الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

تحدّيات صفقةُ القرن

يبدو أنّ محدّدات العقل السياسي العربي: القبيلةُ والغنيمةُ والعقيدةُ كما نظّر لها محمّد عابد الجابري صحيحة ومعقولة تاريخيًّا في إطار التّراكمات التاريخيّة والأحداث التي لا زالت تغذّي هذا العقل في الفعل والسياسة وتشكيل العلاقات داخل المكان وخارجه.

فبالنظر إلى السياسة أصبحت بنية العقل العربي منغلقة وثابتة في الميل للقواعد السياسية القائمة على التحالفات القبَلية والمذهبية والطائفية، والتوجّه نحو المكاسب والغنائم من خلال رؤية الفاعل السياسي للسياسة العالمية والنظام العالمي الذي ترسمه أمريكا في إرادة الأقوى وتحديده وفق منافع وغايات استراتيجية، تُبقي على التفوّق من جهة وتترك الكيانات العربية في تبعية دائمة للغرب من جهة أُخرى.

في مخطّطات سايكس بيكو الثابتة وتعميم الفكرة على الجميع في دخول الوطن العربي للحداثة والتغيير عبر القطع مع الفكر السياسي التقليدي ونزعة العداء للكيان الصهيوني وللغرب لا بدّ للعقل العربي أن يستوعب مُقتضيات العصر ومستجدّاته والقبول بحل المشاكل والأزمات العالقة بالتنازل وبالشروط المُملاة. لابدّ أن يحتوي العقل على المبادئ والحقائق والذكريات والآمال للمستقبل: في تطلّعات الجماهير العريضة التي تؤرّخ للحدث بالذاكرة والتذكّر، والتي ستلعنه في التاريخ على الفعل السياسي والفاعل الذي قبل الصفقة نتيجة ضيق الأفق في قضية مركزية في الصراع على الارض والوجود.
العقل العربي الذي يتغنّى بالماضي والتاريخ ويتحايل ويتمايل بالمكاسب والمغانم لن يحصل من صفقة ترامب – كوشنر – نتنياهو إلّا على تصفية لقضيّة ليست قوميّة فقط وإنما عالمية وإنسانية من الدرجة الأولى.

في صفقة القرن، التي من أهم بنودها ضمّ كلّ المستوطنات، ضم الضفّة الغربية للكيان الصهيوني، والقدس غير المقسّمة عاصمة له، والدولة الفلسطينية المستقبلية منزوعة السلاح لا حدود لها، وغَور الأردن خاضع لسيادة الكيان الصهيوني، ودولة الكيان هي للشعب اليهودي. فالتصريحات العربية هنا وهناك،جميعها، تنطوي على التناقض بين القول والفعل، بين الرفض والإذعان، بين المشاركة والتفرُّج. فالأهداف واضحة لأن الغنيمة التي لا تاتي إلَّا عبر القوّة وغلبة المنتصر، وغنيمة البلدان في مساعدات مالية لاستمالة العرب بالإغراء الاقتصادي ستصبح فلسطين غنيمة اقتصادية، وهذا تعبيرعن فَهم العقل السياسي الإسرائيلي والغربي للعقل العربي. فهو، أي العقل الإسرائيلي، من شدَّة الذكاء لم يفاوض وإن فاوض فبدون تنازلات منه..

صفقة القرن قديمة بلباس جديد، كانت فاتحتها اتفاقية أوسلو وعرّاب الصفقة كوشنر الذي جال الدول العربية وجمع المعطيات الكثيرة عن رغبة الأطراف بقبولها في إنهاء الصراع الذي رسم معالم المنطقة منذ زمن بعيد، ولا زالت قضية فلسطين حاضرة وباقية في نهاية غير محسومة.

في صفقة القرن والشقّ الاقتصادي غير منفصل عن الشق السياسي، ففلسطين أرض عربية، دولة للفلسطينيين، أمّا تهويد الأرض وسلب الإنسان الفلسطيني حق العودة وتنمية وطنه بدون الحاجة للمساعدات الغربية وخنق الإرادة إنَّما هو تصفية القضية بأدوات عربية. فأين معيار القبيلة ودور القرابة الذي ينبغي أن تشد الناس إلى بعضهم بعضاً في المجال السياسي والاجتماعي؟ هل يُعقل أن يساوم العقل السياسي العربي على فلسطين؟
العقل العربي يعلوه الصَّدأ، يقوم أساسا على الاعتقاد وليس
على البرهان وليس عقلاً جدَلياً، عقل جماعة وليس عقل فرد، يتأسّس على رموز مخيالية تؤسّس الاعتقاد وليس الجدل والبرهان، لا يستقر على مبادئ خالصة، فهو عقل تبريري وتقريري، يسكنه التناقض، ويستبق الوقائع والأحداث وفق ما يرسمه الآخر من مخططات، ولا يقرأ ردود الأفعال ومشاعر الملايين من الناس الذين يعتبرون قضيّة فلسطين قضيتهم.

ربما لصفقة القرن أتباع ومريدون في الوطن العربي، لكن هؤلاء يجب الا يرضوا ضياع حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه، ان لم يكن من موقع سياسي، فمن موقع اللحمة العاطفية ورابطة الدم داخل الجماعة الوطنية الواحدة. كما أنه من المعروف أنّ العقيدة سواء كانت على شكل دين أو أيديولوجيا أن تحرّك الأفراد والجماعات وتؤطرهم داخل ما يشبه القبيلة الروحية وتشدهم بعضاً إلى بعض لدفع الضّرر وإنصاف المظلوم، والشدّة على المعتدي والرّحمة بين الاشقّاء والأخوة.
في ضوء ما تقدم يبدو أنّ محدّدات العقل السياسي العربي مفكّكة بفعل التغيير الذي أصاب بنية هذا العقل. فهل هذه المحددات صادقة ويمكن تعميمها أم إننا بحاجة إلى مُحدّدات جديدة في عالم سياسي تغيرت فيه الأيديولوجيات ؟.

إنّ العقل السياسي العربي وليد ترسّبات الفعل التقليدي ووليد الصراعات والنزاعات على الفكرة ووليد الصراعات على السلطة ووليد الجدل السياسي مع الاخر. والمجتمعات هي التي تخوض تجارب، ويخوض عقلها هذه التجارب ويعيش مخاضاً في ولادة رؤية جديدة في السياسة تقود المجتمعات إلى العدل والحق وترغم الآخر أن يحترم منطق الشعوب من باب المصالح المتبادَلة. وصفقة القرن هي برنامج أو خطّة محفوفة بالمخاطر من كل الانواع، هي عرس بدون عريس، وحفل زفاف بدون أصحابه، وهي صفقة تسعى إلى إزالة الحواجز وتؤسّس إلى علاقات جديدة تتضمن في المحصلة خطر تصفية القضية الفلسطينيّة من منظور أحادي في السياسة الخارجية الأمريكية. إنّها في المحصلة تصفية للقضية الفلسطينية، على الشعوب العربية والفلسطينيين، وبالأخص: دفنها

رحلةُ السيّد المسيح إلى فينيقية والمدن العـشر

في خطبةٍ ألقاها الأب الفـرد دوران، مُـدرّس شرح الأسفار المقـدّسة في المكتب الشرقي، نشرتها مجلّة المشرق في العـدد الثاني لشهر شباط سنة 1908، تحت عنوان: «رحلة السيد المسيح إلى فينيقية والمدن العـشر». بحضور القاصد الرسولي، ومطران بيروت للروم الكاثوليك، ورئيس أساقفة صيدا، ورئيس أساقفة قبـرص، وأسقف طرابلس للروم الكاثوليك (1).

يخبرنا الإنجيل الشريف، إنَّ السيد المسيح في أيام بشارته، «ذهـب إلى تخـوم صور وصيدا» (مرقس 7: 24). ولم تكن تلك الرحلة فقـط إلى جهات الجليل المجاورة لفينيقية، بـل دخـل فينيقية وتجـوّل فيها. كما يظهر من كلام القـديس متّى، حيث يقول: «إنه دخـل إلى جهات صور وصيدا»، (متّى 15: 21). فإنّ النص اليوناني يـدلّ على توغّله في أصقاع فينيقية وتجوّله في أنحائها. وقـد صدّر الإنجيل هـذه الآية، بلفظة تـدل على أنه لـم يـزر فقـط تلك الجهات، بـل تـردد في جنباتها مـدّة مـن الزمان معـتـزلاً فيها، لينجو مـن دسائس أعـدائه، ويبتعـد عـن البلاد الخاضعة لحكم هيرودس انتيباس، الذي كان ينتظر الفـرصة الملائمة ليلقي عليه الأيـدي، وهـذا ما حمله على أن يتجاوز حـدود الجليل، ويطلب لـه ملجأ في فينيقية، لا بسبب خـوفه من أولئك الأعـداء، بـل لكونه أراد انتظار الساعـة المحـدودة من أبيه السماوي لإنجـاز سـرّ الفـدى. وهـذا مـا دفعـه أيضاً إلى أن يجيب الهيرودسيين الذين أتـَوا بعـد ذلك ليجسّوا أعماله وينقلوها لسيّـدهم. (لوقا13: 32). «اذهبوا قولوا لهذا الثعلب: هـا أنا أُخرج الشياطين وأجـري الشفاء اليوم وغـداً، وفي اليـوم الثالث أكمّـل». كأنه يقـول لهم: ليس لأحـد من البشر أن يمـدّ لي يـداً قبـل الساعة المعيّنة في حكم أبي الذي في السـموات.

ويذكـر الأب دوران بأن السيد المسيح، جـاء إلى بلادنا وقـدّس وطننا. كما ورد في إنجيـل مرقس، (7: 24)، «ثم خرج من تخـوم صور ومـرّ في صيدا، وجاء في ما بين تخوم المـدن العشر إلى بحـر الجليل»، ونشر خارطة الطريق التي يحتمل أن يكون قـد سلكها السيـد المسيح.

كان أهـل ذلك الزمان يـَدعـون بهـذا الاسم مـدناً متحالفة مـن المدن اليونانية الرومانية الواقعة في عبـر الأردن، في شرقيه وشرقي دمشق إلى عمّـان، فكان موقع المـدن العشر، يوافق بما نـدعـوه اليوم ببـلاد الجولان وحـوران، بالإضافة إلى دمشق وقسم من شرقي الأردن. وكان تحالف هـذه المـدن ينحصر في عشر مـدن فقـط، ذكرها الكاتب الروماني بيلينيوس في كتاب النبات (18-16 .V, Pline). وهي التاليـة:
1- فيلادلفيا (عمّان المعاصرة). 2- أبيـلا أو (حـرثا). 3- جـراسا (جـرش). 4- جـدارا (أم قيـس). 5- كانثـا (أم الجمال). 6- بيـلا (طبقة فحـل). 7- دايون (إيـدون). 8- هيبوس (الحصن). سكينوبوليس (بيسان). 10- داماسكوس (دمشـق).
وقـد دخلت هـذه المـدن العشر في حكم بني حشمناي على عهـد اسكندر ياناوس، في بداية القـرن الثاني قبـل المسيح. ثـم نالت من فضل بيمبيوس (بومبيوس) سنة 64 (ق. م) أن تـدبّر أحوالها بنفسها، مُعتزلة عن حكم فلسطين، خاضعة لعاصمة المملكة الرومانية، ثـم غلب عليها العنصر اليوناني. وكان أهلها يتعصبون ليردّوا عنهـم غـزوات القبائل المقيمـة في جوارهم. وربّما تمكّنت منهم تلك القبائل حتى مـدّت سيطرتها عليهم. واختلطت الحضارة السامية بالتمـدّن اليوناني، كما حـدث في دولة النبطيين الذين قويت شوكتهم وامتدت سلطتهم إلى دمشـق. وكان المالك عليها في عهـد السيد المسيح وبـولـس الرسول، الحـارث الرابع كما يستفاد مـن رسالة بولس إلى أهـل غلاطيـة.

المناطق التي زارها المسيح في لبنان

كـم دامت رحلة السيد المسيح إلى فينيقيـة والمـدن العشـر؟

الأمـر ليس معلوماً، لكن علينا تعيين الطريق التي سلكها السيد المسيح.
المـرجّح أن السيد المسيح وتلاميذه اتّجهوا إلى صور على خـطّ مستقيم. فقطعوا بـلاد الجليل العليا، على سكة كان الرومان اصطنعوها هناك. وكان يسكن تلك الجهات اليهود والوثنيون معـاً. ولذلك كانت تدعى بـ «جليل الأمـم». وهي المعروفة اليوم ببـلاد بشاره، التي كانت في ذلك العهـد مـن أخصب بـلاد الشـام، تُجـاري بـلاد الجليل السفلى، مـن بحيـرة طبريا إلى مـرج بني عامـر في خصبها ووفـرة غـلّاتها، حتى أن المـؤرخ يوسيفوس، كان يدعـوها بجنّـة عـدن، وفيها تمّـت نبـؤة يعقـوب. وقـد سمـع كثير من أهلها تعاليم السيد المسيح مـع القوم المزدحمين عنـد بحيرة طبريا. ورأوا معجزاته وآمنوا بـه، فسارعـوا إلى دعـوته وضيافته عنـدهم، وحـلّ ضيفاً كـريماً في المـدن التي يسكنها سبطا بني إسرائيل: «أشـير» و «نفتالي»، فـزار مـن مـدنهم صفـد، حيث كان ذكـر طوبيا البـار حيّـاً مكـرّماً، ثـم جـش مـوطن بولس الرسـول على رأي القـديس أورنيمـوس، وكفـربرعـم مـدفن القاضي بارق والنبي عبـديا، وقـانا وصرفنـد. وكان الأب الفـرد دوران قـد نشر خريطة تُظهر الطريق التي يحتمل أن يكون قـد سلكها السيّد المسيح.

إنّ السيّـد المسيح بعـد زيارته إلى صيـدا، عـرّج نحـو اليمين ومـال إلى الشرق، في وجهـة بـلاد الجـولان، ومـن ثـمّ قطع جبل لبنان. وعنـد وصوله إلى البقـاع، هناك طريقان: الطريق الأولى كان قـد مـدّها الرومان حـول جبل الشيخ إلى قيسارية فيليبس، أي بانياس، وتتـفرّع من هـذه الطـريـق طريـق ثانية، تتّجـه مـن بلدة جب جنين فتصل إلى راشيا ثم تمـر بقطنا. ويُعتقـد أن السيد المسيح كان قـد سلك هـذه الطريق لقلّـة سابلتها. ولأن سـياق الرواية الإنجيلية ينطبق على هـذه الطريق التي هي طـريق دمشـق. ولـم تـذكر الأناجيل أنـه دخـل مـدينة دمشـق. وغاية ما نعلمـه، أنـه عـاد إلى الجليل عـن طـريق بحـيرة جنـاسر (بحيـرة طبريا)، مـارّاً وسـط نـواحٍ كان الشرك يمـدّ أطنابه على قسم كبير من أهلها. فقـدّس الـرّب منازلهم وشـفى عاهاتهم وزرع في قلوبهم بـذور الخلاص، التي نمت بينهم بعـد صعوده نمـوّاً عجيبـاً. وكان سكان المـدن العشر يعرفونه عـزّ وجـلّ، قبل مـروره في جهاتهم. فجاؤوا غيـر مـرّة إلى الجليل لاستماع كلامه. وقـد صرّح متى الإنجيلي بذلك، (4: 25)، عنـد ذكره خطبة السيد المسيح إلى الجموع الذين «تبعـوه مـن الجليل والمـدن العشر واورشليم واليهودية وعبر الأردن».

فـلا غَـرو أنّ أهل تلك المـدن ذكروا تلك النّعـم، فتقاطروا إلى يسوع لمـاّ عرفـوا بقـدومه إلى بلادهم، فجـدّد بينهم الخوارق والآيات. ومن نعمـه الحـديثة على أهل تلك البلاد، شفاء ذلك المجنون الذي بلي بشيطان نجـس، أو بجـوقة من الشياطين (مرقس 5: 1- 20)، فطرد السيد المسيح الأبالسة الأشرار وردّ إليه عـقله سليماً، ولمّـا سأله ذلك الرجل أن يكون معـه قال له طبيبه الإلهي: «إذهب إلى بيتك إلى ذويك، واخبرهم بما صنع الرب إليك وبرحمته لك». وكذلك المعجرة الباهرة التي اجترحها مـع أصم أخرس، نحّاه عـن الجمع وجعل أصابعه في أذنيه، ولمس لسانه قائلاً: «انفتـح» فانفتح مسمعاه وانحلّت عقـدة لسانه وتكلّم بطلاقة. وكان الرب أمر ذلك الإنسان أن لا يخبر بأمره أحـداً. لكن الشكر أطلق لسانه ولسان أهله، فبَشَّروا بشفائه في كل ناحية حتى كان الجميع يصرخون: «لقد أحسن في كل ما صنع، جعل الصُّمّ يسمعون والبكم ينطقون» (مرقس 7: 32- 37)، وقال متّى (15: 30)، «إنّ جموعاً كثيرة دنت إليه، معهم خرس وعميان وعـرج ومعوهون وآخرون كثيرون، فطرحوهم عنـد قدميه فشفاهم… وكانوا يمجّـدون الإلـه».

وكانت تلك الجموع تتراكم حول السيـد المُخلّص وتزيد يوماً بعـد يوم، حتى بلـغ عـددهم أربعة آلاف سـوى النساء والصبيان. وتبعـوه مـدة ثلاثة أيام في القفار، حتى نفذ ما اصطحبوه معهم من الزاد. فتحنن عليهم الـرب «ولم يشأ أن يصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق». فجـدّد بسببهم آية كان قـد اصطنعها سابقاً مـع غـيرهم، وقـات أولئـك القوم بسبعة أرغفة وبيسير من السمك. وقـد جـرت تلك الآية في ضفة بحر الجليل الشرقية، في مكان لم يكن اليوم تعيينه بالتدقيق. ثـم صرف الجمع وركب السفينة (2).

وفي مقالة للناشط البيئي ورئيس الحركة البيئة اللبنانية بـول أبي راشـد على صفحته على الفايسبوك، حـول مطابقة الخريطة القديمة التي كان قـد نشرها الأب دوران، وذلك بمساعدة المهندس سامر هاشم على برنامج غـوغـل. وتبيِّن أن الطريق المرسومة تمـر من صيـدا إلى وادي أشمون ومـرج بسري، وتمـر بمحاذاة ثغـرة مرستي التي كانت تعبرها القوافل، ثـم تصل إلى البقاع وعبـور نهـر الليطاني باتجاه جبـل الشيخ والمـدن العشر للعودة إلى كفرناحوم.

طـريق صيـدا البقاع دمشـق

الطـرق والمعابر هي من ضرورات الأمن والاقتصاد، لذلك كانت الدول المتعاقبة على حكم بـلاد الشام، من يونانية ورومانية، وبعـدها الدول الإسلامية كافّـه، تعمل كل منها على ربـط الساحل اللبناني بمركزها السياسي العسكري في دمشق بطـرق عـديدة. وهـذه الطرق كانت معروفة في القرون الماضية. منها طريق «صيـدا – الشوف – البقاع – دمشق. حيث يُحـدَّد مسار هـذه الطريق كما يلي: «صيـدا جسر الأولي- وادي أشمون – مرج بسري – ثغـرة مرستي – صغبين أو عين زبده – جب جنين – ميسلون – دمشق». ومن جب جنين تتفـرع منها طريق إلى راشيا وتمر بقطنة. ويُعتقد أن هـذه الطريق هي التي سلكها السيد المسيح عبر راشيا إلى فلسطين. وهـذه الطريـق كانت معروفة في نصوص مؤرّخي بـلاد الشام. وكانت تستخـدم في جميع العهود، من قبل الجيوش والقوافل والمارة والمكارين، وبقيت تستخـدم حتى بعـد الحـرب العالمية الثانية. ويشير صالح بن يحيى إلى هـذه الطريق دون أن يسميها (3).

في سنة 1400م، سلك هـذه الطريق السلطان فـرج بن برقوق، سلطان المماليك على مصر، الذي أنجـد دمشـق بحملـة عسكرية أثناء غـزوة تيمـورلنك لهـا. فقـدّم لهم الغلال والسلاح وبات ليلته في دمشـق، حتى دخـل عليه أحـد أمـرائه وحـدّثه أن تيمورلنك لا بـدّ أن يأخـذ دمشق. فخشي السلطان على مصر، وخـرج من قلعة دمشق في حكم الليل، وذهب عـن طـريق البقاع العـزيزي وجعل دربـه على الجبال، وتـوجه نحـو طريق الساحـل. وقيل إنـه بات ليلته بسفح جبل لبنان إلى جهـة الغـرب، بمكان يقال له الصفصاف بين قريتي نيحا وجباع، لئـلا يعلم بـه أحـد. وتوجـه على طـريق الساحل، ودخـل مصـر في سـفر حثيـث (4).

في سنة 1436م، سلك هـذه الطريق الأمير صالح بن يحيى التنوخي، (مؤلف كتاب تاريخ بيروت)، بعـد مشاركته بالحملة العسكرية التي جرّدها الملك الأشرف سيف الدين برسباي سلطان المماليك على جزيرة قبرص. وذلك اثناء عـودته من دمشق إلى عبيه، حيث رافقه جماعة من وادي التيم. وكان قـد كمن للأمير صالح في قرية صغبين المدعـو أمير حاج من بني الحمرا يريـد قتله، وكان التنوخيون قـد أجلوا بني الحمرا عـن بيروت. وحضر جماعة كثيـرة من الشوف إلى فـوق صغبين لملاقاة الأمير صالح، حتى خاف من في صغبين من اجتماع الناس حولها. ووصل الأمير صالح إلى عبيـه بتاريخ 25 ذي الحجّـه سنة 1436م (5).

منذ بداية العهد الشهابي، وبخاصة على أثر معركة عينداره التي حصلت بين القيسية واليمنية في العام 1711م. وهجرة أعـداد كثيرة من الأهلين إلى جبل حوران، كان الناس من الأشواف يسلكون هـذه الطريق إلى جبل حوران ذهابا وإيابا، للهجرة والاشتراك بالحروب وإحضار الحنطة وزيارة أقاربهم، وكذلك خلال الثورة التي أطلقها سلطان باشا الأطـرش ضـد حكومة الانتـداب الفرنسي، وغيـر ذلك.

في العام 1958، عنـدما قام زعماء المعارضة في لبنان، بثورة مسلحة، كان الثوار يسلكون هـذه الطريق عبر ثغـرة مرستي سيراً على الأقـدام إلى قرية دير العشائر الحـدودية.
في العام 1976م، وأثناء الحرب الأهلية التي حصلت في لبنان والتي دعيت بحـرب السنتين، وبسبب انقطاع مادة البنزين عـن قـرى الشوف حينـذاك، وتوفّـرها في منطقة البقاع. قام بعض الشبان من قـرى الشوف، بسلوك هـذه الطريق إلى البقاع، لإحضار مادة البنزين، حيث كانت تُعَبّأ بغالونات وتُنقـل على ظهور البغال والحمير وتباع في قـرى الشوف (6).

ثـغـرة مـرســتي

الثّـغـرة أو ثـغـرة مـرسـتي، هي سـهل منبسط على سطح جبل مرستي، منخفضة عمّـا حولها من قمـم. تشـرف على منطقة الشوف غـرباً وعلى سهل البقاع شـرقًا، تمـرّ وسطها طـريق المشاة التي تنطلق من صيدا إلى الشوف والبقاع ودمشـق، وتُتَّخَـذ من قبل القوافل والمـارّة والمكاريـن نقطـة اسـتراحة من عـنـاء السفـر في الذهاب والإياب.

بعـد أن استقـرّ الـوضع الأمني في الشوف، في عـهـد المتصرّفية، بـدأت الأسـر التي كانت قـد هاجرت إلى قـرى جبل حـوران بالحضور إلى الشوف والتواصل مـع الأقارب والأصدقاء، وحصول زواج فيما بينهم. فكان العـريس ومرافقـوه من الأهـل والأصدقاء، يحضرون من جبل حـوران إلى ثغـرة مرستي، وتـذهب العروس ومرافقوها حيث يلتقيان في الثغـرة، يمضون ساعات في الثغـرة يحتفلون معاً بالمناسبة، وبعـدها يـذهب كلُّ إلى بلـده. واستمـرّ هـذا التقليـد لسـنوات عـدّة، وتـوقّف مـع بـداية الحـرب العالمية الأولى (7).


المراجع:

1 – مجلة المشرق، السنة الحادية عشرة، العدد الثاني، شباط 1908. ص 81 وما بعد.
2 – يوسف ابراهيم يزبك، أوراق لبنانية، دار الرائد اللبناني، 1983، مج 3 ص 159و 249 و 296.
3 – صالح بن يحيى ، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس وكمال الصليبي، دار المشرق ، بيروت 1986، 246
4 – تاريخ ابن سباط، صـدق الأخبار، تحقيق عمر تدمري، جروس برس، طرابلس، 1993، ج2 ص 764.
5 – صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، م، س، ص 249
6 – نديم الدبيسي، مرستي الشوف تاريخ وذاكرة، لا دار، ص 126و 127و 128
7 – نديم الدبيسي، م، س، ص 131

قصّة أميرة معروفيّة “مَيْثا الأطرش”

كان العثمانيون في عقد التسعينيّات من القرن التاسع عشر قد نجحوا في شق الموقف الموحّد للدروز الذي سبق له أن كان يحول دون احتلالهم للجبل. في تلك الفترة أرسل العثمانيّون سلسلة من الحملات على الجبل لبسط سيطرتهم عليه مستغلّين حالة الانقسام الاجتماعي بين عامة الدروز وإقطاعييهم، ومن بين تلك الحملات التي بدأت عام 1888كانت حملة بقيادة الجنرال ممدوح باشا، خلال سنتي 1894 و1896 احتلّت السويداء بعد مواجهات دامية عديدة.

فرض العثمانيون ضرائب باهظة على السكان منها تأمين طعام الجنود والحطب للطبخ والتدفئة وتأمين التّبن والعلف لبغال وخيول الجيش العثماني الذي يحتل الجبل، وقاموا بنفي زعيم الدروز الثائر،الشيخ شبلي الأطرش وعدد كبير من الزعماء والمشايخ ومنهم الشيخ حسن الهجري والشيخ حسن جربوع والشيخ حسين طربيه، ونفوهم إلى منافٍ متفرّقة في الأناضول وجزر بحر إيجة في شباط من عام 1896.

مقابلة الأميرة للباشا العثماني تَسْتَجِرّ حرباً!

كانت السيدة مَيثا ابنة شيخ قرية عرمان، حسين الأطرش، وهي أرملة المُتَوفّى محمّد الأطرش شيخ بلدة صلخد قد دخلت في قضية خلاف على ميراث بين ابني زوجها المُتَوفّى وابنها القاصر (نجيب)، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر.

قابلت ميثا القائد العثماني ممدوح باشا في السويداء بخصوص الحفاظ على حقّ صغيرها، وبحسب سعيد الصغير، صاحب كتاب «بنو معروف في التاريخ» (1)، وهو ابن بلدة عرمان والقريب زمنه من زمن ميثا. طلب ممدوح باشا الزواج من ميثا فرفضت، والتجأت إلى والدها حسين الأطرش في عرمان وهناك تعهّدَ رجال قريتها بحمايتها (2).

كانت قرية عرمان آنذاك قد شكّلت ملجأً آمناً للممتنعين عن الخدمة في الجيش العثماني وللثائرين المُلاحَقين من درك (جندرمة) السُّلطة، ومنهم «فارس وقبلان الحمود الأطرش» من شيوخ قرية بكّا وغيرهم.
ولما كان ممدوح باشا مَعْنيّاً بتتبع موقع لجوء ميثا، في قرية عرمان التي أصبحت تزعجه بسبب كلّ ذلك، فقد أوعز إلى بدو من عشيرة الصّفَيَّان بالاعتداء على حِمى عُرمان ومزروعاتها، ولهذا السبب قام حُرّاس المزروعات (النواطير) بمعاقبة البدو المعتدين الذين اشتكَوْا إلى السلطة العثمانية المتواطئة معهم، والتي تستعملهم كفتيل صاعق لتفجير الأوضاع المحلية بين الدروز والبدو لتبرير تدخُّلها بحجة ضبط الأمن في الجبل…
هنا جاء دور القائد العثماني لِيُدلي بِدَلْوِه في النّزاع، فأرسل طلباً يقضي بقدوم أربعة من وجهاء عرمان إليه في السويداء، وعلى هذا فقد توجه إلى السويداء كلٌّ من: ابراهيم الجرمقاني وصالح الحلبي وهلال العطواني ومحمود صيموعة.

كانت العادة في ذلك الزمن حيث ما من وسائل نقل آلية في البلاد أن ينتقل الناس على ظهور الخيول وغيرها من الدواب. وصل الرجال على خيولهم من عرمان إلى السويداء على نِيَّة مقابلة الباشا في اليوم التالي، ولمّا كانوا لا يطمئنّون لنواياه فقد عرّجوا إلى بيت مختار السويداء محمود جربوع، الذي نصحهم بعدم مقابلة ممدوح باشا خيفة غدره، فعادوا مُسرعين إلى حيث أتَوْا، ودعَوْا وجهاء المقرن إلى اجتماع سِرِّي في خربة المجدل الأثريّة قرب عرمان.
هناك تعاهد الأعيان على نجدة كلّ قرية تتعرّض للعدوان العثماني.

عرمان تدافع عن كرامتها

وتتابعت الأحداث، مُتسارعة، إذ أرسل ممدوح باشا مَفْرَزة تركية من ثلاثة وثلاثين عسكريّاً وصلت إلى منزل المختار ابراهيم الجرمقاني يوم الخميس الثاني من تشرين الثاني 1896 (3) بقيادة ضابطين أحدهما اسمه مشرف رضوان من مواطني السويداء، بهدف اعتقال (النواطير)، وهم حرّاس المزروعات والحِمى حيث كانوا قد ضربوا الرّعاة البدو وطردوهم منه «ولأخذ ميثا بعد أن تبيّن أنّ هناك مداورة وتهرّباً من الانصياع لمشيئة ممدوح باشا بخصوصها وبعد أن اتّضح له أنّ مغادرتها إلى عرمان كانت رفضاً ضمنيّاً لطلبه (حسب بعض الروايات)» (4) ولمّا كان الضابط في الجيش العثماني مشرف رضوان يتبعه بعض الجنود يبحث عن الأشخاص المطلوبين مارّاً من أمام مضافة الوجيه محمود أبو خير وكان هذا معنيّاً بتقديم الطعام لضيوفه من آل سلّام القادمين من قرية سالة البعيدة، فقد دعاه للغداء كما هي عادة الكرماء بدعوة المارّة لطعامهم قائلاً له:
ــ تَفَضَّلْ للغداء، لاحِقْ تأخذ زُلْم. (أي لديك وقت كاف لتعتقل الرجال الذين تلاحقهم)، فأجابه مشرف بفظاظة:
ــ سآخذ زُلْم وسآخذ رأسك أيضاً.

غضب محمود أبو خير، فاستل سيفه وهجم على مشرف، لكنّ مرافقيه من الجنود عاجلوه برصاصة من خلفه فأردَوْه قتيلاً.
سريعاً ما شاع نبأ مقتل محمود أبو خير، فهبّ رجال عرمان وانتقموا له بقتل بعض الجنود العثمانيين، وقد قام علي الدبيسي بضرب مدير ناحية صلخد العثماني بالسيف فقتله، وتحصّن من بقي من الجنود ومن بينهم الضابط مُشْرِف نفسه في مضافة المختار ابراهيم الجرمقاني، وقاموا برمي بندقية أمام باب المضافة كمصيدة لإغراء كلّ من يتقدم لتناولها ومن ثم قَتْلِه، مُسْتَغلّين طمع الرجال الذين لا بنادق حديثة لديهم كالبنادق العثمانية الألمانيّة الصّنع، وبهذا فقد قتلوا عدداً من الأهالي بهذه الحيلة، لكنّ رجال عرمان لم يطيقوا صبراً على مطاولة حصار المعتدين فتسلّقوا سطح المضافة وثغروه من الأعلى ونزلوا إليهم من فوقهم وأجهزوا عليهم بالسيوف والخناجر ولم يسلم منهم سوى ثلاثة بينهم ابن الضابط مشرف (5) والضابط سليم الجاري (وهذا من دروز لبنان، من قرية مَجْدَلْبَعنا) (6) وجندي آخر اسمه موسى «كانوا قد استجاروا بالنساء فأجرنهم» وتقول بعض المصادر النقليّة أنّ موسى قد قَتَلَ مُلْحِم الحلبي (أحد أهالي عرمان الذي رشقه بالحجارة أثناء هربه على حصانه باتجاه صلخد) (7). وهكذا وصل إلى قيادة ممدوح باشا في السويداء نبأ ما حلّ بمدير النّاحية وجنوده.

تقول الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر إنّ «للدروز الحق في الدفاع عن شرف زوجة محمّد الأطرش الجميلة التي رغب ممدوح باشا في سَبْيِها، بينما أثيرت احتمالات أخرى لأسباب الحادث تقول بأنّهم قاوموا تسجيل الأراضي (وما يترتب عليها من ضرائب لا ترحم) ولربّما كان رجال الأمن أرادوا اعتقال بعض شيوخ القرية فكانت ردّة الفعل هذه…» (8).
جُن جنون الجنرال ممدوح باشا لهذه النكسة التي أصابت مبعوثيه إلى عرمان.

هزيمة ممدوح المُدَوّية في «الخراب»

جهّز ممدوح باشا حملة من ألفي جندي بينهم أربع كتائب من المشاة وكتيبة من الخيّالة بقيادة خسرف باشا (وهو الشركسي، قائد الدرك السابق في دمشق وقائمقام السويداء حينها) (9). وأيوب باشا وغالب بك وأَمَرهم بالتوجّه لتدمير عرمان والانتقام من أهاليها.
تقصّد العثمانيون مفاجأة أهالي عرمان بضربة ساحقة، وقد قال ممدوح في أمر القتال لقادته: أريد أن أسمع وأنا في السويداء وقائع القتل والفتك والتنكيل بأهالي عرمان، وإن بدرت أية بادرة من أهل الجبل والسويداء سأقوم بتصفية هذه الطائفة نهائياً.

كان الضابط سليم الجاري حاضراً وقد سمع أمر جنراله، فأصر سرّاً على التضحية بالنفس والرّتبة والمستقبل لتجنيب أهالي عرمان ما يُخَطّط لهم من الكيد، فتطوّع أمام ممدوح باشا ليكون دليلاً للحملة، وممّا قاله ممدوح لسليم: عند نجاحكم بتنفيذ المهمّة سأرقّيك إلى رتبة أعلى.
وعلى هذا توجّه ذلك الجيش نحو عرمان على مسافة نحو 25 كيلومتراً من السويداء في يوم الأحد الخامس من تشرين الثاني 1896.

كان انطلاق الحملة من السويداء قبيل العصر، فوصلت قرية الكفر مساء، وعندما انطلقت منها في أوّل الليل وبدلاً من أن يقودها الدليل رأساً باتجاه عرمان قادها إلى مشارف قرية مياماس، وأثناء وِقفة استراحة قصيرة تمكّن سليم من إرسال أحد أهالي قرية مياماس وقد حَمّله ورقة تنطوي على إنذار إلى الشيخ أبو قاسم محمّد الجرمقاني وأبلغه أنّه سيقود بالحملة ليلاً إلى مشارف قرية طليلين شمال شرق عرمان تضييعاً للوقت، ومن ثم يعود بها باتّجاه عرمان ليكون قريباً منها عند طلوع الفجر وأنّه سينضمّ إليهم مع رفاقه من أبناء الدروز عند بدء القتال (10).

وصلت تلك القوّة فجراً إلى شمال شرق صلخد، شمال غرب عرمان، ومن ثمّ تعمّد الجاري السير بالحملة شرقاً نحو ما يسمّى (خراب عرمان / عيون) وهي عبارة عن كروم قديمة مهجورة وخَرِبَة كانت تُزرع عنباً وتيناً وأشجار فواكه تعود لعصور الأنباط والرّومان، غير أنّها وعرة المسالك وطرقاتها جبليّة صعبة وضيقة وجدرانها حجريّة عالية تحجب الرّؤية وتصلح للتّمترس والقتال.

كان هدف سليم الجاري من ذلك توفير الوقت المناسب لأهالي عرمان ليستعدُّوا من جانبهم، وعدم إتاحة الفرصة للجيش العثماني الدخول إلى القرية من جانب آخر، فضلَّل الحملة طوال ذلك الليل بين حيطان تلك المنطقة إلى أن بزغ الفجر. بينما كان من خطتهم دَهْمُ القرية ليلاً للانتقام مِمّن فيها من سكّان.

مع الفجر كان نفرٌ من الأهالي يراقبون في غرب القرية فلمّا شاهدوا طلائع الجيش أسرعوا بدعوة الرجال لمواجهة المعتدين وهناك، في كروم خراب عرمان دارت المعركة لعدّة أيام انتصر فيها الأهالي رغم التفوّق العددي للحملة العثمانية (2000 جندي مقابل 150 من أهالي عرمان قبل وصول النجدات من القرى المجاورة بالإضافة إلى تفوّق الجيش بأسلحته من مدافع ورشاشات وبنادق حديثة، ولم تتأخر النساء عن المشاركة في المعركة فكنّ ينخين الرجال ويقدمن لهم الماء والزاد واشتهرت من بينهنّ سعدى ملاعب وكان من بين المقاتلين المسيحي طحيمر الصيقلي (11) قد ركب جواده وأسرع يَنْخى أهل صلخد (تقع على مسافة نحو 4 كلم غرباً) ويستنهضهم لنجدة عرمان فكانوا أوّل من وصل من رجال القرى، ويقول سعيد الصغير في فعل رجال صلخد في تلك المعركة «وأظهروا بسالة كبيرة في القتال لأنهم شعروا بمسؤوليّتهم إزاء هذه الحرب التي كان من بين أسبابها دفاع عرمان عن أرملة شيخهم، وقد استشهد منهم اثنان وسبعون محارباً ولشجاعتهم في الحرب لُقّبوا بالزّغابة (الزّغابة هم مجموعة من أشدّاء قبيلة بني هلال التي اشتُهرت ببسالتها في الحروب حسب رواية تغريبة بني هلال التي كانت مصدراً من مصادر الثقافة الشعبية في تلك الفترة من الليل العثماني الذي ران على العرب طوال أربعة قرون ونيّف).

وتواصلت نجدات قرى الجبل (من المقرن القبلي والشرقي كملح القريبة شرقاً من عرمان وامتان إلى الجنوب منها وغيرها من قرى الجبل التي فزعت للنجدة) وقد هوجم الجيش العثماني من ثلاث جهات تاركين له الجهة الغربية فبدأ بالتراجع أمام شدة الهجوم عليه وأخذ الدروز يتسابقون إلى القتال معظمهم يقاتل بالسلاح الأبيض من سيوف ورماح وبلطات وفؤوس ومقاليع «والقليل من البنادق القديمة التي تُحشى من الفُوَّهة» وكل هذا لا يرقى إلى مستوى أسلحة الجيش العثماني الذي صمدوا في وجهه وأوقفوا تقدمه باتّجاه قريتهم إلى أن وصلت نجدات القرى إليهم ودامت المعركة سبعة أيام.

المُعْجزَة تفعل فعلها

وفي تلك المعركة وقعت حادثة غريبة أثناء تلك الاشتباكات العنيفة أثّرت تأثيراً عظيماً في سير القتال بحيث رفعت من معنويات مقاتلي الدروز؛ ذلك أنه في ظهيرةٍ من نهار آخر يوم من المعركة وقد توازنت القوى بين المتحاربين فما من قادر أن يحسم المعركة، هَبَّ ذئبٌ حاصره القتال بين المتحاربين، واعتلى رُجْماً عالية من الحجارة وأخذ يَجُوْحُ في مواجهة العسكر العثماني بصوت مُرْعِب (الجَوْح: نوع من عواء الذئاب عندما تكون جائعة: عاميّة) فاعتبر المقاتلون الدروز أن تلك الحادثة إشارة من العقل الإلهي لنجدتهم، فَكَرُّوا غير عابئين بالموت نحو العسكر العثماني الذين ولَّوْا هاربين ولم يُعْثَرْ للذّئب على أَثَرٍ بعدها.
تحوّلت المواجهة مع العثمانيين في موقعة الخراب إلى هزيمة نكراء، لأنّ الجنود الذين كانوا يرون مصارع رفاقهم أَوْهَنَ عزائمهم الخوف وأصبح همُّ كلّ جندي منهم النّجاة بنفسه. وكان ممدوح باشا قد أرسل فرقة أخرى بقيادة محمّد آغا الجيرودي لنجدة الجيش الأوّل ولما وصلت تلك الفرقة إلى تلول الأشاعر القريبة من المكان وأشرفت على موقع ساحة القتال ورأى قائدها فلول الجيش السابق تتراكض غرباً والدروز خلفهم يقتلون الجنود الهاربين الذين يرفضون الاستسلام، فما كان منه إلّا أن لوى عنان فرسه الصّفراء اللون وانضمّ مع فرقته إلى الجيش المهزوم هارباً في الوقت الذي كان المقاتلون الدروز يلاحقونهم وهم يَحْدون مُغَنِّين هازئين به:

صَفْرة جيرودي غَرَّبَت قَوْطَرْ يَحثّ رْكابـها
يا مْحمّــــد خبّــر دولتك حنّا خذينا طوابهــــا

بينما تخلّف عنه جنديّان درزيّان انضمُّوا إلى الثوار، وكانت نتيجة المعركة وبالاً على العثمانيين فقد قُتِل عددٌ كبيرٌ من أفراد تلك الحملة وأُسِر في ذلك اليوم أعداد كثيرة من الجنود، وكان تعداد من وقع من بيد مفازيع من قرية أم الرمان وحدها 31 أسيراً منهم جندي عربي من ليبيا. وغنم الأهالي عدّة مدافع ومئات من البنادق وتجهيزات الحملة.

دور المرأة في معركة الخراب

يقول المحامي متروك صيموعة وهو ابن عرمان وحفيد أحد مجاهدي تلك المعركة أنه كان للمرأة دور حاسم في تلك المعركة، سواء أكانت أُمّاً أو أُختاً أو زوجة، وأشهرهنّ سعدى ملاعب (12). نعم لقد شاركت العديدات من النساء في تلك المعركة وتحملن مآسيها…
الشاب عجاج الجرمقاني الذي كان وحيداً لأمّه كان قد استشهد على ظهر فرسه في ساحة المعركة وقد قام رفاقه بدفنه في ميدانها، وبعد انتهائها عادوا بفرسه بعد أن علقوا سيفه والبارودة العثمانية التي كان قد غنمها في سرج فرسه وعندما وصلوا مدخل البلدة أبصروا أمّه ترقب عودة وحيدها بلهفة المستريب، فبادر فندي المتني منشداً هجينيته التي لم تزل تتردد في مناسبات مجتمع الجبل إلى يومنا هذا ومنها:

يا اْمّ الوحيد إبكي عليهْ الموت ما يرحم حَــدا
لا بدّْ ما تنـعي عليــــهْ إن كان اليوم ولّا غدا

فما كان من الأم الثكلى المفجوعة إلّا أن رددت الحداء على بكائها مع الحادين…

أمّا نمر عبد الله بَحَّة من قرية سالة فقد خسر أبناءه الشبان الثلاثة في تلك المعركة ودفن أحدهما في ميدانها، بينما حمل جثمانيّ الشهيدين الآخرين على ظهر جمل متوجّهاً إلى قريته عائداً مع الفازعين، وما أن رات الوالدة المشهد حتى أُغميَ عليها وماتت بعد أيام قليلة من هول الفاجعة…

يقول حنّا أبوراشد: «وقعت معركة هائلة دامت سبعة أيّام إلى أن انكسر الجيش العثماني شر انكسار وقُتِل منه ما يزيد على ألف جندي، أمّا الدروز فقد مُنُوا بخسارة عظيمة وفقدوا معظم أبطالهم ومنهم:عقاب البربور ومحمّد أبو خير ومحمود غزالي ومنصور الشوفي وجبر الحجلي وحمد الصّغير وحسين أبو خير ويوسف ياغي وعباس المتني وسليمان طربيه و146 فارساً غيرهم…» (13)

وإلى يومنا هذا لم يزل مكان يقع غرب عرمان يطلق عليه اسم «رقَّة المدفع» حيث كان العثمانيون قد نصبوا مدفعاً هناك من بين مدافعهم الستة لتدمير عرمان.

من أصداء المعركة
الشاعر شبلي الأطرش

يقول المؤرّخ محمّد كرد علي الذي كان متعاطفاً مع العثمانيين ضد الدروز حينها «أحدق الدروز بالقوات التركيّة من كل جانب وقتلوا نحو ألفي جندي بالفؤوس والسيوف في محل يدعى «العيون» قرب عرمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة». (14)

كتب متروك صيموعة: «انقشعت ساح المعركة عن نتائج مهولة حيث تكدست مئات الجثث في مساحة محدودة بعد أن أُبيدت الحملة إلّا بضع عشرات لاذوا بالفرار لتتعرض هذه الحملة للسحق والإبادة في أشرس المواجهات التي تعرّض لها الجيش العثماني وأكثرها فداحة ومأساوية وتناثرت جثث أكثر من ألف وتسعمائة جندي في ساحة المعركة لأشهر طويلة فجسّد الأدب الشعبي ذلك النصر لدرجة أن الضواري تداعت للولائم واحتفت هي أيضاً بالنصر وفي هذا يقول الشاعر شبلي الأطرش:

ضَبع الكويرس عازمه ضبع حبران وصار اللحم بعيون مثل التِّلالِ

ومن وحي الانتصار الباهر على هذه الحملة رغم عدم التكافؤ في العدة والعدد أن راق لأحد المؤرّخين اللبنانيين أن يشبه عرمان بـ إسبارطة في مقال نشره عام 1996 في مجلة الضحى اللبنانية بعنوان: «عرمان إسبارطة العرب».. (15)

وقد أرسل الشاعر عبدالله كمال وكان ممّن قاتل في المعركة قصيدة إلى شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز الذي كان العثمانيون قد نَفَوه إلى إزمير غرب الأناضول يخبره بالذي جرى فيقول:

تـــاخبّْــرك، عُــرمان والْلّي جرى فيه تْقَدَّم دَرَكْ عَبدو أفندي، نِداويـه
يـــومٍ طَـغى قـــام ربـّــك يــــجازيــــه هُوّ ورَبْعَهْ شربْ كأس الحِمامِ
نْهار الخرابْ شَيّبْ الاْطْفال المَراضيع مثل النّحل مِنّا ومنهم مجاضيع
وســعدى تـِـنْخي بـــالعيـــال المَفاريـع مَرْحُوم اَللّي مَسْكَنَهْ بالـــرِّجــامِ
حيــن الظُّــهر رَبّــك فــرجــها علينــا هُــمَّ قَــفُوا وحِنّــا وراهم حَدِينـا
مثـــل اللّيـــوث الكاســـرة حِنَّا غَدِيـنـا مثل الجرس تسمع رنين الحسامِ

ومن منفاه في إزمير أرسل شبلي الأطرش قصيدة طويلة منها:

جانا خَبَر من يَمْ صلخد وعُرْمــان نِعْمِيْن يا وجوه الذّياب المَشالِي
عَبدو أفندي شارب الخمر سكران جــــاهُمْ يهادر مثل فَحْلِ الجِمالِ
اْجُـوْه النَّشامى وبعد الصُّبح ما بــان هَـدّوا عَليه قصور شُمَّخْ عَوالي
ألفين من حُمْرِ الــطرابيش سُـــكمان بعيون ذِبحوا من القروم العيالِ
ضَبع الكويرس عازْمَهْ ضبع حُبْران وصـار اللّحْم بِعيونْ مثل التّلالِ
ومن عقبها صارت مَعاريـك واكْوان تْشَيِّب الطّفل الرّضيع الاهْوالِ
تَضعضعت حَـوران من كُلّ الأركان عافت لِحــاها والدَّبَش والحَلالِ
من فعل ربعي ينطحوا الضدّ بطعان صِلفين يوم الهُوش، يـوم القتالِ
ببْــلاد ســوريّــة بلا شـــكّ فُــرسان مــن غيرهم إيّاك تحسب رجالِ

بعد تلك المعركة «ذُهِلَ الناس في دمشق وتخوّفوا بكل جدّية من قدرة الدروز على مهاجمة المدينة … لكنَّ العثمانيين اعتبروا الواقعة ثورة مقاومة يجب قمعها… فاستقدموا قوات جديدة من سالونيك (في البلقان) ومن إزمير (غرب الأناضول) ومن طرابلس الغرب (ليبيا) ونُقلت من بيروت مباشرة إلى حوران (16) لخضد شوكة الدروز…

أمّا «ميثا» فقد أكملت حياتها سيّدة حرّة كريمة في حمى قومها بني معروف.


المراجع:
1- سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين، القْرَيّة (لبنان)، ص 462.
2- المصدر السابق، ص 463.
3- متروك صيموعة، عرمان أسبارطة العرب، ط1، السويداء،2011، ص 74.
4- متروك صيموعة، م س، ص 75.
5- سعيد الصغير، م س، 463.
6- سليم الجاري: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص وهو من أهالي عرمان؛ أفاد بأن البطل سليم الجاري هو ضابط في الجيش العثماني من أصل لبناني جده الأول سليمان بن شاهين نصر من مَجدلْبعنا ولُقِّب في لبنان بالجاري، وكان دليلاً للحملة العثمانية التي أرسلها ممدوح باشا لقهر عرمان فقام سرّاً بإرسال خبر مع بدوي يثق به لتحذير أهل عرمان من الهجوم العثماني الوشيك، وضلّل الحملة في الوعورالجبلية ريثما تأهب أهالي عرمان الذين استنصروا بالقرى المجاورة، ومن ثمّ انضمّ سليم الجاري أثناء القتال إلى قومه الدروز ولجأ بعدها إلى بيت الشيخ الهجري في قنوات مدة خمسة عشر يوماً ثم غادر خفية إلى اليونان دون أن تعلم به السلطات التركيّة وبعد تحرير البلاد من الأتراك عاد الجاري إلى لبنان وتوفي فيها عن ثمانين عاماً
7- متروك صيموعة، م.س، ص 76.
8- بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل الدروز، من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال، دار النهار، ط1، 2004، ص 152.
9- Documentary Editor Emad Al Halah (فيديو).
10- بريجيت شيبلر 152 انتفاضات جبل الدروز من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال. بيروت دار النهار 2004.
11- حسين ناصيف خويص، عرمان قصة الإنسان وقدسيّة الأرض والمكان، ص 98.
12- طحيمر الصّيقلي: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص أفاد بأن طحيمر الصيقلي هو من مسيحيي صلخد وأحد فرسانها وكانت هناك حال من الجفاء بين قريتي عرمان وصلخد ولكن عندما وصل رسول عرمان لطلب النجدة من رجال صلخد ركب طحيمر فرسه وأخذ يصول ويجول في الشوارع وينخي رجال صلخد الذين هبّوا سراعاً وهاجموا الحملة من عن ميمنتها من جهة قرية “عيون” ممّا ساهم بتعويق تقدم الحملة باتجاه عرمان. وبعد دحر الحملة كرّم أهالي صلخد طحيمر بوضع عمامة بيضاء على رأسه …
13- متروك صيموعة، م س، ص 82.
14- جبل الدروز، حوران الدامية، ط2، بيروت 1961، ص 108، 109.
15- محمّد كرد علي، خطط الشام، ج 3 ص 111.
16- متروك صيموعة، م س، ص 84.

فِكرةُ المَوت عندَ أبي العَــلاء المَعَرِّي

في المَوت والأسئلة المرتبطة به

صدقَ أبو العلاء المعرّي، عبقريُّ كلِّ الأزمنة، حين اعتبر وبجرأة نادرة، أنَّ ما من حقيقة عَصِيّة على الشك، أكثر من حقيقة الموت:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ ففي أيِّ البلاد يكون لحدي!

من يجرؤ غير المعري على القول أنّ كل ما لديه أو ما بلغه من حقائق يمكن الشكّ بها كلّها، خلا الموت (سوى أنِّي أموت بِغَير شكٍ). جرّ البيتان أعلاه عليه أكثر من اتّهام ممَّن كانوا يتربّصون به الدوائر، فيما هم كانوا قاصرين عن إدراك المعنى العميق الكامن في البيتين أعلاه. وسأعود إلى تحليل تَفرُّد هذين البيتين من الشعر بكلِّ المعايير في ثقافتنا، وربّما في الثقافات العالمية الأُخرى. لكنَّنا لِنمرَّ أوّلاً بفكرة الموت نفسها، وما تحتويه من أهمّية بل وأولوية.
أجَلْ، لا شيءَ مُشترك بقوَّة بين كائنات الكون كافة، كمثل الاشتراك في حقيقتَيِّ الولادة والموت.
وإذا كنّا في الكثير من الحالات – وبخاصّة في تلك البالغة الصِّغَر (الميكرو) أو البالغة الكِبَر (الماكرو) أو البعيدة جدّاً، far distant – لا نستطيع ملاحظة حالات الولادة، فإنَّ حالات الموت (أي الزّوال والاختفاء) هي بالمقابل ساطعة، من موت شجرة في الحديقة، إلى موت قريب، إلى موت حضارة، وصولاً إلى «موت» مَجَرّات بأكملها في الفضاء البعيد، تبعد عنا ألاف ملايين السنوات الضوئية، لا نكتشفها إلَّا لِلَحظات وقبل أن تتلاشى وتبتعد، أي «تموت» بمعنى ما.
ما الموت إذاً؟ في المعاجم الدقيقة الموت هو: «نهاية أي شكل من أشكال الحياة في الإنسان، أو الحيوان، أو النبات» إلَّا أنّه يمكن الحديث كذلك على «ما يشبه الموت»: موت صحيفة، موت إمبراطورية، موت آمالنا، موت قلب، موت حُب، وما يشبه ذلك على سبيل المثال.
وفق جورج أليوت، وغير بعيد عن فكرة أبي العلاء في بيتَيِّ الشعر أعلاه، «الموت قائم في كلّ جزء من الوجود»
باختصار، الموت هو المُتَغيّر الطارئ، بل القوَّة التي تنهي الحياة. قوّة مكروهة، غير مُسْتَحَبَّة؛ قوّة قادرة، أقوى منَّا، ولا سبيل لنا لردّها، تخطف منّا في لحظةٍ مَنْ أو ما نُحب من دون أن تكون لنا القدرة على منعها؛ قوّة مخيفة، أقوى من الوِلادة، بل أقوى من الحياة نفسها – لذلك سيقول المعرِّي في بيت من الشعر في قصيدته الخالدة:

إنَّ حُزناً في ساعة الموت أضعافُ سُرورٍ في ساعة الميلاد

في كلّ الأحوال، ودون استثناء: الموت أقوى مِنّا (لاحِظْ معي المعنى العميق والمُتداخل بين «الموت حقّ»، و «الله حق». ذلك صحيح على وجه الإطلاق، حتى حين يختار شخص أن ينتحر – أي يميت نفسه إراديّاً – فهو في الحقيقة إنَّما يخضع بطريقة مختلفة لسلطة الموت. خذ مثلاً حين تَجَرّع سقراط كأسَ الموت في مُعتقله، فهو إنَّما كان يمتثل لسلطة القانون، وإنْ يكُ غير عادل: اختار الموت، كأسَ السمّ، على أن يخالف القانون الذي طالما دعا إلى طاعته.
الموت الإرادي هو من دون شك أقوى أشكال الموت الصادمة، ولكن لعلّ قوته وصداه في هذه الحياة، كما بعدها: لذلك يستشهد الأبطال طائعين، ويستشهد القدّيسون والرّسل طائعين، وأعظم مثال على ذلك قبول يسوع الاستسلام لجلاّديه – وكان في وسعه كما قيل تفاديهم – والعبرة جليّة: التخلّص من الفكرة المادية التقليدية في أنَّ الموت هو نهاية الحياة. أراد يسوع أن يعطي درساً شخصيّاً، أنه بالإمكان قهر الموت بالموت. أي الخلاص عبر الموت. ولا أخرج عن الموضوع إذ قلت: إنَّ إقدام سقراط طائعاً على تجرّع كأس الموت (وكان يستطيع الهرب من السجن وتفاديه)، وإقدام يسوع على قبول الموت والصّلْب راضياً (وكان يستطيع تجنبّه)، إنّما كسراً نهائياً مع سُلطة الموت، بل ومع الديانات البدائية الطبيعيّة التي عبدت الموت (أو إله الموت تجنُّباً له): مثال سقراط، ويسوع، إضافة إلى مُعتقد الحياة بعد الموت، هي رمز لانتصار الحياة على الموت – أي كسر لحتميّة الموت المخيف المطلق والذي لا رادّ له.
إلّا أنَّ الموت يبقى أكثر من ذلك. رغم ألّا نقاش في حتمية الموت الذي سيعقب عاجلاً أو آجلاً كلَّ ولادة، في الإنسان والحيوان والنبات، إلّا أنّ البشر توقفوا دائماً وطويلاً عنده، فتأمَّلوا ما انطوى عليه من معانٍ كُبرى. خاف منه البعض، هَزِئَ به بعضٌ آخر، وتفكّر فيه قلَّة من المفكّرين (مثل المَعرّي قديماً وشوبنهاور حديثاً) والقدِّيسين (من أمثال القديسة تريزا)، وبعض المتصوِّفة الذين تمنَّوا الموت ليُسرعوا في التخلُّص من الجسد، الحجاب الكثيف الذي يعيق انطلاق الروح لتشاهد الله روحاً وعقلاً خالصاً، وربَّما لتتَّحد به عند بعض غُلاة المتصوِّفة.
وفي السياق هذا تحديداً يأتي الوعي العميق للطابع الإشكالي الذي قدّمته المسيحيّة المُبكِّرة حين جرى ربط الخطيئة بالموت، وفي سيرة يسوع الناصري القصيرة على وجه التحديد «الذي قهر الموت بالموت».

الطابع الإشكالي غير البسيط للموت يمكن متابعته قبل ذلك في الأشكال الثقافية المختلفة للبشر، وتحت غير عنوان: الحياة والموت، الدّين والموت، الحضارة والموت، الفن والموت، الحب والموت، العبقرية والموت، الانتحار والموت، الجنون والموت، التقمّص والموت، الموت والليل، الموت في الفلسفة، الموت في الأنثروبولوجيا، وغيرها من الأبواب والمباحث.
وعليه فالدرس الأوّلي والأكثر أهميَّة الذي نستخلصه من المقارنات تلك هو أنَّ الموت، وفي كلِّ الأحوال، هو جزء من الحياة وليس نقيضاً لها: فالحياة إنَّما تكون بالولادة والموت معاً. الموت، إذاً، مكوّن آخر من مكونات الوجود، أو عنصر من عناصره. وعليه فأنت تَجدُه حاضراً بقوّة في نتاجات البشر كافّة، وفي دياناتهم وممارساتهم الدينية على وجه الخصوص.

الموت في ديانات البشر، البسيطة ألأوّلية ثم التوحيدية اللّاحقة

لا تخلو ديانة قديمة من الديانات، أو دين حديث من الأديان، من اتِّكاء حاسم إلى فكرة الموت.
فكل ما بقي أو بلغنا من الثقافات الأولى البسيطة، أو ما سنُسَمِّيها على ما هو شائع ثقافات الجماعات «البدائية» يشير إلى أنّ البدائيين، جماعاتٍ وأفراداً، مَحَضُوا ظاهرة الموت أقصى درجات التوقير والاحترام، فتشكّل نسيج حياتهم المادي والرّوحي والاجتماعي حولها ومن خيوطها، بل لعلّها كانت حجر الزاوية في دياناتهم الأوّلية البسيطة. وليس في ذلك ما يدعو للاستغراب. فَحدَثُ الموت في جماعة صغيرة جدّاً (أكان في الخليّة الأصغر أو في الأوسع قليلاً) هو أمر صارخ لا تمرّ به الجماعة مرور الكرام. فأن يكون بينهم فردٌ شديد الالتصاق بالأفراد الآخرين في الجماعة ثم فجأة يزول، يختفي، يغدو غير موجود (أي يموت) ومن دون سبب واضح للبدائي ذاك، لأمرٌ صعب التصديق. لذلك يمرّ ردّ فعل الانسان (البدائي وغير البدائي) حيال موت أحد أفراد أسرته أو جماعته الصغيرة، بثلاث حالات متعاقبة:
1) الصدمة النفسية والجسدية، ثم: 2) الطّقوص التي تُظهرُ التوقير والاحترام، وأخيراً 3) التأمُّل في واقعة الموت نفسها وربما استخلاص أفكار إضافيّة منها وبسبب منها.
تظهر الصدمة رمزيّاً وجسديّاً في التَّفَجُّع الذي يصيب أفراد أسرة الميت، من عدم التصديق إلى الرغبة في التماهي معه حتى في الموت: وتفجّع عشتار أمام مشهد موت أدونيس ظل يُلهِم الفنّانين والشعراء طويلاً.
أمّا التوقير فهو فعلُ الاحترام الهادئ لِلمَيْت الذي يلي صدمة الموت. تستمرّ الطقوس المعبّرة عن توقير الأسرة والجماعة للفرد الميْت لأيّام وأحياناً لأسابيع، وفق تفاصيل وطقوس تتعمّد إظهار أقصى درجات المحبّة للفرد الميت (وفي وسعك أن تقول الخوف منه أيضاً) والاحترام لذكراه وكأنَّه لم يغِب أبداً، إلى درجة أنّ بعض القبائل في إفريقيا، وربما في أمكنة أخرى، وحتى اليوم، لا تقوم بدفن موتاهم إلّا بعد حين، أيّام، أسابيع، وربّما أكثر من ذلك.
وأخيراً، وبعد انقضاء الدّهشة والطقوس، ينشأ حال من التأمُّل في واقعة الموت التي حدثت، التفكير فيها وربَّما أستخلاص أفكار إضافية منها كما سنرى. أُقدّم حالات التأمُّل والتفكير التي تعقب حدث الموت والطقوس المرتبطة به ما نجدها في ملحمة «جلجامش» في بلاد ما بين النهرين (قبل نحو خمسة آلاف سنة) في الأفكار التي ضجّ بها جلجامش، ثم التبدّل الشديد الذي حدث في سلوكه بُعيد موت «أنكيدو»، منافسه أوّلاً ثم صديقه لاحقاً. جلجامش قبل موت صديقه هو غير جلجامش بعد موته كلِّياً.
قبل حَدثِ موت صديقه؛ كان جلجامش هو البرِّيّة المتوحشة في أقصى تعبير لها من غريزة وتخريب، ونهب، واعتداء، وفوضى وسواها. أمَّا بعد حدث موت صديقه «أنكيدو» فهو شخص مُندَهش، مصدوم، يمسك بصديقه الميت غير مُصدّقٍ موتَه، يريد إعادته إلى الحياة؛ وحين يُخْفق، ويتأكد من إخفاقه، يخرج إلى أقاصي الدنيا يفتّش عن «نبتة الحياة» المقاومة للموت؛ وحين لا يجدها في كلِّ الأمكنة، يصل إلى فكرة «ما يتجاوز الموت» فإذا هي في الفن، في عمارة سور ضخم، يقي المدينة شرّ الموت، أي يمنعه من أن يصل إلى من نُحِب. ورمزية «السور الضخم» واضحة وهي تؤسّس لكل الأشكال الثقافية التي تنتصر على الموت – الفن، الدين، الأفكار، والأعمال الحسنة أو الصالحة التي تجعل من صاحبها أقوى من النِّسيان والزوال، أي أقوى من الموت.
هذا السياق، في تعبيراته المختلفة والمتغيّرة، مشترَكٌ في ثقافات البدائيين كافَّة، بل إنَّه لَأمرٌ معبِّرٌ جدّاً أن تكون طقوس الموت عند البشر لا تزال منذ زمن البدائيين وإلى زمن قريب واحدة في جوهرها، رغم تباعُد الأمكنة والأزمنة والحضارات.
لا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إنَّ جزءاً كبيراً من ثقافة الجماعة البدائية الأولى البسيطة قد نشأ من رحم فكرة الموت أو اتّصل بها على نحو وثيق. فجثمان الميت وبخاصة إذا كان كبيرَ أسرته أو جماعته يُسَجّى لفترة ما بين أفراد الأسرة أو الجماعة وقبل أن يُوارى الثّرى – والمدفن الأوّل عند البدائيين كان داخل مكان سكن الأسرة أو الجماعة الصغيرة. ثم انتقل الدّفن ليصبح خارج المسكن، ولكن غير بعيد منه. وفي كلِّ ذلك تستمرُّ صور الميت حيَّة في أخيلة أفراد الجماعة، في نهاراتهم كما في أحلامهم. وكانت لذلك مَبعثاً إضافياً للخوف ومن ثمَّة للتوقير وإظهار الاحترام والتمسّك بذكرى الميت حتى درجة التماهي. ما جرى التعبير عنه في الديانات الإحيائية animism المنتشرة في الجماعات البدائية، إنَّما يعني بمعنى ما أنَّ الميت لم يمت وهو مستمرٌّ وباق بشكل من الأشكال، وهي تَظهر في الطقوس وفي استعادة أحزان لحظة الموت والتَّماهي معه وبخاصة في الالتصاق به إلى درجة الرّغبة في الموت معه – الأمر الذي بقي بقوة في بعض ألوان الديانات الهندوسية. ولا يخفى ما لذلك من اتّصال وثيق بسائر أشكال التنظيم الاجتماعي والروزنامة الاجتماعية للأسرة الصغيرة، كما للجماعة ككُل.
وديانات البدائيين غير منفصلة إطلاقاً عن قوة صدمة الموت في حياة هؤلاء. فبحسب ديورانت في موسوعته «قصّة الحضارة»، المجلّد الأول، الفصل الرابع:
«مُعظم الآلهة البشرية قد كانوا في ما يظهر عند البداية رجالاً من الموتى، ضُخّموا بفعل الخيال… فظهور المَوتى في الأحلام كان وحده كافياً للتّمكين من عبادتهم.» ويضيف:
«لذلك تجد الكلمة التي معناها «إله» عند كثير من الشعوب البدائية معناها في الحقيقة «رجل ميت»، وحتى اليوم ترى كلمة spirit في الانجليزية أو geist في الألمانية معناها رُوْح أو شبح، وكان اليونانيون يتبرّكون بموتاهم على نحو ما يتبرّك المسيحيون بالقديسين.» (ص 108 الترجمة العربية)

أكثر من ذلك، فإنَّ حياة ما بعد الموت في ثقافات وديانات كثيرة (في المصرية القديمة كأوضح مثال) هي أهم بكثير من الحياة الدنيا قبل الموت. بل إنَّ حياة ما بعد الموت هي التي تنظّم حياة ما قبل الموت: بحيث يتَّجه كل جزء منها نحو الحياة الثانية كيما يجعل رحلة ما بعد الموت للشخص سهلة وخالية من العذاب الشديد. وفي السياق نفسه تحديداً، نذكر أنَّ «كتاب الموتى» لدى المصريين القدامى هو جامع ثقافتهم المادية والروحية والفكرية والاجتماعية برمّتها، ولم يُنقَل عنهم أي كتاب مكتمل آخر خلا ذاك: «اقترب رهيباً أيها الموت»
هذه الملاحظات تنسحب على معظم الديانات الأولى للبشر، كما لو أنّها في جزء كبير منها «عبادة الأسلاف»، أي عبادة الموتى في الأسرة أو الجماعة. وعليه، يمكن القول: إنَّ الموت في الجماعات البدائية كان، كما يبدو، أكثر أهمية من الحياة.
وفي الديانات الهندوسية والشرق آسيوية عموماً، الموت ثم الولادة من جديد، أكثر من مرّة، شرط للخلاص من آثام الدنيا والالتحاق بـ «براهما» في نعيم أبَدي. الموت المؤقت أكثر من مرّة واحدة، يعني في أكثر من حياة واحدة، شرط إذاً لنيل الحياة الأبدية.
وحين جاءت بعد ذلك الديانات التوحيدية، استمرّت فكرة الموت فكرة مركزية في الإيمان الديني، وعلى قاعدة أنَّ حياة ما بعد الموت هي الأبقى، «المَقَر»، فيما الحياة الدنيا زائلة، مُجرّد «ممر». وآيُ ذلك نجده في اليهودية حيث تُسجّى جثة الميت، فلا تُترك وحيدة، بل من حولها عائلته ومحبُّوه. ولا يجوز الأكل أو الشرب إلّا بعد دفن الميت، رمزاً للاحترام والتوقير، وتستمرُّ الطقوس لسبعة أيام تتخلّلها صلاة (كاديش) حيث يجري الترحُّم على الميت أو طلب الرّحمة له.
أمّا في المسيحية فأهميّة الموت استثنائية، إذ هي تتصل بالخطيئة الأولى من جهة، وبواقعة صلب المسيح وقيامته بعد ذلك، من جهة ثانية. فموت يسوع انتصار على الخطيئة الأولى؛ كما أنّ موته على الصليب كان فداء لبني البشر، ودرساً في كيفية تحقيق خلاصهم. فكرة الموت هي في جوهر فكرة الخلاص في الإيمان المسيحي، هي تصنع التجلّي والخلاص. وعليه لا يتورّع بحّاثة كثيرون – ومنهم ديورانت نفسه في قصة الحضارة – عن القول إنَّ يسوع اختار الموت عامداً. ولا يخفى ما لواقعة الموت والصلب والتحمُّل الأسطوري للعذاب على الصليب، ثم القيامة من الموت بعد ثلاثة أيام، من أهميّة محورية في الإيمان المسيحي.
واحتلّت فكرة الموت في الإسلام مكاناً بالغ الوضوح بل والصدارة، في آيات القران الكريم، وفي أحاديث رسول الله، وأقوال الصحابة والوُعّاظ المسلمين منذ فجر البعثة النبوية وإلى يومنا هذا. وبحسب البحّاثة، فقد ذُكِر الموت في ثمانين موضعاً في القرآن الكريم. والآيات تلك تصدح بفكرة: إنّ الموت حقٌّ، لا فكاك منه، من مثل قوله تعالى في الآية الكريمة: «كلُّ نفسٍ ذائقةٌ الموت وإنّما توفَّون أجوركم يوم القيامة» (آل عمران، 185). وهو أيضاً معنى قوله حين تكمل الآية: «وما الحياة الدّنيا إلّا متاع الغَرور».
اللّافت في الآية الكريمة أعلاه ليس فقط إعلانها الموت مبدأً شاملاً، بل اعتبار الموت ممرّاً إلزاميّاً، كيما «توفَّون أجوركم يوم القيامة». الموت إذاً مبدأٌ مركزيٌّ في العقيدة الإسلامية، تُبنى عليه عقائدُ أُخرى مهمة من مثل يوم القيامة، وفكرة البعث، عالم الشهادة والغيب، وسواها ممَّا يجعل الموت مكوّناً حاضراً باستمرار، وإلى الدرجة التي تجعل ديوان أبي العتاهية، الزاهد الإسلامي في المئة الثانية، على سبيل المثال، كما لو كان كتاباً في الموت، لاستشعار الحقيقة خلف هذه الدنيا الفانية.
ومن الأمثلة الأُخرى القويّة ملاحظة أنَّ طقوس «يوم عاشوراء» عند المسلمين الشيعة تسترجع واقعة موت الحسين وأهل بيته، خطوة خطوة في أدق التفاصيل، فتغذّي من جديد الإيمان الديني وتشحنه بما يحتاجه من عاطفة جيّاشة ودموع وإظهار للندم وعقاب اختياري وعنف مادِّي بحق الجسد والرّوح.
هذه الملاحظات الواقعية هي عيِّنة فقط، لكنّها كافية كما أعتقد، لإظهار أهميّة الموت في ثقافات البشر كافّة، في تفكيرهم كما في طقوسهم الحياتية اليومية على حدٍّ سواء. وعليه فأهميّة ما فعله المعرّي لا تكمن في اكتشافه أهميّة الموت، بل في ذهابه بالفكرة إلى أقصى ما تحتمل، واستخراج ما تحتويه من أفكار فرعية، ثم جعلها القاعدة لأفكار وعقائد أخرى.

مركزيَّة فكرة الموت في فلسفة أبي العلاء المعرّي
طه حسين

أمرُ الموت مع أبي العلاء المعرّي (363هـ \ 449هـ. 973م – \ 1057 م)، في فلسفته، وقبل ذلك في حياته، مختلف، وأشدّ إبهاراً وغِنًى – على عادة فيلسوف المعرّة وجرأته في غير مجال وفكرة.
قبل ذلك، نقول إنّ المعرّي في أدبه بحرُ مَعانٍ عجيب، وفي فلسفته «حداثوي» في غير شأن وتفصيل، غير تقليدي أو اتّباعي، على عادة معظم المفكّرين الذين سبقوه أو جاؤوا بعده. هو يشبه، في فكرة الموت كما في أفكار أخرى كثيرة، نيتشه وشوبنهور والوجوديين عموماً: أي يعيش فِكرته. هو لا يتحدث عنها، بل هي تتحدّث عنه.
المعرّي، عبقريُّ كلّ الأزمنة وفق توصيف العالم العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، ولا شبيه له، وفق شهادة طه حسين، عميد الأدب العربي في زمنه، الباحث الأكاديمي، والعميد في الجامعة، ووزير التربية في مصر لفترة ما، يقول:
«قد كتبت عن أبي العلاء ما أَذِن الله لي أن أكتب، وأظنّ أنِّي قد عرَّفته بعضَ التعريف إلى هذا الجيل الحديث. ولكني لم أؤدِّ إليه من ذلك إلَّا بعض حقِّه، وما زالت له على حقوق كثيرة أرجو أن يعينني الله على تأدية بعضها؛ فقد عرّفت أبا العلاء إلى خاصة الناس، وأحبُّ أن أُعرِّفَه إلى عامَّتهم، وأن أعرّفه إلى عامتهم بالترجمة الصحيحة عنه، والتفسير الدقيق لشعره. فلو نُشِرت اللزوميات في عامّة المثقفين لما فهمها أكثرهم، لأنَّ أبا العلاء لم ينظم اللزوميات لعامّة المثقفين. بل لست أدري! لعلَّه أن يكون قد نظمها لنفسه، وللَّذين يرقَوْن إلى طبقته من أصحاب العلم الكثير والبصيرة النافذة» ويختم طه حسين مقدَّمته:
«أنا أجد صوت أبي العلاء الأعذب في النفس وأحَبَّ إلى القلب من كلِّ صوت ومن كلِّ صدى»
طه حسين، صوت أبي العلاء، 6-7

تحتلُّ فكرة الموت موقعاً حاسماً في فكر المعرّي، بل وركناً أساسيّاً من فلسفته، إذا ما أمكن صياغة أفكاره في نسق فلسفي. وهدفنا، باختصار، إظهار أولويّة الفكرة في تراث المعرّي الأدبي والفلسفي. فمراجعة ما تركه من تراث شعري أو نثري تُظهر أنّه كان مهجوساً بفكرة الموت؛ بل هي تقدمت عنده على ما عداها. والأولوية تلك وجبَ أن تكون، برأيه، حقيقة ساطعة ثابتة، بل الحقيقة الثابتة التي لا يخالجها الشكّ:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يومٍ فما ألفيتُ إلاّ حـرفُ جَحْـدِ
سوى أنِّي أموتُ بغيرِ شكٍّ ففي أيِّ البلاد يكون لحدي!

هذه النتيجة الخطيرة، تعيد طرح السؤال المتكرّر الذي طرحه منتقدو المعرّي المعاصرون له، كما الذين جاؤوا من بعده، ويتعلق بحقيقة إيمان المعرّي الديني.
نصُّ المعرِّي بالتأكيد حمّال أوجه، ولا يصح في الكثير من الأحيان أخذه على ظاهره:

وليس على الحقيقة كلُّ قولي ولكن فيه أصنافُ المَجازِ

في ظاهر الأمر يحقُّ لقارئ المعرِّي أن يرى في أكثر من مجال، وموضوع، تناقضات في المواقف – رغم أنّ الأمر ليس بهذه البساطة – إلَّا أنَّ الثابت في مواقفه استخدامه الكثيف لفكرة الموت ليؤسّسَ عليها نقده، وموقفه الأخلاقي كما الفكريّ عموماً.
فما حقيقة معتقدات المعرِّي الفكريّة، وربما غير الفكرية أيضاً، انطلاقاً من فكرة الموت؟
هذا ما سنحاول تبيانه.
أعظمُ ما قاله المعري في الموت لعلّنا نجده في قصيدته «غير مجدٍ في مِلَّتي واعتقادي».
في القصيدة ألم الشاعر، ووصف المُصَوِّر، ولكن فيها وهذا هو الأكثر أهميّة: تأمُّل الحكيم النظر في الموت وما يستخلصه من معانٍ وعِبَر. إليكم بعض أبيات القصيدة وجُلُّها في معنى الموت:

غيــرُ مُجْدٍ فـي مِـلَّتي واعتــقادي نَــوحُ بــــاكٍ ولا تَـــرنُّـمُ شــادِ
وشـبيــهٌ صـــوْتُ النَّـــعيِّ إذا قيـ ـسَ بصوت البشير في كلِّ نادِ
أبَكَـــتْ تِـلْكُمُ الحمـــامــةُ أم غنّــ ـتْ علـى فَـرْعِ غُصنها الميّــادِ
صـــاحِ! هذي قبورُنا تملأ الرّحْـ ـبَ فأيْــن القبورُ مـن عهد عادِ؟
خـفّفِ الـــوَطءَ ما أظنُّ أديـــم الـ أرضِ إلّا مـن هــــذه الأجســادِ
وقبــيـــحٌ بنـــا وإن قَــدُمَ الــعهـــ ـدُ، هَـــوانُ الآبـــاءِ والأجـــدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعْتَ في الهواء رُوَيداً لا اختيالاً على رُفـات العبـــــادِ
رُبَّ لـحْــــدٍ قد صارّ لحداً مراراً ضـــاحكٍ مِـــن تزاحُمِ الأضدادِ
ودَفيـــنٍ عـلــى بـقايــا دفيــــــنِ في طويلِ الأزمــــــان والآبــادِ
ضجعةُ الموتِ رَقدةٌ يستريح الـ ـجسمُ فيها، والعَــيشُ مثلُ السُّهادِ
واللّـبيـبُ اللّـبيـب مَــن ليْـــــسَ يغتـــرُّ بكَوْنٍ مـصيــرُهُ للـفســــادِ

هذه أبيات اخترناها من قصيدة طويلة للمعرّي تقع في أربعةٍ وستّين بيتاً، قيلت أصلاً في رِثاء صديق له. لا تقوم أهميتها في مناسبتها، أو في ما يقال من تشاؤم المعرّي، فتلك أمور معروفة، وإنّما في المعاني الجديدة كلِّيّاً التي حمّل بها أبيات قصيدته، وسَنُظهر منها ما اتَّصل بموضوعنا فحسب.
المؤسف حقّاً أنّ قُرَّاء الأدب العربي، بل أساتذته، لم يرَوْا في القصيدة تلك إلّا تعبيراً عن تشاؤم المعري، وذمِّه الدنيا، وغلَبة الحزن على السرور فيها، وتحسّره على الشباب الذي مضى، وما إلى ذلك من معان سطحيّة ممجوجة ومكرورة.
أمّا عميدُ الأدب العربي، المفكّر المتعمّق طه حسين، فكان له رأي في معاني القصيدة جديرة بأن نُضيء عليه، يقول: «نعتقد أنَّ العرب لم ينْظُموا في جاهليتهم وإسلامهم، ولا في بداوتهم وحضارتهم، قصيدة تبلغُ مبلغ هذه القصيدة في حُسن الرّثاء. نتّهمُ ذوقنا ونتّهم أنفسنا بالتعصّب لأبي العلاء إشفاقاً على الآداب العربية ألّا يكونُ فيها من الرِّثاء الجيّد ما يعدلُ هذه القصيدة، ولكنّا نضطرُّ بعد الدرس وإجادة البحث إلى تبرِئة أنفسنا من هذه التهمة.»
لم يكن المعري أوّل من تحدث عن الموت، لكنّ المعري قدّم في الشعر العربي لأوّل مرّة لا أفكاراً فقط، بل وصفاً ثقافيّاً للموت: في صور سوداء، وموسيقى جنائزية، وبقايا أجساد، وقبور ضاحكة بل هازئة. وبالوصف الأثنولوجي الثقافي نفسه، نقرأ للمعري في قصيدة أخرى مشابهة:

يا روحُ، شخصي مَنزلٌ أُوطِنتِه ورَحلتِ عنـه فهل أسِفتِ وقــد هُــدِم
عِيْدَ المريضُ وعاوَنته خـــوادمٌ ثم انتــقلتِ فـمـــا أُعيــنَ ولا خُــدم
حملوه بعد مجـــــادلٍ وأســـــرّةٍ حمْــلَ الغـريبِ فَحَـطّ في بيـتٍ رَدِم
لــــو كان ينطِـــق مَيّتٌ لســألتُهُ مــــاذا أحسّ ومــــا رأى لمّـــا قَدِم؟

سلسلة من الأسئلة تتركّز كلُّها في الموت، الحقيقة الأبديّة السرمديّة، وبدأ بها كوصّاف إثنولوجي ماهر، ليبني منها موقفاً من الحياة والدِّين والله والوجود.
أحال المعرِّي الموت من مجرّد فكرة مكروهة لا نرغب السماع بها، إلى إشكاليّة، أي إلى سبب يدفع لتساؤلات توصل إلى فلسفة كاملة محورها قناعته في ألّا حقيقة ثابتة في الكون، بعد البحث والتدقيق، غير حقيقة الموت:

سألتُ عن الحقائق كلَّ يوم فمـــا ألفيتُ إلّا حرفَ جحدِ
سوى أنّي أموت بغير شَكٍ ففي أيّ البلاد يكون لحدي

إذا أسسنا على هذه الفكرة، التي لا شك فيها، يتغيّر كلّ موقف آخر لنا، وكلّ مفهوم آخر عندنا، وأهمُّها إطلاقاً: إذ يتساوى ترنّم الشادي ونوح الباكي. ويصبح أوّلُها شبيهاً بآخرها:

ومهما كان من دنياك أمرٌ فما تُخليك عن قمَــــرٍ وشمسِ
وآخرها بــأّولــها شـــبيهٌ وتصبــحُ في عجائبـها وتُمسي

يمكن من الأبيات أعلاه استخلاص نتيجة كبرى وهي أنّ الموت للبشر- لو أمعنوا النظر – هو الجوهري والأساس في وجودهم، والباقي تفاصيل تقصُر أو تطول، وتأخذ مؤقتاً هذا اللون أو ذاك.

أتدري النجوم بما عندنــــا فتشكو من الأيـــن أسفارُها
وهل قــــام من لحده ميّتٌ يعيب على النفس أخــفارها
كأنّ حيــــــاة الفتى ليـــلةٌ يُرَجّي أخو اللُّب إســــفارَها

من الأبيات أعلاه، ومن غيرها، في اللّزوميات على وجه الخصوص، يمكن للقارئ الردّ على منتقدي المعري والمتشككين في حقيقة إيمانه الديني. لا حاجة للقول: إنّ المعرّي يقول في عشرات الأمكنة، وبوضوح، إنّه لا يشارك الدهرييّن تشكيكهم في وجود خالق لهذا الكون، وأنّ الله هو مبدع الكائنات. أمّا لماذا كان شكّه الذي رأيناه عنيفاً، متشدّداً؛ فالجواب إنه غير اعتيادي لا أكثر. إذ السائد في الموضوعات الماورائية في ثقافة مجتمع المعرّي هو التسليم من غير برهان، أو نظر، أو إعمال للعقل. هو مجتمع النّقل لا العقل. هُوَ ذا ما كان يواجهه المعرّي، بل يتحدّى صحّته وصوابيّته. فهو سيصل إلى الإيمان صريحاً، كما نرى في عشرات مقطوعاته الشعرية، كما في أعماله الأُخرى، إلّا أنه يريد لإيمانه أن ينبني على أسس لا يطالها الشك. وقد انتهج ديكارت (1596-1650) المنهج نفسه، المنهج الشكِّي، طريقاً لبناء إيمان قائم على البرهان لا على التقليد، أي على العقل لا على النقل. وقد قارب الغزالي نفسه المنهج ذاك، لكنّه لم يصل به إلى غايته.
أمّا الباحث عن إيمان المعرّي الراسخ بالخالق، وخلقه، فسيجد عشرات الأدلّة، وهاكم القليل منها لا أكثر:

الله لا ريب فيه وهو مُحْتَجِبٌ بادٍ وكلٌّ إلى طَبعٍ له جُذِبا

ثم يضيف في مزيد من العبقرية والتفرّد – الذي لا يشترك فيه معه إلّا القليل عبر الدهور:

سألتموني فأعيتني إجابتُكم من ادّعى أنّه دارٍ فقد كذبا

يحتاج البيتان أعلاه إلى أطروحة دكتوراه كاملة لشرح المعاني العميقة المتضمَّنة، وربّما لا مثيل لها إلَّا عند القِلّة القِلّة من الفلاسفة. ومُحِلّلُ البيتين أعلاه سيحفِر عميقاً وسيجد ما يدهش من الأفكار، وضيق المساحة المُتاحة لهذه المقالة تمنعني من الاستفاضة في الموضوع.
لكني أضيفُ بَيْتَي شعر آخرَين من اللّزوميّات يصدح المعرّي فيهما بجهله – وأيّ جهل؟؟؟؟. يقول:

أقررت بالجهل وادّعى فَهمي قومٌ فأمري وأمرُهم عَجَبُ
والحقُّ إنــي وإنَّهُمُ هَــــــــدرٌ لســتُ نَجيباً ولا هُــم نُجُبُ

تلك مجرّد خلاصات بسيطة قاد إليها عمق نظر المعرّي في فكرة الموت، وإعلانه مركزية فكرة الموت في حياة البشر، وإلى حد اعتبارها المدخل باتّجاه اكتشاف الأفكار والعقائد الدينية والأخلاقية الأخرى، وربما البيان الحِسّي الملموس على صِدقها أيضاً – إذا كانت بحاجة لبيان حسّي؛ وتهكُّمه من الذين يدّعون المعرفة التّامة – وهم ليسوا على ذلك في شيء.
تفرّد المعري في الاستخدام الواسع لفكرة الموت في الوصول إلى الحقيقة، ثمّ في الشك الذي يكنس الجهل بعيداً، ويبني معرفة الله على حقائق لا يطالها الشك، تفرُّدٌ يُحسبُ له، لا عليه، وهو بعض ما بنى سمعة المعري كناقد مُتَشدّد صارم، من دون أن ينال ذلك من إيمانه بخالق للكون على ما أظهر طه حسين في كتابه «صوت أبي العلاء»، (القاهرة، حزيران، 1944)..

المُوَحِّدون الدّروز في مُخْتَبر الأنثروبولوجيا الألمانية

في العام 1892، بدأ ماكس فون أوبنهايم الذي حمل ألقاباً عدة منها – المستشرق والمؤرخ والآركيولوجي والأنثروبولوجي – رحلته نحو الشرق، حيث مكث لفترة وجيزة في القاهرة، ثم غادرها إلى الصحراء السورية التي وصلها في العام 1894. وهناك استطاع نسج علاقات جيدة مع القبائل البدوية(1). وفي العام 1895 دوَّن أوبنهايم تفاصيل رحلاته في الصحراء في مذكرات مصوّرة تحت عنوان «من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي»، بالألمانية «Vom Mittelmeerzum Persischen Golf». هذا الكتاب هو دراسة أنثروبولوجية ميدانية بحثية عن الأقليّات الدينية والمذهبية في العراق والشام، وكذلك عن القبائل والعشائر في هذه المنطقة. نُشِر باللّغة الألمانية بين عامي 1899 /1900 بجزءين وحقّق شُهرة واسعة، وبسبب أهميته الفائقة، قامت الحكومة البريطانية بترجمته إلى اللغة الإنجليزية وتوزيعه على ضباط الاستخبارات البريطانية(2). في أحد فصول هذا الكتاب، دراسة بحثية عن إحدى طوائف الجنوب السوري، طائفة المسلمين الموحّدين الدّروز.

أصل الدّروز وجغرافيّتهم البشريّة
ماكس فون أوبنهايم

استهلّ ماكس فون أوبنهايم دراسته عن طائفة الموحدين الدروز أو «سادة الأسرار» بشيء من غموض يلفُّ نشأتهم، فالصليبيون لم يذكروهم في كتاباتهم على الإطلاق(3)، مع العلم بأن أتباع هذا المذهب تحت زعامة آل تنوخ خاضوا سلسلة معارك ضخمة ضد الدويلات الصليبيّة ولا سيّما في بيروت، ومع ذلك بقيت المصادر تشير إليهم بـ»حلفاء» الدول السنّية المتعاقبة من الباطنيّة(4).
ذكر أوبنهايم بأنّ أصل الموحدين الدروز يعود إلى الجماعات الإسلامية العربية التي هاجرت في القرن الهجري الثاني إلى جانب جماعات تركية وكردية إلى لبنان، الذي كان آنذاك مسيحيًّا أراميًّا، وهؤلاء جميعًا امتصّهم العنصر العربي، أي صَهر جميع الجماعات المهاجرة في بوتقة عربية ثقافية واحدة. ومع أنه أكّد اختلاف التكوين الجسدي بسبب تأثير الجغرافيا على الدروز بسبب سكنهم في المناطق الجبلية الوعرة، إلّا أنّه دحض فكرة اختلاف «شكل» الدروز عن المسلمين والمسيحيين، التي نطق بها أصحاب هذا الرأي فقد أعطى وصفًا مختلفًا يبدو دقيقًا بعض الشيء لسكان المناطق الجبلية من الدروز عن باقي سكان المناطق المجاورة، فقد قال أوبنهايم:
«بسبب نظرتهم الحربيّة المعاندة [..] وبنيتهم الجسدية القوية، يبدون مختلفين عن سكان البادية السورية، أو عرب السهول، ومع ذلك [..] إن تقاليد الدروز حسبما تأكّدت بنفسي تناقض هذا الرأي، إذا ما علمنا أنّ هؤلاء المهاجرين انعزلوا في الجبال مئات ومئات السنين، حيثُ شكّلوا كُلًّا مغلقًا، فإنّنا نفهم سبب اختلاف شكلهم وتميزهم عن غيرهم»(5).
فقد كان طيب المكان ونقاوة الهواء الجبلي وخصب الأرض عوامل مهمّة في تكوين طبيعتهم البيولوجية، فتجد أجسامهم على جانب عظيم من الصحّة والقوة(6).
من هنا يستطيع القارئ أن يلاحظ بحسب أوبنهايم بأنّ الدروز هم عربٌ اقحاحٌ، ولا صحّة للمرويّات التاريخية الأُخرى عن أصلهم ونشأتهم.

تقاليد اجتماعيّة صارمة واقتصاد زراعي

وقد أوغل أوبنهايم في الإضاءة على العادات الاجتماعية والممارسات اليومية التي تحكم الدروز فيما بينهم وبين باقي المجتمعات التي تختلف عنهم، فهم مُلزمون بتعلّم القراءة والكتابة، وعندهم قابلية غير قليلة للتعليم(7)، والإخلاص لإخوانهم فريضة والتقيد بها أمرٌ صارم، والابتعاد عن ارتكاب أعمال مشينة مثل السّرقة، والدعوة إلى قلة الكلام، والبساطة في المظهر، والاقتصاد في الإنفاق، وهذه تُعتبر جميعُها من الفضائل، ويؤكد أوبنهايم على أنّ جميع من يعرفهم، حتى أعداءهم لا يُسقط عنهم صفة الشجاعة في ساحات الوغى والمروءة، فهم لا يعتدون أبدًا على نساء خصومهم(8) فالدروز شديدو التمسك بالناموس الأدبي، لا يسطون على أعراض غيرهم وعندهم احترام للحريم(9). ومن مظاهر المعاملات الاقتصادية الاهتمام بالزراعة، وحرث الأرض والحصول على قُوْتِهم اليومي منها، في ظروف صعبة جدًا. فالزراعة مورد رزقهم الأساسي، وعائدات الزرع تُعتبَر عائدات «نظيفة»، فهم يأكلون ما في الأرض «طيّبًا» و«حلالاً».
وممّا يُوصف به الدروز مَزيّة الكرم والاحتفاء بالضيف، وحيث كان الدروز أصلهم من العرب كانت هذه العادة فيهم، كعادة حب الثأر واقتفاء الأوتار(10).

السلوك الاجتماعي عشائري، والنظام السياسي إقطاعي

على مرِّ التاريخ لازمت طائفة الموحدين الدروز صفاتٌ عدَّة، منها التمسُّك بالحياة الزراعية، والشدة في القتال، الشجاعة والبسالة، ولكن الشك ساورهم دائمًا، فهم قلقون على أمنهم الذاتي، ولهذا السبب اختاروا العيش في جيوب جبلية وعرة يصعب الوصول إليها، يمكن الدفاع عنها بسهولة، تستنزف قوة المهاجمين، ولهذا عمومًا، اختاروا دائمًا دعم القيادات المحلّية حتى الموت أيًّا كان ذلك، كذلك هم مأمورون دينًا بالجهاد وإطاعة الحكام؛ عملاً بقوله تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، ولأجل ذلك كان لهم في المجاهدات قدم الصدق، وبالإجمال فإنّ منهاجهم يحظر عليهم الخروج على الحكام والعداوة مع بقية الطوائف(11) ،استنادًا إلى هذا التحليل من المؤرخين الذين قاموا بدراسة الواقع السياسي وطبيعة النظام العشائري السائد لدى الدروز، يمكن الاستنتاج بأنَّ الدروز طوّروا نظامًا إقطاعيًّا معقّدًا خاصًّا بهم.
يُعرف عن النظام الإقطاعي الأوروبي أنّه كان يتألّف من العناصر التالية (1) السيد الإقطاعي أو مالك الأراضي (2)القلعة أو القصر (3) الفلاحون والأرض، عندها تبدأ لعبة صراع العروش وتثبيت النفوذ بين الأُسر الإقطاعية، فَرُقعة الأراضي تحدّد اتساع نفوذ السيد الإقطاعي، وغناه ونفوذه يحدّدان مدى قوّته وتميُّزه عن باقي الأسر الإقطاعية الأخرى، أضف إليها الضرائب والهدايا التي كانت تُرسل إلى أصحاب الشأن ووكلاء السلطنة العثمانية – إذا جاز التعبير- لشراء الرّضى والصداقة، وترتبط هذه الظاهرة ارتباطًا وثيقًا بالسياسة والسلطة، لأنها تُعتبر مجال نزاع بين زعماء الأسر، فعلى الزعيم أن يُظهر كرمه وسخاءه عبر إغداق الهدايا وأشياء ثمينة أخرى، هذه التركيبة فرضت نفسها أيضًا في النظام الإقطاعي اللبناني والدرزي بحيث فسّرها أوبنهايم تفسيرًا انثروبولوجيًّا دقيقًا:
«حتى أواخر هذا القرن التاسع عشر كان النظام الإقطاعي ما زال سائدًا عند الدروز كما كان في أوروبا العصور الوسطى، بحيث كانت السلطة في لبنان بيد حاكم ينتمي إلى أسرة عريقة، ويعَيَّن مقابل التزامه بدفع الضريبة، وهذا الحاكم يشبه الدّوق الكبير في أوروبا، يوجد تحت سلطته أمراء أصغر وزعماء عائلات محترمة يمارسون السلطة دون اتّخاذ لقب أمير»(12).
ويتابع «كان يتبع الأمراء، المشايخ، وهؤلاء يتبعهم عائلات فقيرة، تمتهن الزراعة، يجبون الأمراء الضرائب من أتباعهم المشايخ الذين بدورهم يجبون المحاصيل من العائلات الفلاحية، وكان الأمراء – يوزّعون- الألقاب على المشايخ تباعًا»(13).
كما لاحظ أوبنهايم التّرف في حياة العائلات الإقطاعية الدرزية والأمراء وأتباعهم، حيث روى بأن قصورهم تشبه قصور العائلات الإقطاعية الألمانية على تلال ضفاف نهر الراين وبجانبها القرى الصغيرة المتناثرة والأراضي التي تتمّ فيها عمليّة الإنتاج، فالدروز أهل حراثة وزرع(14)، وهذا يشبه إلى حدٍ كبير قصر آل أبي اللّمع في راس المتن، والسراي الأرسلانية لآل أرسلان في الشويفات الغرب، وقصر المختارة في الشوف مقر آل جنبلاط في جبل لبنان، ومقرات آل الأطرش في القريّا وعِرَى الأكثر نفوذًا في جبل العرب.
كما أنّ زيارات المشايخ لأمرائهم كانت معهودة بين الأسر كما يقول أوبنهايم إلّا أنها دليلٌ صارخٌ أيضًا ويؤكد سلطة المقاطعجية على باقي عامة الناس، فتبادُل الهدايا لا سيّما الخيول والسلاح والمجوهرات وحسن الضيافة، والكرم والسّخاء، هي إشارة قوية إلى العادات الاجتماعية المتينة، ولكن في التفسير السياسي لها دلالة على حسن سير الأمور بانتظام بين الأمير والشيخ. فأي خلل أو تسويف في دفع الضرائب وتقديم الهدايا قد يعرِّض الشيخ أو الوكيل إلى استبداله بوكيلٍ آخر.

الأزياء الدّرزيّة

تعبّر الأزياء عن الهوية الثقافية، هذا ما أوضحه أوبنهايم عندما وصف أزياء رجال الدين الدروز وعامة الناس من ذكور وإناث، زِيّ رجال الدين – يتألّف من قميص وسروال واسع ما نعنيه بالعامية – الشروال-، وفوق القميص عباءة قصيرة ذات كم قصير مخطّطة بالأبيض والأحمر أو الأبيض والأسود، وفي الوسط زنّار أبيض من الصّوف أو من الجلد، أمّا غطاء الرأس فيتألّف من العمامة البيضاء خالية من التجاعيد(15) ، أمّا الشباب العاديون فيعتمرون الكوفية ويضعون فوق الكوفيّة «العِقال» المصنوع من شعر الجمل.
زِيّ النساء – يُمكن للمرأة أن تختار ارتداء المنديل، وهو حجاب أبيض فضفاض، تغطّي به وجهها باستثناء عيونها خاصةً في وجود أشخاص آخرين. وتضع النساء المناديل على رؤوسهن لتغطيتها ويتمّ لفُّها حول أفواههن ويلبسن القمصان السوداء، والتنانير الطويلة التي تغطي أرجلهن إلى الكاحل(16).
الدّروز يشعرون بالضّجر حين لا يخوضون حربًا:
يدخل المستشرق الألماني في سرديّة التاريخ السياسي للموحدين الدروز، بدءًا من الحروب الصليبية، ثم إنّ وجودهم في المنطقة التي سُمّيت «الشوف» له أبعاد حربيّة:
«ثمَّ هاجر الأمير معن عام 1119 مع قومه من حلب إلى الجهة الغربيّة من لبنان، واستقرّ بطلب من طغتكين حاكم دمشق السلجوقي، الذي طلب منه مساعدة الدروز الذين ناصروا قضية الإسلام ضد الصليبيين، وسميت المنطقة التي استقر فيها بـ «شوف» أي الترقّب والمراقبة، وهي سِمَة الحراسة والمراقبة والدفاع، وبالفعل فإنّ المرء يستطيع مسح المنطقة برؤية كامل الأفق والشريط الساحلي(17)» يروي أوبنهايم.
ثم يشرح بإسهاب كيف بعد هزيمة الصليبيين، وضعف سلطة آل تنوخ، لمع نجم «آل معن» وكيف استطاعوا بفضل حِنكتهم العسكرية والحربية من تزعُّم الدروز والحصول على مكانة مرموقة بينهم، ثم ينتقل بالحديث إلى فخر الدين الأوّل ثمّ من بعده إبنه قرقماز والد فخر الدين الثاني، مبيّنًا كيف تنبّه الأوروبيون عبر التوسكانيين الإيطاليين إلى وجود طائفة وجماعة دينيّة تسمَّى الدروز في عهد الأمير فخر الدين الثاني ابن معن، ثم صعود وسقوط فخر الدين الثاني وكيف كافح خلفاؤه من بعده للحفاظ على الإمارة إلّا أنَّها انتقلت إلى آل شهاب في نهاية المطاف والحديث عن الانشقاق اليمني والقيسي زمن حكم الأمير حيدر الشهابي، وكيف أنهت معركة عين دارة عام 1711 وجود اليمنيين سياسيًا في الشوف وتهجيرهم إلى حوران حيث تزعمهم «آل حمدان»، وقد أوضح أوبنهايم، أنّ الانشقاق ما لبث أن عاد من جديد ولكن هذه المرّة بمسمّيات مختلفة، أَلا وهي الغرضيّة اليزبكية (أسماها اليزبكجية) والغرضية الجنبلاطية كانقسام سياسي بحت كما تطرَّق أيضًا إلى انقسامات أخرى مثل شقراوي- صمدي (آل أبو شقرا و عبد الصّمد) التي هي انقسامات عائلية بحتة، وكيف قويت شوكة آل جنبلاط عندما ورثوا أملاك الشيخ قبلان القاضي وقاموا ببناء قصر ما زال موجودًا حتى اليوم في قرية (بزران)، يقصد بعذران. يعتقد البعض أنَّ الغموض يكتنف مصدر الانقسام الجنبلاطي اليزبكي، إلَّا أنّ المصادر تلقي الضوء واضحا على هذا الأمر، فالشيخ علي جنبلاط كان على علاقة طيّبة مع عائلة أبي شقرا واعتُبِر شقراويًا، وبما أنه كان أبرز الأعضاء في الحزب «الشقراوي»، اكتسب الحزب اسمه تدريجيًا، وعليه فقد حلّت الجنبلاطية محل الشّقراوية(18)، كما نشأ الحزب اليزبكي من اتّحاد ثلاث عائلات صمَدية(19).
وخصّص فصلاً عن بشير الشهابي الثاني واتّهمه بخيانة بلاده وغدره بالدروز، وتزلّفه للباشا الجزار، وصراعه مع بشير جنبلاط والأسر المقاطعجية وحلفه مع والي مصر محمّد علي وابنه ابراهيم باشا، وينهي أوبنهايم عهد بشير شهاب بقوله بأنّه أي ـ بشير ـ يتحمل التناقض الذي حصل بين الدروز والموارنة، وكانت له عواقب وخيمة في المستقبل(20).
في تحليله للأحداث العسكرية وأداء الدروز الحربي، يصل الاستنتاج بالقارئ إلى أنه ومنذ وصول المصريين إلى جبال لبنان وحتى فتنة 1860 خاض الدروز العديد من المواجهات العسكرية والانتفاضات وقد اعتاد سكان المناطق الدرزية على دفن ضحايا المواجهات حتى أصبحت الحرب «صُنعة» اعتاد عليها الدروز، ويمتهنونها مثلها مثل أيّ صنعة أخرى، لدرجة وكأنهم «يشعرون بالضّجر عندما لا يخوضونها»، وكأنّ قدرهم وموقعهم الجغرافي يُحتم عليهم دومًا العيش في حالة حرب حتى وإن كانت مستترة وغير مُعلنة، ولهم عشق بذكر المرويّات الحربية والوقائع، وميل عظيم إلى الفتوة، وشدة اعتقادهم بالقضاء والقدر مع انقيادهم إلى رؤسائهم، وطاعتهم لكبرائهم، تمهّد لهم في الغالب، سبيل الفوز(21).

التحالف الإنكليزي الجنبلاطي
قصر المختارة الذي زاره أوبنهايم في رحلته

عندما زار ماكس فون أوبنهايم قصر المختارة مقر آل جنبلاط، أدّعى بأنّه رأى صور اللورد فريدريك هاملتون تمبلبلاكوود والمعروف اختصارًا باللورد دوفرين مُعَلَّقة في إحدى أروقة القصر، وهو الدبلوماسي الإنكليزي الذي نجح في الحفاظ على مصالح بريطانيا في جبل لبنان، وهذا إن دل على شيء، فإنّما يدل على عمق العلاقة بين آل جنبلاط والإنكليز، الذين وقفوا بجانب الدروز منذ سقوط الأمير بشير الثاني، والذين منعوا أيضًا إعدام عدد كبير من الدروز كعقابٍ لهم على حوادث الفتنة، وهذا العمل يرمي إلى الحفاظ على الدروز كقوّة سياسية بوجه الموارنة وفرنسا. لذلك اعتقد الجنبلاطيون أنَّهم المفضلون لدى الإنكليز.

ميزة المدرسة الألمانية الاستشراقية

كان الاستشراق المصدر الأوّل للبدايات التأمّلية الأنثروبولوجية في الشرق الأوسط(22)، فالمدارس الاستشراقية والأنثروبولوجية الغربية تنوعّت بحسب أهدافها ومع هذا يضعهما بعض النّقاد في نفس الخانة، أي علمان استعماريان نشأا في مرحلة الاستعمار ولخدمته(23)، وإذا كانت المدرسة الأنجلوسكسونية وثيقة الصلة بأهداف التبشير البروتستانتي، والفرنسية بالتبشير الكاثوليكي، وكلتاهما مارستا الاستعمار السياسي والثقافي بوحشيّة، فإنّ المدرسة الألمانية، التي اهتمّت بالثقافات والمخطوطات الإسلامية وترجمتها، لم يكن لها أهداف سياسية استعمارية(24)، وإنْ مارست بعض المحطّات العدائية وخصوصاُ في إفريقيا والمغرب العربي.

دور أوبنهايم الحقيقي

لذلك أظهر الألمان اهتماما جديَّاً بدراسة الثقافات الشرقية للعالم الإسلامي، ونشر الدراسات الأنثروبولوجية لفهم العقل «السوسيو – ديني « للعالم الإسلامي والجماعات المشرقيّة(25).
فأوبنهايم يُعْرَف عنه ولعه بالدراسات الشرقية، وعلى الرغم من أنّه لا ينتمي إلى المدرسة الألمانية الاستشراقية التقليدية، لأنّ عمله انحصر في البداية بالتنقيبات الأثريّة(26) ثم لاحقاً في إطار خدمة المشروع الاستخباراتي الألماني في الشرق الإسلامي، إلّا أنّ الفضل يعود إليه كما العديد من المستشرقين الألمان وغير الألمان في تقديم روايات علميّة عن الجماعات العرقية والمذهبية وأحوال الديار الشامية واستكشاف البِنى الثقافية وإخراجها للعلن بعيداً عن الأساطير والخرافات والأحكام المُسبقة من قبيل محاربة الإسلام ومعاداة المسلمين(27).


المراجع

  1. (Abenteuer Orient – Max von Oppenheim und seine Entdeckung des Tell Halaf (German
  2. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الوراق للنشر، 2006
  3. اعتبر الصليبيون بأن الدروز شأنهم شأن الجماعات الإسلامية الأخرى، فرقة من الإسلام مثلهم مثل الشيعة الإثني عشرية، والإسماعيلية، والحشاشين أتباع شيخ الجبل والمذهب النزاري.
  4. الصليبي، كمال، منطلق تاريخ لبنان، دار نوفل، 2012.
  5. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006.
  6. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  7. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  8. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  9. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  10. المصدر نفسه
  11. المصدر نفسه
  12. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  13. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  14. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  15. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  16.  https://web.archive.org/web/20190419172241/https://www.britannica.com/topic/Druze
  17. كبيبو، محمود، الدروز، ماكس فون أوبنهايم، الورّاق للنشر، 2006
  18. http://www.al-amama.com/index.php?option=com_content&task=view&id=494
  19. أدى قيام الحزب الجنبلاطي القوي الى إثارة الشهابيين والعمل على اقامة حزب منافس من العائلات الثلاث المناصرة للشهابيين، ابو اللمع، تلحوق وعبد الملك برئاسة عبد السلام يزبك العماد وهكذا نشأ الحزب اليزبكي الذي استبدل الحزب الصمدي.
  20. يقصد فتنة 1860
  21. الأسود، إبراهيم، ذخائر لبنان، هنداوي، 2018
  22. http://www.alhayat.com/article/1163469/
  23.  المصدر نفسه
  24. عبدلله، أمير، رائد، المستشرقون الألمان وجهودهم تجاه المخطوطات العربية والإسلامية، مجلة كلية العلوم الإسلامية، 2014
  25. https://www.alaraby.co.uk/blogs/2018/9/27/جهاد-إسلامي-بلكنة-ألمانية
  26. اكتشف مدينة تل حلف الأثرية في شمال سوريا عام 1899
  27. https://www.alaraby.co.uk/books/2017/3/6/محمد-المزوغي-تحقيق-ما-في-نقد-الاستشراق-من-مقولة .

صَفحات من تاريخ بني معروف في الأردن

نشأت في القرن السابع الميلادي منطقة إداريّة عسكرية في بلاد الشام تضمّنت اسم نهر الأردن، هي جُند الأردن، قاعدته العُظمى طبريّة، وذلك عند تقسيم العرب بلاد الشام بعد فتحهم لها إلى خمسة أجناد. وفي العصر الحديث نشأ في سنة 1921 كيان سياسي تضمَّن أيضًا اسم نهر الأردن، هو شرق الأردن، لأنّه قام في الأراضي الواقعة إلى الشرق من هذا النهر.

كان للموحِّدين (الدروز) وخصوصًا منذ عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، وتَوطُّن الدروز في جبل حوران (جبل الدروز أو جبل العرب أو محافظة السويداء) علاقات مع أبناء المناطق التي تَشكَّل منها الكيان الأردني، ثم قُيِّض لهم المساهمة في تأسيس هذا الكيان، وتأسيس حكومته الأولى، من خلال نُصرة مؤسِّسه الأمير عبد الله بن الحسين، ليكون منطلَقًا لمتابعة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي لسورية.

وعند تخطيط الحدود بين منطقتَي الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني، ضُمَّت بعض أراضي جبل الدروز إلى الكيان الأردني. وأصبح هذا الكيان البلد الملجأ لوطنيِّيهم عند اضطرارهم إلى تجنُّب ملاحقة السُّلطة الفرنسيّة لهم في سورية ولبنان. ثم صار الوطنَ الذي يقيم الآلاف منهم في العديد من مدنه وقراه حيث ساهموا في نهضته وعمرانه، وحيث عُرفوا بِاسْم “بني معروف”، وعُرفت عائلاتهم بِاسْم “عشائر بني معروف” عند ذِكر العشائر الأردنية، ذلك أنَّ هذا الاسم هو، كاسْم “الموحِّدين” الاسم المفضَّل عندهم على اسم “الدروز”.

وفيما يلي تفصيل لهذه الأمور، مع الإشارة إلى أنَّ صفحات تاريخ الموحِّدين في الأردن، ترتبط بتاريخهم في جبل الدروز أكثر من أيّة منطقة أخرى مأهولة بهم، بسبب العامل الجغرافي.

المساهمة في إنشاء الإمارة الأردنية وترَؤُّس رشيد طليع أُولَى حكوماتها

إنَّ دَور الموحِّدين (الدُّروز) في تأسيس إمارة الأردن وحكومته هو تتمَّة لدورهم في المساهمة بالثورة العربية، وفي قيام الحكومة العربية ونصرتها. لقد الْتَحق بعض مجاهديهم بالثورة حين كانت لا تزال في الحجاز، وزاد الالتحاق بها عند وصول قوّاتها إلى العقبة وخلال تقدُّمها في الأراضي الأردنية ووصولها إلى درعا في حوران. ولعلّ أبرز ما يُذكر في هذا المجال هو قضاؤهم بقيادة سلطان باشا الأطرش على القوة العسكرية التركيّة المدعومة من الضبّاط الألمان، والمرابطة جنوب دمشق للدِّفاع عنها، ثم أسبقيّة سلطان في دخول دمشق ورفع العلم العربي فيها في 30 أيلول 1918.

أيَّد العديد من النُّخب الدُّرزية في سورية ولبنان الحكومة العربية بالنِّيابة عن جماعاتهم، وبايعوا فيصل ملكًا على سورية، واشترك بعض قادتهم في هذه الحكومة، وتَسلَّموا المناصب فيها(1). وحين أنهاها الفرنسيُّون، وطلبوا من الملك فيصل مغادرة سورية، أرسل إليه سلطان من يعرضون عليه نقلها إلى السويداء في جبل الدروز، لكن هؤلاء لم يلحقوا به في درعا وهو في طريقه إلى حيفا ومنها إلى أوروبا.

تلا ذلك لجوء العديد من الوطنيِّين السوريِّين واللبنانيِّين إلى الأردن، ليتّخذوا منه منطلقًا للنِّضال ضد الفرنسيِّين، ومِن هؤلاء الوطنيِّين الذين ابتعدوا، أو أبعدهم الفرنسيون، مجاهدون دروز بينهم رشيد طليع الذي عمل بِاسْم الأمير عبد الله في السويداء، وأرسل منشورًا إلى قرى جبل الدروز يطلب إلى رجالها الاشتراك في الهجوم الذي سيقوم به الأمير على الفرنسيِّين، الذين طلبوا بدورهم إلى زعماء دروز الجبل طرْد رشيد طليع وإلّا فإنهم سيدمّرون السويداء، ثم الْتَحق بالأمير في جَمع كبير من الفرسان بحسب ما تَذكر الوثائق البريطانية. وقد كان الْتِحاقه هذا بناءً على طلب الأمير عبد الله لكي يؤسِّس أوّل حكومة أردنيّة.

ويَرِدُ في الوثائق البريطانية أيضًا الْتِحاق حسيب ذبيان بالأمير عبد الله خلال وجود الأخير في معان، والْتِحاق شيخ قرية الهيت (تركي عامر) مع عدد من رجاله، وسلمان وأسد الأطرش مع عَشَرة من رجال كلِّ واحد منهما. ويرِدُ فيها كذلك أنَّ حسيب ذبيان أُرسل من قِبَل الأمير عبد الله للدعوة له في “المقرن الشرقي” من جبل الدُّروز، وأنّ رُسل الأمير كانوا يَعِدُون السكان بإعفاء تامّ من دفع الضرائب طوال ستّ سنوات.

وممّن التحقوا بالأمير عبد الله وهو في معان فؤاد سليم ومعه المجاهد المسيحي من دير القمر سعيد عمّون، وقد طلب منه الأمير مراسلة زعماء الأردن ورؤساء الحكومات المحليّة، فقام بهذه المهمة. تَشكَّلت الحكومة الأردنية الأولى من سبعة أعضاء جميعهم، باستثناء واحد، من خارج الأردن؛ واستعان الأمير عبد الله أيضًا، لتسيير شؤون الإدارة وبناء الجيش، بالسوريين واللبنانيِّين المُبعدين عن بلادهم، والمحكوم على بعضهم بالإعدام أو بالسجن من قبل الفرنسيِّين، ذلك لأنّهم يمتلكون الخبرة الإدارية والتجربة الوظيفية والكفاءة العلمية، وعندهم قدر واسع من الحركة ومن الحياد إزاء شيوخ العشائر الأردنية ومنازعاتهم وإزاء المواضيع الخلافيّة، وجميع هذه الأمور غير متوافرة إلّا عند القليل من أبناء الأردن. وممَّن استعان بهم الأمير عبد الله رجالات الموحِّدين (الدُّروز) الآتي ذكرهم، مع ذكر المناصب التي تسلّموها في الحكومة الأردنية وقبل ذلك.

– رشيد طليع (1876- 1926)، إنّه لبناني من جدَيْدة الشوف ومن أعضاء حزب الاستقلال. تَسلَّم رئاسة أوّل حكومة أردنية في 11 نيسان 1921 وسُمّي “الكاتب الإداري” و”رئيس مجلس المُشاورين”. ثم عاد وأَلَّف حكومة ثانية في 5 تمّوز 1921. وقد استعان الأمير عبد الله به نظرًا لخبرته في الشؤون الإدارية، وكفاءته، وتَقلُّبه في مناصب عدة، منها في العهد العثماني: وكيل قائمّقام بعلبك، وقائمَّقام كلٍّ من المناطق التالية: الزبداني وراشيّا وحاصبيّا، وعاهرة في جبل الدروز، وعضو مجلس المبعوثان عن لواء حوران، ومتصرِّف كلٍّ من المناطق التالية: حوران وطرابلس والاسكندرونة. ومن المناصب في عهد الحكومة العربية: مدير الداخليّة، ومتصرِّف كلٍّ من اللاذقيّة وحماه وحلب(2).

الأمير عادل أرسلان

– الأمير عادل أرسلان (1887- 1954)، هو لبناني من بلدة الشويفات، ومن أعضاء حزب الاستقلال. حكم الفرنسيون عليه بالإعدام عدّة مرات، عاد من أوروبا والْتَحق بالأمير عبد الله وغدَا مستشارًا له نظرًا لخبرته ومعارفه وماضيه الجهادي، فقد كان في العهد العثماني مديرًا للشويفات، وقائمَّقام الشوف، والنائب عن جبل لبنان في مجلس المبعوثان، وكان بعد جلاء الأتراك أحدَ عُضوَيْ حكومة جبل لبنان التي تأسَّست في بعبدا لبضعة أيام، وصار في عهد الحكومة العربية سكرتير الأمير فيصل.

– فؤاد سليم وأخَواه عارف ونصري، إنّ فؤاد سليم (1893- 1925) لبناني من جباع الشوف، كان من مجاهدي الثورة العربية، وقد أتى مع الأمير فيصل إلى دمشق حيث تَسلَّم قيادة فرقة من سلاح الفرسان والمشاة في الحكومة العربية، ثم قاد العصابات الوطنية العاملة ضد الفرنسيِّين إبّان لجوء هذه الحكومة إلى مقاومتهم. وبعد نهايتها كان من أوائل الملتحقين بالأمير عبد الله الذي عهد اليه مساعدة الكابتن البريطاني بيك في قيادة قوة من الجند تحافظ على الأمن غدَا اسمُها الجيش وغدَا فؤاد سليم رئيس أركانه، وسيكون له دور بارز في حفظ وتوطيد الأمن الضروري لنجاح انطلاقة مسيرة الإمارة الأردنية. وممّا يُؤْثَر عنه إيواؤُه للمجاهد أدهم خنجر في بيته ليحميه من ملاحقة السلطة له والقبض عليه وتسليمه للفرنسيِّين، لأنّه من المتَّهمين بمحاولة اغتيال المفوَّض السامي الفرنسي الجنرال غورو على طريق القنيطرة.

أمّا عارف سليم شفيق فؤاد، فقد الْتَحَق في سنة 1922 بالجيش العربي في الأردن برتبة ملازم، وكانت باكورة أعماله القتالية مشاركته في صدِّ الحملة الوهّابيّة التي وصلت إلى الأردن في هذه السنة. وعُيِّن بعد ذلك قائدًا لمخفر وادي موسى لإتقانه اللغة الإنكليزية التي تؤهِّله للتخاطب مع السُّيّاح الأجانب، وخصوصًا البريطانيِّين منهم، الذين يزورون مدينة البتراء. وحلَّ مكانه في قيادة المخفر المذكور أخوه الأصغر نصري.

– حسيب ذبيان (1885- 1969)، إنَّه لبناني من مزرعة الشوف كان أحد الضُّبّاط في عهد المتصرفيّة، ثم غدا أحد ضبّاط الحكومة العربية ومساعدًا لفؤاد سليم في حرب العصابات الوطنية ضد الفرنسيين، ثم أصبح ضابطًا في الجيش الأردني. وكان معه أيضًا المجاهد حمد صعب (1891 – 1941) وهو لبناني من الكحلونية الشوف الْتَحق بالحكومة العربية، وكان مع المجاهدين الذين اشتركوا في حرب العصابات ضد الفرنسيِّين بقيادة فؤاد سليم.

– أسد الأطرش، هو أحد شيوخ جبل الدُّروز. الْتَحق مع رشيد طليع بالأمير عبد الله كما وردت الإشارة إلى ذلك، وعاد من الأردن في 12 آب 1921 مبعوثًا من الأمير إلى جبل الدروز. وكان قصد الأمير من ذلك مدَّ نفوذه إلى الجبل الذي كان بعض أهله يرغبون في الانضمام إلى شرق الأردن وإلى منطقة الانتداب البريطاني، ويرفضون الانتداب الفرنسي. لكن مظاهرة أسد الأطرش الشريفيّة جوبهت بالرفض الشديد من أعيان جبل الدروز وحكومته، وتهديد الفرنسيِّين باعتماد القوة وقصف الجبل لإنهاء حركته، فانتهت بتسليم نفسه إلى الفرنسيين(3).

استقالة رشيد طليع من رئاسة الحكومة الأردنيّ

كان رشيد طليع رئيس حزب الاستقلال الذي تَأسَّس في 5 شباط 1919 كمظهر علني لجمعية “العربية الفتاة” التي تأسَّست سنة 1909 وعملت لاستقلال البلاد العربية عن الأتراك. رمَى هذا الحزب إلى توحيد البلاد العربية واستقلالها وبلوغها مَصافَّ الأمم الراقية. انضمّ العديد من أعضائه إلى الأمير عبد الله، وساهموا في تأسيس الحكومة الأردنية في عمّان بعد أن خدموا الحكومة العربية في دمشق. لكن أطروحات الحزب تراجعت بسبب التطوُّرات واعتماده الواقعيّة حتى باتت تشمل فقط وحدة البلاد السورية وتحريرها. أنشأ أعضاؤه في الأردن لجنة مركزية مؤلَّفة من زعمائه، وهم: رشيد طليع، عادل أرسلان، أحمد مريود، عادل العظمة، أحمد حلمي، نبيه العظمة، ابراهيم هاشم، عوض القضماني، صبحي العُمري، سعيد عمُّون، سامي السّراج، مُسلم العطّار، عثمان قاسم. وشارك في هذه اللّجنة من الأردنيِّين أحمد أبو راس ومحمّد علي العجلوني وغيرهما(4).

سبق لرئيس حزب الاستقلال رشيد طليع أن اجتمع بالأمير عبد الله، وباحثَه في شأن استئناف الحزب نشاطه في الأردن، فوافق الأمير على ذلك “شرط إلّا يتدخّل الحزب في شؤون المنطقة الإدارية”. وحين عرض رشيد طليع الأمر على رفاقه الاستقلاليِّين جرى بينهم نقاش صاخب وافقوا بعده على براغماتيّة رشيد طليع بقبوله شرط الأمير عبد الله، وذلك لثقتهم به، وبأنه، وهو رئيسهم، سيصبح مرجع الحكومة(5). لكن التضارب في المواقف سيحصل بين الفريقَين ذلك أن الأمير انتهج الواقعيّة والمرونة السياسيّة ومُماشاة البريطانيِّين، بل الرُّضوخ أحيانًا لإملاءاتهم لتجنُّب الاصطدام بهم، لأنهم قادرون على التلاعب بمصيره وبأمن الإمارة، وعلى توجيه دفّة الأمور حسب رؤيتهم ومصالحهم. ومقابل هذا كان الاستقلاليُّون، وعلى رأسهم رشيد طليع، يركِّزون على استقلاليّة القرار ما أمكن، ويرَون ضرورة استمرار النِّضال ضد الفرنسيِّين وتشجيع الثائرين عليهم ودعمهم، وتأمين الحماية لهم في الأردن، مخالفين بذلك توجُّه السلطة البريطانيّة.

بعد تشكيله حكومة شرق الأردن الثانية، استقال رشيد طليع منها في أواسط آب 1921، وانتقل إلى فلسطين ومنها إلى مصر، لأنه لم يجد عند الأمير عبد الله الدعم الكافي الذي يمَكِّنه من الصمود أمام تدخُّل البريطانيِّين المفرط في شؤون الأردن، وإجراءاتهم الرامية إلى فرض هيمنتهم المُطلقة، وضغْطِهم لإخراج رجالات حزب الاستقلال وسائر الوطنيِّين من الحكومة. وقد اختلف معهم في الأمور التالية:

  • إصراره على الاطِّلاع المُسبق على خطاب المندوب السامي البريطاني لدى زيارة الأخير إلى الأردن في 17 نيسان 1921، إذ قد يكون في الخطاب ما يضرُّ بالأردن، وكان له ما أراد.
  • احتجاجه الشديد على نصب خيام الجنود البريطانيِّين قرب خيام الأمير عبد الله وكانت لديهم طائرتان بقصد إظهار حمايتهم للأمير، وطلبه إبعادهم. وكان له أيضًا ما أراد.
  • إلحاحه على المندوب السامي البريطاني ليُفْرِج عن حِصّة الأردن من العائدات الجمركيّة، إذ كان المندوب يريد من وقْفِها الضغط على الحكومة الأردنية وإظهارها بمَظهر العاجزة عن دفع رواتب موظفيها والقيام بالمتطلّبات.
  • جاء السبب المباشر الذي أدَّى لاستقالة رشيد طليع، وهو رفضه تسليم المُتَّهمين بمحاولة اغتيال المفوَّض السامي الفرنسي، الجنرال غورو، على طريق القنيطرة بتاريخ 23 حزيران 1921، وهم متهمون إضافة إلى ذلك بأنهم انطلقوا من الأردن وعادوا إليه بعد تنفيذ العملية(6). ففي هذا مخالفة لتوجُّه السُّلطة البريطانية ومصلحتها التي تقضي بالتفاهم والتنسيق مع السلطة الفرنسية المُنتدَبة في سورية ولبنان، ومخالفة صريحة للاتِّفاق بين الأمير عبد الله ووزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل على ضرورة تفاهُم الأمير مع الفرنسيِّين والسير بالناس سيرة بعيدة عن تحدِّيهم، وقد وردت الإشارة إلى هذا الاتِّفاق.

    رئيس وزراء شرق الأردن رشيد طليع عام 1921
إخراج الاستقلاليِّين من الأردن

كان البريطانيُّون يتعاطَوْن مع العاملين ضد الفرنسيِّين انطلاقًا من الأردن وفْقًا لمصالحهم، فلا يتشدَّدون في حال تَعارُض مصالحهم مع مصالح الفرنسيِّين، ويتشدَّدون في حال توافُقها، ويضغطون على الأمير عبد الله والحكومة الأردنية لِحَذْو حذْوهم، لذا طلبوا في سنة 1924 إخراج الاستقلاليِّين من الأردن، لأنّ مجموعة من المجاهدين بقيادة أحمد مريود انتقلت منه إلى سورية واشتبكت مع الجند الفرنسي في حوران ومن ثمّ في العاصمة دمشق(7).

آنذاك كان الأمير عبد الله في الحجاز لأداء فريضة الحجّ، وعندما عاد في 19-8-1924 قدَّمت إليه سلطة الانتداب البريطاني إنذارًا من ستة بنود مُفادُها تحقيق الإشراف البريطاني الفعَّال والكامل على الحكومة الأردنية، ومن بينها قبول اتِّفاق تسليم المجرمين المعقود مع الحكومة السورية الخاضعة للسلطة المنتدبة الفرنسية، وإخراج المتَّهمين بالتحريض على الحوادث الأخيرة من الأردن، وذلك نزولًا عند طلب الفرنسيِّين. فألقى الأمير خطابًا في اليوم التالي أعلن فيه استجابته للإنذار، وأدَان كلَّ من يعبث بالأمن في سورية وفلسطين “لأننا –والقول له – لا نريد أن تجني هذه البلاد ذُلًّا بسبب تصرُّف أولئك العابثين” وأضاف قائلًا: “لا أريد، أن أضحِّي بنفسي من غير رويّة وأُؤَلِّب على العرب دولتَين عُظمَيَين”(8).

نزلت الحكومة الأردنية عند الطلب البريطاني، وأذاعت بتاريخ 21-8-1924 بلاغًا تُبرِّر فيه عملها بضرورة تلافِي تشويش الأفكار في البلاد المجاورة وتسكينها بإظهار حُسن النَّوايا والرغبة في إثبات الخطّة القويمة السالمة من كلِّ شائبة نحو المناطق المجاورة، على ألّا يُفهم من ذلك أنّ الذين تطلب خروجهم من الأردن لهم أدنى علاقة بالحوادث المذكورة(9). أمّا الذين طلبت خروجهم، فهم: عادل أرسلان، وفؤاد سليم، وأحمد مريود، ونبيه العظمة، وأحمد حلمي، وعثمان قاسم، وسامي السرّاج، ومحمود الهندي. ولمّا كان هؤلاء المُبْعَدون لا يستطيعون الانتقال إلى فلسطين الموضوعة تحت الانتداب البريطاني، فقد انتقلوا أوّلًا إلى العقبة التي كانت لا تزال آنذاك تابعة للحجاز، ومنها تَفرَّقوا إلى مصر والحجاز والعراق، وقد انتقل فؤاد سليم إلى مصر، وعادل أرسلان إلى الحجاز حيث شهد هجوم الوهّابيِّين عليه، وسقوطه بيدهم، فانتقل إلى مصر.

يبدو أنَّ الأمير عبد الله كان مضطرًّا إلى قبول بنود الإنذار البريطاني، والعمل بها كي لا يخسر إمارته، وكي لا يوضع الأردن تحت الحكم البريطاني المباشر. وكان آنذاك أضعف من أن يواجه السلطة البريطانية، كما كان والده في الحجاز مهدَّدًا في الوقت نفسه من قِبَل الوهَّابيِّين. وهنا تجدر الإشارة إلى عِظَم مخاطر وضع الأردن تحت الحكم البريطاني المباشر، لأنّه يقضي كلِّيًّا على الآمال التي يعلِّقها وطنيُّو بلاد الشام عليه، وفي هذا المجال يقول عجاج نويهض في رسالته المُرسَلة من القدس إلى نبيه العظَمة بتاريخ 9-7-1924: “إنَّنا أصبحنا لا نرى لنا مأملًا في المستقبل إلّا في هذه الرُّقعة الصغيرة [الأردن] التي إذا ما اغتُصبت اغتصابًا تامًّا فقدْنا كلَّ شيء نملكه في هذه الدنيا”(10).

لجوء سلطان باشا الأطرش إلى الأردن سنة 1922

سبقت الإشارة إلى أنّ الأردن كان ملجأ الوطنيِّين والثائرين، كإبراهيم هنانو الذي لجأ إليه عبْر جبل الدُّروز، وبمساعدة سلطان باشا الأطرش، بعد إخماد الفرنسيِّين لثورته. بيْد أنّ أكثريّة اللاجئين كانت من جبل الدُّروز بحُكم مجاورته للأردن وتعدُّد ثوراته بقيادة القائد العامّ للثورات السورية، سلطان باشا الأطرش(11). وفيما يلي الحديث عن ثورته الأولى على الفرنسيِّين، ولجوئه إلى الأردن.

بدأ سلطان انتفاضته الأولى على الفرنسيِّين في 21 تموز 1922 لسبب مباشر هو اعتقالهم لضيفه أدهم خنجر. وحين لم يَلْقَ الدَّعم المطلوب من أهالي جبل الدُّروز، وشُنَّت عليه حملة عسكريّة فرنسيّة قويّة مقرونة بحملة إعلاميّة معادية من جبل الدروز، لجأ إلى الأردن بعد أن وافقت حكومته على الإقامة في أراضيه. ونزل في ديار بني حسن، ورحّب به الأمير عبد الله وحكومة الأردن ورجال حزب الاستقلال، وبعض شيوخ العشائر ومنهم مثقال الفايز الذي قال له: يا باشا إذا فقدتَ منزلك في القريّا جرَّاء تدميره بالطائرات الفرنسية فإنّ منازل ومضارب الأهالي في الأردن كلَّها مفتوحة لك ولجماعتك فاختَرْ ما تريده ونحن لها.

أراد سلطان أكثر من الترحيب به في الأردن، وأملَ بمساعدة من الأمير عبد الله ووالده الشريف حسين، وبقيام ثورة عامّة تُخرج الفرنسيِّين من سورية. وقد قابل مُرافقه شكيب وهّاب رئيس وزراء الأردن رضا باشا الركابي، وشجَّعه على اغتنام الاضطراب الحاصل، ومهاجمة الفرنسيِّين ودخول سورية، إلّا أنَّ الركابي لم يتحمَّس للفكرة، كما أنَّ الشريف حسين لم يكن بإمكانه مساعدة الثّورة العامة التي اقترحها ولده الأمير عبد الله، بسبب انشغاله بالصِّراع مع الأمير عبد العزيز بن سعود.

احتجَّ الفرنسيُّون لدى السُّلطة البريطانية على وجود سلطان في الأردن، وطلب المندوب السامي الفرنسي من المندوب السامي البريطاني إخراجه منه، أو السماح للفرنسيِّين بقصف معسكره بالطائرات، فنزل المندوب السامي البريطاني عند طلبه، وسمح لقوَّة فرنسية بملاحقة سلطان، وحمل الأمير عبد الله على القبول بذلك، وأعطى كلَّ منهما الأمر بوقف تمرُّد سلطان بحسب ما جاء في وثائق وزارة الحربية البريطانية. وعن هذا الموضوع يَذكر الأمير عادل أرسلان أن بعض الاستقلاليِّين الموجودين في حكومة الأردن عارضوا ذلك، وأنّه، أي الأمير عادل، أرسل إلى سلطان الذخائر وثلاثين فارسًا لبنانيًّا لاجئين إلى الأردن ومقيمين في الرصيفة، وأن محمود الهندي وسعيد عمّون وصبحي العمري حرّضوا جنود الأردن، “فأخذوا يتوعَّدون بذبح القوّة الفرنسية عن بكرة أبيها، فابتعد الفرنسيون عن المكان، وعاد بك وجيشه إلى عمان”(12). وظل سلطان في الأردن تسعة أشهر وعاد منه إلى الجبل في 5 نيسان 1923 بعد صدور العفو عنه.

لجوء سلطان باشا الأطرش ومجاهدي الثورة السورية الكبرى إلى الأردن

أعلن سلطان باشا الثورة على الفرنسيِّين في 21 تموز 1925، وتحوَّلَت بقيادته إلى ثورة سورية كبرى رَمَت إلى وحدة سورية وتحريرها واستقلالها وقيام حكومة شعبيّة فيها على مبدأ سيادة الأمّة سيادة مطْلَقة، وشملت، بالإضافة إلى مهدها (جبل الدُّروز)، معظم المناطق السورية وبعض اللبنانيّة. وبعد تَوسُّعها وتحقيقها أروع الانتصارات، مُنِيت بالهزائم، وتراجعت عن المناطق التي امتدّت إليها، وأخيرًا تراجعت عن الجبل، وأخذ الثُّوّار يتركون ميادين القتال فيه ويتجمّعون في الأزرق، وبعضهم نزح إليه مع عياله.

كان شرق الأردن ممرَّ السِّلاح والذَّخيرة والأدوية والأموال إلى الثُّوّار، وغدا بوجودهم في مناطقه الشمالية، وخصوصًا في الأزرق مُنْطَلق عمليّاتهم ضد الفرنسيِّين الذين أيقنوا أن الثورة لن تنتهي إلّا بإخراجهم منه. تَوصَّل المندوب السامي الفرنسي دو جوفنيل إلى اتِّفاق مع البريطانيِّين في لندن على المسائل المُختلف عليها، وأُولاها قضية الموصل وأنابيب النِّفط منه إلى البحر المتوسِّط، وثانيتها إنشاء خطّ سكّة حديد بين حيفا وطرابلس، وثالثتها الحدود بين منطقتَي الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني، وقد حلَّها دو جوفنيل فيما يتعلّق بجبل الدُّروز والأردن بالتنازل عن بعض قرى الجبل وأراضيه للأردن، ومنها الأزرق.
تلا ذلك اتِّفاق فرنسي بريطاني سرِّي في القُدس، يقضي بالتعاون المشترك ضد الثُّوّار، واتِّفاق في درعا بتاريخ 23 أيلول 1926 نُظِّم هذا التعاون، وتُرجِم بإعلان القائد البريطاني للجيش الأردني الأحكام العُرفيّة في منطقة الأزرق بمنشور وقَّعه الأمير عبد الله مُجبَرًا، وبناءً على ذلك أرسل البريطانيُّون أربعة آلاف جندي إلى الأزرق حيث حاصروا الثُّوّار وقصفوا مخيّماتهم وضايقوهم في أيام قليلة أكثر ممّا ضايقهم الفرنسيون في سنتين ممّا اضطَرّ أكثرهم إلى الاستسلام والعودة إلى جبل الدُّروز، وعددهم 2000 نسمة، فيما فضَّل 1200 نسمة عدم الاستسلام والخروج من الأزرق، وعلى رأسهم سلطان الذي اصابت شظايا قنابل الطائرات البريطانيّة عباءته التي أهداها بما فيها من ثقوب إلى صبحي الخضرا في فلسطين(13).

تَرك سلطان ورفاقه المجاهدون الأردن إلى النبك في وادي السرحان من أراضي المملكة العربية السعودية حيث أقاموا بضع سنوات حافلة بالمشقّات وصعوبة العيش، وبتضييق عمّال الملك عبد العزيز آل سعود عليهم ومحاولتهم نزع سلاحهم، وإسكانهم في داخل نجد بعيدًا عن أراضي الأردن، لأنّهم كانوا يحذرون استمرار علاقة بعضهم مع الأمير عبد الله الذي كان في صراع مع الملك عبد العزيز وفي تنافُس معه على عرش سورية؛ والذي اجتمع بسلطان وأخيه زيد في الموقّر في تشرين الأول 1927، “ربّما ليوضح أنه كان مرغمًا بالموافقة على إخراج الثُّوّار من الأزرق”(14).

ظَلَّ الأردن المكان الأفضل والمنشود لإقامة المجاهدين في منفاهم لمجاورته جبل الدُّروز. ولمّا كان انتقالهم إليه يتطلّب موافقة السُّلطة البريطانية والسلطة الفرنسية والأمير عبد الله، عرض المجاهدون هذا الأمر على الأمير عبد الله، فاتّصل بالمسؤولين البريطانيِّين، ثم أرسل في النصف الثاني من كانون الأول 1929 رسالة إلى سلطان للاجتماع به في مرج الضّبعي والاطِّلاع على البرنامج الذي سلّمه البريطانيّون له بحالة وجود المجاهدين في الأردن. ثم جدَّد سلطان الاتِّصال بالأمير وطلب منه العمل للاستحصال على موافقة البريطانيِّين وتعيين المكان المقترح مع تفضيل الأزرق الذي كان الفرنسيون يمانعون وجود المجاهدين فيه. وبعد اتِّصالات عدَّة بين سنتَي 1930 و1931 وافقت السُّلطة البريطانية على إقامة سلطان والمجاهدين في الأردن، فانتقل إليه في تموز 1932 مع معظم الموجودين في وادي السرحان، وتَوزَّعوا في الكرك والسلط والحُمّر وعمّان والزرقاء والأزرق، فيما ظلَّ القليل منهم في النبك.

رحَّب الأمير عبد الله بالمجاهدين، وقدَّم لهم التسهيلات المُمكنة، وزارهم بعد استقرارهم، فازدادت العلاقات تعمُّقًا بينه وبينهم، وخصوصًا سلطان الذي أقام في الكرك. وبقي المجاهدون في الأردن، وفي النبك منفيِّين عن البلاد حتى صدور العفو عنهم بموجب المعاهدة السورية الفرنسية الموقَّعة في سنة 1936، حيث عادوا بعدها مُعزَّزِين مكرَّمين. إلّا أنَّ بعضهم ظلُّوا مقيمين مع عيالهم في عمّان والزرقاء والأزرق.

لجوء سلطان باشا الأطرش إلى الأردن سنة 1954

قاد سلطان باشا الأطرش انتفاضة الشعب السوري سنة 1954 على رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي الذي شبَّه معارضيه بالأفعى: رأسها في جبل العرب (جبل الدُّروز) ومعدتها في حمص، وذنَبها في حلب. فإذا سُحِق الرأس ماتت الأفعى. لذا أرسل الحملات العسكرية إلى الجبل للقضاء على انتفاضته، وللقبض على سلطان. لكنَّ سلطان تجنَّب سفك دماء السوريِّين العزيزة، وآثَر ترك الجبل إلى الأردن على الصدام مع الجُند.

مكث سلطان يومَين على حدود الأردن ينتظر سماح حكومته بدخول أراضيه. وبمسعًى من القائد كمال جنبلاط وافقت الأردن على ذلك، وقال سلطان في المؤتمر الصحفي الذي عقده في الأردن إنّه “قصد هذا الحيّ الهاشمي الذي به تعتزُّ تقاليد العرب، وإنّه لم يخرج من الجبل إثر هزيمة أو انكسار، ولكنه آثَر حجب دماء العرب في جبل العرب”. وانتقل إلى قلعة المدوّرة في أقصى جنوب الأردن، ورحّب به شيوخ الأردن ومنهم محمّد بن عودة أبو تاية الذي دعاه إلى معان وأكرمه بالرغم من حصول حادثة مؤسفة بين سلطان ووالده عودة الذي كان وسلطان من قادة الثورة العربية(15).

تَمكَّن وزير الداخلية السورية من إثارة الدمشقيِّين، المستوطِنين في عمَّان، ضد سلطان، فتظاهروا وطالبوا بتسليمه للحكومة السورية. وكادت الحكومة الأردنية تفعل ذلك لولا معارضة النائب الأردني وصفي ميرزا، والملكة زين والدة الملك حسين بن طلال، الذي كان آنذاك خارج البلاد. لقد كانت الملكة تُدرك أهميّة سلطان ودوره النِّضالي في الثورة العربية والثورة السورية الكبرى، وتَعلم منزلته السامية عند الهاشميِّين. ولم يَطُل الأمر سوى أيام حتى استقال الشيشكلي ليل 25- 26 شباط 1954 تحت ضغط النِّقمة الشعبية وتمرُّد قوّات الجيش ضده، فعاد سلطان بعد ذلك إلى سورية، وللمرة الثالثة يعود بطلًا قوميًّا ووطنيًّا.

التَّوطُّن في الأردن

كان عدد سكّان الأردن سنة 1922، 225380 نسمة، موزَّعين على الشكل التالي: 122430 نسمة (حضر) و102950 نسمة (بدو)، وعدد سكّان العاصمة عمَّان فكان فقط 6400 نسمة(16). لكن عدد السكان زاد كثيرًا بعد تأسيس كيانه السياسي جرّاء النمو الطبيعي، ولتحوُّله إلى منطقة جذب لأبناء المشرق العربي، إذ قصده عشرات الآلاف للعمل والارتزاق في مرحلة نموّه ونهضته وإعماره، ومن هؤلاء الموحِّدون (الدُّروز) الذين كانوا قلائل في البداية، لكنهم ازدادوا حتى بلغ عددهم مؤخّرًا بحدود 14000 نسمة يقيمون في العديد من المدن والقرى، وأبرزُها عمّان والأزرق والزرقاء والرصيفة وأمّ القطين، أي إنَّهم مقيمون في المنطقة الشمالية الممتدّة من الأزرق وأمّ القطين شمالًا حتى عمّان جنوبًا.

قَدَّرَت دراسة صادرة في سنة 2004 عدد الموحِّدين في الأردن بـ12750 نسمة موزَّعين على الشكل التالي: الأزرق (5200) عمّان (5000) الزرقاء (1100) أم القطين (450) الرّصيفة (400) العقبة (100) المفرق (100)(17).

كان المُتوطِّنون الدُّروز الأوائل من اللاجئين إلى الأردن، مبعدين من لبنان وسورية، وقد توطَّنوه على دفعتَين، الأولى وهي القليلة عند تأسيس كيانه السياسي، والثانية وهي الأكبر وأكثريّتها الساحقة من جبل الدُّروز، بعد تراجع الثورة السورية الكبرى كما وردت الإشارة إلى ذلك. وتلا هاتَين الدفعتَين نزوحٌ من جبل الدروز بعد سنة 1929 بسبب تفاقُم الأزمة الاقتصادية فيه كنتيجة طبيعية لخسائره البشرية والمادية في الثورة، ولكساد مواسمه بتأثير الأزمة الاقتصادية العالمية. وإضافة إلى هذه الدفعات قَدِم إلى الأردن مئات الأشخاص للعمل في البناء والمقاولات والتجارة، وغير ذلك من الأعمال الحرَّة، علاوة على دخول الجنديّة وقوى الأمن والوظائف المدنيّة المُتاحة للمتعلِّمين وأصحاب الخبرة والكفاءة.

شكّل الأزرق عبْر عقود أكبرَ تجمُّع لبَني معروف (الدُّروز)، وكانت النُّزوحات تتمُّ منه أو عبْرَه إلى سائر الأماكن الأردنية، وإلى الأماكن الفلسطينية، لأنّه قريب جدًّا من جبل الدُّروز، وكان من أراضيه قبل ضمِّه إلى الأردن، وقد توفّرت وسائل العيش فيه أوّلًا من استخراج المِلْح وتصديره، ثم من زراعة الحبوب والأشجار المثمرة، ولتحوُّله إلى عقدة مواصلات بين الأردن والعراق والسعودية وسورية. إلّا أنّ عمَّان صارت تضمُّ حاليًّا تجمُّعًا معروفيًّا (درزيًّا) يوازي تجمُّع الأزرق نظرًا لكَونها العاصمة، ولكثرة مجالات العمل فيها.

اكتسب بنو معروف (الدُّروز) الجنسية الأردنية مع احتفاظ بعضهم بالجنسية الأساسية. وحملوا الهُويّة الأردنية وعليها فقط الهُويّة الدينية الإسلامية بوضع كلمة “مسلم” دون ذكر المذهب، بحيث لا يمكن تمييزهم عن سائر المسلمين في الأردن. وتسلَّموا الوظائف والمناصب المختلفة في إدارات الدولة وسلطاتها والمجالس المحلّية على أساس أنهم مواطنون أردنيُّون لا على أساس مذهبيّ. وصار أحدهم الأستاذ فيصل الأعور (من مواليد الأزرق) نائبًا في مجلس الأمّة حاليًّا، كما تَسلَّم الأستاذ أيمن الصفدي (من مواليد الزرقاء) منصب وزير دولة ونائب رئيس الوزراء في السابق، وهو حاليًّا وزير الخارجية وشؤون المغتربين. وهناك موظَّفان إداريّان كبيران، هما سامر سويد (من مواليد الأزرق) مدير قضاء، وسلطان حسّان من مواليد الزرقاء (مدير قضاء).

قدَّرَت الحكومات الأردنية والسلطات المحلِّيّة دور نُخب بني معروف في تأسيس الكيان الأردني وتطوُّره، وذلك بتسمية المباني والشوارع بأسماء بعض أعلامهم العاملين لمصلحة الأردن، كمدرسة رشيد طليع في عمّان، وشارع حسن حسيب ذبيان في الرّصيفة.

تمسَّك بنو معروف بمعتقدهم وإيمانهم بمسلك التوحيد الذي هو أحد المذاهب الإسلامية، وتمَشَّوْا في شؤون أحوالهم الشخصية على أعرافهم وتقاليدهم المتوارَثة على أن تتمَّ المعاملات الرسمية الأردنية بشأنها في المحاكم الشرعية. كما تَمشَّوا في حياتهم المُجتمعيّة على عاداتهم التي حملوها من مواطنهم الأصليّة، والتي يشبه معظمها عادات موطنهم الجديد. واستمرُّوا في التواصل مع الجذور ومع قراهم وعائلاتهم في سورية ولبنان، حتى إنّ بعضهم عادوا إلى هذَين البلدَين بعد تَوطُّن الأردن لعقود.

تأسيس الجمعيّات والنَّوادي

توفَّر لبني معروف، كما لغيرهم من الأردنيِّين، ظروف العمل في القطاع الخاصّ، والتوظُّف في الإدارات الرسميّة، فحقَّقوا طموحاتهم، وحسَّنُوا مستواهم، وخدموا الوطن الذي يتفيَّؤُون ظلاله. وتَوفَّرت لهم كذلك حرِّيّة تأسيس هيئات تُعنى بشؤونهم وتخدم مصالحهم وتتكامل تقديماتها مع ما تُقدِّمه الدولة. وقد أسَّسوا جمعيّات خيرية ونوادي ثقافية ورياضيّة، من أسمائها ما يدلُّ على عروبتهم، ومنها ما يدلُّ على المكان المأهول بهم، ومنها ما يحمل اسمهم: بنو معروف. وهذا هو موجز عنها.
• الجمعية الخيريّة. تأسَّست في عمَّان في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، واستمرّت في عملها حتى سنة 1962.
• الجمعية الخيرية العربية. تأسَّست سنة 1968، وشمل نشاطها أبناء معروف في مدن عمَّان والزرقاء والرّصيفة.
• جمعية الحكمة الخيرية. تأسَّست سنة 1972.
• جمعية الأزرق التعاونية الزراعية. تأسَّست سنة 1951، وعُنيت بصناعة الملح وتصدير الفائض منه إلى العراق.
• جمعية سيِّدات الأزرق التعاونية. تأسَّست سنة 1992. ومن أبرز نشاطاتها تشجيع أعمال الخياطة والأشغال اليدويّة.
• نادي الأزرق. تأسَّس سنة 1971. نشاطاته رياضية وثقافية واجتماعية وفنِّيّة.
• منتدى الأزرق الثقافي. تَأسَّس سنة 1992 باسم “فرقة الأزرق للفنون”.
• تَجمُّع أبناء بني معروف. تشكَّلت لجنته التنفيذيّة من 17 عضوًا يمثِّلون المدن المأهولة بالموحِّدين (الدُّروز) أو ببني معروف: 5 (عمّان) 5 (الأزرق) 4 (الزرقاء) 2 (الرّصيفة) 1 (أمّ القطين). وقد وجَّه التجمُّع كتابًا إلى وليِّ العهد الأمير حسن بن عبد الله، أظهر فيه أن بني معروف في الأردن ينالون حقوقهم كأفراد، إلّا أنهم كمجموعة أقل التجمعات الأردنية حظًّا وأكثرهم حرمانًا. وهذا ما أدَّى إلى زيارة الأمير لبني معروف في الأزرق، وإلى إظهار تقديره لهم وتَفهُّمه لمطالبهم(18). فكان ما قام به تَجمُّع أبناء بني معروف إحدى المحاولات التي ترمي إلى إنصاف بني معروف كمجموعة وإنصاف مُثقَّفِيهم والكُفوئِين بتَسلُّم مناصب هم جديرون بها.


المراجع

  1.  انظر عن المناصب التي تَسلَّمها أعيان الدروز، يوسف الحكيم: سورية والعهد الفيصلي، ص92- 93.
  2. للمزيد من المعلومات عن رشيد طليع، انظر الكتيِّب الذي ألَّفَه أمين طليع بعنوان: “الشهيد رشيد طليع”. ومنذر جابر: سجّل أنا رشيد طليع: سيرة ومصير، ص39- 130.
  3. انظر كتابنا: دروز سورية ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي، ص156- 157.
  4. محمود عبيدات: أحمد مريود، ص265، والهامش رقم 7.
  5. خير الدين الزركلي: عامان في عمّان، ص 108 – 112.
  6. خيرية قاسمية: الرعيل العربي الأوّل، ص35 وهامشها الرقم 12.
  7. انظر عن المجموعة وأعمالها، محمود عبيدات: أحمد مريود، ص266- 267.
  8. حقبة من تاريخ الأردن، مصدر مذكور سابقًا، ص177- 179.
  9. مُنيب الماضي وسليمان موسى: تاريخ الأردن في القرن العشرين، ص242- 243.
  10. خيرية قاسمية: الرعيل العربي الأول، ص180- 181.
  11. انظر عن هذه الثورات فصولًا عديدة من كتبنا التالية: جبل العرب- سلطان باشا الأطرش. مسيرة قائد في تاريخ أمّة- دروز سورية ولبنان في عهد الانتداب الفرنسي- سلطان باشا الأطرش والثورة السوية الكبرى.
  12. مذكِّرات الأمير عادل أرسلان، الجزء الثالث، ص1367.
  13. مذكِّرات صياح الأطرش عن يوم 25 آب 1928.
  14. مقابلة شخصية مع زيد الأطرش في 8 أيلول 1984.
  15. انظر عن الحادثة كتابنا: سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى، ص86- 87.
  16. للمزيد من المعلومات عن تَوزُّع السكّان على المدن والقرى، وعلى مضارب البدو، انظر سليمان موسى: دراسات في تاريخ الأردن الحديث، ص350-362.
  17. انظر مقالة عاهد قنطار في كتاب: تعريف بالجماعة الدرزية في الأردن، ص132 وهو كتاب نشرته مؤسسة التراث الدرزي بعنوان: الدروز. الواقع والتصوّرات.
  18. للمزيد من المعلومات عن توطُّن الدُّروز في الأردن وجمعيّاتهم، انظر تيسير أبو حمدان: بنو معروف في واحة بني هاشم، ص262- 271، وص389-415 .

عـــبـد اللَّه العلايلي والفكرُ اللُّغَوي العربيّ الحديث

العلاّمة (المرحوم) الشيخ عبد الله العلايلي

هو عبدالله عثمان العلايلي (1914-1996)*، أحد أبرز لغويي وفقهاء وأدباء العالم العربي في القرن العشرين. أطلقت على العلايلي طوال سني حياته ألقاب علمية عدّة (العلاّمة، الموسوعة، المعجم،…) لسعة معارفه ودقة أحكامه وغزارة إنتاجه في اللغة والفقه والتفسير والشعر والأدب والبحث العلمي، وقد صرف جزءاً من حياته أستاذا محاضراً في الجامعة اللبنانية، مشرفاً على الأطاريح العلمية في اللغة والفقه والأدب، واستمر منزله المتواضع، وإلى وفاته، محجة للزملاء والطلاب والمريدين من أقطار العالم العربي كافة. تتلمذ العلايلي على أيدي علماء وأساتذة ونحويين كبار في الأزهر الشريف، وتركوا جميعاً تأثيراً علمياً واضحاً في شخصيته البحثية، تماماً كما ترك هو تأثيراً بارزاً في معاصريه ومن تلاهم إلى يومنا هذا. برزت موسوعيته بل عبقريته في وقت مبكر، حين أصدر كتابه التأسيسي «مقدمة لدرس لغة العرب»، ولمّا يزل في الرابعة والعشرين من العمر.

كان شغله الشاغل في النحو، كما بدا، إحياء اللغة العربية وإخراجها من التقليد إلى رحاب العصر، من دون أن تفقد جذورها وركائزها. وكان شغله الشاغل في التراث، الإضاءة على على الشخصيات الكبرى في تاريخ الإسلام والعربية، فكانت ثلاثيته عن «الحسين»، وكان عمله «المعري ذلك المجهول»، وغيرهما. وفي عمله القومي، كتب «دستور العرب القومي»، على أمل أن يكون القاعدة السياسية التي يلتقي حولها القادة والمفكرون العرب لتأسيس إتحاد عربي حديث جامع. وفي المسألة اللبنانية، كان مصلحاً اجتماعياً فاشترك مع المرحوم كمال جنبلاط، ومفكرين وقادة نقابيين لبنانيين آخرين في تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي وإعلان برنامجه السياسي صبيحة الأول من آيار 1949، وكان خطيباً مفوهاً كما باحثاً مدققاً في غير مناسبة وندوة منذ ذلك الحين.
ترك العلايلي عشرات المؤلفات العلمية الدقيقة والتي تحولت مراجع موسوعية للباحثين والمريدين، من بينها «الحسين»، في ثلاثة أجزاء، «أين الخطأ»، في سبعة أجزاء، و»المعري ذلك المجهول». اصطدم العلايلي، كما المصلحون دائماً، بجدران عصيّة عل التغيير والتطوّر، ما دفعه أواخر أيامه إلى ما يشبه العزلة، يصرف وقته كله باحثاً منقّباً مفسّراً ومصححاً ما لحق العربية من تقصير أو دخيل. وكان ينجز ويصدر في أثناء ذلك أجزاء من «المعجم الكبير» الذي غربل ما كانت قد وقعت فيه معاجم سابقة.

ترك العلايلي ثروة فكرية تجاوزت الثلاثين عملاً أكاديمياً أو أدبياً في معظم أبواب اللغة والثقافة والفقه والنظرية السياسية، ومئات من البحوث والمقدمات والمفالات والمقابلات. شغل العلايلي غير مركز علمي في الجامعة اللبنانية كما في المنتديات الأدبية والمجامع اللغوية العربية، ونال عدداً كبيراً من الأوسمة والجوائز تقديراً لعطائه العلمي المستدام، من بينها:

  • وسام الأرز الوطني من رتبة فارس (1954)
  • جائزة رئيس الجمهورية اللواء فؤاد شهاب (1962)
  • جائزة مهرجان المربد للآداب، بغداد، (1988)
  • وشاح الأرز الوطني من رتبة الوشاح الأكبر، (1994)
  • درع النادي الثقافي العربي، (1994)
  • درع منتدى الفكر التقدمي، (1995)
  • درع جمعية أرباب القلم، (1996)
  • درع حلقة الحوار الثقافي، (1996).

ستبقى سيرة المرحوم العلاّمة العلايلي بوصلة قومية وتقدمية وإصلاحية لا ينقطع إشعاعها، كما ستبقى آثاره العلمية والأدبية معيناً ثقافياً ثرّا، وموضع اهتمام ودراسة لا ينقطعان من البحّاثة في أبواب اللغة والأدب والثقافة بعامة.

*راجع عدد مجلة «الحداثة» الخاص بعنوان «عصر عبدلله العلايلي»، ربيع ١٩٩٧


من شأن هذه الدراسة أن تُبرز المكانة الحقيقيّة لدور عبد الله العلايلي الكبير في ردّ الاعتبار إلى العربيّة، وجعلها لغة العلم الحديث. وليس من المغالاة القول إنّ الانفتاح على تجدّد اللّغة العربيّة ما كان ليتمّ لولا فضل العلايلي في كتابه «مُقَدَّمة لدرس لغة العرب» الذي أصدره في العام 1938 والذي شرح فيه «تصوّره الحديث للغّة العربيّة، ورأى أنّه من واجبنا أن نقف في جنب اللّغة. وأن نخدم اللّغة، ونتّسع بها، لا أن نحدّدها في مجالات تحرّكها، وبذلك تنمو اللّغة وتتطوّر وتتصّل بالحياة، وتصبح لغة التّخاطب بين الناس»(١).

وواضحٌ من قوله أنّ تطوّر اللّغة سبيلٌ إلى النهضة، وأنّ التطوّر الحضاريّ يرتبط بالتطوّر اللّغويّ، وأنّه يمكننا تثبيت قدرة العربيّة على التّعبير عن فكر العصر. ولقد تنبّه العلايلي إلى ذلك حين قال: «إنّ اللّغة هي أحد وجهي الفكر، فلا فكر ولا تفكير خارج اللّغة وبمعزل عنها، وفرض إنسان بدون لغة معناه فرض إنسان بدون فكر»(٢). ويعني ذلك أنّ لغة العلايلي تقوم على مقوّم فكريّ وإنسانيّ، فكونك تفكّر أنت لُغويّ.

رأى العلايلي أنّ العربيّة تتّسم بمرونةٍ طبيعيّةٍ، ولولا ما أفاض القرآن عليها من معنويّة قويّة لوقفت فجأة ولتخلّفت دفعةً واحدة بدون هذا التريّث البطيء»(٣)، ويعني ذلك أنّ طبيعة العربيّة فوق أن تُقَيَّد. ولم يقف العلايلي عند هذا الحدّ، بل حاول أن يتعرّف الظروف الّتي وضعت اللّغة العربيّة في موضع قلق غير مسبوق، فرأى أنّ اللُّغويين العرب وضعوا تقديرات دعوها علم اللّغة، وهذه التقديرات لا تتجاوز كونها فكرة شخصيّة تعبّر عن مَلحظ مقدّريها أكثر ممّا تعبّر عن ملحظ العرب أنفسهم. وإذا ما كانت وِقفة العلايلي إلى جانب اللّغة المعاصرة، فإنّنا نجده يُلقي تبعة رمي اللّغة العربيّة بالقصور على كاهل اللُّغَويّين وحدهم الذين «وقفوا موقفاً سلبيّاً لا يحيد عمّا تواضعه سالفو اللُّغويّين»(٤).

ولئن دلّ هذا الكلام على شيء فإنّما يدلّ على حقيقة بقاء بعض اللُّغويّين عند حدود مكتشفاتهم اللّغويّة التي نظروا إليها نِظرة جامدة لا تتغيّر، والتي لم يقبلها العلايلي لأنّ تشدّد اللّغويّين، والكلام للعلايلي، يقود إلى نتائج كأسوأ ما تكون نتائج، أهمّها:
1. قصور العربيّة عن تناول مقتضيات الفكر.
٢. جمود اللّفظ في معناه فلا تجده على مرونة(٥).

وقطع العلايلي شأوًا بعيدًا في الخروج على ذلك حين وعى حقيقة اللّغة وعيًا يتّسم بالفرادة، ويقدّم اللّغة العربيّة لغةً جديدةً ونَضِرة ومُتحوّلة ومتطوّرة، توازي حركة الإنسان في الزّمن، ويعيد خلق لغة تنتمي إلى فكر الإنسان وشعوره وحقيقته، فتتفتّح كلمات جديدة على الحياة كما يقول السيّاب، ذلك لأنّنا أمام مبدع كبير، يمتلك ثقافة عصره، ويعني كلّ ذلك أنّ اللغة – والكلام للعلايلي – يجب أن تتناول من شؤون الحياة ما نحسّه، وما نشعر به، فلا تقصّر عن مقتضيات الفكر ولا يعرف لفظها الجمود، ففي الّلغة العربيّة من عناصر الحياة ما يجعلها لغة العلم والفنّ، وأوسع لغات العالم قاطبة. أفلا تراه يؤكّد ما ذهب إليه أحمد فارس الشدياق حين قال: «اللّغة نظامٌ حيّ ينمو ويتطوّر تماماً مثل الناطقين بها».

فهم العلايلي أسرار اللّغة العربيّة حقّ الفهم، وكان إيمانه الواضح بالتطوّر والتجديد انعكاسًا لمفهوم اللّغة عنده، ومفهوم اللّغة عنده قائم على لغة تعبّر عن ثقافة الإنسان العربيّ وهمومه واهتماماته، ومؤسّسة على فهم واقع البشريّة الحالي وما يواجهها من مشكلات وتحدّيات، وتجديدها بناءً على مُعطيات العصر الحديث «فالمعرفة البشريّة قائمة داخل اللّغة ولا يمكن أن تقع خارجها»(٦).

نظر العلايلي إلى شكوى الناشئة من صعوبة تعلُّم العربيّة، وفسّر هذه الصعوبة في «وجوب تشكيل الكلمة لفهم المعنى، لأنّ المعنى لا يُفهم إلّا بالشكل (الضبط) فالأجنبيّ يقرأ ليفهم، بينما العربيّ يفهم ليقرأ»(٧). وخطَّأ – في ما يتعلّق بصعوبة العربيّة – من يظنُّ أنّ صعوبتها تكمن في ذاتها، فحين قام بتحليل تربويّ وسيكولوجيّ لمعرفة أسباب الشكوى، تبيّن له أنّ صعوبة تعلّم العربيّة لا تكمن في اللّغة ذاتها، إنّما تعُود إلى خطأ الأسلوب التعليميّ من جهة، وإلى خلل المناهج الدراسيّة في مختلف المراحل التعليميّة من جهة ثانية. «فما تعلّمناه، ولمّا نزل نتعلّمه، بات في حاجة كبيرة إلى معاودة درسه على وجهٍ يكون أوفى نصيبًا في معنى الدقّة»(٨). ويعني ذلك أنّ هنالك حاجة ملحّة ومستمرّة لإعادة النظر في مناهج اللّغة العربيّة، وتحديث طُرق تعليمها، وتطوير إعداد من يتولّى تعليمها.
وإذا ما حاول العلايلي أن يعيد للّغة زهوها، فقد انبرى يوضّح ما التبس على الناس من مواقف سلبيّة ترمي العربيّة بالصعوبة، فبيّن أنّ الشكوى الحقيقيّة من العربيّة يجب أن يكون «من يُسْرِها لا من عُسرها، ذلك لأنّ فيها من القابليّات سعَة هائلة جدّاً، لكنّ الناس يتشكّون لأنهم نشؤوا على منطق الشّكوى»(٩).

العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي في إحدي المناسبات الرسمية.

فإذا كانت «كتابة الهمزة وألف اللّين المنقلبة عن ياء أو واو من أوجه صعوبة العربيّة، مثلاً، ففي بعض اللّغات الأجنبيّة ما يضاهي هذه الصعوبة بإملاء كلّ كلمة، كالإنكليزيّة التي تنطوي على اختلافات، وبقايا وزوائد، ومع كلّ ما تجد فيها من هذا، لا تسمع تأفُّفًا يصمّ الآذان»(١٠). وتُفاجأ بعد كلّ هذا بنقّادٍ عاشوا في عهد شكسبير كان انتقادهم لشكسبير أنّه لا يعرف قواعد النّحو. فــــ «المُخَبّص» في قواعد النّحو في الانكليزيّة بات القمّة التي تُحتذى»(١١).

وإذا دلّ هذا الكلام على إحساس العلايلي الأكيد بمقوّمات اللّغة العربيّة التي تميّزها عن سائر اللّغات، فإنّه أرجع أسباب الشّكوى إلى عوامل عدّة بيّن أهمّها: الاتصال العربيّ بحياتنا الذي أضعَف اهتمام الإنسان العربيّ بلغته، ودفعه إلى تغليب اللّغة الأجنبيّة على العربيّة، وسيطرة الإنتاج الفكريّ الغربيّ من كلّ نواحيه على الحياة الثقافيّة العربيّة، فليس لنا أفكار يرغب الغرب في أن يتعرّف إليها، وهذه مسألة شديدة الدقّة والخطورة، بينما نحن في حاجة إلى أنّ نتعرّف بكلّ أفكار الغرب، وسبيلنا إلى التعرّف إليها هو اللغة الأجنبيّة، لذلك بدَت العربيّة هزيلة في نواحٍ عدّة فهل يمكننا أن نعبّر بمعزل عن التفكير؟ لا يمكننا ذلك، لأنّ التعبير غير مستقل عن التفكير. ولا يقلّل هذا من شأن العبقريّات العربيّة وأفكارها الثريّة التي لم يسعفها الحظّ بدرس اللّغات»(١٢).

ومهما يكن من أمر، لا بدّ من أن نصوغ سؤالًا جوهريًّا يتعلّق بالحلول التي وصلت إليها رؤية لغويّ كبير، يمثّل ثقافة عصره، لالتقاط المأزق الذي يعتري لغتنا العربيّة، وكيفية إخراجها من هذا المأزق الخانق؟ وعى العلايلي أزمة اللّغة العربيّة، ورأى أنّ أولى خطوات الإصلاح الّتي تعيد إلى اللّغة العربيّة زهوها ونضارتها، تتمثّل في «إنشاء مؤسّسات خاصّة في شتّى فروع الاختصاص، تهتمّ بترجمة كلّ كتاب وكلّ فكرة، ونشرها لينشط الفكر العربيّ للثقافة ويتفهّمها ويناقشها ويساهم في إعدادها، لأنّ العمل الفرديّ الذي يقوم به بعض العلماء والأدباء لا يكفي لإعداد العقل العربيّ على الوجه الأكمل، وللنّهوض بالمستوى الثقافيّ العامّ».(١٣)

ولعلّ ما يلفت الانتباه هو دعوة العلايلي إلى استخدام العربيّة مبسّطة لتغدو العاميّة نفسها فصحى، فالفرق بين العاميّة والفصحى، والكلام للعلايلي، بعض من مفردات أنيقة والإعراب…. أحذف الإعراب، فلا يعود هناك فصحى وعاميّة، الإعراب هو أساس كلّ شيء، والحلّ تهذيب العامّي القابل للتفصّح وإجراءه على موازين الفصحى أو بإفساح الفصحى لِتَبَنّي مفردات العاميّة التي ترجع إلى أصل فصيح وُلِد مُحرّفاً، أو العمل على تفصيح العاميّة المهذّبة، وهي تحتاج لتستقيم وتنتشر إلى اعتمادها في مراحل التعليم المختلفة، وبذلك تقترب من اللّغة الرفيعة، وتتصّل بها صلة متينة ويعني هذا أنّ اللّغة العاميّة المهذّبة أي القابلة للتفصّح هي لغة الحياة».(١٤)
ولم يكتفِ العلايلي بهذا القدر، بل رأى أنّ البيان – الذي كان أساساً قضيّة من القضايا – لم يعد اليوم، قضيّة فَعَبِّر كيفما تشاء، يقول العلايلي، ما دمت تعبِّر عن شيء له محتوى وقيمة، ويعني ذلك أنّ العلايلي يبحث عن القيمة الفكريّة بغضّ النّظر عن النصّ: هل هو أنيق أو غير أنيق(١٥). وللحَدِّ من التباين اللغويّ ذهب العلايلي إلى أمر حذف السّماع من اللّغة(١٦). وهذا الرأي الذي يُمثّل إشارة واضحة باتجاه القياس «Analogist» يعني أنّ اللّغة مُنتظمة ومُطَّرِدة ويجب إخضاع كلّ ما فيها للقياس والأوزان فلا يُقال بالشذوذ ما وُجد له وجه قياس، ولكنّه يبدو مناقضًا لرأي سيبويه في المسألة التي تمثّل إشارة واضحة باتّجاه السّماع «Anamolies» أو «الشذوذ» الذي يعني أنّ اللّغة فِطرة إنسانيّة(17). فسيبويه يرى أنّه لا مجال في وجود السماع أمام القياس، والقياس لا يُستعان به في صياغة المصادر إلّا في غياب مصدر للفعل في ما سُمع عن العرب، فإذا عُرِف المصدر المسموع لا يجوز القياس، لأنّنا مقيّدون بالمصدر الّذي نطقت به العرب الخُلَّص(18). ونتبيّن من هذا الكلام أنّه إذا ورد السّماع بطل القياس.

ومهما يكن من أمر فإنّ العلايلي يقدّم خصوصيّة رؤيته، فاللّغة العربيّة بأبعادها وأعماقها وخصائصها، وبوصفها أداة للتعبير والتفكير، ولِنَقل العلم والفكر الحديث، تحتاج إلى التحديد الدقيق لتحافظ على قيمتها ومكانتها بين لغات العالم الرئيسيّة. وإذا دعا العلايلي إلى توحيد معاني المشتقّات جميعها للمادّة، فهذا قانون عامّ تخضع له اللّغات كافتها(19). وإليكم أمثلة من العربيّة والانكليزيّة والفرنسيّة. ففي العربيّة قالوا: دفَقَ الماء بمعنى صبّ أو انصبّ، ثم قالوا: ناقة دفاق أي سريعة، ثم اشتقُّوا من دَفَقَ بمعنى أسرع، فقالوا: مشى الدّفقى. وفي الإنكليزيّة والفرنسيّة نوعٌ من هذا التعاون والتأثير. ففي الإنكليزية قالوا: (Plain) أي بسيط الذي قالوا منه (Plainness) أي بساطة و (Plainly) أي ببساطة.

وفي الفرنسيّة قالوا (Automobile) بمعنى السيّارة، ثمّ قالوا (Autocannon) بمعنى المدفع على السيّارة، فانظروا كيف تأثّرت (Auto بمعنى الفرع (Automobile) واكتسبت معناه بعض الشيء، ولو أردنا أن نفهم معنى (Autocannon) على نحو لغويّ لكان معناه المدفع المنطلق وحده أو بنفسه وكلّ ذلك ليس من معنى الأصل، وإنما معناه بالتأصيل عن الفرع(20).

وإذ زخر التّراث العربيّ منذ القدم بمعاجم عدّة كمُعجم «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي (175 هـ) و «القاموس المحيط» للفيروز أبادي (817 هـ)، و «المعجم الوسيط» الّذي صدر عن مجمع اللّغة العربيّة في القاهرة عام 1960وغيرها من المعاجم القيّمة التي رأى فيها العلايلي تقليدًا (Imitation) ينتفي مع تلبية حاجات عصرنا الحاليّ، فـانشغل طويلًا في صناعة «المعجم الكبير» (1954) وهو موسوعة لُغويّة يفرض نفسه في حياتنا الثقافيّة المعاصرة والحديثة (Modernism)، ويجمع فيه ألفاظ اللّغة ومعانيها وتطوّراتها الاستعماليّة المتعلّقة بشؤون الحياة المعاصرة، ويهتمّ بدراسة الألفاظ والمواد اللّغويّة من حيث بنيتها ودلالاتها وتوليدها اشتقاقًا ونحتًا وتركيبًا. وقد شغل هذا المعجم أربعة وعشرين مجلّدًا، وتألّف كلّ مجلّدٍ من ستة أقسام لم يصدر منها سوى أربعة من المجلّد الأوّل. وحين سُئل العلايلي عن سبب عدم نشر المجلّدات المتبقيّة، أجاب: «بدّك مين ينشر». آملًا في نشر معجمه الوسيط الّذي أنجزه عام (1963).

ويبقى أنّنا إذا أردنا أن نخرج بكلّ الإنجازات اللغويّة العربيّة الكبيرة التي قام بها العلايلي وجمعها في كتابه «مقدّمة لدرس لغة العرب»، فإنّ الحديث يطول عن بيانها وشرحها. ولا نجد قبالة هذا إلاّ أن نقول: إنّ العلايلي أعدّ اللّغة العربيّة للوجود، وقدّمها «لغة العلم والفنّ في الشرق كلّه»(21). ونحن إذ «نُعجب لاجتهاداته التي لا تتقيّد ولا تتعبّد، فأيّة كلمة، لا نراها وافية، بما نشعر نحوه من شكر وتقدير»(22).


المراجع

  1. أحمد أبو سعد، العلايلي الفقيه المجدّد واللّغوي الإمام، الشيخ عبد الله العلايلي ، مفكراً ولغويّاً وفقيهاً، (اتحاد الكتّاب اللبنانيين)، بيروت، دار ابن خلدون، الطبعة الأولى، 1984، الصفحة 197.
  2. عبد العلايلي، إشارات النص والإبداع، (حوارات في الفكر والأدب والفنّ)، حوار مع سليمان بختي، بيروت، دار نلسن، الطبعة الأولى، 1995، الصفحة 226.
  3. عبدالله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، بيروت، دار الجديد، الصفحة 85.
  4. المصدر نفسه، الصفحة 19.
  5. المصدر نفسه، الصفحة 72.
  6. علي زيتون، الشعرية بين الرمز والعرفان، بيروت، دار المعارف الحكمية، الطبعة الأولى، 2017، الصفحة 35.
  7. عبد الله العلايلي، إشارات النصّ والإبداع، مصدر سابق، الصفحة 229.
  8. عفيف دمشقيّة، الشيخ عبد الله العلايلي لغويًّا، الشيخ عبد الله العلايلي، مفكّرًا ولغويًّا وفقيهًا، (اتحاد الكتّاب اللبنانيين)، بيروت، دار ابن خلدون، الطبعة الأولى، 1984، الصفحة 50.
  9. عبد الله العلايلي، إشارات النصّ والإبداع، مصدر سابق، الصفحة 227.
  10. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 50.
  11. عبد الله العلايلي، اشارات النصّ والإبداع، مصدر سابق، الصفحة 227.
  12. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 41.
  13. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 108.
  14. عبد الله العلايلي، اشارات النص والإبداع، مصدر سابق، الصفحة 227.
  15. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 11.
  16. عبد الله العلايلي، إشارات النص والابداع، مصدر سابق، الصفحة 229.
  17. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 20.
  18. عبد الرحمن أيوب، اللّغة والتطوّر، القاهرة – مصر، مطبعة الكيلاني، الطبعة الأولى، الصفحتان 10 و 11.
  19. سيبويه، الكتاب، تحقيق د. اميل بديع يعقوب، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1999، الصفحة 16.
  20. عبد الله العلايلي، مقدّمة لدرس لغة العرب، مصدر سابق، الصفحة 20.
  21. المصدر نفسه، الصفحة 9.
  22. اسماعيل مظهر، مقدّمة لدرس العرب، مصدر سابق، الصفحة 5.

الاستشراق

تغيّرت النِّظرة إلى الإستشراق ومقاربته كثيراً منذ أن كتب المفكّر المصري أنور عبد الملك عن أزمته(١) في العام 1963 (الأخلاقيّة في المقام الأوّل بسبب الصّلة بالاستعمار)، ثم أتى مؤتمر المستشرقين التاسع والعشرين المنعقد في باريس في العام 1973 ليُعلن عن «وفاته» وحلول مباحث العلوم الإنسانية المُنشغلة بالشّرق مكانه. ومن ثمّ نشر اِدوار سعيد عمله الكبير «الاستشراق» (1978)، مثابة مضبطة اتّهام، ليُظهِر كيفيّة إنشاء الغرب لِشَرقٍ مُتَخيَّل، ساعد في «تحديد صورة أوروبا (والغرب) باعتباره الصّورة المضادّة». ما نرومه في هذه الصفحات القليلة إظهار بعض الشكوك على مؤسسة الاستشراق سيِّئة الصيّت.

[الاستشراق هو] «اشتغال نفر من العلماء الغربييِّن بأحوال الشرق»

د. عمر فرّوخ

بحسب ما جرى الاصطلاح عليه يُعرّف الاستشراق (Orientalisme) بأنّه دراسة كافّة البنى الثّقافيّة للشّرق من وجهة نظر غربيّة. ويكون المستشرق (Orientaliste) ذلك العالم المُتضلّع في معرفة الشرق وثقافته وآدابه، أمّا أدوار سعيد (1935- 2003)، صاحب الباع الطويل في تفنيد الاستشراق، فيرى أنّ المستشرق «كلَّ من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق»(٢) ويُجمل أحد الباحثين العرب دلالات هذا المفهوم في ثلاثة:

أوّلاً: الدلالة الأكاديمية، أي كون الاستشراق بحثاً جامعيّاً هدفه معرفة الآخرين.

ثانياً: دلالة كونه أسلوباً فكريّاً يقوم على تمايُزَين أساسَين، وجودي ومعرفي، بين غرب يدّعي أنّه يعرف نفسه تماماً (بنفسه) وشرق قابل للمعرفة وعاجز ذاتيّاً عن معرفة نفسه.

وثالثاً: في كون الاستشراق متداخلاً مع بنى الدولة الحديثة في الغرب ومتشابكاً مع توجّهات المجتمع المدني فيه، ما حوّله إلى مؤسسة مُشتركة للتعامل مع الشرق(٣).

الاشتغال بأحوال الشّرق
جوستاف فلوبير، كاتب فرنسي (١٨٢١ – ١٨٨٠).

ويتحدّد الاستشراق في رأي الباحث اللبناني د. عمر فرّوخ (1906 – 1987) في كونه «اشتغال نفر من العلماء الغربييِّن بأحوال الشرق»، ويربط نشوءه بعوامل سياسية أمْلَتها الحروب الصليبيّة، ومن ثم بعوامل دينية بغرض التبشير، وعنده أنّ المُعجبين بأدب العرب المخلصين هم قلة(٤)، وهو يميّز بين طبقتين من المستشرقين: طبقة المستشرقين في الدّول الكبيرة (انجلترا، فرنسا، هولندا)، التي لها مُستعمرات، وبقيّة الدول التي لا تملك مستعمرات. وكان الغالب على المستشرقين في الدول الاستعمارية قلّة الأمانة في البحوث المشرقيّة (والدينية والثقافية منها خاصّة)(٥)، وفي تمييزه يحاول صاحب «العلوم عند العرب» إنصاف المُستشرقين (عموماً) ليذهب إلى القول إنّ الاستشراق ليس عدوّاً للإسلام واللّغة العربية، ويُقدّر أنّه يجب النظر في أعمالهم لا في أسمائهم ودينهم، فبينهم كان هناك يهود ونصارى من الكاثوليك والبروتستانت، فيتمُّ النظر إلى المحسنيّن منهم كما إلى المسيئين(٦).

وكان سبق للعلّامة الأمير شكيب أرسلان (1869 – 1946)، كاتب «لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ (1930) أن انتقد المستشرقين فقال»… فليس مرغليوث(٧) (David Samuel Margoliouth) ولا مُستشرقَة الأفرنج هم الذين يقدرون أن يعقّبوا على أئمة اللّسان العربي وأنْ يُصلحوا خطأهم، ولا سيّما في المسائل اللغويّة البحتة»(٨)، كما أنَّ أحمد فارس الشدياق (1804 – 1887) هاجم المستشرقين الإنجليز خصوصاً، في كتابه الساق على الساق في معرفة الفارياق (طبع في باريس عام 1852)، متَّهماً إيّاهم بجهل اللغة العربية، وبالترقيع «حين يجهلون معاني الكلام»(٩).

إنتاج الصُّوَر والتَّوهُّمات

بدوره لم يجعل د. خليل أحمد خليل كلّ عمل استشراقي مرادفاً للمركزيّة الأوروبية(١٠)، وهو أخذ على أكثرهم «توهُّمَهم»، فكانت معرفتهم مخالفة للمعرفة التاريخيّة العادية، ما جعل «الاستشراق يغدو مُشكلة ذهنيّة، مشكلة فلسفية ونفسانيّة، فكيف يسمح عارف لنفسه بأن لا يكون عقلانياً – وهو قادر على ذلك – فيلجأ إلى توهّمات عن الآخر، وغايته إنكاره لا معرفته كما هو، فينتج مفاهيم شائعة وابتسارات وأحكاماً منحرفة، بدلاً من إنتاجه وعياً طبيعيّاً لمجتمعات تاريخية وواقعية»(١١) في زعمه. وقد يكون سبب هذه التوهّمات أو التخيّلات نمط من الانسحار بالشرق بداية، بالأندلس وبغداد على صورة ألف ليلة وليلة(١٢) وفاقاً للمفكّر العراقي الراحل عبد الأمير الأعسم (1940 – 2019).

ومن ثم أتت الغلَبة بعد نهضة أوروبا، وهذه كانت «المُمَهِّد الحقيقي للاستعمار في القرن التاسع عشر وبعض القرن العشرين»(١٣)، وما صاغته من صور جديدة عن هذا الشرق. وهنا استقرّ في وعينا أنّ الاستشراق في تاريخنا الحديث كان قريناً للاستعمار ومرآةً للتبشير. وآية ذك أنّ الكُتّاب الفرنسييِّن في القرن التاسع عشر، على سبيل المثل، لم يجدوا إلّا الشرق أرضاً خصبة لمخيالهم، بعد أن جرى التحضير لذلك عبر ترجمات النصوص الشرقية الدينية والأدبية وكتابة السِّيَر والرحلات، وقد أدّت ألف ليلة وليلة (التي ترجمها غالان Galland عام 1704) دوراً مُعْتَبَراً في تحفيز المُخيّلة الغربية.
وكما قال الكاتب الفرنسي فيكتور هيجو V. Hugo (1802 – 1885) في مؤلَّفه «الشرقيون Les Orientales» (1829): «في ظلّ حكم لويس الرابع عشر (Louis XIV) كنا هِلِّينييّن (helléniste)، الآن نحن مُسْتَشرقون (orientalistes)». ما ساعدهم كَكُتاب على تخطِّي واقعهم والمباشَرة في كتابة جديدة(١٤)، ومن مصادرهم الثريّة فِكرة النساء في الشرق، وما تستثيره من مواقف وصور غير معهودة في الغرب، ويكفي قول شاتوبريان (1768 – 1848) (Chateaubriand) «سأذهب للبحث عن صور»(١٥)، إذ القراءة والسماع لم تَعُد كافية، بل يجب النّظر وضبط الرؤية.

ولعلّ رحلة الكاتب الفرنسي فلوبير G. Flaubert (1821 – 1880) إلى الشرق، (بدأها في العام 1849 وأنهاها في العام 1851) مُنتدَباً لجمع المعلومات، لا مجرّد رحالة، وانبهار صاحب «مدام بوفاري» (1856) بــ «الأميرة الصغيرة» إنما كانت بوصفه السيّد المسيطر، صاحب الأمر، هي في نظر أدوار سعيد: نموذج للعلاقة بين الشرق والغرب، وهي علاقة القوي المسيطر بالضعيف المغلوب على أمره، وفي زعم كاتب الاستشراق، أنّ فلوبير ليس مسؤولاً عن صورة المرأة الشرقيّة، لكن» هذه المرأة لم تتحدث مطلقاً عن نفسها، ولم تصوّر قط مشاعرها أو تعبر عن وجودها أو تاريخها، بل إنّه هو الذي تحدّث باسمها وصوّرها»(١٦).

وإذا راجعنا اللوحات الفنيّة المصوَّرة من الفنانين الأوروبييِّن في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، لرأينا كيف يُرسَم العالم العربي كمكان غرائبي وغامض، من الرمال والصحراء والخِيَم والقصور، ما يعكس تاريخاً مديداً من الفنتازيا الشرقية التي ما تزال تفعل فعلها إلى اليوم في الأذهان، وقد تحكّمت الصّورة النمطيّة للحريم في أنماط تمثيل نساء الشرق الأوسط وأفريقيا في القرن التاسع عشر، وكما عبّرت بدقّة وبعمق، الباحثة الإنجليزية المُهتمة بتفكيك الخطاب الكولونيالي، داليا غبريال D. Gebrial (١٧).
وقد تصدّى الباحث الجزائري مالك علوله (Malek Alloula) (1937 – 2015) لهذه المقولة في كتابه «Colonial Harem»(١٨)، إذ ركّز في نقده لمسألة «البطاقات البريدية لنساء جزائريات» أيام الاستعمار الفرنسي، والتي كانت تُرسَل إلى المركز، إلى الأفراد بداية ثم يُعاد إنتاجها كصوَر تمثّل الجزائر، استناداً إلى الخلفيّات والنِّظرة النّمطيّة المُسبقة عن نساء الشرق.

نَصُّ الغلَبة

ومن المَطاعن على النَّص الاستشراقي ادّعاؤه المَعرفي، في هيئة مشروع ثقافي وجهد بحثي أكاديمي، وهذا في عرف الباحث العراقي، كامل يوسف حسين، «مجرّد أقنعة»(١٩)، وشاهده على ذلك المستشرق الأميركي، برنار لويس B.Lewis. واستناداً إلى طروحات هذا الأخير، يرسم حسين خمس سمات
للنص الاستشراقي في وضعيّة النزاع:

  • مُهاجمة الخصم وعدم التردّد في الكذب والتشكيك(٢٠)،
  • يعمل هذا النّص في عالم مُغلَق «لا يُفضي إلّا إلى ذاته…، ولا يؤشّر إلى عالم رحب يأخذ ويعطي، يؤثّر ويتأثّر»،
  • ولا يُقْدِم النّص على المقارعة العقلية والصراع المنطقي، وإنّما «من طريق سلب وجود هذا الآخر نهائيّاً، وبكلمة نفي هذا الوجود»،
  • يحرص النص الاستشراقي «على فصل المُعْطى الفكري عن سياقه التاريخي، من ناحية، ونسيجه السياسي والاجتماعي من ناحية أُخرى»(٢١)،
  • ادّعاء النّص التنكُّب لمشروع فكري ومعرفي فحسب، إذ يدَّعي صفة الحقيقة ويريد «فرضها على الآخرين»(٢٢).

والحال، كثيرة هي الشكوك على الاستشراق، ولا سيّما منذ تَحوُّله إلى «مؤسّسة» سبقت وواكبت وبرَّرت مرحلة الاستعمار التي شملت كثرة من البلدان في آسيا وأفريقيا والمشرق، ونجحت في إنتاج خطاب غير علمي في الأعمّ (حول الأعراق والبنى والذهنيّات والثقافة)، ولكنّه تَقَنُّع بالجهد الأكاديمي والعمل البحثي الصّرف، وقد عبّر هذا الخطاب عن مواقع الهيمنة والتسلّط التي وصل إليها الغرب، فترجمت القوة معرفة تلبّست لبوس الكونية. والتواطؤ بين الاستشراق والاستعمار تنامى، بحيث كان «من المُحال فصل هذه المصالح من طرف واحد عن السيّاق الإمبريالي العام الذي بدأ مرحلته العالمية الحديثة في العام 1798»(٢٣)، كما يقول سعيد، ولم يجد تناقُضاً في الانشغالين «ففي وسع المرء أن يكون مُستشرقاً إمبرياليّاً وكاتباً عظيماً»(٢٤).


المراجع

  1. أنور عبد الملك، «الاستشراق في أزمة»، نُشر النص أول مرّة في باريس في فصليّة Diogène، في العام 1963، وهي المجلّة الدوليّة للعلوم الإنسانية تصدُر برعاية اليونسكو، ثم نشر البحث باللغة العربية في مجلة الفكر العربي (لبنان)، عام 1983، في العدد 31 ، كانون الثاني – آذار، المُخصص للاستشراق.
  2. أدوار سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة د. محمّد عناني (القاهرة، رؤية للنشر، 2008)، في 553 صفحة. ص 44. وهذه الطبعة الجديدة المترجمة تستند إلى الطبعة الإنجليزية المنقحة والمزيدة في العام 1995. وقد سبق للنص الأصلي الأول الذي حمل عنوان: الاستشراق: المعرفة، السلطة، الإنشاء أن صدر في بيروت في العام 1980، في طبعات عدة، عن مؤسسة الأبحاث العربية، بترجمة كمال أبو ديب. في 368 صفحة.
  3. نقلاً عن محمّد رضا وصفي، «مراجعة الاستشراق في مجلة»، مجلّة آفاق الحضارة الإسلامية، العدد 6. المقالة منشورة على الشبكة .
  4. د. عمر فروخ، «المستشرقون: ما لهم وما عليهم»، مجلة الاستشراق، العدد الأول، (بغداد)، 1987. ص 54.
  5. المصدر نفسه، ص 56.
  6. المصدر نفسه، ص 57.
  7. مستشرق انجليزي (1858 – 1940)، تحوّل من اليهودية إلى الأنجليكانية، ودرس اللغة العربية في جامعة أوكسفورد من عام 189 الى العام 1937.
  8. شكيب أرسلان، من مقدَّمة النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي لمحمد أحمد الغمراوي، القاهرة، 1929. مذكور عند د. ميشال جحا، «موقف العرب من المستعربين»، مجلة الاستشراق (بغداد)، العدد الأول، ص 36.
  9. المصدر نفسه. ص 36.
  10. د. خليل أحمد خليل، «الاستشراق مُشكلة معرفة أم مشكلة اعتراف بالآخر؟»، مجلة الفكر العربي (لبنان)، صدرت عن مركز الإنماء العربي، العدد 31، العام 1983. ص 55.
  11. المصدر نفسه، ص 58.
  12. د. عبد الأمير الأعسم، «الاستشراق من منظور فلسفي عربي معاصر»، مجلّة الاستشراق (بغداد)، العدد الأول، كانون الثاني، 1987. ص 18.
  13. عبد الأمير الأعسم، «الاستشراق من منظور فلسفي عربي معاصر»، مجلة الاستشراق (بغداد)، العدد الأول، كانون الثاني، 1987. ص 18.
  14. Colette Julliard ,”Imaginaire et Orientalisme chez les ecrivains français du 19 èm siècle “, Revue Confluences, Hiver 1995 – 1996, P118.
  15. المصدر السابق نفسه، ص 184.
  16. أدوار سعيد، الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، ترجمة د. محمّد عناني (القاهرة، رؤية للنشر، 2008)، في 553 صفحة. ص 49.
  17. داليا غابرييل، «سياسات الحب»، والمقال الأصلي هو بعنوان:
    «Decolonising Desire: The Politics of Love» ترجمة عبدالله البياري، 13 شباط/ فبراير 2017. المقال متوافر على الشبكة.
  18. Malek Alloula, Le Harem colonial, images d’un sous-érotisme, essai illustré (Paris, Genève, Slatkine éditeur, 1981 ; Séguier, 2001)
  19. كامل يوسف حسين، ترجمة وإعداد «خصائص النص الاستشراقي في وضعية النزاع: ملاحظات أولية حول سجال برنارد لويس وإدوار سعيد»، مجلة الاستشراق (بغداد)، العدد الثاني، شباط، 1987. ص 114.
  20. المصدر نفسه، ص 114.
  21. المصدر نفسه، ص 115.
  22. المصدر نفسه، ص 116.
  23. أدوار سعيد، الاستشراق، تذيييل العام 1995، مصدر مذكور، ص 507. ويمكن التوسع في نظرة سعيد في كتابه المهم: الثقافة والإمبريالية..(1993)، وقد ترجمه كمال أبو ديب إلى اللّغة العربية (بيروت، دار الآداب، 1997)، في 425 صفحة. وصدر الكتاب في عدة طبعات (الطبعة الرابعة عام 2014).
  24. أدوار سعيد، السلطة والسياسة والثقافة (حوارات مع أدوار سعيد) (2001)، (بيروت، دار الآداب، 2008)، في 496 صفحة . إعداد وتقديم غاوري فسوا ناثان، وترجمة د. نائلة قلقيلي حجازي. ص 234.

مقاومة دروز فلسطين لقانونُ الجنسيَّة الإسرائيلي

ممّا لا شك فيه، أنّ دولة الاحتلال الصهيوني التي قامت على أرض فلسطين العربية عام 1948، كانت بمثابة كيان استعماريّ استيطانيّ توسّعيّ عنصريّ، وبالطّبع، إنَّ كلّ كيان قام على هذا الأساس سيفرز قوانين ذات طابع عنصريّ، بل تنضح بالعنصرية. حيث إنّ أيّة دولة قامت على الجثث والمجازر والدماء، فإنّها لا تعرف السَّلْمِ والسّلام، ومستحيل أن يكون لهما وجود في قاموسها الإجرامي. ولم يكن «قانون الجنسيّة الإسرائيلي» إلّا أحد هذه القوانين التي أفرزها وجود هذه الدولة في وطننا العربي، وفوق بقعة غالية من أرضه، هي فلسطين. (وهكذا هو حال «قانون القومية اليهوديّة» الابن…). فكيف وُلِد هذا القانون (قانون الجنسيّة الإسرائيلي)؟ وما هي طبيعته؟ وما أبرز التعديلات التي أُدخلت عليه؟ وماذا عن موقع العرب الفلسطينيين فيه، لا سيّما موقع أبناء طائفة الموحّدين الدروز في فلسطين وفي هضبة الجولان السورية المحتلّة؟ وكيف تمّت مواجهته ومقاومته ولا تزال عبر الوسائل والطرق المختلفة؟

ولادة قانون الجنسيّة الإسرائيلي: لمحة تاريخيّة

قانون الجنسية لأيَّة دَوْلة هو التشريع الذي ينظّم العنصر السكّاني فيها وفقاً للمبادئ والسياسات الأيديولوجية لتلك الدّولة. وقانون الجنسيّة الإسرائيلي لا يخرج عن هذه القاعدة. وإذا كان التّعريف الرّسمي (لدولة إسرائيل) أنها «دولة الشّعب اليهودي»، فإنَّ قانون الجنسيّة الإسرائيلي جاء ليؤكّد «يهوديّة» العنصر السكّاني للدولة، وبالتالي يحافظ على صفة الدولة كدولة يهوديّة. هذا هو الأساس الأيديولوجيّ لتشريع الجنسية الإسرائيلي.

وقد قدّم وزير الداخلية الإسرائيلي مشروع قانون الجنسية الإسرائيلي إلى الكنيست الأوّل في 3/7/1950. ولكنّ تأجّل البتّ في أمره بسبب حلّ الكنيست. وحين قُدِّم المشروع ثانية إلى الكنيست الثاني في تموز 1951. قام دافيد بن غوريون، رئيس الوزراء، بشرح النقاط الرّئيسة للمشروع الذي اعتبره مكمّلاً لقانون العودة، وبيّن: «أنَّ هذين القانونين معاً هما العهد الذي وَعَدنا به كل يهودي في المنفى…، وأنَّ إسرائيل ليست دولة يهوديَّة فقط، لأنَّ أغلبية السكّان من اليهود، ولكنّها دولة لجميع اليهود حيثما وُجدوا، ولكلّ يهودي يرغب في المجيء إلى هنا… إنَّ هذا الحق موروث لليهودي لمجرّد كونه يهوديّاً». وأكَّد بن غوريون أنَّ (إسرائيل) لم «تُنشئ» لليهود حقّاً بالعودة إليها، ولكنها، «تُعلنه» فقط، إذ إنَّ هذا «الحق سابق لدولة إسرائيل».

أقرّت الكنيست مشروع القانون بأغلبية 43 صوتاً ضد 17، وكان ذلك في أوّل نيسان 1952، وأصبح القانون نافذ المفعول في 14/7/1952. يتّصف قانون الجنسيّة الإسرائيلي بصفتين رئيستين هما: ازدواج الجنسيّة، والصّفة العنصريّة.

وبعد قيام (دولة إسرائيل) اتَّخذ مبدأ وحدة «الشعب اليهودي» بُعْداً سياسيّاً وقانونياً أكثر وضوحاً، ولكنّه في الوقت نفسه أشد ازدواجية. أَعلنت الوكالة اليهودية (إسرائيل) عام 1948 دولة لجميع اليهود وليست فقط لليهود الذين يقطنون فيها. وتأكّد هذا الشعار السياسي في سَنِّ قانون العودة عام 1950 الذي أعطى لكلّ يهودي الحقّ في «العودة» إلى (إسرائيل)، دافيد بن غوريون، قال: «حين نقول أُمّة يهودية واحدة فإنّه يجب علينا ألّا نهمل حقيقة أنّ هذه الأمة اليهودية موزّعة في جميع أقطار العالم، وأنّ اليهود الذين يعيشون في الخارج هم مواطنون في الدّول التي يعيشون فيها… أمّا نحن، أولئك الذين انتهت هذه الازدواجية بالنسبة لهم وأصبحوا

مقيمين في دولة إسرائيل… فإنَّه يجب علينا ألّا نهمل وضع هؤلاء اليهود الذين ليسوا بيننا». وبرغم هذه السياسات المُعلَنة على وحدة «الشعب اليهودي»، وعلى «إنهاء الازدواجية» بالهجرة إلى (دولة إسرائيل) جاء تشريع الجنسية الإسرائيلي لعام 1952 مشجّعاً لهذه الازدواجية. في ضوء ذلك نتساءل: لماذا جاءت طبيعة هذا القانون عنصريّة فاقعة؟ وما أبرز التعديلات التي أُدخلت عليه، وهل طالت الطبيعة العنصريّة له أم زادتها حِدّة ووقاحة؟

من هنا نستطيع القول: إنّ دولة تتّخذ شعاراً لها: «اليهود شعب الله المختار»، لا يمكن بأيَّة حال من الأحوال أن تتعاطى مع «الآخرين» باللِّين والحُسنى والديمقراطيّة، مهما أطلقت من شعارات ديمقراطية، ومهما ادّعت أنها تمثّل «واحة ديمقراطية» في هذا الشرق. إذ إنّ إطلاق الشّعارات شيء، وتطبيقها على أرض الواقع شيء آخر. فكيف بالأحرى إذا كان الشعار التاريخي لهذه الدولة، مدعوماً بقانون يتّخذ صفة «الشرعيّة»؟ سيكون التمييز العنصري هو الجوهر والأساس فيه ولا شك، ولا شيء غير ذلك. فكيف تتجلّى صفة العنصريّة في قانون الجنسيّة الإسرائيلي؟

ينصّ القانون على منح الجنسية الإسرائيلية للمقيمين من غير اليهود الذين كانوا مواطنين فلسطينيين ومسجّلين بموجب مرسوم تسجيل السكّان الصادر عام 1949. قال أحد النواب، أثناء مناقشة المشروع في الكنيست، إنّه لو تم تطبيق هذه الشروط لما حصل إلّا 10% من العرب الموجودين في (إسرائيل) على حق التجنّس لأنّه من الصّعب جدّاً توفّر شرط «الإقامة». وعدد قليل من الفلسطينيين كانوا يحملون جوازات سفر في عهد الانتداب. أمّا أولئك الذين كانوا يحملون هويّات شخصية فإنَّهم إمّا فقدوها أو سلموها للقوات الصهيونية أثناء الحرب. كما أنّ الكثيرين من العرب كانوا قد استُثنوا من عمليات تسجيل السكّان، لأنه كان هناك «محاولة متعمّدة لعدم تسجيل قرى عديدة». لهذه الأسباب اقترح النّواب المعارضون منح الجنسية الإسرائيلية لجميع الفلسطينيين الذين كانوا في البلاد بصورة شرعيّة. إلّا أنّ هذا الاقتراح هُزم.

كما نصّ القانون على شرط آخر مُؤدّاه أنّه يجب على الفلسطيني الذي يريد الحصول على الجنسية الإسرائيلية أن يكون مُلمّاً باللغة العبرية. وقد احتجّ بعض النواب على هذا الشرط لأنّ اللغة العربيّة كانت لغة رسمية في عهد الانتداب ولذلك اقترحوا حذف هذا الشرط، أو إعطاء اللغة العربية مركزاً مساوياً للعبرية. وقد أخذ القانون بالحل الأول.

وبقي على الفلسطيني الذي يريد الحصول على الجنسية الإسرائيلية أن ينال «استنساب»: وزير الداخلية صاحب الصلاحيات الواسعة بموجب القانون.

لقد دافع المؤيّدون للقانون عن الصفة العنصرية فيه، وحاولوا تبريرها، فقال حاخام صهيوني «إنّ الجنسيّة الإسرائيليّة بالنسبة إلى اليهود ما هي إلّا «استعادة لشيء مفقود» ولذلك فإن استعادتها «تلقائية». أمّا بالنسبة للآخرين فليس الأمر كذلك. وأقرّ حاييم كوهين، وزير العدل آنئذ، أنّ التمييز العنصري الوارد ليس سببه قانون الجنسية أو قانون العودة. إلّا أنّ الوزير أغفل أنّ قانون العودة أصبح جزءاً لا يتجزَّأ من قانون الجنسيّة. وحاول هذا الوزير أن يعطي تفسيراً آخر، فقال: «إنَّ أي تمييز في القانون ليس عنصريّاً بل أُريدَ به أن يميّز بين الذين يُعتَبرُ ولاؤُهم لإسرائيل أمراً مفروغاً منه والآخرين الذين عليهم إثبات ذلك».

والمعروف أنّ هذا القانون الذي صدر عام 1952، أُدخلت عليه تعديلات واسعة: التعديل الأول عام 1958، والتعديل الثاني عام 1968، والتعديل الثالث عام 1971، والتعديل الرابع عام 1980… لكنّ هذه التعديلات لم تُحدِث ما كان مُتوقَّعاً منها لجهة «التخفيف من عنصريّتها»… بل ما جرى هو العكس تماماً. كما تمّ اللَّعب على الكلام في بعض العبارات حيث «استَخدم القانون كلمة (البلاد)، وفي هذا إشارة إلى أنَّ المقصود من ذلك هو فلسطين كلها، وليس (إسرائيل) فقط. كما يلاحَظ أنّ القانون استخدم كلمة «شخص» علماً بأنَّ المقصود هو كلمة «يهودي» لأنَّ هذه المادة بالذات خاصة باليهود حصراً.

أمّا على صعيد تطبيقات قانون الجنسيّة الإسرائيلي، فقد عدّد قانون الجنسية ستّ طرق لاكتساب الجنسيّة الإسرائيليّة. إلّا أنَّه يمكن تصنيف هذه الطرق السّت إلى فئتين: الأول تتعلّق باليهود والأخرى بغير اليهود. وهكذا فإنّ قانون الجنسية الإسرائيليّ يتضمن عمليّاً تشريعين متميّزين للجنسية، ولكلٍّ منهما إجراءات مختلفة عن الآخر، ونشأت عن كلٍّ منهما نتائج تطبيقيّة مختلفة.

فعن إجراءات اكتساب الجنسية لليهود: يكتسب اليهودي المهاجر حق الجنسية الإسرائيلية بحكم «العودة» أمّا الإجراءات الواجب على اليهودي أن يتخذها للحصول على الجنسيّة فهي أن «يعود» إلى (إسرائيل)، أو يعبّر عن رغبته في الاستقرار في (إسرائيل) إذا كان خارج حدودها. ولم يُشِر القانون إلى أيّة إجراءات أخرى. وبموجب القانون يكتسب اليهودي المهاجر إلى (إسرائيل) الجنسية الإسرائيلية «فوراً» بمجرد دخوله (إسرائيل). أمّا الجنسية الاسرائيلية لغير اليهود: لأغراض قانون الجنسية، يشمل تعبير «غير اليهود» نظريّاً الفلسطينيين الذين ظلّوا في (إسرائيل) بعد قيامها، وغير الفلسطينيين. ورسم القانون لكل فريق طريقاً خاصّاً به لاكتساب الجنسية. وأما من الناحية العمليّة، فإنَّ إجراءات التجنُّس لغير الفلسطينيين هي تقريباً بدون معنى، لأنّ (إسرائيل) لا تمنح حق الإقامة فيها لغير اليهود بسهولة. لذلك يقتصر البحث على الفلسطينييِّن المقيمين في (إسرائيل).

اكتساب الجنسية للفلسطينييِّن
في حين يكتسب اليهودي المهاجر، أو الذي يعبّر عن رغبته في الهجرة إلى (إسرائيل)، الجنسية الإسرائيلية فوراً وتلقائيّاً وبدون اتخاذ أيّة إجراءات، يلزم الفلسطيني وحده باتّباع إجراءات التجنُّس الشائكة التي حددها القانون في المادة الثالثة. وعلى الفلسطيني أن يتقدّم بطلب إلى السلطات الإسرائيلية، وأن يكون مستوفيَاً للشروط التي حددها القانون. ومع ذلك فإنَّ استيفاء تلك الشروط لا يعطيه الحق باكتساب الجنسية الإسرائيليّة حُكماً، إذ عليه أيضاً أن يحصل على موافقة وزير الداخلية. وإذا قرر الوزير رفض الطلب، فإنّ قراره قطعي وغير قابل للطَّعن.

مظاهرة ضد قانون الدولة اليهودية المقترح في تل ابيب (14 تموز 2018).

نتائج تطبيق القانون على الفلسطينيين
هناك ثلاث نتائج مباشرة ترتَّبت على إصدار وتطبيق قانون الجنسية الإسرائيلي وتأثّر بها الفلسطينيون:

أولاً: التجريد من الجنسية: فبعد قيام (دولة إسرائيل) توقَّف العمل بقانون الجنسية الفلسطيني الصادر عام 1925. وحتى صدور قانون الجنسية الإسرائيلي عام 1952 استقر اجتهاد المحاكم الإسرائيلية على اعتبار الفلسطينيين بلا جنسية. ومع صدور قانون الجنسيّة تم رسمياً إلغاء قانون الجنسية الفلسطيني بأثر رجعي اعتباراً من تاريخ قيام (الدولة). وهكذا فإنّ قانون الجنسية الإسرائيلي جرّد الفلسطينيين من جنسيّتهم وأصبحوا «بلا جنسية».

ثانياً: المقيمون بلا جنسيّة: ولما كانت الفقرة (أ) من المادة الثالثة من قانون الجنسية الإسرائيلي وضعت شروطاً صعبة لتجنُّس الفلسطينييِّن، فإنَّ الذين لم يتمكّنوا من استيفاء الشروط التي حدّدها القانون، ولم يتمكّنوا من الحصول على موافقة وزير الداخلية، ظلُّوا بدون جنسية، وما زالوا كذلك حتى الآن.

ثالثاً: وقد جاء التعديل الثاني لقانون الجنسية عام 1968 واستحدث طريقة منح الجنسيّة الإسرائيلية بحكم «الولادة والإقامة» في (إسرائيل). ويبدو من ظاهر النّص أنَّ أي فلسطيني وُلد في (إسرائيل)، ولم يحصل على الجنسيَّة الإسرائيليّة لأنَّ أحد والديه لم يتمكن من الحصول عليها، له الحق في أن يحصل على الجنسية الإسرائيلية بشرط أن يقدّم طلباً حين يبلغ سن الثامنة عشرة وقبل أن يصل إلى سن الحادية والعشرين، وأن يكون مقيماً في (إسرائيل) قبل تقديمه الطلب بخمس سنوات متواصلة، وأن يثبت أنّه لم يحكم عليه بجرم ضد أمن (دولة إسرائيل)، ولم يحكم عليه بجرم آخر لمدة خمس سنوات أو أكثر، وأن يوافق وزير الداخلية على الطلب. وتطبيقاً لهذه الشروط فإنّ الفلسطيني الذي يولد بلا جنسيّة سيظل بلا جنسيّة حتى يبلغ سن الثامنة عشرة على الأقل، ثم يقدم الطلب ويستوفي الشروط الأخرى. وإن لم يستوفها فسيظلّ بلا جنسيّة. ثم إنَّ الفلسطيني الذي وُلِد بلا جنسيّة، وتجاوز الحادية والعشرين يوم صدور هذا التعديل، سوف يبقى كذلك بلا جنسيّة.
بعد هذه اللمحة التاريخية الموجزة عن قانون الجنسية الإسرائيلي، والذي أَعلن على أثره مؤخّراً رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو (قانون القومية) للدولة اليهودية الإسرائيلية، وهو استكمال لقانون الجنسية الإسرائيلي السابق، وأحد إفرازاته العنصرية… وقد أقرّت (إسرائيل) «قانون الدولة القومية» لليهود بتاريخ 19 تموز/يوليو 2018، حيث ينصّ على ما يلي:

  • ينصّ القانون على أنّ إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي وأنّ حق تقرير المصير في إسرائيل يقتصر على اليهود، ويَعتبر القدس الموحَّدة عاصمة لإسرائيل.
  • ويشجع القانون الاستيطان اليهودي ويلغي المكانة الرسمية للُّغة العربية.
  • وأقَرَّ الكنيست المؤلّف من 120 عضواً قانون «الدّولة القومية» بموافقة 62 نائباً ومعارضة 55 وامتناع نائبين عن التصويت، وسط غضب النّواب العرب.

أبرز سمات القانون:

  • القانون صدر بعد وقت قصير من إحياء الذكرى السبعين لقيام دولة إسرائيل.
  • ينصّ على أنّ «إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي» وأنّ حقّ تقرير المصير فيها «يخصّ الشعب اليهودي فقط».
  • من القوانين الأساسية التي تُستَخدم كدستور لعدم وجود دستور حتى الآن في دولة إسرائيل.
  • ينزع القانون عن اللّغة العربية صفة اللّغة الرسمية إلى جانب العبرية.
  • نصّ القانون على أنَّ الدولة تعتبر تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية وستعمل على تشجيع ودعم تأسيسه.

وكان من الطبيعي أن يثير إقرار هذا القانون غضباً على الصعيد الفلسطيني والعربي، وترحيباً إسرائيليّاً بالمقابل حيث:

  • رحّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بالقانون قائلاً «لحظة حاسمة في تاريخ دولة إسرائيل تكرّس لغتنا ونشيدنا وعلَمنا».
  • منتقدو القانون يقولون إنَّه سيعمِّق إحساس الفلسطينيين بالغربة حتى بعد إجراء بعض التغييرات.
  • النائب العربي في الكنيست أحمد الطيبي عبّر للصحفيين عن صدمته وحزنه معلناً «موت الديمقراطية».
  • سرى الغضب بين السكّان العرب واصفين القانون بالعنصري وأنّه يغرس البذور لقيام دولة فصل عنصري. بينما مزّق نوّاب عرب نُسَخاً من القانون أمام نتنياهو وألقوا به في وجهه، كتعبير صارخ عن معارضتهم.

كما ندّد زعماء فلسطينيون بالقانون. وقال صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين في بيان: «شعبنا هو من يقرر مصيره على أرضه، وهو من قرر لغته وعلمه ونشيده، فنحن أمّة راسخة في هذه الأرض منذ فجر التاريخ وسنبقى صامدين ومتمسّكين بحقنا التاريخي المشروع والأصيل في تقرير المصير». في حين كانت المظاهرات والاعتصامات تعمّ كافّة المدن والقرى الفلسطينية، ومن بينها بالطبع القرى الدرزية في شمال فلسطين المحتلة، معبّرة عن رفضها لهذا القانون العنصري بامتياز.

سميح القاسم… شاعر المقاومة الفلسطينية.

في ظلّ هذا الوضع نتساءل: أين موقع دروز فلسطين وموقفهم من هذا الموضوع؟ وأين موقع دروز هضبة الجولان السورية المُحتلة وموقفهم أيضاً منه؟ وماذا بين الأمس واليوم؟

فبالنسبة لأبناء الطائفة الدرزية التوحيديّة في فلسطين المحتلّة، وقبل ولادة دولة الاحتلال الصهيوني التي أطلق عليها اسم «إسرائيل»، يعيش معظم الدّروز الفلسطينيّون في منطقة الشمال. ويشكلون نسبة 8 بالمئة من مجمل السكان العرب هناك. وقد وصلت أعدادهم في عام 2019 إلى نحو 143،000 نسمة، أي بمعدل 1،6 بالمئة من السكان في دولة الاحتلال الصهيوني (إسرائيل). يضاف إليهم السوريون الدروز القاطنون في هضبة الجولان التي احتلَّتها (إسرائيل) عام 1967 من سوريا وضمّتها في عام 1981 بشكل غير شرعي، وهم من المقيمين الدائمين بموجب قانون مرتفعات الجولان. وقد رفضت الأغلبية الساحقة منهم قبول الجنسيّة الإسرائيليّة واختاروا الاحتفاظ بجنسيّتهم السورية والهوية السورية… هذا، ويسكن أبناء الطائفة الدرزية في 18 قرية وبلدة تقع جميعها على رؤوس الجبال في شمال فلسطين التاريخيّة.

والواقع أنّه منذ قيام (إسرائيل) عام 1948، رفض الموحّدون الدروز ترك قراهم وبيوتهم ومغادرتها، مفضّلين البقاء والموت فيها على الهجرة أو التهجير. ومع ذلك فقد تعرّضوا لحملة من الدسّ والافتراءات والتّشويهات من البعض المتجاهل لموقفهم الرافض والمقاوم للانتداب البريطاني والاحتلال الإسرائيلي فيما بعد، ولحقيقة تاريخهم النضالي العربي المشرّف في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، وبخاصة في ثورة ١٩٣٦ حيث شاركت سريّة درزية بقيادة حمد صعب في معظم معارك تلك الثورة، وفي أثناء حرب فلسطين سنة ١٩٤٨ حيث شارك العشرات من دروز لبنان وسوريا في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي وكان مدير الإذاعة والإعلام في ذلك الجيش هو المناضل المعروفي علي ناصر الدين، إبن بلدة بمريم المتنيّة، مؤسس «عصبة العمل القومي».

كان عليهم تجرّع هذه الكأس بصبر وحكمة وتعقّل رغم المرارة والحسرة الناجمتين عن هذا الموضوع، دون أن يتزعزع إيمانهم بالوجود والكرامة والتشبّث بالأرض قيد أنملة.

يعيش الدروز في عدد من قرى الجليل وجبل الكرمل بشكل منفرد مثل بيت جن وجولس ودالية الكرمل وساجور وعين الأسد ويركا، وتضم بعض القرى التي يشكل غالبيَّة سكانها من الدروز في إسرائيل على أقليّة مسيحيّة عربيَّة مثل حُرفيش والمغار والبقيعة وكِسرى – كفرسميع وعسفيا وغيرها. وتضم كل من كفر ياسيف والرامة الجليليّة ذات الأغلبيّة المسيحيّة على أقلية من الموحدين الدروز، ويعيش الموحدون الدروز في عدد من قرى الجليل اختلاطاً بالمسلمين والمسيحيين مثل أبوسنان وكفر ياسين والمغار وشفاعمرو والرامة الجليليّة.أمّا في الجولان الواقع تحت السيطرة الإسرائيلية، فيتوزّع الدروز فيه بين بقعاثا،وعين قنيَة، ومجدل شمس ومسعدة.

والجدير بالذكر، أنّ بلدة «دالية الكرمل» هي أكبر البلدات الدرزيّة في فلسطين التاريخيّة. وتليها بلدة «يركا»، ومن بعدها «المغار»، ثم «بيت جن»، و«عسفيا»… واللائحة التالية تستعرض تعداد السكان الدروز في القرى والبلدات الدرزية، بناء على التقسيم الإداري الإسرائيلي في الداخل:

المنطقة الشماليَّة
(لا يشمل منطقة الجولان الفرعية)
منطقة حيفا هضبة الجولان
(قسم الفرعي من المنطقة الشماليَّة)
يركا (16،400 – 97.9%) دالية الكرمل (16،700 – 97%) مجدل شمس (10،930 – 99%)
المغار (12،900 – 57.9%) عسفيا (9،200 – 76%) بقعاثا (6،485 – 100%)
بيت جن (11،700 – 99.8%) مسعدة (3،592 – 100%)
كسرى-كفرسميع (8،100 – 95%) عين قنية (2،033 – 99%)
جولس (6،300 – 100%)
يانوح-جت (6،500 – 100%)
حُرفيش (6،000 – 96.3%)
شفاعمرو (5،700 – 13.9%)
البقيعة (4،500 – 78%)
ساجور (4،148 – 100%)
أبو سنان (4،100 – 30%)
الرامة الجليليّة (2،400 – 31%)
عين الأسد (871 – 100%)
كفرياسيف (348 – 4%)

والحقيقة: كثيراً ما عمد الإسرائيليون عبر أساليب شتّى، في ظل القانون العنصري الإسرائيلي، إلى محاولات استيعاب الدروز وإخضاعهم عنصريّاً لجعلهم تماماً – كما جاء في بعض الوثائق الصهيونيّة المكتشفة مؤخّراً – «سكيناً في ظهر أُمّتهم»، بما يخلق هوّة كبيرة بينهم وبين مواطنيهم العرب، ويقطع بالتالي طريق عودتهم إلى أحضان الأمّة العربيّة والإسلاميّة. حيث إن أقصر الطرق لاستعباد أي شعب أو مجموعة بشريّة هو قطع جذورها الحضاريّة، وتشويه أصولها ومحو ذاكرتها الجماعيّة. وهذا ما يواجهه دروز فلسطين، ولا يزالون. إلّا أنّ النتيجة لم تكن كما يريدها الإسرائيليّون وأعوانهم.

هذا، وقد حاول الإسرائيليّون بعد احتلالهم لهضبة الجولان السوريّة، وضمّها لاحقاً، تطبيق برنامجهم السابق الذي طبقوه مع دروز فلسطين، على صعيد الجنسيّة الإسرائيليّة والهويّة الإسرائيلية… لكنهم لم يحصدوا إلّا الفشل أيضاً، رغم محاولاتهم العديدة والمتكرّرة، مما يؤكّد حقيقة واحدة مفادها أنَّ طائفة الموحِّدين الدروز هي طائفة لا تقبل الذلّ والهوان والخضوع والإخضاع تحت أي ظرف كان، ومهما كانت الصعوبات. هي طائفة وطنية عروبية إسلامية عبر التاريخ، ولن تؤثّر الدسائس والتشويهات والافتراءات على حقيقة تاريخها مطلقاً…

هذا، ما عاشه أبناء الموحدين الدروز في هضبة الجولان منذ وقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب حزيران 1967، وبعد قانون الضمّ عام 1981. وكما أوضح الجدول السابق أن هناك أربع قرى درزيّة متبقية في الجزء الذي ضمته إسرائيل من مرتفعات الجولان – بقعاثا وعين قنية ومجدل شمس ومسعدة، يعيش فيها 23،000 درزي. معظم سكان الدروز في مرتفعات الجولان يعتبرون أنفسهم سوريين ويرفضون الحصول على الجنسيّة الإسرائيلية، وبدلاً من ذلك يحملون وضع إقامة دائمة في إسرائيل، وبدلاً من جواز سفر إسرائيلي يستخدمون وثيقة مرور إسرائيلية صادرة من إسرائيل للسفر إليها، تترك فقرة الجنسية فارغة.

ومنذ اعتماد قانون مرتفعات الجولان لعام 1981، أصبحت الأراضي خاضعة للقانون المدني الإسرائيلي، وأدمجت في النظام الإسرائيلي للمجالس المحلّية. وبعد ضم مرتفعات الجولان في عام 1981، قدمت الحكومة الإسرائيلية الجنسية لجميع غير الإسرائيليين الذين يعيشون في المنطقة. ولكنّها رُفضت بالمطلق…

عشرات الآلاف يشاركون بمظاهرة نظمها الدروز في تل ابيب ضد قانون الدولة اليهودية (4 آب 2018).

فكيف كان ذلك؟ وما هي الإجراءات التي اتُّخذت؟ وماذا كانت النتيجة؟

لقد كان واضحاً، منذ البداية تقريباً أنَّ الإسرائيليين قرروا البقاء في الجولان. لم يدّعوا – كما فعلوا في الضفة الغربية وقطاع غزة – أنهم سيحتفظون بالقانون المحلي ويدخلون عليه تعديلات بأوامر عسكرية. وعلى الرغم من أنَّ إسرائيل لم تزعم قط أنه يوجد «فراغ» في السيادة هناك، فقد ألغى المحتلُّون القانون السوري برمَّته على الفور، وأنشأوا حكماً عسكرياً. واستُبدلت العملة السورية بعملة إسرائيلية. وتمَّ إصدار لوحات معدنيّة إسرائيلية للسيارات (بأرقام خاصة). وصودرت الهويّات الشخصية السورية، واستُبدلت بهويّات عسكرية إسرائيلية…

وفي زمن الاحتلال، عزلت إسرائيل رؤساء بلديات قرى الجولان، وحاولت أن تشجّع القادة التقليديين المحلييِّن، وأن تعيد إحياء التنافس العشائري المحتضر؛ وقد باءت هذه المحاولات بالفشل. إلّا أنّ السلطات الإسرائيليّة وجدت شخصيّات أقلّ شأناً، على استعداد لأن تعبّر عن سعادتها بالوجود الإسرائيلي، ولأن تلمّع وجه الاحتلال. وفي سنة 1974، حاول الإسرائيليون أن ينشئوا مجالس محلية مشابهة للمجالس القائمة في إسرائيل. وفشلت هذه المحاولة كما فشلت المحاولات الأخرى. وفي النهاية، عيّنوا شخصاً في كلّ قرية لإدارة الشؤون المحلّية. إن رئيس بلدية مجدل شمس الذي عيّنته إسرائيل ليس حتى من المنطقة.

وحظر الإسرائيليون أيضاً، في بداية احتلالهم، البرنامج التعليمي السوري، واستبدلوه بآخر مُعَدّ خصِّيصاً ليغرس في الذهن الإحساس بـ «هوية درزية» منفصلة، متميزة من الهوية العربية – زاعمين أن الدروز يشكلون أمّة لا طائفة دينية تعود بنشأتها إلى الإسلام. وقد صُقلت هذه السياسة على مدار الأعوام، وأصبحت أكثر صراحة في سنة ١٩٧٦، بتأليف «اللجنة التعليميّة للدروز». وتم وضع كتب تاريخ خاصّة مناقضة تماماً للحقائق. على سبيل المثال: يتحدث واحد منها عن العلاقة التاريخيّة بين المجتمعين اليهودي والدرزي بحكم وضعهما المشترك كأقليَّتين، وعن عداوة تقليدية بين الدروز وإخوانهم المسلمين السنّيين. ويجري التشديد على إيصال هذه الرسالة بطرق شتى منها: إنّ الدروز جماعة استثنائية، متفوّقة ومتميّزة عن العرب الآخرين – في الحقيقة ليست عربية على الإطلاق. ولا يرِد ذكر لحقيقة أنّ مرتفعات الجولان كانت دائماً جزءاً من سوريا.

وبمرور الوقت، جرى فصل المدرسّين الذين يتمتعون بأي مستوى من الوعي السياسي. وقد تم فصل مئة مدرسّ على الأقل لأسباب سياسية منذ بدء الاحتلال، وفصُل أكثر من عشرين مدرسّاً دفعة واحدة في أثناء مقاومة الضمّ سنة 1982. وتمّ استبدال هؤلاء، في معظم الأحيان، بمدرّسين غير مؤهلين، بعضهم لم يكمّل حتى المرحلة الثانوية، لكنهم منُحوا «شهادات تعليم» بعد أن حضروا دورات قصيرة في إسرائيل… وخلال عام، تزايد عدد التظاهرات الشعبيّة في قرى الجولان كلها، وقُدّمت العرائض إلى الحكومة الإسرائيلية. وبدأت السلطات في هذه الفترة، وعلى نطاق واسع، بالربط بين الجنسية والحياة اليومية: لم يكن في الإمكان الحصول على رخصة سياقة من دون حيازة بطاقة هويّة شخصية مذكور فيها أن الجنسية إسرائيلية. ولم يكن في الإمكان السفر داخل إسرائيل من دون مثل هذه البطاقة… إلخ. وفي الوقت نفسه، حصلت القلّة التي تعاونت مع السلطات على امتيازات خاصة مثل: ضرائب مخفّضة، وحصص أكبر من المياه، وأجوبة سريعة تتعلّق بتصاريح البناء، إلخ.

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1980، عُدِّلَ قانون الجنسية الإسرائيلية وخُوِّلَ وزير الداخلية صلاحية منح الجنسية الإسرائيلية بناء على شروط مختلفة مفصّلَة في القانون. وكان الشرط الذي ينطبق على السكان السوريين في الجولان أنّ «الجنسية تُمنح عندما يُعتَبر ذلك تحقيقاً لمصلحة خاصة للدولة».وفي نهاية السنة، كانت إسرائيل قد بدأت تضغط على السكان ليقبلوا بطاقات الهوية الشخصية الجديدة؛ وبحسب قول السلطات، فقد قبل بها 400 شخص تقريباً. وفي الحقيقة، كان 300 من هؤلاء من الدروز الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية أصلاً، وانتقلوا من إسرائيل نفسها إلى مرتفعات الجولان، إمّا لأسباب عائلية أو لغيرها من الأسباب.

تصاعدت التظاهرات والاحتجاجات. وفي أوائل آذار/ مارِس دعا الزعماء الدينيون، مدفوعين من نشطاء محليين، جميع سكان مرتفعات الجولان إلى اجتماع عام في الخلوة في مجدل شمس. واحتشد نحو 6000 شخص من القرى الأربع، أو ما يزيد على نصف عدد سكان الجولان في ذلك الوقت، في المبنى الضخم والساحة المكشوفة أمامه. وتقرّر في ذلك الاجتماع فرض مقاطعة اجتماعية دينية كاملة – عمليّاً: حرمان ديني ومدني – على كلّ من يقبل الجنسية الإسرائيلية. وتقرّر منع الذين تسري المقاطعة عليهم من حضور الأعراس والمآتم وكل المناسبات الاجتماعية والدينية، وعدم السماح لأي فرد من أفراد المجتمع بالتعامل معهم بأي شكل. وفي مجتمع صغير كمجتمعنا، حيث يعرف كل شخص الآخر، فإنَّ تأثير مثل هذا النبذ من شأنه أن يكون مدمراً. وفي ذلك الاجتماع نفسه، أقرّ الحضور «وثيقة وطنية»، نُشرت فيما بعد في الصحف، تُعلن أنّ سكان الجولان هم سوريون تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأنّهم يتطلعون إلى اليوم الذي سيتحرّرون فيه ويعودون إلى أحضان سوريا.

وفي ردّها على ذلك، قامت سلطات الاحتلال بفرض عقوبات على السكان، بما فيها ضرائب مُبالَغ فيها، وقيود مُشدّدة على السفر وعلى تسويق المنتوجات الزراعية. ووُضِعَ عدد من النُّشطاء في الإقامة الجبريَّة أو الاعتقال الإداري، وفصُل بعض المدرّسين. وبعد ذلك أُخبر القادة المحلّيون، بصورة غير رسمية، أنّ العقوبات ستُرفع إذا وافق السكان على إنهاء مقاومتهم. مع ذلك، استمرَّ النبذ وبدأ أولئك الذين قبلوا الجنسيّة الإسرائيلية بالتخلي عنها، واحداً بعد الآخر.

وفي كانون الأول/ ديسمبر 1981، بعد أشهر من الاضطراب، صدر قرار بضم مرتفعات الجولان فعلياً. وعلى الفور تمت الدعوة إلى إضراب عام لمدة ثلاثة أيام، شُلَّت فيها الحياة تماماً في القرى الأربع. وأُرسلت مذكّرة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، كما أُرسلت عريضة إلى الحكومة الإسرائيليّة تطالبها بإلغاء الضمّ.

استمرّ ما أصبح الآن نمطاً اعتياديّاً: التظاهرات من جهة، والاعتقالات والقيود من جهة أخرى، حتى 13 شباط/ فبراير 1982، عندما وَضعت إسرائيل أربعة من زعماء الطائفة في الاعتقال الإداري لمدّة ستة أشهر. وفي اليوم التالي، 14 شباط/ فبراير، أُعلن إضراب عام استمرَّ أكثر من خمسة أشهر من دون انقطاع. وردتّ سلطات الاحتلال بفرض نظام حظر التجوّل. وفي ٢٥ شباط/ فبراير، فُرض حصار كامل على الجولان: أُوقفت كلّ أشكال المواصلات من المنطقة وإليها؛ ولم يُسمح بإدخال الطعام أو الدواء؛ وقُطعت الكهرباء والماء. وقد نُظِّمت تظاهرات كلّ بضعة أيام خلال الإضراب، في بعض الأحيان في القرى الأربع كلّها، وأحياناً في قرية واحدة، حيث كان سكان القرى الأخرى يحتشدون فيها. وقد تمّت المحافظة على تنسيق دقيق طوال تلك المدّة من خلال الاجتماعات العامة. وجُوبِهَت بعض التظاهرات بالعنف، وأصيب خمسة وثلاثون شخصاً بطلقات ناريّة خلال اشتباكات مع الشرطة. وفقد شاب رجله ويده وعينه في حادث انفجار لغم خارج مجدل شمس. وقد رُفضت كلّ محاولات اللجنة الدولية للصليب الأحمر لزيارة المنطقة.

في 1 نيسان/أبريل، أعلنت إسرائيل رسميّاً الجولان منطقة مُغلقة، وفرضت حظر التجوُّل على مدار الساعة، وأَرسلت إلى المنطقة 14،000 جندي إسرائيلي – أكثر من نصف عدد السكان العرب في مرتفعات الجولان – قاموا بالتنقل من بيت إلى آخر لمصادرة بطاقة الهويّة العسكرية القديمة وتوزيع بطاقات الهوية الجديدة، المُعَدّة لكل فرد، والمذكور فيها الجنسية الإسرائيلية. وقد تم اعتقال 150 شخصاً خلال هذه الحملة. في هذه الأثناء، وفي محاولة لإقناع السكان بقبول بطاقات الهوية/ الجنسية، بثت الإذاعة معلومات زائفة بأنّ زعماء عديدين قبلوا بها. لكن المحاولة فشلت فشلاً ذريعاً، وسرعان ما تناثرت بطاقات الهوية المرفوضة في شوارع القرى الأربع جميعاً. وفي5 نيسان/ أبريل، انسحبت القوات الإسرائيلية ورُفع الحصار.

أُنهي الإضراب أخيراً في 21 تموز/ يوليو. وكانت العيون، في ذلك الوقت، مركزة على غزو إسرائيل للبنان وحصار بيروت الوحشي؛ وكان واضحاً في تلك الأوضاع الجديدة، أنّ من العبث الضغط على إسرائيل فيما يختص بالجولان. وعلاوة على ذلك، كان مخزون المواد الغذائية – مؤونة كبيرة من الأغذية المجفّفة والمحفوظة التي كانت دائماً في متناول القرى – قد بدأ بالنفاد. لم يكن الحليب متوفّرا؛ً وكان الأطفال يعانون. وقد نفقت مئات من المواشي جوعاً بسبب منعها من الوصول إلى المراعي. وأخيراً، تراجع الإسرائيليون عن إصرارهم على موضوع الجنسيّة، ولم يرد في بطاقات الهوية ووثائق السفر التي وُزِّعَت في النهاية ذكر للجنسية الإسرائيلية. وكان هناك اتفاق آخر يقضي بأنّ سكان الجولان لن يؤدّوا الخدمة في القوات المسلّحة، وأنّه سيتم السّماح لهم بزيارة سوريا، وأنّ الأراضي لن تصادَر. ولم يتمّ احترام الالتزامين الأخيرين. وهذا هو الوضع الآن: تَعتبر إسرائيل سوريي الجولان «مقيمين في إسرائيل»، لا مواطنين.

صورة من أحداث الإضراب الكبير في الجولان (١٩٨٢):
«لا لضمّ الجولان، لا للإستسلام، لا للڤيتو الأميركي».

لقد كان إضراب 1982 العام ذروة العمل الجماهيري في الجولان، ولم يتكرّر ما يرقى إلى مستواه. منذ ذلك الحين، جرت تظاهرات عديدة. ويتم التقيّد سنوياً على الأقل بإضرابين ليوم واحد: في 14 شباط/ فبراير، ذكرى الإضراب العام؛ وفي 17 نيسان/ أبريل، عيد الاستقلال السوري. ومنذ بدء الانتفاضة، أضُيف إلى القائمة يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر، يوم اندلاعها في سنة 1987. وتقوم تظاهرات كلّما حدث أمر استثنائي في المناطق المحتلّة الأخرى (مثل مذبحة الأقصى، أو عمليات القتل في ريشونلتسيون)، أو في المستوى الدولي (مثل أزمة الخليج، والحرب ضد العراق).

هذا، وفي الوقت الذي وقف فيه دروز فلسطين إلى جانب الإضراب الجولاني، إلّا أنّ موقفهم لم يكن متناغماً تماماً. فقد تظاهر أهالي عدّة قرى درزية في إسرائيل تأييداً لنا خلال الإضراب العام سنة 1982، وكان ذلك في بعض الحالات بدافع التضامن الديني، لكنّه في حالات أخرى كان بدافع من أسباب قومية. وتألفت، في ذلك الوقت، لجنة تضامن معنا. وهناك أيضاً أعداد متزايدة من الدروز الفلسطينيين تعترض على تعاون الطائفة ككل، وتعارض سياسة إسرائيل التي تعزلها عن أشقائها العرب؛ ويحتفظ سكان الجولان العرب بعلاقات ممتازة بهؤلاء الناس، ويمدّونهم بكل أشكال العون الذي يحتاجون إليه. وما من شك في أن تحدّي سكان الجولان للسلطات الإسرائيلية كان له أثره بين دروز الجليل.

وفي الواقع، يمكن القول إنّ دروز الجولان يقيمون علاقات ممتازة وتضامناً قوياً مع فلسطينيي الضّفة الغربية وغزة. وقد حاول سكان المناطق المحتلة إرسال أغذية خلال الإضراب العام في سنة 1982، وما زالوا يساعدون بمختلف الطّرق. من جهتهم، ألّف دروز الجولان لجاناً للتضامن حين اندلعت الانتفاضة، وكانوا أوّل من أرسل شاحنات محمّلة بالأغذية والملابس إلى مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وهم يجمعون الأموال وينظّمون زيارات تضامن لمخيمات اللاجئين. وفي كلّ سنة، ينظمون حملات لقطف التفاح، ويوزعون التفاح على مستشفيات الضّفة الغربية وغزة، ويتبرّعون بعائدات مبيعات التفاح لدعم الانتفاضة. كما أنّهم قاموا بعدة تظاهرات شعبية وإضرابات عامة تأييداً للانتفاضة. لكنْ يحدّ من تعاونهما واقع أنَّ الضفة الغربية ومرتفعات الجولان غير متّصلتين جغرافياً، في (إسرائيل)..

أمّا اليوم، وبالرغم من أنَّ غالبية الدروز الفلسطينيين والجولانييِّن يعتبرون بأن المستوطنات الإسرائيلية تضرّ بأمن دولة الاحتلال الصهيوني. كما يبيّن الإحصاء الاستقصائي أنّ أغلبية الدروز أيضاً لا يؤمنون بأنّه يمكن «لدولة إسرائيل» أن تكون دولة يهوديّة ودولة ديمقراطية في الوقت نفسه… كما يعتقد نحو 8 من كل 10 أشخاص من عرب (إسرائيل)، بأنّ هناك تمييزاً عنصرياً كبيراً في المجتمع الإسرائيلي ضد المسلمين، وأنّ الحكومات الإسرائيلية غير صادقة في السعي للوصول إلى اتفاقية سلام…

في ظل كل هذه المعطيات والوقائع الميدانيّة، «تشير بعض التقارير الإسرائيليّة إلى تزايد أعداد دروز الجولان الراغبين في الحصول على الجنسية الإسرائيلية»… وفي الوقت الذي كان فيه العدد في الماضي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فقد بلغ العشرات في الفترة الحالية، لا سيّما بعد الأحداث الأخيرة في سوريا، واستهداف التنظيمات الإرهابية عدداً من الدروز، واستغلال إسرائيل لقضيّتهم بشكل غير مسبوق، ولكنّه منظّم ومبرمج وهادف بدقّة…

بعد هذا العرض شبه التفصيلي لقانون الجنسيّة الإسرائيلي وتطبيقاته على عرب فلسطين، بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم (بمن فيهم أبناء طائفة الموحدين الدروز الفلسطينيين)، وعلى دروز هضبة الجولان السورية المحتلّة، نصل إلى ضرورة تبيان بعض الحقائق والوقائع التي تعامى عنها البعض، وتجاهلها البعض الآخر (لغاية في نفس يعقوب)، بينما أمعن البعض تجريحاً وتشكيكاً وتشهيراً بطائفة الموحدين الدروز في فلسطين، فتلاقت حملتهم هذه مع محاولة العدو الصهيوني في سلخ الموحدين الدروز عن عروبتهم وإسلاميتهم ووطنيتهم وقوميتهم، وإلباسهم ثوباً لا يمتّ إلى حقيقة وجودهم التاريخي بصلة… ويشوّه بالتالي نضالهم الوطني والقومي والعروبي والإنساني كلّه… وهذا ما يستوجب منّا ردّاً علميّاً وموضوعيّاً ومنطقيّاً على كل ذلك، بغية دحض الاتهامات الباطلة والافتراءات المُغرضة، التي طالت ومسّت طائفة عربية إسلامية عريقة في هذا الشرق، لعبت، ولا تزال، دوراً هاماً وأساسياً في «مَدْمَكَة» بنيان الكثير من دُوَلِه، وساهمت في كتابة تاريخ البعض الآخر، بالسيف والقلم، وقدَّمت الغالي والنّفيس من أجل الحريّة والاستقلال والكرامة… فما هي أبرز هذه النقاط التي تلقي الضوء على هذه المسألة وتضع الإصبع على الجرح؟

يذهب كثيرون من الباحثين العرب والأجانب إلى أنّ الموحدين الدروز هم المدافعون الأصليون عن العروبة والإسلام والقوميّة العربية في كلِّ أقطار تواجدهم. وقد أثبتت الوقائع التاريخية صحّة انتمائهم الوطني والإنساني منذ ظهورهم على مسرح التاريخ في مطلع الألف الثاني الميلادي، ولا يزالون، حتى أنّ أسلاف الموحدين الدروز من التنوخيين والبحتريين والأرسلانيين كانوا «حماة الثغور» منذ وجودهم في الجبال المُطِلّة على الساحل في وجه الروم البيزنطيين وأعوانهم في الداخل، ثمّ الصليبيين فيما بعد، وقد استطاعوا تأسيس أوّل إمارة عربية إسلامية في الشرق دامت ثمانية قرون… (هي الإمارة التنوخيّة)…

وبشكل أكثر تحديداً، فإنّ الدروز يتحدّرون من القبائل العربية الإثنتي عشرة التي كانت تقيم منذ الفتح العربي في معرّة النعمان، ثم انتقلت بعدها لتستقرَّ في لبنان. ويؤكّد ذلك كثير من المؤرّخين العرب الذين يعرفون هذه الطائفة ويعيشون بين ظهرانيها. ويشير عبد الرحمن بدوي (ص 642) إلى الحجج التي يقدمها الدروز توكيداً على عراقة أصولهم العربية فيقول نقلاً عن الأستاذ سليمان أبو عز الدين إنّ «أسماء الدروز، إلّا القليل منها عربية». وإنّ «الدروز من أصحّ الفروع العربية لفظاً لبعض الحروف الهجائية، أي الثاء، والذال، والظاء، والقاف». كما يشير الأمير شكيب أرسلان مؤكّداً عروبة الدروز بقوله: «إنَّ لفظهم بالعربي الصحيح… لا يساويهم فيه أحد من جميع سكان سورية». كما أنَّ المؤرّخ الأستاذ أكرم زعيتر يؤكِّد ذلك قائلاً: «الدروز لباب العرب. ولا يوجد درزي واحد يرضى بأن يُنسب لغير الإسلام».

وبصورة أكثر شموليّة، يقول المؤرّخ الكبير الأستاذ عارف النكَدي بأنَّ «هذه الطائفة عربية الأصل، بل هي أعرق طوائف بلاد الشام عربيّة وأخلصهنّ في ذلك دماً.. أمّا عربية هذه الطائفة فثابتة:

    1. بأسمائها العربية اللفظ والمعنى والمُصطلح.
    2. بعاداتها وأخلاقها وآدابها.
    3. بسلامة ألفاظها العربية.
    4. بأنساب كثير من أُسَرِها وقبائلها التي حفظت عمد أنسابها وسلالاتها، بعضها بالتسجيل الصحيح في سجل المحاكم الشرعية، وبعضها بالنقل الدقيق والسّند المتصل.
    5. بتاريخها الثابت. وتاريخ هذه الطائفة تاريخ قريب عهده لا تضيع أصوله وحوادثه في مجاهل القِدَم»

وانطلاقاً من العلاقة العضويّة بين الصهيونية والاستعمار العالمي، فإنَّ الصهاينة لم يتخلّوْا في هذا العصر عن مشاركة أسيادهم الاستعمارييّن في الدسيسة ضد الدروز. ولم تقتصر مشاركتهم على الناحية النظريّة فقط، بل وبشكل أرقى بتطبيقها على واقع الصراع العربي – الصهيوني في فلسطين المحتلّة. وذلك من خلال التفرقة بين الدروز وإخوانهم المسيحييّن والمسلمين الفلسطينييّن، حيث أُبْعِدَ الآخرون عن الخدمة في جيش الاحتلال، بينما فُرِض التجنيد الإلزامي على الدروز ضمن خطة الإيقاع بين أبناء الشعب العربي الواحد في فلسطين وخارجها، وكدليل وإثبات أمام الآخرين بأنّ «الدروز ليسوا بعرب». ولتظهر الدولة الصهيونية، من ناحية أخرى، أمام العالم الخارجي بأنّها دولة «ديمقراطية»، ضمن مخطّط القضاء على الهوية العربية للدروز مستغلّة تشبّث الإنسان الدرزي بأرضه، مع ما يعانيه اقتصاديّاً وثقافيّاً وسياسيّاً في ظل القبضة الحديدية الصهيونية المُحْكَمة عليه.

وتحاول الصهيونية بشتّى الوسائل والطرق إقناع الدروز بأنّ لهم خصوصيّتهم المميّزة، وقومية خاصة بهم على غرار «القومية اليهودية»، متناسية شهداء دروز شفا عمرو وكفار عطا عام 1948 الذين سقطوا ضمن الفيلق الدرزي في جيش الإنقاذ دفاعاً عن عروبة فلسطين وحريّتها. ويكفي لمجاهدي الدروز شرفاً أنّهم هم الذين قتلوا «زوريك» (أخ موشي ديان) في العام 1948. فضلاً عن مشاركة مجاهدي الدروز في معظم المعارك ضد اليهود عام 1948 بشهادة فوزي القاوقجي في مذكّراته. تماماً كما قتلوا من قبل القائد الصهيوني العريق الكابتن جوزف ترمبلدور ورفاقه، وهذا ما جعل الإرهابي إسحق شامير يتوعّد الدروز بالثأر والانتقام…

وفي هذا الإطار، أرسل الطلاب العرب الدروز في الجامعة العبرية كتاباً لوزير الداخلية يؤكّدون فيه «أن الدرزية هي مذهب ديني، وأنّ قومية الدروز هي القومية العربية». كما أكّد الشيخ قاسم فرّو من عسفيا: «إنّنا إذا أنكرنا أنّنا عرب نُنكر تاريخ ثوراتنا التاريخيّة… وإنّ من يبتغِ أن يبدّل قوميّته العربية بقومية لم توجد يوماً، ألا وهي «القومية الدّرزية» مقابل عضويّة الكنيست أو راتب أو وظيفة، فإنّ هذا لا يغيّر من التاريخ والحقائق التاريخية شيئاً». وهذا ما يؤكّد عليه أيضاً النائب سعيد نفّاع.

ورغم كلّ الدعايات الصهيونية العنصرية، فإنّهم يعامَلون معاملة متشابهة مع إخوانهم المسيحيين والمسلمين الفلسطينيين. وقد فسّر المؤتمر القطري الأوّل لِلَجنة المبادرة الدرزية الذي عقد في شفا عمرو بتاريخ 9/9/1978، هذه السياسة العنصرية بحق الدروز قائلاً: «أمام الدعاية لسنا عرباً، وأمام السياسة العنصرية نحن «عرب مئة بالمئة»».

لكن ردّة الفعل الدرزية تُثْبت بالدليل القاطع عروبة الدروز، وتحرّكاتهم في الأرض المحتلة المناهضة للاحتلال ورفضهم الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي أكبر شاهد على ذلك. وكثير من الشباب الدرزي في داخل فلسطين المحتلة تعرّضوا للاعتقال والسجن نتيجة هذه المحاولات، مصمّمين على التخلّي عن حياتهم مع تمسّكهم الصلب بالأصالة العربية وترسيخ الانتماء لها، ورفضهم أن يكون الموحّدون الدروز «سكّيناً في ظهر أُمّتهم العربية»…

وخرجت اللجان الدرزية في الأرض المحتلّة كخطوة أولى على هذا الطريق، وكدليل على تشبّثهم بالأرض وعلاقتهم العضوية بها. وكانت «لجنة المبادرة الدرزية» برئاسة الشيخ فرهود قاسم فرهود إحدى العلامات البارزة في طبيعة الصراع. وليس الشاعر العربي الفلسطيني الدرزي سميح القاسم إلّا أحد الرموز التي تمثّل المقاومة بأروع صورها، وعندما رفض الانصياع لقانون التجنيد الإلزامي قال: «إنَّني كعربي أؤمن بعروبتي… أرفض حمل البندقية، وإنَّ تجنيدي بالقوة سيحيلني إلى مجرم… وستكونون مسؤولين عن كلِّ النتائج».

كذلك الحال بالنسبة للصحفي التقدمي سلمان الناطور، الذي أعلن موقفه الرافض للخدمة العسكرية في جيش الاحتلال قائلاً: «إنَّني أرفض الخدمة في جيش الاحتلال لأنّني إنسان أولاً، وعربي ثانياً، وفلسطينيّ ثالثاً، ودرزيّ رابعاً».

وتأتي انتفاضة دروز هضبة الجولان ضدّ السلطات الصهيونية حلقة من سلسلة المقاومة الدرزية للصهاينة، وهي امتداد للمرحلة السابقة التي بدأت بالمَرَدة والبيزنطيين والصليبيين والمغول والمماليك والعثمانيين مروراً بالفرنسيين وانتهاء بالصهيونية وحلفائها.
فعملية البقاء التوحيدي الدرزي لا يمكن ترسيخها إلا بمقاومتها لهذا الأخطبوط الصليبي القديم – الجديد. كما يتّخذ في كثير من الأحيان طابع التحدّي المباشر والمدوّن خطيّاً كما هي الحال مع عاصم الخطيب أحد قادة لجنة المبادرة الدرزية في رسالته المفتوحة إلى غولدا مائير رئيسة وزراء الصهاينة سابقاً والتي يقول

فيها: «أقسم لك يا سيّدتي قَسَماً عربيَّاً… ولكي تنامي يا سيدتي مرتاحة البال اتبعي هذه النصائح بعد أن تحفظيها:

  1. تقول دائرة المعارف البستانية… إنّ من أجداد الدروز الحاليين عشرة ممَّن بايعوا الرسول (صلعم) بيعة الرضوان تحت الشجرة.
  2. الأنسيكلوبيديا العبرية تؤكِّد وتقرّر أنَّ الدروز عرب أقحاح.
  3. في نشرة داخلية سِريّة لمكتب مستشار رئيسة الوزراء صدرت عام 1958 ورد في صفحة 6 قول الدكتور حاييم بلانك: «لغة الدروز العربية على الإطلاق، ولا مجال للافتراض بأنّ أصل الدروز يختلف كثيراً عن أصل الناطقين بالعربية». ويضيف الدكتور بلانك: «يخطئ من يعتقد أنَّ الدروز ليسوا عرباً، فالدروز هم قحّ العرب».

وردّاً على عروبة الدروز أصدرت وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية ثلاثة كتب بإشراف الدكتور الصهيوني جبرائيل بن دور هي: «التراث الشعبي الدرزي» و«القيم والتقاليد الدرزية» و«دروس في الآداب الدرزية». وضمن خطّة إقامة الدويلات في المنطقة العربية عمدت الصهيونية بعد سقوط الهضبة السورية في أيدي القوات الصهيونية لطرح مشروع الدولة الدرزية، ولم يكن هذا الطرح الصهيوني بصدد إقامة الدويلات الطائفية في المشرق العربي جديداً، لكن أهميته تكمن بُعيد الانتصار السياسي والعسكري الصهيوني على الأنظمة العربية، وإظهار القوة الصهيونية بأنها «قوّة لا تُقهر».

وقد كان لكمال جنبلاط – عبر المحامي كمال أبو لطيف وكمال كنج أبو صالح (من الجولان) – دور هام في إفشال هذا المخطط وتبليغه للسلطات الرسمية في سوريا ومصر والعراق ولبنان يومها…، ممّا كان له أبلغ الأثر على مختلف الأصعدة المتعلّقة بالموحدين الدروز ومواقفهم الوطنية والعروبية الملتزمة بمذهبهم التوحيدي… إنّه الدور المشرّف «للكمالات الثلاثة» على هذا الصعيد.

من هنا يتوضّح بكل جلاء أنّ موقف الدروز من عروبة فلسطين لا تشوبها أية شائبة. ومهما حاول أعداؤهم أن ينالوا منهم ويشوّهوا حقيقتهم، تبقى الحقائق التاريخيّة وتجاربهم في ميادين الحياة المختلفة، المعيار الأوّل والمقياس الوحيد للحكم عليهم. و«القومية الدرزية» (الخرافة) هي ذاتها «القومية اليهودية» التي قامت على أساسها دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين. فقومية الدروز هي القومية العربية ولن يرضَوْا عنها بديلاً. وهم، أينما كانوا في مناطق تواجدهم، يشربون من نبع واحد هو «التوحيد»، والتوحيد لا يدعو مطلقاً إلى التقسيم القائم على العنصرية والتمزّق والتشتّت. فوحدتهم هي الوحدة العربية، وكذلك قوميتهم. ومن يحاول من المغرضين والحاقدين تحميل «الأقليَّة الدرزية» في فلسطين، التي كان عددها عام 1948 نحو 14 ألف نسمة مسؤولية النكبة وسرقة فلسطين يومها، فهم مخطئون فعلاً… مع العلم أنّ قرار إبقاء هذه الأقلية في أرضها للدفاع عنها، يعود إلى كمال جنبلاط والأمير مجيد أرسلان وشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز محمّد أبو شقرا، يومها، والبيان التاريخي الذي صدر بهذا الخصوص عام 1948، مع رفض مطلق لترك أرضهم وبيوتهم ووطنهم… (مع الأمل بالتدخّل الدولي العادل لحلّ المشكلة). كما كان للقائد سلطان باشا الأطرش موقفه أيضاً لبقاء دروز فلسطين في أرضهم وعدم مغادرتها، باعتبار أنَّ المغادرة تعني «اللّاعودة».

ويدرك الدروز إدراكاً واعياً أنّ «مشروع الدولة الدرزية» هو مشروع صهيوني استعماري، على أساسه قامت «إسرائيل» العنصرية التوسعية، واعترفت بها أميركا، ورئيسها ترومان، بعد سبع دقائق من إعلان قيامها. وأي كيان لها في المنطقة العربية، هو نسخة عنها، وطعنة للعرب والعروبة. كما أكّد الأستاذ وليد جنبلاط، في محاضرة ألقاها بدعوة من «رابطة العمل الاجتماعي» في مقرها في بيروت، في معرض كلامه عن الطائفة الدرزية مؤكِّداً «إنّنا طائفة وطنيّة عربيّة، تقدميّة منذ فجر التاريخ، وهذا تاريخنا ولا نستطيع أن نتخلّى عن هذا المنطلق الأساسي». وعن الدور الوطني للطائفة الدرزية قال: «لا يمكن النظر إلى دورها الوطني إلّا من خلال كون الطائفة الدرزيّة من الإسلام والعرب في آن واحد».

وبهذا المعنى أيضاً وجّه العقيد معمّر القذافي برقيته إلى الملوك والرؤساء في الدول العربية والإسلامية في أيلول 1983 بمناسبة «ثورة الشوف» كما سمّاها، قائلاً: من العار أن يقف رؤساء وملوك الدول العربية والإسلامية متفرّجين في حين تقوم الدول الغربية والصهيونية في حملة صليبية عاشرة لقتل عشيرة عربية أصيلة (الدروز) تدافع عن العروبة والإسلام في أرضها التاريخية. أيلول 1983/ معمر القذافي.

هذه باختصار أبرز النقاط التي تؤكّد عروبة وإسلاميّة ووطنيّة الموحدين الدروز في فلسطين والجولان ولبنان وسوريا، كما في أي بقعة من بقاع تواجدهم. وهي الردّ المنطقي والطبيعي على كلّ الافتراءات والمزاعم التي تهدف إلى سلخهم عن أصولهم العربيّة والإسلامية، وتعمل على خلق هويّة خاصّة بهم، لا تمتّ إلى حقيقتهم التاريخيّة بأيّة صلة. وفي النّهاية نستطيع القول: إن: صاحب البيت أدرى بالذي فيه…


المراجع

  1. «الموسوعة الفلسطينيّة»، الجزء الثاني (إعداد د. أنيس صايغ)، الطبعة الأولى، دمشق 1984.
  2. سعيد نفّاع «العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى الـ1948 »، الدار التقدمية، المختارة – لبنان، الطبعة الأولى 2010.
  3. د. صالح زهر الدين، «المسلمون الموحدون الدروز من أسلافهم حتى اليوم»، طبعة أولى 2019 (إصدار خاص).
  4. تيسير مرعي وأسامة ر. حلبي، دراسة بعنوان: «الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان»، نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 13، شتاء 1993.
  5. غالب،أبو مصلح، «الدروز في ظل الاحتلال الإسرائيلي»، مكتبة العرفان، بيروت 1975.
  6. نبيه القاسم، «واقع الدروز في إسرائيل»، القدس، مطبعة دار الأيتام الإسلامية الصناعية، الطبعة الأولى1976.
  7. أنيس فوزي قاسم، «قانون العودة وقانون الجنسية الإسرائيليان»، بيروت 1972.
  8. الأمير شكيب أرسلان، «النقد التاريخي وعروبة آل معروف»، دراسة نشرت في مجلة «الميثاق»، الجزء السادس، حزيران 1980.
  9. عز الدين المناصرة، «الدروز الفلسطينيون»، دراسة نشرت في مجلة «شؤون فلسطينية»، عدد 108، ت2، 1980.
  10. Toufic Touma, «Paysans et Institutions féodales au Liban», (2 tomes), Beyrouth.
  11. Volney, «voyage en Egypte et en Syrie», Tome 2, Paris 1959.
  12. Adel Ismail, Histoire du Liban, Tome 1, Paris 1955.
  13. «الأنباء» (جريدة ناطقة بلسان الحزب التقدمي الاشتراكي)، بيروت، العدد 1400. الاثنين 15 شباط 1982.
  14. «الضحى»، العدد 02، كانون الثاني 2011.

نَسَبُ الأُمراء المعنييِّن

بـدأَ حكمُ الأمراء المعنيين لبلاد الشوف، أو جبل الدّروز في أواخر عهـد المماليك. ومنـذ الفتح العثماني لبلاد الشام في العام 1516م، انتقل حكم البلاد إلى الأمير فخـر الدين المعني الأوّل، مؤسّس قـوّة المعنيين السياسية. وبلغت ذروتها في عهـد حفيده الأمير فخـر الدّين المعني الثاني، الذي سطّر صفحة بارزة في تاريخ لبنان، واعترف بـه الباب العالي سـيّدا على بلاد العرب، من إنطاكية حتى بلاد صفـد، ومـن ساحل البحر المتوسط حتى حدود دمشق. وتميّـز عهـد الإمـارة المعنيّـة بغياب النّزاعات الـدينيّة، وبالتعايش السّلمي بيـن الطوائـف. وكانت له المساهمة الأهمّ في تشكيل الكيان اللبناني. واستمرّ حكم المعنيين إلى آخر عهـد الأمير أحمـد المعني، الذي توفّي عام 1697م، ولم يترك عـقَباً. فانتقل الحكم بقرابة الخؤولة إلى الأمراء الشهابيين حكّام وادي التّيم.

أحاول في هـذا البحث، إثبات انتماء الأسرة المعنيّة إلى التنوخييّن. وإنّ المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في مرحلة ما قبل معركة مرج دابق، التي حصلت في العام 1516، والتي أدّت إلى هزيمة المماليك وانتصار العثمانييّن الذين دخلوا بلاد الشام ومن ثمّ مصر. هي مصدران: تاريخ بيروت لصالح بن يحيى(١). وتاريخ ابن سباط(٢). المؤرّخ ابن سباط، كان معاصراً للحقبة المذكورة، والأحداث التي جرت خلالها. وقـد توقّف عن تـدوين تاريخه سنة (926هـ/1519م). والسنوات القليلة السابقة لهذا التاريخ، شكّلت جزءًا مُهمّاً من تاريخ لبنان الحديث. أمّا بالنسبة لكتاب تاريخ الأزمنة للبطريرك اسطفان الدويهي (1630-1704). فقد جرت أحداث عديدة في عهد الدّويهي، عمل بالبحث عن أسبابها، وقد كان قريبا منها. أمّا المصادر الأُخرى وبخاصّة تاريخ حيدر الشهابي، وأخبار الأعيان لطنّوس الشدياق، رغم أهميّتهما. فإنّ مسافة زمنيّة طويلة تفصلهما عمّا أحاول دراسته.

ذكر المؤرّخ طنّوس الشدياق في كتابه أخبار الأعيان في جبل لبنان ما يلي:

في نسبة الأمراء المعنيين للإسلام

هؤلاء الأمراء ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، المُتَسلسل من العرب الأيوبييّن، المُتسلسلين من ربيعة الفَرَس بن نزار بن معد بن عدنان، المنتسبة إليه العرب المستعربة. بأنَّ أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذر بن اسماعيل بن ابراهيم الخليل. قام منهم رجل يدعى ربيعه ارتحل من الجزيرة الفُراتيه إلى الديار الحلبيّة. وفي سنة 1120م، ارتحل ولده معن إلى الشوف بناء لأمر طغتكين المملوكي صاحب دمشق، الذي أمره أن يقوم بعشيرته إلى البقاع، ومنها يصعد إلى جبال لبنان المُشرفة على الساحل ويتّخذها حِصناً، ويطلق الغارات على الإفرنج الذين في الساحل(٣).

يذكر الدّكتور كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» بأنّ هذا القول فيه نظر، لأنّ الزعامة الدرزيّة في ذلك الوقت كانت لآل جندل، الذين يسيطرون على وادي التيم وجزء من الشوف، وقاعدتهم الحصن المعروف بـ «شقيف تيرون» قرب بلدة نيحا، ولم تزل قرية «حارة جندل، أو حارة الجنادلة» وهي قرية في الشوف، تحمل اسمهم إلى اليوم. ولم يرد ذكر آل معن في المصادر التاريخيّة قبل القرن الرابع عشر الميلادي(٤).

من هم المعنيّون؟

لقد وردت بعض الأسماء من آل معن، بحسب علاقتهم بالأمراء البحتريين والأرسلانيين. فبداية ذُكِر المعنيّون في تأريخ الأمير نجم الدين محمـد بن حِجى بن محمـد بن حِجى، المُتوَفّى سنة 705هـ / 1305م. الذي قام على أولاد علم الدين معن، وهم سيف الدين غلاّب وأخوه عبد المحسن وكرامه. وكان سكنهم بـ (اعْبَيْه)، تحت عماير السّلف إلى جهة الغرب. فما بَرِح نجم الدين محمـّد عليهم حتى رحَّل غلاّب وأخيه عبد المحسن إلى رمطون. أمّا أخوه كرامه راوس(٥) وحلف أنّه ما يرحل عن وطنه(٦).

نتّفـق بالرأي مع المؤرّخ أنيس يحيى بأنّ أصل الأمراء المعنيين، يعود إلى علم الدين معن الذي كان مستوطنا بلدة عبيه، وهو ابن «متعب بن أبو المكارم بن عبد الله بن عبد الوهاب بن هرماس بن طريف، وهرماس هو أبو طارق الذي ينتسب إليه الطوارقة، وهم فخـذ من بني عبد اللـه، كما أنّ هرماس هو مجمع الخلف في طردلا(٧) وعين كسور. وقد انتقل أولاد علم الدين معن من عبيه إلى رمطون، بعد خلاف مع نجم الدين محمـد بن حِجى الذي كان عاقّ والده المتوفَّى سنة (705هـ 1305م). وبعد انتقالهم إلى رمطون، استطاع أحدهم وهـو علم الدين سليمان(٨) بن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن، أن يحصل على إقطاع. فصدرت باسمه مناشير بإقطاعه من السلطة المملوكية. وكان من بين الأربعة الذين لُقِّبوا بالكبار في هذه الجهات. وهم: جمال الدين حِجى بن محـمد بن حِجى، وأخوه سعد الدين خضر، وناصر الدين الحسين، وعلم الدين سليمان . وينتمـي علم الدين معـن وذريته من بعـده، إلى آل عبـد اللـه التي هي صفة تنوخيي الغرب.

لـم يَرِد ذكر بنو معن كأمراء على جبل الشوف إلّا في أواخر عهد دولة المماليك، حيث يذكر ابن سباط أنّ فخر الدين عثمان ابن معن، أمير الأشواف من أعمال صيدا، توفِّي في شهر ربيع الآخر سنة (912هـ / 1506م). كما يذكر وفاة أمير آخر هو يـونس بن معن. ويذكر «أنّ يوم وفاته كان عظيماً لأنّه توفِّي شابّاً عام (917هـ 1511/)»(٩) وفخر الدين عثمان ورد اسمه في كتابة نُقِشت على قاعدة مئذنة جامع ديـر القمر الذي شـيّده.

ويذكر ابن طولون، أنّ آل مَعن يعود استقرارهم في بلاد الشّوف إلى فترة زمنيّة أطول بكثيـر من الفتح العثماني لبلاد الشام. ويذكر أيضاً أنّه في أحداث سنة 904هـ/ 1498م، أنّ «نايب دمشق المملوكي أكّـد الإحتراس من إبن معـن، لكون بلاده مجاورة لبلاد إبن الحنش»(١٠). كما يذكر بولياك في كتابه «الإقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان» بنو رمطوني هم زعماء اقطاعيون قطنوا ضواحي بيروت منذ عام 1309م. وفي اعتبار بني معن أنّ نسبهم ينتهي إلى الرمطونيين. وأنّ التقليد الزّاعم أنَّ أحفاد المعنييِّن هم من سلالة أمير بـدوي يُعرف ب (معـن)، نـزل إلى لبنان عام 1120م، (الشّدياق ص 162و247)، ليس سوى خرافة لاصِحّـة لها(١١).

تمثال لِفَخر الدّين المَعني الثاني من أمام المكتبة الوطنية في بعقلين.
ارتحال المعنييِّن من رمطون إلى ديـر القمر وبعقلين

لقـد ارتحل المعنيُّون عن رمطون، لأنَّها تقع ضمن إقطاع أمراء الغرب البحترييِّن. فيما كانت إقطاعات المعنييّن في منطقة المناصف. حيث يفصل نهر الصّفا بين المنطقتين. ولا نستبعد أنّ هناك صراعاً كان بين معنييّ رمطون والبحتريين في اعبيـه، بسبب الميول الخارجيّة، أم بسبب الصراع في توزيع الإقطاعات. هـذا الصراع الذي تأجّج مـع وصول العثمانييِّن إلى بلاد الشام. وهـو (القيسي- اليمني)، فآل بحتـر جعلوا القيسية تجمعهم فيما بعـد. لعلّها كانت مُضمَرة في السّابق، لعدم إشارة أحد من المؤرّخين إليها. كذلك زعامة الأرسلانيين التي تختلف سياستهم عن سياسة آل بحتـر. حتى ظهر فيما بعـد انتماء كلّ من البحترييّن والأرسلانييّن إلى حزبين مختلفين، هما القيسي واليمني. كذلك زعامة تنوخييّ عين دارا أحفاد بني الفوارس، فلا نستبعد أنّهم كانوا على غير وفاق مع آل بحتـر في اعبيه. لكن على الأرجح، إنّ زعامة عين دارا زعامة يمنية. وكانت قيادة الحزب اليمني في ذلك الـدور للأمراء التنوخييِّن آل القاضي وآل علم الدين والأمراء الأرسلانيين. لذلك اختار المعنيّون منطقة المناصف التي فيها إقطاعهم. واتّخـذوا من بلدتي بعقلين ودير القمر مركزاً لسكنهم وقاعـدة لحكمهم. وأقاموا فيهـما عمائر، لـم تـزل عمائر دير القمر إلى الآن بحالة جيّـدة في رونقها وضخامتها(١٢).

خلال وصول العثمانييِّن إلى بلاد الشام كانت هناك إمارتان. واحدة في الغرب وقاعدتها اعبَيـه، وأميرها شرف الدين يحيى، الذي قال عنـه ابن سباط وعـن سوء أحوالها: «وفي أيام الأمير شرف الدين يحيى فسدت أحوال الناس، وزاد الظّلم، فاقتضى بذلك زيادة الضرائب، بعـد أن كانت في أيّام أبيه في رخاء عظيم(١٣). وإمارة أخرى في الشوف قاعدتها دير القمر، يستأثر بها أميران معنيّان، الأوّل قرقماز بن يونس، وهو الوريث الشرعي بحسب منطق ذلك العصر، والثاني علم الدين سليمان، عـمّ الأول والمكلّف بالوصاية عليه. بالإضافة إلى مقاطعة الأرسلانييّن في الغرب أيضاً.
إنّ المؤرخ حمـزه بن سباط، بالرّغم من عمله الجيّد في كتابة تاريخه، فقـد كان تنوخـيّ الهـوى. كأنّه أراد أن يحصر اهتمامه بالإمارة التنوخيّة. وهو أشبه بأستاذه صالح بن يحيى، فلم يذكـر ابن سباط عن الأرسلانييّن شيئاً. وما ذكره عن المعنييّن المعاصرين للفريقين الأوّلين. وما أشاره عنهم كان قليلاً جـداً.

إنَّ التحليل الذي يقدّمه الدكتور كمال الصّليبي في دراسته عن آل معن بعنوان: «The Secret of the House of Ma’an»(١٤) حول علاقة الأمير علم الدين سليمان بالأمير قرقماز ودرجة القرابة بينهما، فيذكر ما يلي: «إنَّ وفاة الأمير يونس بن فخر الدين عثمان المعني، المُتَوفّى شابًّا عام 1511م، جعل من المُرجّح أن يكون ولده قرقماز طفلاً في ذلك الوقت، ولا يحسن إدارة الحكم دون وصي مـن قريب. فكان الأمير علم الدين سليمان، وهو إمّـا عـمّ الأمير قرقماز أو خاله». وعلى الأرجح. أن يكون عمّـه لا خاله. وإنَّ انتماء الوصي الأمير علم الدين سليمان إلى آل معـن، ربّمـا هو السبب في ما آلت إليه الأمور في البيت المعني من نزاعات وصراعات بين هذين الأميرين أسّسا لخلاف استمر حتى نهاية المعنيين كأسرة حاكمة. وشكّل في الوقت عينه محطّة في تحـديد مسار لبنان الحديث. أبرزها التمهيد لمعركة عين دارا التي حصلت في العام 1711م، والتي ما زالت نتائجها فاعلة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر(١٥).

لجوء فخر الدين ويونس إلى آل الخازن في كسروان

بـدأ الدروز يشكلون تهـديداً للدّولة العثمانية. وازدادت خطورة التمـرّد ضـدّ العثمانييّن، نتيجة حيازة الدروز والمناطق المجاورة، الأسلحة النارية المستوردة من الخارج وخاصّة من أوروبا، وعـدم دفع الضرائب. وفي العام 1565م، ورد في دفتر الأمور المهمّة عن مُهاجمة الدروز للسّباهية المكلّفين بجباية الضرائب، فقتلوا بعضهم وطردوا البعض الآخر. فصدر على الأثر الأمر للسلطات في دمشق بمهاجمة الجبل. فنشبت معركة بين القوات العثمانية والدروز في عين دارا، كان النّصر فيها حليف الدروز، بفضل بنادقهم التي كانت أحدث من بنادق العثمانييّن وأقوى فعاليّة. واستمرت محاولات العثمانيين منـذ سنة 1565 لتجريد الدروز من السلاح وإجبارهم على دفـع الضرائب. رغـم ذلك فإنَّ مقاومة الدروز للعثمانيين لـم تخمـد، فيردّ عليها العثمانيون بحملات انتقاميّة مُتكـرّرة، أو إجراءات تأديبية قاسية. وبقيت المناطق الدرزيّة في حالة عصيان في الأعوام 1583 و1584 و1585، واعتبر العثمانيون أنّ قرقماس والد فخر الدين هـو الأسوأ(١٦)، وأنّ أهالي نواحي الجـُرد والمتن والغرب وشوف ابن معـن يمتنعون عن دفع الضّرائب، وقد ظلُّوا لمدة سبعين عاماً مدينين بسبعين كَـرّة مقدارها (100724)، أقجـة. وهم في كلّ عام يستمرّون في عـدم أداء الضّرائب المتوجّبة عليهم(١٧).

في شهر تمّوز عام 1585، أصدرت الدولة العثمانية، الأمر إلى وُلاتها لمهاجمة مقاطعات الجبل، ولمصادرة البنادق وتحصيل الضرائب. فقام ابراهيم باشا والي مصر على رأس حملة عسكريّة ضخمة، بمهاجمة بلاد الدروز، فحصل قتل ونهب وحرق قرى وأخذ أموالاً طائلة وألوفاً من البنادق. عندها فوجئت مؤخّرة الجيش العثماني بكبسة من الدروز الذين قتلوا حوالي خمسمائة شخص. عندها قـرر ابراهيم باشا الانتقام. فأُحرقت عين دارا ونُهبت، ودمّـر 19 قرية في جوار عين دارا، وتعرّض الدروز لمجزرة رهيبة. ومات أميرهم قرقماس قهـراً(١٨). وربّما كان قتل الجنود، هو السبب في إقدام الوالي على قتل أعداد كبيرة من عقّـال لدروز في عين صوفر، بعـد أن خـدعهم وصادر أسلحتهم.

يشرح التاريخ اللّبناني أنَّ حملة ابراهيم باشا، كانت نتيجـة لحادثة السَّطو التي تعرضت لها الخزنة المصريّة على شاطئ طرابلس، وهي مُتَوَجّهة إلى إسطنبول. وتحميل الأمير قرقماس وأتباعه مسؤولية هـذا السّطو. لكن المصادر المُعاصرة لذلك الوقت، عُثمانيّة أو دمشقيّة أو إيطالية، تؤكّد أنَّ الخزنة المصريّة كانت قـد وصلت إلى إسطنبول كاملة. والهجوم الذي حصل على بلاد الدروز، كان نتيجة عصيان السكّان منذ أوائل القرن السادس عشر. وعـدم دفع الضرائب. وأنّ الدروز يملكون بنادق حربيّة طويلة متطوّرة، تفوق بفعاليَّتها بنادق الجيش العثماني. وكانت قد حصلت ثلاث حملات عسكريّة في السابق على بلاد الدروز، لكنّها فشلت. بسبب تمـرّد السكان وصعوبة المسالك الجبليّة. وليس هناك من ذِكـر لحادثة السَّطو، إلّا في المصادر اللبنانيّة(١٩).

حول لجوء فخر الدين ويونس إلى كسروان بحسب ما ذكره طنّوس الشدياق

الذي يروي أنَّه بعـد موت الأمير قرقماس، أمرت زوجته السيّدة نسب مـُدَبِّرَهُ الحاج كيوان الماروني الدّيراني، أنْ يُخَبِّئ إبنيْها الصّغيرين فخر الدين ويونس عند أحـد الأمناء في كسروان. فأجابها إلى ذلك، ونهض بهما ليلاً إلى كسروان، وخبّأهما في قرية بَلّونه عند ابراهيم بن سركيس وأخيه رباح الخازن. وبعد ست سنين، لمّا صارت الرّاحة في لبنان، دعـا الأمير سيف الدين التنوخي، الأمير فخر الدين وأخيه يونس إبني أخته إلى اعبيه وربّاهما. ولمّا بلغا أشدّهما، سلّمهما ولايتهما في الشّوف. فاستدعى الأمير فخر الدين إليه ابني سركيس الخازن، وجعل عنـده ابراهيم مُـدَبّراً(٢٠).

إنَّ رواية لجوء الأميرين فخر الدين ويونس إلى آل الخازن في كسروان. دوّنها الشيخ شيبان الخازن في مخطوطة عام 1820، وتناقلتها بعض الأقلام(٢١). إنَّ هذه الرواية مُختَلَقة وتحمل في طيّاتها مغالطات عديدة منها:

  • السيّدة نسب زوجة الأمير قرقماس المرأة الواعية، لا يُعقل أن ترسل ولديها إلى كسروان التي هي تحت حكم آل عسّاف اليمنيين، أعداء آل معن القيسييِّن.
  • لـم يَذكر الخالدي الصّفدي في كتابه « تاريخ الأمير فخر الدين المعني» حادثة لجوء الأمير إلى آل الخازن، وهذا المؤلِّف لازم الأمير وعمل في حاشيته. وإنّ الشيخ خطّار ابن ابراهيم الخازن كان برفقة الخالدي في حاشية الأمير. وذكر الخالدي أنّ الحاج كيوان من بلوكباشيّة الشّام(٢٢).
    ولـم يذكر المؤرخ المُحِبِّي هـذه الحادثة، وهو الذي ألصق بالأمير فخر الدين تهمة الزندقة بتعامله مع الإفرنج ضدّ السلطان(٢٣).
  • بالنّسبة للحاج كيوان، لم تقم بينه وبين الأمير فخر الدّين أيّة علاقة قبل العام 1607، وجاء في تاريخ المُحِبِّي: «كيوان ابن عبداللـه أحد كبراء أجناد الشام، كان في الأصل مملوكاً لرضوان باشا نائب غزّه، ثم صار من الجند الشامي. ولمّا توفى نائب غزّه جاء كيوان إلى ابن معن وسافر معه إلى بلاد الإفرنج» (بولس قرالي).
  • البطريرك اسطفان الدّويهي الذي كان مُعاصراً للأمير أحمد المعني ذكر ما يلي: «وفي هذه الأحوال، أرسل الأمير سيف الدين التنوخي، وأخذ إلى عنده أولاد أخته الأمير فخر الدين والأمير يونس، وعند نهاية الستّ سنين، رجع الأمير سيف الدين إلى اعبيه في الغرب، وولّى الأمير فخر الدين على بلاد الشوف»(٢٤) دون الإشارة إلى لجوء الأميرين إلى بلّونه ورعاية ابراهيم الخازن لهما.
  • مخطوطة بعنوان «عودة النّصارى إلى جرود كسروان» دوَّنها الخوري بطرس زغيب، خادم حراجل (1701-1729)، نشرها الخوري بولس قرالي. تؤرخ أعمال آل الخازن والخدمات التي أدَّوْها إلى كسروان خلال عهدي المعنييّن والشهابييّن. لم يذكر لجوء الأميرين إلى آل الخازن. (منير اسماعيل، ملحق جريدة النهار 29/10/1972).
  • كذلك الوثائق الفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة لم تأتِ على ذكر لجوء فخر الدين ويونس إلى بلّونه.
  • لا علاقة للحاج كيوان ببلدة دير القمر أو بالمذهب الماروني، أو بعائلة نعمه ضو كما ذكر جوزيف نعمـه (أوراق لبنانيّة ج1 ص 147). والأميران فخر الدين ويونس، بعـد وفاة والدهما، أمضيا السنوات السّت تحت رعاية خالهما الأمير سيف الدين التنوخي، كما يذكر البطريرك أسطفان الدّويهي. (تاريخ الأزمنه ص 448).

المراجع
  1. صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس اليسوعي وكمال الصليبي، دار المشرق، بيروت، 1986.
  2. حمزة بن سباط، صدق الأخبار تاريخ ابن سباط، تحقيق عمر تدمري، جروس برس، طرابلس لبنان، 1993.
  3. طنوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، نظر فيه فوأد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، 1970، ج1، ص 186 و235.
  4. كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، منشورات كارافان نيويورك، 1979، ص 106 – أنظر أيضاً ابن القلانسي، ذيل في تاريخ دمشق، بيروت 1908، ص 241.
  5. عاند، وباللغة العامية يقال «كبّر راس»
  6. صالح بن يحيى م. س. ص 149، و167.
  7. أي هو أساس العائلة، وطردلا هي قرية دارسة كانت قائمة قرب عين كسور لجهة الغرب.
  8. صالح بن يحيى، م، س، ص 169.
  9. ابن سباط، م س ، ص ج 2 ص 856.
  10. الحسن البوريني، تراجم الأعيان من أبناء الزمان، دمشق، 1959 / 1963، ج 1 ص 334.
  11. بولياك، الإقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، ترجمة عاطف كرم، منشورات دار المكشوف، بيروت 1948، ص 47و 48.
  12. أنيس يحيى، التنوخيّون، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، 1999 ص210 – انظر أيضاً زينات بيطار، فن العمارة والزخرفة في الإمارة التنوخية، م. التراث الدرزي، بيروت، 2010- ص 185 هامش.
  13. ابن سباط، صدق الأخبار، م، س، ص 376
  14. – Kamal salibi – The Secret of The House of Maan pp 12 – 13
  15. أنيس يحيى، التنوخيّون، م، س، ص 220.
  16. – A. Abu. Husayn. Provincial Leaderships in Syria 1575- 1650 beirut 1986- 67- 69
  17. عبد الرحيم أبو حسين، لبنان الإمارة الدرزيّة في العهد العثماني، دار النهار بيروت، 2005، ص 47و48.
  18. جان شرف، الأيديولوجيا المُجتمعيّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت، 1996، ص 185.
  19. عبد الرحيم أبو حسين،م.س، ص 30.
  20. طنّوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1970، ص 67و 238.
  21. نسيب وهيبة الخازن وبولس مسعد، الأصول التاريخية، مجموعة وثائق تنشر لأول مرة، عشقوت 1958، مج 3ص 351و 352. أنظر أيضا منير اسماعيل، مقال في ملحق جريدة النهار بتاريخ 29/10/1972.
  22. الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1969.ص 17.
  23. بولس قرالي، فخر الدين المعني الثاني ودولة توسكانا، دار لحد خاطر، بيروت، 1992 ص 123.
  24. اسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنه، دار لحد خاطر، بيروت، ص 448.

شيوخُ المُوَحِّدين قبل الأمير السيّد عبد الله (ق)

نُشِرَتِ الكثيرُ من المقالات والأبحاث والكُتب عن الرّؤساء الرّوحيِّين للموحّدين (الدّروز)، وعن سائر كبار شيوخهم الدينيِّن، فيها عرض لِسِيَرِهم ومناقبهم ومآثرهم. لكنّها خلَت من الحديث عن شيوخهم الدِّينييِّن قبل الأمير السّيد عبد الله (قدّس الله سرّه)، في المرحلة الواقعة بين القرن الحادي عشر للميلاد، والقرن الخامس عشر. وبناءً على هذا ساد الاعتقاد عند البعض أنّه ما من شيوخ في هذه المرحلة، كما رأى البعض الآخر أنّ وجودهم فيها أمرٌ طبيعيّ لِتَسيير الشؤون الدينيّة، لكنَّ أسماءهم وأعمالهم غابت لعدم تدوينها، أو لِفُقدان المُدوَّنات عنهم جرّاء الحروب بين القوى الإسلاميّة المتصارعة على النّفوذ في المشرق العربي ومصر، والحروب بين هذه القوى والرُّوم البيزنطييِّن، ثم الفرنجة (الصّليبييِّن)، والتَّتار (المغول).

كان لنا شرف المُساهمة في الكتابة عن الرِّئاسة الروحيّة ومُتسلِّميها بمقالات عدّة، وبكتبنا الأربعة التالية: جبل العرب، صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، الصادر سنة 1985، ومشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015، والشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين الدّروز، الصادر سنة 2017، والمجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان الصادر سنة 2018. وكُنّا في كتابنا الثاني، أي مشيخة عقل الموحِّدين، أوّل من تحدّث عن الشيوخ السابقين للأمير السّيد عبد الله، لكن حديثنا كان موجَزًا، لذا نرى التوسُّع فيه بهذا البحث الذي نُمهِّد له بالتكلّم عن الرِّئاسة الروحيّة وألقاب الرئيس الرّوحي، والأمير السّيد عبد الله، وذلك من قَبيل إلقاء المزيد من الأضواء عليه.

الرِّئاسة الروحيّة عند الموحِّدين (الدروز)

الرِّئاسة الروحيّة للموحِّدين (الدروز) هي، كَكُلِّ رئاسة دينيّة لأيّة طائفة، أحد رموز كيانيّتهم وشخصيّتهم المعنوية بين الطوائف الأخرى، واستقلالهم في إدارة شؤونهم المذهبيّة. ولمُتسلِّمها صلاحيّات التّمثيل الديني للموحِّدين إزاء الآخرين، وتسيير الشؤون الدينيّة وفق التعاليم الموضوعة، والإشراف على الأوقاف، وفق الأعراف والشّرع الإسلامي، ثمّ في لبنان وفق الأنظمة والقوانين التي وُضعت لتنظيمها، وتولّي القضاء الذي كان من وجوهه في لبنان الاستمرار في رئاسة المحكمة المذهبيّة العليا إلى حين تنظيم القضاء المذهبي وإنشاء هذه المحكمة وتحديد قضاة مُخَصّصين لها في سنة 1967. ودوره لا يقتصر على الصّعيدَين: الاجتماعي والديني، بل يتعدّاهما إلى الصّعيد الزمني السياسي حيث يشارك في اتِّخاذ القرارات، وتحديد المواقف من الأطروحات التي تهمُّ الطائفة والبلاد، وبات له أيضًا في لبنان دور نهضويّ وتنمويّ ورِعائي لمؤسّسات المُوحّدين ونشاطاتهم من خلال الصلاحيّات التي نصَّ عليها قانون انتخاب شيخ العقل الموضوع في 12 أيار 1962، ثم قانون تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدروز الموضوع في 9 أيار 2006.

والرّؤساء الروحيّون مُعتَبَرون مع سائر كبار رجال الدين «حِرْز الطائفة»، لأنّهم يصونونها بالحكمة وحُسن الرأي والتدبير وإسداء النُّصح وإعطاء البركة للأشخاص والأعمال، فيما القادة الزّمنيّون مُعْتبَرون «سياج الطائفة»، لأنّهم يحمونها بالسيف وبالسياسة، ويدافعون عن الأرض والعِرض والكرامة. وأعمال القيادتين: الدينية والزمنية، مُتكاملة لتحقيق مصالح الموحّدين، والحفاظ على مصيرهم ووجودهم، وتعزيز شأنهم، وإبراز دورهم. وقد رأى كمال جنبلاط أنّ الرِّئاسة الروحيّة ليست زعامة بالمفهوم الزّمني السياسي السّلطوي، بل هي زعامة بالمفهوم التوحيدي الأصيل، وعرّفها بأنّها امتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة، فقال: «أمَّا الزعامة الروحيّة في المعنى المعروف الشائع فإنّها لا تنطبق على المفهوم التوحيدي الدرزي الأصيل، بل إنّ الزّعامة الروحيّة الحقيقيّة هي نقيض الزعامة الوجاهيّة في القصد الزمني العادي المُنطوي على فكرة الرِّئاسة والمؤسَّس على السلطة والجاه. هذه الزّعامة الرّوحية الأصيلة هي اشتقاق معنوي وامتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة أي الرّشادة والحكمة وسُلطة التّوجيه والتقويم لمن تكون له من ذاته ومن تحقّقه وعرفانه مُكنة التوجيه وحقه واستحقاقه»(1).

وبالرّغم من وحدة المُعتقَد لم يكن للموحِّدين (الدروز)، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشّام، رئاسة دينية واحدة، لأنّه ليس لهم نظام ديني إكليريكي، كما عند المسيحيِّين، يُحدِّد المناصب وتسلسلها ومسؤولياتها وصلاحياتها، ولأنّهم لم يعيشوا عبر العصور في كيانيّة سياسيّة أو إداريّة واحدة، ممّا أدى إلى تعدُّد الرئاسات لتعدّد البلدان والمناطق، وبُعد بعضها عن البعض الآخر، وأدّى إلى تعدُّدِها حتى ضمن المنطقة الواحدة، مع بروز شيخ أكبر أحيانًا بفضل نَسَبِه ونفوذِه، أو بفضل تقواه وتديُّنه وامتلاكه لِقَدْر من المعلومات أكثر من إخوانه. يُضاف إلى ما ذُكر من العوامل التي أدّت إلى تعدُّدية الرئاسة عاملُ الغَرَضِيّة أو الحزبيّة كما كان الحال في جبل لبنان، وعامِلَا العشائريّة والمناطقيّة كما كان الحال ولا يزال في جبل العرب في الجمهوريّة السوريّة.

ألقابُ الرِّئيس الروحيّ

أُطلق على الرّئيس الرّوحي للموحّدين (الدروز) لقب «الشيخ» قديمًا، مُقتَرِناً أحياناً بصفة تميّزه. وأُطلق عليه منذ القرن الثامن عشر لقب «شيخ العُقّال» «شيخ العقل»، الذي هو حاليًّا اللّقب الرّسمي المُعتمَد في لبنان، والوارد في القوانين فيما لا يزال لقب الرئيس الرّوحي مُعْتَمَدًا عند الموحِّدين في فلسطين على صعيد رسمي. أما في سوريا، فيعتمد آل الهجري هذا اللّقب.

لَقَب الشّيخ: هو أوّل لقب أُعطي للرّئيس الرّوحي عند الموحِّدين، وأُضيف إليه صفة أو أكثر تُحدِّد مكانته وأهمّيّته، وعُمِّم مؤخَّرًا، فصار يُطلَق على أيّ رجل دين منهم. ولِلَفظة «الشيخ» مدلول تَقَدُّم المرء في العمر وبلوغِه مرحلة ما بعد الكهولة. وهي أيضًا لقب رئاسة زمنيّة على عشيرة أو قبيلة أو قرية، أو حيٍّ، أو منطقة، وكان لقب رؤساء طوائف الحِرَف والصنائع، وحاليًّا لقب الحكَّام والمسؤولين في بعض إمارات ودول الخليج العربي، كما أنّه لقب رئاسة دينية عند المسلمين في قرية أو مدينة أو منطقة أو بلاد، ولقب رؤساء المذاهب الإسلامية والعلماء، والفقهاء والمُفْتِين، ولقب مؤسِّس أو رئيس إحدى الطُّرق الإسلاميّة الصوفيّة، ولقب المسؤول أو الخطيب في أحد الجوامع والمساجد.

وردت لفظة «الشيخ» في أدَبيَّات الموحّدين (الدروز) لقبًا للدُّعاة ولمُساعديهم من قادة الجيوش والأعيان وشيوخ العشائر والمناطق وحتى للأُمراء، مُضافًا إليها عند معظمهم صفة تُميِّز أحدهم عن الآخَر(٢).

وُصِف البارزون من رجال الدين، ومنهم رؤساء روحيّون وشيوخ زمانهم، بما يتّصفون به، وذلك في معرض الحديث عنهم، أو في النقش والكتابة على أضرحتهم، مثل المقرّ الأشرف، والصّدر الأجلّ، والسيّد، والفضيل، والفاضل، والجليل، والطاهر، والورِع الديّان، والزاهد العابد، والورِع التقيّ، وعين الأعيان، وصفوة الأقران، وزين الخلّان، وبهجة العصر والزمان، والعالِم العامِل، والعالِم العلّامة، والعُمدة الفهّامة، وخليفة الأجواد، والدّاعي إلى سبيل الرّشاد، والعَلم المُنير الزّاهر، ورئيس المُدقِّقين، وقدوة المتّقِين، والثِّقة الأمين، والدّيَّان الفطين، ومحلّ الوقار والدين… إلى آخر ما هنالك من الألفاظ والتعابير الحسَنة في الأدبيات الدرزية. أمّا هؤلاء البارزون، فإنَّهم يذكرون أنفسهم بلفظتَيّ الحقير والفقير من قَبيل التواضع.

وأُعطي للأبرز بين شيوخ بلاده أو زمنه لقب شيخ المشايخ، وشيخ العصر، وشيخ البلاد، وشيخ البلدان. وهذه الصفات أعطِيَت لمن تميَّزوا بكثرة التّقوى والتعبُّد والزّهد والتصوّف، أو نبغوا في العلوم الدينية، أو تعدَّت شُهرتهم منطقتَهم. فلقب «شيخ المشايخ»، مثلًا، أُعطي للشيخ بدر الدين حسن العنداريّ المُعاصِر للأمير فخر الدين المَعنِيّ الثاني. ولَقَب «شيخ العصر» أُعطي أوّلًا للأمير السيّد عبد الله(ق) الذي يصحُّ أن يُلقَّب أيضًا بشيخ جميع العصور. وقد وصفه الشيخ صلاح الدين الحلبي بواحد العصر، وذلك عندما جاءه مُسْرعًا بثياب العمل من حلب إلى اعبيه حين علم أنّه مُتكدِّر عليه لقصيدة قالها، فأنشد أمامه قصيدة امتدحه فيها، ومنها البيت التالي:

ولـــي حـــــاجةٌ أرجو من الله تنقضــي على يدِكَ البيضاءِ يا واحدَ العصر

لقبا «شيخُ العقال» و» شيخُ العقل»: يعود هذان اللّقبان إلى القرن الثامن عشر. وقد جانَب الموضوعيّة كلُّ مَن أعطاهما لشيوخ ما قبل القرن المذكور، إذ في هذا إسقاط للحاضر على الماضي. وكما هناك خطأ في ذلك، هناك أيضًا خطأ في تفسير البعض للقب «شيخ العقل» اعتمادًا على أحد المعنيَيْن التاليِيَن لِلَفظة «العقل»:

  1. العقل بمعنى العقل الأدنَى أو العقل البشريّ الذي يقود الإنسان إلى استكشاف العقل الأرفع وإدراك الحقيقة.
  2. العقل بمعنى عقل الأُمور، أي فهْمها وحلّها وربطها.

والتفسير الحقيقي للقب «شيخ العقل» هو أنّه تصحيف للقب «شيخ العُقَّال»، الذي نشأ بعد نشوء مُصطلح «العاقِل». مؤنّثُه العاقلة، وجمْعُه «العُقّال» الذين هم رجال الدين، أو الأجاويد، أو الأجواد، أو الروحانيون، ويقابله مُصطلح «الجاهِل» وجمْعُه «الجُهَّال» وهم رجال الزّمن أو الجسمانيّون. والعاقل هنا هو مَن عقل الأمور الدينية وفهِمَها وعمل بموجبها، فاهتمَّ بخلاص نفسه، وأقام الصلوات وعالج الأمور بالحكمة، وتحلّى بالصفات الحميدة وأوّلها الصّدق، وراقب ذاته قولًا وعملًا، والتزم الوقار فامتنع عن شرب المسْكِرات والمُنْكَرات، وعن اللّهو، وكلّ ما يُسيء إلى السُّمعة. والجاهل هو من لم ينضمَّ إلى سِلْك الديّن ويفهم الأمور الدينيّة، ومَن يقوم ببعض أو بكلّ ما يَمتنع عنه رجل الدين (العاقل). ولا يُعلم بالضّبط متى نشأ مُصطلَحَا «العاقل»، و»الجاهل»، إلّا أنّ أدبيّات الموحِّدين بدأت تتضمّنهما منذ أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. ولرُبّما كان هذا وليد النّهضة الدينية التي أحدثها الأمير السيد عبد الله(ق)، والتي وصفها تلميذه الشيخ أبو علي مرعي (…- 1494م) بالقول: «كانت البلاد في ذلك الزمان – القرن الخامس عشر الميلادي – لا يُسمع فيها إلّا هذا حَفِظ، وهذا عَلِمَ، وهذا فَهِم، والدّنيا كلُّها مَجاني سعادة، والخير يافعٌ مُقبِل والشرُّ مغلوب مُدبِر»(٣). كما أنّ الشيخ أبا علي مرعي ذكر لفظتَي العاقل والجاهل، كما سنرى.

وردَت عبارة «المشايخ العقّال»، بمعنى رجال الدين، في تاريخ الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني للشيخ أحمد الخالدي الصّفدي المُتوَفَّى سنة 1624، الذي ذكر أنَّ الأميرة نسب التنوخيّة، والدة الأمير فخر الدين، حضَرَت لمقابلة والي دمشق أحمد الحافظ باشا «ومعها من المشايخ العُقّال نحو ثلاثين رجلًا»(٤). وورَد عند المُحبِّي المتوفَّى سنة 1699 أنّ مشايخ الدروز يُدْعَون: «العُقّال»(٥). ولا يُعلم بالضبط متى نشأ لقب «شيخ العقّال» بمعنى الرئيس الرّوحي، إلّا أنّه ورد لأوّل مرة في النصوص، مُصَحّفاً أي شيخ عقل في معرض حديث حيدر الشهابي عن حوادث سنة 1762، حيث ذكر اسم حامله، وهو الشيخ إسماعيل أبو حمزة.

وردت الإشارة إلى أنّ أصل لقب» شيخ العقل» هو «شيخ العُقّال» وذلك بتصحيف لفظة «العقّال» التي غدت « العقل». وقد بدأ مع العُمّال الأتراك حسبما يذكر الضّليع في تاريخ الدروز «عارف النَّكَدي» عن هذين اللّقبين اللّذين عاشا معاً حِقبة من الزمن. فهو يقول في مقالة له عن مشيخة العقل في الصفحة 288 من مجلّة «الضّحى» (السنة 1954) ما يلي: «كان اللّقب الصحيح الذي يُطلق على صاحب هذا المنصب «شيخ العقال» لا «شيخ العقل» غير أنّ الأتراك لِما كانوا لا يَجمعون عقل على عقّال فكان بعض عمّالهم يستعملون «شيخ عقل» وعلى هذا غلب الاستعمال وجرى الناس عليه.

إنّ المؤرِّخ حيدر الشهابي (1760-1834) – وبعد أن ذكر الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، المتوفَّى في حدود سنة 1635، بلقب «شيخ مشايخ الدروز» – ذَكر الشيوخ الدينييِّن في جبل لبنان بلقب «شيخ العقل» بدءًا بالشيخ إسماعيل أبو حمزة المُتوفَّى سنة 1798، فجاءت عنده عبارة «شيخ العقل» عشر مرات، وعبارة «شيخ العقّال» مرّة واحدة(٦). ووردَت عبارة «مشايخ العقل» مرّتين، وعبارة «شيخ العقل» مرّة واحدة عند حنانيّا المنيّر (1756-1823)(٧). كما وردت عبارات «شيخ عقّال الدروز» و «مشايخ عقّال الدروز «عند طنّوس الشّدياق المتوفَّى سنة 1861(٨). ووردت عبارتا «شيخ العقل» و «مشايخ العقل» عند قنصل فرنسا هنري غيز الذي أقام في بيروت ولبنان في الرّبع الأوّل من القرن التاسع عشر(٩). وردت عبارة «شيخ العقل» 6 مرّات في المراسيم المُرسَلة من الولاة العثمانيِّين بدءًا بسنة 1790، ممّا يدلّ على أنها باتت مُتداوَلة على الصّعيد الرّسمي كما على الصعيد الشعبي، كما أنّ تداولها رسميًّا وشعبيًّا ظلّ يجري مترافقًا مع تداول لقب «شيخ العقّال» حتى أوائل القرن العشرين، بدليل أنّ مضبطة انتخاب الشيخ حسين حمادة شيخ عقل، في سنة 1915، تضمَّنَت عبارة «شيخ العقَّال» ثلاث مرّات(١٠). ولم تتضّمن عبارة «شيخ العقل» فيما تضمّنت مضبطة انتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 عبارة «شيخ العقل» مرّتين ولم تتضمّن عبارة «شيخ العقال».

بعد عرض بعض وجوه تداول لقَبَيّ المشيخة، نخلُص إلى القول: إنّ لقب «شيخ العقل» الناتج من التّصحيف ترافق ذكره مع لقب «شيخ العقّال» ثم أخذ يحلُّ مكانه تدريجاً إلى أن أصبح أخيراً الاسم الرّسمي. وفي رأينا أنّه ليس للمؤرّخين أي دور في إيجاد تسمية «شيخ العقل» كما يرى البعض، وإنّما تداولوها فقط كما تداولوا تسمية «شيخ العقّال» أُسوة بسائر الناس. وبناءً على ما ورد يمكن تقسيم زمن الرّئاسة الروحيّة إلى مرحلتين، وذلك تجنُّبًا لسحب لقب «شيخ العقّال» أو «شيخ العقل» على زمن لم يكن مُتداوَلًا فيه، وهاتان المرحلتان هما:

الأولى: مرحلة الشّيوخ، وهي اثنتان أيضًا هما مرحلة شيوخ ما قبل الأمير السيّد(ق) أي شيوخ البلدان، والمرحلة التي تبدأ بالأمير السيّد وتنتهي بسنة 1763، وسِمَتُها كَثرة شيوخ العصر والعلماء.

المرحلة الثانية: مرحلة شيوخ العقّال أو شيوخ العقل التي تبدأ بسنة 1763، ولا تزال مستمرّة حتى اليوم.


الأمير السيِّد عبد الله(ق)

الأمير السيّد عبد الله(ق) (…-1479 م) هو الأمير جمال الدين عبد الله التّنوخي، المُتَحدِّر من الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة المُتعارف عليها باسم الإمارة التنوخيّة، المتَحدِّر بدوره من الأمير تنوخ أحد أحفاد الملوك المناذرة اللَّخميِّين. لم يكن الأمير السيِّد من البيت البحتري الحاكم في زمنه، ولا من الأمراء البحترييِّن الكبار كالأمراء الأربعة الكبار وهم: الأمير جمال الدّين حِجى الثاني، وأخوه الأمير سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين، لكنّه كان أميرًا كبيرًا في المجال الدِّيني، وغدا أشهر من مشاهير الأسرة البحتريّة، ووُصِف بأمير الأمراء النّجباء، وجمال الدين والدنيا، إضافة إلى ست عشرة صفة منها صفة «الإمام»(١١) عند وجوده في الشّام.

لسنا الآن في معرض الحديث عن سيرة الأمير السيّد وتعاليمه ونهجه ومؤلَّفاته وتلاميذه وأعماله وتأثيره، إذ لا موجب لذلك هنا، لأنّ كلّ من كتب عن الرِّئاسة الرُّوحية للموحِّدين (الدروز) تحدَّث عنه وعنها، ولأنّه صدرَت باسمه أبحاث وكتب، منها: «دُرّة التاج وسلَّم المعراج» لتلميذه الشيخ سليمان بن نصر، و «وليٌّ من لبنان» للمؤرِّخ يوسف إبراهيم يزبك، و»سيرة التّنوخي الأمير السيِّد وآداب الشيخ الفاضل» للمؤرِّخ عجاج نويهض، و «الأمير السيّد» للدكتور فؤاد أبو زكي. كما أنّنا تحدّثنا عنه في كتابنا: «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)». لذا سيقتصر حديثنا عنه على النواحي الثلاث التالية:

إنّ الأمير السيِّد عبد الله(ق) هو أشهر الشيوخ أو الرؤساء الرُّوحيِّين عند الموحِّدين (الدروز)، وأشهر أوليائهم وأشهر وأقدم علمائهم الدِّينييِّن. وقد انفرد بلقب «السيِّد» الذي لم يُعْطَ لأيّ رئيس روحيّ غيره، وإنْ كان قد شاع مؤخّرًا وشمل بعض الشيوخ التُّقاة، وأصبح لقبًا دينيًّا يناديهم إخوانهم به في مآتمهم، أو يذكرهم به الناس في أحاديثهم، فيقولون: «سيّدنا الشيخ فلان». إلّا أنّه لم يُكرَّم أحدٌ غيره بعبارة: «قَدَّس الله سرَّه» أو عبارة: «قدّس الله روحه»، وذلك عند ذكره لفظًا أو كتابة. ومن وجوه تكريمه زيارة مقامه في اعبيه والنّذر له للتبرُّك، وإقامة احتفال في مقامه بتاريخ 4/9/1979 بمناسبة مرور خمسمائة سنة على وفاته، وإنشاء معهد باسمه على وَقْفِه الذي وقَفَه في قريته اعبيه، هو «معهد الأمير السيِّد للعلوم التوحيديّة». الذي أصبح بعد التّرخيص له كُلِّيَّة.

وضعَ الأمير السيِّد(ق) الكثير من التّعاليم موضع التطبيق، وأوجد نهجاً خاصًّا أحدَث تحوُّلًا ونهضة دينيّة عند الموحِّدين بعد مرورهم في مرحلة من الانحطاط الديني الذي برز أكثر ما يكون في «بلاد الغرب» في أواخر القرن الرابع عشر والمُنتصف الأوّل للقرن الخامس عشر، ذلك أنّ الأمراء التنوخييِّن انصرفوا إلى الحياة الدنيويّة، وتشبّهوا بالملوك في البذخ والتّرَف واللّهو، والاستعانة بالجنود والخدم حتى آلَ الأمرُ في بداية زمن الأمير السيِّد إلى الوضع الذي وصفه تلميذه الشيخ أبو عليّ مرعي، بما يلي:

«إنّ الأمور كانت انطمسَت وفَسدت، وكاد يَبطُل حلالُها وحرامُها، وأمرُها ونهيُها، وعَمهَت البصائر، وقلّ تفكُّر الناس في أمور دينهم، وفي خلق الخليقة والبعث والنّشور والحساب والعقاب، …وبات لا يُميَّز العاقل من الجاهل، والفاضل من المفضول، وكثُرت الشُّبُهات، واتَّصلَت أشكال بغير أشكالها، ولم يحافَظ في الأمور على حدودها، كما تَعاطَى الناس الرِّبا كأنّه من الحلال»(١٢). وما قاله الشيخ أبو عليّ مرعي يتضمَّن لفظَتَي العاقل والجاهل اللَّتَين وردت الإشارة إليهما عند تفسير لقب «شيخ العقال».

لاقى النّهج الذي أحدثَه الأمير السيّد معارضة ممّن سمّاهم تلميذه الشيخ سليمان بن نصر «الأشرار والغَفَلة المُتَمرِّحين في ميادين وسع المهلة»(١٣)، فاضطُرّ الأمير للرّحيل إلى دمشق حيث عاش فيها 12 سنة عاد بعدها إلى قريته اعبيه تلبية لطلب أهل البلاد، الذين امتثل معظمُهم لأوامره واتّبع تعاليمَه. لكنَّ المعارضة لنهجه ستستمرّ بعد وفاته بدليل قتل أمير الأمراء في «الغرب» مع أربعين رجلًا من رجاله للأمير ناصر الدين محمّد التنوخي الذي تمشَّى على نهجه. وللدّلالة على أهميّة هذا النهج، ودوره المستمرّ في تحديد سلوك رجال الدين نذكر ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل رضي الله عنه الذي بلغ منزلة كبيرة، لِمَا ظهر منه وبان من السلوك الدّقيق والهمّة العالية والآراء السديدة والعزائم الشديدة»(١٤). أمّا ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل المعروفة بآداب الشيخ الفاضل، فهو ما يلي:

«ومن آدابه رَحِمَه الله تعالى مع كتابات الأمير السيِّد قدّس الله روحه أنّه كان واقفًا على جليلها وحقيرها، مُلتزمًا حدودَها، حاضًّا على العمل بها وانتهاج نهجها. وكنا نسمعه يقول: كلّ ما رآه الإخوان من أمور تشابهَت والتبسَت، ودواخل تغيَّرَت سببُه عدم ملازمتهم كتابات السيّد الأمير قدّس الله روحه. وكان يقول: كتابات السيِّد الأمير أمامنا، وهي أوّل ما يحاسبنا الله فيه يوم القيامة، لأنّها واضحة موضّحة، ما تركَتْنا في شُبهة ولا أبقتنا في حَيْرة، وفيها كفايتُنا وما نريد عِلمًا وعملًا»(١٥).

يُعتبر الأمير السيِّد المؤسِّس الفعلي للرّئاسة الروحيّة عند الموحّدين، بمعنى أنّه أوّل من وضع النّهج والقواعد التي تمشَّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده لتسيير الشؤون الدينية. وتُعتَبر مرحلته محطّة رئيسة فاصلة في تاريخها، الأمر الذي جعل الكثير من المؤلِّفين يبدؤون سلسلة الشيوخ به لهذا السبب ولضبابيّة المرحلة السابقة له، وانطباع المرحلة اللّاحقة بطابَعه. وإذا كانت معظم تفاصيل المرحلة اللّاحقة معروفة، فإنّ المرحلة السابقة تقتضي إلقاء الضوء عليها، وتبديد ضبابيّتها.

شيوخُ البلدان

من الطّبيعي أن يكون للموحّدين (الدروز) شيوخ قبل الأمير السيِّد، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشام، يهتمُّون بشؤونهم المذهبيّة، ويشكّلون مرجعيات دينية لهم في فَهم المُعتقد، وممارسة طقوس العبادة، والزواج والموت. وممّا يعزِّز ذلك وجود تفسيرات لنصوص قديمة، تَوارَثها الموحّدون في جميع مناطقهم، أصحابها مجهولون، ومن المُعتَقد أنّها لشيوخ علماء من المنطقي أن يكون لهم موقعهم الديني ومكانتهم المرموقة. وممّا يعزِّز ذلك أيضًا مَن سنذكرهم اعتمادًا على المؤرِّخين: صالح بن يحيى وابن سباط، إضافة إلى وجود الشيخ زهر الدين ريدان زمن الأمير السيِّد، ووجود معارضين بارزين لأُطروحاته.
كان في كلّ منطقة أو «بلاد» شيخ، وفي أكثر الأحيان بضعة شيوخ، هم الأكبر والأعلم بين رجال الدين. والبلاد مُصطَلح جغرافي يُطلق على منطقة ما، كما يُطلق على دولة. وقد وردت لفظتها في النصوص العائدة للعهد المملوكي. وهي، على العموم، مفصولة عن غيرها بحدود طبيعيّة كالنّهر والجبل. والبلدان التي توَطَّنها الموحِّدون (الدروز) هي:

في لبنان
كَسروان التي كانت حدودها الجنوبيَّة تمتدّ إلى نهر الجعماني الذي يشكِّل مع نهر حمَّانا نهر بيروت، والمتن والجرد والغرب والشُّوف وجِزِّين وراشيّا وحاصبيّا ومرجعيون والبقاع الغربي.

في سورية
حلب، وجبل السُّمَّاق الواقع حاليًّا في محافظة إدلب، والذي انحصر وجود الموحِّدين فيه بعد أن كانوا موجودين في جهات حلب وأنطاكية، يُضاف إليهما دمشق، والغوطة، والجَولان الذي يشمل إقليم البلّان ووادي العجم. أمَّا جبل حوران، فوجود الموحّدين فيه حديث يعود إلى سنة 1685 م.

في فلسطين
صفد، وكانت مملكة تشتمل على شمال فلسطين وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني، حسبما حدَّدَها المؤرِّخ العُمري(١٦). وهي تضمُّ فيما تضمّ النواحي التالية المأهولة بالموحّدين (الدروز) اليوم: ساحل عكّا والشّاغور والجليل والكرمل.

إنّ شيوخ البلدان أو المناطق المذكورة مجهولون في مرحلة ما قبل الأمير السيِّد، لأنّه ما من كاتب تحدّث عنهم، وما مِن نَصٍّ قديم أشار إليهم، باستثناء ما جاء في تاريخَي صالح بن يحيى وآخر هو ابن سباط اللَّذَين يمكن الاستدلال على بعض شيوخ «بلاد الغرب» من خلال ما ورد فيهما، ومن خلال الاستنتاجات. فلولا هذَين المؤرِّخَين، وخصوصًا صالح بن يحيى، لضاع معظم تاريخ الإمارة البحتريَّة التنوخيَّة، وضاع بالتالي معظم المعلومات عن أعلامها الزمنيِّين والدينيّين.

بلاد الغرب

الغرب، في اللّغة، مكان غروب الشمس والجهة المعاكسة للجهة التي تشرق منها (الشرق). وبلاد الغرب تسمية أطلقتها القبائل العربيَّة، التي توطَّنَت جبل لبنان بعد الفتح العربي، على المنطقة المُطِلَّة على ثغر بيروت وساحلها الجنوبي، لأنّ هذه القبائل اتّجهت إليها غربًا، ولأنّها واقعة إلى الغرب من منطقتَين أُخرَيَين نزلت فيهما، هما الجُرد والمَتن. تمتدّ «بلاد الغرب» من نهر بيروت شمالًا، إلى نهر الدّامور جنوبًا، ومن منطقة «الجُرد» شرقًا إلى الساحل غربًا، وقد أسّس المناذرة اللخميُّون الذين توطَّنوها إمارة دُعِيت «إمارة الغرب»، ودُعِي أميرها منذ سنة 866 م «أمير الغرب» بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وبحسب ما جاء بعد ثلاثة قرون ونيّف من هذه السنة في تاريخ صالح بن يحيى. بدأَت هذه الإمارات بالإمارة الأرسلانيّة، وانتهت بالإمارة البحترية التنوخية التي استمرّت بضعة قرون، لكنّها ضعُفت في نهاية عهد المماليك، وبداية عهد الأتراك العثمانيين، ممّا أدّى مع أسباب أخرى لانتقال النفوذ إلى الأمراء المَعنيِّين الذين أسَّسُوا إمارتهم في الشّوف الواقع إلى جنوب منطقة «الغرب».

وممّا يجدر ذِكره هو أنّ بعض أمراء «الغرب» أُقطِعوا قرى في المناطق أو البلدان التالية المأهولة بالموحّدين: الجُرد والشُّوف ووادي التَّيم وصفد. وكانت قواعدهم الكبرى في عهد الإمارة البحتريّة: عرَمون واعبيه.

شيوخ بلقب الأمير في “بلاد الغرب”

من الشيوخ الأمراء الأوائل في «بلاد الغرب» الشيوخ الذين وردَت أسماؤهم في أدبيّات الموحّدين (الدروز) عن القرن الحادي عشر الميلادي، ومنهم الأمير أبو إسحق إبراهيم جدّ والد الأمير بحتر الذي يتحدَّر منه الأمير السيِّد عبد الله.

يُعتَبر الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة وذلك منذ أن تَسلَّم منشورًا في عهد الأتابكة بإقطاعه في «بلاد الغرب» بتاريخ محرّم 542هـ (أيار 1147م). وتَوالى بعده الأمراء من ذرّيّته إقطاع هذه البلاد لبضعة قرون، وحافظوا في منطقتهم الجبليّة الحصينة على إمارتهم وعلى وجود الموحِّدين فيها، وتميّزوا بالتقيُّد بتعاليم معتقد التوحيد، ومنها الاكتفاء بزوجة واحدة. وممّا يُؤْثَر عنهم «عدم الزواج إلّا من أقاربهم وبنات ألزامهم ذوي الأصول»، واهتمامهم ببناء المساجد ورعايتهم للموحّدين وخصوصًا للأجواد أو الأجاويد منهم، وانصراف بعضهم إلى الزّهد والتعبُّد والتقوى وحِفظ الكتاب العزيز.

ذَكر صالح بن يحيى ونَقل عنه ابن سباط سِيَر سبعة أمراء تنوخييِّن يصحُّ تلقيبهم أيضًا بالشيوخ، هم الأمير جمال الدين حِجى الثاني وابنه الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير عماد الدين موسى، والأمير صلاح الدين يوسف، والأمير سيف الدين غلَّاب الرمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين الثاني. وسنتكلّم عنهم بالتفصيل.

الأمير جمال الدين حِجى الثاني
وُلد الأمير جمال الدين حِجى الثاني المعروف بجمال الدين الكبير في 24 جمادى الآخر 633هـ (آذار 1236م)، وتوفِّي في 12 شوّال 697هـ (تمّوز 1298م). وهو ابن الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر. أقام في طردلا الواقعة إلى الشمال الغربي من قرية اعبيه قبل انتقاله إلى هذه القرية. كان أمير «الغرب» وأُقطِع بعض قرى الجرد. وبلغ إقطاعه من الملِك الناصر صلاح الدين يوسف (سلطان دمشق) 12 قرية، ومن السلطان الظاهر بيبرس 20 قرية. حافظ على إمارة «الغرب» بتأييده للقائد المغولي كتبُغا، حاكم دمشق من قِبَل الفاتح المغولي هولاكو، فيما أيّد ابنُ عمّه الأمير زين الدين صالح المماليكَ، تداوَل أربع دول لحكم بلاد الشّام في سنة واحدة، هي الدولة الأيُّوبيّة بقيادة الملك الناصر يوسف، ودولة المماليك البحريّة بقيادة السلطان قُطز، ودولة المماليك البحرية بقيادة السلطان الظاهر بيبرس، ودولة التّتار (المغول). سجنه السلطان بيبرس في مصر بين سبع وتسع سنوات، وأُفرج عنه في عهد ابنه السلطان السعيد بركة في سنة 677هـ (1278م).

إنّ ما ورد ذِكره عن الأمير جمال الدين حِجى الثاني يفيد أنه كان رجل زمن، وأميرًا على قومه، وقائدًا مَيْدانيًّا. وما سيرِدُ ذِكره يُظهر أنّه رجل دين بارز أيضًا، إذ قال عنه صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجل دين خَيِّر لم يوجد في زمانه مثله وكانوا يُعدُّونه من الأولياء الكبار. لزم القناعة والزّهد في آخر عمره. ولمّا استرجعوا (أقاربه) الإقطاعات والأملاك قَنِع منها بعد الكثير بالقليل وهي عين درافيل ومزرعة شمشوم ومزرعة مرتغون وإشكارة قرطبا، عطيَّة من أقاربه بخطوطهم من غير منشور وذلك في سنة أربعة وتسعين وستماية»(١٧). وهذا التاريخ يوافق سنة 1294 م، ويسبق تاريخ وفاته بثلاث سنوات ونيِّف. أمّا تاريخ استرجاع أقاربه لإقطاعهم، فكان بعد انضمامهم إلى جُند الحلَقة في عهد الملك الأشرف خليل. وشأن الأمير جمال الدين حِجى في الجمع بين الزّعامة الزمنيّة والرِّئاسة الدينية هو، مثلًا، كشأن الشيخ عليّ جنبلاط (1690-1778) الذي كان أكبر الشيوخ الزمنيِّين في جبل لبنان، وصار من شيوخ العقل بعد انضمامه إلى سلك رجال الدين.

هناك دليل آخر يُثبت صلاح الأمير جمال الدين حِجى الثاني وتديُّنه، وهو طرده لابنه نجم الدين محمّد من اعبيه لأنّه كان عاقًّا له ولا يرضيه سلوكه. وقد اتّفق مع أقاربه على سجنه في بيروت. وحين أطلعه هؤلاء على نيّتهم الفتك به بعد الإفراج عنه، قال: «أنا لا أُطالب بدمه لأحد من خلق الله، ولكن لا يسعني عند الله أن آمُر بقتله»(١٨).

الأمير شُجاع الدّين عبد الرّحمن
الأمير شجاع الدين عبد الرحمن هو ابن الأمير جمال الدين حِجى الكبير. تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو في 4 جماد أول 749هـ (1348م). لم يرِث إمارة «الغرب» بعد أبيه لأنّها انتقلت إلى الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر الذي قطن عرمون. قال عنه صالح بن يحيى، ونَقل عنه ابن سباط، ما يلي:
«كان راغب فيما عند الله زاهد فيما عند الناس. أوفا بالخلافة لأبيه وسلك طريقته في المسالك الحميدة والزّهد والقناعة والعبادة. وكان عنده رياضة النّفس ووطأة الخلق. كان بين الصغار كأحدهم وبين الكبار أكبرهم. فاق أهل زمانه بالعلم والعقل والحلم والآداب. وقد ذكره محمّد الغزّي – شاعر الأمراء البحتريِّين – بأنّه واسطة عقدهم، ومحكّ نقدهم، وبركة عشيرتهم، ورأس مشورتهم، قُطب فلك المعارف، قدوة كل مُحقِّق وعارف». وقال فيه شعرًا وصفه فيه من جملة ما وصفه بالإمام:

شجــــــاع الديــــــــن خيرُ بنـــــي أبيــــــه
تعَبَّـــد خَشْـيـــــة الرّحــمـــــــن طوبــــــى
إمـــــــــــــامٌ زاد في دنيــــــــــــــاهُ زُهــــــدًا
لِحُرٍّ قــــد أتــــــى الرّحــمـــــــــنَ عبْــــدًا

كان الأمير شجاع الدين يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز سَرْدًا على ظهر خاطره، وكان يتلوه في نهار واحد، وله قصائد عديدة أكثرها في الزهد والورع والاعتقادات الجيّدة ومحبّة الإخوان والأصدقاء.

وفيما كان الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، الذي سنتحدّث عنه مشهورًا بقوّة النفس والحِدّة والغلظة في الحق مع سيادة ورئاسة، كان الأمير شجاع الدين مشهورًا بالتواضع ولين الجانب وكَثرة الحلم والكرم. وحين جرى عِتاب على أمر كان بينهما قال له علم الدين: ما أحوجَك إلى حرارة في العقل، فأجابه شجاع الدين: أنت أحوج منّي إلى برودة في الحلم.

وبناءً على اتِّصاف الأمير شجاع الدين بما ذُكر، وتديُّنه وتقواهُ، وتلقيبه بالإمام، وتمشِّيه على خُطى والده المُعتبر من الأولياء الكبار، كان له المركز الأوّل عند «أمير الغرب» ناصر الدين الحُسين، إذ كان يُجلسه عن يمينه لأنّه أبرز الأمراء بعده(١٩)، مع الإشارة إلى أنّه لم يُقطع قرى، ولم يكن رجل دنيا، كالأمير علم الدين سليمان الرمطوني الذي كان الأمير ناصر الدين الحسين يُجلسه عن يساره.

الأمير علم الدّين سُليمان الرّمطوني
الأمير علم الدين سليمان هو أصلًا من آل عبد الله، أبناء عمّ التنوخييِّن، لكنَّ صالح بن يحيى ألحقه وألحقَ ذرِّيته بالتنوخيِّين، بناءً على المصاهرة المُتبادلة بين الأسرتَين. وُلد في 19 محرّم 673هـ (تموز 1274م) وتوفِّي في 7 رجب 746هـ (تشرين الأول 1345م)، عُرف بـ «الرمطوني» لإقامته في رمطون التي هي اليوم قرية دارسة واقعة إلى الجنوب من كفَرْمتّى، وعُرف بعَلم الدين الكبير لأنّه أشهر وأبرز أمراء آل علم الدين الذين نُسبوا إليه، والذين عُرفوا لاحقًا بآل علم الدين اليمنييِّن، لترؤُّسهم الغرضيَّة اليمنيّة. قال عنه صالح بن يحيى في تاريخه:

«هو رجل جليل القدر، عظّمه الناس ونظروه بعين الوقار، وكان مشهورًا بقوّة النفس والحدّة بالحقّ والغلاظة على الباطل. وكان ناصر الدين الحسين – أمير الغرب – مَعنِيّ به غاية العناية، إذا قعد في مجلس يجتمع فيه الناس لم يقدّم أحدًا على شجاع الدين عبد الرحمن ابن عمه وعلى علم الدين المذكور فكان يُقْعد شجاع الدين عن يمينه ويُقعد علم الدين عن شماله وأقاربه تحتهم كلٌّ منهم في منزلته».

وتقديم صالح بن يحيى كلامه عن شجاع الدين على كلامه عن علم الدين في الوقت الذي يتكلّم عن علم الدين، وتقديم الأمير ناصر الدين الحسين له على قريبه بالمصاهرة (علم الدين) دليلان على تقدّم مركزه على مركز علم الدين. وجاء عند صالح بن يحيى أيضًا أنّه كان للأمير علم الدين شِعر رقيق يدلُّ على الزُّهد والتعبُّد، ذَكر منه خمس قصائد اختار منها أربعين بيتًا، نقتطف منها ما يدلُّ على تديُّنه:

يــــــــــــــــــا ســـــــــــــــــيِّدي وإلـــهـــــــــــــي
يــــــــــــــــــا مَــــن إلــيـــــــــــه مَصـيـــــــري
اِرحــــــــــمْ لضَـعــفِـــــــــيَ وَأرْثِــــــــــــــــــي
أنـــــــتَ العــلــيـــــــــــــــــمُ بحـــــــــالـــــــــي
ومَــــــــــــن عليــــــــــــــه اتِّكــــــــــالــــــــــــي
لِـــــــــــذلّـتــــــــي وانـــتـــحـــــــــالــــــــــــــــي
* * *
قنعتُ مـــــن ربِّــــــي بحُســـــن العمــــــل
إنْ قَلّــــــت الدنيـــــــــا وقــــــــلَّ العنـــــــــا
يــــــــــا معشـــــــر النّـــــــــاس فلا تَغفلوا
واستـيـقــظـــوا قبــــــل حلول القضـــــــا
واستدركوا فـــــــارطَ مـــــــــا قد مضى
تســــــــابَقوا للطــــــاعــــــات قبل الجَزا
من قبــــــــل يوم كــــــمِ امرِئ منــــكــــــم
هـــــــــــذا هو الـقــصـــــــد وكلُّ الأمــــل
فـالأصـــــل عند الله خيــرُ الـعــمــــــــل
فـــــــالـمـوتُ والعَرضُ يجيـــــكــم عجَل
واستعملوا الخوف وكــثــــــــر الوجَــــــل
مـــــن ســــــــــوء نيّــــــــــــاتٍ وكثر الخَلل
واستعملوا الخيرات قبــــل الخـــجـــــل
يعــــضُّ كفَّيه علــــــــــى مـــــــــــا فعل(20)

إنّ في صفات الأمير علم الدين، وفي مناجاته لله وشعره الزّهدي والحِكَمي، ونُصحه للناس بالقيام بخير العمل، وبطاعة الله، واستدراك ما قصّروا به قبل حلول الأجل، وقبل أن يأتي يوم الحساب: إنّ في هذه الأمور دلائل على تديُّنه وتَقْوَاه واطّلاعه على الحقائق واكتسابه قدرًا من الثّقافة الدينيّة يجعله في موقع النَّاهي والنّاصح، وهذه منزلة دينيّة إضافة إلى منزلته الزمنيَّة الناتجة من دخوله جُند الحلقة في عهد المماليك وإقطاعهم له بضعة قرى. ومن الدلائل على منزلته الدينيّة هو أنّه حين كان يعطس في رمطون كان الشيخ العَلم، المقيم في كفرفاقود المواجهة لرمطون، يقف له تعظيمًا لقدره وإجلالًا له.

الأمير عماد الدين موسى
الأمير عماد الدين موسى هو ابن الأمير بدر الدين يوسف بن زين الدين صالح بن عليّ بن بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو 24 جماد الأول 768هـ (كانون الثاني 1367 م). جاء عنه في تاريخَي صالح بن يحيى وابن سباط ما يلي: «كان رجلًا ديِّنًا خَيِّرًا محمود السيرة مشهورًا بالجَودة والدِّيانة»(٢١).

الأمير صلاح الدين يوسف
الأمير صلاح الدين يوسف هو ابن الأمير سعد الدين خضر المعروف بسعد الدين الكبير، المُتَحدِّر من الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى الأوّل بن الأمير بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته هو الثامن من شهر شوال 696هـ (تموز 1297 م) وتاريخ وفاته مجهول. إنّه جَدّ والد الأمير السيِّد عبد الله(ق). جاء عنه في تاريخ صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجلًا دَيِّنًا خَيِّرًا ذا عقل وافر نافذ الكلمة مُبَجّلًا مُوقَّرًا عند أقاربه وعند الناس، رَيِّض النّفس، حسن الخلقة والأخلاق، وكانوا أقاربه من بعد أخيه ناصر الدين (الكبير) مُقتدين به سامعين لأمره»(٢٢).

الأمير سيف الدين غلَّاب
الأمير سيف الدين غلّاب هو ابن الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني الذي ورد الحديث عنه. تاريخ ولادته هو 5 ربيع الآخر 701هـ (تشرين الثاني 1301 م) وتاريخ وفاته مجهول. جاء عنه أنّه «كان جيِّدًا خَيِّرًا ذا عقل ودين محبّ لأهل الخير»(٢٣).

الأمير ناصر الدين الحُسين الثاني
الأمير ناصر الدين الحسين الثاني هو ابن الأمير تقيّ الدين إبراهيم بن الأمير ناصر الدين الحسين الكبير. تاريخ ولادته مجهول، وتاريخ وفاته هو 15 جمادى الآخر 801هـ (شباط 1399م). جاء عنه أنّه «كان من أهل الخير والدين والثقة، كثير الدرس للعلوم، صادق اللهجة، مقبول القول، متمسّكًا بالكتاب والسُّنّة، وَدُودًا لأصحابه، كثير الشّفقة والحُنُوِّ عليهم، مُحبًّا لأهل الخير يُؤْثِر مجالستهم ومحادثتهم»(٢٤).

شيوخ من أصل أمراء في بلاد الغرب

توَطَّن الأمراء المناذرة اللّخميُّون عند قدومهم إلى لبنان «بلاد الغرب»، وأسَّسوا فيها إمارة توَلّاها أوّلًا الأرسلانيون، وتلاهُم أمير واحد من بني فوارس، فأمير واحد من آل عبد الله، بحسب ما جاء في السجلّ الأرسلاني(25). وبعده تَسلَّمها الأمراء البحتريُّون التنوخيّون ابتداءً من أواسط القرن الثاني عشر الميلادي. وفيما احتفظ معظم أفراد هذه الأُسَر، مع الأيّام، بلقب أمير، أو بلقب مُقدَّم، أخذ بعضهم ممّن دخل في سلك رجال الدين لقب «الشيخ»، كما أخذ آخرون لقب «القاضي» لتسلُّمهم شؤون نيابة القضاء في عهد الإمارة التنوخيّة، فكان منهم القضاة الأوائل وأشهر قدمائهم الأمير عماد الدين حسن الذي بنى جسرًا على نهر الصّفا عُرف باسمه (جسر القاضي).

أعاد أمين آل ناصر الدين الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، «الذي كان شيخ مشايخ الدروز في جبل لبنان زمن الأمير فخر الدين»(26)، إلى الأمير القاضي عماد الدين حسن، وذكر أنّه جَدّ فروع آل القاضي الأربعة في دير القمر وبيصور واعبيه وكفرمتى(27). وهذا مع ما ذُكر أعلاه يشير إلى الْتِماس بين ألقاب الأمير والشيخ والقاضي، كما يشير إلى التماس بين مراكزهم، ويؤكِّد أنّ هناك شيوخًا وقضاة من أصل أمراء.

وممّا يجدر ذِكره هو أنّ كثيرين مِمَّن حملوا لقب «الشيخ» وكان أسلافهم يحملون لقب «الأمير» لم يتدنَّ شأنُهم الاجتماعي، وأنَّ كثيرين ممّن حملوا لقب الأمير ما كان شأنهم ونفوذهم أعلى من شأن ونفوذ الشيوخ والقضاة. ومِمّا يجدرُ ذكره أيضًا أنّ بعضَ الأُسَرِ التي كان رجالها أمراء انتهت بأحفادهم شيوخًا مثل الشيخ أحمد العينابي الذي هو من سلالة الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن ومن نسل الأمير جمال الدين حِجى الثاني. وفي ما يلي سنتكلّم عن ثلاثة شيوخ من أصل الأمراء.

الشيخ رشيد الكدواني
ذكر صالح بن يحيى حاشية بلغَت في تاريخه المُحقَّق نصف صفحة(٢٨)، ومفادها أنّ الأمير جمال الدين حِجى الكبير والأمير زين الدين بن علي بن بحتر دوَّنَا معًا على ورقة بتاريخ شهر ذي القعدة 655هـ (تشرين الثاني 1257 م) إشهادهما على نفسيهما بإعطاء الشيخ أبو الهدى رشيد بن الظاهر الكدواني، عند حضوره مع عائلته إلى «الغرب»، ثلاث غراير غلّة كلّ سنة، وبيتًا من بيوتهما، أو تعمير بيت له في أيّة قرية يختار السكن فيها، وزادَ الأمير زين الدين على ذلك كرْمًا وبستانًا. وما يعنينا من هذا هو الأمور التّالية:

صفات الشّيخ رشيد:
ذُكر الشيخ رشيد بـ «الشيخ الأجلّ الكبير»، ووُصِف بـ «أبو الهدى». وهذا ممّا يدلّ على تَقوَاه وتديُّنه، وموقعه الديني البارز المُتقدّم بين الشيوخ. أمّا تلقيبه بالكدواني فإنّنا لم نجد له تفسيرًا…

نسب الشيخ رشيد الكدواني:
إنّه من سلالة الأمراء الأرسلانيين، وقد غلب عليه لقب «الشيخ» لأنّه، أو لأنّ سلفه، من كبار رجال الدين. وقد ورد في نهاية حاشية صالح بن يحيى عنه أنّه ابن أبو الظاهر فيما صالح بن يحيى وغيره. ذُكر في أوّلها أنه ابن الظاهر الكدواني، والأُولى هي الأصحّ لأنّ نهاية الحاشية تشتمل على اسم ابنه وهو أبو الظاهر المسمَّى باسم جَدّه. كما ورد في نهاية الحاشية أنّ الشيخ رشيد هو من بني سعدان. والمعلوم أنّ هؤلاء فرع من أبي الجيش الأرسلانيِّين الذين سكنوا في عرمون. فسعدان هو ابن مفرّج بن أبي الجيش، لكنّه لم يُذكر في السِّجلّ الأرسلاني(29)، بل أُسقط منه اسمه وأسماء ذُرِّيّته كما أُسقِطت بعض أسماء فرع ثانٍ من أبي الجيش(30).

سكنُ الشيخ رشيد الكدواني:
يبدو من النّص أنّ الشيخ رشيد كان يسكن خارج «الغرب» بعيدًا عن أقاربه بني سعدان الذين كانوا يقيمون في عرمون. كما يبدو منه أنّه حضر إلى «الغرب» وأقام في كفرمتى في بيت بناه له على الأرجح الأميران جمال الدين وزين الدين، أو أحدهما، تنفيذًا لما جاء في إشهادهما على نفسَيهما.

مدلول وهب الأميرَين التنوخيَّيْن للشيخ رشيد الكدواني:
نجد في العديد من الأماكن من تاريخ صالح بن يحيى إشارات عدّة إلى آل أبي الجيش، ومنافستهم وبغضهم وخصومتهم للأمراء البحترييِّن التنوخييِّن، ووشاياتهم الكاذبة عنهم عند الحكّام، التي سبَّبَت لهم السجن والأذى والمتاعب(31). ومع هذا نرى أميرَين بحتريَّيْن يكرّمان الشيخ رشيد الكدواني ويهبانِهِ بيتًا يسكنه وغلالًا وأراضيَ يعتاش منها، وهذا يعود إلى السّببَيْن التاليَيْن:
1- وجود مُصاهرة ما.
2- تمشِّي الأميرَيْن جمال الدين حجى وزين الدين بن عليّ على نهج المسلمين، ومنهم: الموحِّدون بوَقْف بعض أملاكهم للعلماء والشيوخ والصالحين الأتقياء،
وهذا هو السبب الأهمّ، وفيه دليل على صلاح الشيخ رشيد وتَقوَاه.

جسر القاضي.

الشيخ العَلم
الشيخ العَلم هو علم الدين علم بن سابق بن حسّان بن طارق، من أصول آل عبد الله الذين هم أبناء عمّ البحترييِّن التنوخييِّن. أمُّه تنوخيّة. نشأ في طردلا وانتقل منها إلى كفرفاقود حيث سكن في إلف قرابته الأمير فارس الدين معضاد بن عزّ الدين فضايل بن معضاد «الذي كان أميرًا ومُقدّمًا على الأشواف» بحسب ما جاء عند صالح بن يحيى الذي أضاف قائلًا عن الشيخ العَلم إنّه «رُزِق دين ودنيا واسعة وحُرمة وافرة وكان مشكورًا عند أهل زمانه». وممَّا يُذكر عنه أنه سيَّر الماعز في كفرفاقود لتمحوَ آثار أهل «الغرب» الهاربين من عسكر الحملة المملوكيّة التي غزَت «الغرب» سنة 677هـ (1278 م)، والتي أنزلت فيه ما لم تُنْزله أيّة حملة غيرها(32).

في كلام صالح بن يحيى عن الشيخ العَلم ما يفيد أنّه رجل دين ودنيا، وأنّه ذو مكانة في زمنه تجاوزَت «الغرب» إلى الشُّوف الذي يشتمل على قرية كفرفاقود.

الشيخ زهر الدّين ريدان
آل ريدان أسرة عريقة النَّسب. جاء عنها في تعريف الشيخ أبي علي مرعي، كاتب سيرة الأمير السيد(ق)، للشيخ رشيد علم الدين سليمان ريدان ما يلي: «وكان في بلاد الغرب في القديم أنساب وأحساب ذات تواريخ تُذكر، ونفَرٌ من لهاميم العرب لهم سابق أثر وحسن خبر ونظر في مصالح النفس وتعلُّق بالعلوم الإلهية يُدعَون بيت ريدان»(٣٣).

عاش الشيخ أبو مرعي زهر الدين ريدان في قرية الفساقين (البساتين حاليًّا) من «بلاد الغرب» وله ضريح فيها، ومن المتداول اقتران اسمه بإدخال الأمير السيِّد عبد الله في سلك رجال الدين حسب القواعد المألوفة. وقد اعتمد المؤلّف فؤاد أبو زكي على ذلك وعلى النبوغ المُبكّر للأمير السيّد وصيرورته الرئيس الرُّوحي الأوّل للموحّدين الدروز في عصره، ليقول إنّ الأمير تسلّم مشيخة مشايخ العصر من الشيخ زهر الدين الذي كان، في رأيه، «شيخ مشايخ العصر»(٣٤). وفي رأينا أنّ مشيخة مشايخ العصر هي للأمير السيِّد لا للشيخ زهر الدين الذي هو أحد شيوخ «بلاد الغرب» فقط. عاصَر الأمير سيف الدين يحيى التنوخي المُلقّب بكاتب الدارَين وشاعر الدارَين وصايغ الدارين، الشيخ زهر الدين، وامتدحه بقصيدة وجدانية تصف عواطفه إزاءه، وتمتدح مناقبه، لكنّه ليس فيها ما يدلُّ على منزلته، وهي مؤلّفة من 124 بيتًا، وتُعرف بالقصيدة الزهريّة، نقتطف منها الأبيات الخمسة التالية(٣٥):

رويدَك قد تــــــاقت إليــــــــك الجوارحُ
وستُّ جهــــــات الجسم ثمّ حواسُّــــــــه
وإنّي إذا مــــــا رُمتُ وصفك لــــم أجد
وشــــاع لك الذِّكر الجميلُ فلــــــم يزل
فـــلا زائــــد فيـــــه بــــــلاغة مــــــــــادح
وحسبُك أنّ القــلــــب نـحــــوك جــامحُ
وأعضــــــــاؤه كــلٌّ بـحـبّــــك نــــــــــاضحُ
لـــــه غــــــايــةً يسري بهــــا قول مـــادح
بحسن الثّنــــا بيـــن الــبـــريَّة طـــــــافح
ولا نـــــــاقص فيه مقــــالـــــة كــــــــاشح.

خلاصة

اعتمادًا على ما ورد ذكره عن الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن السّبعة، وعن الشيوخ الثلاثة، يمكن استنتاج ما يلي:

  • إنّ الأمراء السّبعة ذُكروا بلقب «الأمير» الذي لا يمكن أن يُذكروا إلّا به، لكنّهم شيوخ دين أتقياء لهم، بالإضافة إلى النفوذ الزمني، نفوذ في الوسط الديني، وأحدهم – وهو الأمير جمال الدين حِجى ــ كان أمير «الغرب». وقد ميّزهم انشغالهم بالعبادة عن سائر الأمراء التنوخييِّن الذين ترجم صالح بن يحيى لِما يزيد عن الستِّين منهم اهتمّ مُعظمهم بالشؤون الدنيوية، ولم يصفهم بما وصف به الأمراء السبّعة.
  • إنّ الخبير بتاريخ الموحّدين (الدروز) الاجتماعي، وأدبيَّاتهم الدينية ومُصطلحاتها، يعرف مدلولات الأوصاف التي أُطلَق بعضها على كل من الأمراء السّبعة، وهي: ديِّن – خيِّر – جيد (وجمعها أجواد وأجاويد) – لا يوجد في زمانه مثله – إمام – وليّ كبير – زاهد – جليل القدر – مُبجَّل – مُوقَّر – ذو عقل ودين – مشهور بالجودة والديانة – مُتعبِّد – لا يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز – من أهل الخير والدين – مُحبّ لأهل الخير – مُتَمسّك بالكتاب والسُّنّة. وهذه صفات يتحلَّى بها الشيوخ الدينيُّون.

وممَّا يجدر ذِكره هو أنّ الشيخ أبا صالح فرحان العريضي – وهو من الشيوخ الثقات ومعاصر لنا – اعتبَر الأمراء السّبعة من كبار رجال الدين الذين وصفهم بالأعيان. وهو لم يكتب إلّا عن شيوخ رجال الدين في كتبه الثلاثة، بعنوان «مناقب الأعيان»

إنّ الرِّئاسة الرُّوحيّة للموحّدين (الدّروز) لم تَظهر إلى العلن إبّان تشدّد الدول الإسلامية السُّنّيَّة الحاكمة مع أتباع المذاهب الأخرى، بالرّغم من أنَّ الموحِّدين كانوا في «بلاد الغرب» أكبر تجمُّع درزي في الشَّام، ولهم كيانيّة إدارية ناتجة من إقطاع الحكّام لأمرائهم قرى هذه البلاد، وبعض القرى خارجها، وهذه الرّئاسة غير المُعلَنة لا بدّ أن تتمثّل داخليًّا في مُجتمعهم الإقطاعي بِنُخبهم وأعيانهم وأكابرهم.

وفي حال اعتبرنا أبرز الأمراء والشيوخ الذين ذكرناهم رؤساء روحييِّن، تبدو لنا تعدُّدية الرِّئاسة الروحيّة من خلال معاصرة الأمير جمال الدين حجى والشيخ رشيد الكدواني لبعضهما، مع تقديم الأمير جمال الدين حجى واعتباره الرئيس الرُّوحي الأوّل الجامع بين الدين والدنيا، والمُعْتَبر من الأولياء الكبار. كما تبدو لنا هذه التعدُّديّة واضحة مع الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علَم الدين سليمان والشيخ العَلم، المعاصرين لبعضهم، مع تقديم الأمير شجاع الدين، لأنّه سلك طريقة أبيهِ الأمير جمال الدين حجى، وكان مقدَّرًا من الأمير ناصر الدين الحسين، ومقدّمًا على غيره من الأمراء.


المراجع
  1. مقدّمة كمال جنبلاط لكتاب سامي مكارم: أضواء على مسلك التوحيد، دار صادر، بيروت 1966، ص19-20.
  2. للمزيد من المعلومات انظر كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين الدروز في لبنان وسورية وفلسطين، تاريخها وتطوّرها من الأعراف إلى التنظيم، دار معن 2015، ص23-25.
  3. مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي عن الأمير السيد عبد الله.
  4. أحمد الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين، تحقيق الدكتورَين أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1969، ص23.
  5. المُحِبّي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، تحقيق محمّد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت 2006، المجلد الثالث ص259.
  6. تاريخ حيدر الشّهابي، دار الآثار، بيروت 1980، ص789، 807،866، 873، 892، 910، 947، 953، 967، 970، 1011.
  7. حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت 1984، ص 30،69،156
  8. طنّوس الشّدياق: كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت 1970، الجزء الثاني، ص325،405،434.
  9. هنري غيز: إقامة في بيروت ولبنان
  10. أوردنا نص المضبطة كاملًا في كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)، ص119-121.
  11. يوسف إبراهيم يزبك: وليّ من لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1960، ص95.
  12. مخطوطة الشيخ أبي عليّ مرعي عن الأمير السيّد عبد الله.
  13. سليمان بن حسين بن نصر: درة التاج وسلّم المعراج، تحقيق اللجنة الثقافيّة في مؤسَّسة العرفان التوحيديّة. لا تاريخ، ص18.
  14. عجاج نويهض: التنوخي، آداب الشيخ الفاضل، دار الصحافة، بيروت 1963، ص120.
  15. المرجع نفسه، ص83.
  16. العمري: التعريف بالمصطلح الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت 1988، ص236-237.
  17. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرف، بيروت 1967، ص55.
  18. المصدر نفسه، ص150. وللمزيد من المعلومات عن الأمير جمال الدين حجى، انظر المصدر المذكور، ص51-55، وصفحات أخرى. وتاريخ ابن سباط، تحقيق عبد السلام تدمري، جرّوس برس، طرابلس- لبنان 1993، الجزء الأول ص340، 363، 395، 396، 404، 459، 460، 463، 483، 484.
  19. انظر عن الأمير شجاع الدين عبد الرحمن: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص151-156. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص825-827.
  20. انظر عن الأمير علم الدين سليمان: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص167-171.
  21. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص164. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص817.
  22. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص146.
  23. المصدر نفسه ص172. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص857-858.
  24. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص202. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص834.
  25. السجل الأرسلاني إثبات سنة 1061م، ص88-89، وإثبات سنة 1179م، ص105.
  26. تاريخ حيدر الشهابي، ص600.
  27. انظر أمين آل ناصر الدين: الأمراء آل تنوخ، مجلة أوراق لبنانية، المجلد الثاني، ص354، 451، 592، والمجلد الثالث ص51.
  28. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54.
  29. انظر السجل الأرسلاني.
  30. انظر جدول الأسماء المسقطة من السجل الأرسلاني: نديم حمزة: التنوخيّون، ص32.
  31. انظر عن هذه الأمور صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54، 63، 65، 67.
  32. المصدر نفسه، ص57، 68.
  33. مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي. أيضًا عجاج نويهض: التنوخي. سيرة الأمير السيد، ص30.
  34. فؤاد أبو زكي: الأمير السيد. سيرته. أدبه، طبعة 1997، ص180-181.
  35. انظر القصيدة كاملة عند فرحان العريضي: مناقب الأعيان، الجزء الثاني، ص301، 313.

الأديبُ المهجريُّ سعيد أَبو شاهين

الأديب سعيد أبو شاهين

(المرحوم) سعيد أحمد أبو شاهين، من بلدة «بْمَريم» في المتن الأعلى، واحد من الأدباء والشّعراء الذين تفتّحت بواكير عطاءاتهم في أرض الوطن لكنّها أزهرت وعقدت وأثمرت أخيراً في بلاد الاغتراب (الولايات المتحدة الأميركية). أمّا لماذا؟ فلا غرابة في الأمر، ولا حَيْرة في الإجابة. فحالُ صاحبنا وصديقنا (الراحل) سعيد أبو شاهين هو حال عشرات الأدباء المهجريين اللبنانييّن والسوريين، الذين لم تتّسع أوطانهم لمطالبهم البديهيّة في الخبز والحريّة والعيش الآمن الكريم، فيمَّموا شَطر أصقاع الدّنيا النائية، يطلبون فيها ما لم يجدوه في أوطانهم. وكان طبيعيّاً أن تتفتّح مواهبهم وتنضَج إبداعاتهم وحيواتهم الكفاحية والجهادية هناك، فيبرز حنينهم إلى أوطانهم وملاعب الطفولة والصّبا والشباب فيها، تصقلها ثقافاتهم التي حصّلوها في مُغترباتهم، لتظهرَ مواطنُ الإبداع في شخصيّة من يمتلك منهم جذوة الإبداع. سعيد أبو شاهين واحدٌ من هؤلاء، بل أحد أبرزهم.

لم ينلْ إنتاج سعيد أبو شاهين الأدبي والفكري في حياته الطويلة ما كان يجب أن يجده من الاهتمام والعناية، كحال الكثيرين كذلك – إذ لم يهتمَّ هو للأمر كما يبدو. أيضاً لم تتوفّر له بسهولة أواليات النّشر المُناسبة. إلّا أنه كُوفئ في أُخريات عمره بنشر أعماله، ثمَّ بالتكريم الذي ناله واستحقّه، وإنْ هذا جاء متأخّرا، فقد كرّمه اتحاد الكتّاب اللبنانييّن، وحلقة الحوار الثقافي، ووزارة الإعلام واتّحاد بلديّات المتن الأعلى، بالإضافة إلى مناسبات تكريم أخرى واحتفاء به في غير مكان – وقد كان لي شخصيّاً شرف الحديث عن أدبه في إحدى المناسبات قبل بضع سنين. و ترى أنّ من واجبها فتح ذراعيها للمُبدعين، أدباء وشعراء وفنّانين ومفكرين وأطبّاء وعلماء ممّن أثْرَوْا حياة مجتمعهم بعطائهم ونتاجهم القيّم. كيف لا وسعيد أبو شاهين فاعل نشيط في مجتمعه المحلّي (رئيس المجلس البلدي لبلدة بْمريم المتنيّة لفترة ما)، ومناضل قبل ذلك في صفوف «عُصْبة العمل القومي» بعد بضع سنوات من انطلاقها سنة 1933 في بلدة «قرنايل» المتنيّة على أيدي مناضلين تاريخييّن في طليعتهم: علي ناصر الدين، والدكتور حسين أبو الحسن، وعجاج نويهض، وقسطنطين يني وآخرون. وقد اعتقله الفرنسيّون سنة 1941 مع آخرين لفترة قصيرة.

أدب سعيد أبو شاهين

ينطوي مضمون أدب سعيد أبو شاهين على معانٍ عميقة، وأفكار جريئة، وحِكَمٍ بغير عددها خلص إليها بفعل ثقافته الغنيّة واتساع تجاربه وشفافية شخصيته والتزامها الأخلاقي والسياسي الصارم بقضايا مجتمعه ووطنه وأمّته، كما بقِيَم التّراث العريق التي ينتمي إليه. وهاكم بعض أفكاره الحصيفة وحكمه العميقة:
«تَعَلَّقَ بالوسيلة ونسيَ الهدف»
«الوصف يُعبّر عن ذات الواصف أكثر مما يعبّرُ عن ذات الموصوف»
«…كم من حقيقة اعتقدها الإنسان ثم تكشّفت عن وَهم»
«تجعلُ نفسك محامياً عن الله؛ فأين وكالتُك؟»
«ليس الرّيش ما يجعل النَّسر نَسراً…»
«من أراد الوصول إلى حقيقة ذاتِه عليه أن يتخلّى عن أطماعهِ وشَهواتهِ»
«قال: إنَّ أفضلَ الرأي هو ألاّ تخالف سُنَّةَ الطّبيعة بل أنْ تطوّرَها»
«متى مشيت وظلُّك إلى الشمس مشى ظلُّك وراءك، ومتى مشيت وظهرك إلى الشمس مشى ظلُّك أمامك».

هذا غَيْض من مئات الأفكار والحِكَم التي صاغها سعيد أبو شاهين بعناية في كتبه التي فاقت العشرة كتب*. لا حاجة للقول أنّ حِكَم أديبنا وأفكاره المنثورة بكثافة ليست مُستلَّة من هذا الأديب أو ذاك، ومن هذا الفيلسوف أو ذاك: هي بوضوح، من خلاصات العمر الطويل الذي عاشه، والتجارب الجادّة التي عرضت له، فكان قادراً بعقله الاستنباطيّ أن يستخلص ما استخلصه من قواعد للحياة العملية، ومبادئ تحكم عقله وضميره وحياته الداخلية الغنية.

خصوصية أفكار سعيد أبو شاهين تتّضح أكثر في الجانب الشّخصي، ولا أقول الذاتي، الذي تنتمي له أفكاره وحِكَمه التي رأيناها – وغيرها المئات. هو لا يتكلّم بالتعميم والتجريد وضمير الغائب، بل يتحدث عن نفسه، ومن تجربته، بل تجاربه الشخصيّة، وقد رغب كأيّ مُصلح اجتماعيٍّ أن يضعها بتصرّف قُرَّائه، بل بتصرُّف جيل بأكمله. وسعيد أبو شاهين أدرك تماماً قوّة «الكلمة»، فأراد صيانتها من كلّ تزييف وعن كلّ تحريف. قال: «عندما انحرفت الكلمات عن حقيقتها، انحرف الإنسان عن حقيقة حياته». وبهذه «الكلمة» رأى سعيد أبو شاهين أن الإنسان هو الغاية، أو يجب أن يكون كذلك دائماً، والوسيلة في آنٍ ليظهر خلق الله في أحسن صورة قال: «أصغيت للكلمة التي كانت هي في البدء فسمعتها تقول: الإنسان هو الغاية وهو الوسيلة». قال: «حصيلة كلّ الفلسفات والمذاهب الفكريّة كانت «الإنسان» هو مقياس كلّ شيء، وأصل وحصيلة هذا الإنسان العاقل الناطق كانت: الكلمة».

وإذا كانت الكلمة حقّة، وكانت تعبيراً عن الله، فلا فرق بعد ذلك بين هذه الكلمة وتلك إلّا في الشّكل، وهو فارق بسيط. قال: «وما خلائق هذا الوجود غير كلمات كُتِبت في سِفر الوجود من مداد واحد، وليس من فرق بين كلمة وكلمة إلّا بما تحمله كلّ كلمة من معنى. أما الشّكل واللّون فلا عِبرة له. فيا كلمة «الإنسان» فتّشي
عن معناك».

كذلك في الأخلاق العمليّة، فإنّ سعيد أبو شاهين مُدافع صلب عن القيم الأصيلة والسلوك الرّصين، يقول: «لا يعطي الورد غير الشّذا والطّيب ولو شرب كُدْرَة الماء». أو في قوله: «في الأخذ لَذّة وفي العطاء الفرح. أمّا اللّذة فهي من بعض طبائع الحيوان، بينما الفرح لا يعرفه غير هذا الإنسان الإنسان». فَلْنعطِ، ولنصنعِ الخير، هذا هو الإنسان. قال: «قال: عساني أزرع خيرَ العمل فأحصد خيرَ الثواب. قلت: وعسى مجتمع الناس أن يكون حقلك وهذه هي الأرض التي يرويها غيث الرّحمة».

وأولى مظاهر الخير الرحمة والمحبّة في القلب. والله عند سعيد أبو شاهين يقيم في القلب لا في هذا الشكل أو ذاك. قال: «لن يرى الفرح العظيم والمجد العظيم والحقّ الذي لا يعلو عليه حقٌّ إلّا من يسعى إليهما حاملاً في قلبه مصباح نور». «فتّشت في عرض المكان ودهر الزمان عن ربّي فلم أجده إلّا عندما وجدته ضاحكاً في أعماق قلبي». نقاء القلب وطهارة السّريرة هما ما يبعث الجمال في الأشياء. قال: «قالت: من يخيط لحواري الجنة أثوابها، فتبدو بمثل هذا الجمال. قلت: ليس لحواري الجنة أثواب جميلة، جمالها الفتّان هو ببراءة قلبها وطهارة نفسها».

وبعد: «أنا وأنت…. الأرض تطعمنا، والينابيع تسقينا، والشمس تدفئنا، والهواء ينعش رئتينا أنا وأنت. أبونا واحد هو الله، أمّنا واحدة هي الحياة. وهما يجودان علينا. فلماذا يا أخي تحرم نفسك وتحرمني من حبِّ الحياة وَجُودها؟ قُم يا أخي لنقدّس الله ولنكرّم الحياة… ثمّ لنغنّي لفرح الحياة ونعيش العمر بسلام».

أختم هذا الجزء الأدبيّ بقطعٍ جميلة من مناجاته لربِّه. يقول سعيد أبو شاهين: «ربّاه… وأنت الذي لا ينضُب لنعمائك معين. لحكمة خلقت من قلبي إناءً لا يمتلئ ليدوم فرحك بالعطاء ويدوم فرحي بالأخذ والنّوال. ربّاه ما أعظمَها نعمةٌ ومنّة. وقد خلقت لي شمس النور لاقتبس منها نبراساً، وخلقت لي مشاع الهواء لأنشق منه أنفاساً… ربّاه… وأنت الرّحمن الرّحيم الجوّاد الكريم. رحمتني وأكرمتني فأعطيتني نفحة من قُدرة الخلق والإبداع، أو الكشف والعِرفان حتّى بِتُّ أحسَب نفسي على شبهك ومثالك… كنت أنا صلصالاً وتراباً، فصنعتْ منّي مشيئتك «قيثارة»، ونفختَ فِيَّ من أنفاسك فاستويتُ على الأرض خَلقاً سويّاً يسعى، ليُخرِجَ بتقديسك أعظم نشيد ربّاني وأعذب لحن إنساني… ربّاه… أيّها المُناجى فتسمعَ مناجاتي بغير أن تتحركَ شفتاي بصوت!» (ص108- 109) هذه عيّنات اخترتها من أدب سعيد أبو شاهين الحِكَميّ. وقد صاغ المؤلّف معظمها على نحو قصَصي.

وإذا لاحظنا أنّ بين أعماله المنشورة أكثر من قصّة واحدة (أقل من رواية وأكثر من قصّة قصيرة) أدركنا فوراً الموهبة القصصيّة التي امتاز بها سعيد أبو شاهين. قدرته على جعل أفكاره في قالب قصصيّ جليّة، حتّى في صياغة حِكَمِه وخلاصاته المعرفيّة. يُظهر الشكل القصصي هذا مدى تأثّر أبي شاهين، كما أعتقد، بالقصص الأخلاقي أو الحكميّ الذي نجده على وجه الخصوص عند جبران ونعيمه ومارون عبود، وربما عند نعيمه أكثر من سواه. وفي ظَنّي أنّ الملمح هذا لا يزال ينتظر الدارسين ليعملوا على التوسّع فيه وإظهار أهمّيته كما تفعل الدراسات الأدبية النقديّة.

تكريم الأديب سعيد أبو شاهين

في وسع القارئ أن يلحظ، زمنيّاً، المبلغ المتقدم من الحكمة العميقة التي بلغها سعيد أبو شاهين في أعماله الأخيرة، وبخاصّة في كتابه الذي اخترت منه هذه النصوص «العرائس الأبكار من بنات الأفكار» (2009). وفي من يرغب أن يرى مثلها، أو ما يقرب منها، أو يتوسع فيها، أن يجد ضالّته في كتب سعيد أبو شاهين الأدبيّة، وهي على التّوالي: شمس الرّبيع، 1999، شعر – لمعات الخواطر، 2001، 365 حِكمة – جوهر المرآة، 2001، قصّة – إرادة الحياة، 2002، شعر – السرُّ الدّفين، 2002، قصة – بذرة تراب، 2005، قصة – العرائس الأبكار، 2009، مجموعة حِكم – خواطرُ زجليّة، 2009. إلى أعمال أخرى تقوم كريمته بجمعها ونشرها.

شعر سعيد ابو شاهين

سعيد أبو شاهين، إلى ذلك، شاعر. بل من الطبيعيّ، والعادي في أعمال الأدباء المهجرييِّن، أن تجد الشعر حاضراً بقوّة. فهو الأكثر قدرة على حمل زفراتهم وأشواقهم وآيات حنينهم، وسرد ما أمكن ممّا رأوْه ظلماً وقع عليهم، أو عدالة لم تصلهم، أو حتى أفكاراً وخلاصات بلغوها في أواخر أعمارهم. وأبو شاهين ليس شواذّ للقاعدة هذه بل هو تأكيد لها.

فشعره متقطّع، فيه ألوان عواطفه وأحاسيسه وغضبه وآيات من مواقف قوميّة ووطنيّة حيال قضايا وطنه وقومه – وإن بدا أخلاقيّاً في الغالب – وفيه أيضاً شعر المناسبات. ولافِتٌ أنّ الروح القصصي عند سعيد أبو شاهين لم يفارق حتى قصائده.

خذ مثلاً لشعره الاجتماعي قصيدته «العبد المتمرّد»:

عبدٌ تَمـــــــرّدَ لـــــــــم يخضعْ لمـــــــولاهُ              والنّـــــــــاس قد نهضت عن ذاك تنهاهُ
ماذا دهـــــــاهُ؟ أهلْ مَــسٌّ أحاق بـــــــــه                مــــــن الجنون أم الشيطــــان أغـــــــواه
قد خالفَ الشّرعَ فيمـا أهلُه اجتهدتْ                   رَدْحــــاً من الدّهــــر في تفسير معنـاه
* * *
إنّــــــــي أخالفُـــــــهم لمّــــــــا مشيئتــهـم        جــــــاءت مُخــــالفـةً مــــــا شــــــاءه الله
* * *
حرّاً خُلقتُ فشاؤوا أن أكــــــون لهــــــم            عبـــــــــداً لأمــــــــــرٍ عزيزُ النّفس يأباه
لن أرتضي من فنون القول واحــــــــدة              إلّا التــي إنْ ســـــألتَ العقلَ يرضــــــاه
* * *
الذئبُ يدعو إلــى دين السّلام ومِـــــنْ                  أدهى الدّواهــــي إذا لم تؤمن الشّــــاهُ
إن تَكفرِ الشــــــاه قد حَقّت إدانتـُـــــــها                والذئــــــبُ ناظــــــرةٌ بالحُـــــكمِ فــــــكّاه
ثم ينــــــــال مــــــــــن التعظيم مــــــــرتبةً            إذ إنّـــــــه مـــــا استقام الشـــعرُ لــــولاه
* * *
ربّاهُ وحـــــــدكَ من يَهدي ضمائـــــــرنا            ربّـــــــــــــاه عطفكَ بالإنسانِ ربّــــــــــــــاهُ

أو في قصيدته «ظُلم الناس»، يحكي عن الظّلم الاجتماعي الذي تتعرّض المرأة والتقصير الاجتماعي في حقّ الأم على وجه الخصوص:

طــــــال ظلــــــمُ النّـــــــاس للأمّ التـــــــي         هي بعـــــــــــدَ الله أصــــــــلُ الـــكائنـات
ظلموهـــــــــا دونمــــــــــا ذنبٍ ســــــــــوى         إنّــهــــــــا قــــــــــد أوجدتهُم بالحيـــــــــاةِ
* * *
عجَباً مـــــــــن فيلسوفٍ يــــــــدّعي عقـ             ـــلاً ويــــــحصي أمّــــــه في الجاهلات
كيف يزكـــــــو مَنبِتٌ مـــــــــا لــــــــم يكن           أصــلُ ذاك الطّيــــــب في أصل النّواة
* * *
حبسوهــــــــــا ثم قــــــــــالوا ويحَـــــــــــها             لم تؤالــــــــف غيرَ عَيْش الظُّلمـــــــــات
عصبـــــــــوا عينيهــــــــــا ثمّ خبّـــــــــــروا           أنّـــــــها لـــــــــم تَهْتــــــدِ درْبَ النّجــــــــاة
قتلوهــــــــا ثــــــم قـــــــــالوا لـــــــيس مَنْ             كــــان حيّــــــــاً مثل من كــــــان رفـــــــــاةِ
أمُّـــــــــــكم أو أُختــــــــــكم أو بنتــــــــــكم             ظلمتُم أيُّــــــــــــها القـــــــــــوم الجنــــــــاةِ
إنْ حــسِبتُم ظُلـــــــــمَها حقـــــــــاًّ لـــــكم                 ذاك وايــم الله أدهـى الدّاهيــــات

وإلى الثورة على الظّلم هناك «شعر الأفكار»، في غير قصيدة له، واحدة منها «قبس من نور الحقيقة». ونختم مرورنا السريع هذا بقصيدة تُظْهِر حِسَّه الإنسانيّ في شعره كما هو في نثره العميق وقناعته بوحدة الإنسانيّة. يقول في قصيدة: «داري هي الأرض، إخواني هم البشرُ»:

داري هــي الأرض أخواني هم البشرُ            بــــالأرض أو بســــــواها أينما انتشروا
مَـــــنْ ذا يؤكّد لــــي أنَّ الخليقةَ مُـــــــذ          كــــــان الوجود بهذي الأرض تنحشـــرُ
ما زال بالأرض حــيّ: لم يعد عجبـــــاً           إن يبعث الحــــيّ فيــــها الأنجمُ الأخرُ
* * *
داري هي الأرض: يا للأرض أحسبُها             لا الشمـس تَعْدوها فضلاً لا ولا القمرُ
يكفي لها أنَّ مِـــــنْ أحشائها انفطرت          روحُ الحيـــــــاة ولا أنثـــــــى ولا ذكـــــــرُ
* * *

الخَلقُ يعمرُها: والخيــــــــر يغمـــــــرُها            أرضٌ تعطّـــــرها الأنفــــاسُ والزَّهَـــــرُ
والأرض تســعدُ إنْ جـــــادت لساكنــها               كالأرض تســــعد إمّا جادهــــا المطـرُ
لولا الذيـــــن تّوّلّاهـــــــم بها جشــــــــــعٌ           أعمــــــى القلوب وزاغ السّمعُ والبَصَرُ

وإلى الشعر الفصيح، كان سعيد أبو شاهين شاعراً زجليّاً بامتياز وكفاءة. وتعدّدت أيضاً موضوعاته: لكنّ أطرفها نظْمُه مئةً وخمساً وثمانين بيتاً عتابا في عقد واحد. وإن دلّ ذلك على شيء فإلى روح جيّاشة بالمشاعر والأحاسيس وقريحة شاعرية وافرة العطاء.

قالوا في سعيد أبو شاهين

نال الأديب سعيد أبو شاهين في أواخر حياته الممتدّة بعضاً من التكريم الذي استحقّه، فكان ذلك اعترافاً بموهبته من أدباء وكتّاب وهيئات ثقافية، كما هو تكريم اجتماعيٌّ له من قادري عمله الاجتماعي وخاصة في منطقته، المتن الأعلى. وقد اخترنا عيّنات من بعض مظاهر التكريم ذاك.

أ. أنور الخليل
وزارة الإعلام اللّبنانية، 1999

الشيخ سعيد أبو شاهين كاتب مُميّز من بلدي، أحبَّ الوطن والإنسان فكان همّه وهدفه الذي ظهر جلياً في كتبه التي ستغني المكتبات اللبنانية. ونحن كوزارة إعلام نعتبره غلّة ثقافيّة بامتياز.

أ. فرحان صالح
الأمين العام لحلقة الحوار الثقافي

نحن في حلقة الحوار الثقافي وجدنا في الأديب اللّامع سعيد أبو شاهين ثروة أدبية وإنسانية واجتماعية جعلتنا نسلّط الضّوء عليه اعترافاً منّا بقدراته الفكريّة المميّزة.


المحامي سليمان تقي الدين

لا يسعني إلّا أن أرفع القبّعة أمام الشاب الثمانيني سعيد أبو شاهين ذلك القلم الغزّار الذي استطاع في فترة عشر سنوات أن ينجز تسع مؤلفات من الشعر والفلسفة والأدب والقصة الهادفة. فعطاؤه هذا يستحق مِنّا التقدير والاحترام.
———————————————-

د. وجيه فانوس
الأمين العام لاتحاد الكتّاب اللبنانيين

يكفي سعيد أبو شاهين أنّه نذر النفس للحبّ والعطاء مغموسين بزيت الإيمان مجلّلَيْن بعباءة التُّقى والورَع. الله مرشده وهاديه. وإيمانه بالله نوره الذي يسطع بين يديه، يضيء له ما يواجهه من ظلمات العيش وعقله سراج يرعى النّور ويسهر على زيته ليظلَّ في ضميره بذلاً لكلِّ ما عنده من خير ينفع به نفسه والنّاس.


د. إلهام كلّاب البساط
أستاذة جامعيّة
نتاج غزير في سنين قليلة من شعر وزجل وحِكم وفكر وتأمّلات وروايات …. غزارة تُفرح نفوسنا والعقول بِرُؤاها العريقة والمعاصرة معاً لقضية الإنسان … غزارة تُخجلُ عمرنا من سنين عمره المباركة، وتكاسلنا من نشاطه المثمر.


د. زاهي ناضر
أستاذ جامعي

يتمتّع سعيد أبو شاهين بكلّ مواصفات رجل الحكمة وصاحب الكلمة وموهبة الاستبصار والاستبطان والقدرة على فَهم الحياة والنّزوح إلى أعماقها والغَوْص في شؤون النفس والإنسان عامة وبالطاقة المتقدّمة على تجاوز الاقتباس إلى الأصالة والإبداع.


المحامي عصام العريضي

يبقى، وهذا رأيي الشخصي، أنّ أدب سعيد أبو شاهين، وبخاصّة شعره، لمّ يُحقَّق بعد كما يجب، أو وفق الأصول، بخلاف ما هو عليه نثره. وعليه، مطلوبٌ جهد إضافي، علمي وحِرفي، لموضعة شعره وإعادة توزيعه، وأحياناً تنقيته ليتلاءم والقواعد الشعريّة التامّة، فهو غنيَ بالصور الشعرية دونما افتعال أو اصطناع، وتحتاج لجهد علمي تقني ليخرجها لجهة الشكل.


د. فارس يوسف
أستاذ جامعي

سعيد أبو شاهين تخطّى عصره بكلّ ما تعنيه الكلمة. فكان مُبدعاً ومدرسة في كل مجالات وقِيم الحياة، (التسامح، الصدق، الوفاء، العطاء، المحبة، والإنسانية) فكان شعاره «الإنسان هو الغاية والوسيلة». أيضاً مدرسة في وطنيّته وعروبته في زمن أصبحنا نفتّش فيه عن رجال مِنْ هذا النوع.
وأخيراً، أعمال الأديب سعيد أبو شاهين عميقة لجهة المعنى، موهوب فيها لجهة الشّكل وهي أقرب إلى العفويّة منها إلى التكلّف والاصطناع، وتستحقّ كذلك أن تكون موضوعات لمباحث أدبيّة ونقدية لاحقة.

عائلة سعيد أبو شاهين (قبل بضع سنوات) في عيد ميلاده المئة

مقالات