الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 3, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مصادر الطاقة المتجددة

مصــــادر الطاقــــة المتجــــددة
نفــــط لبنــــان الحقيقــــي

90 % من بيوت قبرص تستخدم الطاقة الشمسية
لتسخين المياه مقابل 3 % من بيوت لبنان!

ارتفاع أسعار المحروقات عامل مهم لنمو الطاقة المتجددة
لكن غياب الخطة الوطنية والحوافز المالية عائق أساسي

كتب المحرر الاقتصادي:

إحدى أبرز المفارقات التي يعيشها قطاع الطاقة في لبنان هو الغياب التام لأي سياسة بعيدة الأمد لإدخال الطاقة المتجدّدة وتطوير استخدامها على الصعيدين العام والخاص. يستمر هذا الفراغ الملفت على الرغم من وجود عوامل يفترض أن تدفع إلى ملئه بأسرع وقت. ومن هذه العوامل:
إن لبنان يفتقد لمصادر الطاقة الطبيعية المعروفة مثل النفط والغاز أو الفحم الحجري بينما يتمتع بقدر من الطاقة المنتجة من مساقط المياه. ويعتقد بأن أكثر من 95 % من الطاقة المستهلكة في لبنان سواء في إنتاج الكهرباء أم على شكل محروقات يستوردها لبنان من الأسواق الدولية.
إن قطاع إنتاج الكهرباء في لبنان يعاني من مشكلات عدة، من أهمها ضعف الجدوى الاقتصادية وتراكم العجز السنوي بسبب سوء الإدارة والإهدار وسوء الجباية والتعديات الواسعة على الشبكات. وهذا يعني أن للدولة مصلحة أكيدة في حفز القطاع الخاص سواء كأفراد أم كمستثمرين للإستثمار في الطاقة المتجدّدة، لأنه كلما اتسع نطاق استخدام الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية كلما خفف ذلك عن الدولة والخزينة.
إن الاستثمار في مصادر الطاقة المتجدّدة بات السياسة الثابتة لجميع دول العالم بما في ذلك الدول التي تمتلك مصادر للطاقة التقليدية كما هي الحال في بلدان الخليج.
إن تكنولوجيا إنتاج الطاقة من المصادر المتجدّدة حققت قفزات هائلة في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى خفض تكلفة الإنتاج بالكيلوات إلى معدلات اقتصادية بالنسبة لطاقة الرياح وإلى معدلات مقبولة بالنسبة للمستهلكين الذين يهمهم تحقيق اكتفاء ذاتي أو “استقلالية” كهربائية.
إن تبني سياسات لزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بات جزءاً أساسياً من الالتزامات الدولية للدول الموقعة لمعاهدة كيوتو، ولغيرها من المعاهدات المتعلقة بخفض انبعاثات الغازات المسببة للتبدّل المناخي، ولاسيما ثاني أوكسيد الكربون الناجم بصورة خاصة عن إحراق مصادر الطاقة الإحفورية Fossil Fuels مثل النفط ومشتقاته والغاز والفحم الحجري. وبالنظر لالتزام لبنان تلك المعاهدات فإن الجدية في تنفيذ بنودها يقتضي أن تبادر الحكومة اللبنانية لتبني سياسات طويلة الأمد لخفض الاعتماد على مصادر الطاقة الملوثة ووضع أهداف كمية محددة في ما خص تطوير مصادر الطاقة المتجدّدة.

المثال القبرصي
إن التأخر الكبير للبناني عن ركب الطاقة المتجددة يظهر عند مقارنة وضعه بما يجري في دولة صغيرة مجاورة هي قبرص التي تعتبر قصة نجاح حرية بالدرس بسبب التقدم الذي حققته في ميدان استخدام الطاقة المتجددة. إذ بلغت مساهمة الطاقة الشمسية في إنتاج الطاقة في قبرص نحو 4 % من المجموع، علماً أن القسم الأكبر من هذه الطاقة يستخدم في تسخين المياه. وتبلغ مساحة اللاقطات الشمسية المركبة في قبرص اليونانية اليوم نحو 690,000 م2 (في مقابل 30,000 م2 فقط في لبنان) كما أن نحو 90 % من البيوت و80 % من الشقق و50 % من الفنادق يستخدمون الطاقة الشمسية لتسخين المياه، وهو أمر جعل قبرص تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث معدل استخدام الطاقة الشمسية بالفرد.
في المقابل، فإن 1 % فقط من المنازل في لبنان كانت تستعمل الطاقة الشمسية لتسخين المياه في العام 2002 وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 3 % تقريباً في الوقت الحالي.
وعلى عكس التلكؤ الحاصل في لبنان، فقد بدأت قبرص جمع الإحصاءات عن معدلات سطوع الشمس خلال أيام السنة منذ العام 1959، أي منذ أكثر من 50 عاماً، وأنجزت حكومة الجزيرة أول خطة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة في العام 1985 وتمت مراجعة تلك الخطة في العام 1989، وتمّ في العام 2000 إنشاء مركز تطبيقات دراسات الطاقة ومؤسسة قبرص للطاقة. كما أعلنت مصلحة الكهرباء موافقتها على شراء الطاقة الكهربائية المتولدة من المصادر المتجددة ونُشر أول قانون يستهدف التشجيع على الاستثمار في الطاقة المتجددة في العام 2003، وتمّ في إطار ذلك القانون تأسيس الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة في قبرص في العام 2004.

ملامح التأخر اللبناني
في مقابل ذلك، فإن الوضع في لبنان يتمثل بالتالي:
غياب أي إرادة سياسية واضحة على مستوى الدولة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وأبرز مظاهر ذلك الغياب هو عدم وجود خطة وطنية لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، ولا أهداف كمية ملتزم بها ولا موارد ولا أبحاث وطنية مخصصة لهذا الغرض حتى الآن.
عدم وجود تشريع أو آليات تسمح ببيع الدولة فائض الطاقة المنتجة من المصادر المتجددة، علماً أن تنظيم إمكان بيع الدولة فائض الطاقة التي قد ينتجها الأفراد أو المستثمرون يعتبر شرطاً لا بدّ منه لإطلاق مبادرات القطاع الخاص في مجال الطاقة المتجددة.
الدعم المرتفع لسعر الطاقة الكهربائية وتراجع تكلفته النسبية بالنسبة للمواطن هما من أهم العوائق أمام تحول المستهلكين نحو مصادر الطاقة المتجددة.
الملفت أن هناك سياسة ضمنية تسمح بشراء وتشغيل المولدات الكبيرة وبيع الطاقة الكهربائية منها إلى المنازل لكن لا تسمح بإقامة مشاريع كبيرة مماثلة بالاستناد إلى طاقة الرياح مثلاً أو الطاقة الشمسية. وهذا الأمر يعكس ربما ثقل المصالح المالية للوبي شركات النفط ومستوردي ومشغلي الموتورات.
حتى في مجال طاقة الرياح، فإن هناك عقبات إدارية مثل السياسة الجمركية التي تمنع الأفراد من استيراد توربينات هوائية تزيد طاقتها على 3 أو 5 كيلوات على سبيل المثال.

نفط لبنان
بعد إهمال الموضوع لسنوات طويلة، فإنه من المؤكد أن عوامل عدة تدفع الآن باتجاه تطوير مصادر الطاقة المتجددة التي تتوافر بصورة كبيرة في لبنان وخصوصاً الرياح والطاقة الشمسية. أما العامل الأهم فهو الارتفاع الكبير والمستمر في أسعار النفط ومشتقاته وهو ما يؤدي إلى زيادة العجز الحكومي في إنتاج الكهرباء وإلى ارتفاع تكلفة الموتورات وارتفاع تكلفة الفاتورة الكهربائية عموماً. ويمكن القول إن هناك تلازماً طردياً بين ارتفاع سعر النفط وسعر المازوت وبين تحول مشاريع الطاقة المتجددة إلى خيار اقتصادي بالنسبة للمواطنين. .
تشير الرسوم البيانية المرفقة في هذا المقال إلى أن لبنان يتمتع فعلاً بفرص كبيرة لإنتاج الطاقة من المصادر المتجددة. وقد أصدرت الدولة اللبنانية مؤخراً خارطة الرياح في لبنان، وهي خارطة تبين حركة الرياح ومعدلات سرعتها في مختلف الأماكن والمرتفعات والجبال. وقد تم إعداد تلك الخارطة بناءً على قاعدة بيانات تمّ جمعها عن حركية الرياح في لبنان. وتبين تلك الخارطة أن لبنان يحتوي على مئات المواقع الجبلية التي تتمتع بممرات هوائية قوية على مدار العام، وهذه النقاط تصلح لتثبيت التوربينات الهوائية لإنتاج الكهرباء يما يكفي حاجة مناطق لبنانية بكاملها. كما أن معدلات السطوع اليومي للشمس على مدار العام تعتبر نموذجية أيضاً وتجعل من تبني توليد الطاقة من اللاقطات الفوتوفولطية أمراً ممكناً من الناحية الاقتصادية.

شروط انطلاقة الطاقة المتجددة في لبنان
بناءً على ما سبق، فإن الدولة اللبنانية في حاجة ماسة لإعادة النظر سريعاً في موقف عدم الاكتراث الحالي من ملف الطاقة المتجددة، وذلك بالانتباه إلى المسائل التالية:
تنظيـــــم إمكــــان بيــــع الدولــــة الطاقــــة المنتجــــة من مصــــادر الطاقــــة المتــــجددة.
توفــــير قاعــــدة بيانــــات وأبحــــاث متكاملة عن مصادر الطاقة المتجــــددة فــــي لبنــــان بمــــا يسمح من تقدير جــــدوى كــــل مــــن تلك المصــــادر.
إلغاء الرســــوم الجمركيــــة علــــى كافــــة تكنولوجيــــات ومعــــدات الطاقــــة المتجــــددة.
منح حوافز مثــــل زيادة المساحة التي يمكن البناء عليها مقابل إدخال مصــــادر الطاقة المتجددة من قبل المطــــورين.
تعميم التوعية بتكنولوجيات الطاقــــة المتجــــددة في مختلف وسائل الإعــــلام.
توفيــــر برامــــج تسليــــف ميســــر لإدخــــال تقنــــيات الطاقــــة المتجددة في الاستخــــدام الفردي المنــــزلي أو المشاريــــع الخاصة لإنتاج الطاقــــة.
رفع ضــــريبة القيــــمة المضافــــة عــــن وحــــدات تسخيــــن الميــــاه بالطاقة الشمسية.
فــــرض إدخــــال أنظمــــة تسخيرن الميــــاه بالطاقــــة الشمسية على كافة البيوت والأبنيــــة الجديــــدة، واشتراط ذلك كجزء من الترخيص، كذلك فــــرض هذا النظام في حالات الترميم والتوسيع لمنازل قائمــــة.

معدل الالتقاط الشمسي اليومي في لبنان حسب أشهر السنة
معدل الالتقاط الشمسي اليومي في لبنان حسب أشهر السنة

رسالة الغفران

رسالـــــة الغفــــران
لأبــــــي العــلاء المعــــــرّي

إيمـــــان العامــــة فــــي ميــــزان العقــــل

هي من المؤلفات العربية النادرة التي صنفت ضمن الأدب العالمي، لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء «أبي العلاء المعري»، بقيت غير معروفة حتى أواخر القرن التاسع عشر حيث أعلن المستشرق الإنكليزي «بيكلسون» أنه حظيّ بمخطوطات قديمة قيمة أهمها رسالة الغفران، مع العلم أن أبا العلاء المعري توفي سنة 1057م. ونحو سنة 1901م قدّم بيكلسون وصفاً للمخطوطة التي خضعت لدراسات عدة، ولكن عربياً بقيت مهملة حتى سنة 1950م، حيث نشرت أول طبعة محققة في مصر، وبالمقارنة تبين أن هناك نسخة قديمة في سوهاج في مصر كانت تحمل عنوان «في علم الأدب: مجهول المؤلف».

أحدث اكتشاف رسالة الغفران ضجة كبيرة في أوساط أوروبا الأدبية، إذ تبين أن الأديب الإيطالي العالمي «دانتي» أخذ فكرة كتابه العالمي الشهير «الكوميديا الإلهية» عن رسالة الغفران لأبي العلاء، وكذلك الشاعر الإنكليزي «جون ميلتون» في قصيدته «الفردوس المستعار والفردوس المفقود».

وقبل البدء بوصف وقراءة رسالة الغفران لا بدّ من التعريف بإختصار بأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري ولد سنة 973م نسبة الى معرة النعمان قرب حلب، شاعر وفيلسوف وناقد عربي كبير لقب برهين المحبسين لأنه أصيب بالعمى في سن الرابعة والتزم بيته زاهداً أكثر سنين حياته، درس في حلب وأنطاكية وزار بغداد.

منهجه عقلاني متطرف أثار عليه نقمة العلماء والفقهاء المعاصرين الى حد اتهامه بالزندقة، سبب هذا الاتهام هو أنه كان يرفض التسليم بظاهر العديد من النصوص والأفكار والطقوس الدينية، بل يحاول الولوج الى عمقها ومعناها الحقيقي المقصود. ويقال إنه نسبت اليه الكثير من الآراء وبيوت الشعر المغرضة بهدف الإساءة إليه، مما اضطره للقول في كتابه «سقط الزند»: «أنا شيخ مكذوب عليه». ومن أساليبه التي ساهمت في اتهامه بالزندقه هو اعتماد مبدأ «الشك» في بعض الأمور للوصول بعدها الى اليقين، ولكن الباحث المتعمق يلاحظ بسهولة أن هذا المنهج يصح في الإسلام إذ إن الإمام «الغزالي» حجة المسلمين طور هذا المنهج واعتمده، ومن المفيد القول إن الإمام الغزالي ذكر في أحد كتبه كرامة من كرامات أبي العلاء التي تدل على تقواه وإيمانه، وقبل ختم الحديث عن أبي العلاء لا بدّ من القول إن هناك العديد من الكتب والرسائل التي تدافع عن أبي العلاء مثل كتاب «رفع التجري عن المعري» للعلامة «كمال الدين بن العديم»، وغيره مثل «ياقوت الحموي» في معجمه، و«الصفدي» في «الوافي بالوفيات» و«نكت الهميان»، والعباسي في «معاهد التنصيص».

أسلوب رسالة الغفران ظاهره هزل وإمتاع وباطنه مواقف قوية للشاعر من مسائل دينية وأدبية شغلت عصره

أما رسالة الغفران فقد كتبها أبو العلاء رداً على رسالة بعثها اليه أحد معاصريه «علي بن منصور» الملقب بإبن القارح. يصف «إبن القارح» في هذه الرسالة توبته وتغير أفكاره في شيخوخته وأنه يأمل دخول الجنة، ويختم رسالته بسؤال «أبي العلاء» عن رأيه في هذه الرسالة. حركت رسالة «ابن القارح» خيال «أبي العلاء» فكتب رسالة الغفران يثني فيها على توبة «إبن القارح»، واعتمد أسلوباً مسرحياً استطرادياً غريباً، أطلق فيه أبو العلاء صاحبه «ابن القارح» في رحلة ميتافيزيقية علوية يلتقي فيها بشعراء في الجنة، وآخرين في النار، وشخصيات من البشر والجن والحيوانات. ويدير «ابن القارح» معها مناقشات لغوية، ونحوية، وأدبية ذات عمق ديني، فضمن «أبو العلاء» في هذه المناقشات والحوارات العديد من أفكاره ومواقفه على شكل قصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ ودين، وتطرّق إلى هذه القضايـا بأسلوب مبطّن ظاهره هزل وإمتاع وضحك وباطنه مواقف من بعض المسائل الإجتماعية والدينية والأدبية، وبكاء لما آل إليه مآل العقيدة، وتحطيم لبعض الأصنام التي صنعتها العامّة في أذهانها.

على الصعيد الإجتماعي، عكس «أبو العلاء» حالة التهتّك والمجون والإستهتار في الملبس والمسكن، وانتشار المحسوبيات واحتكار رجال الدولة للمقدرات والثروات ومبالغتهم في الإسراف، في مقابل تفشي الفقر بين كثير من الناس. ومن المعلوم أن العامة يسقطون واقعهم على الغيبيات فيتصورونها من حيث هم، وهذا ما جسده «أبو العلاء» في رسالته، إذ أطلق العنان لخياله حول الجنة كما تفعل العامة، فعكس الطبقية الإجتماعية في عصره الى داخل الجنة، كأن أسكن البعض في قصور جميلة وأكسبهم جمالاً ونضارة، أما البعض الآخر فأسكنهم في الأطراف داخل بيوت وضيعة. ولم ينسَ «أبو العلاء» أن يجسد صورة التعلق والهوس بالملذات والشهوات الجسدية بدلاً من التعلق بالتطور والعمل الفكري، وهو يبين لنا في أحد مقاطع الرسالة كيف أن الشيخ «إبن القارح» أوقف سعيه لسماع بعض أشعار الجن كي لا يضيع على نفسه فرصة اللقاء والتمتع ببعض الحوريات.

على الصعيد الديني، أضاء «أبو العلاء» على الفهم الخاطئ لهدف وغاية الدين من قبل الناس، حيث يُستعمل في كثير من الأحيان لتمرير السياسات الدنيوية بما فيها من الزندقة والنفاق، وكذلك كيف أن الناس دنست المقدسات إذ تنظر الى الجنة كبقعة تستباح فيها كل المحرمات فترتكب الكبائر من دون رادع أو وازع، وكأن ترك الناس للملذات في الحياة الدنيا هو فقط للحصول عليها أضعافاً مضاعفة في الحياة الباقية الآخرة.

أما على الصعيد الأدبي، فقد صال «أبو العلاء» وجال كاشفاً عن الكثير من آرائه ومواقفه حول العديد من قضايا الشعر والأدب، واستعمل لهذا الغرض صديقه «إبن القارح» عبر إجرائه حوارات عدة مع الأدباء والشعراء الذين منهم في الجنة ومنهم في النار، فبين ازدرائه بمن يحاولون التكسب بالشعر، وكذلك التذلل والتزلف لقاء المنافع الخاصة والمادية والتقرب من الملوك والأمراء، ومنها ما يوجب المبالغة غير المستحبة في الوصف، وكذلك يبدي رأيه وموقفه في كثير من الشعر المنحول وغيره.

حقيقة الأمر، إن رسالة الغفران عمل أساسي في تاريخ الفكر الفلسفي العربي والإسلامي، وهي جديرة بأن تقرأ في زمننا هذا كما في سائر الأزمان الأخرى، فما زال العديد من المعتقدات والأفكار الساذجة رائجاً في مجتمعنا كما كان رائجاً في أزمنة سبقت، ولكن شرط القراءة المفيدة هو أن تقرأ بعقل منفتح وعميق لا يقارنها بظاهر النصوص الدينية بل بمغزاها ولبّها، ولا شك أن القارئ يستمتع بقراءتها لما فيها من الصور والمشاهد المسرحية، ويستفيد منها لغوياً لما فيها من غرابة الألفاظ والكلمات، وكذلك يستفيد منها دينياً واجتماعياً وفكرياً وتاريخياً، بل يمكن القول إن كل قارئ سيجد نفسه في كثير من المواضع مكان إحدى شخصيات الرسالة، فينتقد ويقيم نفسه من دون أن يشعر.

صناعة دبس العنب

صناعة دبس العنب
فـي منطقـة راشـــيا

أشقر وحلو معتق تفخر به موائد الشتاء

الزبيــب غـذاء ودواء وأغلبـه
ما زال يجفـف بالطـرق التقليديـــة

«أيلول ذيله بالشتي مبلول»، قول شائع بين المزارعين وأهل الأرياف يقصد به تبدل الطقس مع دخول شهر أيلول وتحول الميزان نحو الرطوبة وسحابات المطر الخريفي.
لكن لشهر أيلول معنى آخر في منطقة راشيا باعتباره شهر القطاف، وبالتحديد قطاف كروم العنب والبدء في تحويل قسم كبير من المحصول إلى الدبس العنبي الشهير والزبيب.
وزراعة الكرمة من الزراعات الشهيرة في منطقة راشيا، إذ تحتل الجزء الأكبر من مساحة الأراضي الزراعية. وعلى الرغم من تراجع مساحة الأراضي المستصلحة نتيجة اتساع رقعة الأراضي المهملة (البور) وتمدّد العمران، فإن هذه الزراعة ما زالت أساسية ويعوّل عليها السكان بشكل كبير في اقتصادهم الموسمي.
أما صناعة الدبس العنبي فلا تقل أهمية، وهي قديمة العهد تناقلها المزارعون منذ مئات السنين، وكان الهدف منها تحويل عصير العنب إلى مكثّف سائل يُعرف بإسم «الدبس» والاستفادة بالتالي من فائض المحصول عبر تصنيع مشتقات منه مثل الدبس والزبيب، اللذين يتم استهلاكهما خلال فصل الشتاء ليعطيا دفئاً للجسم وغذاءً أساسياً.
ومع انتصاف شهر أيلول يبدأ المزارعون بقطاف العنب ونقله إلى المعصرة حيث يتم تجميعه ثم تنقيته من الشوائب ليصار الى عصره. وهذه العملية تمرّ بمراحل متعددة تبدأ بفرز العنب بعد قطافه إلى أقسام عدة. ويؤخذ القسم المعدّ للعصر إلى «بيدر المعصرة» حيث كان يوجد على كل معصرة بيدران أو أكثر، ويتبع كل بيدر جرن. والبيدر هو عبارة عن مسطح من الحجر يتم وضع العنب عليه ليتم عصره فيرش العنب بتراب أبيض يقال له الحوارة أو تراب الدبس، والهدف منه تنقية العصير بعد العصر ثم يُقدم شخص أو أكثر ليبدأ «خبص» العنب بواسطة الأقدام التي تكون نظيفة بطبيعة الحال، ويذهب العصير إلى جرن المعصرة الذي يكون بمستوى أدنى من البيدر فيجمع العصير الذي كان يقال له (مستار ) حتى تركد الشوائب والتراب في أرضه ليصار في ما بعد إلى نقله بواسطة أوعية معدنية أو نحاسية الى الحلة أو الخلقينة، ويوضع العصير على موقد الحطب لتبدأ عملية الغلي التي تستمر لساعات عدة حتى يتكثّف العصير ويصبح دبساً، علماً أن هذه العملية بدورها تمرّ في أكثر من مرحلة:
المرحلة الأولى: وتسمى «السلق» حيث تستمر الى أكثر من ساعتين ونصف الساعة، ويتمّ السلق على درجة أقل من درجة الغليان ما بين 80 الى 90 درجة مئوية. خلال هذه المرحلة يتم تشلية العصير، والهدف منها هو تبريد العصير وعدم خروجه من الحلة، وبعد الانتهاء من هذه المرحلة يتم نقل العصير الى بيدر المعصرة مجدداً لتبريده وتصفيته من الشوائب ويُنقل بواسطة “القسط”، وهو إحدى لوازم المعصرة القديمة، وتحتاج هذه المرحلة ما يقارب الخمس ساعات.
المرحلة الثانية: وتسمى مرحلة «الطهي»، وتستغرق وقتاً يصل إلى أربع ساعات، وذلك حسب الكمية. وأثناء الغلي يتم تشلية العصير ونزع ما تبقى من شوائب في داخله قبل أن نصل الى المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة التي يتم فيها وضع الدبس في أوعية نحاسية ليصار الى تحريكه بواسطة أغصان التين ليأخذ اللون الأشقر وبعدها يصبح الدبس جاهزاً للسكب بواسطة المغراف ويوضع في أوعية خاصة به، وغالباً ما تكون الجرار فخارية.
ضحية التحديث
لكن موجة التحديث طالت هذه الصناعة التقليدية كما طالت غيرها من الصناعات لتختصر المكننة الوقت الذي يستغرقه التصنيع مسببةً في الوقت نفسه البطالة لدى الذين كانوا يعملون في صناعة الدبس، والضحية الأولى لدخول الآلة هو الحدث الاحتفالي لجمع الموسم الذي كان يستمر أكثر من شهرين، وكان يجمع شمل الناس في التعاون على إنهاء الموسم. أما الضحية الثانية فهي عملية العصر والطهي التقليدية للدبس على الحطب، والتي تراجعت أمام فعالية المعصرة الحديثة التي اختصرت الوقت والجهد إلى أكثر من النصف.
أحد المشايخ الطاعنين في السن تحسّر على أيام زمان قائلاً:” رزق الله على تلك الأيام!”. كانت حسرة نابعة من القلب على أيام الإلفة والنخوة التي كانت عنوان الموسم. فالمزارعون يعينون بعضهم البعض في القطاف ونقل المحصول من الكروم لعصره وطهيه، فترى المعصرة عرساً مستمراً، وكانت الأهازيج والتقاول (قول الشعر العامي) بين الشبان الذين يعصرون العنب تضفي جواً من الفرح وتبعد الملل. أما اليوم، فإن دخول الآلة قطع دابر تلك العادات والتقاليد وتلك الأجواء التي كانت جزءاً من ثقافة الناس ومجتمعهم.

استخدامات الدبس العنبي
يحتل الدبس العنبي الأشقر موقعاً مهماً على مائدة الكثيرين في لبنان بحيث أنه يؤكل خالصاً أو ممزوجاً بالطحينة في أيام الشتاء الباردة، أما في الصيف فقد كان الناس يمزجونه بالماء البارد ليصنعوا منه شراباً منعشاً يقدّم للضيوف، وبدأ الدبس يدخل بصورة متزايدة في تصنيع الكعك والحلويات المنزلية.
ويعتبر الدبس نافعاً جداً للصحة بسبب كونه مصنوعاً من عصير العنب الصافي، وينصح به الأطباء لخلوه من المواد الحافظة، ولكون تركيبته تساهم في التخلص من السموم وتقوي المعدة واضطرابات الأمعاء.

الفوائد الصحية لثمار العنب
تتميز ثمار العنب عن غيرها من الفواكه بفوائد صحية جمة يذكر منها:
التأثير الإيجابي في الحدّ من تصلب الشرايين وتخفيض نسبة الكولسترول في الدم.
المساعدة على تنشيط الكبد وسلامة وظائفه وإدرار الصفراء بشكل منتظم.
الحدّ من داء المفاصل أو ما يُعرف بداء النقرس، وهذا إضافة لاحتواء العنب على العديد من الفيتامينات والمعادن والألياف والمواد المضادة. للأكسدة.
يساعد العنب في معالجة هشاشة العظام وتهدئة السعال وطرد البلغم، كما يساعد في الوقاية من أمراض اللثة وتساقط الأسنان.

كعك لبناني محلى بدبس العنب
كعك لبناني محلى بدبس العنب

صناعة الزبيب
يعتبر تحضير الزبيب من أولويات البيت القروي حيث تبدأ هذه العملية بعد أن ينضج العنب جيداً، والأولوية هي دوماً للعنب الأبيض بأصنافه المختلفة نظراً للجودة التي يتمتع بها.
كيف يتم تصنيع الزبيب بالطرق التقليدية؟
بعد قطاف العنب، يبدأ تحضير المزيج المخصص في تحويل العنب الى زبيب، وهو عبارة عن ماء ممزوج بالرماد حيث يتم احضار ثلاثة كيلوغرامات من الرماد المنخول جيداً، وغالباً ما يفضل الرماد الناتج من حطب السنديان (فضلة الحطب بعد حرقه)، حيث يتم وضع الماء في حلة على النار ويبدأ غلي هذا المزيج بعد أن تضاف اليه مجموعة من أوراق التين حتى يصبح متماسكاً ويقال له الصفوة، وبعده يترك حتى يبرد ويركد ما تبقى من شوائب ثم يتم تصفيته، ومن ثم يتم احضار عشبة يقال لها الطيون مع قطعة من صابون الزيت (بلدي) وإضافة بعض من زيت الزيتون الى المزيج وملعقة صغيرة من ملح الطعام ويتم خلط هذا المزيج بواسطة الطيون.
الخطوة الأولى تبدأ بغسل العنب جيداً بعد تنقيته من الشوائب ووضعه حتى تجف المياه لتبدأ عملية سطح العنب، فيتم تخصيل عناقيد العنب الى أجزاء صغيرة وغسلها مجدداً بماء الصفوة ووضعها على «المسطاح». وبعد الانتهاء يتم رش المسطاح بماء الصفوة ويترك العنب أياماً عدة في الشمس ويتم الإعتناء به خلال هذه الفترة مثل تقليبه ورشه بمزيج الصفوة مرات عدة ليتم ابعاد الحشرات والإسراع في تجفيفه، وبعد أن يجف يتم نقله إلى المنزل ليصار إلى توضيبه وخزنه إلى فصل الشتاء.

من عصير مصفى إلى دبس العنب الفاخر
من عصير مصفى إلى دبس العنب الفاخر

“شيخ الدبس” صاحب القرار

يسمى الذي يشرف على عصر العنب «البرّاك»، أمّا من يشرف على طبخ العصير فهو «الشيخ» (شيخ الحرفة أو الصنعة) وليس بالضرورة أن يكون رجل دين إنما هي عبارة عن رتبة يحوز عليها عرفاً، وتجعل له الرأي الأول والأخير في تحديد مدى نضوج العصير حتى يصبح دبساً، وهذا يعود إلى الخبرة الطويلة التي يتمتع بها وخوضه تجارب كثيرة في مجال هذه الصناعة .

تحقيق حاصبيا

حاصبيا

بلــدة التاريــخ والســلام والزيتــون

الأمير منقذ شهاب انتزع قلعتها من الصليبيين
وزاد الشهابيون بعد ذلك عليها وعززوها

شهيرة بزيتونها وزيتها والصابون
وبمنتزهاتها الأخاذة على نهر الحاصباني

لكل قرية أو بلدة في لبنان أسرارها ونعم حباها الله بها لتكون فريدة بين أقرانها من القرى والبلدات. ومن حسن حظ حاصبيا أن نصيبها من الموارد والخصائص ونعم الطبيعة وافر ومتنوع، فهناك الطبيعة الخلابة والخضراء والموارد الزراعية والموقع الإستراتيجي على التقاطع الجغرافي بين لبنان وسوريا وفلسطين، وهناك أيضاً التاريخ الغني والتراث المعماري الجميل، فضلاً عن مناخ التنوع والتعايش الآمن بين مختلف مكونات البلدة، والذين يعملون جميعاً من أجل رفعتها وازدهارها. في هذا التحقيق كشف موجز بأخبار حاصبيا وأسرارها وعيشها وبعض إرثها الغني وحياتها اليومية.

حاصبيا عاصمة وادي التيم الجنوبي، وهي مركز لقضاءٍ يتبع إدارياً محافظة النبطية، ويضم 22 قرية وبلدة، وهي لذلك المقر الإداري لكافة الدوائر الرسمية في القضاء. يبلغ ارتفاعها نحو 800 متر عن سطح البحر وتقدر مساحتها بنحو 2565 هكتاراً، وهي مساحة في غالبيتها الكبيرة خضراء تضلل مساحات كبيرة منها غابات الزيتون، وهو أحد أشهر محاصيل البلدة، كما يقارب عدد سكانها 16000 نسمة بين مقيم ومغترب. أكسبها موقعها الجغرافي بين لبنان وسوريا وفلسطين أهمية كبرى عبر التاريخ مما جعلها هدفاً رئيسياً لكل الحملات والغزوات التي هبّت على لبنان من الخارج، كما أن حاصبيا تحتضن خلوات البيّاضة، التي تحتل مكاناً بارزاً بين المرجعيات الروحية لطائفة الموحدين الدروز. والبلدة شأنها في ذلك شأن معظم القرى والبلدات اللبنانية مصدر أساسي للإغتراب حيث انتشر أبناؤها في معظم بلدان العالم فأغنوا تلك المغتربات من خلال ما قدموه إليها، كما عادوا بالفائدة على مدينتهم من خلال الأموال التي ترسل الى ذويهم أو التي يتم استثمارها في قطاعات اقتصادية مثل السياحة والبناء.
تبعد حاصبيا عن بيروت 100 كلم ويمكن الوصول اليها عبر ثلاث طرق:
طريق بيروت- شتورا- المصنع- حاصبيا
طريق بيروت- النبطية- مرجعيون- حاصبيا
طريق بيروت- الشوف- جزين- حاصبيا
تسمية المدينة : تعود تسمية حاصبيا إلى اللغة السريانية Hespayye وتعني معامل الخزف أو الفخاريات حيث تعني Hespa آنية من الخزف.

القلعة الشهابية
أبرز ما يجتذب القادم إلى مدينة حاصبيا البناء المهيب والجميل الذي يتمثل بقلعتها الشهيرة، والتي تعرف بالقلعة الشهابية حيث يعود تاريخها إلى العهد الصليبي وتعتبر من أهم المعالم الأثرية في محافظة الجنوب لما تحويه من آثار ونقوش، ومن أبرز الأحداث التي شهدتها القلعة موقعة سوق الخان التي حصلت في سنة 1173 استطاع من خلالها الأمير منقذ الشهابي أن ينزل بالقائد الصليبي الكونت أورا دي بورون هزيمة موجعة كان من نتيجتها انتزاع الأمير منقذ للقلعة من سيطرة الصليبيين.
تصميم القلعة: تتألف القلعة من ثلاث طبقاتٍ، الأولى والثانية يعود تاريخ بنائهما إلى العهد الصليبي، حيث تمّ بناء الطبقتين وفق تصميم القلعة العسكرية الحصينة، كما يشهد على ذلك الفتحات المتروكة في الجدران السميكة والتي كان يتم استخدامها في إطلاق السهام عند الدفاع عن القلعة في وجه المهاجمين . أما الطبقة الثالثة، فيعود تاريخ بنائها إلى العهد الشهابي مع ما تميز به من فن العمارة الذي تطغى عليه القناطر والنوافذ ذات الطراز العربي بالإضافة إلى القاعات الفسيحة المزدانة بالرسوم والرخام، ولعلّ أبرز ما يميز تلك القاعات هو القاعة الكبرى أو قاعة الاستقبال التي تزدان أرضها بالفسيفساء والمقاعد الحجرية المنحوتة، إضافة ً إلى النقوش التي تزين جدرانها ولا سيما الأسود الحجرية التي تمثل شعار قوة الأسرة الشهابية، ومنهما أسدان عند القنطرة الأساسية من المدخل الغربي مقيدان بالسلاسل على مقربة من أرنب ضعيف والعبرة من ذلك أنه عندما يحكم أمير من الشهابيين يسود العدل بحيث يكون القوي مقيداً بالحق في وجه الضعفاء. وتتوسط الجدران فتحة كانت تستخدم لسكب الزيت المغلي إذا ما تعرضت القلعة لهجوم، أما من الداخل فهناك ساحة كبيرة تشرف عليها كامل أقسام القلعة وتعتلي الصدارة قنطرة كبيرة بارتفاع تسعة أمتار وتعدّ أكبر قنطرة في الشرق ومن خلالها يمكن للزائر الوصول الى كنيسة الكونت اورا.
أما في الطابق الثالث حيث يقيم حاكم القلعة، فقد أدخلت تقنية مدهشة تتمثل في أعمدةٍ رخامية فارغة من الداخل أقيمت على جانبي كرسي الحاكم والغرض منها أن تنقل صدى وقع حوافر الخيل قبل بلوغها أسوار القلعة موفرة للأمير وقتاً ثميناً لاستنفار قواته في حال تعرض الحصن إلى هجوم مباغت. وهناك الآبار الجوفية التي حفرت تحت الساحة الداخلية وتكتسب أهمية كبيرة في حياة القلعة لأنها تستخدم في توفير المياه عند تعرض القلعة إلى حصارٍ طويل. ولكن إذا كان الحصار وغزوات الجيوش كانت في الماضي الخطر الذي يواجه القلعة فإن الخطر الذي يواجهها اليوم هو الإهمال والتقصير، يدل الزائر على ذلك عشرات الحمامات القديمة المتداعية عند الجهة الشرقية من القلعة، والتي كانت مبنية على الطراز الشامي وبدأ العشب يكسوها بسبب تركها لعوامل الزمن من دون ترميم أو اهتمام.

زراعة الزيتون ومعاصر الزيت
زراعة الزيتون مرتكز أساسي في حياة السكان الذين يعولون عليها بشكل كبير، وقد بات موسم الزيتون فترة مهمة في حياة البلدة تبدأ مع إطلالة تشرين وتمتد حتى شهر كانون الأول أو مطلع السنة الجديدة. وتزدهر زراعة الزيتون يوماً بعد يوم في حاصبيا بسبب أهميتها الإقتصادية كمصدر مهم لدخل السكان، إذ يتم بيع جزء بسيط داخل الأسواق المحلية بينما يسوَّق القسم الأكبر في بقية المناطق اللبنانية وبعض الأسواق الخارجية. والمدهش أن السكان مازالوا يعتمدون طريقة المقايضة، أي استبدال الزيتون بالمواد والمنتجات التي يحتاجونها. وتحتل غابات الزيتون القسم الأكبر من مساحة الأراضي الزراعية في البلدة ومحيطها.

الزيت الحاصباني
بالنظر للمساحات الكبيرة لغابات الزيتون، فقد نشأت في البلدة معاصر عدة للزيت يقصدها المزارعون من حاصبيا والقرى المجاورة. وهذه المعاصر منها الذي يعمل بالطريقة التقليدية، ومنها ما هو حديث أدخلت فيه تقنيات متقدمة، لكن النتيجة واحدة وهي زيت الزيتون الحاصباني الذي يعتبر من أجود أنواع زيت الزيتون، وقد أزالت المعاصر عن كاهل المزارعين أعباءً كثيرة لاسيما مسألة فصل الورق عن الزيتون، كما أن معاصر الزيت توفر فرص عمل موسمية لا يستهان بها لعدد كبير من الشبان لمدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، كما توفر مادة دسمة لمدافئ الحطب خلال فصل الشتاء من خلال بقايا الزيتون أو ما يعرف بمادة الجفت. لكنّ مزارعي الزيتون في حاصبيا يعانون غالباً من منافسة الزيوت الرخيصة ويطالبون بحماية إنتاجهم والمساعدة في تصريف الإنتاج لاسيما بعد ارتفاع تكلفة جمع المحاصيل وخاصة تكلفة اليد العاملة وتكلفة معاصر الزيت في حين ما زالت أسعار الزيت مستقرة على حالها عموماً.
يذكر أن زراعة الزيتون أفسحت في المجال لقيام صناعة الصابون البلدي الذي يعتمد بالدرجة الأولى على زيت الزيتون الذي لا يصلح للمائدة بسبب استخراجه من الزيتون المتساقط تحت شجرة الزيتون، وهو زيتون من الدرجة الثانية ويقل من حيث النوعية عن ذلك المستخرج من الحبوب المنقاة.

زراعة الخضار والفواكه
تنشط زراعة الخضار والفواكه بشكل كبير على ضفاف نهر الحاصباني بحيث يستفيد المزارعون من المياه الجارية لريّ المزروعات، مما يعطي مردوداً جيداً يغذي أسواق المدينة والفائض يتم تسويقه في القرى والبلدات المجاورة.
أما الزراعات الأخرى كالتين والعنب والحمضيات والحبوب فتلعب دوراً محدوداً في اقتصاد البلدة الزراعي.
منتزهات الحاصباني: تعود شهرة هذه المنتزهات الى نهر الحاصباني الذي يعتبر أحد الروافد الأساسية لنهر الأردن، وهي تشكل دعامة مهمة للاقتصاد ليس في حاصبيا وحدها بل أيضاً بالنسبة إلى القرى المجاورة، وهي الآن مصدر لتشغيل العشرات من أبناء المنطقة، كما أنها مقصد سياحي مهم يرتاده الزوار من مختلف المناطق اللبنانية ومن البلدان العربية والأجنبية، ويعتبر أفراد وضباط قوات اليونيفيل من أهم الرواد الذين اعتادوا التردد على منتزهات الحاصباني وتمضية الوقت الممتع على ضفاف النهر وسط الخضرة والماء.

على الصعيد التربوي
يوجد فــي مدينة حاصبــيــا عــدد من المؤسسات التربوية الخاصة الى جانب المدارس الرسمية، والتي تعتبر مركز جذب لأبناء القرى والبلدات المجاورة نظراً لتقدم هذا القطاع ومواكبته للمتغيّرات التقنية. لكن غياب مؤسسات التعليم العالي يسبب إرباكاً للطلاب ويضطرهم للانتقال إلى البقاع أو النبطيــة أو إلــى بيــروت مما يرتب أعباءً إضافية على كاهل الأهــالي. وفي هذا المجال يملأ معهد حاصبيا الفني فراغاً مهماً عبر توفيره للعديد من اختصاصات الامتياز الفني (TS) والبكالوريا الفنية، مشكّلاً بذلك خياراً بديلاً للطلاب الذين لا يستطيعون الانتقال إلى الخارج أو الذين يرغبون في التخصص المهني على نيل الشهادات، ويذكر أن نتائج المعهد المميزة تدفع عدداً كبيراً من الطلاب للالتحاق به فور إنجازهم المرحــلة الثانــوية، وذلك طلــباً للتخــصص في المهنة التي تؤمن مستقبلهــم.

الحُمَّر ثروة لبنان المجهولة

أبرز ما يستوقف الباحث عن معالم حاصبيا وميزاتها تلك المادة المعروفة باسم «الحُمَّر»، وهي مادة نفطية متجمدة تكونت تحت الأرض وخسرت بعض مكوناتها لتتحول إلى مادة صلبة داكنة السواد. وقد تمّ اكتشاف الحُمَّر كنشاط منجمي مصادفة في مطلع القرن العشرين، لكن المادة كانت معروفة وكان الناس يجدونها على شكل قطع حجرية سوداء لامعة اللون على ضفاف الحاصباني وكانوا في عهد السلطنة العثمانية يأخذونها ويعمدون إلى بيعها، وكانت الحجارة السوداء اللامعة تصل إلى نهر الحاصباني من أحد مجاري المياه التي تنبع من مرتفعات حاصبيا. وفي أيام الإنتداب الفرنسي توصّل أحد الأشخاص وهو مواطن سوري إلى الاستحصال من السلطات الفرنسية على رخصة للتنقيب عن هذه المادة وكان ذلك في سنة 1920 وتطور العمل حتى أصبح هناك مناجم تعرف باسم «مناجم الحمّر» ومصلحة خاصة بهذه المادة، وتعتبر منطقة حاصبيا فريدة في إنتاجها من الحُمَّر بالنسبة إلى لبنان والدول المجاورة .

كيفية الاستخراج:
يتمّ استغلال هذه المادة من خلال انفاق وسراديب يتم حفرها في الأرض وقد يصل عمقها أحياناً إلى أكثر من مئة متر، ويُستخرج «الحُمَّر» بواسطة الرافعات أو البكرة، علماً أن المادة موجودة داخل المناجم على شكل عروق أو طبقات تصل سماكتها أحياناً إلى مترين حيث يتم فصلها عن التربة والمواد المحيطة تمهيداً لنقلها نحو سطح الأرض. ويتم تصدير ما يزيد على 90 % من الحُمَّر اللبناني إلى الخارج حيث يدخل في صناعة الطلاء لا سيما طلاء السفن وفي صناعة المواد العازلة، كما يستخدم في صناعة الأسمدة والمبيدات الحشرية.

رئيس البلدية الشيخ غسان خير الدين

التمنيات لا تكفي ولا بدّ من عمل لإعادة حاصبيا
الى الخارطة السياحية والتراثية في لبنان

التقت “الضحى” رئيس بلدية حاصبيا الشيخ غسان خير الدين في حوار حاولت من خلاله استشراف مستقبل المدينة، وأبرز المشاريع التي تحتاجها للنهوض باقتصادها ومجتمعها. وهنا نص الحوار:

الضحى: كيف تصفون تجربتكم في العمل البلدي، وما هي أبرز الإنجازات حتى الآن؟
غسان خير الدين: العمل البلدي ممتع لاسيما اذا استطاع التركيز على تحقيق المصلحة العامة، عندها يفرح المرء لما أنجزه قدر ما يفرح به أهل البلدة المستفيدين، والمستقبل كفيل بالحكم على عملنا.
أما الانجازات فهي بسيطة عند مقارنتها بالطموح وما نتطلع إليه، لكن والحمد لله كان لها أثرها في حياة البلدة. فقد تمّ تغيير الإنارة في حاصبيا وصيانتها وتأهيل الطرقات وتعبيد الحفر وإعادة تأهيل شبكة الصرف الصحي في مختلف الأحياء وترميم مدخل البلدة الجنوبي حتى السرايا الشهابية والعمل على تجميله، بالإضافة إلى عمليات التشجير المستمرة. كما تمّ استقدام مؤسسة الرعاية الصحية الأولية من قبل وزارة الصحة حيث تقدم خدمات صحية مقابل بدلاتٍ رمزية أبرزها تأمين الدواء للأمراض المزمنة مع العمل على توسيع لائحة تلك الأدوية.

الضحى: ما هي العقبات التي تعترض عملكم؟
غسان خير الدين:لا توجد عقبات بالمعنى الحقيقي لكن نقص الموارد يقف حائلاً أمام انجاز المشاريع التي نحن بصدد إطلاقها كون الجباية محدودة، كما أن تأخر أموال الدولة يسبب إرباكاً في العمل، ونحن نأمل من الوزارات المعنية التعاون لما فيه من تسهيل أمور المواطنين والنهوض بالبلدة.

الضحى: ما هي خطة عمل السنوات المقبلة، وهل تتوفر الامكانيات المالية لتنفيذها؟
غسان خير الدين: هناك خطة عمل تراعي الأولويات ونسعى جاهدين لتطبيقها في السنوات المقبلة. إننا في منطقة تفتقر للبنية التحتية لاسيما بعد سنوات من الاحتلال وغياب الدولة. ومن المشاريع التي نسعى إلى تحقيقها تحديث شبكة الكهرباء لتصبح قادرة على استيعاب النمو والتمدد العمراني وإيصال شبكة الصرف الصحي إلى أماكن السكن الجديدة والعمل على تأهيل الطرقات واستحداث الطرق الزراعية والمضي قدماً في عملية التشجير.

الضحى: حاصبيا بلدة سياحية كيف تساهم البلدية في تشجيع هذا القطاع، وهل هناك من خطة لجذب السياح ؟
غسان خير الدين: تنعم حاصبيا بمجموعة من المقومات السياحية الهامة لاسيما منتزهات الحاصباني والقلعة الشهابية، وهي بحدّ ذاتها مراكز جذب للسياحة. ودورنا يتركز هنا في توفير المقومات الأساسية كالماء والكهرباء، وقد تمّ إنشاء لجنة سياحية كلفت بالتواصل مع أصحاب المنتزهات للتوافق على تطبيق أسعارٍ مدروسة تشجع السيّاح أكثر في زيارة المنطقة والتعرّف عليها، وهذا ما من شأنه إعادة حاصبيا على الخارطة السياحية في لبنان، والعمل على إحياء مهرجاناتها السنوية.

الضحى: هل تسعون لخلق فرص عمل جديدة من خلال البلدية؟
غسان خير الدين: حتى هذه اللحظة العدد محدود تم توظيف بعض الشبان لكن السعي متواصل لتأمين أكبر قدر ممكن من فرص العمل.

الضحى: كيف ستوفرون الأموال اللازمة للمشاريع التي أنتم في صدد إنشائها؟
غسان خير الدين: نسعى إلى تفعيل الجباية لاسيما جباية المسقفات، والتي تعتبر مورداً سنوياً جيداً إذا تمّ تفعيله، كما نسعى مع الخيرين الذين كانت لهم أياد بيضاء في الكثير من المشاريع الإنمائية في البلدة، كما نأمل من المغتربين المساهمة.

الضحى: كيف تصفون دور المغتربين في حاصبيا؟
غسان خير الدين: يلعب المغتربون دوراً هاماً في تحريك عجلة الإقتصاد المحلي من خلال الأموال التي يتم انفاقها في السوق المحلية، لاسيما خلال فصل الاصطياف، أو من خلال التحويلات التي ترسل إلى ذويهم. إلا أن الاستثمار الاغترابي ما زال مقتصراً على بناء المنازل الخاصة أو الاستثمار في الأبنية السكنية، وما نتطلع إليه هو أن يقوم المغتربون بإقامة المعامل والمشاريع الإنتاجية التي تعود بالفائدة على البلدة وفي خلق فرص عمل جديدة للشباب.

الضحى: كلمة أخيرة.
غسان خير الدين: نشكر “الضحى” والقيمين على هذه المجلة الغنية، كما نشكر كل من يساهم في الشأن العام لما فيه خير البلدة ومصلحة أهلنا والأجيال المقبلة.

مشروع البحيرات في الشوف الأعلى

مشروع البحيرات في الشوف الأعلى
تجربة رائدة للنهوض الزراعي في لبنان

15 بحيرة وبركة لتجميع مياه الأمطار
تبعث الحياة في القرى وتعزّز ثقل الاقتصاد المحلي

بحيرات تجميع الأمطار في منطقة الشوف الأعلى بدأت تجارب متفرقة وتحوّلت مع الوقت إلى موجة وتسابق بين البلديات وحتى الأفراد على الاستثمار فيها، بعد أن ثبت دورها الحاسم في إحياء القطاع الزراعي وإقامة زراعة إقتصادية تعود على المنطقة بالعائد، كما توفّر في الوقت نفسه فرص العمل وتزيد من العوامل المحفّزة لبقاء المواطنين في قراهم وتنميتها وإعمارها.
وبسبب النجاح الذي حققته المبادرات الأولى التي قامت بتشجيع ودعم مباشر من وليد بك جنبلاط، فقد تكاثرت البرك في غضون سنوات معدودة ليبلغ عددها الآن نحو 15 بركة للريّ بمياه الأمطار، وهذا إضافة إلى البحيرة الطبيعية التي تمّ إنشاؤها في محمية أرز الشوف وبحيرة كبيرة أيضاً أنشئت في محمية أرز الباروك. وتحولت التجربة بذلك إلى إحدى أبرز حالات النهضة البيئية والزراعية في لبنان وباتت بسبب تطوّرها تحمل دروساً وخبرات يمكن نقلها إلى العديد من المناطق الجبلية المماثلة من شمال لبنان إلى جنوبه.
“مجلة الضحى” تسلّط في هذا التحقيق ضوءاً كاشفاً على هذه التجربة الرائدة، وعلى أهم النتائج التي أثمرتها على صعيد التنمية الريفية والزراعية في جبال الشوف.

ر مشروع إنشاء البحيرات وبرك تجميع مياه الأمطار في الشوف الأعلى أول محاولة جادة لوقف التدهور المتسارع في الاقتصاد الزراعي في الشوف، وما أدى إليه حتى الآن من تزايد موجات النزوح نحو الحواضر والمدن في الجبل أو في بيروت. وكان لهذا التفرغ المستمر للقرى أثر بالغ الخطورة على الاقتصاد الزراعي والريفي والوضع السكاني. وقد أصبحت القرى التي كانت آهلة وتعمل كخلايا النحل شبه خالية، وتحوّلت مصادر الرزق الأساسية من الزراعة والثروة الحيوانية إلى الوظيفة الحكومية أو المصالح أو التجارات الصغيرة التي تنشأ في الأسواق التجارية في الجبل أو في القرى أو خراج الجبل.
لكن تراجع الاقتصاد الزراعي في الجبل لا يعود فقط إلى تراجع الاهتمام به من قبل السكان، بل يعود أيضاً إلى عوامل عدة منها تزايد دور المحاصيل الاقتصادية المستوردة والقادرة على المنافسة بسبب استخدام التقنيات الحديثة، وكذلك تراجع الخبرات الزراعية. وأخيراً وليس آخراً تبدّل المناخ وتناقص الموارد المائية الطبيعية أو تزايد الطلب عليها بسبب الإستخدام الكثيف والتزايد السكاني ونمو العمران. من هنا فقد تحوّل موضوع توفير مصادر دائمة أو رديفة لمياه الري أمراً ملحا،ً وبدأت قبل سنوات التجارب الأولى لإنشاء برك تجميع الأمطار في الشوف الأعلى وتمّ اختيار المنطقة لوقوعها على سفوح سلسلة الجبال الغربية التي تشهد معدلات سقوط أمطار وثلوج في موسم الشتاء.
في هذا الصدد، يقول رئيس بلدية جباع المهندس رجا البتلوني الذي أشرف على الجانب التقني لإنشاء بعض البرك: “منذ عشرات السنين وكل قرى الشوف الأعلى تشكو من الإهمال على صعيد كل القطاعات الصناعية، الزراعية، والسياحية. ولأن البنى التحتية والمشاريع الإنمائية هي التي تبقي المواطنين في أرضهم، أدى غيابها الى نزوح أبناء الجبل الى المدينة وبالتالي إهمال العمل في القطاع الزراعي وتطويره”.
ويضيف أن الشح المتزايد في الموارد المائية دفع إلى إطلاق خطة لتطوير القطاع الزراعي بتوجيه ورعاية وليد بك جنبلاط انطلاقاً من تقديره بأن التغيّر المناخي أصبح أمراً واقعاً ولا بدّ من التحرّك لمكافحة نتائجه الداهمة. ومع هذا التوجّه بدأت فكرة إنشاء البرك الاصطناعية لتجميع المياه المهدورة، في ظل غياب تطبيق خطة مشاريع السدود التي كان مقرراً إنشاؤها في لبنان.

نزار هاني
للبرك فوائد غير منظورة أهمها السياحة والتوعية البيئية

رجا البتلوني
كل القرى تريد بحيرات ولكن نحتاج إلى تمويل

بحيرة جباع
بحيرة جباع

البداية في محمية أرز الشوف
كانت محمية أرز الشوف الرائدة على لائحة البرك الاصطناعية في المنطقة، إذ أنشئت أول بركة سنة 2000 في غابة عين زحلتا – بمهريه بكلفة 50 ألف دولار وبتمويل من السفارة اليابانية، ثم أقيمت بركة ثانية في غابة الباروك وهي بركة ضخمة جداً سعتها 90 ألف متر مكعب وبلغت كلفتها 360 ألف دولار أميركي تبرع بها النائب وليد جنبلاط.
بعد تلك المبادرات وتأكد الفائدة منها، بدأ العمل على إنشاء برك اصطناعية في بلدة مرستي. وحفّز نجاح التجربة على تعميم مشروع البرك على كل قرى الشوف الأعلى بتوجيه من النائب جنبلاط. وتحوّل الأمر إلى موجة أو تيار حقيقي مع مسارعة البلديات وعدد من الأفراد إلى تلقف الفكرة بعد أن وجدوا فيها حلاً عملياً وسبيلاً فعّالاً لإقامة الزراعات الإقتصادية في المنطقة.

النجاحات الأولية تعزز الحماس للتجربة
ويشير البتلوني إلى أن موجة إنشاء بحيرات تجميع الأمطار قويت بعد الـعام 2007، فأقيمت برك عامة تشرف عليها البلديات في عدد من القرى، وهي كناية عن برك زراعية سعتها نحو 10 آلاف متر مكعب (المساحة السطحية 1500 متر مربع، وعمقها ما بين 8 و9 أمتار)، تتم تغذيتها من الأمطار المتساقطة خلال فصل الشتاء، بسبب عدم وجود مجاري مياه دائمة. وهذا مع العلم أن معدل المتساقطات العام هو 800 ملم (80 سنتم)، وتقوم البلديات بفتح مجاري جانبية لتجميع المجاري والسواقي المؤقتة التي تكوّنها الأمطار بغية توجيهها نحو البرك.
وتتوزّع البرك على الشكل التالي: نيحا (واحدة انتهت وواحدة قيد الانشاء)، جباع (أربع برك)، مرستي (خمس برك)، بعذران (بركة واحدة)، الخريبة (ثلاث برك) المعاصر (بركة واحدة).
من هذه النقطة ينطلق البتلوني ليتحدث عن البحيرة التي أنشئت في محمية أرز الشوف، لافتاً الى أن الدافع لإنشائها كان الخوف من الحرائق، ومحمية الأرز هي الجانب البيئي الأبرز في المنطقة. ويشرح أن مساحة هذه البحيرة السطحية تصل الى 16 ألف متر مربع بينما يبلغ عمقها نحو 6 أمتار.

استخدامات البرك
ويلفت مدير المحمية نزار هاني أن الأمر الإيجابي كان إقامة البرك في مواقع هي عبارة عن حفر طبيعية مما وفّر تكلفة الحفر. أما عن الأهداف من إنشاء تلك البرك، فيلخّصها بثلاث نقاط:
1. الريّ، الاستخدام التقليدي، حيث يستفاد منها في إرواء مشاريع التحريج.
2. تأمين مياه للحياة البرية (الطيور والحيوانات) وحمايتها من المخاطر، خصوصاً في أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف، ففي فترة الجفاف تفتقر المحمية للمياه مما يدفع بالحيوانات الى التوجه نحو القرى، وبالتالي يعرضها لإعتداء الأهالي.
3. إخماد الحرائق (بواسطة الدفاع المدني والطائرات). وهنا يلفت هاني إلى أن البحيرة الثانية في الباروك يمكن استخدامها في اطفاء الحرائق وحتى سيارات الدفاع المدني قادرة على الوصول إليها والإفادة منها.
ويضيف هاني الى أن هناك استخداماً غير منظور للبرك يتمثل باستخدامها في نشاطات السياحة والتوعية البيئية، حيث أقيمت الى جانب كل بركة نقطة مراقبة للطيور والحيوانات البرية.
بالإضافة الى البرك العامة هناك نحو ثماني برك خاصة موزّعة على عدد من قرى المنطقة.

ماذا عن الجانب التقني لإنشاء هذه البرك؟
يقول البتلوني إن اختيار الموقع يجب أن يتم وفق معطيات تتمثل في أن يكون قريباً من مجاري مياه الأمطار، وأن تكون البرك على ارتفاع يسمح بتغطية الأراضي الزراعية بواسطة الريّ بالجاذبية، وأن تكون الأرض مهيأة لخزن المياه مما يتطلب فحصها. وأشار إلى أن نحو 6 أو 7 مواقع لبرك تجميع مياه الأمطار كانت مقالع رمل وتمّ تحويلها الى برك مياه وتشجير محيطها بأشجار الصنوبر.
ويلفت الى أنه في البرك التي يشرف عليها، تستخدم الأغشية العازلة Geomembrane من اللون الأبيض وبسماكة 1,5 ملم، لأن من خصائص هذا العازل عكس أشعة الشمس والتخفيف من التبخر إلى حدٍ كبير في الوقت الذي يرفع الغلاف الأسود من نسبة التبخر بشكل كبير.
تمتلئ البرك في آخر نيسان وتبقى حتى آخر الصيف. ويشير البتلوني الى أنه في جباع أنشئت البرك بطريقة تسمح بنقل المياه من بركة الى أخرى حسب الحاجة، مع الإشارة إلى ضرورة تصفية المياه من الأوحال والترسبات قبل إيصالها إلى بركة التجميع.

إحدى البحيرات في الشوف الأعلى copy
إحدى البحيرات في الشوف الأعلى copy
حفر البحيرة وتهيئة الأرض قبل تثبيت الفشاء العازل copy
حفر البحيرة وتهيئة الأرض قبل تثبيت الفشاء العازل copy

لكن ماذا عن التكلفة؟
يشرح البتلوني أن بركة لتجميع مياه الأمطار بسعة 10 آلاف متر مكعب تكلف نحو 100 ألف دولار تشمل حفر البركة وتأهيلها وتغليفها بالأغشية العازلة وإنشاء تصوينة ومد شبكات الريّ. ونظراً لعامل التكلفة فقد بات هم البلديات تأمين التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع، وذلك عبر السعي لدى الوزارات المعنية كوزارة الزراعة (من خلال المشروع الأخضر) أو مجلس الإنماء والإعمار أو هيئات المساعدة الأجنبية.
وبسبب العائق المالي فقد تمت تغطية تكلفة أول البرك في مرستي وجباع من عائد بيع الرمول الناتجة من حفرها. ولكن بعد الجدوى التي حققتها البرك قدمت بعض الجهات مثل الإتحاد الأوروبي والسفارة الإيطالية مساهمات وصلت الى 80% من تكلفة الإنشاء وغطّت البلديات الباقي. وتوزّعت المساهمات حتى تاريخه على الشكل التالي: الإتحاد الأوروبي ثلاث برك (واحدة في الخريبة واثنتان في نيحا)، السفارة الإيطالية بركتان (واحدة في الخريبة وأخرى في نيحا). كما ساهم مجلس الإنماء والاعمار بتمويل جزء من بركتين أنشئتا في بعذران والخريبة.
ويشير البتلوني الى أن البلديات تتكفل بتنظم الريّ وتوزيع المياه وصيانة الشبكة بما يضمن اِستفادة المزارعين من هذا المشروع، وهي توصل لكل مزارع نسبة متر مكعب واحد لكل دونم أرض، وما على المزارع سوى دفع كلفة الصيانة.
أما في ما يخص المنتجات فهي تشمل كل المزروعات وبشكل خاص الأشجار المثمرة والتفاح بدرجة أساسية. وعند سؤاله عن مدى التوجه نحو الزراعة العضوية، يقول البتلوني نحاول إرشادهم الى هذا النوع من الزراعات ولكن المسألة صعبة، فالمشرفون على الزراعة العضوية في لبنان يضعون شروطاً للإنتاج الزراعي العضوي، والتدابير اللوجستية المطلوبة مكلفة، معتبراً أن تطوير هذا العمل يتطلب إنشاء مركز للإرشاد الزراعي في المنطقة.
يبقى القول إن إنشاء البحيرات لا يتم عشوائياً، وكأي مشروع يتطلب دراسة لتقييم أثره البيئي. وعلى خلاف ما تداول البعض، يفيد هاني أن “ايكوديت” أجرت دراسة كاملة لتقييم الأثر البيئي للمشروع، وبناء على تلك الدراسة تم إنشاء البحيرة في المحمية.
وفي هذا السياق، يقول هاني النتيجة غير مضمونة، ولكن دائماً عندما نريد أن نقوم بفعل ما يكون هناك أولويات.

البحيرات في مرستي من الأقمار الصناعية
البحيرات في مرستي من الأقمار الصناعية
البحيرات وفرت مصادر مياه قريبة لمكافحة حرائق الغابات copy
البحيرات وفرت مصادر مياه قريبة لمكافحة حرائق الغابات

دروس التجربة
يعتبر هاني أن التجربة مشجّعة جداً وكذلك ردة فعل المجتمع المحلي والدليل هو في نمو الزراعات وانتشار الخضار في المنطقة مما يؤشر إلى أن الناس أصبحوا يهتمون بأرضهم أكثر من السابق.
من جهته، يقول البتلوني بعد تجربة امتدت لنحو أربع سنوات، لاقت البرك الاصطناعية أقصى درجات التجاوب من البلديات والمواطنين، الناس يريدون برك الري بقوة، وكل القرى تريد هذه البرك ولكن نحتاج الى تمويل، لافتاً الى أن هناك اتجاهاً لإنشاء بركة في مزرعة الشوف ولكن الأمر مرهون بتوفر التمويل.
ويتابع بحماس واضح: “تصوري تعطيهم مياه تعطيهم حياة”. والجيّد أنه أصبح هناك اهتمام جدّي من قبل الوزير حسين الحاج حسن الذي كان متجاوباً جداً لدرجة أنه قام بزيارة الى الشوف وأطلق مشروع إنشاء بحيرة في مرستي.
ويسأل البتلوني: هل هذا يكفي؟ وماذا نريد بعد؟ معبراً عن رأيه بضرورة مواكبة الإستثمارات التقنية والصناعية لهذا العمل، للسماح للقطاع الزراعي بالتطور، ولتأمين قيمة إضافية لهذا الإنتاج مما يستلزم:
1. إنشاء مراكز للتدريب والتثقيف والإرشاد الزراعي.
2. اِقامة سوق زراعية لتصريف الإنتاج في المنطقة وتخفيض الكلفة على المزارع.
3. إنشاء مركز توضيب وتبريد زراعي.
4. إيجاد صيغ لمساعدة المزارع بالأدوية والأسمدة الزراعية.
5. ويؤكد أن ذلك يعيد التوازن للقطاع الزراعي ويساهم في تمسك المواطن بأرضه.

ماذا حققت البحيرات؟

تبلغ سعة البحيرات الاصطناعية التي أنشئت في الشوف الأعلى حتى الآن نحو 300 ألف متر مكعب من المياه.
أما النتائج الاقتصادية التي حققتها فيمكن تلخيصها بالآتي:
1. ريّ نحو 250 ألف شجرة مثمرة.
2. استصلاح نحو 3000 دونم من الأرض مما ساهم في خلق فرص عمل، استثمار أراضٍ جديدة ومساحات واسعة من الأراضي البور، تحسين إنتاجية الأشجار البعلية، ومضاعفة الإنتاج الزراعي. ويشار إلى أن كل 120 متراً مكعباً من المياه تروي دونماً من الأرض، وكل دونم أرض يمكن أن يزرع فيه 70 شجرة مثمرة. وعلى سبيل المثال فقد تمّ في جباع خلال هذه الفترة (3 – 4 سنوات) استصلاح نحو 200 دونم من الأراضي وتمّ تشجيرها بالأشجار المثمرة خصوصاً التفاح، وذلك يسري على كل القرى الأخرى التي أنشأت بركاً لتجميع مياه الأمطار.
3. تساعد البرك بشكل ممتاز في اِطفاء الحرائق التي تزيد بشكل مخيف في لبنان.

أين نحن من ثورة الطاقة المتجددة

أين نحن من ثورة الطاقة المتجددة؟

العالم على طريق التحوّل إلى الطاقة البديلة
ولبنان ما زال منشغلاً بالمولدات والتقنين

تطوير تقنيات إنتاج الطاقة من الهواء أو الشمس
يجعل إدخال المصادر المتجددة خياراً اقتصادياً

تبدأ “الضحى” مع هذا العدد سلسلة من المواضيع والبحوث تتناول التطورات العلمية والصناعية في مجال الطاقة المتجدّدة واستخداماتها والاتجاه المتزايد لاستخدام تلك المصادر في توليد الطاقة في بلدان العالم بدلاً من المصادر الملوثة مثل الفحم الحجري والنفط والغاز. وستركّز هذه المقالات بصورة خاصة على الإمكانات العملية لاستغلال مصادر الطاقة البديلة في لبنان سواء على مستوى الدولة أم البلديات أم الشركات والصناعات، أم الأفراد.
إن أهمية هذه السلسلة هي أنها تكشف الإمكانات المتاحة لاستخدام مصادر الطاقة المتجدّدة في كل قرية وبيت، وشروط ذلك الاستخدام وفوائده الكبيرة بالنسبة لبلد مثل لبنان يعتمد بصورة كلية على استيراد مشتقات النفط المكلفة ويعاني بصورة مزمنة من مشكلة انقطاع التيار الكهربائي ونظام التقنين مع ما ينجم عنه من تعطيل لمصالح الناس وحياتهم اليومية.

تعتبر الطاقة النظيفة من أهم الطاقات التي تعتمدها  في هذه الأيام جميع الدول المتقدمة، وذلك نظراً لجدواها ونظافتها ولكونها طاقة غير منقطعة وغير ناضبة، كما هي حال النفط الذي يقدّر عمره الافتراضي في الكثير من الدول بعقود قليلة، فضلاً عن ذلك، فإن الطاقة المتجدّدة تعزز الاستقلالية الطاقية للبلد الذي يلجأ إليها بينما تبقى الدول المعتمدة على مصادر الطاقة الملوثة مثل النفط عرضة لتقلبات أسعاره أو لنقص الكميات في أوقات الأزمات.
نتيجة لذلك، فإن هناك اتجاهاً متزايداً لدى معظم الدول المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ودول آسيا إلى زيادة الاعتماد على هذه الطاقة النظيفة كل سنة، وهناك العديد من الدول التي أعلنت خططاً لزيادة مساهمة الطاقة البديلة في إنتاجها الإجمالي من الطاقة، كما أن زيادة الاعتماد على الطاقة المتجدّدة وتوفير الحوافز الضريبية والاقتصادية لها باتت حجر الزاوية في سياسة الحكومات والأحزاب السياسية وتمّ تبنيها من الرأي العام.
في هذا السياق، يعتبر لبنان و خصوصاً المناطق الجبلية من المناطق الفريدة التي تزخر بالطاقة الهوائية والشمسية معاً، فتنوّع الفصول تنتج عنه ثروة لا تقدّر من الطاقة المتجددة، إذ تهبط الحرارة وتحدث المنخفضات الجوية في فصل الشتاء، الأمر الذي يؤدي إلى حركة رياح قوية كافية لإنتاج الطاقة الكهربائية مباشرة من التوربينات الهوائية. أما في فصل الصيف فعندما يزداد الحر تزداد معه أشعة الشمس فيزداد معه انتاج الكهرباء من الألواح الشمسية (الفوتوفولطية).  وقد أظهرت دراسة حديثة لأشعة الشمس على مدار السنة أن لبنان يتمتع بمعدل سنوي وسطي قدره 2000 ساعة من الشمس القوية  أي المشرقة بالكامل دون سحب  في السنة، الأمر الذي يعادل نحو 6 ساعات يومياً من الشمس القادرة على توليد فعّال للطاقة الكهربائية. في المقابل، فإن تبدّل الفصول وخصوصاً في فترات الخريف والشتاء ينتج عنه أكثر من ثلاثة أشهر على الأقل من طاقة هوائية تتراوح سرعتها ما بين 4 أمتار في الثانية و 12 متراً في الثانية،  علماً أن سرعة الرياح في بعض فترات الشتاء أو حتى خلال السنة  تتجاوز الـ 18 متراً في الثانية، وهذه الطاقة الهوائية قادرة على توليد الحد الأقصى من الطاقة التي يمكن أن تصله المراوح الهوائية. .
في هذه الصورة الطاقة المشية والهواء يزودان المنزل بالطاقة وفي الخلف مروحة تشغل مضخة المياه
في هذه الصورة الطاقة المشية والهواء يزودان المنزل بالطاقة وفي الخلف مروحة تشغل مضخة المياه

كيف تتولّد الطاقة الكهربائية
كما قلنا سابقاً، فإن الطاقة الشمسية في لبنان موجودة في أغلب أيام السنة، لذلك وعند وضع الألواح الفوتوفولطية تحت الشمس وفي الاتجاه الصحيح (نحو الجنوب)، فينتج عن ذلك طاقة كهربائية يتم نقلها عبر جهاز تحكم Controller إلى شاحن يقوم بشحن البطاريات التي تستخدم كخزان للطاقة. وهذه الطاقة يمكن استخدامها في المساء بعد غياب الشمس، وبالطبع يمكن لهذه البطاريات أن تخدم يوماً أو أياماً عدة، وذلك وفقاً لحجم الاستهلاك من جهة، ولحجم النظام المستخدم وقدرته على تعبئة البطاريات من جهة ثانية. وهناك طريقة أخرى لتوليد الطاقة لا تعتمد اطلاقاً على البطاريات وتستخدم في المصانع والمؤسسات التي تعمل في النهار فقط، حيث يتم التوليد مباشرة من الألواح الشمسية والتوربينات الهوائية من دون تخزين الطاقة في البطاريات وحتى من دون اللجوء الى شبكة الكهرباء العامة. وبالتأكيد عندما ينقطع تدفق الرياح أو تخف سرعتها في بعض أيام الصيف فإن الطاقة الشمسية تصبح هي المصدر الوحيد لتوليد الطاقة والعكس صحيح. ففي أيام الطقس العاصف تضعف أشعة الشمس وتتولى الطاقة الهوائية إنتاج الكهرباء، أما عندما يتوافر الاثنان معاً فتزداد القدرة، ويمكن الاستعانة بالشبكة العامة وربط الشبكتين مع بعض، وهكذا فإن الفاتورة الشهرية للكهرباء تنخفض تدريجياً. هذا في المصانع أما في المنازل فيجب إضافة البطاريات لتخزين الطاقة واستعمالها في فترة الليل.
الوضع اللبناني
إن مشاكل الكهرباء في لبنان كثيرة ومزمنة وهي مرشّحة للاستمرار فترة من الزمن، لذلك وبعد أن سئم المواطن انتظار الحلول فإنه اتجه لإنتاج الكهرباء والاعتماد على مصادره بالطاقة عن طريق شراء المولدات التي تعمل بالفيول، لكن وبسبب ارتفاع أسعار الوقود فقد أصبح بعض اللبنانيين يفكرون فعلاً بالطاقة النظيفة لأنها مجانية على المدى الطويل وغير ناضبة. وسنعرض في هذا النص مؤشرات عن تكلفة إنتاج هذه الطاقة البديلة . ولكن قبل ذلك يجب أن نطالب الدولة بأن تشجّع المواطن على تركيب الطاقة البديلة بل إلزامه باستخدامها عبر سن القوانين والإجراءات اللازمة مثل عدم إعطائه أي رخصة بناء لا يتضمن كجزء من التصميم توفير مصادر الطاقة النظيفة كتركيب نظام تسخين المياه على الطاقة الشمسية أو تركيب الألواح الفوتوفولطية، ولا ننسى أيضاً توربينات (مراوح) الهواء. إن هذا النوع من الإجراءات يؤدي إلى خفض الضغط على الشبكة العامة والذي يزداد سنة بعد سنة بسبب النمو السكاني واتساع رقعة العمران وحركة البناء، ونكون بذلك قد اقتربنا قليلاً من حال الدول المتقدمة التي بدأت تأخذ موضوع الطاقة البديلة بكل جدية بسبب الرغبة في خفض الاعتماد على النفط والغاز وفي الوقت نفسه حماية البيئة الأرضية من مخاطر التبدّل المناخي. وقد بدأت حرارة الكوكب الأرضي في الارتفاع بسبب الإفراط في استخدام الطاقة النفطية وزيادة نسبة الكربون في الغلاف الجوي. وربما لا تعني هذه المشكلة الكثير بالنسبة لبعض المجتمعات، لكنها تعني الكثير بالنسبة للمنظمات الدولية المهتمة بشؤون المناخ والطقس، خصوصاً مع ازدياد التلوث والدخان المشبّع بالكربون المتصاعد من مداخن المصانع والسيارات، والذي يؤدي إلى زيادة حرارة الأرض على المدى البعيد وبالتالي حدوث كوارث طبيعية مثل الفيضانات والأعاصير وذوبان المتجمدات.

 

 

كل كهرباء هذا البيت مستمدة من الطاقة الشمسية
كل كهرباء هذا البيت مستمدة من الطاقة الشمسية
renewable-tax-oregon
renewable-tax-oregon

تكلفة الطاقة المتجددة
لنقم بعملية حسابية لكلفة استهلاك الطاقة لمنزل عادي. ففي لبنان مثلاً قد يكلّف 5 أمبيراشتراك في مولّد نحو 80 دولاراً شهرياً، بالاضافة الى تكلفة فاتورة الكهرباء من الشبكة العامة حوالي 40 دولاراً شهرياً. هذا اذا اعتبرنا أن سعر برميل النفط ثابت ولن يتغيّر أو يتجه إلى المزيدٍ من الارتفاع في الفترة المقبلة. بذلك يكون الإنفاق السنوي على الطاقة الكهربائية للأسرة نحو 1440 دولاراً، وهذا مبلغ كبير حتى في ظل الأسعار المخفضة أو المدعومة للطاقة الكهربائية في لبنان.
بالمقارنة، فإن إدخال المولدات التي تعمل بقوة الهواء أو بأشعة وحرارة الشمس يمكن أن يؤدي للحصول على طاقة نظيفة ومستمرة مجاناً ومن دون الحاجة الى صيانة، باستثناء البطاريات التي تحتاج الى التبديل طبقاً لمواصفاتها من 3 الى 7 سنوات.
أما تكلفة تركيب نظام للطاقة البديلة فإنها تتراوح ما بين 7 و 10 آلاف دولار، وذلك حسب مواصفات ونوعية الأجهزة وكمية الطاقة المتوقع إنتاجها. وهذه التكلفة تدفع مرة واحدة في الانظمة المستقلة التي لا تحتاج الى بطاريات كالتي تستعمل في المصانع التي تعمل في النهار ولا تحتاج الى الكهرباء في الليل . هنا تكون كلفة الكهرباء على المدى البعيد محدودة مقارنة بتكلفة استهلاك نظام التوليد على مدى سنوات طويلة قد تزيد عن عشرين أو ثلاثين سنة. أما في الأنظمة العادية في المنازل التي تحتاج إلى البطاريات، فإن التكلفة تتضمن استهلاك النظام على مدى عقدين من الزمن، وكذلك استهلاك البطاريات على مدى ثلاث إلى خمس سنوات، وبعض البطاريات يمكن أن يعمل بكفاءة لمدة سبع سنوات لكنها أغلى ثمناً. نشير هنا إلى أن احتساب تكلفة الكيلواط من الطاقة الهوائية أو الشمسية ليس سهلاً لأنه يتوقف على ظروف المناخ والتشغيل السليم وتصميم النظام وغير ذلك من العوامل، لكن المؤكد هو أن هذه التكلفة أصبحت الآن وفي بعض الحالات أقل بالمقارنة مع تكلفة الطاقة التي يمكن الحصول عليها من المولد والشبكة العامة. ولا ننسى أن المستخدم لنظام الطاقة البديلة يحصل على الطاقة الكهربائية بلا انقطاع، كما أنه يساهم في حماية البيئة في لبنان.

 

مصادر الطاقة في العالم وتكلفتها المقارنة
مصادر الطاقة في العالم وتكلفتها المقارنة

المنزل الذكي
إن الاتجاه الحديث في هذه الأيام هو للتصميم الهندسي الذكي للبناء بحيث تتم دراسة المبنى من جميع نواحيه ومدى ملاءمته وصداقته للبيئة. ففي الدول المتقدمة، يعطي بعض الدول شهادات مصدقة من وزارة البيئة مع تخفيض 50% من رسوم البناء لكل منزل يتمتع، حسب تصميمه، بمواصفات الطاقة الخضراء. لكن متى يبدأ في لبنان تطبيق إجراءات مماثلة؟.بموجب مفهوم المنزل الذكي فإن الخطوة الأولى هي دراسة جميع النواحي الهندسية بحيث يكون المنزل دافئاً في الشتاء في بعض الغرف المجهزة لتنتج طاقة حرارية من الشمس – وهي قليلة وضعيفة في فصل الشتاء- بحيث تحتفظ هذه الغرف بالحرارة طوال فترة الليل، وبعدم تسريبها الى الخارج. وفي الصيف تجهّز غرف أخرى لا تواجه الشمس ويتم تبريدها من الطاقة الشمسية نفسها، بحيث أنه وكلما اشتد الحر في الخارج تقوم بعض أنابيب الغاز المزروعة في جدران الغرف المجهزة لذلك بتبريد المنزل وسوف نتطرق الى هذا الموضوع بالتفصيل لاحقاً في نصوص أخرى.
لذلك وعندما نصمم بيوتاً ذكية فإننا لا نحتاج إلى الكثير من الطاقة الكهربائية وتصبح كميات قليلة من الطاقة تكفينا في الصيف والشتاء معاً، فلذلك عندما نقوم بحساب حاجة المنزل من اللوازم الكهربائية نختار ما هو ملائم للبيئة وأكثر توفيراً للكهرباء معاً كما في الأمثلة التالية:
نختار لمبات تعمل بتقنية LED وهي أحدث التقنيات والأكثر توفيراً ًللطاقة.
نختار جهاز تلفزيون يعمل بالتقنية نفسها ويكون مصروفه 50 واط.
نختار الثلاجة والغسالة الصديقة للبيئة بحيث لا يتعدى مصروف كل واحدة الـ100 واط، وبالتالي إذا عملت كل تلك الأجهزة مع بعضها مع أجهزة أخرى كالكمبيوتر والتلفون النقّال والراديو وأجهزة أخرى فإن المصروف التراكمي اليومي لا يتعدى الـ 5000 واط. وهكذا فإن تركيب أربعة ألواح فوتوفولطية بقدرة 200 واتطلكل واحدة مع توصيلها بأربع بطاريات قدرتها 200 أمبير/ساعة يمكن أن يوفّر لنا مصروفنا اليومي بكل سهولة. ومع شروق الشمس في اليوم التالي تبدأ الخلايا الشمسية بإنتاج الكهرباء وستعطي الأولوية لشحن البطاريات، كما سيذهب قسم من الإنتاج لتزويد البيت بالتيار الكهربائي، وبعد انتهاء عملية الشحن يتحول إنتاج الكهرباء المباشر من الخلايا الشمسية نحو شبكة المنزل تعاونه البطاريات للمحافظة على قوة التيار في حال انخفاض أشعة الشمس، كما سيلعب هذا الاحتياط دوراً هاماً في تزويد هذا المنزل بالكهرباء أثناء الليل.

الجدوى الاقتصادية
نستطيع القول إن تركيب الأجهزة الكهربائية القليلة الاستهلاك للطاقة الكهربائية قد يوفّر على أصحاب المنازل حوالي 70% من قيمة الفاتورة الإجمالية، فما الفائدة مثلاً من تركيب لمبة كلاسيكية بقوة 100 واط في حين أننا نستطيع الحصول على كمية الاضاءة نفسها بتركيب لمبة بتقنية “الديود” بمصروف 3 أو 5 واط. لذلك نشجع على استخدام الأجهزة الكهربائية المنخفضة المصروف لما لها من جدوى اقتصادية عالية، كما نطلب من جميع البلديات اعطاء أهمية قصوى لهذا الموضوع وخصوصاً في المناطق الجبلية، وذلك عبر دراسة وبحث كيفية تمويل وتركيب كميات كبيرة من الألواح الشمسية في المناطق الشاسعة الجبلية، بحيث يتم إنتاج واحد ميغاواط في كل قرية، وهذه الطاقة قادرة أن تغذي أكثر من 600 منزل. وأيضاً نطالب بصيانة حسّاسات إضاءة لمبات الشوارع في جميع البلدات ليتم اطفاؤها أوتوماتيكياً عند بزوغ الفجر. ويجب أيضاً التفكير بتركيب لمبات تعمل بالطاقة الشمسية في الشوارع البعيدة عن الشبكة العامة كما في جميع الدول النامية لما لها من قيمة في توفير الكهرباء ولا تحتاج الى تمديدات جديدة في الشبكة العامة والتي تكَلف الدولة الكثير لتنفيذها.

العرس القروي

العرس القروي

من فـــرح حقيقــي واحتفــــال بالثقافـــــة
إلى مسرحيات مملة ومتفرجين وتبذير ومباهــاة

لا يوجد مكان يمكن فيه معاينة التآكل التدريجي لثقافة الموحِّدين الدروز وأسلوب حياتهم كما هو واقع في حفلات الزفاف، هذه المناسبة التي كانت على الدوام إحدى أهم مؤسسات الثقافة الجماعية وتعبيراتها تحوّلت وفي غضون عقد من الزمن إلى شيء آخر لا يمت بأية صلة إلى ثقافة الموحِّدين الدروز أو آدابهم أو ثقافاتهم، كما أنه لا يمت بأي صلة للوظيفة الأصلية التي أعطيت لحفل الزفاف في الماضي وهي شد أواصر التضامن والمحبة بين الأسر والقرى وبين أعضاء القرية الواحدة وتأكيد قيم التوحيد الأصلية مثل إكرام الضيف والاحتفاء بالعريس (والعروس) وإحياء النسب الجديد بين العائلتين والاحتفال بوقوعه وتواصل الناس مباشرة عبر مشاركة الجميع بالمناسبة، أو المساعدة في إعداد الطعام أو المشاركة في حلقات الرقص وغير ذلك من تعبيرات النخوة والتضامن التي كانت بالفعل تفرح الصدور. فما الذي جعل هذه المؤسسة المهمة في ثقافة الموحِّدين الدروز بل ونسيجهم الاجتماعي تتقهقر إلى الحالة التي نشهدها اليوم؟ وكيف يمكن إحياء “العرس الدرزي” عبر مبادرات هادفة ومصممة على صون الهوية والثقافة أمام هذه الهجمة الشرسة للإبتذال؟

إحدى أبرز المفارقات في حفل الزفاف القروي الذي نسعى لإنقاذه اليوم هو أنه لم يكن يسمى بحفل الزفاف بل “الفرح” فكان لا يقال “زفاف” فلان بل “فرح” فلان تعبيراً عن الشعور العارم الذي كانت تتركه المناسبة في قلوب المشاركين وذاكرتهم. وأذكر كيف أننا عندما كنا في سن المراهقة أو أدنى منها كنا نسعد أيما سعادة كلما بلغنا بأن هناك “عرساً” (فرحاً) في اليوم الفلاني هو عرس فلان.
كنا ننتظر المناسبة ليس فقط لأننا كنا نشارك أو نتابع مظاهر الفرح والحبور والتوادد العفوي بين الناس، بل لأننا كنا ومن دون وعي منا نطلع من خلال العرس على الكثير مما يشكّل أساس ثقافتنا وقيمنا. كان العرس بالنسبة إلينا مدرسة أو “درس عملي” نشاهد خلاله كيف يتعامل الناس وكيف يفرحون وكيف يحتفلون. كنا نشاهد أهل القرية ونتعرّف عليهم وعلى طباعهم وما يميّز كل فرد منهم بصورة أفضل من خلال رؤيتهم يتحرِّكون ويتحدثون ويتسامرون أو يؤدون رقصاتهم عبر الدبكة أو “الحوربة” أو الرقص الحر، كما كنا نرى كيف كانت كل من العائلتين المتصاهرتين تحتفلان بالمصاهرة وما ينتج عنها من روابط ألفة واعتزاز وشعور بالقوة وهذا مغزى قول السابقين “الصهر سند الظهر” .
باختصار كان كل حفل زفاف أو عرس يعلمنا نحن الصغار أو المراهقون شيئاً جديداً عن أهلنا وبيئتنا وثقافتنا، وكان أهم ما نستذكره ويثير اهتمامنا هو تلك الحالة من التآزر والتآخي والفرح العفوي الذي كان يستثيرها العرس في الجميع، وهي حالة كان قوامها الأهم كون العرس مناسبة فرح جامعة كان على كل شخص المساهمة بقسطه فيها. لكن كان الأهم أيضاً الدور المهم للعرس في التأكيد على ثقافة الرجولة والعنفوان، وقد كان جزء أساسي من رقص الرجال مستمداً من تقاليد الفروسية واستذكار ما سلف من معارك الشرف وحماية الديرة والأهل. وكان الحماس يسيطر على المشاركين عند كل “جوفية” أو مقطع ينشده الرجال في استذكار الشجاعة والغيرة والقيم التي جعلت الموحِّدين يستمرون عبر الزمن ويحفظون كيانهم إزاء كل أنواع البلاء والامتحانات.
بالطبع كان لأعراس الستينات وحتى السبعينات أو قبل ذلك رجالها وقد كان قسم منهم لا يزال يحفظ الكثير عن الثورة السورية الكبرى التي قادها الزعيم الدرزي العربي سلطان باشا الأطرش ورفاقه الميامين، وكانت هناك أيضاً أزمة 1958 والتي نظر البعض إليها كاستمرار لكفاح الموحِّدين الدروز دفاعاً عن الهوية العربية وانتصاراً لرابط العروبة، فكان هذا الرعيل بالتالي عماد تلك المناسبات السعيدة وواسطة لاستمرار العرس في دوره كفرح وكمدرسة للتنشئة وكإحدى مؤسسات تناقل التراث، وقد غاب هذا الجيل مع كل زاده الثقافي ليحل محله جيل آخر يواجه زمنا آخر وظروفاً اقتصادية وثقافية بدّلت كثيراً في حياة الدروز وحياة أهل الجبل واقتصادهم وثقافتهم وأساليب عيشهم اليومي. وأبرز التحديات التي برزت في السنوات الأخيرة من تلك الحقبة كانت ولا شك تحدي التواصل الكوني والتنميط الثقافي بواسطة العولمة والفضائيات ومواقع الإنترنت. وقد لعب هذا التنميط الثقافي دوره بسرعة كبيرة لم تتح لأي كان فرصة التقاط الأنفاس أو التفكير في كيفية التعامل مع الموجات الجديدة، وهناك بالتالي خسارة حاصلة من رصيد الهوية واختلاط ذهني وتشوش في عقول الناس التي تخضع بطبيعتها للمؤثرات.
وهذا القول صحيح خصوصاً بالنسبة للعامة من الناس خارج مجتمع الالتزام الديني أو ما يمكن تسميته مجتمع “أهل الزي”؛ وهو مجتمع أولئك الذين أدخلوا أنفسهم طوعاً وعبر طلب الترقي والسلوك في دائرة واضحة محددة المعالم لما يعتبر في صلب مجتمع التوحيد وسلوك الموحِّدين وما يعتبر مناقضاً له أو دخيلاً عليه وغريباً بالتالي عنه.
ومشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة. وهذا الأمر ينطبق على ما طرأ على العرس الدرزي كما ينطبق على العديد من جوانب الحياة التي تبنيناها من دون مقارنتها مع أي مرجعية أو تعريف ولو عام لثوابت الهوية وجوهر الثقافة والمصلحة أو حتى الفطرة الإنسانية والذوق السليم.
إن طرح موضوع العرس الدرزي ليس هدفاً في حد ذاته، بل هو مناسبة لتسليط الضوء على أهمية إعادة تحديد مكونات الهوية الثقافية لأهل الجبل ووضع بعض الفوارق والعلامات التي تبقي للموحِّدين الدروز

مشكلة “الدهريين” من دروز هذا الزمان، أن المنقطعين منهم عن التوجيه السليم والمعرضين لشتى التأثيرات، لم يعودوا يعرفون ما هو منهم وما ليس منهم في الحقيقة

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.
إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

استفتاء الضحى الشبابية حول انعكاسات الدرس في جامعات بعيدة

قضايا ومشكلات الدراسة في جامعات بعيدة
الموازنـــة الصعبــة بيــن تلبيــة الطمــوح
وبيــن الحفــاظ على ثوابــت السلــوك والهويــة

التحــديــــــات:

> الانتقــال المفاجـئ مـن رقابــة الأهــل إلــى الحــرية والسكــن المستقــل
يعــــرّض الكثيريـــن لمزالـــق وقـــد يزعـــزع ثوابـــت السلـــوك

> الشبــاب يحـنّ إلـى الأهـل واللقمــة الطيبـــة فــي البيـــت
ويكــره الوحــدة وعــبء المواصــلات و”الشنططــة”

> تزايــد الاتجــاه لفتــح فــروع جامعيــة فــي المناطــق
توفــر علــى الطــلاب المــال والمشقــة والمتاعــب النفسيــة

بيروت: “الضحى الشبابية”

الشباب الدرزي موّزع بين الطموح إلى تحصيل التعليم العالي في جامعة جيدة كضمان لمستقبل مهني ومالي آمن، وبين المجازفة بالسفر بعيداً عن الأهل وتحمل المشقة وفي الوقت نفسه التعرض لإغراء الاستخدام غير المسؤول للحرية والعيش بعيداً عن رقابة الأهل والعائلة الأوسع المتمثلة بالقرية والأقارب والبيئة الدرزية. هذه الحيرة تبدو واضحة في التأرجح بين التشديد على أهمية التعليم وفي الوقت نفسه التحدث عن السلبيات الكثيرة التي تطرأ على سلوك الشباب والشابات عند سكنهم لوحدهم بعيداً عن الأهل والمشقات والتكلفة الكبيرة التي يتكبدونها في سبيل أن يتعلموا في الجامعة التي توفر لهم الاختصاص الذي يرغبون في إنجازه.
في هذا الاستفتاء السريع الذي أجرته “الضحى الشبابية” بين أوساط الطلاب والطالبات الدروز الذين يتعلمون في جامعات تقع في بيروت أو في الجامعة اللبنانية، خلاصة لأجوبة سريعة على 10 أسئلة أردنا من خلالها تكوين فكرة عن تجربة الطلاب والطالبات بعيداً عن أهلهم، وكيف يقيِّمونها هم من خلال اختبارهم الشخصي أو ما يلاحظونه حولهم وفي سلوك إخوانهم.
جميع الطلبة الدروز الذين يدرسون بعيداً عن الأسرة ويعيشون بالتالي حرية جديدة لم تكن متوافرة لهم في السابق، يعتقدون أن الواقع الجديد يؤثر سلباً على سلوكيات العديد من الشباب والشابات وإن بصورة متفاوتة. ففي إحدى الإجابات إشارة إلى “استغلال الحرية والبعد عن الأهل” وفي إشارة ثانية إلى ” التمدّن على حساب الأخلاق” أو مشكلة التأخر في السهر أو معشر السوء: أضف إلى ذلك الحنين إلى بيت الأهل وإلى اللقمة الطيبة في البيت والشعور بالوحدة ومشقة المواصلات في الذهاب والإياب بين المناطق.
الملفت أن قسماً مهماً من الإجابات اعتبر “تلبية الطموح” أولوية مما يعني أنه يستأهل المخاطرة بالآثار الجانبية التي تنجم عن السكن المستقل في بيئة المدينة بعيداً عن الأهل. وهذا يوضح أن هناك تشوشاً في تقييم الموضوع وأن الاندفاع وراء الطموح بات أقوى من أن يسمح بتقييم موضوعي وبعيد النظر للمسائل. إننا إذ نعرض ما يلي لإجابات الطلبة نوّد مع ذلك أن نسجل الملاحظات التالية:
1. إن سكن الطالبات المستقل موضوع غير مقبول في البيئة المحافظة للموحدين الدروز، على الرغم من أن نسبة متزايدة من الأهل أصبحوا يتقبلونه. وهذا يعني أن من المفضل للفتيات السعي للدراسة في جامعات قريبة بحيث يرجعن إلى المنزل في كل يوم. وهذا ما لم يكن للأهل منزل آخر في بيروت أو تكون الفتاة برفقة الأخ الشقيق أو الأخت ويكون سكنها مع فرد منهم فقط. ويعني ذلك أن الفتاة المحافظة تختار بالأولوية البقاء في بيت الأهل والتعلم في جامعة قريبة، حتى ولو اضطرت لاختيار تخصص آخر غير الذي قد ترغب به. لأن الحفاظ على الهوية والنفس هو الجوهر، أما التخصصات فهي فروع. ولا يعقل إخضاع الأصل للفروع.
2. إن الموحدين من أهل الإيمان شباناً وشابات يعلمون أن التوفيق في الحياة يأتي من أمور كثيرة، أهمها التوكل الحقيقي على الله في كل شيء، ثم الانسجام مع النفس والعيش وفق القناعات الشخصية وعدم المساومة عليها واحترام الأهل والاعتناء بصحة الفرد عبر اجتناب الأمور الضارة مثل التدخين والكحول وغيرهما. أما الشهادة العلمية فلا تغني عن ما سبق، بل غالباً ما يكون النجاح رهن عوامل أخرى مثل تراكم الخبرة والجد في العمل والاستقامة المهنية وغيرها.
3. إن الركض وراء الجامعات المعروفة في بيروت خصوصاً، غالباً ما يتم بتأثير الطموح الشخصي الاجتماعي من دون النظر إلى وضع الأهل، وهناك ضغوط قوية توضع على الوالدين بشأن التسجيل في تلك الجامعات والعيش المستقل في بيروت. وبالطبع فإن الطموح مشروع لكن على كل منّا الموازنة بينه وبين ما هو ممكن واقعياً في ظروف الأهل وهذا ما لم يتمكن الطالب من الحصول على منحة دراسية من إحدى المؤسسات المانحة (راجع التحقيق الخاص بالمنح في هذا العدد من “الضحى الشبابية”).
4. إن الجبل بات يشهد قيام جامعات محترمة مثل الجامعة اللبنانية في دير القمر أو جامعة اللويزة في الشوف وجامعة البلمند التي يتوقع أن تقوم قريباً في منطقة عاليه وكذلك الجامعة الداودية في عبيه إضافة إلى مشروع فتح فرع للجامعة اللبنانية في راشيا، وهذا فضلاً عن عدد من الجامعات الخاصة. والمنطق السليم يقضي بالسعي للتعلم في تلك الجامعات لأنها توفر مناخاً صحياً للتعليم في إطار المنطقة وبالقرب من الأهل، ولأن أكثر هذه الجامعات يتوافر فيها مستوى جيداً من التعليم والتأهيل للمستقبل. بل يمكن القول إن وجود الجامعة القريبة يحل المشكلة حتى ولو لم يحصل الطالب على منحة دراسية، لأنه يسمح ببقاء الطلاب في منزل العائلة ويوفر عليهم مبالغ ضخمة تدفع في بيروت للسكن والطعام والتسلية وغيرها.

“الضحى الشبابية” أجرت بعض المقابلات مع عدد من الطلاب والطالبات الذين يدرسون في جامعات العاصمة أو في الجامعة اللبنانية في الحدث، وخرجت بهذه الصورة التي تعكس أهم القضايا التي تثيرها الدراسة بعيداً عن المنزل الأسري:

أيمن شرف الدين
أيمن شرف الدين

أيمن شرف الدين (السمقانية – الشوف) يدرس إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية الدولية LIU يقول إن “الظروف والصدف شاءت أن أتسجّل في جامعتي هذه”، وأبرز النتائج في نظره هي الاستيقاظ باكراً وصعوبة المواصلات وضرورة الاعتماد على النفس والبعد عن الأهل والأصدقاء”، ما هي النتيجة التي خرجت بها من تجربتك؟ يجيب “أهم الإيجابيات هي التعرّف على أناس ومجتمعات جديدة، والانخراط في أجواء تساعدني على التعرف على المجتمع الأوسع وتكوين شخصيّتي المستقلّة”. وهو لذلك أصبح أكثر انفتاحاً على الآخر ولكن، وفي الوقت نفسه، أكثر الماماً بما يميزه عن الثقافات الأخرى أي “أن التعرف على الآخر هو في أحيان كثيرة وسيلة تعرف بها نفسك بصورة أفضل”، على حدّ قوله.

بهاء ابو شقرا
بهاء ابو شقرا

بهاء أبو شقرا (عمَّاطور – الشوف) يدرس المحاسبة في جامعة MUBS يقول إنه اختار الجامعة التي يدرس فيها “لأسباب مادية”، علماً أن شقيقه أيضاً يدرس فيها. وهو يوافق على أن الصعوبات تكمن في العيش بعيداً عن الأهل والأصدقاء. لكنه لا يواجه صعوبة في الانخراط في أيّ جوّ كان، بل على العكس “أرى ذلك شيئاً ايجابيّاًً لبناء شخصيّتي”. يلاحظ مع ذلك أنه “لا توجد عند الجميع المؤهلات الكافية للعيش باستقلالية بدليل انجراف البعض إلى أمور غير مستحبّة”.

الطالبة غنوة (راشيا) تدرس في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، تشكو من أن الدرس بعيداً عن الأسرة والمنزل يزعجها كثيراً لأن المسافة بعيدة جدّاً مما يضطرها للسكن إلى جانب الجامعة. لكن في أيّام الشتاء قد لا نتمكن من الوصول إلى البيت بسبب الثلوج على “ضهر البيدر”…يعني “شنططة لال ماكسيموم”. هل ترين مثل زميلك إيجابيات في الدرس بعيداً عن الاسرة؟ تسارع إلى القول “لا أرى أي ايجابيات بل الوضع كله سلبي” لأنّني لا أنسجم مع “مجتمع الجامعة” كثيراً وأشعر بأنّني غريبة، ولهذا فإن علاقتي محصورة برفاقي الذين كانوا معي في الثانويّة ونزلنا معاً إلى بيروت. لكن البعض يقول إنه يشعر بالاستقلالية أو الحرية الشخصية؟ تجيب: “لا توجد حرّيّة، هناك مسؤولية لأنني مسؤولة عن نفسي في الجامعة وفي السكن وعلى الطريق”. هل هناك سلبيات إذاً؟ “نعم. العديد من الشباب ينجرّ وراء مجتمع “لا يشبه مجتمعنا كدروز”، ويتصرّفون بشكل غير مقبول، شخصياً لم تتغيّر نظرتي. فأنا لم أزل كما كنت متمسّكة بهويّتي الدرزيّة وفخورة بها. وبالطبع، كنت أفضل لو درست في جامعة قريبة في المنطقة لأن ذلك يوفر عليّ الكثير من التعب الجسديّ و النفسيّ”.

عُلا شاذبك (بعذران – الشوف) تدرس الكيمياء في الجامعة اللبنانية، تقول إنها كانت تفضِّل لو أنها وجدت جامعة في الاختصاص الذي ترغب فيه في منطقتها. لكن وجود سكن للطالبات خفف من مشاكل بعد الجامعات عن السكن. أبرز الصعوبات التي تواجهها هي حمل متاعها في وسائل النقل العام كل أسبوع وما يولده من مشقة خصوصاً في موسم الشتاء. هل تشعرين بدرجة أكبر من الحرية؟ “على العكس حريتي هنا مقيّدة أكثر لأنّني مسؤولة عن المحافظة على مبادئي وثقة أهلي”. وهل يؤثر الدرس بعيداً عن جو المنطقة في سلوك الشباب؟ “نعم يؤثّر في الأكثرية منهم لأنهم يحاولون التمدّن على حساب القيم والعادات المعمول بها في مجتمعهم. والنتيجة هي أنني أصبحت أكثر تمسّكاً بهويّتي، إذ إنّني اكتشفت حجم المشاكل وكذلك حجم الفوارق في السلوك بيننا وبين البيئة السائدة في المدينة وفي الجامعة”.

ربيع حميدان
ربيع حميدان

ربيع حميدان (بعقلين – الشوف) يدرس في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، لا يرى إيجابيات في الدرس بعيداً عن منطقة سكن الطالب أو الطالبة. لكنه اضطر للمجيء إلى الحدث بسبب عدم وجود الاختصاص المطلوب في جامعة قريبة. تزعجه المسافة والبعد عن الأهل، وكذلك الاختلاف في القيم والسلوك والتربية والأشخاص.هل غير الوضع الجديد في سلوك الشباب الدروز؟ لا يعتقد ربيع أن السكن وحده هو العامل، بل التربية والشخصية لأن الذي يميل للانجراف سينجرف حتى لو كان في جامعة قريبة. ويوضح أخيراً أنه أصبح أكثر انفتاحاً لكن في الوقت نفسه أكثر تمسكاً بهويته “لأن هويّتي هي الوحيدة التي تعرّف عنّي ولأن سؤال الآخرين لي عن هويتي وانتمائي دفعني إلى التعرّف على جذوري والإلمام بها بصورة أفضل من قبل..”.

شذا دلال (راشيا) تدرس في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية، تقول إن شخصيّة الفرد مهمة في تحديد إذا كان السكن بعيداً يؤذيه أو يوسع آفاقه لكن الصحبة أيضاً مهمة جداً وعلى الطالب أن يختار جيداً من يعاشر. مجيئها إلى الحدث سببه أنها تحب دون أن يكون هناك الهندسة فرع قريب للجامعة اللبنانية في المنطقة. يزعجها التعب والمشاكل في السكن والمواصلات.لكن التعرّف على مجتمع جديد أنضج شخصيتها. وبشكل عام كبرت المسؤوليّة بالنسبة لها لأنها وحيدة وعليها أن تعتمد على نفسها في كل شيء. وفي النتيجة فإن شذا ومع انفتاحها على الغير أصبحت أكثر تمسكّاً بهويّتها لأنّها أصبحت تعرف معنى أن تكون درزيّة وكيف يجب أن تحافظ على هذه الهويّة.

زينة نصر الدين (غريفة – الشوف) تدرس الصحة العامة في الجامعة الأميركية، تشعر بعدم الاستقرار نتيجة العيش والتنقّل بين منزلين، فضلاً عن صعوبة التنقّل مع الحقائب أسبوعيّاً ونقل الطعام والثياب والكتب. أفضل ما كسبته هو “زيادة الاعتماد على النفس والثقة بالنفس، التعرّف على زميلات في السكن والتفاعل معهن، التعرف والاحتكاك بمجتمع متنوّع”. وهذا لا ينفي أن الشخص ينسجم أكثر مع أبناء منطقته وبسبب وجود الكثير من الأشياء المشتركة والتقارب في طريقة التفكير”
هل تخشين على هويتك؟ «بما أنّني أسكن مع طالبات دروز فمن المؤكّد أن هذا سيساهم بتمسّكي بهويّتي. وحتّى عندما كنت أسكن مع طالبات غير درزيّات، كنت متمسّكة بشدّة بهويّتي الدرزيّة، فالإنسان قادر على الانفتاح على البيئات المختلفة والتعرّف عليها واحترامها مع تمسّكه بهويّته».
هل الكل ينجح في ذلك؟ «كلا مع الأسف، فهناك قسم كبير من الشبان والشابات الدروز يتأثّرون كثيراً بالبيئات الجديدة لدرجة أنّ بعضهم يصبح كالذي يخجل بانتمائه إلى الجبل مثلاً، كما أن البعض قد يتأثّر حتّى في معتقده الديني بالبيئات الجديدة”.

زينة أبو كروم
زينة أبو كروم

زينة أبو كروم (مزرعة الشوف) سنة خامسة هندسة مدنية في الجامعة اللبنانية، لا ترى عوامل إيجابية في الدراسة بعيداً عن الأسرة والمنطقة وتقول إنها تفتقد الأهل مؤكدة أن السكن المستقل “يجلب المشاكل”. وتقول إنها اضطرت إلى الانتقال بعيداً عن الأسرة بسبب عدم وجود الاختصاص في جامعة قريبة. وهي تشكو بعد المسافة ومشقة التنقل، الأمر الذي اضطرها للسكن في سكن الطلاب في الجامعة. تقول أخيرا ًًأنها أصبحت أكثر انفتاحاً ومتقبلة للآخر، وفي الوقت نفسه أكثر تمسكاً بهويتها الروحية والثقافية والتي “لم تكن عائقاً أمام تقبلي للآخرين”.

مجد فياض
مجد فياض

مجد فياض ( صوفر) سنة رابعة هندسة ميكانيك في الجامعة اللبنانية، يقول «إن السكن بعيداً زادني تمسكاً بالهوية لأن الهوية تصبح أقوى وسيلة للحفاظ على شخصيتك وعدم الاضمحلال في الجو الجديد. أهم الصعوبات في نظره هي البعد عن الأهل، وضرورة تحمُّل الشخص لمسؤوليته عن نفسه بما في ذلك إعداد طعامه والاهتمام بشؤونه. لذلك فإن الوضع سيكون أفضل «لو كانت الجامعة في منطقتي وقريبة من قريتي». هل ترى تأثيراً للسكن المستقل على سلوك الطلاب؟ يجيب بالقول «هناك من يتأثر سلباً، ومنهم من يتأثر إيجاباً. فالبعض يتقرَّب من مجتمعه ودينه أكثر عند التعاطي مع مجتمعات أخرى والبعض الآخر، وبحسب الجامعات وجوِّها، قد يتأثر سلباً”.

 

 

باسل ملاعب
باسل ملاعب

باسل ملاعب (بيصور – عاليه) يدرس الصحة العامة في الجامعة الأميركية في بيروت، يقول “إن الجامعة الأميركية كانت فرصة لي كي أطور شهادتي وأحصل على الماجستير، وجميعنا يعلم مستوى الجامعة الأميركية”. فهو لم يجد صعوبة في الدرس بعيداً إذ وجد منزلاً قريباً من الجامعة. “وهو ما أراحني كثيراً إذ أصبح لدي وقت أكثر للدرس”. هل تأقلمت مع الجو الجديد؟ “أنا لا أتأقلم بسرعة، وخاصة جو الجامعة الأميركية المعروف. لهذا فإنني أبحث بين الجميع على من أستطيع التأقلم معهم بحسب اعتباراتي وأفكاري وقيمي. والعمل الجماعي ساعدني في ذلك كثيراً”. هل هناك محاذير ؟ “نعم، ففي هذه الحالة يكون الإنسان بلا حسيب ولا رقيب إلاَّ نفسه، فهو إذا لم يكن مزوَّداً بما يكفي من قيم ووعي قد ينجرّ إلى أمور عدة بسهولة. وبالنسبة لكثيرين، مغادرة المنزل الأسري إلى ما يسمى “الحرية” يفتح أبواباً كثيرة على المجهول”.

المعهــد الجامعـي فـي عبيـه ينطلق بأربعة اختصاصات هندسية وتكنولوجية

بعد انتظار طويل أصبح لطلاب منطقة عاليه وجوارها معهد جامعي عالي بأرفع المواصفات يعطي الإجازة في فروع هندسة وتكنولوجية عدة بتكلفة بسيطة ويدير أعماله بالتعاون مع مؤسسة الحريري والسفارة الفرنسية.
المعهد الجامعي الجديد جاء نتيجة لترميم وتحديث وتجهيز شامل لما كان يعرف سابقا باسم الكلية الداوودية في عبيه والتي تحولت الآن إلى معهد جامعي عالي يعطي إجازته العلمية في أربعة اختصاصات أساسية هي الهندسة المدنية، والهندسة الصناعية، وهندسة شبكات المعلومات والاتصالات والمعلومات التطبيقية لإدارة الأعمال.
وتستهدف هذه الاختصاصات التي يتم توفيرها بالتعاون بين الجامعة اللبنانية ومؤسسة الحريري والحكومة الفرنسية تهيئة الطلاب لشغل وظائف تغطي الحاجات المتزايدة في مجال التكنولوجيا لدى العديد من المؤسسات والشركات والصناعات. وتستغرق الدراسة في هذه الاختصاصات ثلاث سنوات يحصل الطالب بعدها على دبلوم جامعي يصدر عن الجامعة اللبنانية ويعادل إجازة جامعية للتكنولوجيا بناءً على القرار 230/77 الصادر عن وزارة الثقافة والتعليم العالي.
ويعتبر إنجاز ترميم دار الحكمة من أهم منجزات لجنة الأوقاف نظراً للقيمة التاريخية لهذا الصرح التعليمي الذي شُيّد من عائدات وقف الشيخ أحمد أمين الدين في بلدات عبيه، كفرمتى وبيصور عام 1862 بدعم من المتصرف دوواد باشا. وبدأت “الداوودية” كمدرسة ابتدائية بمساحة 1300متر مربع لتعليم أبناء الموحدين الدروز، لكنها توقفت قسراً عن رسالتها التعليمية بسبب الحرب العالمية الأولى وأعيد افتتاحها في العام 1925 بعهدة المربي سامي سليم، ثم أضيف إلى بنائها ضعفي البناء المصلح الاجتماعي بعناية السيد عارف النكدي الذي استلم إدارة الأوقاف عام 1930 لتصبح الكلية ثانوية مساحتها 4000 متر مربع بفرعيها الداخلي والخارجي وبقسميها الفرنسي والإنكليزي.
يذكر أن المدرسة شهدت تألقاً علمياً بالتعاون مع الأزهر الشريف ورعاية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وما لبث أن تغير اسمها من «الكلية الداوودية» إلى «دار الحكمة» في مئويتها الأولى عام 1962تيمناً بدار الحكمة في القاهرة، إلا أن ظروف الحرب الأهلية عادت وأقفلت أبوابها عام 1978 بعد أن تعرض مبناها لأضرار جسيمة.
وكان قرار ترميم الكلية وتحويلها إلى صرح علمي يفيد أبناء منطقة عاليه والقرى المجاورة أحد أول الخطوات التي اتخذتها لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وتم إنجاز أعمال الترميم بتكلفة ناهزت الـ 966 مليون ليرة لبنانية (نحو 645 مليون دولار). وتأجير المدرسة للجامعة اللبنانية في نيسان 2009 ببدل إيجار سنوي قدره 275,000,000 ليرة. كما تم تدشين المعهد الجامعي في السادس عشر من أيار 2009 ليتم بعدها، وبناءً لطلب من المجلس المذهبي استصدار مرسوم من مجلس الوزراء يقضي بتحويل الكلية إلى معهد جامعي تكنولوجي يتبع للجامعة اللبنانية في الاختصاصات الأربع المشار إليها، وهذا مع العلم أن إدارة المعهد تعد لإدخال اختصاصات علمية جديدة في المستقبل بعد استكمال دراسة الحاجات لدى الطلاب وسوق العمل.
وتكمن الأهمية الإضافية للمعهد الجامعي في دار الحكمة في كونه يوفر فرص التخصص في مجالات التكنولوجيا والهندسة وفق ارفع المستويات العلمية بتكلفة محدودة لا تتعدى كلفة التسجيل في الجامعة اللبنانية.

إحيــاء الاقتصـاد الزراعــي فـي الجبـــل

في العدد السابق من “الضحى” خصصنا ملفاً أساسياً لموضوع الأرض، وقد شدّدنا فيه على ما يلي:
1. إن انسلاخ جمهور الموحِّدين الدروز عن الأرض، تسارع بصورة خطيرة في العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، بحيث باتت أقلية من أهل الجبل تعتمد في عيشها على الأرض وعلى الاقتصاد الزراعي بالمعنى الواسع، بينما انصرفت الغالبية إلى قطاعات الوظيفة العامة أو الخاصة، أو حتَّى إلى قطاعات التجارة والخدمات.
2. إن هذا الاتجاه يهدد بتحويل الأرض من أصول اقتصادية مُنتجة للدخل إلى مجرد أصول عقارية تكتسب قيمتها الوحيدة من قيمتها المحتملة كمواقع للبناء. ونظراً للطلب القوي على البناء، نتيجة التزايد السكاني وارتفاع مستوى المعيشة وتدفُّق التحويلات من المغتربين، فإنَّ أسعار الأراضي كالعقارات، ارتفعت إلى حدٍّ جعل بيعها في كثير من الأحيان مغرياً للمالك، الذي غالباً ما يحتجُّ بأن الاحتفاظ بالأرض كأصول زراعية لم يعد يحقِّق له دخلاً كافياً للعيش، وأنَّ بيعها بالتالي يوفِّر له سيولة نقدية فورية، تمكِّنه من أن يستخدمها في مشاريع معينة، أو أن ينفقها لبناء منزل أو تعليم أولاده، أو تلبية حاجات ملحة.
في الوقت نفسه، شدَّدنا أيضاً على أن الحجة الأساسية التي جعلت الناس يهجرون الأرض ويهبطون بها إلى مستوى العقار الجماد، ليست بالضرورة حجة اقتصادية، بقدر ما أصبحت ترتبط بتبدُّل أسلوب العيش ورغبة الكثيرين – وخصوصاً الشباب الذي يتلقَّى قسطاً من التعليم – تقليد الحياة كما يعيشها أهل المدن، أو كما يرونها على شاشات التلفزيون أو عبر الإنترنت؛ وبالتالي فإنَّ اتخاذهم القرار بهجرة أي نشاط يدوي أو زراعي على اعتبار أنه لا ينسجم مع قيم المجتمع الجديدة الذي يريدون الانضمام إليه، والتوجه تالياً إلى نشاطات لا تتطلب الجهد نفسه في قطاعات التجارة أو الخدمات، أو السفر إلى الخارج للعمل في مجالات مماثلة.
بمعنى آخر، إن تراجع الاهتمام بالأرض لا تبرره بالضرورة أسباب  اقتصادية، ولا يمكن من هذا المنطلق تبريره بتراجع إنتاجيتها.
علماً أنَّ هذه النقطة المهمة نخصص مقالتنا هذه للتأكيد عليها وإيضاح نتائجها. وسنبدأ أولاً بعرض بعض الوقائع الأساسية التي تؤكِّد أنَّ إحياء الزراعة وتطوير عدد من الصناعات المتصلة بها قد تكون خياراً مجدياً بل مفضَّلاً إذا تمَّ الأخذ بعدد من القواعد الأساسية التالية:
أنَّ النشاط الزراعي لم يتوقف إطلاقاً في الدول الغربية التي يتسابق البعض إلى تقليدها، بل إنَّ الزراعة والمزارعين ما زالوا يعتبرون في تلك الدول فئة محظوظة لأنها تعيش في الريف وتتمتع بحرية أكبر، وهي تعتبر غالباً فئة ميسورة.
أنَّ التلوُّث المتزايد في المدن بات مصدراً لعدد كبير من الأمراض، كما أنَّ الازدحام المتزايد سلب المدينة الكثير من رونقها

 السابق وجعل الكثيرين يسعون للعودة إلى الأرياف، لكن العودة هذه تتطلَّب، بالطبع، أن يتمكَّن العائدون من توفير مصدر رزق بديل لهم في الزراعة ونشاطاتها.
أنَّ في لبنان نفسه فئة واسعة ما زالت تعيش على الزراعة، سواء في السهول الساحلية أو سهل البقاع؛ وهناك أيضاً فئة تجمع بين الوظيفة والنشاط الزراعي.
يجب الإقرار بالطبع أنَّ إحياء النشاط الزراعي يتطلَّب وضع استراتيجيَّة شاملة تلحظ توفير متطلبات الحد الأدنى، ولاسيما مصادر المياه، هذا فضلاً عن التدريب والإرشاد لحلِّ مشكلتي التسويق وتصنع الفوائض الزراعية. لكن هذه الاستراتيجية يمكن حفزها واستقطاب الموارد إليها في حال توافر نهضة واهتمام متجددين بالنشاطات الزراعية المنتجة من قِبَل المواطنين، إلى جانب قيام تجارب رائدة ناجحة يمكن للآخرين النسج على منوالها، أي أننا بحاجة إلى روَّاد في هذا القطاع، وإلى تجارب نموذجية توفِّر بحدِّ ذاتها أساساً يمكن للآخرين البناء عليه.
إن منطلق تطوير الزراعة كنشاط اقتصادي في الجبل يتطلب وضع مخطط توجيهي جديد يقوم على دراسة شاملة لأنواع التربة

 وجغرافية الأراضي والمناخات ومصادر المياه القائمة والتقنيات الملائمة Appropriate technology ، أو تلك التي يمكن إضافتها، كما يقوم هذا المخطط على إدخال ما يمكن اعتباره الجيل الجديد من الزراعات الاقتصادية، وهي عبارة عن نصوب تمّ تكوينها على أصول جذرية قوية، وجرى تأصيلها، بحيث باتت تبدأ بالإنتاج من السنة الثانية للزرع وتتميز بتحمّلها لمختلف أنواع التربة والجفاف الجزئي ومقاومة الأوبئة. وهذه الأصناف من الأشجار المثمرة غير معدلة وراثياً، ولكنها نتيجة تجارب طويلة وناجحة من التهجين واختبار الأصول الجذرية التي يتم التطعيم عليها، باتت معتمدة باعتبارها أنواعاً اقتصادية ترفع كثيراً الجدوى الاقتصادية للحقل.
أنَّ منطقة جبل لبنان نظراً إلى طبيعتها الوعرة، قد حافظت إلى حدّ كبير على المزايا الطبيعية فيها، ولم يلحق بها التلوُّث الكيميائي الذي لحق بالسهول نتيجة

للزراعات المكثفة، وللاستخدام العشوائي للمسمدات والمبيدات العشبية أو الحشرية والفطرية.

وتالياً فإنَّ الجبل ما زال يحتوي على مقوِّمات أساسية لقيام زراعات عضوية تجعل منه المقصد الأول للمستهلكين الراغبين في استهلاك هذه المنتجات، أو لشركات التوزيع والتسويق المتخصصة في تلك المنتجات أو للزراعات العسلية، أي التي تزرع لذاتها – مثل الخزامى Lavender أو اكليل الجبل Rosemarry أو القصعين Sage أو الصعتر- لكن التي يمكن في حال زرعها بكثافات كافية أن تصبح مصدراً رئيسياً لإنتاج العسل العضوي بخصائص رفيعة غذائية وطبية أيضاً. 

أنَّ أي مخطط توجيهي جديد لإحياء النشاطات الزراعية الاقتصادية في الجبل، يجب أن يعتمد على تعيين ثمار ومحاصيل مثلى، وأن يأخذ في الاعتبار دورة المحاصيل لتلك الثمار، بحيث يمكن لتلك المحاصيل أن تنزل إلى السوق في توقيت مناسب يحفظ سعرها، كما أن هذا المخطط يمكن أن يلحظ مجموعة المواصفات التي تتيح تصدير المنتجات الزراعية العضوية أو الطبيعية إلى أسواق مختارة في الخليج أو أوروبا أو في الولايات المتحدة وغيرها.
أنَّ الاستثمار في النشاطات الزراعية الجديدة، وفي مشروع تحويل الجبل إلى مقصد للراغبين في المنتجات العضوية وتسويقه على هذا الأساس Branding على نطاق واسع، يمكن أن يوفِّر فرصاً عديدة للمغتربين الراغبين في توفير مبرِّر أقوى للتواجد الدائم في الوطن، أو استثمار أموالهم في مشاريع مجزية تساهم في خلق فرص العمل للشبان والشابات في القرى الجبلية.
أنَّ إحياء الاقتصاد الزراعي كفيل بوضع الأسس لدورة اقتصادية جديدة في الجبل، لأنَّ الزراعات الجديدة والأصناف المحسنة، والدفع في اتجاه تخصص متزايد لاقتصاد الجبل في الزراعات العضوية التي توفر الأسس لصناعات صغيرة ذات قيمة مضافة عالية، تبدأ بصناعات التعليب والمعالجة والتجفيف إلى التقطير، ويمكن لهذه الصناعات أن تشكِّل في مجموعها قطاعاً متقدماً موجهاً للشريحة العليا أو المتطلبة من المستهلكين وللتصدير لأسواق متقدمة في آن واحد.

أنَّ الصيغة المناسبة للاستثمار الزراعي في الجبل، هي صيغة المشاريع الصغيرة المستندة إلى الأُسر أو إلى المجموعات القروية المتقاربة، وليست صيغة التصنيع ذات العمالة الكثيفة، لأنَّ الهدف منها هو توفير الاقتصاد المنزلي أو القروي الملائم للنسيج الاجتماعي وللقيم والعادات، خصوصاً أن فئة كبيرة من سكان الجبل باتت من الملتزمين بسلوك الدين وموجباته، وهذا الأمر يجعل من الصعب عليها القبول ببيئات الاختلاط الواسع التي تفرضها المصانع الكبيرة. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ تشجيع الزراعات الجديدة أو المرتبطة بمتطلبات قطاع المنتجات الغذائية العضوية، ينسجم بصورة أفضل مع المزارع الصغيرة أو

المتوسطة، ويستوعب في الوقت ذاته الملكيات الصغيرة التي هي الشكل الأغلب للملكية في الجبل، ولا يتطلب بالتالي إحداث بلبلة أو زعزعة في الأساس الاقتصادي لحياة القرية.
أنَّ الصناعات الجديدة المقترحة يمكنها تغطية دورة إنتاج متكاملة لا تتوقف على تسويق المنتج الأصلي، مثل الثمار أو الأعشاب في سوق تنافسية، بل تتوسَّع باتجاه إضافة القيمة على المادة الخام، بحيث لا تكون تلك المنتجات معتمدة بكليتها على التسويق المباشر قبل أي تصنيع أو معالجة، بل على العكس من ذلك فإنَّ تكوين قاعدة صناعات صغيرة تعتمد على المنتجات العضوية أو الطبيعية كمادة خام، سيجعل من الأفضل والمنطقي أكثر عدم بيع كامل المنتج في حالته الخام، بل العمل على تصنيع أكبر نسبة منه بهدف إضافة القيمة وتحقيق أعلى مردود ممكن على المنتج النهائي.
أنَّ طبيعة الاقتصاد الزراعي، الذي نقترح العمل على تطويره، والمنتجات المحسنة والعضوية ستضع في حدّ ذاتها الأسس لتبني أحدث أساليب خلق الماركات التجارية والترويج والتسويق لتلك المنتجات، وهذا في حدّ ذاته قطاع متكامل لا بدّ أن يقوم ويتطور بسرعة إلى جانب القطاع الإنتاجي، بهدف استكمال دورة المشروع وتوفير مقوِّمات الجدوى والربحية. وبهذا المعنى، فإنَّ تطوير اقتصاد يقوم على الزراعات المتقدمة والأصناف المحسنة والصناعات الغذائية سيضع الأسس لقيام قطاع خدمات وقطاع بيع بالتجزئة ومحلات متخصصة تصبح بدورها مقصداً للمستهلكين من داخل وخارج المنطقة. وفي حال توافر الطلب الخارجي على تلك المنتجات، فإنَّ قطاعات مكملة يمكن أن تنشأ وتتطور إلى جانب المنتجات الغذائية عالية النوعية، مثل، قطاع الصناعات الريفية والحِرفية، وهو قطاع ينسجم أيضاً مع التركيبة الاجتماعية للجبل، بإمكانه أن يتطوّر ليصبح مكوَّناً أساسياً من اقتصاد الجبل وقطاعاته الإنتاجية.
أخيراً، فإنَّ النتيجة الأهم لوضع هذه الرؤية موضع التطبيق هي توفير الأسس لتعظيم حلقات القيمة Value chain في اقتصاد مؤسَّس على الزراعة، لكنّه يشمل بمفاعيله قطاعات أخرى متكاملة ويعتمد بعضها على البعض الآخر. وغنيٌّ عن القول إن هذه الصيغة ستساعد في توفير الآلاف من فرص العمل لسكان الجبل، سواء في البيوت (خصوصاً للنساء)، أو في المشاغل والمحترفات أو في التعاونيات الإنتاجية. وتالياً، سيتبع ذلك توفير الأسس لتعزيز الارتباط بالقرية ووقف النزف السكاني باتجاه المدن، ومعالجة جذرية لواقع بطالة الشباب مع ما ينشأ عنها من آفات اجتماعية متزايدة؛ كما أنَّ المأمول هو أن تسهم النهضة الزراعية -الصناعية في إضعاف الحوافز للهجرة بالنسبة إلى عدد كبير من الشبَّان، وتعزيز الرابطة الاقتصادية والمعنوية للموحِّدين الدروز بأرضهم وقراهم، لأنَّ العمق الجغرافي لن يكون عمقاً فارغاً، بل سيتحوَّل إلى عمقٍ اقتصادي أيضاً.

مقالات