّمن… ونقول: ما أشبه اللّيلةَ بالبارحة… بمعنى: أنَّ بلاد العرب للعرب وحدَهم وأنّ وجود الصهيونييِّن ظاهرة شاذَّة كوجود الصليبييِّن بالأمس.
وهدف الرسالة هو توحيد الصّفوف وجمع كلمة العرب لكي نفوّت الفرصة على الصهيونيّة ومن ورائها الاستعمار، ويُقضى على كلّ نفوذ أجنبي القضاء النهائي.
ويبقى أخيراً سؤالُنا الكبير: متى يستفيق العرب، ومتى يتعلّمون الدّرس والعِبرة من معركة حطِّين، وصلاح الدين الأيوبيّ ويجسّدونها عملياً على الجغرافيا نفسها لتخدم التاريخ نفسه؟ مع إيماننا العميق بأنّ الأمّة التي أنجبت صلاح الدّين الأيوبيّ قادرة على أن تأتي بأمثاله… ونحن شعب محكومٌ بالأمل شرط ألّا يدبّ اليأس والإحباط إلى القلوب والإرادات…


المراجع:

1- ابن الأثير «الكامل في التاريخ»، القاهرة 1303هـ. ‎
2- أبو شامة «أزهار الرّوضتين في أخبار الدّولتين»، القاهرة 1287 هـ.
3- الموسوعة العسكريّة. الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 1981، ص 821-822.
4- الموسوعة الفلسطينية / أنيس صايغ / دمشق 1984، ص 249-250.
5- صبحي عبد الحميد «معارك العرب الحاسمة»، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، طبعة ثانية 1980، ص 112-130.
6- السيد فرج «أدهى رجال الحرب في الشرق والغرب»، مطبوعات دار الشعب، القاهرة، 1970، ص 119-131.
7- خالد الفيشاوي «800 عام على حطّين، صلاح الدين الأيوبي والعمل العربي الموحد» مجلّة «الفكر الاستراتيجي العربي»، العددان 21-22 تموز – تشرين الأول 1987، ص 295-204.
8- مجلّة «المنابر» البيروتية.
9- مجلّة «الجيل» (قبرص)، العدد 9 أيلول 1987. ص 90-97. وهاميلتون جيب «التيارات الحديثة في الإسلام» (Modern Frends of Islam) («الجيل»، المرجع السابق، ص 72).
10- قدري قلعجي «صلاح الدين الأيوبي»، دار الكاتب العربي، بيروت، 1966.
11- السير هاملتون جيب «صلاح الدين الأيوبي»، دراسات في التاريخ الإسلامي»، حرّرها يوسف إيبش، المؤسسة العربية ‎ ‏للدراسات والنشر، بيروت، 1966.
12- إرنست باركر «الحروب الصليبيّة» تعريب الدكتور السيد الباز العريني، بيروت، دار النهضة العربية 1967، ص 180 -182.‎ ‏ ‎

اخلاقيات الاعلام في لبنان بين الممارسة و التنظيم

عندما تنوي الحديث عن واقع أخلاقيات الإعلام، أول ما يستوقفك مشهد الناس في المقاهي والتجمعات ووسائل النقل وصالات الانتظار والاماكن الاخرى، وهم منهمكون بحواسيبهم وهواتفهم النقّالة، غير آبه اي فرد منهم بمن وما يحيط به، وتصدمك من ناحية ثانية، اجابة “لا اعرف “على سؤال “ما هي الاخلاق؟” لبومهارت، أحد علماء الاجتماع، من قبل مجموعة وازنة من أبرز اصحاب المؤسسات المختلفة ورجال الاعمال المعاصرين (1).
يدفع هذا المشهد الاتصالي وهذه الاجابة عن الاخلاق الى مراجعة نقدية لمحدّدات وتعريفات ومبادئ الاخلاق والاعلام او ما يعرف بأخلاقيات الاعلام، ومقاربة هذه المفاهيم والمحدّدات مع الواقع الاعلامي في لبنان ومدى التزامه بالاخلاقيات المنصوص عنها او المتعارف عليها، والتعرّف على الاسباب الكامنة وراء الانتهاكات المفترضة لاخلاقيات الاعلام، ومحاولة تصويب وتوضيح بعض النقاط الملتبسة وايجاد بعض الافكار التي قد تفيد او تساهم على الاقل، في تخفيف حدة هذه الانتهاكات.
ان الغاية من اخلاقيات الاعلام في اي مكان، هي حماية المجتمع وكذلك المؤسسات الاعلامية والعاملين في المجال الاعلامي من الانحراف والممارسات غير الاخلاقية (تجاوز آداب الكلام والملابس)، وذلك من خلال وضع ضوابط وقواعد ومعايير اخلاقية لسلوك المؤسسات الاعلامية وشروط ممارسة اعمالها. وهذه الشروط والمعايير تشكل جزءا من الفكر والوعي الاخلاقي(2)، الذي تسترشد المؤسسات الاعلامية به اثناء قيامها بعملها وممارستها لدورها، ويقيّم السلوك الاخلاقي للمؤسسة الاعلامية بمقارنة وعيها الاخلاقي مع ادائها وواقعها العملي.

 يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان حوالي اربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني
يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان حوالي اربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني

الوعي الاخلاقي للاعلام اللبناني
( مبادئ وافكار ومواثيق اخلاقية)
ان اخلاقيات الاعلام هي مجموعة اخلاق اعلامية جامعة، متنوعة ومتفاعلة ضمن مكوّن الاخلاقيات، وتتضمن اخلاقا اعلامية عامة (النزاهة والصدق والامانة والاخلاص..) ومبادئ مهنية لا يمكن فصلها عن الاخلاقيات مثل الموضوعية، المسؤولية، الاستقلالية، الجرأة … وعدم التفريط بحق الاعلام كسلطة رابعة في مراقبة السلطات الاخرى ومواكبة المسائل والقضايا التي تهم الناس و”تعبر عن ميولهم وروحهم وعقليتهم واتجاهاتهم” (3).
وتضمنت اول شرعة لبنانية للاخلاق المهنية الصحفية (1974)” تتجنب المطبوعة نشر المواد التي من شانها تشجيع الرذيلة والجريمة…وتتجنب نشر الانباء غير الموثوق بصحتها…والتعصب واثارة النعرات وتتحاشى القدح والذم والتحقير… وتتجنّب عدم الافتراء والاتهام الباطل … والشتم والتهويل والابتزاز…وتعتبر المصلحة العامة قبل السبق الصحافي … ولا تلجأ الصحف الى وسائل غير مشروعة لاقتناص المعلومات، والحرص على عدم البوح بمصادر المعلومات ، و احترام خصوصيات الافراد والجماعات” … كما ركز اول ميثاق شرف تضعه وسائل الاعلام المرئية والمسموعة(1992) على “التزام الرقابة الذاتية وما يضمن عدم المس بالاخلاق والاداب العامة..”(4).
تشمل اخلاقيات الاعلام ايضا، أخلاقا اعلامية وطنية وسياسية او خطوطاً حمراء اعلامية (5) مثل (عدم بث او نشر ما يعكّر الاستقرار والسلامة العامة، عدم بث ونشر ما يثير النعرات الطائفية والعنصرية، عدم التعرض لكل ما يعرّض لبنان الدولة ووحدتها وسيادتها وحدودها، وما يعكر علاقات لبنان الخارجية، وكل ما يلحق الاذى بمعنويات القوى المسلحة ولا سيما خلال الحرب، وكل ما يمس بكرامة الرؤساء والمرجعيات…(6)
وهناك اخلاق اجتماعية وثقافية للإعلام، مثل: (المسؤولية الاجتماعية والاخلاقية عن كل ما يصدر من مواد وبرامج اعلامية، وعدم بث او نشر كل ما يمس او يتعلق بخصوصيات الافراد والامن العائلي، والمعتقدات والاديان) واخلاق اعلامية قانونية وادارية مثل: (الامتناع عن نشر وبث تحقيقات او قرارات سياسية وادارية وحكومية قبل ان تعلن رسميا، وعدم نشر او بث وقائع تحقيقات التفتيش المركزي المالي والعدلي السرية الطابع). (7)
مظاهر ازمة الاخلاقيات المتفاقمة: عندما ننتقل الى مرحلة المقارنة بين مستوى الفكر والوعي الاخلاقي للإعلام في لبنان، ومستوى السلوك الاخلاقي من جهة ثانية، يرتسم امامنا مشهد مقلق لأخلاقيات الاعلام بمختلف مكوناتها: فعلى مستوى الاداء السياسي للاعلام تكثر الحريات الاعلامية والصحفية، وتغيب الصحافة الحرة والمستقلة في ضؤ غياب التمويل الذاتي الذي دفع الاعلام الى موقع المرتهن للقوى السياسية والطائفية والمالية. وبدل ان ينقل الاعلام الى السياسة قيم الصدق والمكاشفة وقول الحقيقة، انتقلت امراض اهل السياسة الى الاعلام: اصطفافات طائفية … فسيفساء مذهبية، واصبحت وسائل الاعلام كجوقات الزجل او “كومبارس” لدى السياسيين في هذا الاتجاه او ذاك. (8)
وقد تحولت مقدمات الاخبار والبرامج السياسية الى صدى لقوى الامر الواقع، رعاة واصحاب المؤسسات الاعلامية، منتهكة بذلك مبادئ المسؤولية والموضوعية والاستقلالية وتجاوز الخطوط الحمراء، بتعرّض كثير من البرامج الاعلامية، الى سلامة البلاد وسيادتها ووحدتها، واثارة النعرات الطائفية (لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية في المحطات اللبنانية …) وأكثر من مرة اهتز الامن وانفلت الشارع وشارف على الانفجار بسبب برنامج تلفزيوني ساخر او فيديو الكتروني مسرب…
كما تأثّرت اخلاقيات الاعلام بتحوّل محطات التلفزة، الى منصّات متقابلة، متنافسة حينا ومتواجهة احيانا، تتقاذف الاتهامات والافتراءات من خلال البرامج السياسية العالية النبرة، و”الاسكتشات” الساخرة مثل (بسمات وطن، ما في متلو، كتير سلبي،…)، مع ما تستعمله هذه البرامج، من مفردات والفاظ وعبارات شارعيه، وصور ومشاهد وايحاءات بعيدة كل البعد، عن تقاليد الاعلام الرصين وتراث اللبنانيين واخلاقياتهم.
وعلى مستوى الاخلاق الاجتماعية والثقافية، هناك ظاهرة اعلامية تتجاوز الخطوط الحمراء ايضا، وتتمثل بتمادي الاعلام في لبنان، في “مسرحة” شاشات التلفزة، وذلك عن طريق نقل المسرحيات “الفاقعة” بإيحاءاتها الى البيوت والعائلات كما هي ومن دون اية مونتاج او “فلترة”. والامر ذاته يحصل مع بعض الفيديوهات التي تتداولها المواقع الالكترونية ويتلقفها الاعلام التلفزيوني من دون اية مراعاة للبعد الاخلاقي.

تحوّلت محطات التلفزة منصّات متقابلة، تتقاذف الاتهامات والافتراءات
تحوّلت محطات التلفزة منصّات متقابلة، تتقاذف الاتهامات والافتراءات

وتبيّن دراسة عن ثقافة المجتمع اللبناني الاستهلاكية (9)، انه مجتمع استهلاكي بامتياز، يعيش”هوس الاستهلاك” الذي تعود اسبابه الى تزايد دور سياسات الترويج والاعلان المعتمدة من قبل شركات الانتاج والتوزيع. فاللبناني بحسب هذه الدراسة يصرف الغالي والنفيس من اجل شراء تلفزيون وفيديو او جهاز خليوي، لكنه ضعيف في استهلاكه الثقافي الاساسي، وبالإمكان القول انه يعيش “تنبلة” ثقافية مزمنة.
وتبيّن الدراسة نفسها ان اغلب المستجوبين افادوا بان مستواهم التعليمي هو جامعي وان 93% منهم من محبي المطالعة، بينما تسجل المكتبات العامة ما يشبه الكساد وتشكو اسواق معارض الكتب من قلة المشترين. وهذا ما يفسر رواج “البرستيج” / المظهر/ الذي تساهم وسائل الاعلام والاعلان في ترسيخه وتنميطه، كأحد اهم دوافع الاستهلاك عند اللبنانيين.

ميثاق الشرف الإعلامي الذي أطلقته المواقع الالكترونية اللبنانية في 3 شباط/فبراير 2016 وتناول المبادئ العامة لعملها، فهل يُعمل به؟
ميثاق الشرف الإعلامي الذي أطلقته المواقع الالكترونية اللبنانية
في 3 شباط/فبراير 2016 وتناول المبادئ العامة لعملها، فهل يُعمل به؟

 

يبلغ عدد المستخدمين للانترنت في لبنان نحو أربعة ملايين مستخدم، اي نسبة 89,9%

لقد أصبح الاعلان في الاعلام اللبناني صناعة همها فقط، الربح على حساب الضوابط الثقافية والاخلاقية. وزادت نسبة التلوث البصري الذي يسببه الاعلان (المعدل العالمي للاعلان 6 دقائق في الساعة وفي لبنان 14,5 د بالساعة) هذا بالإضافة الى فوضى الملصقات واللوحات الاعلانية المنتشرة في كل مكان. وبيّنت دراسة احصائية للإعلان على احدى محطات التلفزة اللبنانية: بث 123 اعلان بـ 58 د، خلال 4 ساعات بث تلفزيوني. وتضمنّت هذه الاعلانات خمور 5 %، سجائر 6%، ظهور المرأة 84% ومشاهد وايحاءات جنسية. كما اظهرت هذه الدراسة تعرض 89,6% من الاطفال بصفة منتظمة لمثل هذه الاعلانات.(10)
ولا يقل اهمية، عن التلوث البصري، التلوث اللغوي الذي يسببه الاعلان. فقد بينّ استطلاع ميداني تضمنته دراسة بعنوان: اللغة الرديئة للإعلان: اشكالية التعبير(11)، ان أكثر من 59 % من افراد العينة اعتبروا ان الثقافة هي المتضرر الاول من تدهور اللغة التي تعتبر روح الثقافة. و76% يعتقدون ان الفئة العمرية الاكثر تاثرا باللغة الاعلانية هي ما بين 10الى 20سنة. ووصف 79 % من العينة اللغة المستخدمة في الاعلان بالرديئة والمهجّنة للغة العربية.
ففي خضم الزخم الاعلاني، اجتاحت الاعلانات لغة بات من الصعب تسميتها بالعربية، هي لغة هجينة تمزج بين العامية التي يتدنى مستواها احيانا الى السوقية، وبين الكتابة الخطأ وبين المزج بين اللغة العربية والاجنبية. ومن نماذج هذه اللغة:
ـ وطنك …ألبك …. بالألب يا وطن (قلبك) (12)
وكان بالإمكان ببساطة ترك النص كما هو في العربية: وطنك قلبك، بالقلب يا وطن.

لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية
لا محظورات او خطوط حمراء امام البرامج السياسية

ويضاف الى الاعلام الاعلاني وملوثاته، تلك البرامج والافلام الكثيرة التي تبدو في مظهرها مسلية وهادفة اجتماعيا، ولكن في الواقع، تحمل في طياتها شحنات ومشاهد ومواقف وقيما هدّامة وبالأخص لجيل المراهقين والشباب. ومن بين هذه البرامج تلك التي لم تكتف بالقليل من المشاهد الموحية، فراحت تلجأ الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة مثل برنامج (نقشت) على شاشة ال د س. وغيره.
كما ان هناك من المسلسلات التي تمتعّت باعلى “رايتنغ” مشاهدة في الموسمين، مثل مسلسل “الهيبة” على الام ت ف، والذي تجاوز كل الخطوط الحمر في اسقاطه لهيبة المجتمع والدولة امام هيبة شيخ الجبل، شيخ الحصن المنيع لتجارة المخدرات. “جبل” الذي أبرزه المسلسل كرجل جبار، وفاتن وجذاب وقادر رغم كل ارتكاباته وجرائمه، ان يفلت من قبضة الدولة والعدالة ويستمر شيخاً للجبل يخشاه الجميع. ولقد تجلّى الانتهاك الصارخ لأخلاقيات الاعلام بإظهار شخصية “جبل”، تاجر المخدرات، على صورة فارس نبيل ومقدام يدغدغ احلام ومخيلة الكبار والصغار.

يبقى الأخطر في هذا المجال، تصاعد تاثير الاعلام الالكتروني والتفاعلي الحديث، والانتشار السريع والكثيف للمواقع الالكترونية المحلية والعالمية، ومن بينها مواقع لا حسيب ولا رقيب على اصحابها والقيمين عليها، ولا قدرة على الضبط الكامل لعمليات تلقيها، وبالمقابل، غياب الجهود الجدية لمواجهة اخطارها، لا سيما وان هذه الوسائل الحديثة تتميز بالتفاعلية والانتشار غير المحدود و”بالتفتيت والفردانية واللاّتزامنية وقابلية التحميل والتحويل والتوصيل”(13).
وتشير الارقام الى انتشار الاعلام الالكتروني في لبنان بوتائر سريعة، ففي عام 2007 بلغ عدد المستخدمين للإنترنت باللغة العربية 28 مليون ونصف المليون، ومن بينهم 600 ألف مستخدم في لبنان اي نسبة 15,4% من عدد السكان(14)، واليوم، اي بعد 11 سنة تقريبا، يبلغ عدد المستخدمين للإنترنت في لبنان نحو اربعة ملايين مستخدم، أي نسبة 89,9% (15)، وهذا ما يؤشر الى تراجع تأثير الاعّلام التقليدي، وبداية هيمنة الاعلام الالكتروني، الامر الذي بات يتطلب جهودا حثيثة وسريعة لمواكبة هذه التطور.
ومن المظاهر المعبرة عن ازمة الاخلاق المتفاقمة على مستوى القيم، دور اعلام الإنترنت والفيديو الذي يعمل في ظل غبار المعارك السياسية، ويجري كالنعاس تحت قعر المجتمع، والذي يوشك ان يدمر الفئة العمرية الشابة. والخطير في الموضوع ان الطبق الرئيسي لإعلام الانترنت والفيديو، الترويج لأنواع من أنشطة الترفيه في لبنان، تسيء الى صورة لبنان والمرأة اللبنانية وقيم المجتمع اللبناني، والعدد المخيف لزوار هذه المواقع داخل لبنان وخارجه.(16)
ومن مظاهر ازمة الاخلاقيات ايضا، انكفاء الاعلام وعدم اضطلاعه بالمسؤولية الاخلاقية تجاه مسائل خطيرة كالمخدرات. وفي هذا السياق، تبيّن دراسة احصائية ان 25% من الشباب اللبناني، جربوا المخدرات مرة او اكثر(17). وينسحب الانكفاء الاعلامي على مسائل اخرى مهمة كعدم تطبيق المادة 30 من قانون المرئي والمسموع التي تلزم الاعلام بث برامج للمصلحة العامة والتقارب والتلاقي بين اللبنانيين (18).
وينبري هذا الاعلام بالمقابل، وفي معرض التنافس على “السكوب” الاعلامي، الى خرق خطوط حمراء قانونية وادارية، بنشر وثائق وقرارات ومحاضر تحقيقات لها طابع سري او قبل ان تعلن رسميا، وذلك بشكل مخالف للأصول المهنية والاخلاقية، ولعل فضيحة الفضائح في هذا المجال، في الفترة الاخيرة، طريقة تعامل الاعلام في لبنان مع قضية المسرحي زياد عيتاني.

التلاعب بالصورة يمكنه ان يظهر قصة مختلفة كلياً عن الحقيقة
التلاعب بالصورة يمكنه ان يظهر قصة مختلفة كلياً عن الحقيقة

اسباب تفاقم أزمة اخلاقيات الاعلام
هناك العديد من الاسباب التي جرى استخلاصها من خلال هذه الدراسة، وكان لها دورها في تراجع اخلاقيات الاعلام ويمكن ايجازها كما يلي:
֍ التناقض بين الطبيعة المستقرة نسبيا، للثقافة ” المقيمة” (العادات والتقاليد والمفاهيم والافكار واللغة)، والوتيرة المتسارعة لتطور التكنولوجيا “الوافدة” (تكنولوجيا الاتصال والمعلومات).
֍ انفجار ثورة المعلومات وطفرة التكنولوجيا وتجاوزها حدود الدول وتشريعاتها وثقافاتها ومعتقداتها وتأثيرها النوعي والكمي على شكل المادة الاعلامية ومحتواها.
֍ تأثّر الواقع الاعلامي بالواقع السياسي اللبناني وتبعية الاعلام مادياً وسياسياً للقوى السياسية النافذة.
֍ القمع السافر من خلال مسلسل اغتيال صحفيين وترهيبهم، والمقنّع من خلال امتناع بعض المحطات التوقيع على ميثاق شرف اعلامي لحماية الصحفيين، وقبول صحفيين تحويل الاعلام منصات طائفية، او لعب دور الامن في الاعلام او تسلل امنيين للعب دور اعلاميين..
֍ عدم وجود ضوابط قانونية واخلاقية وتقنية كافية للحد من التلوث الاعلامي والاعلاني البصري واللغوي، وتأثيرهما السلبي على ثقافة المجتمع من خلال التأثير على الاطفال والشباب.
֍ انكفاء الاعلام وعدم قيامه بمسؤوليته ودوره الطبيعي تجاه القضايا والأحداث التي لها اهميّتها وأولويّتها في حياة الناس.
֍ المعالجة الرقمية للصورة وما تعنيه من انقضاء لعهد الصورة “البريئة” والصادقة وبداية لعهد الصورة المعدّلة والمركّبة والمشكوك بصدقيّتها.
֍ طغيان تكنولوجيا الاتصال الوافدة وتحكمها المتزايد بالسلوك الإتصالي للأجيال الفتية والصاعدة في مجتمعاتنا، في حين تواكب دول المنشأ، التطور التكنولوجي باستخدام الضوابط القانونية (19) والتقنية اللازمة لحماية مجتمعاتها.

احد البرامج التي لجأت الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة لزيادة نسبة المشاهدة
احد البرامج التي لجأت الى الايحاءات الجنسية المباشرة والسافرة لزيادة نسبة المشاهدة

 

نتانج ومقترحات
يتبيّن بنتيجة هذه الدراسة، انه لا يوجد في لبنان ميثاق اعلامي واحد عصري ومتكامل، وبان هناك فجوة واسعة، تزداد اتساعا بين المواثيق، المبادئ، الضوابط والخطوط الحمراء الاعلامية الموجودة، وبين السلوك والاداء الاعلامي والاعلاني، وبان هناك مخاطر جديدة وجديّة تتمثل بالطفرة التكنولوجية الوافدة وبالاخص طفرة الاعلام الالكتروني، وتقابل بالتجاهل او التعامل الانفعالي غير الحرفي أو المدروس على جميع المستويات.
كما يتضح مما سبق، ان هناك لأساب مادية وغير مادية، ما يشبه التواطؤ من قبل الاعلام، مع المجتمع السياسي الطائفي ومجتمع الأعمال بأشكاله الظاهرة والخفية، وكذلك هناك شعور بغياب الحماية او الحصانة سببه وجود ملامح للقمع السافر او المقنّع بحق الاعلاميين.

تعبّر النتائج المذكورة عن وجود ازمة حقيقية في اخلاقيات الاعلام في لبنان، تستدعي معالجة لا تحتمل التأجيل، وتتطلّب متابعة مشتركة وحثيثة من قبل اصحاب الشأن الاعلامي، التقليدي والاتصالي الحديث، والمرجعيات الثقافية والتربوية والاجتماعية والعلمية، وبرعاية مباشرة وفاعلة من قبل الدولة والجهات الحكومية المعنية والمختصة. ويجب ان تكون اولوية العمل والجهد المشترك، ايجاد ميثاق اعلامي، اتصالي ـ تفاعلي حديث، يتيح الافادة من الطفرة التكنولوجية الوافدة بما لا يلحق الضرر بمقومات لبنان الثقافية والاجتماعية، وياخذ بعين الاعتبار الملاحظات الأخرى المهمة التي سبق ذكرها.

دور جبل عامل في تشكيل دولة لبنان الكبير

لم تكن رؤى الفرنسييِّن واللّبنانييِّن مُتطابقةً حول توسيع «لبنان الكبير» إلى «حدوده التاريخية»؛ وذلك تبعاً للأوّليات السياسيّة والاقتصاديّة والديمغرافيّة لكلٍّ من الطّرفين. فَحَوْل ضمّ الأقضية الأربعة: حاصبيّا وراشيّا والبقاع وبَعْلبَكَّ في الشّرق، وسهول عكّار في الشّمال، إلى لبنان كان التّوافق بينهم كاملاً، بحُكم التقاء المصالح. كتب روبير دوكي إلى ميللران، يقول: إنّ امتداد حدود لبنان إلى أقضية راشيّا وحاصبيّا «أمر ضروري لأنّ الأمانيَّ اللُّبنانيَّة لا يمكن تلبيتها دون إلحاق البقاع بلبنان. ومن حسنات هذا الإلحاق أنّه، على الأقل، يطرد منها السّلطات الشريفيّة،(يقصد الحكومة العربيّة في دمشق عام 1919) فضلاً عن أنّه يسهّل لنا تقطيع أوصال الدّولة الشّريفيّة»؛ فجرى ضمُّ البقاع إلى «لبنان الكبير» في «إعلان زحلة» في 3 آب 1920.
كذلك كان التّوافق الفرنسيّ اللّبنانيّ تامّاً على فصل مدينتيْ طرابلس الشام وبيروت عن الدّاخل السوريّ، ولكنّ التّباين كان حول صلتهما بـ «لبنان الكبير»: أيكون إلحاقاً كُلِّيّاً أم استلحاقاً جزئيّاً يُحافظ لهما على بعض الاستقلاليّة البلديّة الموسّعة Municipe. وبعد مشاورات بين المسؤولين الفرنسييِّن في بيروت وباريس، قرّر ميللران ربطهما بـ «لبنان الكبير» ربطاً تامّاً، على أن تحتفظا، مرحليّاً، «باستقلال بلدي واسع… كمُستَلحَقَتيْن مستقلَّتَين Municipes».(1)

ضمّ جبل عامل إلى «لبنان الكبير»:
خيارات واحتمالات
أمّا التّناقض الأكبر بين المصالح الفرنسيّة واللّبنانيّة فكان جَلِيّاً حول موضوع ضمّ جبل عامل، بكلّيّته أو بجزء منه، إلى «لبنان الكبير». فالفرنسيّون كانوا يقدّمون المصالح السياسيّة ـ الاقتصاديّة على ما عداها، لذلك رغبوا بالبقاء على حدود خط سايكس ـ بيكو، شماليّ عكّا، محتفظين بكامل جبل عامل؛ كونه المورد الزّراعي، واليد العاملة الرّخيصة، والمصدر الضّريبي الهامّ. هذا فضلاً عن دوافع تنافسهم الاستعماريّ مع الإنكليز المُتعاطفين مع الصّهيونيّة وأطماعها في فِلِسطين، كوطن قوميّ يهوديّ يصل بحدوده الشّماليّة حتى نهر اللّيطاني.
أمّا سُكّان جبل لبنان فكانوا يَرَوْن الأمور بالمنظار الديموغرافيّ الطائفيّ، فاعتبروا جبل عامل، بأغلبيّته الإسلاميّة الشيعيّة، ثقلاً إسلاميّاً خطراً. وكان الإكليروس المارونيّ «مُعادياً لأيِّ إلحاقٍ يُدْخِل في لبنان الكبير عناصر سُكّانيّة تُشكّل ثِقلاً موازناً للأكثرية المارونيّة… وخصوصاً سنجق صيدا [جبل عامل] الذي يُدخل إلى لبنان نحو80 ـ 90 ألف متْوالي، يقطنون في بلاد صور وصيدون»(2). هذا ما يفسّر كَون المذكّرات اللّبنانيّة إلى مؤتمر الصّلح عام 1919كانت، جميعها، تصل بحدود لبنان الجنوبيّة حتّى مجرى اللّيطاني فقط، مع تطاول محدود في الزّاوية الجنوبيّة الشرقيّة، كي يشمل المسيحييِّن في قضاءيْ مرجعيون وحاصبيّا فحسب (3).
هذا المعيار الطّائفي لم يكن في حسبان الفرنسييِّن البتَّة، إذ ظهر تمسّكهم بمناطق جبل عامل والبقاع بمسلميهما، وتهاودهم بطرابلس وبعض عكّار بمسيحييّهما، ما دفع المطران عبدالله الخوري إلى أنْ يعبِّر للبطريرك الحْوَيِّك عن مخاوفه بقوله: «نخشى أن نُعطى جنوب لبنان الحالي مع البقاع الغربيّ فقط دون بَعْلَبَكَّ والبقاع الشرقيّ، وأن نُحْرَم طرابلس ونصارى عكّار. ألْفَتْنا [الفرنسييِّن] إلى عدم موافقة إلحاق نحو سبعين ألف متْوالي من الجنوب في لبنان، وترْك مسيحيّي البقاع وعكّار خارجين عنه، وقد بُلّغْنا أنَّ رأي غورو هو المُعَوَّل عليه هنا»(4).

البطريرك الماروني الياس الحْوَيِّك
البطريرك الماروني الياس الحْوَيِّك

ومهما يكن، فإنّ التّقارير المُتَبادلة بين باريس وبيروت تُبيِّن أنَّ المسؤولين الفرنسييّن كانوا أمام مُسَلّمة فرنسيّة ثابتة، وهي: الاحتفاظ بجبل عامل، بكامله، ضمن منطقة النفوذ الفرنسيّ في سوريا، مهما بلغت الأطماع الإنكليزيّة ـ الصهيونيّة فيه، والتحفّظات اللبنانيّة عليه. ففي رأى دوكي: إنّ سنجق صيدا (جبل عامل) «يجب أن يتبع في كلّ الحالات، كما لبنان وبيروت، للسّيادة الفرنسيّة نفسها. فهو بلاد ساحليّة، وإنها لَفُرصة مُؤاتية لضمّها إلى الدّاخل [السوريّ ـ اللّبنانيّ]»، مرّةً وإلى الأبد (5).

مع هذا الحرص الفرنسيّ، كان جبل عامل أمام احتمالين:
أ ــ ضمّ جبل عامل كُلّيّاً إلى لبنان. يقول دوكي، مهندس تجزئة سوريا: « يجب أن نتوق، بأكثر قدر مُمْكن، إلى ضمّ سنجق صيدا إلى لبنان». ولكنّ اعتراضات بعض اللبنانييِّن على جزء من هذا الضمّ، ومطالبتهم بالمناطق الواقعة شماليّ اللّيطانيّ فقط، جعلت جبل عامل أمام احتمال آخر، احتمال الضّمّ الجزئي إلى لبنان(6).
ب ــ ضَمّ جبل عامل جزئيّاً إلى لبنان، أي تقسيمه إلى منطقتين

الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي كان لاعباً أساسياً في تقسيم المنطقة
الجنرال الفرنسي هنري غورو، الذي كان لاعباً أساسياً في تقسيم المنطقة
الخيام ، محافظة النبطية
الخيام ، محافظة النبطية

وكيانين، الأمر الذي استبعده دوكي بقوله: «ليس بالإمكان توسيع لبنان حتى مجرى الليطاني الأدنى، كما يريد عدد من اللبنانييّن.حيث أنّ صعود الحدود الفلسطينيّة حتى اللّيطاني تقريباً، يقطع الاتّصال والتّواصل بين صيدا والدّاخل العامليّ، وبين شماليّ فِلِسطين وجنوبي لبنان»، وبذلك نقسم «البلاد المتْوالية إلى قسمين، فتقتصر هذه على قضاء صور فحسب»(7).
كذلك أكد الجنرال غورو للرّئيس ميللران على وحدة جبل عامل بقوله: «إن أحداث شهر أيار الأخير تُظهر بجلاء الوحدة السياسيّة والدينيّة لهذه الجماعة [العامليّة]». ويتابع: إنّ هذا المخطّط التقسيميّ لا يراعي لا الاعتبارات الدّينيّة الشيعيّة، ولا الأبعاد السياسيّة والإداريّة والجغرافيّة الخاصّة بالمِنطقة، ولا المصالح الفرنسيّة في البلاد. وموضوعيّاً، «إنّ هذا التّجمّع الشيعيّ في بلاد بشارة، الذي يشكّل كلاًّ سياسيّاً مُتجانساً ومُتَماسكاً مُرتبطاً بصور وصيدا، سيجد نفسه مقسوماً إلى قسـمين. إنّ هـذا التّخطيط يُقيم سَدّاً وسط هذا التجمّع السياسيّ والدينيّ ذي العادات والتّقاليد والمصالح المُشتركة».
ويتابع غورو القول: من الناحية الدينيّة، «إنّ مراكز الجذب الطبيعيّ للشّيعة هي صور [مركز الزّعيم الدينيّ السيد عبد الحُسَين شرف الدين] والنبطيّة [مركز احتفالات عاشوراء] (وهذه نقاط تبقى لنا) ـ يقول غورو ـ ثم إنّ هذه المِنطقة الأخيرة هي مـركز ديـني هام، حيث تُقام كلّ عام احتفالات العاشوراء التي تجذب السُّكّان من كلّ المناطق الشيعيّة». إنّ ردَّ الشّيعة على هذا التّقسيم «سيُعَرِّضنا نحن والإنكليز للصّعوبات، إذ سينتفضون علينا جميعاً». كذلك بالنّسبة إلى المسيحييِّن، فإنّ هذا المُخَطّط يقتطع «مناطق مسيحيّة من أبرشية صور».

وينتقل غورو إلى لُعبة المصالح والاقتصاد، فَيَرى أنّ هذا التّقسيم، فضلاً عن أنّه مُغاير لكلّ منطق، يخلق مشاكل سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة كثيرة، يطال بعضها المصالح الفرنسيّة نفسها. فمن النّاحيتين السياسيّة والاقتصاديّة، إنّ هذا المُخَطط يَبْتر دائرَتَيْ صور ومرجعيون، ويقتطع من منطقة النفوذ الفرنسي أراضيَ خصبة، ويجعل للملّاك العقاريين في جبل عامل: من بيروتييّن وصيداوييّن وصوريين ومرجعيونييّن علاقات متداخلة مع سوريا وفلسطين في آن، وستتبع السجلات العقارية والضريبية إلى دولتين؛ وبحكم القيود الجمركية فإنَّ محاصيل جبل عامل سَتَتّجه كُليّاً نحو فلسطين، وفي ذلك مكاسب للإنكليز وخسائر للفرنسييِّن.(8)
هذه المضاعفات السّلبيّة للتّقسيم فَرضت الإبقاء على «وحدة الأراضي العامليّة»، ضمن مِنطقة الانتداب الفرنسيّ، وجعلت جبل عامل ، من جديد، أمامَ احتمالاتٍ ثلاثة(9)
1- الاحتمال الأساس «بضمّ سنجق صيدا كلّه إلى لبنان»… خلافاً للتّحفًّظات اللّبنانيّة.
2- ضَمّ جبل عامل بكامله إلى الدّاخل السّوري، وهو مرفوض فرنسيّاً لأنّه يقوّيّ التيّار العروبيّ.
3- احتمال جديد، بِجَعْل جبل عامل «كياناً مستقلاًّ استقلالاً مُطلقاً»، أو «مستقلاً استقلالاً ذاتياً إلى جانب لبنان ومُفَدْرلاً معه»؛ ودائماً ضمن منطقة النّفوذ الفرنسيّ.
هذا الاحتمال الجديد لجبل عامل « بِكِيان ذاتيّ مستقل استقلالاً مُطْلقاً» كان حُلماً للعامليين. فمجلّة «العرفان» طالما تبنّت عراقة هذا الجبل بالاستقلال الذاتيّ، «واحتفاظه باستقلاله وإمارة أمرائه ردحاً طويلاً من الزمن، وعُرف سكانه بإباء الضيم والشجاعة»(10). وصحيفة «الحقيقة» تقول: «بَلَغَنا من مصدر ثقة أنَّ رؤساء وعقـلاء جبل عامل يطلبون المحافظة على بلادهم، وعدم انضمامها إلى بقعة أخرى، بل يرغبون في توسيعها»(11).

مقتطفات من تقرير غورو إلى ميلليران في 3 تموز 1920
مقتطفات من تقرير غورو
إلى ميلليران في 3 تموز 1920

ولكنّ العاملييّن، في نزعتهم الاستقلالية هذه، لم يكونوا مُدركين إلّا جانباً من المِشكِل، هو استقلالهم في جبلهم عن محيطهم، ولكنهم كانوا ساهين عن مصيرهم المحفوف بالمخاطر، إلى جوار الصهيونية الطامعة بضم بلدهم إلى فلسطين، الأمر الذي التفت إليه سكرتير المفوضية الفرنسية (روبير دو كي)، وإن يكن من باب الحفاظ على المصالح الفرنسيّة أكثر منه حفاظاً على سلامة جبل عامل. ففي تقـريره إلى ميللران في 17 تموز 1920، يقول ( دو كي):
«دون أي شك، يمكن تشكيل دويلة متْواليّة صغيرة في هذا البلد، بعد إعطاء ضمانات للأقلية المسيحية فيه، إنما يمكن أن يكون لذلك مساويء خطيرة، [منها]: ترْك هذه الجماعة الصغيرة الضعيفة (أو الهشَّة) وحيدة، ولو تحت سلطتنا، على تماسّ مع فلسطين الصّهيونية التي تبدو، حتى قبل أن تولد، متطلّعة إلى تـوسّع اقتصاديٍّ، وهي بشكلٍ عامٍّ ذات طابَع هُجومي توسّعي»(12).
ومُجدّداً، كان المفوَّض السّامي الجنرال غورو يلتقي مع رؤية السّكرتير دوكي، بإسقاط احتمال «الكيان الذاتي المستقلّ لجبل عامل»، حمايةً له من الصّهيونيّة، ويلحّ على الرّئيس ميللران «لتشكيل لبنان الكبير، إداريّاً، بأسرع وقت ممكن، بحدوده الأكثر توسّعاً، ضامّاً إليه سنجق صيدا، منقوصاً منه القسم [غير المحدد بعد] الذي سيُعطى إلى فِلسطين»(13).

مقتطفات من مجلة العرفان، تلحظ قيام دولة لبنان الكبير والتقسيمات التي طالت المنطقة - المجلد السادس سنة 1921
مقتطفات من مجلة العرفان، تلحظ قيام دولة لبنان الكبير والتقسيمات التي طالت المنطقة – المجلد السادس سنة 1921
لحظة إعلان قيام دولة لبنان الكبير
لحظة إعلان قيام دولة لبنان الكبير

بإسقاط احتمال الاستقلال التامّ المُطلق لجبل عامل، لم يبقَ له سوى إلحاقه، موحَّداً بالطّبع، بلبنان، سَواء أكان مُندمجاً فيه أم «مُفَدْرلاً» معه، ودائماً ضمن النّفوذ الفرنسيّ.
وبنتيجة المُشاورات والدّراسات، أخذ الرّئيس ميللران بحلٍّ وسط بين وجهتيْ نظر المفوّض السّامي وسكرتيره، والاعتراضات المارونيّة، والطُّموحات الاستقلاليّة العامليّة، فأشار باعتماد حلٍّ توفيقيٍّ بين الأطراف الثّلاثة، وكتب (في 6 آب 1920) إلى غورو يقول: «رغم اعتراضات الموارنة، يصعب عدم ضمّ سنجق صيدا إلى لبنان، ويصعب ترْك المَتـاوِلَة القاطـنين بلاد صور وصيدا معـزولين بين لبـنان والمستعمرات الصهـيونيّة التوسّعيّة في شمال فلسطين. وعند الاقتضاء، يمكن أن يُفَدْرَل سنجق صيدا [جبل عامل] بلبنان، مع احتفاظه بشيء من الاستقلال أو الحُكم الذاتيّ»(14). وأخيراً ترك ميللران «للمفوّض الساميّ أن يُحَدِّد الزّمان والظُّروف التي سيكون فيها ممكنٌ ضمّ هذه المِنطقة الجنوبيّة إلى لبنان»(15).
وسريعاً بدأت الإجراءات التنفيذيّة لإلحاق جبل عامل بلبنان، إذ حضَر المستشار ترابو، في أوائل آب 1920، إلى صور، وأبلغهم «جَعْلَ ولايات سوريا ولايات متّحدة تحت وصاية فرنسا. وبشّرنا ـ تقول «البشير» ـ بانضمام قضاء صور إلى لبنان الكبير، إذا كان للأهالي رغبة في ذلك [؟!]، فصفّق له الجميع، وكُتبت مضبطة مآلها طلب الانضمام إلى لبنان الكبير، فوقّعها رؤساء ووجوه القضاء،

وسلّموها إلى حضرة المُستشار» (16) بحسْم موضوع ضم جبل عامل إلى «لبنان الكبير»، وصلت المداولات الفرنسية إلى تحديد الخطوط الرئيسة لحدود «لبنان الكبير». فجاء بعضها على لسان غورو في إعلان زحلة في 3 آب، بضم «جميع البلاد الواصلة إلى قمم جبل الشيخ» إلى لبنان. واستكملها الرئيس ميللران في تصريحه في 24 آب للوفد اللبنانيّ في باريس برئاسة المطران عبدالله خوري، بأن «يحتوي لبنان سهول عكّار في الشّمال، وأن يمتدَّ إلى حدود فلسطين في الجنوب [غير المحددة بعد]، وأن ترتبط به مدينتا طرابلس وبيروت ارتباطاً تامّاً، شرط أن يكون لهما استقلال بلديّ واسع (Municipes)، مع مُراعاة الفُروقات الاقتصاديّة بين المدن والجبل» (17).
أخيراً، حقيقتان من «غائية التاريخ»(18) Téléologie ينبغي إبرازهما:
– الأولى: إنّ ضمّ جبل عامل بكلّيّته إلى «لبنان الكبير» يؤكّد أنّ فرنسا قدّمت مصلحتها الوطنيّة على مصلحة «اللبنانوييِّن»، وبالتالي لم تكن «أمّاً حنوناً» بالمُطلق أو بالمجان للبنان واللبنانييِّن، وبخاصّة للمسيحييِّن، وعلى الأخصِّ للموارنة.
– والثانية: إنّ تَمَسّك فرنسا بجبل عامل ضمن منطقة نفوذها، خدمةً لمصالحها، أنقذه من الأطماع الصّهيونيّة بترابه ومائه، حتى لَيُمكنَ القولُ: [فوائد] قوم عند قوم فوائد !!

خربة سلم، جبل عامل
خربة سلم، جبل عامل

تاريخ الموحِّدين الدروز والموارنة

تاريخ الموحِّدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلفاتهم القديمة

(القسم الثاني)

تاريخ بيروت لصالح بن يحيىإن صالح بن يحيى هو من الأمراء البحتريين التنوخيين. تاريخ ولادته وتاريخ وفاته مجهولان، إمَّا لأنه لم يقيّض له من يسجّلهما، أو أن هذين الأمرين دُوِّنا في أحد المستندات التي لم تصل إلينا. عُرف عنه توقُّفه عن الكتابة سنة 840هـ (1453م) مما يحمل على الربط بين ذلك وبين تاريخ وفاته، فيجعلها بعد هذه السنة بقليل.
سمّى صالح بن يحيى مخطوطه “أخبار السلف”، وشاءه في الأصل تذكرة نسب لأسرته جعلها “وقفاً على البيت لا يخرج عن الخلف، ولا تُعار لغيرهم، لأنه كتاب لا ينتفع به غير أربابها”، لذا كان ما كتبه لا يفيد، في رأيه، غير أسرته البحترية التنوخية، لكنه خرج من أيديها ليصبح تاريخاً يستفيد منه الجميع دون أسرته التي اندثرت مع الأيام بسبب قلة مواليدها وكثرة قتلاها في الحروب، حتى إن الذين يحملون شهرة “التنوخي” انقرضوا في المجزرة التي أجراها بهم الأمير علي علم الدين اليمني، في عبيه، سنة 1633، والذين بقوا منهم غيَّروا شهرتهم فأصبحت بأسماء الجدود والآباء الأقربين.
إن مخطوط صالح بن يحيى، المدوَّن بلغة عصر الانحطاط، يشتمل على أغلاط لغوية، وألفاظ وجمل أشبه بلهجة العامية حالت دون نشر المستشرقين له حين صمَّموا على ذلك، ولكن هذا الشكل غير السليم لغويّاً حوى مضموناً تاريخيّاً سليماً ودقيقاً وموضوعياً، ذلك أن صالح كتب بأمانة كلّية، معتمداً على ما عند البحتريين من مناشير أولي الأمر لأمرائهم، ومن أوراق أخرى ومستندات، ومعتمداً أيضاً على ما سمعه من الأقوال والروايات الصحيحة عن أسلافه بعد التدقيق فيها، وعلى ما شاهده وما قام به شخصيّاً. وإضافة إلى ذلك كتب العديد من الصفحات استناداً إلى المصادر التاريخية التي اطَّلع عليها.
كما عُثر على مخطوط كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” في مكتبة بلدية روان الفرنسية، هكذا عُثر على مخطوط صالح بن يحيى في مكتبة باريس العمومية، وهذا مما يدلُّ على أن الكثير من الأصول التاريخية المتعلِّقة بنا موجودة عند غيرنا، ولا سيما في مكتبات مدن الدول الأوروبية، وأن غيرنا حريص عليها أكثر منا، ولولا حرصه على مخطوط صالح بن يحيى لضاع، وضاع معه معظم تاريخ البحتريين التنوخيين وتاريخ “الغرب”. وقد عَثر على هذا المخطوط الأب لويس شيخو اليسوعي (1858-1927) في سنة 1894، فعمد إلى نقله ونشره تباعاً في مجلة “المشرق” في سنتَي 1898و1899، ثم أصدره كتاباً في سنة 1902، أُعيد طبعه في سنة 1927، وهو بعنوان “تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب”.
لكن تحقيق الأب لويس شيخو للمخطوط تضمَّن أخطاء كثيرة، وحُذفت منه مقاطع عديدة بما فيها معظم المقاطع الشعرية، لصعوبة قراءتها، وكان يتطلَّب المزيد من الإيضاحات والتفسيرات، مما استدعى إعادة تحقيقه من قبل الأب فرنسيس هورس اليسوعي الذي تعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، والأستاذ أنطوان مدوّر، والسيد بيار روكالف، والسيد أنطوان كوتان، والنقيب يوسف وهبه، وصدر الكتاب في سنة 1967 بعنوان “تاريخ بيروت وهو أخبار السلف من ذرّيَّة بحتر بن علي أمير الغرب”، وهذا الكتاب سنعتمد عليه.
وبما أن نسخ الكتاب من التحقيقَين فُقدت، ونظراً الى الطلب عليه بسبب أهميته كأحد المصادر التاريخية المهمة، قامت دار الفكر الحديث للطباعة والنشر سنة 1990 بإعادة طبع الكتاب الذي حقّقه الأب لويس شيخو، وقامت مؤسسة التراث الدرزي سنة 2015 بإعادة طبع الكتاب الذي حقَّقه الأب فرنسيس هورس اليسوعي بالتعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، وفي هذين الأمرين دليل إضافي على أهمّيّة هذا المصدر.

تاريخ مدينة بيروت إنّ الذين حقَّقوا مخطوط صالح بن يحيى، المسمَّى عنده أخبار السلف، أعطوه اسم “تاريخ بيروت”، وأضافوا إليه أخبار السلف، وما ذلك إلاَّ لأن صالح بن يحيى بدأ مخطوطه بالكلام عن بيروت وتحدَّث عنها في صفحات بلغت 31 صفحة في الكتاب المحقَّق للمرة الثانية، فقال: “ولما كان المكان متقدّماً على المتمكّن، فوجب المبتدى بذكر الوطن وإن كان الساكن أفضل من المسكن1.
تحدَّث صالح بن يحيى في 11 فصلاً عن بيروت، فذكر قدمها وإطارها الجغرافي وأخبارها ومشاهيرها وقواعدها وفتوحها الثلاثة، وهي فتح المسلمين الأول لها وأخذها من البيزنطيين سنة 636م عند فتحهم الشام، ثم أخذ الفرنجة لها من المسلمين، وفتح المسلمين لها للمرة الثانية سنة 1187م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي ثم عودة الفرنجة إليها، وفتح المسلمين لها للمرة الثالثة سنة 1291م عند طردهم للفرنجة نهائيّاً من الشرق.
اعتمد صالح بن يحيى في ما كتبه عن بيروت على ما وصله من أخبار أسرته عن المشاركة في الدفاع عنها، والإسهام في إعمارها، كما اعتمد في كتابة سائر نواحي تاريخها وناحية آثارها على المؤرخين والجغرافيين العرب وهم: المسعودي، وياقوت الحموي، وأبو الفداء، والنويري، وابن سعيد، وأبو شامة المقدسي، وأحمد بن شاكر الكتبي. وبناءً على هذا، استطاع أن يكتب الأخبار الصحيحة، كما استطاع بالاعتماد على الجغرافيين أن يحدِّد طول بيروت وعرضها بدقة.
من الحوادث التي يذكرها صالح بن يحيى هجوم التعميرة الجنوية على بيروت بعد هجومها على صيدا في العشر الأول من جمادى الآخر سنة 784هـ (آب 1382م)، وتصدِّي والد صالح (الأمير سيف الدين يحيى) ومعه جماعة من المسلمين للمهاجمين من الفرنجة ونزعهم السنجق الذي ركّزه أحد قادتهم، وإنزال الهزيمة بهم. ومن الحوادث أيضاً هجوم الفرنجة على بيروت في 20 محرم من سنة 806هـ (آب فرنسيس هورس اليسوعي الذي تعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، والأستاذ أنطوان مدوّر، والسيد بيار روكالف، والسيد أنطوان كوتان، والنقيب يوسف وهبه، وصدر الكتاب في سنة 1967 بعنوان “تاريخ بيروت وهو أخبار السلف من ذرّيَّة بحتر بن علي أمير الغرب”، وهذا الكتاب سنعتمد عليه.
وبما أن نسخ الكتاب من التحقيقَين فُقدت، ونظراً الى الطلب عليه بسبب أهميته كأحد المصادر التاريخية المهمة، قامت دار الفكر الحديث للطباعة والنشر سنة 1990 بإعادة طبع الكتاب الذي حقّقه الأب لويس شيخو، وقامت مؤسسة التراث الدرزي سنة 2015 بإعادة طبع الكتاب الذي حقَّقه الأب فرنسيس هورس اليسوعي بالتعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، وفي هذين الأمرين دليل إضافي على أهمّيّة هذا المصدر.

شن-المماليك-حملات-على-إمارة-الغرب-وأوقعوا-فيها-خسائر-كبيرة(1)
شن-المماليك-حملات-على-إمارة-الغرب-وأوقعوا-فيها-خسائر-كبيرة)

تاريخ مدينة بيروت
إنّ الذين حقَّقوا مخطوط صالح بن يحيى، المسمَّى عنده أخبار السلف، أعطوه اسم “تاريخ بيروت”، وأضافوا إليه أخبار السلف، وما ذلك إلاَّ لأن صالح بن يحيى بدأ مخطوطه بالكلام عن بيروت وتحدَّث عنها في صفحات بلغت 31 صفحة في الكتاب المحقَّق للمرة الثانية، فقال: “ولما كان المكان متقدّماً على المتمكّن، فوجب المبتدى بذكر الوطن وإن كان الساكن أفضل من المسكن1.
تحدَّث صالح بن يحيى في 11 فصلاً عن بيروت، فذكر قدمها وإطارها الجغرافي وأخبارها ومشاهيرها وقواعدها وفتوحها الثلاثة، وهي فتح المسلمين الأول لها وأخذها من البيزنطيين سنة 636م عند فتحهم الشام، ثم أخذ الفرنجة لها من المسلمين، وفتح المسلمين لها للمرة الثانية سنة 1187م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي ثم عودة الفرنجة إليها، وفتح المسلمين لها للمرة الثالثة سنة 1291م عند طردهم للفرنجة نهائيّاً من الشرق.
اعتمد صالح بن يحيى في ما كتبه عن بيروت على ما وصله من أخبار أسرته عن المشاركة في الدفاع عنها، والإسهام في إعمارها، كما اعتمد في كتابة سائر نواحي تاريخها وناحية آثارها على المؤرخين والجغرافيين العرب وهم: المسعودي، وياقوت الحموي، وأبو الفداء، والنويري، وابن سعيد، وأبو شامة المقدسي، وأحمد بن شاكر الكتبي. وبناءً على هذا، استطاع أن يكتب الأخبار الصحيحة، كما استطاع بالاعتماد على الجغرافيين أن يحدِّد طول بيروت وعرضها بدقة.
من الحوادث التي يذكرها صالح بن يحيى هجوم التعميرة الجنوية على بيروت بعد هجومها على صيدا في العشر الأول من جمادى الآخر سنة 784هـ (آب 1382م)، وتصدِّي والد صالح (الأمير سيف الدين يحيى) ومعه جماعة من المسلمين للمهاجمين من الفرنجة ونزعهم السنجق الذي ركّزه أحد قادتهم، وإنزال الهزيمة بهم. ومن الحوادث أيضاً هجوم الفرنجة على بيروت في 20 محرم من سنة 806هـ (آب 1403م)، واشتغال أهل بيروت بترحيل الحريم والأولاد، وخُلوِّ المدينة من المقاتلين سوى بعض أمراء “الغرب” ومعهم بعض جماعتهم، فتملَّك الفرنجة بيروت وأحرقوا الدار التي يملكها والد صالح بن يحيى والسوق القريبة من الميناء.
ويذكر صالح بن يحيى طريقة إعلام المثاغرين في بيروت للجند الموجود في دمشق كي يهبَّ إلى الدفاع عن بيروت عند حصول أيّ غزو لها، وهذه الطريقة هي إشعال النار ليلاً من ظاهر بيروت، فتجاوبها نار في رأس بيروت العتيقة (بيت مري) ومنه إلى جبل بوارش (جبل الكنيسة) ومنه إلى جبل يبوس ومنه إلى جبل الصالحية (جبل قاسيون) ومنه إلى قلعة دمشق.

نسب البحتريين التنوخيين
من الأمور المهمّة التي أوردها صالح بن يحيى سلسلةُ نسب أجداده إلى الأمير بحتر المتحدِّر من الأمير تنوخ، المتحدِّر من الأمير تميم ابن الملك النعمان (أبو قابوس) اللخمي. وبهذا يكون التنوخيون كالأرسلانيين وبني فوارس وآل عبد الله لخميَّين، يلتقون معاً عند الملك النعمان (أبو قابوس)، وفي هذا أحد الأدلَّة على أن تنوخيِّي لبنان مناذرة ينتمون إلى الأمير تنوخ المنذريّ اللخميّ، ولا علاقة لهم بالتنوخيين الذين ينتسبون إلى قبيلة تنوخ أو حلف تنوخ، بحسب ما جاء عند الكثير من المؤرِّخين الذين خلطوا بين التنوخيين هؤلاء والتنوخيين أولئك. وكما ذكر صالح بن يحيى أن أسرته البحترية التنوخية لخمية منذريّة كالأرسلانيِّين، هكذا ذكر السجلّ الأرسلاني، وجعلهم الأمير شكيب أرسلان الذي قال: “إن الأمراء التنوخيين اللبنانيِّين والأمراء الأرسلانيّين من أصل واحد هو لخم ولا علاقة لهم بقبيلة تنوخ”2.
إن ما ورد عند صالح بن يحيى عن الأصل المنذريّ اللخمي للبحتريين التنوخيين، يؤكِّده ما جاء في وصية أحد أمرائهم، الأمير السيد عبد الله (قدَّس الله سرَّه) المدوَّنة في سنة 820هـ (1417م)، وهو التعريف به بأنه من نسل الأمير “جمال الدين حجى ابن أمير الغرب التنوخي الجميهري اللخمي”، كما يؤكِّده كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” المدوَّن في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وفيه إشارة إلى “الأمير ناصر الدين الجميهري اللخمي”، ويؤكِّده أول إثبات للسجل الأرسلاني بتاريخ 141هـ (758م).

ترجمة الأمراء البحتريين التنوخيين
خصَّص صالح بن يحيى معظم كتابه للحديث عن أسرته البحترية التنوخية، فترجم لأكثر من 60 أميراً منها، وأتى في ترجمتهم على ذكر الكثير من القادة وولاة الأمور وسائر من تعاطى معهم. وأورد حرفيّاً المناشير المرسلة إلى أمراء “الغرب” منهم، الذين لهم الأمرية الكبرى. وهذه المناشير تحدِّد إقطاعهم، والقرى التي يتضمَّنها والتي يمكن اعتبارها مع القرى والمزارع التي أقام فيها التنوخيون أطلساً تاريخيّاً جغرافياً لقسم من جبل لبنان.
ذكر صالح بن يحيى ولادات ووفَيات وزيجات الأمراء البحتريين التنوخيين، وذكر مراكز إقاماتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً، وعلاقاتهم مع الآخرين، وما يتخلّل ذلك من نزاعات. وبالرغم من اتِّصافه بالموضوعيّة، فإنه كان مُحابياً لأبناء أسرته أحياناً، وذلك بمهاجمته لأخصامهم مثل بني أبي الجيش أو بني سعدان – وهم الأمراء الأرسلانيون- لأن هؤلاء يبغضون البحتريين وقد وشَوْا، بحسب ما ذكر، عليهم. وكان يمتدح محبِّي أسرته مثل آل علم الدين الذين هم أصلاً من آل عبد الله، لكنه ألحقهم بالنسب بالبحتريين التنوخيين، فيما الحقيقة أنهم اعتبروا من هؤلاء بالمصاهرة لا بالنسب3.
لم يقتصر صالح بن يحيى في ترجمته للأمراء البحتريِّين التنوخيين على ذكر النواحي السياسية والعسكرية والجهادية، بل إنه تطرَّق أيضاً إلى إلمامهم بالصناعة والحِرف على مختلف وجوهها المعروفة آنذاك كصناعة الأسلحة والحليّ، وإلمامهم بفنِّ الكتابة وتعلّمهم قواعد الخط الجميل، وتوصَّل أحدهم الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان الرمطوني إلى كتابة آية الكرسي على حبّة الأرز، وفعل ذلك مراراً وتكراراً حتى في اليوم الواحد. وقد ذكر صالح بن يحيى أنه كان للأمراء من أسرته اهتمام بالتجارة، ولبعضهم حوانيت في أسواق بيروت وأن هؤلاء الأمراء اهتمُّوا بالعمران فأنشأوا الأبنية في قاعدتهم عبيه، ومنهم الأمير ناصر الدين الحسين الذي أنشأ العليات، وجرَّ المياه بقناة الى الحمّام الذي أنشأه.
وتطرَّق صالح بن يحيى إلى النواحي الأدبيّة، فذكر الشعراء من التنوخيين، وأورد ما نظموه من قصائد كما ذكر ما قاله الشعراء في مدح التنوخيين، وهو في ذكره لصفات الأمراء ومناقبهم تكلَّم عن تقوى العديدين منهم وحِفظِهم للكتاب وانصرافهم إلى العبادة، مما يوحي أن بينهم كبار شيوخ الدين من الموحِّدين الدروز إضافة إلى كبار الرؤساء السياسيِّين4.

الإمارة البحتريّة التنوخيّة
ذكر السجلّ الأرسلاني ثلاث إمارات منذريّة لخميّة هي الإمارة الأرسلانيّة، وإمارة بني فوارس بأمير واحد، وإمارة آل عبد الله بأمير واحد أيضاً خلفه أمير أرسلانيّ انتهت به الإمارة الأرسلانيَّة. أمَّا الإمارة البحتريَّة التنوخيّة التي خلفت الإمارة الأرسلانيَّة، فقد توسَّع صالح بن يحيى في الحديث عنها وعن الأمراء البحتريِّين، وقد سميت بهذا الاسم نسبةً إلى مؤسِّسها الأمير بحتر المتحدِّر من الأمير تنوخ، وهي تُدعَى اختصاراً الإمارة التنوخيَّة

قبر-شمون-في-منطقة-الغرب
قبر-شمون-في-منطقة-الغرب

.بدأت الإمارة البحتريّة التنوخيَّة مع الأمير بحتر سنة 1137م، وتوطَّدَت دعائمها مع ابنه الأمير كرامة الذي أتاه مرسومان من الملك العادل نور الدين محمود زنكي، الأول بتاريخ 14 ربيع الأوّل سنة 552هـ (26 نيسان سنة 1157م)، وهو يخاطبه بالعبارات التالية: “مفيد الملك أمير الغرب”، ويسمِّيه “مملوكنا وصاحبنا” ويقول: “مَن أطاعه فقد أطاعنا، ومَن عاوَنه في جهاد الكفّار [الفرنجة] فقد عمل برضانا وكان مشكوراً منَّا. ومن خالفه في هذا الأمر وعصاه فقد خالف أمرنا واستحقَّ المقابلة والسياسة على العصيان”5. والمرسوم الثاني بتاريخ 17 رجب سنة 556هـ (12 تموز سنة 1161م)، وهو يقطعه إضافة إلى قرى “الغرب” القنيطرة في سورية اليوم وضهر الأحمر من وادي التيم، وثعلبايا من البقاع، وبرجا وبعاصر من صيدا، والمعاصر الفوقا من الشوف، والدامور من ساحل “الغرب”، وشارون ومجدل بعنا من الجرد6.
إن هذين المرسومَين سَمَّيا الأمير كرامة “أمير الغرب” وسيُسمَّى أبناؤه وأحفاده الذين تعاقبوا على الأمرية الكبرى “أمراء الغرب”. وكما أُقطِع هو قرى خارج الغرب سيُقطع بعضهم كذلك مثله، وقد أظهر صالح بن يحيى، وبكثير من التفصيل، علاقات هذه الإمارة مع الدولة الإسلاميَّة الحاكمة لبلاد الشام، أو التي كانت تدير شؤون هذه البلاد من القاهرة عبر ولاتها في بلاد الشام، وهي كسائر علاقات حكام الأطراف مع المركز.
تَوارَث الأمراء البحتريون إمارة الغرب بحسب ما يذكر صالح بن يحيى، واستغلُّوا ما لهم من حقوق في هذه الإمارة، وحين عدّل المماليك النظام الإقطاعي، وأحدثوا جند الحلقة، دخل الأمراء البحتريون التنوخيون فيه، وحافظوا على إقطاعهم مقابل تقديم أعداد محدَّدة من الرّجال لِتولِّي درك بيروت وطريق الساحل.
واجه البحتريون التنوخيون صعوبات عدة للحفاظ على إمارتهم، ومرُّوا بأزمات استطاعوا أن يتخطَّوها بحسن السياسة، وبالتضحيات الجسيمة، وخصوصاً في مواجهة الفرنجة، وهذا موجز للأزمات بحسب تسلسلها الزمني.
في سنة 1255م انتصر البحتريون التنوخيون في عيتات على حملة أيُّوبيّة مرسلة لإخضاعهم. وفي سنة 1260م تداولت أربع قوى حكم بلاد الشام، هي الأيّوبيون بقيادة الملك الناصر يوسف، والمماليك البحرية بقيادة السلطان قطز، وكانوا قد أسَّسوا دولتهم في مصر سنة 1250م، والمماليك البحرية بقيادة السلطان بيبرس، والتتار (المغول) الذين وصلوا إلى دمشق بقيادة هولاكو واحتلُّوها، ثم عاد منها هولاكو تاركاً الحكم إلى أحد كبار قادته كتبغا. وانعكس

صراع هذه القوى على التنوخيين الذين كان عليهم أن يحفظوا إمارتهم خلاله، ويذكر صالح بن يحيى أن الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر اتفق مع ابن عمّه الأمير جمال الدين حجى بن محمد بن حجى، خلال الصراع بين المغول والمماليك، على اتخاذ موقف مزدوج بين الملك قطز صاحب مصر وبين قائد المغول كتبغا، وذلك بأن يكون جمال الدين حجى مع معسكر المغول، وأن يكون زين الدين مع المعسكر المصري الزاحف إلى قتال المغول والذي سيشتبك معه وينتصر عليه في معركة عين جالوت “ليكون أي من انتصر من الفريقين كان أحدهما معه فيسدّ خلة رفيقه وخلّة البلاد قصداً بذلك إصلاح الحال”7.
وفي سنة 1278م توجَّهَت حملة مملوكيّة إلى “الغرب” للانتقام من قتلة قطب الدين السعدي الذي أقطعه المماليك قرية كفرعميه، ولإخضاع “الغرب” لإشراف المماليك المباشر وقد أنزلت هذه الحملة، التي اشترك فيها العساكر والعشران من ولاية بعلبك والبقاع البعلبكي والبقاع العزيزي وصيدا وبيروت، ما لم تنزله أية غزوة أخرى في الغرب”8.
وفي سنة 1305م اشترك التنوخيون بالحملة المملوكيَّة المرسلة لإخضاع كسروان، وخاضوا المواقع ضد الكسروانيِّين، وقُتل منهم في إحداها، التي جرت بالقرب من نابيه في 28 تموز، أميران و23 نفرًا، وما كان بمقدورهم ألاَّ يشتركوا في هذه الحملة كي لا يستهدفهم المماليك بغزوة أخرى.
وبعد سنة 1305م ولَّى المماليك الأمراء التركمان على كسروان، وصار هؤلاء مشتركين مع التنوخيين في الدفاع عن بيروت والساحل، لكنهم غزَوا “الغرب” إبَّان غياب أمرائه التنوخيين عنه لمساعدة السلطان برقوق على إخماد الحركة المنطاشية التي قامت ضدّه، فهدم التركمان العديد من قرى “الغرب” ونكبوه بمثل ما نكبه به المماليك والفرنجة.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
بدأ صالح بن يحيى حديثه عن أخبار السلف من أسرته بالافتخار بهم، فقال: “مناقبهم موصوفة ومآثرهم معروفة كما قيل آثارهم تُنبيك عن أخبارهم حتى كأنك بالعيان تراهم. تالله لا يأتي الزمان بمثلهم ولا يحمي الثغور سواهم”. ولم يكن مبالِغاً في كلامه لأن هناك الأدلة العديدة التي تثبت ذلك والتي أعطى بعضها.
ارتبط نشوء واستمرار الإمارة البحترية التنوخية بالجهاد ضدّ الفرنجة تحت لواء الأتابكة والأيوبيين والمماليك كما ارتبط من قبل نشوء واستمرار الإمارة الأرسلانية بالجهاد ضد الروم البيزنطيين تحت لواء الخلافة العباسية.
بعد أن ولَّى الملك العادل نور الدين كرامة بن بحتر على “الغرب” أبدى كرامة الاستعداد للخدمة والجهاد تحت لوائه، وانتقل إلى حصن سرحمور (سرحمول) ليتحصَّن فيه ضد هجمات فرنجة سنيوريتَيْ بيروت وصيدا، وليواصل الجهاد ضدهم. لكن سنيور بيروت اندرونيكوس كومنينوس دبَّر مكيدة له بأن دعا أبناءه الثلاثة إلى عرس ابنه في بيروت، وحين حضروا غدر بهم، وهاجم في اليوم التالي حصن سرحمور بغتة. ويذكر صالح بن يحيى أن ذلك جرى في أواخر دولة الملك العادل، أي في حدود سنة 1173م التي توفي فيها وقد هدم الفرنجة الحصن وأحرقوا القرى وأسروا من تخلّف عن الهرب9. وأشار إلى هذه الحادثة مؤرِّخ كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” كما وردت الإشارة. وأيضاً، كما أشار صالح بن يحيى، إلى مكافأة السلطان صلاح الدين لابن كرامة الرابع الذي نجا من المكيدة.
عهد المماليك إلى الأمراء التنوخيين درك بيروت والساحل، ولصعوبة هذه المهمَّة تعبوا من الركوب ليلاً ونهاراً كما يذكر صالح بن يحيى، وذلك لقلة عددهم قياساً الى الأمراء التركمان الكثيري العدد الذين شاركوهم هذه المهمة، ثم عرضوا أنفسهم ليكونوا البدائل عنهم.
ومن فصول الجهاد التنوخي اشتراك صالح بن يحيى نفسه مع مائة رجل في غزوة قبرص الأولى سنة 1425م، وقد ذكر ذلك تحت عنوان “لمع من فتوح قبرص” وهو لم يشترك في غزوة قبرص الثانية سنة 1426م، لكنه وصفها وصفاً دقيقاً وأسهب في وصف الاحتفال الذي جرى في القاهرة عندما جيء بملك قبرص أسيراً وسار في شوارع القاهرة وسط مظاهر الخضوع والإهانة، فيما كان المسلمون يحتفلون بالنصر وسط مظاهر الزينة.
ومما يذكره صالح بن يحيى هو أنه أثناء عودته من مصر عن طريق البقاع، حذر من أمير حاج، وحاد عن طريق البقاع إلى صغبين الواقعة في اللحف الشرقي لجبل نيحا، وكان سبق لهذا الأمير أن نزل إلى بيروت وكبس من فيها، وقتل متولِّيها الأمير عزّ الدين صدقة البحتري التنوخي وجماعة من رجاله لكن أمير حاج لم يجرؤ على مهاجمة صالح بن يحيى في صغبين، لأنه حضر إلى هضابها “جماعة كثيرة من الشوف لملاقاته حتى خاف مَن بِصغبين من اجتماع الناس حولها”10.

لم يُسمِّ صالح بن يحيى أيًّا من أفراد جماعة الشوف الذين أنجدوه، ولا أية قرية من قراه، لكننا نرجِّح أن يكونوا، من القرى الواقعة في بداية اللحف الغربي لجبل نيحا، أي قرى مرستي وجباع ونيحا، وقد يكون معهم أيضًا أفراد من قرى المعاصر وبعذران والخريبة وهذا يدل على نصرة الدروز لبعضهم وتعاضدهم المتبادل، وخصوصًا أن مَن ينصرونه آنذاك هو أمير تنوخي.

تاريخ ابن سباط
ابن سباط وتاريخه
ابن سباط هو أحد أبناء أسرة “سباط” واسمها هذا تصحيف للفظة “شباط”، وأصلها من بلدة عيحا في وادي التيم. وابن سباط هو حمزة ابن الفقيه أحمد بن سباط بن عمر بن صالح بن سلطان بن أبي المواهب. لا يُعرف تاريخ ولادته وإنما من المرجَّح أنه من مواليد أواسط القرن الخامس عشر الميلادي ولا يُعرف بالضبط تاريخ وفاته وإن كان البعض يجعله في سنة 1523م، بعد توقّفه عن الكتابة في سنة1520.
كان أحمد معلِّماً وإماماً في جامع عبيه، ومن تلاميذ الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق). وقد عُرف بـــ “ابن سباط”، وبهذا عُرف أيضاً ابنه المؤرِّخ حمزة، كما عُرف حمزة أيضاً بالغربي نسبة إلى بلاد “الغرب” التي عاش فيها، وفي إحدى بلداتها عبيه. ولقّبه البعض بـ”العاليهي” نسبة إلى عاليه التي سكنها بعد سنة 1493، وكان سبق له أن أقام في عبيه وظل فيها حتى وفاة والدَيه سنة887هـ (1482م)، ولربما حتى وفاة آخر أخوته سنة 899هـ (1493م). انتقل إلى دمشق سنة 909ه(1503/1504م). ولا يُعرف مدى إقامته فيها.
عمل ابن سباط كاتباً عند الأمراء البحتريين التنوخيين، وكان موالياً لهم، وهذا ما جعله على صلة بهم، وعلى اطّلاع على ما كتبه المؤرِّخ صالح بن يحيى. مال إلى الأدب، ونظم الشعر لكنه لم يبرع فيه، وله في رثاء الأمير السيد (ق) ستّ مَراثٍ لتاثُّره بوفاته، كما له مَراثٍ في غيره من الأمراء التنوخيين وكان عنده ميل إلى الآثار وإلى الكتابة عن المواقع الجغرافية، فألَّف كتاباً اسمه “نزهة المشتاق في بعض جوانب المعمور من الآفاق”، فُقِد ولم يبق منه سوى بضع صفحات. أمَّا ميله الرئيس، فكان إلى التاريخ، وقد كتب فيه مؤلَّفَه الذي سمَّاه “صدق الأخبار” لكنه اشتهر باسمه “تاريخ ابن سباط”.
أول من اعتمد على تاريخ ابن سباط، وهو مخطوط، البطريرك اسطفان الدويهي (1630-1704) في كتابه “تاريخ الأزمنة”، فالأمير حيدر الشهابي، المتوفَّى سنة 1835، في كتابه “الغرر الحسان في تواريخ حوادث الزمان”، فالشيخ طنّوس الشدياق، المتوفَّى سنة 1861، في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”. فُقِدت النسخة الأصلية من المخطوط وبقيت بضع نسخ منقولة عنه، هي نسخة الشيخ نادر بن نوفل الخازن المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، ونسخة مصوّرة ونسخة أخرى خطّيّة في مكتبة الجامعة الأميركية ببيروت، ونسخة في دار الكتب الوطنية ببيروت، ونسختان في مكتبة الفاتيكان، ونسخة كتبها الشيخ ناصيف اليازجي موجودة في كلية اللاهوت للشرق الأدنى ببيروت.
ضاع المخطوط الأصلي، وما جرى نسخه هو جزء منه، وما فُقد يتعلَّق بتاريخ تنوخ ولخم، وتاريخ العهود التي سبقت العهدين: الزنكي والأيُّوبي، وهو الأبواب الستّة الأُولى وبعض الباب السابع، فيما بقي جزء من الباب السابع والأبواب الأربعة الأخرى التي تنتهي بالباب الحادي عشر، وهذا يعني أن ما فُقِد هو أكثر مما وُجد.
حقَّقت الدكتورة نائلة تقي الدين قائد بيه الباب العاشر والباب الحادي عشر، وصدر في سنة 1989 بعنوان “تاريخ الدروز في آخر عهد المماليك” على اعتبار أن ما حقَّقَته يتعلَّق بأواخر العهد المملوكي وبداية العهد العثماني، ثم حقَّق الدكتور عمر عبد السلام تدمري كل المخطوط، بعنوان “صدق الأخبار. تاريخ ابن سباط”، وصدر في جزءَين في سنة 1993.
اعتمد ابن سباط على مجموعة من المصادر الإسلامية، ذكرها وذكر مؤلِّفيها. ومن المرجَّح أن يكون معظمها موجوداً في مكتبته وفي مكتبات الأمراء البحتريين التنوخيين. ولرُبَّما اعتمد على المصادر الموجودة في مكتبات دمشق عند ذهابه إليها. لم ينقل حرفيّاً عن المصادر، باستثناء الضروري منها، مثل نقله عن صالح بن يحيى في كتابته عن البحتريين التنوخيين. ولم يتوسَّع إلا عند الضرورة وكان أسلوبه في الاجتزاء وعدم الإطالة بدافع الاقتصار على الفكرة والمغزى، وقد أوضح ذلك بقوله عند الاستشهاد بأحد المصادر ما يلي:
“اقتصرنا على ذكر شرحه خوف الإطالة لأنّ الغرض في هذا الكتاب الاختصار…وأن نذكر من كل شيء جزءاً يفهم اللبيب الحادق، والعلم بالبعض خير من الجهل بالكل”11.
وهو لم يذكر في تاريخه مراثِيه الستّ في الأمير السيد عبد الله (ق) خوف الإطالة بحسبما ذكر.

التاريخ العامّ
أرَّخ ابن سباط للأمم والخلفاء والسلاطين والملوك، وتكلَّم عن مجريات الأمور في دول العالم الإسلامي، وبين هذه الدُّول

المطران القلاعي كتب تاريخه زجلا ويعتبره الكثيرون بمثابة أحد رواد الزجل اللبناني
المطران القلاعي كتب تاريخه زجلا ويعتبره الكثيرون بمثابة أحد رواد الزجل اللبناني

والفرنجة. واعتمد أسلوب الحوليَّات، أي كتابة ما يجري في كل سنة هجرية، بادئاً بسنة 526هـ (1131/1132م)، وبذكر أول حوادثها، وهو الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، منتهياً بسنة 926هـ (1520م)، وذكر انقراض دولة المماليك. وبهذا تناول بعض ما جرى في فترة انتقال بلاد الشام من سلطة المماليك إلى سلطة العثمانيين، وقد بلغ مجموع سنوات المرحلة التي أرَّخ لها 388 سنة ميلادية، لكن حوليّاته لم تكن متعاقبة.
في حديثه عن مجريات التاريخ العام، يتناول ابن سباط ما جرى في المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدروز) وما جرى مع الفئات المجاورة لهم. ففي حديثه، مثلاً، عن الحملات المملوكية الثلاث على كسروان بين سنتَي 1292و1305م، يذكر مشاركة الأمراء التنوخيِّين فيها، معتمداً على معرفته بتاريخ هؤلاء وعلى ما نقله عن صالح بن يحيى، لكنه لا يكتفي بما جاء عند صالح بن يحيى بل إنه يضيف إليه ما ورد عند المؤرِّخين عن هذه الحملات، وينفرد عن سائر المؤرِّخين فيذكر أن العسكر المملوكي أحرق 4 قرى في بلاد الجرد هي عين صوفر وشمليخ وعين زونيه (العزّونيّه) وبحطوش وغيرها من بلاد الجرد.
وفي حديثه عن فتح قلعة الشقيف يتوسَّع ابن سباط في ذلك، فيصف كيفية فتح الملك الظاهر بيبرس لها، ثم يصفها وصف شاهد عيان، إذ إنه كان يتنقل في ربوع الشوف، وقد وصل إلى هذه القلعة التي يميز بينها وبين قلعة شقيف أرنون في جنوب لبنان، فيسمِّيها قلعة شقيف تيرون “الواقعة في بلاد جزِّين” والمجاورة لقرية نيحا، ولها عين كانت جارية إليها من أعلى الجبل، وهو لم يذكر ذلك نقلاً عن الكتب وإنما بناءً على مشاهداته، التي تظهر ميله إلى الجغرافيا الموازي لميله إلى التاريخ. فالقلعة بيوت مبنيّة وسط صخر شاهق، لا يمكن الوصول إليها من فوق ولا التسلُّق إليها من تحت. ومما قاله فيها ما يلي:
“ولما ملكها الظاهر بيبرس بنى لها برجاً –كما ذكرنا- على الباب، والباب في الصخر ليس بالبرج. وركن البرج قريب الباب، وعلى البرج صورة سبعَيْن مُتقابِلَيْن زنك [شعار] الملك الظاهر وهي بين صيدا ودمشق. وتحت القلعة المذكورة مروج، وبها أثر عماير عظيمة وأقبية وأعمدة عظيمة جدًّا بين نهرَي جزِّين وصيدا، بمكان يقال له مرج بسراء”12.
والمقصود عند ابن سباط بمرج بسراء: مرج بسري، والمقصود بالعماير والأقبية فيه الهيكل الروماني الذي لم يبقَ ظاهراً منه إلى اليوم سوى أربعة أعمدة.
لا يخفي ابن سباط ميوله أحياناً، فقد أبدى، مثلاً تعاطفه مع ابن بشاره حاكم بلاد بشاره في الجنوب اللبناني، وذلك عند وصفه لتصدِّي هذا الحاكم لابن الحنش أمير البقاع، كما إنه تكلَّم عن الملك العادل نور الدين محمود زنكي في أربع صفحات. وامتدحه وذكر ما كتبه عنه المؤرِّخ شمس الدين الجزري القرشي في “تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفَيات الأكابر والأعيان من أبنائه” وميله إلى الملك العادل مشابه لميل مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” الذي أشرنا إليه، وهو لم يأت من صلاح هذا الملك فقط، بل أتى أيضاً من علاقته الحسنة مع الأمراء البحتريين التنوخيين، وإقراره لكرامة بن بحتر على إقطاعه وزيادته، وميل كرامة له بالمقابل، ووقوفه معه في صراعه ضد الفرنجة.

تاريخ التنوخيين
بدأ ابن سباط الحديث عن التنوخيين في معرض الحوادث التي جرت في سنة 542هـ (سنة 1147م)، مشيراً إلى أنه تكلَّم عنهم في الجزء الأول ذاكراً آل تنوخ ولخم وتحالفهما13، وقد وردت الإشارة إلى أن هذا الجزء فُقِد مع غيره من الأجزاء أو الفصول ولو لم يُفقد لكان ابن سباط أضاء على تاريخ التنوخيين غير اللبنانيين وعلاقتهم بالمناذرة اللخميين ملوك الحيرة، ولكان، في رأينا، أوضح العديد من الإشكاليّات التاريخية حولهما، لأنه أشار إلى تكلُّمه في الجزء المفقود عن جذيمة الأبرش ملك الحيرة14.
نقل ابن سباط ما كتبه صالح بن يحيى عن التنوخيين وأورد ذلك في 29 حاشية في معرض حديثه عن الحوادث وأُولِي الأمر، التي جرت في السنوات التي أرَّخ لها. وكان أوضحَ من صالح بن يحيى في تنسيب آل علم الدين – وهم من آل عبد الله- إلى التنوخيين، إذ قال إنهم صاروا مع التنوخيين واحداً بالزواج، أي بالتصاهر المتبادل في ما بينهم ولا حاجة لذكر ما كتبه ابن سباط عن التنوخيين لأننا تكلَّمنا عن ذلك في معرض الحديث عن صالح بن يحيى، وإنما لا بد من القول إن صالح بن يحيى لم يكتب عن الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق) المعاصر له، لكن ابن سباط استفاض في الحديث عنه، فبلغ مجموع الصفحات التي تناوله فيها أكثر من 22 صفحة، أخذها عن كاتب سيرته، الشيخ سليمان بن حسين بن نصر. وقد تحدَّث عن نشأته ونسبه وصفاته، وانشغاله بالعلم، وحفظه للكتاب العزيز، واهتمامه بعمارة المساجد، وتشدّده في تطبيق مفاهيم المعتقد، وتعليمه للتلامذة المقبلين على الاستفادة منه، وأحكامه ونواهيه وامتثال الناس لها، وعنايته بأخبار الزّهّاد، ووفاته ومأتمه.
أرَّخ ابن سباط للأمراء البحتريِّين التنوخيين الذين عاشوا في زمنه، وتحديداً بعد سنة 1453 التي توقَّف فيها صالح بن يحيى عن الكتابة، وذكر وفَيات معظمهم، وهم: زين الدين عمر، وسيف الدين يحيى بن عثمان، وعلم الدين سليمان بن أحمد، وبدر الدين حسين، وسيف الدين زنكي بن صدقة بن عيسى، وسيف الدين عبد الخالق ووالده الأمير السيد عبد الله (ق) الذي سبق الحديث عنه، وصالح بن يحيى (المؤرِّخ) لكنه لم يذكر وفاته، وشرف الدين  والفرنجة. واعتمد أسلوب الحوليَّات، أي كتابة ما يجري في كل سنة هجرية، بادئاً بسنة 526هـ (1131/1132م)، وبذكر أول حوادثها، وهو الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، منتهياً بسنة 926هـ (1520م)، وذكر انقراض دولة المماليك. وبهذا تناول بعض ما جرى في فترة انتقال بلاد الشام من سلطة المماليك إلى سلطة العثمانيين، وقد بلغ مجموع سنوات المرحلة التي أرَّخ لها 388 سنة ميلادية، لكن حوليّاته لم تكن متعاقبة.
في حديثه عن مجريات التاريخ العام، يتناول ابن سباط ما جرى في المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدروز) وما جرى مع الفئات المجاورة لهم. ففي حديثه، مثلاً، عن الحملات المملوكية الثلاث على كسروان بين سنتَي 1292و1305م، يذكر مشاركة الأمراء التنوخيِّين فيها، معتمداً على معرفته بتاريخ هؤلاء وعلى ما نقله عن صالح بن يحيى، لكنه لا يكتفي بما جاء عند صالح بن يحيى بل إنه يضيف إليه ما ورد عند المؤرِّخين عن هذه الحملات، وينفرد عن سائر المؤرِّخين فيذكر أن العسكر المملوكي أحرق 4 قرى في بلاد الجرد هي عين صوفر وشمليخ وعين زونيه (العزّونيّه) وبحطوش وغيرها من بلاد الجرد.
وفي حديثه عن فتح قلعة الشقيف يتوسَّع ابن سباط في ذلك، فيصف كيفية فتح الملك الظاهر بيبرس لها، ثم يصفها وصف شاهد عيان، إذ إنه كان يتنقل في ربوع الشوف، وقد وصل إلى هذه القلعة التي يميز بينها وبين قلعة شقيف أرنون في جنوب لبنان، فيسمِّيها قلعة شقيف تيرون “الواقعة في بلاد جزِّين” والمجاورة لقرية نيحا، ولها عين كانت جارية إليها من أعلى الجبل، وهو لم يذكر ذلك نقلاً عن الكتب وإنما بناءً على مشاهداته، التي تظهر ميله إلى الجغرافيا الموازي لميله إلى التاريخ. فالقلعة بيوت مبنيّة وسط صخر شاهق، لا يمكن الوصول إليها من فوق ولا التسلُّق إليها من تحت. ومما قاله فيها ما يلي:
“ولما ملكها الظاهر بيبرس بنى لها برجاً –كما ذكرنا- على الباب، والباب في الصخر ليس بالبرج. وركن البرج قريب الباب، وعلى البرج صورة سبعَيْن مُتقابِلَيْن زنك [شعار] الملك الظاهر وهي بين صيدا ودمشق. وتحت القلعة المذكورة مروج، وبها أثر عماير عظيمة وأقبية وأعمدة عظيمة جدًّا بين نهرَي جزِّين وصيدا، بمكان يقال له مرج بسراء”12.
والمقصود عند ابن سباط بمرج بسراء: مرج بسري، والمقصود بالعماير والأقبية فيه الهيكل الروماني الذي لم يبقَ ظاهراً منه إلى اليوم سوى أربعة أعمدة.
لا يخفي ابن سباط ميوله أحياناً، فقد أبدى، مثلاً تعاطفه مع ابن بشاره حاكم بلاد بشاره في الجنوب اللبناني، وذلك عند وصفه لتصدِّي هذا الحاكم لابن الحنش أمير البقاع، كما إنه تكلَّم عن الملك العادل نور الدين محمود زنكي في أربع صفحات. وامتدحه وذكر ما كتبه عنه المؤرِّخ شمس الدين الجزري القرشي في “تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفَيات الأكابر والأعيان من أبنائه” وميله إلى الملك العادل مشابه لميل مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” الذي أشرنا إليه، وهو لم يأت من صلاح هذا الملك فقط، بل أتى أيضاً من علاقته الحسنة مع الأمراء البحتريين التنوخيين، وإقراره لكرامة بن بحتر على إقطاعه وزيادته، وميل كرامة له بالمقابل، ووقوفه معه في صراعه ضد الفرنجة.

تاريخ التنوخيين
بدأ ابن سباط الحديث عن التنوخيين في معرض الحوادث التي جرت في سنة 542هـ (سنة 1147م)، مشيراً إلى أنه تكلَّم عنهم في الجزء الأول ذاكراً آل تنوخ ولخم وتحالفهما13، وقد وردت الإشارة إلى أن هذا الجزء فُقِد مع غيره من الأجزاء أو الفصول ولو لم يُفقد لكان ابن سباط أضاء على تاريخ التنوخيين غير اللبنانيين وعلاقتهم بالمناذرة اللخميين ملوك الحيرة، ولكان، في رأينا، أوضح العديد من الإشكاليّات التاريخية حولهما، لأنه أشار إلى تكلُّمه في الجزء المفقود عن جذيمة الأبرش ملك الحيرة14.
نقل ابن سباط ما كتبه صالح بن يحيى عن التنوخيين وأورد ذلك في 29 حاشية في معرض حديثه عن الحوادث وأُولِي الأمر، التي جرت في السنوات التي أرَّخ لها. وكان أوضحَ من صالح بن يحيى في تنسيب آل علم الدين – وهم من آل عبد الله- إلى التنوخيين، إذ قال إنهم صاروا مع التنوخيين واحداً بالزواج، أي بالتصاهر المتبادل في ما بينهم ولا حاجة لذكر ما كتبه ابن سباط عن التنوخيين لأننا تكلَّمنا عن ذلك في معرض الحديث عن صالح بن يحيى، وإنما لا بد من القول إن صالح بن يحيى لم يكتب عن الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق) المعاصر له، لكن ابن سباط استفاض في الحديث عنه، فبلغ مجموع الصفحات التي تناوله فيها أكثر من 22 صفحة، أخذها عن كاتب سيرته، الشيخ سليمان بن حسين بن نصر. وقد تحدَّث عن نشأته ونسبه وصفاته، وانشغاله بالعلم، وحفظه للكتاب العزيز، واهتمامه بعمارة المساجد، وتشدّده في تطبيق مفاهيم المعتقد، وتعليمه للتلامذة المقبلين على الاستفادة منه، وأحكامه ونواهيه وامتثال الناس لها، وعنايته بأخبار الزّهّاد، ووفاته ومأتمه.
أرَّخ ابن سباط للأمراء البحتريِّين التنوخيين الذين عاشوا في زمنه، وتحديداً بعد سنة 1453 التي توقَّف فيها صالح بن يحيى عن الكتابة، وذكر وفَيات معظمهم، وهم: زين الدين عمر، وسيف الدين يحيى بن عثمان، وعلم الدين سليمان بن أحمد، وبدر الدين حسين، وسيف الدين زنكي بن صدقة بن عيسى، وسيف الدين عبد الخالق ووالده الأمير السيد عبد الله (ق) الذي سبق الحديث عنه، وصالح بن يحيى (المؤرِّخ) لكنه لم يذكر وفاته، وشرف الدين تاريخ أواخر العهد المملوكي
وبداية العهد العثماني
تناول ابن سباط هذه المرحلة وتكلَّم عن سلاطين المماليك بدءاً بـ”الملك الظاهر جقمق” وانتهاء بـ”الملك طومان باي” الذي هو التاسع والأربعون من سلاطين المماليك بالديار المصرية. وتكلَّم عن السلطان سليم العثماني الذي انتصر على السلطان قانصوه الغوري المملوكي في معركة مرج دابق سنة 1516، وملك الديار الشاميّة والديار المصرية، كما تكلَّم عن خير بك أمير الديار المصرية وجان بردي الغزالي أمير الديار الشاميّة، وما قاما به في هذه المرحلة الانتقالية.
وتوسَّع ابن سباط، خلال تناوله هذه المرحلة، في الحديث عن الأمير شرف الدين يحيى ابن الأمير سيف الدين أبو بكر التنوخي، فذكر إقدامه أمام “الملك الأشرف قانصوه الغوري” بقلعة الجبل بمصر، وحضوره على “الملك المظفَّر سليم شاه”، كما ذكر ما يُستشفّ منه استمرار موالاة التنوخيين للمماليك، وذلك حين قبض جان بردي الغزالي على الأمير المذكور بعد إخماده “عصيان الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين على الملك المظفّر سليم شاه”، وقبض أيضاً على الأمير زين الدين والأمير قرقماس والأمير علم الدين سليمان أولاد معن ووضعهم في السجن، ثم أطلق سراحهم بعد مقتل الأمير ناصر الدين بن الحنش. وذكر ابن سباط أيضاً تقرب الأمير شرف الدين يحيى التنوخي، بعد إطلاق سراحه، من جان بردي الغزالي الذي كتب له المناشير على جهات إقطاعه السابقة، كما ذكر سوء الأوضاع الاقتصادية الحاصلة في البلاد عموماً وفي مناطق التنوخيين تحديداً، جرَّاء الفتن والحوادث المذكورة.
وأرَّخ ابن سباط لبعض أعيان الموحِّدين (الدروز) من غير التنوخيين، وذكر بعض الظاهرات البشرية الغريبة، والفتن، والغلاء، والسيول والفيضانات في بلاد الشام. وقد ساعده على ذلك كتابته بأسلوب الحوليات. وأبرز ما ذكره الفناء العظيم الذي حصل في سنة 897هـ (سنة 1487/1488م) والوباء في بيروت سنة 904هـ (سنة 1498م)، وعمارة جسر الدامور سنة 863هـ (سنة 1459م) وحصول الفيضانات والسيول في بلاد الشام سنة 909هـ (سنة 1503م) وفيضان نهري الصفا والكلب في هذه السنة، والفتنة بين أهل صحنايا والأشرفية وبين أهل داريّا، والفتنة في قرية بتاتر.
وأبرز ما ذكره ابن سباط عن الأعيان ووفَيَاتهم هو مقتل علم الدين الصوَّاف ووفاة ابنه، ووفاة شيخ المختارة وقاضيها، ووفاة شيخ جديدة الشوف وابنه، والقبض على الأمير فخر الدين عثمان المعني وموته، ووفاة شيخين من كفرا (الغرب)، ووفاة الأمير يونس المعني.

الدكتور كمال الصليبي ساهم مع فريق مؤرخين بإصدار نسخة عن تاريخ بيروت بتاريخ 1967 صححت العديد من الأخطاء التي تضمنها كتاب الأب
الدكتور كمال الصليبي ساهم مع فريق مؤرخين بإصدار نسخة عن تاريخ بيروت بتاريخ 1967 صححت العديد من الأخطاء التي تضمنها كتاب الأب

زجليَّات ابن القلاعي
ابن القلاعي وبيئته
إن ابن القلاعي هو جبرائيل بن بطرس اللحفدي الماروني. وُلد في قرية لحفد من بلاد جبيل في حدود سنة 1447م، ولُقِّب بابن القلاعي لأنه كان لوالديه بيت مبنيّ بين القلاع في مزرعة من أرض لحفد اسمها “غوريا”. انضمَّ سنة 1470 إلى الرهبان الفرنسيسكان العاملين في الشرق (بيروت والقدس) باسم “أخويَّة الأرض المقدسة”، وكان أحد ثلاثة شبّان أُرسلوا سنة 1471 من القدس إلى مدرسة الرهبان الفرنسيسكان في روما للتعلُّم فيها، وعاش، بعد تلقِّيهِ العلوم، في الأديرة التابعة لهم، وعاد إلى لبنان سنة 1492 حيث عمل لمدة في خدمة البطريرك الماروني كمستشار له، ثم عُيِّن أسقفاً (مطراناً) في نيقوسيا على أبرشية قبرص المارونية، وظل هناك إلى أن توفِّي سنة 1516. وكان بعض الموارنة قد لجأوا إلى جزيرة قبرص القريبة من لبنان “مفضِّلين اللحاق بالفرنجة المنهزمين، رابطين مصيرهم بهم”15وتكاثروا فيها، وبنَوا القرى والأديرة.
عاش ابن القلاعي في زمن أولَتْ فيه البابويّة اهتماماً بالموارنة، بعد عقدها مجمع فلورنسا سنة 1438م، وإخفاقها في تقريب الكنيسة البيزنطية إليها، إذ أعطى البابا تعليمات خاصة لرعاية الكنيسة المارونية، وصار غريفون أحد رهبان “أخوية الأرض المقدسة” مستشاراً مقيماً لدى البطريرك الماروني من سنة 1450 إلى سنة 1475، وهو الذي أرسل ابن القلاعي والشابَّين المارونيَّين الآخرَين إلى روما.
بلغ اهتمام البابويّة بالموارنة حدَّا كبيراً ففي سنة 1456 تلقَّى البطريرك الماروني بياناً من البابا يخاطبه فيه – ولأول مرة في تاريخ البطريركية المارونية- بلقب “بطريرك أنطاكية” وهو لقب كان محصوراً برؤساء الكنيسة الملكية في أنطاكية. وفي سنة 1510 استهلّ البابا ليون العاشر كلامه للبطريرك الماروني بطرس الحدثي بشكر العناية الإلهية لأنها شاءت أن تستمرّ في رعاية الشعب الماروني في أحلك الظروف “وهو المزروع بين أهل الكفر والانشقاق والبدع كما في حقل من الأخطاء” فتحفظه متألِّقاً في بيئته “كالسوسنة بين الشوك”16، فكان هذا اعترافاً من البابويّة بشرعيّة البطريرك الماروني كبطريرك على كرسي أنطاكية وسائر المشرق، كما كان تكريساً جديداً لالتحاق هذه البطريركية بالكرسي البابوي، على أساس الإيمان بالطبيعتين والمشيئتين للسيد المسيح.
إن توجُّه البابويّة نحو الموارنة وسعيها لاحتضانهم، قابلهما الموارنة بتوطيد علاقتهم بها، وبمزيد من التأكيد على تبعيتهم لها. وكان من الطبيعي أن يتأثر ابن القلاعي المرسل للتعلُّم في روما بهذه الأجواء، فيؤكد في أدبيّاته (زجليّاته) على قِدَم علاقة الموارنة بالكرسي البابوي في روما، وعلى أن الموارنة ليسوا من أصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح، وهم بخلاف ما اتَّهَمهم به أساتذته وزملاؤه، ليسوا من أصحاب المشيئة الواحدة. وقد أظهر تميُّز الموارنة عن سائر مسيحيِّي الشرق وخصوصيّتهم، كما إنه أظهرهُم في أدبياته التاريخية وكأنهم شعب الله المختار الذي يدافع عن عقيدته إزاء العقائد المسيحية المخالفة لها، وخصوصاً إزاء أفكار “الهرطقة اليعقوبية” القائلة بالطبيعة الواحدة، ويدافع أيضاً عن بلاده (جبل لبنان) ضد هجمات المسلمين.

كتاب-تاريخ-بيوت-كما-حققه-الأب-لويس-شيخو-اليسوعي-وقد-نشر-في-العام
كتاب-تاريخ-بيوت-كما-حققه-الأب-لويس-شيخو-اليسوعي-وقد-نشر-في-العام

زجليَّات ابن القلاعي التاريخية
تُعتبر زجليّات ابن القلاعي أُولى الزجليّات اللبنانية التي وصلت إلينا، وقد نظمها في مواضيع مختلفة، هي التاريخ والدين والعلوم والقصص وغير ذلك، وبلغ عدد المصنَّفات التي تركها 26 مصنَّفاً17، إلا أن ما يعنينا هنا هو الزجليَّات التاريخية المعروفة بأسماء عدة، أشهرها “مديحة على جبل لبنان”. أما الأسماء الأخرى، فهي حروب المقدّمين- مديحة كسروان- مؤلّف من كتاب التواريخ– على النصارى.
بلغ عدد نُسَخ مخطوطة “مديحة على جبل لبنان” ستّة، هي البورجاني العربي- الفاتيكاني السرياني- مخطوطة المكتبة الشرقية- مخطوطة دير مار ضومط (فيطرون)- مخطوطة البطريركية المارونية في بكركي- مخطوطة دير الكريم (غوسطا). وأول من نشر هذه المخطوطة هو المؤرِّخ بولس قرألي، وكان ذلك في المجلة البطريركية، ثم شرحها المؤرِّخ كمال سليمان الصليبي، ونشرها مؤخراً كاملةً بطرس الجميل.
إن “مديحة على جبل لبنان” منظومة كسائر زجليَّات ابن القلاعي بالشِّعر العامِّي، على وزن القرّادي”، عدد أبياتها الشعرية 590 بيتاً، وعدد رباعيّاتها 295 رباعيّة ليست فيها عناوين، ولا تسلسل واضح. بعض أبياتها، كما سائر الأبيات العامّيَّة، يتضمّن المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وقد اضطرّ ابن القلاعي من أجل توضيح مقاصده، استعمال عبارة “جبل لبنان” 16 مرَّة لذا لا يمكن شرحها، ولا يمكن الحديث عن كل المواضيع التي تتناولها، وعن جميع أمراء الموارنة (المقدّمين)، ومعاصريهم من الملوك والسلاطين، في مرحلة زمنية تمتد ستة قرون، وتتضمّن أحداثاً كثيرة، وإنما يمكن التحدّث عن أبرز المضامين والمحطّات والأفكار، وعن قصد ابن القلاعي منها وخلفيّته، مع الإشارة قبل الحديث عن ذلك إلى أنها أولى المحاولات لكتابة تاريخ الموارنة، تلَتْها بعد ما يقارب القرن ونصف القرن كتابة البطريرك اسطفان الدويهي لهذا التاريخ.

تاريخ الموارنة في جبل لبنان
بدأ ابن القلاعي زجليَّاته التاريخية في سنة 1494، وقال إنها كتبت عن ستمائة عام من تاريخ الموارنة في جبل لبنان، وبهذا يعيد وجودهم إلى حدود سنة 900م فيما هو في الحقيقة قبل ذلك، أي في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي. ويذكر ابن القلاعي أن سبب قدوم الموارنة إلى جبل لبنان هو تهجير المسلمين لهم من وادي العاصي، فيما الحقيقة أنهم انتقلوا منه على دفعتين، أولاهما في سنة 669م بسبب نزاعهم مع اليعاقبة وتغلُّب هؤلاء عليهم، وثانيتهما في سنة 685م جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم، كما وردت الإشارة إلى ذلك.
لم يستعمل ابن القلاعي لفظة “المردة” بل استعمل لفظة “الموارنة”، والموارنة عنده هم أتباع القديس مارون، وهم شعب الله، وجبل لبنان الذي أقاموا فيه هو “جبل الله” لأن الله “كان ساكناً معهم يحمي القرايا والمواطن”، وقد سكنوا في المنطقة الممتدة من الدريب (عكَّار) إلى بلاد الشوف، وكانت حدودها الجنوبية تصل إلى بيروت العتيقة (بيت مري) وإلى زرعون وترشيش، وتُجاور تبعاً لذلك المنطقة المسكونة بالموحِّدين (الدروز)، وكان عندهم العديد من القواعد، وعليهم البطريرك، والمطارنة الذين يبلغ عددهم 40 مطراناً، وعليهم – بحسب أقوال ابن القلاعي- “أمراء وحكَّام وملوك” وهم الذين عُرفوا بـ”المقدّمين” وقد لُقِّبت منطقة كسروان باسم أحدهم كسرى.
اتَّخذ الموارنة من جبل لبنان، في نظر ابن القلاعي موطناً خالصاً لهم، وملاذاً للمؤمنين بعقيدتهم، وعاشوا عصرهم الذهبي فيه يوم كان خالياً من المسلم والهرطقي، ومن اليهودي الذي إذا وُجد تكشف الغربان قبره بحسب تعبيره الذي يقول:
وهــرطيــــــــــــــــــــقي ليـــــــس يـــــــوجـــــــد فيـــــــه ولا مســـــــلم كـــــــــــــــان يـــــــــــوجـــــــد فيه
يهـــــــــــــــــــــــــــودي إن كــــــــان يوجــــــــــــــــــد فيـــــــه قبـــــــــــــــــــــــره تكشــــــــــــــــــــــــفه الغــــــربــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان18

أمَّا جيران الموارنة: (الدروز)، فبعضهم كتبة حروز، أي كتبة التعاويذ والطلسمانات، كما يصف ابن القلاعي أحدهم المسمَّى “جوكان الدرزي”:
ابــــــــــــــــن جوكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان الــــــــدرزي كــــــــــــــــــــــــاتب ســــــــــــــــاحر الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــرزي19
ويذكر ابن القلاعي أن الموارنة استطاعوا بسيف الإيمان أن يحموا حدود جبل لبنان من المسلمين وأن يرموا الخوف والوسواس في نفوس الدروز، وقد أقاموا للدفاع عن بلادهم قلعة في أنطلياس سمَّوها “القلعة الحجرية”، وقلعة أخرى في بحرصاف التي جعلوها كرسياً للمطران، وهي واقعة بالقرب من بكفيا، وقلعة ثالثة عند نهر الكلب. ومن الأماكن التي أقاموا فيها يُسمِّي ابن القلاعي ما يقارب الخمسين قرية ومكاناً، هي اليوم مسكونةٌ بهم، بعد أن تركوا بعضها على أثر الحملات المملوكيّة على كسروان، ثم عادوا إليها، كما إن معظمها يشتمل على أديرة كبيرة.
إن اسم جبل لبنان قديم جدًّا يعود إلى أربعة آلاف سنة، ويشمل المنطقة الجبلية الممتدة من النهر الكبير شمالاً إلى نهر الليطاني جنوبًا وهو قسمان رئيسان: جبل لبنان الشمالي حيث نزل الموارنة، وجبل لبنان الجنوبي حيث نزل الموحِّدون (الدروز) وأعطَوه لتكاثرهم فيه اسمهم (جبل الدروز)، لكن جبل لبنان، بحسب ما يُستنتج من زجليَّات ابن القلاعي، يمتدّ من جهات بشرِّي شمالاً إلى نهر الجعماني (نهر بيروت) جنوبًا. وقد جانب بعض المؤرِّخين الحقيقة حين قالوا إن اسم “جبل لبنان” أُطلق على جهات بشرِّي والبترون وجبيل حيث أقام الموارنة بعد تركهم لكسروان، وإن هؤلاء حملوا معهم هذا الاسم إلى جبل لبنان الجنوبي بعد انتقالهم إليه في القرن السابع عشر.
إن تاريخ الموارنة في جبل لبنان حافل عند ابن القلاعي بالصراعات بين الموارنة والمسلمين، وبصراعات الموارنة الداخلية بين المتبعين منهم للإيمان الحقيقي، والمتأثِّرين بالأفكار الهرطقية، وكثيرًا ما تتقاطع الصراعات الأولى مع الثانية وحوادث هذا التاريخ ونتائجها مرتبطة بالإيمان وبعدمه.

حروب الموارنة
من الأسماء العديدة التي أُعطيَت لزجليَّات ابن القلاعي التاريخية اسم “حروب المقدّمين” لأن قادة الموارنة الزمنيِّين عُرفوا بـ”المقدّمين”، وقد وردت لفظة “المقدَّم” عند ابن القلاعي كلقب للحاكم الذي كان يقود جماعته في الحروب مع المسلمين ومع الدروز، إذ كان على كل قرية أو أكثر مقدّم، وقد استطاع معظم هؤلاء المقدّمين أن يحموا بلادهم – بحسب ما يذكر- من هذين الفريقين.
صاغ ابن القلاعي زجليَّاته بأسلوب ملحمي، وبعاطفة جيَّاشة آلَت به إلى المبالغة أحيانًا، كسائر شعراء الزَّجَل الذين تضجّ قصائدهم بقرقعة السيوف، وصهيل الخيول، ونخوة المقاتلين، لذا يصعب تلمُّس بعض الحقائق التاريخية من التعابير الإنشائيّة والوجدانيّة التي تحفل بها زجليّاته، والتي يصف بها الحروب.
من حروب الموارنة هجوم أمير منهم على البقاع، لا يذكر ابن القلاعي اسمه ولا تاريخ هجومه، لأنه لا يذكر أيًّا من تواريخ الحوادث، لكن اسمه عند المؤرِّخ البطريرك اسطفان الدويهي هو يوحنا20، وعند المؤرِّخ حيدر الشهابي هو الياس21. وقد دُفن في المكان الذي قُتل فيه، وأصبح اسم هذا المكان قبر الياس، أي قب الياس حاليًّا. أما تاريخ هجومه فهو في حدود سنة 752م. وقد تابع ابن أخته الأمير سمعان الحرب ضد المسلمين ثلاث سنين وانتصر عليهم وهاجم بعض أمراء الموارنة بعلبك من جهات بشرِّي والبترون وجبيل، وهاجم بعضهم الآخر وسط البقاع من جهات كسروان.
ومن حروب الموارنة اجتماع أمرائهم على دقّ النواقيس، بعد سقوط طرابلس وجبيل بِيَد المماليك، وكان اجتماعهم في المدفون وفيدار ولحفد، وهاجموا بثلاثين ألف رجل أعداءهم، واقتسم الأمراء (المقدّمون) الغنائم تحت نظر البطريرك، وأخذ كلٌّ منهم حقّه ما عدا مقدَّم بشري الساقط في الضلال والذي كان سبب هزيمة سابقة للموارنة. ومن مواقع الموارنة ما جرى لهم في كسروان إذ إن الله غضب عليهم بسبب سقوط راهبَين مارونيَّين في البدع والضلال، أحدهما من يانوح والآخَر من دير نبوح، فسمع بذلك الملك برقوق (سلطان المماليك) وأرسل عساكره إلى كسروان فأحرقته وخربته. وهذه الحوادث معروفة في التاريخ باسم الحملات المملوكية على كسروان التي استهدفت معاقبة الكسروانيِّين على مساعدتهم للفرنجة، وما كان الكسروانيون موارنة فقط، بل مجموعة من الأقليات أكثريّتها من الشيعة آنذاك، الذين لجأوا إلى مناطق أخوانهم وخصوصًا منطقتَي بعلبك وجزِّين22.
وما ورد ذكره في السِّجلّ الأرسلاني من مواقع بين الأرسلانيِّين والمردة، يرد مضمونه أيضًا عند ابن القلاعي بقوله إن الموارنة زرعوا الخوف في نفوس الدروز، وإنهم بنَوا للدفاع عن بلادهم ضدّ هجمات هؤلاء قلاعًا وردت الإشارة إليها.
وكما كانت هناك محطَّات من العداء والحروب بين أهل جبل لبنان، أي الموارنة، وبين الحكم الإسلامي الممثَّل أحيانًا بما سمَّاه ابن القلاعي “حكم حمدان، وحكم أحمد”، كانت هناك محطة من السلام أَرسَلَت فيها العناية الإلهية مقدَّمًا لبشري مطيعًا للبطريرك، وحاكمًا مسلمًا هو السلطان قلاوون الذي استضافه في فترة خلعه عن السلطنة، راهب ماروني في وادي قاديشا، فكافأ السلطان الموارنة بعد استعادته عرشه، بتقديم المال لهم لبناء أديرة الوادي.

رسالة إلى الموارنة
رأى ابن القلاعي أن الموارنة عاشوا في عزٍّ وطمأنينة وسلام وقوة، أيام اتِّحاد البطريرك مع الحاكم، وأيام كان البطريرك صاحب سطوة، والحاكم صاحب نخوة، وهما مثل الأخوة، وأيام الثبات على صخرة الإيمان وخُلوِّ مناطقهم من أي معتنق لمذهب مخالف لمذهبهم. ومن الأمراء الذين احترموا البطريرك وحافظوا على الإيمان وحقَّقوا الانتصارات، وثبّتوا الوجود: سمعان الذي وردت الإشارة إليه والذي تثبت على الخارجة أي على كسروان ببركة البطريرك ومساعدة ملك جبيل الذي لم يسمِّهِ ابن القلاعي، والأمير كسرى الذي كان صديقًا لملك جبيل وكريمًا في عين ملك الروم في القسطنطينية، والأمير نقولا الذي تتجسَّد فيه صورة البطل المدافع عن الحق والإيمان.
وبالمقابل، رأى ابن القلاعي أن ما حلَّ بالموارنة من نكبات يعود إلى عصيانهم أوامر الله، وعدم طاعة أمرائهم (مقدَّميهم) له، وظلمهم، ويعود أيضًا إلى السماح للهراطقة بالتواجد بينهم. وعلى سبيل المثال إن الأمير الذي هاجم البقاع خسر المعركة وقُتل لأنه عصى أوامر الله فشرب وسكر وشهد رقصًا خالعًا، وإن كسروان نُكبت بسبب الراهبَين اللذَين سقطا في الضلال والبدع، وإن المسلمين استفادوا من انشقاقات الموارنة فكرّروا الهجوم على لبنان وإن الموارنة ضعفوا لأخذ بعضهم بالبدع، ومنهم البطريرك لوقا البنهراني الذي نافس إرميا الدملصاوي، وقد ذهب الأخير إلى روما، وقدّم خضوعه للبابا فنصَّبه بطريركًا على جبل لبنان، وبعد عودته انضوى الجميع بإمرته تحت راية الإيمان الحقيقي، كما رأى ابن القلاعي أن طرابلس وجبيل سقطتا بيد المسلمين لأن الأمير سالم لم يكن تقيًّا وعادلاً، ولأن الله غضب على الشعب، وأن الشيطان يعود من حين إلى آخر فيوسوس في نفوس الموارنة فيتبع بعضهم الضلالة وينقسمون على أنفسهم، وقد حصل مثل ذلك حين اتّهم الضَّالُّون البطريرك جبرائيل بأبشع التهم، فاقتيد سنة 1367 إلى طرابلس بأمر من نائبها المملوكي، وأُحرق بالنار مظلومًا عند جامع طينال، وهو الملقب بجبرائيل الحجولاوي نسبة إلى حجولا من بلاد جبيل.
إن الرسالة المهمَّة للموارنة هي تلك التي قصد ابن القلاعي توجيهها إلى أهل بشري الذين جرى النزاع بينهم وبين أهل الضنّيّة المجاورين. وعن هذا الموضوع يذكر البطريرك اسطفان الدويهي أن الضّنية كانت منذ الفتح الإسلامي بِيَد السُّنّة، وأن هؤلاء خرَّبوا أديرتها وكنائسها وطردوا منها النصارى، وراموا فعل ذلك مع نصارى جبة بشري فهاجموها. وحين استنجد هؤلاء بمقدَّمهم خذلهم، فما كان منهم إلاَّ أن اتَّحدوا وأقسموا على الصمود وانقسموا إلى أربع فرق، ونجحوا في صدّ هجوم أهل الضنية23.
انطلق ابن القلاعي من هذا ليوجِّه رسالة إلى مقدَّم بشري في زمنة عبد المنعم أيوب، الذي كان أبرز مثل عن الحكَّام الظالمين، وأشدّهم شرًّا، وأبرزهم في حماية الضَّالِّين والهراطقة اليعقوبيِّين، وليحذِّره من أنه إذا لم يسلك الطريق القويم، ويتخلَّص من اليعاقبة الذين يبلبلون أفكار الموارنة، فإن الأمير أحمد كامنٌ له ولبشري بالمرصاد، منتظراً الفرصة للانقضاض على بشري وتدميرها، وهذا الأمير المسمَّى بأحمد ليس سوى شخصية وهميَّة القصدُ منها العدوُّ المتربِّض شرًّا ببشرِّي وأهلها. وقد كرَّر ابن القلاعي مناشدته لبشرّي أن تستفيق، وأن تتخلَّص نهائيًّا من اليعاقبة، وأن تبني من جديد على صخرة الإيمان الصلبة.
كتب ابن القلاعي زجليَّاته تلك بالدُّموع حسبما جاء في آخر أبياتها، ورمى منها عبر المشاهد التي رسمها عن ستمائة عام من تاريخ الموارنة في جبل لبنان، إبلاغ رسالة دينية سياسية إلى الموارنة بضرورة بقائهم مجتمعًا مغلقًا بوجه المذاهب والبدع الدينية وبوجه المسلمين، وبضرورة الثبات على الإيمان، والابتعاد عن البدع، وطاعة الحاكم للبطريرك وتعاونهما، وتوجَّه البطريرك نحو الكرسي الرسولي في روما لتقديم الخضوع، وطلب التثبيت، وحلّ خطايا رعيته.
إن زجليَّات ابن القلاعي تعبير واضح عن وجدان الموارنة التاريخي وخصوصيّتهم، وتباهيهم بانتصاراتهم وصمودهم في جبل لبنان، وهي ليست تاريخًا بالمعنى المعروف بل هي، بحسب ما جاء عند محقِّقها بطرس الجميِّل: “قصة شعب من زاوية دينية محضة، وهي أشبه بقصة الكتاب المقدّس منها بتاريخ مستند إلى البراهين والإحصاءات، غايته: كتابة تاريخ شعب الله (الموارنة بنظره) في ضوء الأحداث التاريخية”24.

الخلاصة
بعد الحديث عن المصادر الخمسة التي تؤرِّخ للموحِّدين (الدروز) والموارنة يمكن القول إن السِّجلَّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت لصالح بن يحيى، وتاريخ ابن سباط، هي سجلٌّ درزي، وإن زجليَّات ابن القلاعي هي سجلٌّ ماروني، وإن كلاًّ من السِّجلَّيْن يفيد عن منحى فكري، ومنطلق تاريخي، وموقع سياسي مختلف عن الآخر. فالمؤلَّفات الأربعة الأولى تندرج في إطار التاريخ العربي والإسلامي، ذلك أن الموحِّدين (الدروز) هم في المعتقد أحد المذاهب المتفرِّعة من الإسلام، وهم في الواقع السياسي والمسيرة التاريخية من أبرز الجماعات التي جاهدت تحت لواء الإسلام، وأسَّسَت إماراتها في ظلّ الدول الإسلامية الحاكمة، فجاءت الكتابات عنهم ترجمة لمبادئهم ومفاهيمهم، وتصويرًا لسلوكهم.
أما المؤلَّف الخامس، أي زجليَّات ابن القلاعي، فهو يندرج في إطار التاريخ الخاص، المكتوب بخلفية فئوية ومناطقية، لأنه يتكلم عن الموارنة كجماعة دينية لهم معتقد مختلف عن معتقدات سائر المسيحيين المساكنين لهم، يحرصون على صونه بتحصينه إزاء هذه المعتقدات، وبالتبعيّة إلى الكرسي البابوي في روما، كما لهم وطن مقدّس خاصّ بهم هو جبل لبنان الشمالي، يدافعون عنه، ويعملون على صونه من غزوات المسلمين باتحاد القيادة الدينية مع القيادة السياسية، وبالثبات على الإيمان، وبالتعاون أحيانًا مع الروم البيزنطيين أعداء المسلمين.

المِسبحَة في التاريخ

صنعها كهنة الصين والهندوس منذ آلاف السنين لكن المسلمين نقلوها وكرّموها ونظموا فيها القصائد

أكثر من عمّم استخدامها العابدون والصوفيون لحاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة

المسبحة بالنسبة الى كثيرين قنية فريدة وزينة وأداة تفاخر وكثير منها يباع بأسعار خيالية

البداية
منتصف أيار 1999، أقلعت بنا الطائرة من مطار بيروت: بيروت – أثينا – نيويورك، في مطار أثينا أمضينا ما يقارب الثلاث ساعات، خلال هذا الوقت وأثناء تجوالي داخل المطار اتجهت نحو “ السُّوق الحرّة “ هناك وقع نظري على كتاب، على غلافه صورة “المسبحة” فاشتريته، وفي أعماق نفسي ارتفعت صرخة أرخميدس”: “وجدتها”.1
أمعنت النظر في اللون، شكل الأحجار، الخيط، الشرّابة… الخ !
“ الصورة نص والنص صورة”.
طوال الرحلة من أثينا الى نيويورك وأنا مستغرق في قراءة هذا الكتاب، وكانت تمرّ لحظات، وكأن الكلمات أصبحت كحبّات السبحة فتذكرت هذا البيت من الشعر لمحمد الصهناجي البوصيري في همزية:
وإذا حـــــــــــلّت الهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداية قلبــــــــــاً نشــــــــــطت للعبــــــــــادة الأعضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
هل كان صدفة نزولي في مطار أثينا لأول مرّة في حياتي؟ هل كان صدفة أن يقع نظري على كتاب المسبحة؟ وهل كان صدفة أن يوقظ محتوى هذا الكتاب في قلبي ونفسي سلسلة من الأسئلة، وباقة من الذكريات؟
في اليوم التالي بعد الظهر وأثناء المشاركة في هذا المؤتمر – قسم الشرق الأوسط، وقبل أن أبدأ بمداخلتي المتواضعة تذكرت النفري في مقولته “الإنسان معنى الكون”.
فقلت باختصار شديد: “غاية الإنسان في هذا الكون أن يعطي لوجوده المعنى، والمعنى من وجود “هيئة الأمم” أيها السادة أشبه بالسُّبحَة Rosary حبّاتها الدول الأعضاء وخيطها ميثاقها وهذا الخيط الذي يجمعها هو رسالتها ودستورها والذي يتضمن معنى “جنين الحدس الأخلاقي الرفيع”، فعلا التصفيق في القاعة بشكل لافت.
مرت ثمانية عشر عاماً على تلك السفرة احتفظت خلالها بهذا المخطوط الثمين، إلى أن آن الأوان ليرى هذا المقال النور على صفحات مجلة “ الضحى” الغرّاء.

إرث إنساني
المسبحة إرث فني بديع متغلغل في التراث الإنساني، قديمه وحديثه، كما إن لها وظائف ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالثقافة السائدة أو بالأرقام والعدّ والحساب، وهي زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعامل مساعد على تهدئة الانفعالات النفسية، علماً أن الأعصاب تنتهي برؤوس الأنامل، لذلك فهي رياضة لطيفة تسلي الأصابع التي تريد أن تبقى ساكنة بحبّاتها.
وللمسبحة أسواقها العامرة وخامات متفاوتة وهي تختلف كثيراً في ما بينها من حيث الندرة والقيمة والجمال والإبهار. وحرفة تصنيع المسابح تستلزم مهارة وإبداعاً في آن معاً، مثلها مثل مهنة تصنيع الحُلِي الذهبية، بل هي كذلك، فبعضها جاوز سعره ثمن قلادات ذهبية، مما يفرض صونها وحفظها في الخزائن الحديدية ومجموعات المقتنيات النفيسة.
وتقول بعض كتب التاريخ إن كهنة الصين والهندوس كانوا أول من ابتدع السبحة، كذلك تشير الدلائل التاريخية إلى أن ظهور السبحة الدينية لأول مرة كان في الهند، في بداية القرن الخامس قبل الميلاد واستقى المسلمون الفكرة هذه من خلال احتكاكهم مع الشعوب الهندية من خلال التجارة والفتوحات.

دور الصوفية في انتشارها
لكن من المرجح أن أكثر من عمّم استخدام المسبحة هم العابدون والصوفيون بسبب حاجتهم لضبط التسابيح والأوراد بأعداد معينة، وكان التسبيح في الأصل يتم على أصابع اليد وغير ذلك، وغالباً ما يلجأ الذاكر إلى أصابع يده إن لم تتوفّر له السبحة، وهناك ثلاثة أحجام للسبحات، الأول 33 حبّة وهو الأكثر انتشاراً والثلثان 66 حبّة والسبحة الكاملة وتتكون من 99 حبّة بعدد أسماء الله الحسنى، هناك في حالات أخرى سبحات طويلة جداً تحتوي الواحدة منها على 999 حبة وبعض هذه السبحات تشترى كتذكارات أو لأغراض تزيين المكان.

تعريف المِسبحة أو السُّبحة
المِسبحة أو السُّبحة عبارة عن مجموعة من القطع ذات الأشكال الخرزية الحبيبية مع فواصل وقطع أخرى، حيث تتألف كلّها من حبات بعدد معيّن منظومة ومنتظمة في خيط أو سلك أو سلسلة، ويختلف شكل الحبّات ومادتها بحسب ذوق الصانع أو متطلبات الذين يطلبونها أو يبتاعونها لأسباب دينية أو اجتماعية أو لغرض اللهو أو التسلية. وقد اختلف أسلوب صنع السبحة عبر القرون حتى بلغ في التنوع في أيامنا ما لا يعدّ ولا يحصى..
وكما ورد في باب الحبيبات بالانكليزية، فإن كلمة beads (بالجمع) قد تعني عقداً أو مسبحة.
وقد استخدمت السبحة كما أسلفنا في أوراد الذاكرين والمسبحين بهدف أداء عدد معين من كلمات أو عبارات التسبيح لله تعالى في جلسة واحدة،. غير إننا لا ننكر تأثير الحضارات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط أو غيرها في مجال استخدامها لأغراض دينية أو لغرض العدّ والحساب لما هو مطلوب من الانسان في كافة شعائر الحياة الدنيا والمتطلبات الروحية الأخرى كما سنرى لاحقاً…
في الإصطلاح الصوفي
• ما أجمل قول الإمام “القشيري”: “التسبيح هو التقديس والتنزيه ويكون بمعنى سِباحة الأسرار في بحار الإجلال”.
• أما قول الشيخ الأكبر ابن عربي: “ فالتسبيح: هو قسم من أقسام الحمد ولهذا فإن الحمد يملأ الميزان على الإطلاق وسبحان الله وغير ذلك من الأذكار تحت حيطة الحمد. حقاّ إنه تسبيحة صلاة.
حسب الصوفية، فإن السبحة هي رفيقة العبادة والأذكار، وهي وسيلة الاستغراق وطاردة الغفلة وقد وصل بها رجال حضرات أسرار الجمال، فسهروا بها الليالي وقطعوا بها سبل التقرب من الله.
لهذا اهتمّ بها المسلمون وكرّموها وأظهروا حبهم لها وأنشأوا في مدحها القصائد، لقد كانت السُّبحَة عند الصفوة رمزاً لسلوك الذكر وحب الذاكرين للسبحة هو من قبل تقدير وظيفتها الخاصة إذ تساعدهم على الاستغراق في الذكر وفي الاستغفار وكل ذاكر يدرك أن عليه أن يستغرق في عبادة الله مئات المرات وأحياناً أكثر بكثير في طريق التوبة والاستقامة على الصراط وكل ذلك بمساعدة السبحة .

هذا المتحف اليوناني المخصص للمسابح هو الوحيد من نوعه في العالم
هذا المتحف اليوناني المخصص للمسابح هو الوحيد من نوعه في العالم

السبحة عبر التاريخ
منذ آلاف السنين ومنذ كان الإنسان القديم يسكن الكهوف وعثوره بطريق المصادفة أو الحَفر على أحجار مُلونة هنا وهناك، فلا بدّ أن هذه الأحجار سحرته بجمالها وألوانها وبريقها فألهبت خياله، ومن أقدم الأحجار والمواد التي استخدمها الإنسان قد عثر عليها في قبور ترجع الى آلاف السنين.
ويذكر أن فكرة التواصل مع هذه الأحجار والمواد ومن ثم خرقها وتجميعها وربط بعضها ببعض بخيط، كانت البداية الأولى بهدف التزين وخاصة أن الحفريات أظهرت أن مثل هذه القلائد كانت في الأعناق تدفن مع الموتى… ولا سيما النساء…
وقيل في ذلك الزمن إن معرفة هوية الهيكل العظمي للمرأة ممكن من خلال تمييز القلادة المعلقة في عنقها. ويعتقد بعض المؤرخين أن فكرة المِسبَحة بدأت عند السومريين قبل خمسة آلاف سنة ومن ثم انتقلت الى بقية الحضارات الأخرى كالفرعونية والهندوسية والفارسية وغيرها من الحضارات اللاحقة. وبرهن على ذلك المكتشفات الأثرية لقلائد وعقود الذهب واللازورد Lapis Lazuli والكورنيليان والفيروز والرخام والعظام في مختلف الحضارات القديمة.
وكان لتطور المعتقدات الروحية والأساطير أثر لافت يومِئ إلى شغف إنسان الحضارات القديمة بهذه المنتجات الطبيعية الجميلة، إذ كان يعتقد أن للأحجار الخضراء اللون تأثيراً يمنع الأمراض، بينما تساعد الحمراء على تخفيف النزيف والالتهاب وحجر العقيق للقبول والإقناع وجلب الحظ وحجر الملكيت للتخدير وللحماية من السحر، أما حجر الياقوت الأزرق فهو رمز العفّة وعلاج لفورات الغضب، والفيروز للنصر وتبيان حالة الإنسان النفسية عند تغير ألوانه، والكهرمان لامتصاص الأمراض من جسم الإنسان ولطرد الأرواح الشريرة. أما المرجان فكانت له أهمية مميزة زمن الحضارة الإغريقية، وكان للعقيق الأحمر فضل كبير عند الرومان حيث استخدم في القلائد والعقود والأختام وغيرها.
أما عند الفينيقيين فقد انتشرت القلائد والأحجار الكريمة بكثافة واستخدمت في مجال المقايضات والتبادل التجاري، وبعد ظهور الدين المسيحي وانتشاره تعلّق الرهبان والناس بالقلائد كرمز ديني، وأكثر ما استخدمت كقلائد بشكل صلبان، فأخذ الرهبان من أديرتهم يستخدمونها في صلواتهم وأصبحت رمزاً مقدساً وما زال نموذج “المِسبحة الوردية” حاضراً لامعاً.
الحديث يطول عن استخدام المسبحة في عصور الاسلام وتطورها، اللافت أن الناس على مرّ العصور كانت تصنّع الأحجار الكريمة كأختام ومسابح وقلادات وغيرها كما مرّ معنا سابقاّ ولقد اشتهر أبو الريحان البيروني بكونه من أشهر علماء العرب في المواد والأحجار الكريمة وذكر ذلك في كتابه

درويش صوفي مع مسبحته
درويش صوفي مع مسبحته

«الجماهر في معرفة الجواهر».
كثيرة هي المراجع التي تشير إلى أن اسم المِسبَحة كان مدرجاّ في أوائل العصر العباسي، فقد ذكر في بعض المصادر ( كتاب مشهد الإمام علي في النجف. مؤلفته سعاد ماهر/ عن دار المعارف

“زينة شخصية ووجاهة اجتماعية، وأبهة وثروة مادية، وتحفة فنية ومفخرة منزلية وهدية رمزية للأهل والأصدقاء، وعــامل مساعد على تهدئة الانفعــالات”

في مصر/ ص188/ص 189) أنه في السنة الثالثة للهجرة، ولما وقعت غزوة أُحُد وقتل فيها أقوى حماة الإسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو عم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وعظمت المصيبة على المسلمين وقد ناحوا عليه في كل مأتم، وقيل اتسع الأمر في تكريمه إلى أن صاروا يأخذون من تراب قبره يتبركون به “ويعملون السُبحات منه”. والواقع لم نجد مصادر أخرى تثبت هذا الخبر.
وفي العصر العباسي وما تلاه من الحكم الإسلامي في بلاد الأندلس ومن ثم في فترات حكم المغول والبويهيين والسلاجقة، وانتقال الحكم للفاطميين والمماليك في شمال أفريقيا، انتشرت طرق الحركات الصوفية وحركات الدراويش والدروشة واتباع هذه الطرق يحملون المسبحة ويتبركون بها ويعدون بها أسماء الله الحُسنى وأثناء التشهّد يحملونها أيضاً في تجمّعات الذكر والتهليل، وكانت تتكوّن من العظام أو الخزف أو الأتربة المعجونة والأخشاب والصدف، وبعض مسبحاتهم تتألف من 99 حبة زائد الفواصل والمنارة والبعض الآخر يتألف من ألف حبة وقد تصغر الحبات أو تكبر حسب التقاليد السائدة في كل مرحلة، ويعتقد بعض أتباع الصّوفية أن المسبحة تفيد في العد عند الذكر المتكرر لأسماء الله الحسنى. وقد تطور استعمال المسبحة آنذاك حتى انتقل حملها باليد أثناء المجالس الخاصة بالصوفيين وأحياناً الى العنق أثناء التجوال أو بعد الانتهاء من الصلاة والتسبيح. وما زال منظر الصّوفي أو صاحب الطريقة والذي يعلق مِسبحته في عنقه ماثلاً الى هذا اليوم في مصر والعراق والمغرب وتونس الخ…
وزاد انتشار المسبحة في العهد العثماني وفي النصف الثاني منه بشكل كبير، وخصوصاً في تركيا والعراق وايران ومصر وبلاد الشام وبعد أن انتشرت المسبحة المختصرة (33 حبة) وكان بعض مواد إنتاجها متوافراً محلياً والبعض الآخر يستورد ويطلب تصنيعها مثل مسابح الكهرب التي كانت تستورد من ألمانيا أو غيرها.
وفي بداية هذا القرن والى وقتنا الراهن وبعد التطور الصناعي الكبير وازدياد الثروات أنتجت المسابح بشكل كبير ومن مواد متنوعة قد تنوف على المئة، وخصوصاً من المواد الرخيصة، ودخلت في مجال تصنيعها أمم وشعوب جديدة، مثل دول الشرق الأقصى وأوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية والصين والهند ودول أفريقيا حتى إن البعض شبهها بأقرب ما يكون الى الهجمة الخارجية في تصنيع المسابح بسبب ازدياد تصنيعها في خارج المراكز الاسلامية.
مع الإشارة الى أن السبحة لم تكن مستخدمة في صدر الإسلام، حيث قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه “رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده، غير إن بعض الصحابة استعانوا بعد ذلك في تسبيحهم بما يساعدهم على ضبط العدد مثل النوى والحصى والخيوط المعقودة، وفي العصر الأموي ظهرت السبحة، ثم ومع توسع الفتوحات الإسلامية وازدياد الثروات برع الصناع في تصميم السبح من الجواهر والأحجار الكريمة، فحوت خزائن الخلفاء الراشدين والحكام المسلمين أجمل نفائس السبح.
ولعلّ من أشهر السبحات تلك التي استعملتها زبيدة بنت جعفر المنصور، والتي صنعت من ياقوت رُماّني على هيئة بندق والتي اشترتها بخمسين ألف دينار، كما كانت لدى العديد من الأمراء في العصر الفاطمي سُبح نادرة وثمينة، كذلك فإن السُّبحَة الأكثر استخداماً تتألف من 99 حبة أو خرزة وفقاً لعدد أسماء الله الحسنى، وهي تكون مكونة من “الإمام” أو “المئذنة” أي رأس السبحة، والشاهدين الفاصلين اللذين يختلفان عن باقي الخرزات، الأول منه يكون موضعه بعد الخرزة الثالثة والثلاثين، والثاني بعد الخرزة السادسة والستين، أما نهايتها فهي عبارة عن كتلة على رأس “الإمام” أو “المئذنة” تكون مصنوعة من الفضة أو عقدة من خيطها، وبالعادة تعلق على رأس السبحة شرابة نسيجية أو معدنية.
يقول الباحث والمستشرق الألماني جولد زيهر، إن السُّبحَة لم تنتشر في الجزيرة العربية، إلا في القرن الثالث الهجري عن طريق مصر، بينما ذكرت الموسوعة الإسلامية أن أول استعمال للسبحة كان في أوساط الصوفية، وبين الطبقات الدنيا للمجتمع، وقد ارتفعت أصوات بإنكارها في القرن الخامس عشر الميلادي، إلا أن أكثر العلماء أفتوا بعدم وجود مانع من استخدامها.
وإذا كانت السُّبحَة مظهراً من مظاهر العبادة في مختلف الأديان إلا أن عدد حبّاتها يختلف من ديانة الى أخرى. فغالبية المسلمين يؤمنون بأن عدد حبّات السبحة إما 33 حبّة حسب الذكر الذي أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام، أو 99 وهو عدد أسماء الله الحُسنى، بينما السُّبحَة لدى الصّوفية هي 100 حبّة مزودة بعدادين الأول خاص بالمئات والثاني خاص بالألوف، هذا فضلاً عن محبس لمئات الألوف حتى يصل عدد التسبيح من مليون الى مائة مليون. أما السبحة عند المسيحيين فيتراوح عدد حبّاتها بين 45 حبّة، ويعلّق في نهايتها صليب. أما سبحة اليهود فيتراوح عدد حبّاتها ما بين 17 حبّة، و21 حبّة.

فقير في كاتنماندو نبيبال يحيط عنقه بالمسابح كما هي العادة لدى الزهاد الهندوس
فقير في كاتنماندو نبيبال يحيط عنقه بالمسابح كما هي العادة لدى الزهاد الهندوس

والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين والطريف وكما يقول العاملون في صناعة السُبح في مصر، هو أن السائحين الأجانب أخذوا عن المسلمين عادة استخدام السبحة، وتكرار حركة الأصابع أثناء التسبيح كعلاج نفسي للقلق، ولتحقيق انتظام ضربات القلب كما يقولون وكما يفضل البعض سواء من المسلمين أو الأجانب شراء السبح الكبيرة واستخدامها في الديكور، سواء المُصنّعة من خشب الأرو أو الزان أو المصنوع من الخزف الأزرق أو الأخضر وقد كتب عليها أسماء الله الحسنى. وتعدّ المملكة العربية السعودية من أكبر أسواق بيع وشراء السبح في العالم، حيث يصل حجم مبيعات السبح فيها الى نحو مئة مليون ريال سنوياً، كما باتت الصين

مسبحة مطعمة بالأحجار الكريمة ومزينة بالفضة
مسبحة مطعمة بالأحجار الكريمة ومزينة بالفضة

 

 

 

مسبحة من الفيروز بـ 99 حبة
‘ مسبحة من الفيروز بـ 99 حبة

نتركه في النهايات، إني أحب أن أذكر الله بقلبي ويدي ولساني.
وقال محمد المير في رسالته: قال الشيخ أبو العباس الرواد: تبيّن من قول الحسن إن السبحة كانت موجودة في زمن الصحابة لأن بدايته في زمنهم.
وقال ابن الجوزي: إن السُّبحَة مستحبة لما في حديث صفيّة أنها كانت تسبّح بنوى أو حصى وقد أقرّها (صلى الله عليه وسلم)على فعلها والسبحة في معناها إذ لا يختلف الغرض عن كونها منظومة أو منثورة.
وقال الإمام السيوطي: وقد أخذ السُّبحَة سادات يشار اليهم ويؤخذ عنهم ويعتمد عليهم فلو لم يكن في اتخاذها غير موافقة هؤلاء السادة والدخول في مسلكهم لكفى.
وذكر القاضي أبو العباس أحمد بن خلكان في وفيّات الأعيان أنه رؤي في يد أبي القاسم الجنيد بن محمد يوماً سبحة فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سُبحَة؟ قال: طريق وصلت به الى ربي لا أفارقه.

هواية جمع المسابح
على غرار هوايات جمع الطوابع وجمع العملات القديمة والتذكارات، هناك من يهوى جمع المسابح سواء ما اختلف نوع مادتها وشكلها ولونها أم ما انطبق منها وخصوصاً في بعض بقاع العالم الاسلامي والعربي، وفي هذا الجانب فقد تجد من الناس من يذكر لك هوايته المحببة هذه ويسرد عدد مسابح الكهرب أو غيرها من المواد التي يملكها، مفصلاً عن مواصفاتها وجمالها وألوانها ومعاناة جمعها وبدايات هوايته هذه وتلك التي فقدها وروايات شتى تكاد لا تنقطع ولا تنتهي تدور حول تعلّقه بالشخصيات الاجتماعية أو السياسية التي تملك أنواعاً معينة من المسابح النادرة، وكيفية أو تاريخ اقتنائها وما الى ذلك، حتى إن البعض يذهب بعيداً ويضع الخطط في كيفية الحصول على مسبحة نادرة موجودة عند بعض الأشخاص سواء بشرائها أو بطرق اخرى، وهكذا فقد يجلب حب المسبحة مواقف طريفة أو محزنة على حدٍ سواء وبسبب هذه الهواية وهذا الاهتمام نشأت للسبحة أسواق وباعة مختصّون خصوصاً في بعض الدول العربية والاسلامية التي تركزت بها الحضارات القديمة مثل أسواق العراق – بغداد، وكربلاء، والنجف، والكاظمية – وغيرها، وفي مصر – أسواق القاهرة (خان الخليلي وغيرها) وفي السعودية ودول الخليج العربي وتركيا وبلاد الشام وايران والأردن ومناطق أخرى لا حصر لها.

أبو نواس يعترف بفضلها
إن عراقة المسبحة في الشعر العربي ترجع الى ما يزيد على ألف عام، منذ العصر العباسي، فأبو نواس عندما حبسه الأمين، لمجونه وخلاعته، وانقذه من السجن – الفضل بن الربيع- وأظهر التوبة لزم بيته قال شعراً جاء فيه:

مسبحة من الفضة الصافية
أنت يــــــــا ابــــــــــــــن الربيع ألزمتني النُســــــــــــــك
وعـــــــــــــــــــــوّدتنِيــــــــــــــــــه والخــــــــــــــــــــــير عــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
فارعـــــــــــــــــــوى باطلي واقصر حبلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
وتبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدلّت عِفــّــــــــــــــــــــة وزهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
لـــــــــــو تراني ذكرت بي الحسن البصري

مسبحة من الفضة الصافية

في حســـــــــــــــــــــــــن سمـــــــــته أو قتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــادة
مــــــــن خشــــــــــــــــــــــــــــــــوع أزيّنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة بنحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول
واصفــــــــــــــــــــــــــرار مثــــــــــــل اصفــــــــــــرار الجــــــــــــرادة
المســـــــــــــــــــــــــابيح في ذراعـــيّ والمصـــــــــــــحف
فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي لبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــتي مكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان القـــــــــــــــــــــــلادة
ولقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد طالمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لقيــــــــــــت ولكـــــــــــــــــــــــــــن
أدركتني على يديــــــــــــك الســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعادة
كما ذكرت السبحة في الشعر العربي كما في قول ابن عبد الظاهر:
وسبحـــــــــــــــــــــــة فــــــــــــــــــــــي أنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــــــلي قــــــــــــــــــد شـــــــغفــــــــــــــــــت بحبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها
مثــــــــــــــــــــــــــــــــل مناقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــير غـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدت ملتقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــطات حَبُّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
كما قال فيها شاعر:
ومنظومـــــــة الشمل يخـــــــــــــــــــلو بــــــــــــــــها اللبيب فتــــــــــــــــــــــــــــــــــجمع فـــــــــــــــــي همتــــــــــــــــــــــــــه

من المهم الإشارة الى أن “السبحة” لها “كرامتها” فلا يجوز أن تعار أو تنقل في المجالس من يد الى يد.

www.hdnicewallpapers.com
تمثال للإله الهندي شيفا كما يصوّر عادة مع أفعى الكوبرا وقد أحاط عنقه بمسبحة وحمل أخرى بيده

الخاتمة
علّمتني السُّبحَة أن على المرء أن يدرّب نفسه على اقتناص نبض الحواس الخمس يضاف اليها عين البصيرة، متجهاً نحو الأقاصي العميقة من نداءات الذات، منتصراً للعميق فيه وفي الإنسان عموماً.
علمتني المسبحة أن التساؤل تقوى الفكر. يقول اليابانيون إن المياه تحكي قصة وهي تجري، وأن حبات السبحة سمفونية بين أنامل العارفين. ومن أكمل كمالات العربية وأسماها تمييزها ما بين البصر والبصيرة، فالبصر مركزه العين، يحصر كل همّه في التقاط أشكال الأشياء وألوانها ومن أشكالها وألوانها يحاول العارف أن ينفذ الى كنهها، في حين أن البصيرة مركزها القلب والوجدان، همها الأول الوصول الى بواطن الأشياء دون التلهّي بمظاهرها، في كلا النموذجين “المِسبَحة- السُّبحَة نموذج”، بإسقاط الضوء على منطقة المعنى…
يقول الفيلسوف الهنغاري جورج لوكاش في كتاب عنوانه “الروح والأشكال”:
“ على من بدأ بحثاً أن ينهيه…” وان كل شيء فيه روح وإن لم تصدِّق، وهكذا الحال مع السُّبحَة وأقوال العلماء التي وردت في النص تأكيد على ذلك، أفما قيل: “آمن بالحجر تبرأ…!” فكيف اذا كان حجراً كريماً صاغته الطبيعة وصقلته وهذبته أولاً أيدي صاغة محترفين. كان عرب اليمن يكتبون الحكمة في الحجارة طلباً لبقائها، فكيف اذا كانت هذه الحجارة مطعمة بأسماء الله الحسنى والتقطتها الحواس الخمس مجتمعةً تمجّد وتسبّح الخالق ليل نهار بكفٍ فارغ وقلبٍ مليء بحب الله تعالى.
لم يعد من كبير شكّ أن السبحة تتكلم بالهمس واللمس لا بالعبارة وتجيب بلسان الحال لا بلسان المقال، ويصدق فيها القول: التراث المحكي هو التاريخ المخفي. تعامل مع سبحتك تعامل أفلوطين مع الجمال والحكمة: انكفء الى نفسك وانظر فيها ملياً، فإذا لم تجد الجمال تصرّف عندئذٍ تصرّف النحّات الذي يسوّي ويصقل حتى يكون قد زيّن تمثاله بجميع صفات الجمال المقدس. والمسبحة بين أناملك “كالطبيعة تتحدث اليك اذا أردت ان تصغي إليها.”
قال ابن الفارض:
ولطفُ الأواني في الحقيقة تابع للطف المعاني والمعاني بها تسمو
ما رأيته بوضوح بالتواصل مع السبحة هو خطوة صغيرة كخطوات الطفل الأولى تؤدي الى الخطوة الثانية. لقد فتحت هذه التجربة حياتي على الشغف الى تحقيق الذات والايمان انه لا توجد حدود لما يستطيع الإنسان انجازه لو أدرك قوى العالم غير المرئي، والتي هي حقنا منذ ولادتنا.
لا شيء يحدث مصادفةً في أي مكان، لأن هذا العقل الكوني مستعدّ على الدوام، ويسير بطرق عجائبية من الاحتمالات الضخمة غير المحددة.
نعم كنت مفتوناً بفكرة أن الحياة محصورة بما أرى وأسمع بحواسي، لقد اكتشفت انني أستطيع أن أفعل ما كنت أظنه مستحيلاً…
ان كان للمرء عــــــــزمٌ في إرادته فلا الطبيعــــــــــــــــــــــة تثنيه ولا القــــــــــــــدر
وان الكتابة والتواصل مع الأشياء نوع من الوجود وملاقاة الآخر، ليس هناك إنسان ضعيف، انما هناك إنسان لا يعرف مواطن القوّة لديه، مع الإيمان المطلق بأن فلسفة الحياة أن تعطي معنى لكل ما تفعل.
دعوتي اليك يا أخي: حاول أن تسمع المعنى وأنت تسبّح بالسبحة.
مسك الختام، ما وجدت أفضل من: سبحان الله، والحمدلله ولا اله إلا الله والله أكبر.

 

معركة الكفر

الإنتصارُ الذي أذلّ الفَرَنسيّين
وأشعلَ نيران الثّورة السّوريّة الكُبْرى

أرسل سلطان من ينصح الضابط نورمان بضرورة مغادرة الكفر
فاستهزأ قائلاً: اذهب وأبلغه أنني أنتظره هنا على أحرّ من الجمر

بدأ القتال بالسلاح الأبيض وقتل نورمان قائد الفرقة
وفي ساعتين قضي على الحملة الفرنسية عن آخرها

تُعتَبرُ معركة الكفر والإنتصار الحاسم الذي حقّقه الثّوّار على القوّات الفرنسيّة شرارة الثّورة السّوريّة الكبرى ونقطة التحوّل التي مكّنت سلطان باشا الأطرش من تعزيز قيادته وتعبئة الألوف من قوّات المجاهدين وفرض هيبة الثّورة على معظم قرى جبل العرب في تحدٍّ زعزع معنويّات السّلطات الفرنسيّة المُنتدبة.

إستفزازٌ فرنسيّ
كانت شرارة المواجهة في الكفر بين القوات الفرنسيّة وبين مجاهدي جبل العرب قد انطلقت عندما قامت السّلطة الفرنسيّة في 12 تموز 1925 بإلقاء القبض بأسلوب الغدر على ثلاثة من أصل خمسة من كبار زعماء آل الأطرش، كانوا موجودين في دار مفوّضيّة الجبل في حيّ القزّازين بدمشق، تلك الدار التي كان يشغلها ممثّلون من آل الأطرش منذ أيّام العثمانيين، وهم عبد الغفار ونسيب وحمد، وذلك بعد دعوتهم إلى دمشق بدعوى مفاوضات للنّظر في شكاوى مقدّمة ضدّ الحاكم العسكريّ الفرنسيّ لجبل الدّروز، الكابتن كاربييه، وكان بالمصادفة موجوداً عندهم ليلتها برجس الأطرش شيخ قرية المجيمر ويوسف الأطرش أخو متعب وعبد الكريم الأطرش. كان المندوب الفرنسيّ في دمشق، شوفلر، حريصاً على أن يبقى أمر الاعتقال سرّاً ليتمكّن من القبض على متعب وسلطان المعتصمين في الجبل، لكنّ الذين نفّذوا أمر الاعتقال في دمشق لم يعتقلوا حسن وكان حينها فتى صغير السنّ، فما كان منه إلاّ أن غيّر ملابسه ولبس ثياباً ملطّخة بالزّيوت لسائق سيّارة، وخادَعَ خادم الدار (راغب) الذي كان يقوم بدور جاسوس للفرنسيّين؛ إذ أخذه بسيّارته مسافة بعيدة عن المدينة وتركه ليعود وحيداً وهو يدرك أنّه سيصل إلى الجبل قبل أن يصل راغب ويخبر الفرنسيين بأنّ سرّ الاعتقال سيفتضح… تجاوز الفتى حسن المخافر على طريق سهل حوران إلى الجبل، بمهارة ووصل إلى قرية رساس في الجبل وأخبر الأمير متعب بالذي حصل.
كان متعب وسلطان قد رفضا الدّعوة إلى دمشق بعد أن توجّسا من نوايا الفرنسيّين، وما إن انتشر خبر اعتقال الزّعماء الأطارشة وكان فريق آخر قبلهم من قادة وشبان الدّروز رهن الاعتقال حتى بدأ سلطان حملة لتعبئة الرّجال في قرى الجبل للانضمام إلى الثورة. ومن الدّلائل البليغة على قِصَر نظر الفرنسيّين وغرور القوّة الذي كان يحكم تصرّفاتهم أنّهم أرادوا باعتقال زعماء آل الأطرش إجهاض أيّ احتمال لانتفاضةٍ على الحكم الفرنسيّ في الجبل، وهكذا كان اعتقال هؤلاء الزّعماء عمليّاً الشّرارة التي أشعلت نيران الثّورة.

النصب التذكاري للمعركة في مدينة الكفر1
النصب التذكاري للمعركة في مدينة الكفر1

فشل محاولة القبض على سلطان
يقول الأستاذ سلامة عبيد إنّ سلطان كان في سبيله مع فريق من الأهالي في يوم الرّابع عشر من تموز لمعايدة القومندان تومي مارتان رئيس قلم الاستخبارات المكلّف بمهمة الحاكم بالوكالة في دولة الجبل في السّويداء بمناسبة عيد الحرّيّة الفرنسي، وكان في نيّتهم طلب إطلاق الرّهائن من الشبّان المُعتقلين، لكنه في قرية رساس شعر بشيء من الرّيبة إزاء نوايا القائد الفرنسي، فأرسل ابن عمّه المقرّب منه صيّاح الأطرش إلى صديقه ورفيق جهاده علي عبيد في السّويداء يستشيره فنصحه بعدم الحضور، وأدرك الفرنسيّون أن علي عبيد أفشل خطّتهم فألقَوْا القبض عليه وساقوه مخفوراً في سيّارة شحن عسكريّة مع زعماء آخرين إلى المنفى في الحسكة. أمّا الزّعيم المسيحيّ عقلة القطامي فقد كان معتقلاً بأمر ساراي من قبل.. ومع افتضاح غدر الفرنسيّين باعتقال أولئك الزّعماء، غيّر سلطان ومن معه من الرّجال وجهتهم من السّويداء إلى المقرن القبلي وهم ينخّون ويَنتخون ويحثّون على الثورة مردّدين الحداء التالي:
حَــــــــــرايباً وِدْهــــــــا تصيـــــــــــــــــــــــــر ماهي على جــــال الخَفا
العام في بطــــــن الشِّعِيب واليــــــــوم عَ رُوْسِ الشَّــــــــــفا

ليلة المبيت في القريّا
سار سلطان بجماعته القلائل من رساس باتّجاه المقرن القبلي الذي كان أكثر استعداداً لتقبّل الثّورة، فمرّوا بالقريّا، وباتوا ليلتهم فيها، ليلة 17 تموز 1925. يقول سلطان في روايته لأحداث الثّورة وقد أدرك أنّ عواملها قد توفّرت “كان علينا أن نستمدّ قوة العزيمة والجرأة في إعلان الثورة من الله عزّ وجل، ومن شعبنا المؤمن الصّبور، كان شعورنا بمسؤولية ما نحن مقدمون عليه يتملّكنا ويأخذ بمجامع أفكارنا للسّببين التّاليين :
الأوّل: ما كان يدخل في تقديرنا من فارق كبير بين ثورات محلّية اعتاد آباؤنا أن يعلنوها ويخوضوا معاركها ضدّ سلطة أعجميّة متخلّفة تنتابها الفوضى ويستشري في كيانها الفساد، وبين ثورة وطنية نعلنها بوسائلنا القديمة ذاتها على دولة كبرى حديثة من أعظم دول أوروبا الاستعماريّة التي كانت تزهو بانتصاراتها السّاحقة على الجيوش الألمانية في الحرب العالميّة الأولى.
الثاني: بما أنّ تفكيرنا بالثّورة لم يكن محصوراً في نطاق الجبل، كما توهّم قصيرو النّظر وأصحاب الأقلام المغرضة والآراء الخاطئة، فقد كان من العيب جدّاً علينا أن نحقّق فكرة تعميمها ومدّ نشاطها إلى سائر أنحاء الوطن إلّا إذا نلنا في معاركها الأولى من هيبة السّلطة الفرنسيّة وأنزلنا بقوّاتها العسكريّة ضربة قاصمة تنتشر أخبارها في كلّ مكان”.

مشايخ عقل الموحّدين يؤيدون سلطان باشا
في ساعة متأخّرة من تلك الليلة 17 تموز، حضر وفد من رجال الدّين يتقدّمهم الشّيخ أبو هاني علي الحناوي من السّهوة والشّيخ سعيد الحجلي من عرمان، فَسُرّ سلطان بقدومهم غير المتوقّع وقد أبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنوات والشّيخ حسن جربوع في السّويداء، بعد أن أصرّت السلطة الفرنسيّة على عنادها في تطبيق الأساليب المذلّة في الحكم. وفي تلك الزّيارة نلمس عمق إيمان سلطان باشا الذي طلب من المشايخ ان يعظوه ويرشدوه في ما هو مقدم عليه من أمر جلل، فقال له الشيخ الحنّاوي: أمّا ما نعظك فيه ونرشدك فلا نزيد فيه على ما جاء في كتاب الله العزيز من آيات بيّنات تدخل الطمأنينة إلى قلوبنا وتهدينا سواء السبيل كقوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ (الحجرات: 15) وشدّد المشايخ الأفاضل على التعليم الصريح بهذا الصدد مرددين صفات الشجاعة وعدم الخوف التي يتحلى بها الموحِّد الديّان.
يقول سلطان باشا إن موقف مشايخ العقل “كان فصل الخطاب وكان به زادنا المعنويّ الذي لم ينضب له معين وسلاحنا الأقوى الذي خضنا به معارك الثورة”.

“مشايخ العقل زاروا سلطان باشا وأبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنــــوات والشّيـــخ حسن جربوع في السّــــويداء”

نبوءة زوجة
فجر اليوم التالي استيقظ سلطان على صهيل الخيل وحداء الفرسان وقد كانوا على علم مسبق بإعلان الثّورة. يقول سلطان: “وقد لفت نظري الحماسة الكبيرة التي كانت تبدو على أخي مصطفى في ذاك اليوم إذ إنّه بكّر على غير عادته وارتدى أجمل ما عنده من ثياب وتقلد سيفه وحمل بندقيته على ظهره وتمنطق بجناد ذخيرته وأخذ يجول وهو على صهوة جواده بين الفرسان، يحدّث هذا ويمازح ذاك ورائحة العطر تفوح من ظفائر شعره الأشقر المسترسل تحت كوفيته البيضاء وعقاله الأسود، وقبل خروجنا من ساحة الدار اقتربت منه زوجته وقالت له وهي تجهش بالبكاء “ألا تودع ابنك محمداً يا أبا مصطفى”.
وناولته إيّاه وهو لم يبلغ بعد شهره السادس ثم أسرعت نحوي وقالت: “وديعتك مصطفى يا سلطان قلبي يحدثني بأنّني لن أراه بعد الآن”.
فهدّأت من روعها وطلبت من نساء العائلة الحاضرات لوداعنا أن يأخذن بيدها ويدخلنها برفق إلى غرفتها. ولم أدر أن شعورها بالخوف عليه كان صادقاً وأننا سنفقده مع من سنفقد من مجاهدينا الأبرار في أوّل معركة ضارية تدور بيننا وبين المستعمرين الفرنسيين”.
في الثامنة صباحاً غادر سلطان القريا ومعه خمسة عشر فارساً هم: جاد الله شلهوب وداود طربيه ودرويش طربيه وسليم شقير وعبطان النّجم وعلي الملحم وغازي العبد الله وفارس الدّبس وفارس مفرّج وفرحان زيتونة وهاني أبو هدير ويوسف البلعوس وزيد ومصطفى شقيقا سلطان وأبناء عمه نواف وهايل، وبقي في القريّا أخوه علي وفرسان ورجال آخرون لإنهاء أعمال الموسم الزراعي واستطلاع تحرّكات الفرنسيين وتزويد الثوّار بتحرّكاتهم..
وصلوا بكّا حيث كان صياح الأطرش ينتظرهم وقد انضم للحملة من فرسان بكّا بهاء الدين ورشراش مراد وجدعان المعّاز ومن ثم تابعوا مسيرهم إلى أم الرمّان فباتوا ليلتهم فيها وانضم إليهم من رجالها نصّار ومحمّد ومحمود وحامد وحمّود البربور وحمد النّبواني وقد وعد الكثير من محاربيها بالانضمام إلى الثّورة بعد الانتهاء من أعمال الموسم الزّراعي، وإلى أم الرّمان انضمّ للثّوّار وفد من قرية حوط هم فرحان وعبد الله وحسن وحسين وحمّود العبد الله أمّا حمد البربور فقد كان لديه ما يشغله أيضاً ثم التحق بنا في صلخد إثر دخولنا إليها.

إستعراض قوّة في مَلَح
مرّ موكب الثوّار بالغاريّة ثم “عنز” فـ “المشقوق” فـ “صمّا البردان” فـ “متان” حيث أيّدهم فيها المجاهد يوسف العيسمي وشيخها الفتى علي الأطرش وهيّجوا أهل القرية فقاموا بعراضات حماسيّة في الساحة العامة وقد تمّ لقاؤهم مع الثّوار في اليوم التالي في عرمان. وانتقلوا بعدها إلى مَلَح، هناك لم يكن عدد الثوّار قد تجاوز الثلاثين فارساً وقد استقبلهم عند مدخل البلدة علي الملحم وخليل الباسط فأبلغوا سلطان أنّ سريّة من الحرس السيّار التابع للفرنسيين تعدادها نحو مائة خيّال موجودة في القرية فقام سلطان ومن معه بإرهاب القوة بعقد حلبة سباق في ميدان القرية وراح بعض الفرسان يتصايحون أثناء الطّراد ويطلقون الرصاص في الهواء وفي دقائق معدودة خرج رجال القرية ونساؤها لاستقبالهم وبيرق ملح يخفق بألوانه الزّاهية فوق حامله البطل شهاب غزالة، وفي بيت خليل الباسط في ملح بات سلطان وكتب رسائل عديدة لأعيان المقرن الشّرقي وشرح أحوال البلاد العامّة وبيّن أسباب القيام بالثّورة. وفي صبيحة 20 تمّوز انتقلوا إلى عرمان فاستقبلهم أهلُها في السّاحة العامّة بالأهازيج الحربيّة وقد أصبح عددهم نحو مائتين وخمسين فارساً، وهناك حلّقت فوق جمعهم طيّارتان للاستكشاف والإرهاب فأمطرهما الثوّار برصاص بنادقهم وأسقطوا واحدة منهما هبطت في قرية امتان واقتيد طيّاراها أسيرين بأمان إلى بيت الشيخ علي الأطرش، وقد ظلاّ في حمايته وضيافته إلى أن جرت مبادلتهما في ما بعد مع السلطات الفرنسية.
وفي عرمان، وقبل الزّحف إلى صلخد، حضر سليمان نصار وحمزة درويش ومعهما عدد كبير من فرسان المقرن الشرقي فكانوا في طليعة المجاهدين الذين لبّوا نداء الثّورة من تلك الجهات. ومن عرمان في اليوم نفسه، تابع الثوّار طريقهم إلى صلخد وكان استقبال أهاليها لهم مثيراً للنّخوة وقد تقدّم إبراهيم الشّعار أحد وجهاء المدينة وربط منديلاً أخرجه من جيبه في رقبة فرس سلطان إشارة منه إلى أنه يرغب في استضافته في بيته، ولم يلبث الثوّار أن استولَوْا على القلعة ودار الحكومة من دون مقاومة إذ إنّ أفراد السّلطة والموظّفين الكبار فيها فرّوا من المدينة عندما رأَوْا جموع الثوّار قادمين إليهم من جهة عرمان.
دخل الثوّار دار البعثة الفرنسية وأحرقوا محتوياتها وهي الدّار التي كانت تدار منها أعمال السخرة وإهانة وجهاء الدّروز أيام حكم كاربييه.

رسم توضيحي لمعركة الكفر
رسم توضيحي لمعركة الكفر

مقدّمات المعركة
فرض تحرير صلخد من قبل الثوّار تعديلاً على حركة القوّة الفرنسيّة التي كان يقودها نورمان باتجاه القريّا والمقرن القبلي فتوجّه شرقاً مارّاً بقريتي العفينة وحبران، ونزل عند الظّهر في البساتين الواقعة بجوار نبع عين موسى، ليقطع على الثوّار طريق السويداء، ومن ثمّ ضربَ خيامه على الهضبة الوعرة إلى الشّرق من عين العليقة وكان نورمان قد تفقّد الموقع وعمل على بناء متاريس وتحصينات حوله طوال الأيام السّابقة ليوم الواقعة.

سلطان يحذّر الفَرَنسيين
نزل الثوّار في خربة العيّن شمال غربي صلخد ببضعة كيلومترات، وفيها نبع غزير كان الهدف إقامة مخيّم كبير ينطلق منه المجاهدون بحسب ضرورات المواجهات المرتقبة، وكان سلطان باشا في اليوم السابق قد أوفد رسولين إلى الكفر هما قاسم الأطرش وعبد الله العبد الله بمهمة مقابلة قائد الحملة ونصحه بإخلاء الطّريق والانسحاب بجيشه قبل فوات الأوان وتسليمه كتاباً موجّهاً إلى السّلطة الفرنسيّة بالسّويداء يحمّلها مسؤولية عدم الاستجابة لمطالب الشّعب الحقّة واستمرارها على النّهج الاستبداديّ الموروث عن كاربييه، بالإضافة إلى السياسة الاستعماريّة التي انتهجتها المفوضيّة الفرنسيّة في بيروت بتقسيم البلاد إلى دويلات مجزّأة محكومة حكماً عسكريّاً مباشراً قائماً على الظلم والإرهاب وإثارة الأحقاد الدّينية والطائفيّة.

نورمان يرفض النصيحة
وصل الرسولان إلى أسعد مرشد شيخ القرية، فارتأى أن يقوم هو نفسه بالمهمّة فاصطحب بعض وجهاء الكفر إلى معسكر نورمان، ولما أذن لهم بالدخول إلى معسكره وجدوه منبطحاً في خيمته ومعه بعض ضبّاط الحملة وترجمانه السّوري يوسف صايغ، ولما سلّموه رسالة سلطان الخطّيّة ونُصْحه له بمغادرة المكان، أجابهم بتهكّم واستخفاف: “سألقي القبض على سلطان وأعوانه وأعيد الأمن إلى نصابه في سائر أنحاء الجبل خلال بضعة أيّام”، حاول أسعد مرشد أن يكرر نُصحه للقائد الفرنسيّ بقوله: “إنني أنصحك يا حضرة القائد بصدق وأمانة بأن تغادر المكان قبل وصول سلطان لأنّ قوتك هذه لا تستطيع أن تصمد طويلاً في وجه الثوّار”.
ثارت ثائرة الضّابط وقال: “ألا تعلم أنّ عندنا من السلاح والذخيرة هنا ما نحارب به الدروز ثلاثة أشهر؟! من هم هؤلاء العصاة الذين تخوّفنا بهم؟! ــ وأشار إلى مترجمه ــ إن الملازم يوسف صايغ هذا يستطيع أنْ يسوق الدّروز بعصاه من الصورة الكبيرة شمالاً إلى العانات جنوباً” ثمّ التفت إلى أعضاء الوفد وقال لهم”اذهبوا إلى سلطان وقولوا له: إنّني بانتظاره على أحرّ من الجمر في هذا المكان”.
رجع رسولا سلطان باشا وأبلغاه جواب نورمان، فغضب الثوّار لسوء جوابه، وفي تلك اللّحظات وصل بيرق ملح قادماً من الشّرق، فلم يتريّث حامله شهاب غزالة لدى سماعه بجواب نورمان، فمضى مندفعاً باتّجاه الكفر وانطلقت بيارق القرى من خلفه، وترك الجميع موقعهم في العيّن هائجين تتقدمهم بيارقهم الخفاقة، كان عددهم دون الخمسمائة مقاتل أكثرهم لا يحمل من السلاح سوى السّيوف والمُدى والبلطات أمّا البنادق فكان أحدثها من النوع الإنكليزي والألماني الطويل والقصير العثماني بأنواعه. كان حَمَلَةُ البيارق ومن خلفهم الفرسان والمشاة يتقدّمون في زحف سريع يتنافسون على نَيل شرَف السّبق إلى ميدان المعركة.

المدفع الذي غنمه المجاهدون من الفرنسيين -مع ما غنموا- في معركة الكفر
المدفع الذي غنمه المجاهدون من الفرنسيين -مع ما غنموا- في معركة الكفر

بَدْو الجبل يقاتلون فَرَنسا إلى جانب الدّروز
شارك في معركة الكفر فرسان من بدو الجبل من عشيرة الشّنابلة وعودة السّرور شيخ عشيرة المساعيد وكاين القنيص ــ وهو شريك سلطان في تربية أغنامه ومواشيه ــ وكان القنيص صديقاً وفيّاً لسلطان باشا وللدّروز، وهو من كان له الفضل في اشتراك شيخ المساعيد بتأييد الثوّار، إذ قال له: “أنصحك أن تحارب مع الدّروز فهذه الثّورة هي أوّلاً ضدّ أجنبي وثانياً أنت ترى أن الذين قاموا بها هم الطّرشان وأنت ترى نفسك معزوزاً مُحترماً منهم فاستحسن عودة السّرور هذا الرّأي واشترك في المعركة وأعلن أنّ البدو هم أيضاً مع الدّروز ضدّ الأجنبيّ” .

المعركة
في صبيحة 21 تموز 1925 قامت طائرة يقودها الكابتن (دي بويسون) بإستطلاع طريق (السويداء – الكفر – صلخد) فلم يلحظ ما يثير الريبة في نفسه، ما جعل نورمان يتجه إلى الكفر ظهر ذلك اليوم ويتمركز حول نبعها عند هضبة صخرية، وقد فصل المشاة عن الخيالة فسهل على الثوار القضاء على كل فئة منفردة على التوالي. وكان المجاهدون في حماس بالغ لأن يوم الكفر كان يصادف الذكرى الثالثة لثورة سلطان الأولى على الفرنسيين.
قبل أن يبدأ سلطان الهجوم أرسل لنورمان كتاباً يستنكر فيه عملية الغدر التي قامت بها السلطة الفرنسية بإعتقال الزعماء ونفيهم إلى الحسكة وتدمر وطلب المفاوضة، لكن نورمان رفض بسبب اعتداده بقوته وانه قدم لإخماد فتنة الدروز. وبعد انسحاب المجندين الدروز العشرة من جيش الحملة الفرنسية بدأت المعركة ظهراً حسب الخطة التي وضعها سلطان باشا فاستولى الثوار على رشاشين كانا يحميان زوايا المخيم الفرنسي وحالت سرعة هجوم الثوار وهول المفاجأة بين الفرنسيين وأسلحتهم، وبدأ القتال بالسلاح الأبيض حيث تمكنوا من قتل نورمان قائد الحملة والكابتن (هلم جيزون)، ودامت المعركة ساعتين قضى الثوار فيها على الحملة كلها تقريباً، بينما كانت خسائر المهاجمين أربع وخمسين شهيداً من بينهم شقيق سلطان الأطرش (مصطفى الأطرش) و(إسماعيل الأطرش).
يذكر سلامي عبيد في كتابه “الثورة السورية الكبرى” (ص 125) أن الحملة الفرنسية كانت تتألف من 300 جندي وثلاثين خيالاَ مسلحين بالرشاشات، وقد قتل أغلب أفراد الحملة وضباطها. ويذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه لم ينج من معركة الكفر من الجنود الفرنسيين إلا خمسة.
غنم الثوار في هذه المعركة جميع الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك التالية كما غنموا الخيول والمؤونة، إلا إن أبرز النتائج هي عودة الثقة إلى نفوس المواطنين في قدرتهم على المقاومة كما كانوا في العصر العثماني، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً بيد الثوار أمر المبادرة وسرعة الانقضاض، حتى إن حامل راية قرية ملح وهو الشاب (شهاب غزالة) قد غرس سارية البيرق في ظهر رامي الرشاش الفرنسي فصرعه ولكنه استشهد في نفس المعركة، ودخل غزالة سجل الثورة السورية كأحد أول وأشجع أبطالها وله نصب بارز في مدينة الكفر التي كانت ساحة استشهاده.

aسلطان باشا الأطرش قائد معركة الكفر ومطلق شرارة الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي
aسلطان باشا الأطرش قائد معركة الكفر ومطلق شرارة الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي

خطة سلطان
قام سلطان بتقسيم المجاهدين إلى فرقتين، الأولى من المشاة وعليها أن تجتاز طريقاً وعرة عبر كروم القرية لتقوم بحركة التفاف على معسكر العدوّ من جهة الشرق، والثّانية يتألّف معظمها من الفرسان وقد اندفعت بسرعة نحو مواقع العدو لتصعد إليه مواجهة من الجهة الغربيّة في جبهة ضيّقة فرضتها على القيادة طبيعة الأرض الجبليّة يبلغ عرضها نحو مائتيّ متر وما هي سوى دقائق معدودة حتى أصبح العدوّ مطوّقاً من كلّ جانب.
يقول سلطان واصفاً مشاهد المعركة “رأيت شيوخاً وفتياناً يقتحمون المراكز الدّفاعية الحصينة أو يخترقونها هبوطاً من الجهات المرتفعة لا يحملون بأيديهم سوى عِصيّ السّنديان الثّخينة أو الأسلحة البيضاء المتنوّعة التي كان يشاهد لبعضها بريق خاطف عندما تنعكس عليه أشعّة الشمس الوهّاجة، وسمعت بأذني نخوات مقاتلينا وصيحاتهم المرعبة بعد أن توسّطوا المعسكر الفرنسيّ ثم لم أسمع بعد قليل سوى صرخات ألم متتالية تنبعث من أولئك الجنود التّعساء الذين مالت على رقابهم السّيوف الباترة وهوت على رؤوسهم وأجسادهم الفؤوس القاطعة ولم يكن ضبّاط الحملة وجهاز القيادة أسعد حظّاً وإنّما لقَوْا المصير نفسه وكتبت النّجاة لأفراد قلائل تمكّنوا من الوصول إلى قلعة السّويداء بكل صعوبة”.

نتائج النصر
أحيا نصر الكفر المؤزر الثّقة في نفوس الثوّار واكتسب العُزّل منهم أسلحة حديثة وذخائر ثمينة ليخوضوا بها معارك مُقبلة وانضمّت أكثريّة من المتردّدين إلى صفوف الثّورة.
كانت خسائر الثوّار في تلك المعركة جسيمة في أول معارك الثورة على الفرنسيين، ولكنّ الانتصار السّاحق كان له أثر فوري في استقطاب المجاهدين والمتطوعين وهو فرض على سلطان والثوّار بالتالي الانتقال إلى المرحلة التالية من الثورة، إذ إنه كان قد سدد طعنة كبيرة للوحش الفرنسي ولم يعد في إمكانه بالتالي التوقّف. لقد اشتعلت الثورة وأصبح على جميع الأطراف التعامل مع الواقع الجديد وترقب تبعاته والتعامل معها.
سلطان يجند الجبل
من قنوات عمل سلطان على استثمار نصر الكفر السّاحق فراح يكاتب القرى ويشرح المبادئ الأساسيّة التي قامت عليها الثّورة وكانت الأجوبة التي ترد إليه من شيوخ القرى وأعيانها تنطوي على التّأييد المطلق والوعود القاطعة بإرسال النّجدات السريعة.
وفي قنوات أخذت وفود من الجبل ونواحيه تأتي إلى سلطان للتّعزية باستشهاد أخيه مصطفى وإعلان الولاء للثّورة وقد أجابهم “مصطفى راح في يومه فداء للوطن، وإنّني لم آسف على فراقه أكثر ممّا أسفت على فراق الشّهداء الآخرين الذين ضحّوْا بأنفسهم في سبيل حرّية بلادهم واستقلالها، واعلَموا أنّنا سنفقد الكثير من أبنائنا وأخواننا في معارك قادمة لنتخلّص نهائياً من ظلم الأجنبي واحتلاله لبلادنا”.
وقد عزّز انتصار سلطان باشا والثوّار في الكفر من شعبيّته في الجبل فبدأ الرّجال بالانضمام إلى الثّورة بحيث تمكّن في غضون أسبوع من استقطاب ألوف المتطوّعين من جميع قرى المنطقة وتحوّلت فرقته الصّغيرة إلى قوّة ضخمة تضمّ ما يتراوح ما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف مقاتل سيطروا على كافّة مناطق جبل الدروز، وكانوا في ما بعد النواة التي ألهبت نيران الثورة السوريّة الكبرى على المحتل الفرنسي في سوريا ولبنان.

مرستي

مرستي بين الأمس واليوم

ثغرة مرستي طريق القوافل لها تاريخ طويل
مخفر عثماني وعواصف ثلجية تقطع الطريق

موقع مرستي الحصين جعلها ملجأ الزعماء في الشدائد
وطريق المسافرين والبضائع والثوار بين صيدا والشام

بحيرات جمع الأمطار أحيت زراعة الفاكهة
وتربية النحل تدرّ عسلاً طيباً ودخلاً إضافياً

مـرستي قرية من قرى الشوف في محافظة جبل لبنان، تقـع على هضبة متدرّجة في سفح جبل مـرسـتي وتجمعها حدود مشتركة مع معاصر الشوف والخريبة شمالاً، وبعذران غـرباً، وجباع الشوف جنوباً، وصغبين وعيـن زبدة في البقاع الغربي شرقاً. مناخها بارد في فصل الشتاء بسبب ارتفاعها ما بين 1250 و1300 م عن سطح البحر. وبسبب ذلك فإن شتاء القرية يتخلله تساقط الثلوج التي تكسو جبل مرستي بحلة بيضاء في فصل الشتاء وتأخذ القرية نصيبها أيضاً وقد تتسبب كثافة الثلج أحياناً في قطع الطرقات منها وإليها عدة أيام، لكن مناخ القرية معتدل في فصل الصيف بسبب ارتفاعها وكثافة الأشجار الحرجية وأشجار البساتين المثمرة. تقع مرستي ضمن قرى محميّة أرز الشوف، وهي تحتضن معالم وآثاراً تاريخية عدة لكن أبرز معالمها الحاضرة ساحتها ومبنى العين الذي يتوسطها ويرتفع فـوقه تمثال للمعلّم كمال جنبلاط، أُنشـئ في العام 1978.

نمو سكاني
في بـداية القرن السادس عشر، أجرت الدولة العثمانية إحصاء لسكان القرية لغرض جباية الضرائب، وقد بلـغ عـدد سكان القرية حسب ذلك الإحصاء 39 شخصاً من الذكور، من سن 15 سنة حتى 60 سنة، وهؤلاء هم المكلّفون بدفع الضرائب. ولـم تُحصَ النساء والشيوخ والأطفال. ومن خلال إحصاء أجرته مديرية الشوفين في عهد المتصرّفية سنة 1910م، كان عـدد سكان مرستي (232) نسمة، ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً، منهم 104 من الذكور و 111 من النساء و 17 شخصاً من المهاجرين إلى المغتربات الأميركية في الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين. بالطبع الأمر اللافت هو ما يبدو من ضآلة عدد سكان القرية في مراحل تاريخية غير بعيدة وربما كان ذلك بسبب تعمد بعض الأهالي ولا سيما الشبان منهم التغيب عن الإحصاء خوف التجنيد وفي الوقت نفسه لاجتناب الضرائب المرهقة. أمّـا الآن فيبـلغ عـدد سكان مرستي حوالي ألفي نسمـة وعـدد الناخبين حسب لوائح الشطب الصادرة عن وزارة الداخلية 1,137 ناخب. أمّـا عائلاتها فهي: الدبيسي، زيدان، بشنق، أبوعلي، الحلواني، كنعان، عبد القادر، عـزّام، حمـزة والقاضي.
تبعد مرستي عن العاصمة بيروت نحو 70 كلم ويمكن الوصول إليها عبر طريق الدامور-كفرحيم- دير القمر- بقعاتا الشوف مروراً بالمختارة وصعوداً نحو الخريبة فمرستي. ويمكن أيضاً سلوك طريق كفرحيم– بعقلين عبر ديردوريت ثم أخذ طريق بقعاتا المختارة الخريبة المبين آنفاً.

أصل التسمية
تعـود تسمية مرستي Mristi إلى اللغة الفينيقيّـة، وتعني نعجـة صغيرة (شاة) والنسبة إليها إرث من جذر (يرش)، يقابلها في العربية ورث. ورد هذا الإسم في التوراة سـفر ميخا، وهي مدينة النبي ميخا2. عرفت خلال حكم الإمارة التنوخية بإسم المريستة3، ممّـا يؤكد وجودها قرية آهلة بالسكان منـذ بـداية تواجد التنوخيين واستقرارهم في هذا الجبل وهي مـن قرى الشوف الأعلى وكان يطلق على هذه المنطقة الشوف الحيطي، وعلى منطقة الشوف: جبل الشوف، جبل الـدروز، بـلاد الـدروز، شـوف إبن معن، والشوف التابع صيـدا المحروسة. وخلال العصر الوسيط، وأثنـاء وجود الإفرنج الصليبيين واحتلالهم لبلادنا، كانت قرية مرستي وقرى عديدة في الشوف وجـزّين تابعة لقطاع الفرسان التوتونيين، الذين كانوا تابعين بدورهم إلى سـنيوريّـة صيدا4، وخلال العهـد الشهـابي العثمـاني كانت مرستي تابعـة لعهـدة آل جنبلاط.

ثغرة مرستي
شكلت قرية مرستي منذ القدم صلة وصل بين بلاد الشوف ووادي التّيـم، ومحطّة على طريق برية رئيسية كانت تنطلق من صيدا نحو الشوف وصولاً إلى البقاع ثم دمشق. وكانت تلك الطريق تمـرّ عبـر ممـرّ جبلي كان يسمى «ثغـرة مرسـتي» وهو منخفض منبسط على سطح جبل مرستي يشرف على سهل البقاع شرقاً، وعلى منطقة الشوف غرباً وتمـرّ في وسطه طريق المسافرين الرئيسية التي تنطلق من صيدا إلى دمشق عبر جبال الشوف ثم سهل البقاع. كان القوافـل والمارة والمكارون تتخذ الطريق نقطة استراحة من عناء السير بينما أقام العثمانيون فيها مركزاً عسكرياً لأغراض مراقبة حركة السفر ونقل البضائع وقد استمرّ المركز حتى نهاية عهد المتصرّفية. وعلى هذه الطريق نفسها كانت المارّة والمكارون والقوافل يتعرضون للعذاب والمعاناة أثناء العواصف الثلجية التي كانت تضرب المنطقة في فصل الشتاء. وكان أهالي مرستي في حال تأهب دائم لتلبية نـداءات الإستغاثة من المسافرين وكانوا غالباً ما يحضرونهم إلى منازلهم في القرية ويقدّمون لهم الطعام والتدفئة والمنامة والعلف لمواشيهم، وكان هؤلاء يمكثون في مرستي أياماً عديدة بانتظار انقشاع العاصفة وعودة الطريق إلى حال تسمح بمتابعة السير.
فـي سنة 1400م، سلك هـذه الطريق سلطان المماليك فـرج بن برقوق مـع حاشيته ومرافقيه، أثناء عودته من دمشـق إلى مصر. وفي سنة 1436م، سلكها أيضاً الأمير صالح بن يحيى التنوخي أثناء عودته من دمشق إلى عبيـه5.

طريق الثوار
وخـلال العهد العثماني كان أهالي الشوف وغيرهم يسلكون هذه الطريق إلى جبل حوران في سوريا ذهاباً وإياباً للهجرة وإحضار الحنطة وإرسال النجدات الحربية لسكان الجبل الذين كانوا عموماً من الذين هاجروا من لبنان وتربطهم بأهله علاقات قربى وعصبية، وبقيت هذه الطريق تستخدم من قبل المارة والمكارين، حتى بعـد الحـرب العالميّة الثانيـة.
في سنة 1958، عندما قاد الزعيم كمال جنبلاط إنتفاضة مسلّحة ضـد حكم رئيس الجمهورية كميل شمعون، كان الثّـوار يسلكون هذه الطريق إلى سوريا وقرية دير العشائر الحدودية، لإحضار الأسلحة والذخائر، كما سلكها مجاهدو الجبل الذين حضروا من سوريا لدعم أخوانهم والزعيم كمال جنبلاط في الانتفاضـة المسلحة.
وخلال العهد الشهابي العثماني، هاجرت أسر عديدة من لبنان إلى جبل حوران، واستقرّت هناك بصورة نهائية، وبـدأ حصول زواج بين هذه الأسـر وأقاربهم في لبنان. فكانوا يحضرون العروس من جبل حوران إلى ثغرة مرستي، ويكون أهل العريس بإنتظارهم في الثغرة، يمضون ساعات في الثغرة يرقصون الدبكة ويتناولون الطعام والحلويات، ثـم يعود كل إلى بلده. إستمر هذا التقليد لسنوات عديدة، وتوقّف مـع بداية الحرب العالمية الأولى.6

العيــن
العيــن

حـارات مـرسـتي
كانت قرية مرستي تتألّف من حارتين. «الحارة الفوقا» والتي تنتشر بيوتها حـول الساحة، وتمـرّ وسطها طريق المارة الرئيسية، مـن معاصر الشوف والخريبة إلى جباع الشوف ونيحا، وعلى العكس، و«الحارة التحتا» تحيط بيوتها بالساحة التحتا التي يطلق عليها (ساحة الجامع)، حيث كان يوجد جامع في هذه الساحة وهو أمر كان قائماً في العديد من القرى في ظل الحكم العثماني، وكان سلاطين بني عثمان المتمسكون بأهداب الشرع يحرصون على التزام رعاياهم فرائض الإسلام ولا سيما الصلاة وصلاة الجماعة وكانوا لذلك يحرصون على بناء الجوامع في القرى حتى النائية منها مثل مرستي. ففي سنة 1537م تلقى كل ولاة الدولة العثمانية أمراً صادراً عن السلطان العثماني يقضي بإلـزام كل قرية ببناء جامع، وإلتزام الولاة تأديـة صلاة الجمعة مع المؤمنين7.
أمّـا البيوت في مرستي، فقد بـدأ تطوّر بنائها في نهاية القرن التاسع عشر بسبب الهجرة وتحويل الأموال من المغتربين، وبقيـت أسطح المنازل ترابية نـظراً إلى صعوبة إيصال مواد البناء (الحديد والترابة) إليها. لكن منذ حصول زلزال سنة 1956، وبعـد أن وصلت طريق السيارات حينذاك إلى المرج الشرقي قرب مرستي، بـدأ تـرميم المنازل القديمة وبناء منازل بشكل هندسي حديث. وخلال العشرين سنـة الأخيرة، بــدأ تجميـل الأبنية وتلبيسها بالحجـر المنحـوت والمبـوّز، والقناطـر الحجـرية، والحـديد المطروق، وأسـطح القرميد..

الــزراعــة
كانت قرية مرستي كغيرها من قرى الجبل تعيش على الزراعة وعلى تربية دود القـزّ لإنتاج شرانـق الحرير، وتربيـة المواشي، وكان السكان بعد الانتهاء من الحصاد ومواسم الغلال يخزنون المـؤن وحطب التدفئة لفصل الشتاء والذي كما يستذكر العديد من المسنين كان يأتي أكثر قساوة من اليوم ربما بسبب التغير المناخي، وكانت الثلوج تضطر السكان لملازمة بيوتهم لأيام وأحياناً لأسابيع فكان لا بدّ بالتالي لكل منزل من أن يكون مجهزاً بالمؤن وحطب التدفئة وربما بصيدلية أعشاب صغيرة إتقاء للرشح ولمعالجة بعض الحالات البسيطة.
لكن الزراعة أهملت تدريجياً بسبب الإنتقال إلى العمل الوظيفي، في بعض المؤسسات الرسمية والخاصة، والمؤسسات العسكرية، وتعاطي بعض المهـن، واضطرّت أسـر عديدة من مرستي للنزوح إلى المدن، والهجرة إلى بلدان الإغتراب، بهدف كسب الرزق وتعليم الأولاد. وقد أصبحت الوظائف حالياً المـورد الأساسي لمعيشة الآهلين، مع العلم أنه لا يـزال هناك بعض المزارعين في مرستي يهتمّون بالزراعـة وإنتاج بعض الفواكه والخـضار. وخلال السنوات العشر الأخيرة حصل نوع من النهضة في النشاط الزراعي وعاد قسم من السكان إلى الاستثمار في استصلاح الأرض وبساتين الفاكهة، وقد شجعهم على ذلك إنشاء بحيرات مخصصة لتجميع مياه الأمطار في فصل الشتاء، وهذه المياه تستخدم في ريّ المزروعات خلال فصل الصيف وفق نظام تشارك معين. وقد استخدمت البحيرات أحياناً في نشاطات سياحية وبيئيّة مختلفة بما في ذلك مراقبة الحيوانات والطيور المحلية والعابرة. لكن رغم هذه الصحوة الزراعية، فإن إنتاج الأرض ما زال يمثل مصدر دخل إضافياً ولا يوجد في الحقيقة من هو معتمد كلياً في عيشه على العمل الزراعي كما كانت الحال من قبل. أمّـا زراعة القمح فقـد أهملت نهائياً، وأصبحت الأراضي السليخ أرضـاً بـوراً، ولـم يعـد من وجود للبيادر.
قــال أحــدهــم:
بيــــدركـــن كـل مـــــن زارو بيـــــرجــــع دوخـــــان حمـــــارو
صــار البيـدر بيـدر شــوك والمــــورج طـــــارو حـجـــــــــارو

بحيرات تجمع الأمطار أدت إلى تنشيط القطاع الزراعي
بحيرات تجمع الأمطار أدت إلى تنشيط القطاع الزراعي

العـلاقـات الإجتمـاعيّـة في مـرســتي
تميّـز أهالي مرستي خلال تاريخهم الطويل، بالرجولة والشجاعة وإغاثـة الملهوف وكـرم الضيافة، وكانت للضيافة بشكل خاص مكانة الصدارة في عادات السكان الذين كانوا حريصين على عقد أواصر الصداقة والتزاور مع أبناء القرى والبلدات القريبة والبعيدة. ونمت في مرستي علاقات بين العائلات. والجيرة كانت تتميز بالتعاضد والتعاون في أمور الحياة مثل «استقراض» الخبز أو «الدسـت» وهو الوعاء النحاسي الكبير المستخدم في الطبخ والطناجر والصدور النحاسية، وحتى الخميرة و«روبـة» اللبن كان يتم تبادلها أحياناً بين الناس الذين كانوا أشبه بأسرة واحدة.. وكان إذا تعرّض أحـد في القرية لمكروه أو مصيبـة يهب الجميع للإطمئنان عليه وعرض المساعدة والمواساة، كما إن مناسبات الأفراح والأتراح كانت تفرض المساهمة والتعاون من قبل الآخرين. هـذه المناسبات تجمع شمل الآهلين. وللمآتم كما هو معروف حرمتها وآدابها إذ يحرص الناس على مشاركة أهل الفقيد مصابهم مع غيرهم من أبناء القرى الذين قد يتوافدون من أماكن بعيدة لأداء واجب التعزية، ومازالت لهذه العادات التضامنية وظيفة أساسية في مجتمع الجبل هي تجديد روابط القربى والنسب وتأكيد اللحمة «العشائرية» بين بني معروف وهي لحمة تظهر في أحلى صورها في الملمات وعندما يلوح في الأفق أي خطر على الوجود أو تهديد للأرض والعرض.
ومن أشكال هذه الروابط التضامنية «العـونـة» وهي المساعدة الجماعية التي يسديها أهـالي مرستي لبعضهم بعضاً عندما يحتاج أي منهم للقيام بأعمال تتطلّب أيـادي كثيرة لإنجازها. وفي «العونـة» تتجلّى روح التعاون التي تفرضها عليهم الحياة الجبلية الزراعية. هـذه الأعمال، أورثت إطاراً فعالاً لتبادل الخدمـات والمساعدات والتضامن وحسـن الجوار. وهي من العادات المتأصّلة والمتوارثـة في مجتمعنا الجبلي.
لكن ورغم أجواء المودّة والتعاون فإن هناك دوماً في القرية ما قد يؤدي إلى تعكير الأجواء ولا يوجد في الحقيقة سبب لبروز النزاعات بين أهل القرية مثل الخلاف على الأرض العزيزة بالنسبة لأهل الجبل. والخلافات على الأراضي الزراعية قد تنشب بسهولة بسبب تداخل الأراضي وعدم وضوح تخومها، وقد ينشب الخلاف على سقاية المزروعات، أو بسبب الميراث، ولا ننسى خلافات الحَمَاة والكنّة التي قد تنتقل بسهولة إلى عائلتي الزوجين بسبب انتصار كل عائلة لأحد منهما. لكن كما إن في المدينة قوى أمنية وفرق تدخل فإن للقرية أيضاً فرقة التدخل الخاصة بها وهي لا تضم رجال أمن بل قد تضم بالدرجة الأولى المختار وبعض الوجهاء الذين لهم «مونة» وهؤلاء يلقون بثقلهم لتهدئة المشاعر والدعوة إلى التعقل ولعن الشيطان وهم غالباً ما يفلحون في عقد المصالحـة وإعادة مياه العشرة والقربى إلى مجاريها.
أمّـا الخلافات السياسية فهي متجذّرة بين السكان، وقد لا تظهر علناً لكنها كامنة غالباً مثل النار تحت الرماد يمكن لاي ريح مفاجئة أن توقدها، وقد كان أهالي مرستي كسائر أهالي قرى الجبل، منقسمين إلى حزبيتين، الحزبية القيسية والحزبية اليمنية. لكن معركة عين دارة سنة 1711م أدت إلى القضاء على الحزب اليمني فتشتت أنصاره وهاجر معظمهم إلى جبل الدروز في سوريا، وأنفرد القيسيون بزعامة آل شهاب بحكم الجبل. بعـد ذلـك، عمد الشهابيون ابتداء من عهد الأمير ملحم الشهابي (1729-1754م) إلى افتعال إنقسام جديد بين حزبيتين جديدتين هما الحزبية الجنبلاطية والحزبية اليزبكية، وكان هدفهم إضعاف شوكة الأمراء الدروز والحؤول دون اتحادهم فيخلو لهم بذلك حكم الجبل، وبالفعل انقسم سكان الجبل بين مؤيد للحزب الجنبلاطي ومؤيد للحزب اليزبكي وأطلقت على هذه الحزبيات إسم (الغرضيّة)، لكنها كانت ولاءات عشائرية وبعيدة كل البعد عـن رابطة الحزب بمفهومها الحديث.
كانت الغرضية تفعل فعلها بين السكان، في أجواء مشحونة بالميول السياسية، وكان يحصل تحـزّب بين العائلات والأفراد، بسبب مرشّح للإنتخابات ، ممّـا يؤدي إلى حصول شجار وتقاتل بالعصي والحجارة والسكاكين. وفي هذه الحالات فإن منطق القبيلة أو العشيرة يغلب على لحمة القرية التي تجد نفسها أحياناً منقسمة ومتناحرة حول أمور لا تغني ولا تسمن من جوع. لكن العصبية المتأصلة في أبناء الريف يظهرونها أحياناً في صورة ولاء سياسي وأحياناً في صورة ولاء حزبي أو ولاء لشخص. وإبن القرية معروف بميله للنكاية بجاره والتشفي منه عندما يحقق حزبه إنجازاً أو انتصاراً انتخابياً مثلاً وهـذا ما عبّـر عنه الأديب سعيد تقي الدين بقوله: (غريب كيف يتثقّف الواحـد منّا، ويدرس ويطالع ويغترب، ويخالط المتمدنين من البشر ثـمّ هـو إن إنكفأ إلى قريته، عـاد يمارس بين ربعه السلوك القروي بذهنية القـرن الماضي وعقلية العهد العثماني).8 واستمـرّ التحـزّب للجنبلاطية واليزبكيـة في مرستي حتى بـداية أحـداث سنة 1975.

بوسطة شاهين
في الماضي لم تكن هناك في مرستي طرقات ولا سيارات، كان أهالي القرية ينتقلون سيراً على الأقدام أو يستخدمون ظهور الحيوانات (الخيل والبغال والحمير) كوسائل للنقـل. وفي سنة 1920، إقتنى السيد شاهين عابد من المختارة سيارة «فورد أبو دعسـة» فكان الركاب يأتون من مرستي والقرى المجاورة، إلى المختارة ليستقلّوا السيارة إلى بيروت. وفي سنة 1935، استبدل السيد شاهين سيارته الفورد بحافلة لنقل الركاب كانت تسمى بلغة أهل القرية «البوسـطة».9 وكانت البوسطة تبيت في قرية باتر وتنقل الركاب من القرى التي كانت على خط سيرها إلى بيروت، وكان القادمون من مرستي ينتظرونها في عماّطور، ثم تمّ بعد ذلك تسيير حافلات ركاب أخرى من عماطور ونيحا وبعذران فأصبح أهالي مرستي يحضرون إلى بعذران أو الخريبة للإنتقال بالبوسطة إلى بيروت. وفي سنة 1965، إقتنى السادة زيدان أحمد زيدان وقاسم أحمد زيدان من مرستي، ونجيم نجيم من معاصر الشوف، بوسطة كانت تنقـل الركاب يوميّاً من مرستي والخريبة والمعاصر إلى بيروت وعلى العكس. واستمرت البوسطة في الخدمة لمدة عشر سنوات وتوقفت سنة 1975، بسبب انـدلاع الحرب الأهلية، أمّـا الآن فقد أصبح معظم السكان يملكون سياراتهم الخاصة وذهبت بالتالي أيام البوسطة ومسامراتها.

مزرعة الشاوية على مدخل مرستي
مزرعة الشاوية على مدخل مرستي

آلام الحـرب الأولى
وقعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 وعانى أهالي مرستي وأهالي الشوف من هذه الحرب الشيء الكثير إذ قامت الدول الحليفة، ومنها بريطانيا وفرنسا، بحصار بحري على الشواطىء، ومنعت وصول المواد الغذائية المنقولة بحراً، وتوقف ورود الأموال المرسلة من المغتربين إلى ذويهم، الأمر الذي ضاعف من اشتداد الأزمة. كما فرضت السلطات العثمانية نظام التجنيد الإجباري (سفربرلك). وحددت رسم الإعفاء 44 ليرة ذهبية عثمانية. ومنع الأتراك نقل الحبوب لتوفيرها لجيوشهم، كما أقدمـوا على استبدال العملات الفضية والذهبية بالعملات الورقية. فهبطت قيمة النّقد وارتفعت الأسعار إرتفاعاً فاحشاً وأصبح يباع رطل الخبز بليرة ذهبية عثمانية. وفي ربيع سنة 1915، اجتاح الجراد منطقة الشوف، فأصاب مرستي من أضراره الشيء الكثير إذ التهمت أسرابه كل ما هو أخضر من الأشجار والنبات، وقضى على المواسم والغلال، فهاجرت عائلات عـديدة من مرستي إلى جبل الدروز في سوريا لتأمين معيشتها. وبعـد إنتهاء الحرب عـادت أسر إلى مرستي بينما استقر البقية في سوريا بصورة نهائية.

مـلجـأ الثـوّار والفـارّين
شكّلت قرية مرستي وشاويتها10 وجبلها موقعاً حصيناً وملاذاً للثوار والفارين من وجـه الحكام، كما إنها كانت ملجأ آمناً للمشايخ الجنبلاطية في الأحداث العصيبة، وحين تتـعذّر مقاومة الأمير الشهابي أو والي صيدا، سبب ذلك هو الموقع الحصين للقرية وإشرافها على معظم الشوفين واتصالها بقرى الخريبة والمعاصر فالباروك من جهـة، وبالخريبة بعذران حيث قصر آل جنبلاط، وعماطور حيث الثقل السياسي للجنبلاطيين. لذلك اضطرّ أولاد الشيخ قاسم جنبلاط سنة 1794، للإنسحاب إلى مرستي والتحصّن في شاويتها، عندما اشتدّ الضغط عليهم من أولاد الأمير يوسف الشهابي ومدبّرهم جرجس باز، ووالي صيدا أحمـد باشا الجزّار، في الصّراع الذي كان محتدماً بين القطبين الشهابيين، الأمير بشير قاسم الشهابي، وأولاد الأمير يوسف. وكانت مرستي المحطّة المتقدّمة لتصعّد وادي التيم والإختفاء فيـه، وكذلك الشيخ حسن جنبلاط عندما أخرجه الضغط الأمني والسياسي من منطقة الشوف كان جبل مرستي هذه المرّة أيضاً، ملاذاً آمنـاً له.
في عهد الإنتداب الفرنسي، وفي بداية عهد الإستقلال كان الثوّار يلجأون إلى مرستي للإختباء في منازلها وفي جبلها، هرباً من العساكر التي كانت تلاحقهم. أو للإستراحة من عناء السير أثناء ذهابهم إلى البقاع وسوريا والأردن وفلسطين، وأثناء عودتهم منها. وقـد عانى أهالي مرستي أشـدّ أنواع القهر والعذاب من قبل رجال الجندرمة، بسبب لجوء الثوار إليها، وأيوائهم وتقديم المساعدة لهم. وكان رجال الجندرمة يحضرون إلى مرستي في كل مـرّة مجموعات، ثلآثين أو اربعين عسكرياً يقومون بتفتيش المنازل وتوقيف الأشخاص ويفرضون على الآهلين غرامات مالية، وتقديم الطعام والمنامة لهم والعلف لخيولهم.

آثار القرية والينابيع
تـزخـر قريـة مرستي بالمعالم الأثرية والطبيعية منها: «عين الغابـة» و«عين التحتي» والسنديان الروماني و«عين ياقوتة» والمعصرة والجسر القديم والبرك الزراعية وتمثال للمعلّم كمال جنبلاط و«نبع جعيتي» الواقع على حدود الأراضي بين مرستي وجباع.

عيـن الغابـة: هي العين الرئيسية لقرية مرستي وكان أبناء القرية ينقلون منها الماء إلى منازلهم، للشرب والإستعمال المنزلي وسقاية المواشي، والفائض منها يجمع في صهريج يستخدم لري المزورعات. وتقسم مياه الري بين المزارعين كل بحسب ملكيته. وقد جـرى تجـديد بناء العين سنة 1812م، من قبل الشيخ بشير جنبلاط (1775-1825)، وأرّخ بناءها الشاعر نقولا الترك بأبيات شعرية محفورة على بلاطة ومثبتة داخل قنطرة العين، لم تزل موجودة حتّى تاريخـه. وفي سنة 1952، تمّ جـرّ مياه العين إلى ساحة القرية في مرستي وبناء خزّان مع مصبّ للمياه وقنطرة هندسية. ونظراً إلى عذوبة مياه هـذه العين وجمال موقعها، كان الأمير بشير الشهابي الثاني، والشيخ بشير جنبلاط، وبعد ذلك الشيخ سعيد جنبلاط، يقومون برحلات صيد إلى مرستي مع الأصدقاء والمرافقين، فتحمل الأسلحة والفرش وأدوات الطهي والضيافة، والخيام والشوادر والصواوين وتنصب قرب العين، (لم تزل المحلة يطلق عليها جلّ الصيوان)، يصطادون في كل مرّة مئات الطيور من أنواع الحجال وغيرها والحيوانات البريّة ويمضون في مرستي أيّاماً عديدة.
في أمسيات الربيع والصيف كانت الصبايا يذهبن إلى العين، حاملات الجرار الفخاريـة على أكتافهن لإحضار المياه، وهـنّ بأبهى زينتهن. وكان الشبّان يتابعون الصبايا وأحياناً يعجبون بإحداهن مما يـؤدّي إلى الخطوبة والـزّواج. ودروب العين في القرى اللبنانية لهـا شهرتها، تـروى عنها قصص وحكايات.
قال الشاعـر عبدالله العريضي:
وبـاقـة صبايـا بـلــيلـة القمــرة يحكـــــوا الحكــــايـا عـ طـــريــــــــق العـــين
وعـكتـافـهـن تتـغـنّـج الجــــــرّة وتـقــــــــــول الـلـــــــه يجـمــــــع القــلبــــــــين

” أين حقول القمح؟ ماذا حصل للبيادر؟
هجرة السكان إلى المدن أقفلت التكميلية  “

مرستي تحت الثلج
مرستي تحت الثلج

تاريخ مدرسة
كان تعليم الأولاد في الماضي يتـمّ في «مدرسة السنديانة» حيث يكلّف شخص يجيـد القراءة والكتابة بتعليم الأولاد القراءة والكتابة والحساب وحفظ بعض النصوص الدينية.
في سنة 1927، افتتـح أهالي مرستي مدرسة خاصة لتعليم أولادهم، وفي العام التالي صدر مرسوم عن حاكم لبنان الكبير، المفوض السامي الفرنسي،للترخيص لهذه المدرسة، نشر المرسوم في الجريدة الرسمية الرقم 2139 تاريخ 6/2/1928، كان الطلاب يجلسون على أرض الغرفة، وكل طالب يصطحب جلد خروف للجلوس عليه. كان يطلق على المدرّس لقب «معلّـم» شـأن كل صاحب مهنة في ذلك الحين. وكان «المعلم» يتقاضى أجره من أهالي الطلاب، ويتناول طعام الغداء والعشاء في منازل الأهالي يومياً ومداورة بالإضافة إلى هدايا من المؤونة، مثل التين المجفف والزبيب ودبس العنب والعسل وغير ذلك. ويعتبر متعلّماً، مـن كان يجيد القراءة والكتابة، ويعرف الأقلام الأربعة وهي: الجمع والطرح وحفظ جدول الضرب والقسمة. وكان بعض الرجال يتباهى بوضع أقلام الحبر في جيب السترة الأمامية كي تظهـر للعيـان.
في سنة 1948، أصبحت المدرسة (مدرسة رسميّة)، تابعة لوزارة التربية الوطنية. جهّزت بطاولات ومقاعد خشبية لجلوس التلامذة، ولوح أسود يكتب عليه بالطبشور، وطاولة وكرسي للمعلّم، الذي أصبح يطلق عليه لقب «الأستاذ».
في سنة 1960، إفتتحت جمعيّة رعاية الطفل، التي كانت ترأسها السيدة زهيّة سلمان مدرسة في مرستي لتعليم الأطفال عهد بإدارتها والتعليم فيها إلى الشيخة أم حكمت زرافه توفيق بشنق وكانت تعلّم الصبيان والبنات واستمرت في هذا العمل نحو عشرين سنة.
في سنة 1985، أصبحت مدرسة مرستي الرسمية مدرسة تكميلية، تمنح الشهادة المتوسطة (البريفيه)، بعـد أن تـمّ إنشاء بناء جديد، وتجهيزه بجميع المسلتزمات، والجهاز التعليمي اللازم. لكن هذه المدرسة أقفلت مؤخراً من قبل وزارة التربية، بسبب عدم وجود العدد الكافي من الطلاب، وبات الآهلون يرسلون أولادهم الى المدارس الرسمية والخاصّة في المختاره وبقعاتا وبعقلين وغيرها. سبب نهاية هذا الصرح التعليمي هو الهجرة ونزوح قسم كبير من الأهالي منذ ستينات القرن الماضي إلى بيروت طلباً للعمل وبالطبع فقد لجأ هؤلاء النازحون إلى تعليم أولادهم في المدن والكثير منهم ذهب إلى الجامعات وعاد إلى القرية بالإجازات الجامعية وبشهادات الماجستير والدكتوراه.
البــلـديّــة
أُنشئَت البلدية في مرستي سنة 1973، وبـدأت بتنفيذ بعض المشاريع الضرورية حسب ميزانيتها المتواضعة. وبما أن مرستي كانت تعاني من وجود الحفر الصحّية، خاصة القريبة من الطرقات العامة، قامت البلدية في سنة 1973، بتنفيذ أوّل خط للصرف الصحّي يمتـد من الساحة إلى أسفل القرية ويصبّ في قعر الوادي. لكـن أعمال البلدية توقّفت سنة 1976، بسبب إندلاع الحرب الأهلية.
وفي سنة 1983، تأسست الإدارة المدنية في الجبل، وعيّنت لجنة في مرستي قامت بتنفيذ أقسام من مشروع الصرف الصحي، بتمويل من الإدارة المدنية، وتبرعات جُمعت من أهالي مرستي.
في سنة 1998، وفي الدورات الإنتخابية البلدية التي تـلت، أنتخب الدكتور ناصر زيدان رئيساً للمجلس البلدي، ونائباً للرئيس الأستاذ صبحي الدبيسي، وبعده الشيخ غسّان الدبيسي. قامت البلدية بتنفيذ مشاريع عـديدة، ومنها الأقسام المتبقية من مشروع الصرف الصحي، وبعـد ذلك تـمّ إنشاء محطة تكريـر بتمويل من وكالة التنمية الأميركية، ووضعت المحطة باستلام مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان.
إن مجمـوع الأعمال والإصلاحات التي أنجزتها البلدية في مرستي، خـلال السنوات العشر الأخيرة، دفعت بقـريتنا إلى طريق التقدم، وقد أصبحت من القـرى النّـاميـة الراقيـة مـع العلم أن عـدد سكان مرستي في إزدياد، والتمـدد العمراني يزيـد من مساحة القرية سنة بعـد سنة، لذلك يطلب من المجلس البلدي مضاعفة الجهود لتلبيـة حاجـة الآهلين.
كـذلك إن مختار مرستي الشيخ نـزيـه بشـنق، يقـوم بالأعمال والخدمات المطلوبـة للآهليـن، بجهـد ونشاط، مـجّانـاً من دون أجــر.

اقتصاد منزلي
تتميز مرستي بإنتاج مـواد غذائية بلديّـة في المنازل، مثل الكشك والمربيّات والكومبوت والأعشاب والشّرابات والمقطّرات وغيرها، بالإضافة إلى إنتاج الفواكه والخضار وعسل النحل، للإستهلاك المحلّي والبيع في الأسواق.
إن محميّة أرز الشوف تعمل للحفاظ على أسلوب العيش الريفي بالتواصل مع المجتمع المحلّي. ولتعريف زائر المحميّة على تراث وتقاليد المجتمع الريفي اللبناني، من خلال تقديم تراثه الغذائي، قامت المحمية منذ سبع سنوات بإنشاء مشغل في مرستي لصناعة بعض المواد الغذائية الريفية، تـمّ تجهيزه بكافة المعدّات اللازمة، من طناجر وكركات ومنصّات ورفوف وطاولات، جميعها من مادة الستانلس. ووضعت قواعد لصنع المنتجات من خلال تدريب السيدات على استخدام المواد الأولية بمعايير ومكاييل موحّدة في عملية التحويل وذلك بتمويل من البنك الدولي، وتنفيذ مجلس الإنماء والإعمار. وتعرض المنتجات على مداخل المحميّة لبيعها.
ومـن المؤسسات المحـليّة في مرستي: الإتّحـاد النسائي التقدّمي، منظمة الشباب التقدمي، تجمّـع أبناء مرستي، فريق مرستي الرياضي، والمستوصف الصحي، وقد تمّ مؤخراً إطلاق التعاونية الزراعية والنـادي الريـاضي للبلدة.

مقالات