الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد؛
فلم يكن الوجود الإنساني مجرّد صدفة فوق هذا الكوكب الصغير، كما أنّ القيم الإنسانيّة لم تكن لتتطوّر عبر العصور لولا وعي ُ الإنسان لهذا الوجود. فالإنسان بطبيعته يحبّ الحياة، لأنّه يدرك أبعادها الزمكانيّة، فهو قادر أن يعود بذاكرته إلى طفولته، أو أن يستشرف شيئا من المستقبل من خلال قوّة التخيل التي يتمتّع بها، وقادر أيضًا أن يتكيّف مع الظروف التي يعيش فيها مستفيدًا من تجاربه أو من تجارب غيره.
لذلك عندما نتكلّم عن هذا الوجود، فإننا نتكلّم عن القيم الإنسانيّة، فلولا وجود الإنسان لما كان ثمّة قيمة لهذا الكون الواسع الأرجاء، فبالإنسان تكتمل صورة الكون الذي وُجِد لأجله، فهو سرّ هذا الوجود المعنوي والماديّ علما ومعرفة ومسلكا وقدرة على التحليل والاستنباط. من أجله أنزلت الصحف على الأنبياء الكرام عليهم السلام، وتنزلت الكتب السماويّة على الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام، فكانت خارطة طريق للإنسانيّة جمعاء، بها تكتسب العلوم الروحانيّة، وعليها تدور معرفة النفوس الإنسانيّة القادرة على الاختيار بين ما هو نافع لها، وما هو ضارّ، ألم يقل الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. وهذه الآية الكريمة شرحها السيّد الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله روحه، فقال: «اعلم أنّا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها، وإن حملناها على القوّة المدبّرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيّلة والمفكّرة … ونفس إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة عالم المركبات رئاسة بالذات. وأمّا قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ فاعلم بأنّ المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكّاها الله تعالى وأصلحها من الكفر والعناد، وطهّرها من الغوايات الخارجة عن الطاعة. واعلم أنّ التزكية عبارة عن التطهير، أو عن الإنماء. وفي الآية قولان أحدهما أنّه قد أدرك مطلوبه من زكّى نفسه، بأن طهّرها بفعل الطاعة ومجانبة المعصية. والثاني قد أفلح من زكّاها الله».
ولمّا كانت النفس الإنسانيّة محور الوجود المعنويّ للإنسان كان لا بدّ من توصيفها حتّى ندرك ما لها وما عليها. قال أحد الحكماء اليونانيين: «النفس الشريفة جوهر يفعل وينفعل لأنها عاقلة عالمة حيّة قابلة للصور فهي تقبل الجهل كما تقبل العقل» والجهل بمعناه الروحي يعني الصور الحسيّة التي تكتسبها النفس باستغراقها في عالم المادة من حبّ المال، والانغماس في المخدرات والشهوات والجرائم، والابتعاد عن التربية الصالحة التي تعنى بتنمية الطاقات العقلية والأخلاقية، ولهذا قال السيّد المسيح عليه السلام: «لا تعبدوا ربيّن الله والمال». أمّا العقل فيعني الصور الروحانية من فضائل نفسية وعلوم دينية تعنى بصقل النفس وتسوقها إلى معرفة الله تعالى وطلب المقامات السنية كالتوبة والورع والفقر والزهد والصبر والتوكل والرضا والأحوالِ القلبية كالمراقبة والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس بالله والطمأنينة والمشاهدة واليقين، وهذه المقامات والأحوال هي التي تسكن في القلب فتطهره من أدران الذنوب وإليها أشار الله تعالى في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (78) النحل). يقول السيّد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي(ق) في بيان معنى هذه الآية الكريمة: «أشار الله تعالى إلى أنّ الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليًا من معرفة الأشياء كما قال: ﴿وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ ثمّ تفضّل عليه بأعظم وأكمل نعمة بخلق السّمع والبصر والفؤاد فيه، كما قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ والمعنى أنّ الإنسانيّة لمّا كانت في أوّل الخلقة خالية من المعارف والعلوم بالله، فالله تعالى أعطاها هذه الحواس لتستفيد بها المعارف والعلوم».
وبعد أن يستعرض السيد الأمير أهمية الحواس والأفئدة يقول: «واعلم أنّه لمّا كان الإنسان موضوعًا في وسط العالم فلا يمكنه أن يعيش ويحفظ نفسه إلاّ بمخالطته للأجسام المحيطة يأخذ منها وسائط معيشته. وأعضاء الحواس والجهاز العصبي هما المعدّان لمخالطته لهذه الأجسام كي يعرف بهما ما ينفعه، وما لا ينفعه؛ فيسعى في تحصيل الأولى وترك الثانية. ولهذه المخالطة أسباب ووسائط موجودة فيه، فأهمّ أسباب احتياجاته والوسائطِ، أعضاءُ الحواس، وينبوع هذه الاحتياجات منوط بوجود الحياة وتدرك هذه الاحتياجات في الإنسان بمركز المخالطة، ومتى كانت الأجسامُ الأجنبيّة غيرَ مخالطةٍ للسطح الظاهر من الجسم، ومركزُ الإدراك جاهلاً، فلا ينتج عن ذلك إلا مشقة محيّرة لا يمكن التعبير عنها، تؤدّينا إلى سعي لا نعرف نهايته. وعدم إدراك المخ للأجسام يعبّر به عن المشقة المذكورة، وعن تنهد الشباب في سن البلوغ الذين تربوا في الجهل بعيدين عن الأشياء المرضية».
ثمّ إنّ السيد الأمير يستفيض في شرح دور القوتين الإلهامية والحافظة في رعاية الإنسان منذ ولادته حتى وصوله إلى سنّ الشباب ذاكرا أثرهما في حفظ وجوده وتنمية قدراته المعرفية، مبينا أنهما وإن كانتا قوتين أساسيتين لكنهما لا يكتملان إلاّ بالقوة الحاكمة التي بوجودها يستقيم العقل عند الإنسان، وباختلالها يختل العقل فيجنح الإنسان إلى إيذاء نفسه، مما يسبب له الانتحار فيقول قدس الله روحه: «أمّا القوة الحاكمة فهي القوة التي بها يقف الإنسان على حقيقة النِسبِ الموجودة بين أجزاء الشيء الواحد على انفراده أو بين جملة أشياء متقاربة وهي أهم القوى العقلية، إذ بواسطتها نكتسب جميع معارفنا. وأول درجة منها مقابلة شيء بشيء؛ وهذه المقابلة متى اشتدت وطالت مدة الاشتغال بها سميت بالتأمل، وتسلسل الأحكام المرتبطة ببعضها يسمى تعقلا، والعقل الذي هو أصل للصفات النفسانية وكمال الذهن ليس إلا القوة الحاكمة التي بها نقتدر على تمييز الخير من الشرّ في أفعالنا. ومن المعلوم أن الحكم المستقيم، وهو ما لا يكون إلا بمقابلات ونسب محققة الوجدان فيما بين المحكوم عليها، أمر مهم جدًا، فإذا حكمنا على جوهر سامّ بالجودة فقد سعينا بالمخاطرة في إتلاف الحياة. فإذن يكون هذا الحكم الفاسد الصادر منا ضارا بنا، وقس على هذا كل ما كان من الأحكام من هذا القبيل.»
إنّ إتلاف الحياة لا يقف عند موت الإنسان جسديًّا، بل يعني إتلاف القيم الإنسانيّة التي ذكرناها سابقًا أعني المقامات الروحيّة والأحوال القلبيّة. وإذا كان الناس كما ذكر أحد الحكماء أربع طبقات طبقة نباتية وطبقة حيوانيّة وطبقة إنسانيّة وطبقة ملائكية لا تبلغها عزائم المجتهدين، فالواجب إذن أن نسعى جاهدين للخروج من الطبقتين النباتية والحيوانيّة اللتين من طبعهما الأكل والشرب والغضب والشهوة والشراسة وحب الرئاسة واللهو وما شاكل ذلك، إلى الطبقة الإنسانيّة التي من طبعها العقل والحلم والتواضع واليقين والتفكّر في عظمة هذا الوجود، وإخلاص العبادة لله تعالى، لنصبح جديرين بالوقوف أمام محراب القيم الإنسانيّة، التي لولاها لأصبح الناس كما ورد في القرآن الكريم،﴿أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.