الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مرآة التجلِّي في رمزية العطّار

مرآة التجلِّي
في رمزية العطّار

وصلتم ثلاثين فرأيتم ثلاثين!

“الحضرةُ مرآةٌ ساطعة كالشمس، كلُّ مَنْ ينظر إليها يرى نفسَه فيها”، عبارةٌ اختتم بها الشاعر النيسابوري المتصوِّف فريد الدين العطّار رحلةَ الطيور إلى “الحضرة” في منظومته “منطق الطير” وجاءت ثمرةً لتبلور مفاهيم فلسفية وصوفية عبر الأجيال. فكَثُرَ ما تحدَّث المتصوّفون عن مبدأ “صَقْل مرآة القلب” لتصبح مجلوّة وتنعكس عليها الأنوار الإلهية، وذلك بالتخلُّص من كلّ شوائب النفس والأنا نحو الصفاء والنقاء والتحقُّق. فرمزية المرآة في الفكر الصوفي هي أنّها “تعكس الحقيقة”، وهذه الدلالة الصوفية المرتبطة بالمرآة تعود إلى ماضٍ سحيق، منذ أنْ وُجِدَت تلك النقوش والرسومات الهرمسية على جدران الأهرامات والمعابد المصرية القديمة وطي أوراق البردى وتُصوِّر ملوكاً عظماء يُحدِّقون في المرآة! وصَقْلُ مرآة القلب لدى المتصوفة هو بالذكر والمجاهدة الرُّوحية والتحلّي بالفضائل والتخلُّق بأرفع الخُلُق والآداب الروحية لتنقية القلب من شوائب الأنا ومفاسد النفس الأمّارة بالسوء لتصبح صافيةً نقيّة جليّة تعكس الأنوار الإلهية، وعلى قدر ما يزداد النور سطوعاً على تلك المرآة بقدر ما تتراءى ذراري غبار الشوائب فتستلزم مزيداً من الصَّقْل.
وتحدَّث أهلُ التصوّف برمزية المرآة وأبعاد التجلّي الشهودي منذ عهد أبي الحسين منصور الحلاج وصولاً إلى أبي حامد الغزّالي وجلال الدين الرومي ومحي الدين ابن عربي وغيرهم من المتصوّفة، بيدَ أنّ أفضل تصويرٍ لرمزية المرآة وإشارتها إلى التجلِّي الإلهي شهوداً نجده في منظومة “منطق الطير” للعطّار (توفي 627 ه)، تلك الملحمة الشعرية الطويلة التي تتألف من نحو 4,500 بيت، وهي تحفل بالرموز الروحية واللغة الإيحائية الصوفية، عن رحلةٍ للطيور تجتاز فيها الأودية السبعة بقيادة مُرشدها طائر الهدهد نحو حضرة “الطائر الأعظم”، السلطان المُطلق الدائم، “السيمُرغ”.

منطق الطير
تجتمع الطيورُ في منظومة “منطق الطير” وتختار لها طائرَ الهدهد، طائر سليمان الحكيم، ملكاً ومرشداً لها، وسرعان ما يحثّها على القيام برحلةٍ صوب الطائر الأكمل و”السلطان المطلق” المُسمَّى “السيمُرغ” (وهو في الفارسية كشأن “العنقاء” لدى العرب، وطائر “الفينيق” لدى الأقدمين). وأخذت الطيور تباعاً تُقدِّم الأعذارَ والتبريرات لكي لا تتجشَّم عناءَ هذه الرحلة، إلا أنّ الهدهد يُقدِّم لها إرشادات روحية وصوفية راقية للتخلِّي عن العلائق الدنيوية والارتقاء بآداب النفس وصفائها وتحقيق ذلك الحب الإلهي الأرقى واجتياز أودية العشق السبعة وصولاً إلى “حضرة السيمُرغ” ومشاهدته (المقالة الثامنة والثلاثون).
وفي ذلك يقول المتصوّفُ الكبير جلال الدين الرومي: “لقد اجتاز العطّارُ مدنَ العُشق السبع، وما زلنا عند زاويةٍ في طريقٍ ضيق”. لقد اتّبع العطّارُ نهجَ أهل التصوّف في ذكر المقامات والأحوال، حيث تُجاهِد النفسُ في طريقها إلى الحقّ متخلّصةً من كلّ العلائق ومُتطهَّرة من كل الشوائب، لا تُفكِّر في شيء سوى الغاية التي تسعى إليها عقلاً وعشقاً ومجاهدةً، فيجعل الطيرَ تجتاز سبعة أودية هي “وادي الطلب”، حيث يجب التطهُّر من كلّ العلائق وعدم الكفاف أو التواني لحظة عن الطلب والتحلِّي بالصبر؛ ومن ثم “وادي العُشق”، حيث يُقدِّم العاشق روحَه طواعية تلبية لأمر المعشوق؛ وبعده “وادي المعرفة”، حيثما كلّما واصلَ السالكُ المسير كلّما زادت معرفته بالأسرار، ووجبَ ألا يقنع بما يُحصِّله من معرفة بل عليه أن يقول دائماً “هل من مزيد؟”؛ ومن ثم “وادي الاستغناء” بأنْ يتخلّى عن كلّ شيء في الدنيا؛ ويليه “وادي التوحيد؛ و”وادي الحيرة” ومن ثم أخيراً “وادي الفقر والفناء” قبل الوصول إلى “الحضرة”.

العطّار والرمزيّة الصوفية
تنتمي منظومة “منطق الطير” إلى الأدب الرمزي الذي تبدَّى بحُللٍ سنيّة مع أعمالٍ فريدة اعتبر بعضُ الباحثين أنّها قد تركت أثراً كبيراً على العطّار، من مثل “رسالة الطير” للفيلسوف ابن سينا، و”رسالة الطير” للإمام الغزّالي، و”رسالة الغفران” لأبي العلاء المعرّي التي تعكس قلقاً فلسفياً، لكنّ البُعد الصوفي يبدو أكثر وضوحاً لدى العطّار الذي صاغه بلغةٍ رمزية أدبية عالية المستوى، حيث يرى بعضُ الباحثين أنّ الكاتب الإنكليزي جيفري تشوسر (Geoffrey Chaucer) قد تأثّر به في كتابه الشهير “مجلس الطيور” (Parlement of Foules).
وتتناثر في أرجاء المنظومة حكايا رُصِّعَت برموزٍ حِكْميّة فيها ما فيها من المغزى الصوفي الرمزي عن التحقّق والمشاهدة اليقينية، ولعلّ أكثرها دلالةً (ص 213، ترجمة د. بديع محمد جمعة عن الفارسية، دار الأندلس، 1996) حكاية عن ملكٍ وسيمٍ غاية في الجمال وحُسْنٍ لا مثيل له في الدنيا، “فما الصُّبح إلا إشراقة من وجهه وما الرُّوح القُدُسيّة إلا نفحة من طيب مِسْكه ولم يتمكّن أحدٌ قط أن يجد نصيباً من جماله، وبسببه غصَّ العالم بالإضطراب وحُبّه فاقَ كلّ حدٍّ لدى الخلق”.
ويستطرد العطّار في إشاراته الرمزية: “لكنّ هذا الملك الوسيم ساقَ جوادَه الأسود خارج المدينة، وأسدلَ بُرقعاً داكناً على وجهه … وإذا فكَّرَ شخصٌ في وصاله أصاب الفناءُ روحَه وعقله … وما أبهى هذا الأمر! إذ ليس لإنسانٍ أن يصبر على فراقه، وليس لإنسانٍ مقدرة على رؤيته، فكلُّ مَنْ رأى جمالَه عياناً، أسلمَ الرُّوح وماتَ متأوهاً. ويا للعجب! لو قُدِّر وتوفَّرت لشخص القدرة لحظة، لظَهر وجهُ السلطان له عياناً، ولكن إذا انعدم الشخصُ القادر على رؤيته فما استطاع أحدٌ محادثته ومرافقته..
.. فأمرَ السلطانُ بإحضار مرآة حتى يستطيع الخلقُ النظر في تلك المرآة، فشيَّدوا للسلطان قصراً جميلاً ووضعوا المرآة في مواجهته ثم صعد السلطانُ على سطح ذلك القصر، ونظر في التو إلى المرآة، وما إن أطلَّ وجهُه مشرقاً من المرآة، حتى أدرك كلّ شخصٍ منه علامة!”.
ويخلُص العطّار في تلك الحكاية إلى القول في ذروة الرمز: “إنْ ترغب في رؤية جمال الحبيب، فاعلَمْ أنّ القلب هو مرآة طلعته، ليكُنْ قلبك على كفّك، ثم انظرْ جمالَه، ولتكُن روحكَ مرآةً له، ثم انظرْ جلاله، إنّ مليككَ في قصر الجلال والقصر مضيء بشمس ذلك الجمال، وللمليك طريقٌ صوب كلّ قلب، ولكن لا طريقَ للقلب الضال صوبه … انظرْ إلهكَ في قلبك..”.

رسم فارسي للعطار مستوحى من كتاب منطق الطبير
رسم فارسي للعطار مستوحى من كتاب منطق الطبير

وحدة شهود لا وحدة وجود
إنّ العطّار بذلك يرمز إلى وحدة الشهود، الفناء عن شهود الكثرة والتعدُّد في شهود الأحادية، خلافاً لمفهوم وحدة الوجود الذي ينفي وجود الكثرة والتعدُّد ويوجِد الكل في الواحد.
وهنا يتحدّث الهدهدُ عن “الاستغراق في الحقيقة، وعدم إفشاء سرّها”، ويقول العطّار في إشارةٍ إلى اتّهام الحلاج وأبي يزيد البسطامي بالحُلولية “فحاشا لله أن تقول أنا الحق”، ويتساءل “كيف يكون المُستغرِقُ حُلولياً”، بل هو “في الحق دائماً مُستغرقٌ”. ويقول الهدهدُ عن ضرورة ظهور “مرآة لُطف” السيمُرغ في الدنيا: “فإنْ لم تكن لك عينٌ مُبصرِة تُدرِك السيمُرغ، فلن يكون لك قلبٌ كالمرآة المجلوة، ولا بُدّ من عشق هذا الجمال الأخّاذ، وكيف لا، وقد صنع مرآةً من كمال لطفه، هذه المرآة هي القلب، فامعِنْ النظر إلى القلب، ولكي ترى وجهه، أمعِنْ النظر إلى القلب..”. ويقول عن الاستغراق، فيما هو يوصي بالتشبُّه برابعة العدوية: “فقد كانت على الدوام غارقة في نور الحق، متطهِّرة من الفضول، وفي الله مُستغرِقة”.
وفي هذا الإطار يتحدّث العطّارُ عن “السيمُرغ” في بداية كتابه (المقالة الثانية) بشكلٍ محفوف بالغموض والرمزية، فيذكر أنّ بداية أمره من ديار الصين! ومن ثمّ يتحدّث عن وجوده خلف “جبل قاف”، ولذلك يخلُص إلى القول كما قال رسول الله (صلعم)، “اطلبوا العلم ولو في الصين!”. ويحثُّ الهدهدُ الطيورَ إلى السير في الطريق في طلب السيمُرغ: “امضُوا قُدُماً نحو تلك الأعتاب، فلنا ملكٌ بلا ريب يُقيم خلف جبلٍ يُقال له جبل قاف، اسمه السيمُرغ ملك الطيور، وهو منّا قريب، ونحن منه جدّ بعيدون..”. ويؤكّد الهدهد أنّ العلم والعقل لا طريق لهما إليه، ولو كثُرَ المشتاقون، فليس للعقل ولا للرُّوح مقدرةٌ على إدراك كماله، ولا إبصار جماله … مشيراً بذلك إلى شهود الحُبّ واليقين!
وهنا لا بّد من التمييز ما بين “وحدة الوجود” (Pantheism) و”وحدة الشهود” (اعتمد بعض العلماء لها مصطلح Panentheism) عند المتصوّفة، فلطالما حذّر كبارُ المتصوّفة في العهد الذهبي للتصوُّف من الوقوع في شرك وحدة الوجود بمنحاها الاتّحادي أو الحُلولي. ففيما تتحدّث وحدة الوجود أنّ للوجود حقيقةً واحدة ذات وجهين، حقّاً وخلقاً، فإنّ وحدة الشهود هي فناءٌ عن شهود الكثرة والاستغراق في الوحدة، ويقول المستشرق الألماني هلموت ريتر (Hellmut Ritter) إنّ من الأفكار المنسوبة خطأً إلى العطّار قوله بوحدة الوجود، فيما يبدو جلياً أنّ العطّار ابتعد كلّ البُعد عن أي أفكارٍ توحي بالحُلول والاتّحاد، بل إنّه يتحدّث عن وحدة شهودية استغراقاً في الله، ويؤكّد على لسان الهدهد “كلُّ مَنْ سارَ هكذا فإنّه يكون مُستغرِقاً، فحاشا الله أن تقول أنا الحقّ، وكيف يكون المُستغرِق حُلولياً..”.
ويلحظ ريتر أنّ غاية الصوفي هو الفناء في الله، فناءً شهودياً لا وجودياً، وما سفر الطيور إلى السيمُرغ إلا لتحقيق هذا الهدف الشهودي، ولو أنّ العطّار تحدّث في النهاية عن البقاء بعد الفناء بشكلٍ غامض استرسالاً في سرده الشعري.

إقرار شهودي يقيني
ويتحدّث الإمام أبو حامد الغزّالي في هذا الصدد عن وحدة الشهود التي تُثبت الوجود شهوداً، أي أنّ فناء الصوفي هو فناءٌ عن كلّ شيءٍ إلا عن الواحد المشهود، فهو “غائصٌ في بحر عين الشهود”، وبذلك يصبح الشهود بمفهوم أهل التصوّف “رؤية الحق بالحق”، والبقاءُ بعد ذلك إنّما هو بقاءٌ في الحقيقة إقراراً وعُرفاناً.
ذلك التوحيد الشهودي أو وحدة الشهود الذي يتجاوز ما هو نقلي يلتمس الدليل العقلي إلى ما هو شهودي، أي توحيدٍ يقيني ذوقي. وفي ذلك يقول الدكتور أبو العلا عفيفي “هو التوحيد الناشئ عن إدراكٍ مباشرٍ لِمَا يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجلُّ عن الوصف..”.
وكان العلّامة محمد علي التهانوي قد استدرك ذلك بقوله “يرشدُ فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحُلول والتشبيه والتعطيل” في إشارةٍ إلى الطَّعن في المتصوّفة من قِبَل “طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق”، فالمتصوّفة عندما يتحدّثون عن حالهم الشهودي يفهم هؤلاء الجامدون أقوالَهم بكونه وحدة وجودٍ حُلولية، متغافلين عن أنّ أهل التصوّف هم أكثر مَنْ يُكفِّر القائل بالحُلول والاتّحاد.
إذاً، في “مقام الإحسان”، تجمع هذه الوحدة الشهودية اليقينية معاً “التعالي أو المُبيانة التنزيهية” (Transcendence) و”محايثة الوجود الشهودية” (Immanence).
فالتجلِّي اليقيني الشهودي أو ذلك التجلِّي العُرفاني هو كشفٌ وشهودٌ يقيني، كشفٌ تختبره عينُ البصائر والأبصار معاً فتشهد باليقين بل بـ “عين اليقين” بحسب استعدادها ومدى صفائها. وقد استخدم أهل التصوّف والشهود المرآة التي تعكس الصور المقابلة لها مثالاً على ذلك الشهود، فالناظرُ إلى صورته في المرآة يرى نفسَه وكأنّه ليس فيها. وذلك ما تحدّث عنه محي الدين ابن عربي، بحسب شرح ابن سودكين، إذ بالنسبة إلى ابن عربي فإنّ “آدم هو العين التي تُبصِر الحقائق الإلهية المُنطبعة في مرآة الوجود…”.
وثمة شيخٌ صوفي آخر يعود إلى عصر ابن عربي تحدّث عن هذا الشهود اليقيني هو الأمير المكزون السِّنجاري، الذي يقول:
كـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلٌّ يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراكَ كــــــــــــــــــعينه إذ أنــــــــــــتَ مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرآة الــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوجود
وســــــــــــــــــواكَ مــــــــــــــــــــــــــــــا يبــــــــــــــــــدو لــــــــــــــــــه فيغيــــــــــــــــــــــــــــــــــــب فــــــــــــــــــي حــــــــــــــــــال الشهود
ويقول أيضاً:
تجلَّــــــى لــــــي فجــــــلَّاني لــــــــــــــــعيني كما لي صــــــــــــــــــــــــورتي المرآةُ تجــــــــــــــــلو
أمّا الأمير عبد القادر الجزائري، الذي عاش في القرن التاسع عشر، فيتحدَّث مطولاً عن تشبيه التجلِّي بالمرايا، وذلك في كتابه “الموافق”، ويقول باختصار: “فما خلقَ اللهُ المرايا إلا ضرْبَ مثالٍ لتجلِّيه، وليست الصورة الظاهرة بسبب المقابلة للمرآة عين المُتَوجِّه على المرآة .. فالحقُّ يتجلَّى بالصور التي هي مراياه، بحسب استعدادها، أي أنّ هذا التجلِّي ليس حلولاً لا من قريب ولا من بعيد ولا اتّحاداً بين المتجلِّي والمُتَجلَّى لهم، بل هو خالص التوحيد”.
وكان الحلاج قد اعتبرَ هذا التجلِّي الشهودي “لطفاً إلهياً”، فالخالقُ “يُحدِثُ الخلقَ تلطُّفاً فيتجلَّى عليه، ثم يستتر عنهم تربيةً لهم، فلولا تجلِّيه لكفروا جملةً، ولولا سترَهُ لفتنوا جميعاً، فلا يُديم عليهم إحدى الحالتَين..”.

مقام فريد الدين العطار في نيسابور
مقام فريد الدين العطار في نيسابور

شمس الحضرة.. مرآة
ونعود إلى رحلة الطير صوب الحضرة، أخيراً، وبعد جهدٍ وعناء شديدين وصلت طيور العطّار إلى مبتغاها، (في المقالة الخامسة والأربعين): “فما إن وصلوا وأضاءت جباهَهم شمسُ القُربى فأضاءت أرواحَ الجميع من هذا الشُعاع، وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائراً (سي مُرغ) طلعةَ السيمُرغ في مواجهتهم، وعندما نظر الثلاثون طائراً على عجل، رأوا أنّ السيمُرغ هو الثلاثون طائراً. فوقعوا جميعاً في الحيرة والاضطراب .. حيث رأوا أنفسهم السيمُرغ بالتمام، ورأوا السيمُرغ هو الثلاثون طائراً بالتمام، فكلّما نظروا صوب السيمُرغ، كان هو نفسه الثلاثين طائراً في ذلك المكان..”. ويبرع العطّارُ في هذا الجناس في دلالته الشهودية بين عِبارتَي “سي مُرغ” أي ثلاثين طائراً، و”سيمُرغ” أي ملِك أو حاكِم الطير!
غرقوا جميعاً في الحيرة، إذ إنّ الثلاثين طائراً ما إن وصلوا وشاهدوا السيمُرغ حتى رأوا أنفسَهم على مرآة جلاله، فطلبوا من السيمُرغ شرحَ هذه الحال فأجاب أنّ “الحضرةَ مرآةٌ ساطعة كالشمس، فكُلُّ مَنْ يُقبِل عليها يرى نفسَه فيها.. وصلتُم ثلاثين طائراً، فبدوتم في هذه المرآة ثلاثين طائراً..”

علّم بالقلم

علّم بالقلم

مركز الدّراسات في مشيخة العقل

تطوَّرت معاني المفاهيم التّوحيديَّة في معراجها الأخير عبر مرحلةٍ زمنيَّةٍ ممتدَّةٍ من صدر الإسلام إلى بدايات القرن الخامس للهجرة. كلمةُ الوحي الأولى كانت: اِقرأ. والإشارةُ الأولى كانت إلى العِلمِ والتعلُّم: ﴿إقرأ وربُّكَ الأكرم* الّذي علَّمَ بالقلم* علَّم الإنسانَ ما لم يعلَم﴾. فالقلمُ سببُ عِلمِ الإنسانِ بما لم يعلم. الإرادةُ تسطُرُ بالقلَم المعاني التي يُدركُها الذِّهنُ الَّذي هوَ الفَهمُ والعقلُ. فإذا شاهدنا الشجرةَ وعَلِمنا بوجودِها فنحنُ بحاجةٍ إلى سلامة البصر لتصحّ لنا رؤيتها، لكنَّنا إذا ما أردنا إدراكَ الفضيلةَ في الفاضل فنحنُ بحاجةٍ إلى سلامةِ البصيرة. فمن حيث كانتِ الفضيلةُ معنًى في الذِّهن والقلب، احتاج المرءُ في ذاته لإدراكها إلى ما يُشبهُها. إنَّ ما يُساعدُهُ في تحقيق ذلك هو المعاني المسطورة وأجلّها ما احتواه الكتابُ المسطور، كما سمّاهُ تعالى وأقسمَ به ﴿والطور* وكتابٍ مسطور﴾ الّذي كان بمثابةِ الرسالة التي سُمِّيت أيضًا فُرقانًا ﴿تباركَ الَّذي نزَّلَ الفُرقانَ علَى عبدِه ليكونَ للعالمينَ نذيرا﴾، والفُرقان هو البُرهانُ والحُجَّة، وهو كلُّ ما فُرِقَ به بين الحقّ والباطل. بمعنى آخر، فإنّ استبصار دلالة الحجّة يثمر التمييز بين ما هو حق وما هو ضياع، ولا حاجة إلى مزيد من الشّرح للقول بأنَّ ما هو أولى للإنسان، ولمعنى وجوده وغايته، ومن ثمَّ لخِياره في مسالك الحياة، هو الحقّ. ولا يرضى بمتاهة الضّياع إلا الحائر، والحيرةُ عينُ الظّلام.
لقد كان من أثر تبليغ الرِّسالة الإلهيَّة أن ارتقت البيئةُ العربيَّة آنذاك من محنة الجاهليَّة وعصبيّاتها الغرائزيَّة، إلى طريق الهدى والفلاح، بحيث حلَّ مفهومُ “الأمَّة المؤمنة” محلّ واقع تشتّت القبائل ونزاعاتها وحروبها. ثمَّ كان من شأن استبصار النصّ هذا “ولَّد الحياةَ الإسلاميَّة كلَّها” كما قال أحدُ العلماء شارحًا: “فمن النظر في قوانين القرآن العمليَّة نشأ الفقه. ومن النظر فيه ككتاب يضعُ الميتافيزيقا نشأ الكلام. ومن النظر فيه ككتابٍ أخرويّ نشأ الزّهدُ والتصوّف والأخلاق. ومن النظر فيه ككتابٍ للحُكم نشأ علمُ السياسة. ومن النظر فيه كلغةٍ إلهيَّة نشأت علومُ اللغة… وتطوّرُ العلومِ الإسلاميّةِ جميعها إنّما ينبغي أن يُبحثَ في هذا النطاق: في النطاق القرآنيّ نشأت، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطوّرت، وواجهت علومَ الأمم تؤيِّدُها أو تنكرُها في ضوئه” (النشّار، ج1، ص 227). ما يهمّ هنا تحديدًا، هو محاولة تلمُّس بواكير المنحى الزّهديّ من حيث هو البدايات المسلكيَّة التي توخَّت النفاذ إلى قلب المعنى في النَّصّ، وامتثاله، واتِّحاد النَّفس بآثاره العقليَّة وصولا إلى الغاية من التَّوحيد.

النَّظـــرة إلى التصـوُّف
تضاربت آراءُ علماءِ المُسلمين قديمًا وحديثًا في النّظرة إلى التصوُّف. منهُم من لم يستسغ عندهُم ما رأوه غلوًّا وشطحًا ونزوعًا وجدانيًّا جارفًا نحو تجاوز الأداء الشكلي لفروض العبادات. ومنهُم من اعتبرهُ السبيلَ الأرقى والأصدق لتحقيق الغاية منَ العبادةِ، ومعرفةِ الله على الحقيقةِ، والاتّحاد بإرادته سبحانه وتعالى. ولكن، لا يمكنُ في هذا السِّياق الاستهانة بشهادةِ أبي حامد الغزالي الملقَّب بحُجَّة الإسلام، والتي صاغها إثر اختبارٍ معرفيٍّ و رُوحيّ ٍمُزلزِل روى تفاصيله في كتابه “المنقذ من الضلال”. قال:”كان التعطّشُ إلى دركِ حقائق الأمور دأبي وديدني من أوّل أمري وريعان عمري غريزة وفطرة من الله وُضعتا في جِبِلّتي… حتى انحلَّت عني رابطةُ التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة على قرب عهد سن الصّبا” يتابعُ الغزالي سردَ رحلته المعرفيَّة في البحث لفهم عقائد الفِرَق، واستكشاف أسرار المذاهب، وسبر أغوار الفلسفة إلى أن أقبلَ بهمَّته على طريق الصوفية، وعلم “أن طريقتهم إنما تتم بعلمٍ وعمل؛ وكان حاصلُ علومهم قطعَ عقبات النفس، والتنـزُّه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بـها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله.” تيقَّن الغزاليُّ أن العُبَّادَ المتصوِّفة هُم أربابُ أحوال، لا أصحاب أقوال، فتخلَّى عن رعاية الوزير الشهير نظام المُلك، واعتزل التدريس بعد أن ذاع صيته إمامًا، وانصرفَ إلى الشام متزهِّدًا مُتَّبعًا ما ذاقهُ القلبُ بالعِلم وصولاً إلى تذوّقه بالحال. استغرقهُ الأمرُ سنواتٍ ليتحقّق يقينًا كما شهد من “أنَّ الصوفية هم السالكون لطريقِ الله تعالى خاصة، وأن سيرتَهم أحْسن السير، وطريقَهم أصْوب الطرق، وأخلاقَهُم أزكى الأخلاق. بل لو جُمع عقلُ العُقلاء، وحكمةُ الحُكماء، وعِلمُ الواقفين على أسرارِ الشَّرع من العُلماء، ليغيِّروا شيئاً من سِيَرهِم وأخلاقهم، وَيبدِّلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميعَ حركاتـِهم وسكَناتِـهم، في ظاهرِهِم وباطنِهم، مُقتبَسَةٌ من نور مِشكاة النبوَّة؛ وليس وراء نور النبوَّة على وجه الأرض نور يستضاء به”.

بواكير المنحَى الرُّوحي
“أهْلُ الصُّفَّـة”
والباحثُ في التاريخ الإسلاميِّ عن تباشير هذا المنحى النُّسكيّ لفَهم الدَّعوة لا بُدَّ من وقوفه مليًّا عند الصَّحابيّ الجليل سلمان الفارسيّ (رَ) الّذي قيل فيه ما يكفي للدلالة على فرادةِ شخصيَّته بين الصّحابةِ الأوائل. فالرّسول (ص) قال فيه كما هو ذائع: سلمان منّا أهلَ البيت. والإمامُ عليّ (ع) قال عنه كما روى ابنُ عساكر: “أدركَ علمَ الأوّلينَ والآخِرين”. وقال أحدُ الَّذين كانوا معه من أهلِ الصُّفَّةِ وهو أبو هُريرة: “كانَ صاحبَ الكتابين” بمعنى التبحُّر في دراستهما. ورأتِ الإماميَّةُ فيه أنَّهُ إحدى وسائل روح الأمر المذكورة في القرآن بأنَّها هي نوع من الفيضِ الإلهيّ يحقِّقُ تدريجيًّا مقاصدَ الله الخفيَّة. (النشار، ج2، ص238) واعتبرهُ ماسينيون، أحدُ كبار المستشرقين المتعمّقين في دراسةِ التّصوّف الإسلاميّ وأكثرهم شغفًا، “أوَّل مُبشِّر بالنَّزعةِ الرّوحيَّةِ في الإسلام، كأنَّهُ الباب”.
من مدينة “جَيّ”ناحية أصبهان، كما يروي ابنُ هشام في “السِّيرة النبويَّة”، انطلق سلمانُ قَصَصًا في إثر الحقّ كأنّه في تلكَ الرِّحلةِ عاينَ الأبدال. وفي السّنةِ الأولى للهِجرة كان في رِقِّ قُرَيظِيّ في المدينة، فعرِفَ الرَّسولَ (ص) الّذي قال له: “كاتِب يا سلمان”، فَافْتَكَّ نفسَهُ وشهِدَ الخندقَ حُرًّا.
إنَّ من شأنِ الوقوف على أحوال سلمان في المدينةِ قبل فتح مكَّة أن يوفِّرَ الدلائل الأولى على ما سوف يتمّ اعتبارُه لاحقًا المنحى العِرفانيّ في “سلوك القرآن”. يعودُ بنا ذلك إلى يوم أمرَ النبيُّ فيه أن يُبنى مسجدٌ في المكان الَّذي َبرَكَت فيه ناقتُه، فعملَ فيه المهاجرون والأنصار وهُم يرتجزون: لا عيشَ إلاَّ عيش الآخِرة. ومع تدفُّق المهاجرين، أُعِدَّ في مؤخَّر المسجدِ النّبويّ مكانٌ مُظلَّل لنزول الغرباء فيه ممَّن لا مأوى له ولا أهل. سُمِّي ذلك المكان الصُّفَّة، وهي تعني في اللغة الظُّلّة والسقيفة، وسُمِّي النازلون بها “أهلُ الصّفّة” الَّذين عانوا كما تذكر المصادرُ “من الجوع وفقدِ المَلبس والمأوى، وكانوا أعِفَّة لا يسألون الناس”. ويتفِّقُ الكثيرُ من المفسِّرين أنَّ المقصودَ في الآية الكريمة ﴿لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة 273) هُم أهل الصُّفَّة. يقولُ البيضاوي إنّهم “كانوا يستغرقونَ أوقاتهم بالتّعلُّم والعِبادة، وكانوا يخرجونَ في كلِّ سريَّةٍ بعثها رسول الله (ص)” ويرى القشيريُّ صاحب الرِّسالة المعروفة باسمه بوضوح سِيماهُم الصوفي فيقول: “أخذَ عليهم سلطانُ الحقيقةِ كلَّ طريق، فلا لهم في الشرقِ مَذهَب، ولا لهُم في الغربِ مِضرَب، كيفما نظروا رأوا سُرادِقات التوحيد مُحدِقة” وقال الطّوسيّ صاحبُ “اللُّمَع” عنهُم إنَّـهُم “لا يرجعون إلى نَدْع و لا إلى ضَرْع و لا إلى تجارة، وكان أكلُهُم في المسجد ونومُهم في المسجد، وكان رسولُ الله (ص) يؤانسُهم ويجلسُ معهم ويأكلُ وإيّاهم ويحثّ الناسَ على إكرامهم ومعرفة فضلهم”
أهلُ الصُّفَّةِ أولاء كان منهُم أبو ذرّ الغفاري، وعمّار بنُ ياسر، وسلمان الفارسيّ.

بعد وفاة النّبي، وُلِّيَ سلمان المدائن من قبل عمر بين الخطّاب، ونفى عثمانُ أبا ذرّ إلى الرَّبذَة، واستُشْهدَ عمّار في صفِّين، وفي هذا دلالة أنّ كبارًا من أهل الصُّفَّة كانوا في صُلب الحياة الإسلاميَّة معبِّرين في مواقفهم عن صفاءِ الرؤية التي استمدّوها من مرآة النَّصّ الحكيم والتحقّق في معانيه بتفانٍ وتجرُّدٍ وإخلاص. لذا، عُدّوا فيما بعد باكورة ما سوف يُسمَّى بأهلِ التصوّف الَّذينَ وُصِفوا بأنَّهُم”أهلُ القلوب الَّذين يعرفون أحكامَها ومواردَها وخَطَراتِها ووساوسها ولحظاتِها وإشاراتِها وخفيَّاتِ سرائرها، ويعرفون اختلافَ الوُرود بمشاهدةِ الوُجود. ويعرفونَ أحكامَ الدّنيا باللّحظات، وأحكامَ الآخِرة بالخَطرات، وأحكامَ الحقّ بالإشارات. انفردوا بوَجْدِهم وأقاموا على حقيقة عِلمهم، فهُم أهلُ تجريد التوحيد الَّذين آثروا الله على ما سواه” (أدبُ الملوك، 9). وكان لهُم آداب ومسالك وأحوال ومقامات حُفِظَت آثارُها في الكتُب الينابيع التي دوَّنت أخبارَهُم لما يعود إلى القرون الأربعة الأولى للهِجرة، فأمَّا بعد ذلك، فقد غلبَ القالُ على الحال، والتَّسويدُ على التَّجريد، كأنَّ دائرةَ عرفان الأوائل عادَت إلى نقطةِ التحقُّق في معراج الواجدِ نحو الحقيقة.

أهل البصائر
تَذَّخَرُ مجالسُ الذِّكر لدى الموحِّدين الدّروز بأخبار السّالكين دربَ التّحقّق وجُلُّهُم من عُبّادِ “ما قبل نشوء المذهب”. ومعلومٌ أنَّ كبارَ الموحِّدين في “جزيرة الشام” بعد القرن الخامس للهِجرة، وعلى رأسهم الأميرُ السيِّد والشيخُ الفاضل أرْسَوْا هذا التّقليد عبر درسهِم المعمَّق للتراث الإسلاميّ كما هو ثابتٌ في سِيَرهِم. وفضلاً عن حِفظهما لكتابِ الله العزيز، القرآن الكريم، كان الأميرُ جمالُ الدين عبد الله “يعتني كثيرًا بأخبار الأولياء والصَّالحين والعُلماء والزّهاد، مثل الفضل ومالك بن دينار وحاتم الأصم وأشباههم في الأحكام والمواعظ والزهد والورع” (ابن سباط). واقتفى الفاضلُ أثرَه حيث يتبيَّن أنَّه اقتبسَ عشرات الشواهد من الآيات القرآنيَّة والأحاديث النبويَّة وأقوال المتصوِّفةِ الثِّقات.
يُميِّزُ الأميرُ السيِّدُ بين ناظرَين: واحدٌ بفكره وخاطره، وآخَر بسمعه وناظره. النَّظرُ الأوَّلُ هو مقاربةٌ لإدراك اللطائف العقليَّة، واستشعار الدّلالات الحِكميَّة، واستنباط معنى الغايات الحقيقيَّة سبيلاً إلى التحقّق بما هو صلاح النفس وخيرُها ومعناها الَّذي مُنِحت الوجودُ من أجله. والنَّظرُ الثاني هو مقاربةٌ في المستوى الطبيعيّ يتلقَّى عبرها الإنسانُ بحواسِّه الجسمانيَّة الصُّور المحيطة به فيما سُمِّي قديمًا عالمُ الكون والفساد، من حيث أنَّ الجسدَ الطبيعيَّ مخلوقٌ
﴿مِن صَلصَالٍ مِن حَمَأٍ مَسنُون﴾ (الحِجر 26). وينبّه إلى أنَّ الوقوفَ عند حدِّ النَّظر الطبيعيّ، والذّهولَ إزاء ما يثيرُهُ في الحواس المتحرِّكةِ بالرّغبات، والالتهاء بأغراض الغريزة دون عقلها بحدِّ العدل وهو خضوعها لقواعد الحِكمة من وجودها، لهوُ أمرٌ بالغ الخطورة، وقد أوضحه بهذه الإضاءةِ الثاقبة قائلاً: “حِيدُوا عن طريقِ الموت، فلاَ مِحنةَ أشقُّ في هذا الزَّمان، من موتِ العقلِ والجَنَان.”

إنَّ مَلَكةَ التمييز في هذا الشأنِ بكلِّ متفرِّعاته هي بمثابةِ ضرورة لحياةِ النَّفس تَبَعًا لكمالِها الإنسانيّ. وقد أدرك شيوخُنا الأفاضل الأهميَّةَ القصوى لحقيقةِ الاستبصار هذه، فقالوا بوجوب الالتزام بقاعدةِ التّمييز.

شواشُ الصُّورة الحسِّيَّة
إنَّ الدَّرسَ الكبير الَّذي نتعلّمهُ من تلك البدايات، منذ صدر الإسلام وصولا إلى ما ذكره الأميرُ السيِّدُ ق، هو ضرورة التنبُّه أوَّلا إلى تنقية الدّاخل صونًا لهُ من الشّواش الكبير المتدفِّق عليه من صخَب الخارج. إنَّ الحَيّزَ الذي تحتلُّه الصُّورةُ في حياتنا المعاصِرةُ يكادُ أن يكونَ شاملاً. فالوسائلُ البصريَّةُ حاضرةٌ متسلِّطةٌ بدءًا من قارعة الطريق وصولاً إلى عُقر الدّار. إملاؤها كاسحٌ لا يعبأُ بالفُروقِ بين بيئةٍ محافظة وبين بيئةٍ مُستحدِثة. هدفُها الإغواء والجذب وصناعةُ “المُوضة” وتقرير ما هو الأمثلُ لمقاييس الشّكل ولقواعد الحضور الظاهر ولنماذج الجمال “المُفبرَك”.
الصُّورةُ البصريَّةُ سهلةٌ برّاقةٌ فاتنة، تدغدِغُ مكامنَ الرَّغبة، وتُذهِلُ العقلَ إذ تفتحُ الآفاق باتجاه أهواء النفس وتملُّصها من كلِّ قيدٍ مانعٍ لها من الانغماس فيما تتوهّمُه اللَّذَّة. لقد استطاعت الصُّورةُ في العقود الأخيرةِ من زمننا الراهن، أن تهيمنَ إلى حدٍّ كبير على أخْيلةِ الأجيال الصاعدة، وتاليًا على الأمزجةِ والعقول وما يستتبعُ ذلك من قلب معادلات طبائع العلاقات العامَّة، وتغيير قواعد السلوك، وتوسيع أبعاد الفجوة بين ذِهنيَّة التقليد من جهة، والذِّهنيَّة المعاصِرة من جهةٍ أُخرى. يتبدّى ذلك جليًّا إذا ما استعرضَ المرءُ نزعةَ التحرُّر السائدة لدى الجيل الشاب كما يُعبَّرُ عنها في ظواهر أساليب المَلبَس والاحتفال واللَّهو واعتناق الهوايات.

يُعبِّرُ رمزُ إحدى أكبر الشّركات المتعدِّدة الجِنسيّات العاملة على تصميم وتصنيع الالكترونيات الاستهلاكية ومنتجات برامج الكمبيوتر عن روح ما تقدِّمُهُ لنا من خدمات: تفّاحةٌ مقضُومة. بالطّبع، يحيلنا الرمزُ إلى القصَّةِ التوراتيَّةِ التي استحقَّ آدم عليها مخاطبة الله له قائلاً: “ملعُونةٌ الأرضُ بِسَببِك”. لقد غُويَ آدم فأكلَ من ثمرة شجرة المعرفة الَّتي نبَّهتهُ إلى مكامن الشرّ فيه وكان غافلاً عنها. واليوم، تتدفَّقُ المعلومات والصُّورُ على الأُمم كسيلٍ غامِر لا يتورَّعُ أمام حُرمة، ولا يتردَّدُ في اكتساحِ أيّ حِمىً مهما اتَّخذ له من مَسميَّات مثل: تراث أو تقليد أو هويَّة أو قِيم أثيلة أو أعراف متأصِّلة وما شابه. لكن شتّان ما بين تدفُّق المعلومات، وما بين اكتساب الشّخصيَّة الثقافيَّة التي تأخذ بيدِ الإنسانِ فلا يجرفُه السَّيلُ هَبَاء، و لا تستقُبلهُ الصورةُ على شاكلتِها وإنَّما يطفو فوق خشبةِ خلاص باحثًا عن شاطئ الأمان.
وِفقَ هذا المنظور، تضعُنا الصُّورةُ اليوم في مثلِ الكهفِ الأفلاطوني إذ يتسمَّرُ الخَلقُ إزاءها لتقرِّرَ لهُم اتجاهات أمزجتهم، وطرائق مظاهرهم، ووجوه سلوكيَّاتهم حتَّى إذا نفروا منها أو حادوا عنها اتُّهِموا بالتخلُّفِ والجمود! بالطَّبع، يتخلَّلُ هذا العرضَ المتواصل الكثيرُ من العِلم والنقد وأصواتِ المثَّقفين التي تتعالى “كصوتٍ صارخٍ في البَرِّيـَّة”. فأين هو الحكيمُ الَّذي يقودُنا خارج الكهف حيث شمسُ العقل ونور الحرِّيـَّة؟

النَّصيحةُ التَّوحيديَّة
هنا تمامًا يتوجَّبُ استحضارُ النَّصيحة التوحيديَّة القديمة التي أوصَت في مثلِ تنبّؤٍ نورانيّ قائلة بوجُوب النَّظَر بمرآة البصيرة لا بشحمانيَّة العين. فإذا كانت الحياةُ المعاصرةُ اليوم هي نِتاجُ الصورةِ بامتياز، يعني من البصرِ وإلى البصرِ تعود، فأين هي مرآةُ البصيرةِ في روح الإنسان، وهل هي نقيَّة و جليَّة وقابلة لانعكاسِ وجهِ الله، يعني الحِكمة والفضيلة والخير الأسمى؟
إنَّ التراثَ المسلكيّ التَّوحيديّ يكتنزُ إلى يومِنا هذا سرَّ استبصار هذه الحقيقة. وليست مظاهرُ التقشُّف في الخلَوات، واقتصارُ سُبُل عيش الشّيوخ الثِّقات الكبار على الضَّروريِّ إلاَّ وسيلةً لتحقيقِ المعنى على هَدْي الصِّراطِ الَّذي اختطَّهُ سادةٌ عِظام. فالسِّرُّ في الموحِّد يَحُكُّ البصيرةَ قبل أن يَستَـتبعَ البصر، لأنَّ التَّوحيدَ رسالةٌ إلى مرآة الداخل الإنسانيِّ حيثُ لا تنفعُ أقنعةٌ و لا يُغني تجميل.

وحقٌّ أن يُطرحَ السُّؤال: كيفَ السَّبيلُ إلى امتثال هذا المعنى الجليل، والقصد الأشرف، في مجتمعنا المعاصِر؟ تقولُ الآيةُ الكريمةُ ﴿وَذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفعُ المؤمنين﴾ (الذاريات، 55). إنَّ استذكارَ هذا النَّهج (حِفْظُهُ في الذِّهن) هو ذخيرةٌ حيَّةٌ (حِجابٌ عاصِم) تَهَبُ قلبَ الإنسان ـ أيـًّا كان موقعُه في الحياة- روحَ المناعةِ من خطرِ اضمحلال كِيانِه من حيثُ هو “أشرف المخلوقات” فلا يتشوَّه سرُّه، و لا تَتَشتَّتُ روحُه، و لا تنحلُّ إرادتُه، و لا يصيرُ غريبًا عن كُنهِ روحه
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ ولكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج، 46).

اعلان بيروت

«إعلانُ بَيروت للإعلام الدّينيّ المستـنير»

مكتب الدِّراسات في مَشْيخَة عقل الموحِّدين الدروز خطوةٌ في مسَارٍ حَكيم

بادرَ سماحةُ مفتي الجُمهوريَّة اللّبنانيَّة الشّيخ عبد اللّطيف دَريان في حَفل تنصيبه إلى توصيف كيفيَّات مواجهة المحنة العاصفة بالعالم الإسلاميّ، وهي التَّطرُّف من أيّة جهةٍ أتى، وذلك بالدَّعوةِ “إلى الخيْر قولًا وعملًا ونضالًا وتضحيةً، موضّحًا بأنَّه ليس صحيحًا أنَّ الاعتدالَ ضعيف أو خفيض الجانب، بل هو، مع كونِهِ اختيارًا صعبًا وسط صيحات التعصُّب، “قويّ وقويّ جدًّا بموازين الحياة الكريمة، وصلابة الحقّ، وقيَم الخيْر والعدْل وإنسانيَّة الإنسان”.

لم تكن تلك الدّعوة مجرَّد تعبيرٍ عن موقفٍ مثاليّ تجاه الوقائع، إذ إنَّ سماحتَه ما لبث أن أعلنَ عن التزام دار الفتوى النَّهج والمبادئ والوثائق المُكرَّسة في مواقف مُعلِنة لمرجعيَّاتٍ عُليا في الحقل الرُّوحيّ في مستوى العالم الإسلاميّ حيث أوضح أنَّ “نهجَ السّلم والاعتدال هو نهج القرآن والنّبيّ (ص)، وهو نهج وثيقة الأزهر الشَّريف الصادرة بتاريخ 31 يناير عام 2013 ووثائق إسلاميَّة أُخرى”. كما أكَّد على الاتّفاق التَّام مع وثيقة الأزهر الشَّريف الصادرة بتاريخ 8 يناير عام 2012 والمُسمَّاة بــ: منظومة الحرِّيات الأساسيَّة الأربع: حرِّيَّة العقيدة والعبادة، وحرِّيَّة الرّأي والتَّعبير، وحرِّيَّة البحث العِلميّ، وحرِّيَّة الإبداع الفَنِّي والأدبي”. ومن ناحيةٍ ثانية، في المستوى الوطنيّ اللّبنانيّ حيث أعلنَ عن التّمسُّك بالعيش المُشترَك الإسلامي المسيحيّ، وباتّفاق الطّائف، وبوثيقة الثّوابت الوطنيَّة الصادرة عن دار الفتوى عام 2011 والتي صرَّحت عن تأييدها لها في حينه معظم القوى السّياسيّة من كلّ الأطراف باعتبارها “موقفًا جامعًا عبَّر عن ثوابت الرّؤية الوطنيَّة في العيش المشترك وحماية لبنان”.

يندرجُ هذا الموقفُ في إطار استنهاضٍ عامّ، “رسميّ” بشكلٍ أساسيّ، في جهات العالم الإسلاميّ الواسع، للعمل عبر المؤسَّسات الرَّسميَّة، خصوصًا الدّينيَّة والثقافيَّة والتّربويّة منها، وعبر إطلاق المبادرات الكبرى، بهدف استعادة الوجه الحضاريّ للدِّين الحَنيف في عصر الإعلام المرئي والمسموع، والفضائيّات المتناسلة بإيقاع عجُول. ومعلومٌ أنَّ هذه الوسائل، بحُكم الضرورات المهنيَّة، والوقائع المتسارعة، طغتْ على الحيِّز الأكبر من هوائها المبثوث، الأخبار المتعلِّقة بالإرهاب وبقوى التطرُّف والغلوّ، التي بدورها تملَّكت ما استطاعتهُ من هذه الوسائل تُرَوِّج عبرها لرؤيتها العُنفيَّة، وخِياراتها المتطرّفة التكفيريّة للعديد من مفاهيم الدِّين.

إنَّ مؤتمراتٍ عدَّة انعقدت في هذا السِّياق في السّنوات الأخيرة المُنصرمَة، منها ما تطرَّق إلى مواضيعَ في العُمق الفِقهيّ والتّفسير العقديّ في دراساتٍ نهَجتْ سبيلَ المواجهة العِلميَّة “للأفكار المُنحرفة والمفاهيم الخاطئة “حول كثيرٍ من القضايا والمفاهيم الإسلاميَّة التي من شأنها أن تشكِّلَ منظورَ الرؤية للعالَم وللعصر الّذي نعيش فيه. ومنها ما يُمكِن اعتباره من الرَّوافد الحيويَّة لهذا المسار، نتوقَّف هنا عند آخرها الّذي انعقد في دار الفتوى تحت عنوان “الإعلام الدِّينيّ في تعزيز قِيَم التّسامُح والاعتِدال”.

طرح سماحةُ المُفتي في كلمته مسائل هامَّة في هذا الاتّجاه داعيًا إلى إنشاء شبكة إعلاميَّة فضائيَّة، واستحداث مواقع من شأنها أن تُقدِّمَ للشباب فُسحةً نضرةً وحيويَّةً عبر المُنافحة عن الإسلام بأساليب مميَّزة، تسمح أيضًا بمحاورة الآخَر المخالِف والمختلِف، على أن يتزامنَ ذلك مع وضع مناهج تعليميَّة دينيَّة وعِلميَّة، وتأهيل أئمَّة المساجد بأساليب علميَّة ونفسيَّة وتربويَّة، ملمِّحًا بأنَّ التّقصير في هذا الحقل، وسط ظواهر العنف والتطرُّف السائدين، سيؤدِّي إلى السّقوط في الهاوية.

سجَّل المؤتمرُ الذي شارك في افتتاحه شيخ عقل طائفة الموحّدين الدّروز الشّيخ نَعيم حسن مؤشِّرات عدَّة دالَّة على التَّصميمِ في المضيّ قُدُمًا في سبيلٍ تحديثيّ للمقاربة العامَّة للخطاب الإسلاميّ. منها مشاركة المُفتِيْنَ في تقديم الدّراسات لبحث الإشكاليَّة بالتّرابط مع الوقائع التي يواجهونها، وحضور بعض ذوي الاختصاص عبر تقديم بحوث واقتراحات، وفتح باب المناقشة والحوار، والخروج بتوصيات، وتُوِّجَت هذه المؤشِّرات بإصدار وثيقةٍ سُمِّيت بــ “إعلان بيروت للإعلام الدّينيّ المستنير” وقَّعها مُفْتُو لبنان ومصر والأردن. وتضمَّن الإعلانُ التزامًا بالخطاب الدّينيّ الإصلاحيّ والوسَطيّ، وبتطوير إعلام دينيّ مستنير، وبالتعاون بين دُور الإفتاء وتبادُل الخبرات والزيارات، والدّعوة إلى إنشاء “مَرْقَب” للعيش المشترك. إنَّ مضامين هذه الالتزامات تنسجم كُلّيًّا مع المسار العام المذكور آنفًا، ومن شأن المفاعيل النّاتجة عن التقدُّم في الخطوات التنفيذيَّة العمليَّة أن تعزِّزَ فضاء “اللّغة السّمحاء” التي هي التّعبير الأرقى عن مقاصد الدِّين الحنيف.

“السَّماحة” و “التَّسامُح”
طُرحَ في فعاليَّات المؤتمر الحِواريَّة سؤال حول بعض التّحفُّظات المتواتِرة بشأن الفرق بين مُصطلحَيْ “السَّماحة” و “التَّسامُح”. ونَحَتْ كلُّ إجابةٍ من الإجابتيْن منحًى مختلفاً من دون الدُّخول في التّفصيل، وحتَّى من دون ذِكْر العامل الأساسيّ لإثارة تلك التّحفُّظات. ولا بدَّ من الإشارة إلى الإطار العامّ للمسألةِ بشكلِ مدخلٍ إلى إشكاليَّةٍ يُستحسَنُ درْكُ أبعادها نحو المزيد من الوضوح.

لقد أُخِذَ مفهومُ “التّسامُح” على محمَل الفعاليَّة الفلسفيَّة/الدِّينيَّة/السّياسيَّة، خصوصًا، منذُ الرّبع الأخير للقرن السابع عشر، حين كتب جون لوك، الفارُّ من الاستبداد الدّينيّ إلى هولنده عام 1682، ما أسماهُ “رسالة في التسامُح” بتحريض من صديقه اللّورد شافتسبري “المُلتزم بالتسامح” في إنجلترا في أجواء الشّقاق الدّيني الذي كان سائدًا في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، ونشرَها بإغفال ذِكر اسمه عام 1689. كان يقصد بـ: التّسامح الدّيني بمعنى “إنه ليس من حقّ أحد أنْ يقتحمَ باسم الدّين الحقوق المدنيَّة والأمور الدنيويَّة… ولهذا فإنَّ فنَّ الحُكم ينبغي ألّا يحمل في طيَّاته أيّة معرفة عن الدِّين الحقّ؛ ومعنى ذلك أنَّ التَّسامح الدّيني يستلزم ألَّا يكون للدّولة دين لأنَّ خلاص النّفوس من شأن الله وحده…”. (“رسالة في التسامح”، تر. منى أبو سِنّه). كانت مقاربة “لوك” تتمحور حول “الفصل بين الكنيسة والدّولة فصلًا حادًّا… فما هو قانوني في الدّولة لا يمكن للكنيسة أنْ تجعله مُحَرَّمًا وممنوعًا” (د. بدوي، الموسوعة الفلسفيّة). كان هذا تطوُّرًا في مقاصد المفهوم الذي استمرَّ وبات “في آخرِ المطاف يشمل الفكر الحرّ” (موسوعة لالاند)، وأكثر ما جسَّد هذا الأمر في الزّمن الحديث هو ما صدر عن المؤتمر العامّ لليونسكو المنعقد في مدينة باريس عام 1995، إذْ اعتمدَ نصًّا اتَّفقت عليه الدّول الأعضاء في مُنظّمة الأمم المتَّحدة للتّربية والعلم والثقافة هو “إعلان مبادئ بشأن التّسامح” تضمَّن الالتزام باتّخاذ “كلّ التّدابير الإيجابيَّة اللّازمة لتعزيز التّسامح في مجتمعاتنا لأنَّ التّسامح ليس مبدأً يُعتـزّ به فحسب، ولكنَّه أيضًا ضروريّ للسَّلام والتّقدُّم الاقتصاديّ والاجتماعيّ لكلِّ الشّعوب”، بعد ذلك أطنب الإعلان في ذكر كيفيَّات القيام بهذا الالتزام، ليس فقط في كلِّ دولةٍ ضمن حيِّز سيادتها، بل وبين كلّ الدول الأعضاء في مستوى “الأسرة الدّوليَّة”.

يمكن اختصار المآخذ على استخدام مفهوم “التَّسامح” بصيغة المُقاربة “الدَّوليَّة” بما ذكره د. الجابري في كتابه “قضايا في الفكر المعاصر” في فصل “التّسامح بين الفلسفة والدِّين والإيديولوجيا”، وخَلُص فيه بعد مناقشة الإشكاليَّة إلى القول بأنَّ “فلاسفة التنوير في أوروبا وَقَعوا في تناقض صارخ حينما رفعوا شعار التَّسامح لتجاوز الخلافات الدِّينية، وعدلوا عنه إلى نوع من اللّاتسامح عندما تعلَّق الأمر بالقضايا السّياسيَّة والوطنيَّة… إنَّ عالَمًا يفتقرُ إلى العدل، وإلى الاعتراف بالآخَر وبحقّه في تقرير مصيره… هو عالم مبنيٌّ على الظُّلم… وبالتَّالي فلا معنى لرفع شعار التَّسامح ضدّه إلَّا مقرونًا بالعدل”.

أمَّا مفهوم “السَّماحة” في اللُّغة فهو يُفيدُ الجُود، ويُقال: “سَمُحَ”، إذا جاد وأعطى عن كَرَمٍ وسَخَاء. وفي الاصطلاح هو التَّيسير وعدم القهر. ويُقال في المسلكِ “مِن طبيعة النَّفس السَّمْحة أنْ يكون صاحبُها هيّــنـــًـا ليّنــًـا… يُلاحِظُ جوانب الخير في كلّ ما تجري به المقادير.” (نضرة النعيم). وبالإجمال، فإنَّ مفهوم “السّماحة” يقرِّب إلى الشّمول في المعنى الأخلاقيّ الرَّفيع الذي فيه اكتمال العقل المُسْتَنير بمقاصدِ الشَّرع الحنيف المتعلِّقة بكلِّ ما هو: أمرٌ بالمعروفِ ونهيٌ عن المُنكر، ولا يستقيم إلَّا بالاعتدال والحِلم والاستشعار العميق لسموّ أدب الدِّين. وفي الحديث الشّريف: قيل لرسول الله: أيُّ الأديان أحبُّ إليك، قال: الحنيفيَّة السَّمْحة. وقيل هي التي تلائمُ فِطرةَ النّاس، لا غُلوّ فيها ولا تقصير.

وفي كلّ حال، فالسَّماحة تشمل فيما تشمل معنى التَّسامح بالدَّلالة الأخلاقيَّة للكلمةِ، وتتجاوزه بكثير من الدَّلالات في باب قِيَم السُّلوك الأخلاقيّ المتكامل على حدِّ الوسط الَّذي لا يغيب عن ميزانه العدل الَّذي به تستقيمُ أمُور النّفوس والمُجتمعات وأنظمة الحُكم.

زيارة البطريرك

لقاء كفرمتى بحضور الأمير طلال أرسلان

مشهد من اللقاء الأخوي

علـــى هــــدي مصالحــــــة الجبـــل فـــي العــــــام 2001

زيارة البطريـــــــرك الراعي لدارة شيـخ العقل تعزز وحدة الصــــــف الــــدرزي المسيحــــــــــــــــي

الشيخ نعيم حسن: ليس مسألةً عرَضيَّةً أن يبقى لبنان عبر القرون
فكرةً عصيَّةً على الأفول بالرّغم من كلِّ العابرين

البطريرك الراعي: في هذا الجبل كتبنا معاً تاريخ حياتنا المشتركة
والرجولة والبطولة هي أنّكم طويتم الصفحة

إستقبل سماحة الشيخ نعيم حسن، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في داره في البنية صاحب الغبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يرافقه رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر وكان في استقباله إلى جانب سماحة شيخ العقل، الوزير أكرم شهيب وقضاةُ المذهب الدرزي، ورئيسُ محكمة الاستئناف القاضي فيصل نصر الدين، ومشايخُ الطائفة وفي حضور النواب فؤاد السعد، فادي الهبر، هنري حلو، رئيس الصندوق المركزي للمهجرين العميد نقولا الهبر وحشدٌ من الفعاليات والأهالي. توزّعت صور البطريرك الراعي واللافتات المُرحِّبة به على طول الطريق المؤدّية إلى البلدة وفي أرجائها، بما يكرِّس فعلاً عهود المصالحة في الشحّار الغربي عامةً وكفرمتى خاصةً.

كلمة سماحته
وبعد كلمة ترحيب من رئيس بلدية البنية الأستاذ فارس جابر رحّب سماحته بالبطريرك الراعي بكلمة مؤثِّرة قال فيها: “شرَّفتُم دارَكُم صاحبَ الغبطة. من هذه الأرضِ خبزُنا ومِلحُنا، ومن هذا الجبل ماؤنا وهواؤنا، وبخيراتِه لمْ تَقْوَ أجسادُنا وحسْب، بل تغذَّت أرواحُنا من نسائم الحرِّيَّة والكرامةِ وهِبةِ الحياة. لم يؤذِ الجبل عبر التاريخ إلا مصالح الدُّوَل الطامعة وسياساتِها. وليس مسألةً عرَضيَّةً أن يبقى لبنان عبر القرون فكرةً عصيَّةً على الأفول بالرّغم من كلِّ العابرين».
وتابع سماحته: “كلُّ لقاءٍ طيِّبٍ بين مكوِّناتِه هو لبنان. هذا هو الوطنُ شراكةُ القِيَم، ورسالةُ اللقاء الإنسانيّ الّذي يؤتي ثماره بالمحبَّةِ. دستورنا هو العيش المشترك. تشريفكم للقاء الأهل هو تعبيرٌ عن الإرادةِ الوطنيَّة التي لا يكون لبلدنا خلاصٌ إلا بها. نُقدِّر عالياً دورَكم اليوم باختتام جرح الشحّار وكفرمتى تكملةً لمسيرة العيش المشترك التي رعاها سلفُكم صاحب الغبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير ومعالي الأستاذ وليد بك جنبلاط. ونحنُ وإيّاكُم نلتقي دائماً على الثوابت التي تعبِّرُ عنها القِممُ الروحيَّة التي بها روح بلدِنا الغالي”.
وأضاف: “دعـنا يا صاحبَ الغبطة نرحِّبُ بكُم في فُسحة الضوءِ هذه التي ينيرُها اللقاءُ بكلِّ معانيه دون المزيد من الخوض في الشأن العام. دعـنا نعيشُ فرحَ هذه الهُنيهة لنوجِّهَ رسالتَـنا إلى كلّ اللبنانيّين وهي رسالة المحبَّة والمشاركة تحت سماءِ بلدٍ خصَّهُ اللهُ تعالى بجمال الأرض وجمال اللقاء والتعارف الإنسانيَّيْن. دعـنا نقول سويّاً بقـلبٍ مؤمِن أنَّ لبنانَنا باقٍ على رسالتِه مهما اشتدَّت العواصفُ، وأنَّ إيمانَنا به هو من معدِن إيمانِنا بالقيَم الساميَة التي نستمدُّها من الرِّسالات السَّماويَّة بعيداً عن كلِّ تعصُّبٍ وافتـِئات.

البطريرك الراعي
ثم تحدّث البطريرك الراعي فقال: “أشكركم سماحة شيخ العقل للصداقة الرُّوحيّة والإنسانية العميقة التي تشد بيننا منذ أن تعارفنا، يسرّنا هذا الاستقبال في دارتكم الكريمة، ونُحيّيكم خاصة وأنّ شعار البيت المِلك لله، وقد شعرنا بالحقيقة أنّنا في بيتنا”.
وأضاف: “إنّ هذا الجبل كما قلتم ماؤنا وهواؤنا، ونقول هو قلبنا النابض، وهو عمود فقري للحياة اللبنانية والكيان اللبناني، وهذا الجبل عليه كتبنا معاً كلّ تاريخ حياتنا المشتركة ولذلك فعل الإيمان اليوم هو الإلتزام بمسؤوليتنا المشتركة لأنكم في الجبل كنتم القدوة، كيف طويتم الصفحة السوداء. وأعتقد أنّ الجبل مرّ بخبرة مُرّة للغاية، ولكن الرجولة والبطولة هو أنّكم كلّكم طويتم الصفحة وعشتم جمال هذه المصالحة ونحن نواصل هذا الطريق، لكن ما أودُّ أن أقوله إنّكم كنتم سبّاقين في بدء صفحة جديدة، وجمال المصالحة أن نبدأ صفحة جديدة. ننسى الماضي وننطلق للمستقبل، ننسى الماضي لكن يظل عِبرة لنا بعدم العودة إليه. لكنّنا نبني المستقبل وهذا ما فعلتم وهذا ما رأينا بأُمّ العين في كلّ الرعايا والبلدات التي زرناها وأنا سعيد جداً أنّ معظم هذه البلدات هي بلدات فيها أخواننا الموحّدون الدروز. أنا أشكر سيادة المطران بولس مطر لأنّه أراد أن نبدأ هكذا. لذا نقول نحن في بيتنا، نحن في هذه الأخوّة الوطنية، وفي هذه المسؤولية التاريخية التي ينبغي علينا نحن كذلك أن نحملها معاً.
وأردف الراعي: “فرحتنا كبيرة اليوم أننا التقينا ولكن نلتقي وفينا الغصّة التي ذكرتموها والتي أنا أيضاً بإسم هذا الجمهور معكم نُجدِّد الدعوة للجماعة السياسية لنقول لهم تمثّلوا بأبناء الجبل، أبناء الجبل تصالحوا، أبناء الجبل نسوا الدماء، أبناء الجبل طووا الصفحة، اطووا الصفحة، اطووا الصفحة، يكفي اطووا الصفحة، تصالحوا، تقاربوا، احموا هذا الوطن. أنتم في الجبل تصالحتم حُبّاً بهذا الجبل، حُبّاً بالعيش معاً، حُبّاً بحفظ تاريخنا المشترك الجميل وكذلك ينبغي على الجماعة السياسية أيضاً القيام به حُبّاً بلبنان، لبنان الكيان ولبنان الشعب، لبنان المؤسّسات، لبنان التاريخ، لبنان الرسالة. إذا آمنا فعلاً بهذا الوطن أنّه فوق كلّ شيء وفوق الجميع لا شيء يمكن أن يقف أمام المصالحة”.

أيها السياسيون : احترموا الشعب!
وقال: “نحن نُحيّي من هنا كلّ أصحاب الإرادات الطيّبة، كلّ الذين يسعون فعلاً من أجل هذه الغاية ونحن نطالبهم ونقول لهم الشعب يثق بكم كونوا على مستوى ثقة الشعب بكم. وأقول الشعب يحترم السلطة السياسية يحترمهم ويقدرّهم ويعزّهم وهم يعرفون، وأنا أقول ينبغي عليكم أنتم أن تحترموا الشعب أيضاً، أن تُحبّوا الشعب أيضاً وأن لا تستهتروا بشؤونه أيضاً. وأضاف القول: يؤلمنا هذا المشهد المُذل بالنفايات، التي أيضاً تذلنا بكرامتنا الوطنية وبجمال هذه الأرض الجميلة، لكن يؤسفنا أيضاً أنّ كلّ المبادرات وخصوصاً المبادرة الرسمية التي تكلّف بها الوزير شهيب. وقال: نحن شعب فيه سمو وقِيَم وتاريخ وحضارة وثقافة، لذلك نحن نرجو ونأمل أن يتحمّل المسؤولون مسؤولياتهم التاريخية. ووجدتُ دارتكم الكريمة يا سماحة الشيخ أفضل مكان لقول ذلك وأمام هذا الحضور. ولا بدّ من القول إنّ إيماننا عظيم بلبنان، إيماننا عظيم بالجبل، سبحانه وتعالى يُلهمنا أن نمشي إلى الأمام.

جولة رعوية واسعة
جاءت زيارة البطريرك الراعي لسماحة شيخ عقل الطائفة في إطار جولة رعوية واسعة في منطقة عاليه، قام خلاها بدايةً بزيارة مركز جمعية الرسالة الاجتماعية في مدينة عاليه المدينة، حيث رحب به وزير الزراعة اكرم شهيب وكانت كلمة للبطريرك قال فيها: “أُحيّي أخوتنا الموحّدين الدروز لأنّ لهم فضل في تاريخ لبنان مع الموارنة. كلّنا مسؤول ولمسؤولياتنا جذور تاريخية لذلك علينا أن نعمل معاً». وزار البطريرك كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس في عاليه.
كما انتقل البطريرك إلى بلدة بيصور حيث كان في استقباله عند مدخل البلدة فرقة من الخيّالة ترفع الأعلام اللبنانية تقدّمت الموكب إلى حين الوصول إلى مبنى الرابطة الثقافية الرياضية، حيث استقبله إلى جانب المشايخ والفاعليات النائب غازي العريضي. وحيا الراعي في كلمته في بيصور القيادات السياسية ولا سيما النائبين وليد حنبلاط وطلال ارسلان وجميع ابناء المنطقة «على الوحدة والتعاون الذي تعيشونه».
وفي إطار جولته الرعوية تفقد البطريرك عدداً من القرى منها شملان وعيناب وعين كسور ودفون ومجدليّا وتفقد في مجدليا كنيسة مار تقلا المارونية التي يعاد بناؤها وترأس قداساً في كنيسة رمحالا كما اجتمع بأهالي كيفون في حسينية البلدة وألقيت كلمات شددت على الوحدة وأهمية الحفاظ على لبنان وطناً للجميع.

لقاء في كفرمتى
وانتقل البطريرك الراعي إلى بلدة كفرمتى وفي دارة الشيخ نصر الدين الغريب وكانت بادرة رمزية استهدفت تكريس المصالحة التي تمت بين المواطنين المسيحيين والدروز في البلدة، وألقى وسط حشد ضمّ رجال الدين والوزير أكرم شهيب والأمير طلال أرسلان كلمة حيّا فيها “مصالحة الشجعان والأبطال” مشيراً إلى «أن الأبطال دائماً يتصالحون” وداعياً الى تجاوز الماضي.
وألقى الأمير طلال ارسلان كلمة قال فيها: هذا اللقاء التاريخي يأتي تتويجاً صادقاً لسلسلة المصالحات في جبلنا اللبناني. هو لقاء العودة الى الجذور الوطنية والإنسانية والتاريخية. بعد ذلك توجه البطريرك الراعي الى كنيسة مار الياس في كفرمتى.

لقاء في عبيه
بعد كفرمتى انتقل البطريرك الى عبيه حيث كان لقاء جامع بين أبناء البلدة مسيحيين ودروزاً كما انتقل الى رحاب مقام الأمير السيد عبد الله التنوخي حيث كان في استقباله الشيخ سعيد فرج وممثل شيخ العقل الشيخ غاندي مكارم.

الشيخ ابو حسين محمد الحناوي

سير الصالحين

الشيخ أبوحسين محمد الحنّاوي.

العارف بالله والعالم المتمكن المحيط بعصره

انصرف إلى العبادة والذكر وهو في سن الصغر
فبنى له والده خلوة صغيرة تضم اليوم ضريحه

كان المرجع المهاب يلجأ إليه طالبو العلم
وكان الحكم الفصل في كل خلاف أو نزاع

أحب الشعر الصوفي والروحي وكتب المقالات
وكان على تواصل مع الامير أمين آل ناصرالدين

هو شيخ من أعيان أهل الدين والتّقى، وقد كان فريد عصره من حيث بساطة حياته في ملبسه، ومأكله ومشربه، وعلمه الواسع، وفكره النيّر، وكفّه السّخي، وحكمته البالغة، ووعظه الآسر للقلوب. كان داعية للحق، تقياً زاهداً جامعاً بين لطف المعاشرة والهيبة بين الدين وأدب الدين، رقيقاً في الكلام لكن حازماً في المضمون خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأمور الدين وقيم الموحدين. ذاع صيته في ديار الموحدين وكسب محبين بالألوف يتناقلون سيرته ومواقفه. الضحى تعرض في ما يلي فصولاً من السيرة العطرة للشيخ أبو حسين محمد الحنّاوي الذي توفي سنة 2010 عن عمر ناهز المئة وأربع سنوات.

كتب سماحة شيخ العقل، أبو وائل حمّود الحنّاوي أنّه في عام 1907 شهدت قرية سهوة البلاطة إشراقة مولود أطلّ على الحياة، وأن علائم أهل الفضل والنبوغ، والتفوّق وسمات الإيمان ظهرت عليه منذ السنوات المبكّرة من حياته…
والده المرحوم الشيخ أبو محمّد قاسم الحنّاوي، ووالدته السيّدة التقيّة غضيّة كنعان من قرية الرّحى المجاورة للسّهوة، وقد امتحن الله الشيخ باليتم في سن مبكرة إذ توفي والداه وهو لم يزل بعد حدثاً يافعاً، لكنّ رعاية شقيقته الجليلة، الستّ أم علي ورد خفّفت عليه أعباء الحياة وهمومها، فقد كان مسلك الأخت متوافقاً مع منهج الصبي الشيخ من حيث الورع والزهد، والجود والتقى والمسلك الحميد…، وكان رحمه الله يقدّرها ويحترمها، ويعترف بفضلها، ويميّزها في صفاتها وطهارتها. وعند وفاتها رحمها الله تألّم لفقدها مع رضاه بقدر بارئه، إذ شعر بالفراغ الذي كانت تملؤه في حياته بأنس الأخت البتول.
يذكر مشايخ السهوة الحافظون لسيرة الشيخ أنه سلك مسلك الزهد مذ أن كان صبياً وتكمّل في زيّه واجتذبته العبادة والخلوة، وهو ما لفت نظر والده الشيخ قاسم الحنّاوي قبل وفاته المبكّرة، وقد أحس بأن الصبي يختلف عن أبناء جيله وأنه سيتكرّس للعبادة ومسلك التوحيد بأكمل وجوهه من زهد وعفة ودوام ذكر وأدب جم، وقد ألهمه الله توفير المناخ الملائم للصبي الذي كان يشعر باحترام شديد لتكرسه للدين وزهده في الدنيا الفانية. لذلك بادر الأب العطوف ببناء خلوة متواضعة أشادها من الحجر والطين، ولاتتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربّعة للقراءة والتعبّد، وقد بنيت تلك الخلوة وسط غابة من أشجار السنديان، فوق قمّة مشرفة من جهاتها الأربع تطلّ على السّهوة التي طالما أحبّها.
هذه الخلوة الصغيرة في حجمها، غدت منارة ومزاراً يرتاده الزائرون ويتبرّك به أهل الاستجابة القاصدون، وبعد وفاته عام 2010 أقيم إلى جانب الخلوة مجمّع ديني كبير لم يزل قيد الإنشاء، وهو الآن على وشك تمامه بمساهمات من متبرّعين محسنين يبتغون وجه الله.

نشاط دؤوب، ودعوة مخلصة
لم يتوقف نشاط الشيخ أبو حسين محمّد عند حدود قريته السهوة، ولا عند حدود جبل العرب، فقد كان واعظاً وداعية ومعلّماً لأبناء التوحيد أينما وجدوا، في سوريا ولبنان وفلسطين والأردن والمغتربات، ويشير الشيخ حمّود الحنّاوي إلى أنّه كان أينما حلّ يدير حلقات الذّكْر، فيذوب الليل في قيامه، ويملأ النهار في تعبّده، إذ لا فراغ لديه، ولا وقت مستقطعاً ينفقه إلاّ بالتواصل مع الله، ولا عمل يشغله إلاّ بالذكر مع أهل الثقة والاستجابة، كان يصلح الخطأ بالصواب، ويتّخذ الرأي بالسداد، إن وجد مخالفاً يهديه، أو تائهاً يعينه على تبين طريق إلى الرشد وقد تاب على يديه كثيرون وأخذوا بعد ذلك طريق الحق والفضيلة، وهو ما يدل على عظيم هيبته وتأثيره في نفوس معاصريه. عرف عنه أنه كان رغم استغراقه في العبادة بشوشاً ودوداً ناصحاً بلطف وكان يهتم بالجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً وكان يحترم المرأة العفيفة الطاهرة، فيقدّر منهنّ الصالحات، وقد أسّس المدارس الدينيّة، والمجالس الروحانية، وأقام حلقات الذكر وتابعها، فاستجاب على يديه الكثيرون.
ثقافته
احتوى شيخنا علوم عصره، فكان على بساطة حياته مطّلعاً على علوم الدين والشريعة، واعياً لأحداث التاريخ، وهبه الله تعالى الذكاء الحادّ والذاكرة الحافظة، فكان مفكّرة الأيّام، ماضيها وحاضرها ومستقبلها بشهادة مريديه وعارفيه، شغوفاً بالعلم، ختم المعلوم الشريف والقرآن وحفظ الكتاب الكريم في سنّ مبكّرة، ودرس الكتاب المقدّس، وقد تتلمذ على يد المرحوم الشيخ أبو حسين علي أبو حمدان، المعروف بالخطيب، ولمّا بدأ تميّزه، أفردوا له خلوة خاصة به في مقام عين الزمان في السويداء يختلي فيها للتعبّد والمذاكرة مع إخوانه ومريديه، فاستحق ما نعته به الإخوان من مشايخ لبنان وسوريا بأنه من شيوخ التصوّف التوحيدي. لذلك فقد وصفه شيخ العقل، الشيخ حمّود الحناوي بتعبير “شيخ الجزيرة، وسيّد العشيرة” وقال عنه أيضا إنه “كان سِفراً توحيديّاً حافلاً بالمكارم والكرم والكرامات” .
كان الشيخ أبو حسين محمّد يحبّ العلم ويشجّع عليه، وقد قرأ الأدب والتاريخ والعلوم الإنسانية، وكان متمكّناً من اللغة، إذ درس النحو والأدب والشعر، وكان يتوخّى الدقّة في الألفاظ ويلتزم المنطق السليم وكان يحب الشعر الروحي، ويحترم الشعراء الملتزمين ويحفظ لهم، وكان على تواصل مع الأمير أمين آل ناصر الدين صاحب جريدة الصفاء اللبنانية الغرّاء، وممّا هو جدير بالذكر أنّ الشيخ وبسبب صداقته مع الأمير الشاعر كتب لتلك الجريدة في مواضيع شتّى. ويذكر الشيخ حمّود الحناوي أنّ جريدة “الصفاء” نشرت له مقالات مناسبة لمركزه وعلمه وهدفه، كما أنّ المتخصّصين من أهل العلم كالأطبّاء والمهندسين والآداب والفنون، كانوا يعجبون بخطابه من حيث مناسبته لمعارفهم، وضلوعه بتقاسيم العلوم المحدّدة بالمنهج، فغدا العارف بالله، والعالم المتمكّن، المحيط بعصره أيضاً.

الواجهة الخلفية لمقام الشيخ أبو حسين محمد الحناوي
الواجهة الخلفية لمقام الشيخ أبو حسين محمد الحناوي

الشيخ المعلّم
عمل شيخنا معلّماً في كثير من المدارس السورية واللبنانية، إذ قام بتدريس العلوم الدينية، وتحفيظ القرآن الكريم، وقد شكّل بمنهجه هذا مدرسة روحانية تتلمذ فيها الكثيرون من المشايخ الأجلاّء والرجال الذين تسلّموا مراكز مهمّة في المجتمع، كذلك ساهم بتخريج أجيال من المشايخ المتعلّمين بما يضمن انتفاع الناس بعلمهم وإرشادهم.
الأمير أمين آل ناصر الدين نشر له مقالات في جريدته “ الصفاء”
ومن أبرز المدارس التي علّم بها الشيخ في لبنان مدرسة إبل السقي، وفي سوريا مدرسة بقعاتا في الجولان، وفي جبل العرب علّم في بلدات قنوات وسهوة البلاطة، وعرمان والمنيذرة والثعلة.

نشاط الشيخ في المجال الاجتماعي
بسبب مثابرته على منهج الحكمة، غدا الشيج أبو حسين محمد مرجعاً بارزا من مرجعيات التوحيد، ويشير الشيخ حمّود الحناوي إلى أنّه لعب دوراً كبيراً وبشكل متواصل ومستمر، في مختلف شؤون الحياة الدينية والاجتماعية والوطنية لأهله من بني معروف، ولا بدّ أن مؤهّلاته المعرفيّة التوحيديّة، وعمره المديد الذي نيّف على المئة عام، وانتماءه لأسرة آل الحناوي العريقة، كل ذلك ساعد في تسهيل مهمّاته، وقيامه بأداء دور كبير في مجال الإصلاح الديني والاجتماعي، وفي الدعوة إلى رأب الصدع بين فئات المجتمع، وكان محط الثقة عند أهل المجتمع التوحيدي في الجبل وفي مقدّمتهم مشايخ العقل الثلاثة.
ومن المهام الأولى التي فتحت لفضيلته الباب على مصراعيه لدى أهلنا في لبنان، الذين أحبّهم وأحبّوه، وتابع صلاته مع الأعلام من رجالاتهم على تنوّع توجّهاتهم، فكان بذلك العروة الوثقى التي جمعت بين الجبلين، جبل العرب، وجبل لبنان في مرحلة حفلت بالأحداث والملمات….
في زمن شيخ العقل المرحوم، أبو هاني علي الحناوي، وفي أعقاب الثورة السورية الكبرى، وكان الفرنسيون قد أقدموا على مصادرة وسلب مقتنيات من خصائص المقامات الروحية، لم يجد الشيخ أبو هاني علي أكفأ من الشيخ أبو حسين محمد ليكون رفيقه في استعادة ماسلبه الفرنسيون من مصادرات تخص أهل التوحيد، وقد سُلّمت في ما بعد إلى مقام البيّاضة الشريف.
بعد ذلك ساهم الشيخ محمد كمُصلح ووسيط خير في تسوية جملة من مسائل كانت مثار خلاف في الجبل، ومنها تباين وجهات النظر حول مكتب مشيخة العقل في عين الزمان، والتي استمرّت نحو ثماني سنوات…
وفي بلدته سهوة البلاطة، كان الساعد الأيمن لمشيخة العقل، فكان رأيه العامل الأساس في تعيين البديل، حدث ذلك بعد وفاة الشيخ أبو هاني علي، والشيخ أبو شبلي يحيى والشيخ أبو حسين شبلي رحمهم الله. ومن جانب آخر فقد كان يهتم بشؤون الأسر في البلدة بوجه عام، وخاصة الفقيرة منها، وأصحاب الحاجات من أهل السترة والمعوزين، ويرعى الأرامل والأيتام، ويزور المرضى والعائدين إلى الوطن، ويشارك المجتمع في السرّاء والضرّاء، وكان يواظب على المجالس والمقامات والمزارات، وكان حضوره في اللقاءات الدينية حضوراً لافتاً.

صلاته بالمغتربين
كان الشيخ أو حسين محمد يهتم بصورة خاصة بالمغتربين من أهل التوحيد فيستقبلهم، ويدعو لهم بالتوفيق، ويحثّهم على الاستقامة، والعودة بسلامة وغُنم، ويتواصل معهم ويراعي أحوالهم، ويشجّعهم على الكسب الحلال والتمسّك بأهداب الدين والفضائل، والمحافظة على الانتماء لقومهم بني معروف، والتمسّك بالعادات والتقاليد الحميدة في مسلكهم وفي تربية أبنائهم، والحرص عليهم من الانحراف والذوبان في مجتمع الاغتراب.

صورة من مأتم الشيخ أبو حسين محمد الحناوي رحمه الله أبو حسين محمد الحناوي
صورة من مأتم الشيخ أبو حسين محمد الحناوي رحمه الله أبو حسين محمد الحناوي

شهادات حيّة في الشيخ
لمّا كان الشيخ الفقيد المتوفّى عام 2010، يتعبّد معتزلاً الدنيا في خلوة متواضعة تقع على قمة مطلّة على ما حولها، فقد احتوت الخلوة بعد وفاته على ضريحه وقد وصف أحد الشعراء بعض ما احتوت عليه نفسه العفيفة من مزايا فقال:
ويحترس مــن نفسه خــــوف زلّــــــــــة
تكـــــون عليه حجّــــــــة هي مــا هيـــــــا
فقلّص بُرديـــــــــــه وأفضى بقلبــــــــــه
إلى البـــرّ والتقــوى فنال الأمــانيـــــــا
وجانب أسباب السفاهــــة والخنـــــــا
عفافـاً وتنزيهــــاً فأصبح عــــــاليــــــــا
وصان عن الفحشــاء نفســــاً كريمـةً
أبــــــت همّـــة إلاّ العلـــى والمعاليــــــــــــا
تراه إذا ما طاش ذو الجهل والصّبا
حليمــــاً وقوراً صائـن النفس هاديــــا

وقال فيه الشيخ أبو حسين فضل الله بلاّن قصيدة منها:
غَمَـر اللطــــيف كثيـفــــــه وبسيــــــــطه
فغـــــــــدا المُحيّــــــــا صورة من نـــــــــورِ
قمــــــــرٌ يشعّ بوجهــــــه مــــــن خافــــق
متوهّــــــجٍ من مُحكم المســـــطــــــــــــور
الزهــــــد فيه طبيعــــــــة لا حِرفـــــــــــةً
كاللحــن موطنــــــــه رؤى الشحــــــرور
عَبَر الحيــــاة بكِســــْرةٍ وبـــجرعـــــــــة
والفَرْش لبّــــــــــادٌ وبعــــــض حصيــــر
طوبى له، رضوان ربّـــــــــــــــــي دائــماً
في هذه أو بعـــد نفــــخ الصّـــــــــــــــــــور
طيرٌ تدرّج بالتــــقى حيث ارتقــــــــــى
لعوالـــــم تعصــــى علــــــــى التصويـــر

أمّا الأستاذ الشاعر جميل كنعان من بلدة الرّحى المجاورة للسّهوة فقال فيه قبل ثماني سنوات من وفاته أي عام 1992 قصيدة تصف اعتزاله الدنيا وعزوفه عن فتنتها، منها:
أبا حُسينٍ على صرف الزمان عـــــلا
بـــــــدر الســماء هلالاً تــمّ واكتمـــــــلا

يذكر أنّ الشاعر الأستاذ كنعان يقرّ معترفاً بأنّ كل ما نظمه من شعر لا يجاري هذه القصيدة التي نظمها في الشيخ الحنّاوي، والتي يقول فيها:
ما قلت شعراً من الأعصاب أسكــبه
إلاّ إليــــــــكم بدم القلـــب قد جُبــــــــلا
كل القصائد لو صُغناها ملحمــــــــة
ما خُطّ منــها وما قد قيل مُرتجَــــــلا
لا تـــــــــكفي الشيــخ جلباباً ولا كفنـــا
فالشيخ هامه فوق النجم قد وصــــلا
ما غرّك الجاه أو أغراك مُغريــــــــــة
أو بات قلبك من هول الردى وجـــــلا
أفنيــــــت عمراً لوجه الله معتكفـــــــــاً
تقضـــــي النهار وجلّ الليل مبتهـــــــلا
حيّاً وميتاً ستبقى في ضمائرنــــــــــــــا
نوراً مُشعّاً وفي أخلاقنـــا أمـــــــــــــــــلا
أعرضت عن متعة الدنيا وبهجتهـــا
كي تبقـى بالخالد الرحمن متّــصــلا
أعطاك ربّك فيضاً من هدايتــــــــــــه
نُبــــــل الكـــرام ونور العلم ما بخــــــلا
عن مغرياتها من مالٍ ومن ولـــــــــــــدٍ
بالصوم والصّون طوعاً كنت منشغلا
مَتّـــــــــعْ قلوبنا بالّلقيا وأعيننـــــــــــــــــا
لُقياك للنفس تُذكي تبهــــج المقـــــــــلا
منــــــك الدعاء ومنّا الشكر نبعثـــــــه
للراحتين وللوجه النــــــــــدي قُـــبَـــــــلا
لابدّ أن تلقى وجه الله مبتســـــمـــــــــاً
فالله خيراً بخيرٍ يجزي من عمــــــلا
أشهدت حيّاً لتبقى خالداً أبــــــــــــــداً
عبر الدهور شروقاً يـــــدعـم الأجلا

ومن لبنان رثاه الشيخ سامي أبي المنى، أمين عام مدارس العرفان التوحيديّة، ورئيس اللجنة الثقافيّة في المجلس المذهبي لطائفة الموحّدين الدروز، وهو من بلدة “شانَيهْ “ قرب عاليه، في قصيدة جملية ومعبّرة ومشحونة بالعاطفة الصادقة، وقد كان الشيخ سامي حينها بعيداً عن بلاد الشام، فأفاض بهذه القصيدة التي يقول فيها.
أبـــــكي عليك ونار القـــلب تشتعــــــــل
والروح تدمع والأفكـار والمُــــــــــــــــــقلُ
أبكي بعيداً وحيــــداً كلّمـــــــــا لمعــــــت
في البال خاطرة أو لاح لــــــــــــي طَلَلُ
أبكيك فــــي سفرٍ أبكيك في خـــــفــــرٍ
كأنني بدموع الشوق أغتســــــــــــــــــــلُ

ويتمنّى الشيخ سامي لو كان حاضراً مأتم الشيخ الحنُاوي وهو الذي عرفه عبر الزيارات المتبادلة، ولقاءات المشايخ المتواصلة بين الجبلين، جبل العرب وجبل لبنان، وسائر جزيرة الشام. فيقول:
يا ليتني حاضرٌ والنـــاس زاحفــــــــــة
إلى يديــــــــك، إلى عينيك ترتحـــــــل
هذي أُقبّلها، هذي أُكحِّـــــــــــــلهـــــــــــا
ومثل جفنيك من كفّيك أكتــــــــــــحل
* * * * * * * *
تبكي السـويداء حنّاويّـــــــــها بأســـــى
“وسهوة” الخير حقّــاً خَطبها جَـــــلل
الحُبُّ ملمسها، والحزن ملبســــــــهــا على”الجليل”على”الجولان” ينسـدل
في”غوطة الشام”و”الإقليم” عاصـفةٌ
في كلّ “مقرن” عـزٍّ قد بكى بــــــــــطل
كلّ الجزيرة تبكي شيخـــها أســـــفــــاً
وفي القلوب بصمتٍ يعصف الأجــــل
يا شيخنا الصادق الصّدّيق يا علماً
بمثل صدقك أضحى يُضرب المثـــــل
يا طاهر النفس يا حرّاً ويا رجــــــــلاً
نِعْمَ الصبورُ الجسورُ الصادقُ الرجل
بساطة العيش بين النـاس مسلكُكُــم
وأخلص الناس من عاشوا، وما حــفلوا
“ أبا حسينٍ” صَــحِبـــــتَ الله في أدبٍ
فزدت لطفاً وحنّى وجهَك الخجـــــل
ولم تصاحب سوى الأخيار مكتفيـــــاً
بمن تغذَّوْا من التوحيد أو نهلــــــــــــوا
فكنتَ خيرَ أنيسٍ في مجالســـــــهـــــم
تنهي برفقٍ وتهدي الناس إن جهلــوا
وكنت تُبْحِرُ في الإيمان مرتقــــــيــــــــاً
إلى حيـــــاةٍ بنور الحق تنجبـــــــــــــــــل
حتى بلغت مقاماً بالرّضى وغــــــدت
خصال روحك بالتسليم تكتمــــــــــــل
يا من نشأت على التوحيد مُتــــّــــكلاً
حقّ اتّــكالٍ ولم يقعد بك الكســـــــــــل زهدت بالمال والدنيــــا وما قـــــــدرت
عليــــــــك في وهجها الآفـــــات والعلل
وعشت في خلوة التوحيـــــــد معترفـــاً
على جبينك راحت تسطــــــع الـــمُثُل
عرفت ربّك موجــــــــــــوداً تنزّهُــــــــــه
عن كلّ وصفٍ فلا شــــــكٌّ ولا خـــــلل
عرفت نفسك في مرآته فبــــــــــدا الــ
عجزُ اقتداراً وطاب العلم والعمــــــلُ
وازددت في الحقّ إيماناً وزدتَ عُــلى
مسافراً، ماثنــــــــاك الـــهمّ والـــــكَلل
سلكتَ أصعبَها دربـــــــــاً وأكملَهـــــــــــا
حتّى أطاعتك في معراجك السّـــــبُل
يا من رجعـــــت إلى باريك مقتنعــــــاً
ومطمئنّاً تحاذي دربك الشُّــــــــــــعَـل
رحلت طَوْعــــاً إلى مثواك منتـــصراً
بالروح فوق جسور الموت تنتقــــــــــــل
عِشْ خالداً في حياة الـــروح سيّدَنــــا
عليك سيلٌ من الرحمات ينهــــــــــمل
وألفُ ألفُ سلامٍ كلّمــــــــــــا بُعِثَـــــــــتْ
ذكراك فينا ومنها أشرقَ الجبـــــــــل

السبيل إلى التوحيـــد

السبيـــل الــى التوحيــــد

مشيخـــة العقـــل تنشـــر دليـــل المهتميـــن والطالبيـــن
للتعـرُّف علـــى مرتكـــزات الإيمـــان والسلـــوك التوحيدييـــن

تتابع مجلة “الضحى” في هذا العدد نشر فصول أول إصدار مرجعي تنشره مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز بهدف تنوير المهتمين والطالبين من أبناء الطائفة وغيرهم من أبناء الجماعات الروحية المهتمين بالإطلاع على موجز سهل يبيِّن أسس المسلك التوحيدي الدرزي وثوابته الروحية والأخلاقية.
وفي ما يلي الحلقة الثالثة من هذا الإصدار المهم على أن يتبع ذلك نشر الحلقة الأخيرة في العدد المقبل، علماً أن مشيخة عقل الطائفة تستعدّ لإعادة إصدار هذا النص المرجعي باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، وذلك في طبعة مراجعة ومنقحة، ويؤمل أن يساهم هذا العمل الأول من نوعه في سدّ ثغرة مهمة في إيضاح أسس المذهب وإزالة الكثير من اللبس والأفكار الخاطئة التي نجمت عن غياب النصوص وغلبة المواقف والاجتهادات والتأويلات غير الدقيقة أحياناً.
وفي يلي الحلقة الثالثة:

[su_accordion]

[su_spoiler title=”الفصل الخامس: خلاصة مفهوم مذهب التوحيد” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الرؤية أو المُشَاهَدَة
علَّمَ جِبريلُ النَّاسَ دِينَهُم لمّا أتى النَّبيَّ  رجُلٌ بينَ النّاس قَائِلاً: “مَا الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أن تُؤمِنَ بِاللهِ، وَمَلائكتِه، وبِلِقائِه، وَرُسُلِه، وتُؤمِنَ بِالبَعثِ. قال: مَا الإسلامُ؟ قالَ: الإسلاَمُ أن تَعبُدَ الله ولاَ تُشرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤدِّىَ الزَّكاةَ المَفرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ. قالَ: مَا الإحسَانُ؟ قالَ: أن تعبُدَ الله كأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لمْ تكُن تَراهُ فإنَّهُ يَراكَ” (البخاري)، والإحسان هو التوحيد.
وفسَّرَ ذلِك ابنُ القّيِّم، قَال: “هُوَ ألاَّ تُزَايِل المُشَاهَدَةَ أبَدًا، وَلاَ تَخلِط بِهِمَّتِكَ أحدًا” (مدارج السالكين). وَالحقِيقَةُ الَّتي لاَ تغِيب عنْ قَـلبِ المُوَحِّد هِيَ أنَّ الله نُورُ السَّمَوات وَالأرض (النور 35)، وَأَنَّ مَنْ لم يجعَل اللهُ لهُ نُورًا فَمَا لهُ مِن نُور(النور 40)، وَأنَّ هَذِه اللَّطَافة اللَّدُنيَّة لاَ يُدرَك استِبصَارُهَا إلاَّ بِسلُوكِ السُّبُل المُستقِيمَة، وَتحقِيق الفضائِل الشَّريفَة، وبَذل الذّات فِي صَالِح الأعمَال، وحَميد الأحوَال سَعيًا إلَى وَجْه الله لقَولِهِ فَأينَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ الله(البقرة 115)، وَلِقولِهِ عزَّ مِن قَائِل ذَلِكَ خَيرٌ لِلَّذِينَ يُريدُونَ وَجهَ الله(الروم 38). وهَذا السَّعيُ المُبَارَك سُمِّيَ فِي الكِتابِ العَزيـز كَدحًا، فِي قولِهِ مِن سُـورَة الانشِقاق يَا أيُّهَا الإنسَانُ إنَّكَ كَادِحٌ إلَى ربِّكَ كَدحًا فَمُلاقِيه(الانشقاق 6)، وهُوَ الرِّضَى أعظَم الثَّواب. وأجلُّهُ فِي الآخِرةِ مَا وَرَدَ فِي الذِّكر الحَكِيم وُجُوهٌ يَومَئذٍ نَاضِرَة * إلَى ربِّهَا نَاظِرَة (القيامة 22-23).
إن اصل الاعتقاد لدى الموحدين هو الاقرار بوجود الله عز وجل واهب الوجود، وجوداً حقيقياً محضاً دائماً قائماً بذاته لأنه الحي القيوم الذي لا يشوبه العدم ولا يعتوره التعطيل. قال تعالى: قُـلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (الإخلاص).
ثم تنزيه الذات العلية عن الماهية، وتقديس صفاته تعالى عن الكيفية، وأن الوجود لا يخلو منه طرفة عين وما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم (المجادلة 7) وجوداً متعالياً عن الحد والكمية.
وأن معرفة الله عز وجل هي أعظم المفترضات وأجل المذدخرات.
ولا بد للعبد من معرفة معبوده، وللمخلوق من تسبيح خالقه، وللمرزوق من حمد رازقه، معرفة جزئية وإدراكاً محدوداً من حيث الإنسان لتقوم الحجة وتتم النعمة.
وفي مسلك التوحيد فعبادة الله عز وجل شوقاً إلى رؤيته في الدار الباقية أسمى أهداف العبادة، كما قالت سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ر) ساعة النزاع: إليك ربي لا إلى النار، ولم تقل إلى الجنة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” الفصلُ السادِس: قواعد الحَلال والحَرام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عرفت كثيرٌ منَ الشّعوبِ القدِيمَة العديدَ منَ أنواع الإباحَات التي ساهمَت في نهَايةِ المَطافِ في انحِطاطِهَا وتهافُت بنيانهَا. فكانت الرِّسالات السماويَّة شِرعةً ومِنهاجًا (المائدة 48)، أخرجَت شعوبًا بأسرِهَا مِن ظلمات الجَهل إلَى نُور الحضَارات الإنسَانيَّة المَشهُودَة. وكانَ أمرُ الحلال والحَرام والتَّمييزُ بينهُمَا، فِي كلٍّ منهَا، قوامَ الدِّين، ودَلِيلَ الإيمَان، ومِيزان الصِّدق الَّذي بهِ يصِحُّ مسلكُ المَرء أو يلتبس عليه. إنَّ الله سبحانَهُ وتعالَى، أرادَ بالتَّحليل والتَّحريم الرَّحمةَ بعبادِه لحِكمَةٍ منهُ بَالِغَة متعلِّقَة بِخَير النَّاس أنفسهم، فلم يُحِلّ سبحانه إلا طيِّباً، ولم يُحرِّم إلا خبيثاً، يُريدُ اللهُ بِكُم اليُسرَ ولاَ يُريدُ العُسرَ (البقرة 185)، إنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم (البقرة 143).
إنَّ مِن واجبَاتِ المُوحِّد شَرعًا حِفظَ العَقل، وحِفظَ النَّفس، وحِفظَ المَحَارِم، وحِفظَ الدِّين، وحِفظَ المَال، لأنَّ بِهَذِهِ العَطَايَا تستقيمُ الحيَاة، وبِهَا يكونُ المرءُ قادِرًا علَى تحقيق الغَاية مِن وُجُودِه وفق قوله تَعَالَى يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ ويَنهَاهُم عنِ المُنكَر ويُحِلُّ لهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ علَيهِمُ الخَبَائِثَ (الأعراف 157).
إنَّ قواعِدَ الحلال والحَرَام تُستمدُّ مِن كِتابِ الله المُبِين الَّذِي يفصل بينَ الحقّ وَالبَاطل، والَّذي هوَ هُدًى لِلنَّاسِ وبَيِّنَاتٍ منَ الهُدَى والفُرقَان (البقرة 185)، لِذَلِكَ، فإنَّ الحَلالَ مَا حلَّلهُ اللهُ تَعالَى الحَكيمُ العَليم، والحَرام مَا حرَّمَه عزَّ وجلّ، وَاللهُ يقولُ الحقَّ وهُوَ يَهدِي السَّبِيل (الأحزاب 4).

المأكل والمشرب
يُشدِّدُ الموحِّدون على ضرورة السَّعي لكسب الطَّعام والرِّزق الحلال لقولِهِ سُبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقنَاكُم وَاشكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ (سورة البقرة 172). فأمّا الحرام فِي مسألَةِ المأكَل والمَشرب عندهُم فهُو معيَّنٌ فِي آياتٍ كَريمَة منها:
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيرِ اللَّهِ (سورة البقرة 173)، وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمرُ وَالمَيسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزلَامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنِبُوهُ لَعَلَّكُم تُـفلِحُونَ (سورة المائدة 90).
ومِنَ الواجبِ أيضًا عندَ الموحِّدين الدّروز ذِكر اسم الله سبحانه وتعالى عند بداية تناول الطعام، وفي كل موقف يتوجَّب ذكره، ومنها ذبح الأنعام والمواشي وذلك لقوله تعالى:
وَما لَكُم أَلاَّ تَأكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عَلَيهِ (سورة الأنعام 119)، فإنّ ذكرَه تعالى عند ابتداء تناوُل الطَّعام هو تذكُّر وشكر لنِعم الله عزَّ وجلَّ الَّتي لا تُعدُّ ولاَ تُحصَى، وكذلك عند الذبح لأن الذبائح لا تحلّ إلا باسم الله وحده.
الزَّواج
تضمَّن قانونُ الأَحوَال الشَّخصِيَّة لِطائِفة المُوحِّدِين الدّروز العديدَ من القَواعدَ المتعلِّقَة بقضَايا الخطبة، والزّواج، والطّلاق، والحجر، والوِصَاية، والوَصيَّة، والإرث وغيرها. وقد اعتمَدَت تشريعَاتُ الزَّواج علَى ما وَردَ فِي القرآن الكريم مِن آياتٍ طيِّبات، ومَا وَردَ فِي الحَدِيث الشَريفِ مِن الحَثِّ علَى الزَّواج وضوابطِه. وقد تمَّ اختِيار مسلك التَّحفّظ والحيطة فِي مسألة تعدُّد الزّوجات، فاعتُمِد الاكتِفَاء بِالزَّوجَة الواحدة استناداً لقولِه تَعالى: فَإِنْ خِفتُم أَلاَّ تَعدِلُوا فَوَاحِدَةً (النساء 3)، ثمَّ قالَ عزَّ مِن قائل وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ (النساء 129). كذلِك تمّ اعتمَاد عدم جواز إعادة المطلقة اجتهاداً إلى إمكانية الوصول للطلاق البائن والنهائي بعد مراعاة كامل التدرج في معالجة الخلاف الزوجي وفقاً للآيات التفصيلية الواردة في سورة النساء(34-35).

المحَارِم
إنَّ مَا يحرُمُ التزوُّج بهنَّ مِنَ النِّسَاءِ عندَ المُوَحِّدِينَ مُعيَّنٌ فِي الآيةِ الكَريمَةِ مِن سُورةِ النِّساء: حُرِّمَت عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم وَبَنَاتُكُم وَأَخَوَاتُكُم وَعَمَّاتُكُم وَخَالاَتُكُم وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُختِ وَأُمَّهَاتُكُم اللاَّتِي أَرضَعـنَكُم وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُم وَرَبَائِبُكُم اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلتُم بِهِنَّ فَإِن لَّم تَكُونُوا دَخَلتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيكُم وَحَلاَئِلُ أَبنَائِكُم الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُم وَأَن تَجمَعُوا بَينَ الأُختَينِ إَلاَّ مَا قَد سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا(سورة النساء 23).
كذلك تحرُم المَرأة المتزوِّجَة مَا دَامت فِي عِصمَة زَوجِها، وتحرُم المَرأة الَّتي لم تَستوفِ عدَّتها (أربعة أشهر) إما بطلاق من زوجها أو موت. وكذلك زَوجة الأب، فإنَّها تحرُم على ابنِ زوجها كمَا جاءَ في الآيةِ 22 من سُورَة النِّساء.
وعَدَّ الموحِّدون الزِّنَى مِنَ الكبائِر الَّتي يؤدِّي ارتِكابُهَا إلَى الضَّرر الروحيّ البَالِغ، لِذَلِك فهُوَ مُحرَّم استِنادًا فِي الأصلِ إلَى الرسالات السماوية ووَصَايا الأنبِيَاء، وأيضًا لِمَا يُمكِن أن يترتَّبَ عليهِ مِن اختِلاطِ الأنسَاب، وانحِلال الأُسَر، وتفكُّك الرّوابِط، وانتِشَار الأمراض، وأيضًا، لِمَا يُسبِّبُه مِن انطماسِ بصيرَة مُرتكبه الَّذي يعدم اكتِسَاب لطافَة الفائِدة الرُّوحيَّة، “فلا يستـلذّ بِكلامِ الحقّ، ولاَ يستحلِيه، وإن كثُر تردادُهُ علَى لِسَانِه” كمَا ذكرَ الشَّيخُ الفَاضِل.
إنَّ اللائقَ بالمرأةِ الموحِّدَة، وفقًا لأدبيَّات الثِّقات، أن تكونَ عاقـلةً، رصينة، عفيفة، ذات حيَاء، صادقة، تصون كرامتَها بشجَاعة، وتتجنَّب كلَّ مَا قد يُسيء إليها من اختلاءٍ بغير محرم، أو مِن لباس غير محتشم. وتكونُ متمسِّكةً بواجباتها العائليَّة والدينية، ملتزمةً بشروط الزّواج والإنجاب والتربيَة الصَّالِحة. وفِي كلِّ حال، تكون مستشعِرةً وجُود الخالق، متشوِّقة إلَى اكتِساب المعرفَة اللطيفة لتُضيءَ سِراج سجايا الخَير فِي روحِهَا، ويكون باستِطاعتِهَا تفهُّم المعانِي السَّاميَة للتربيَة المستقيمَة.
إنَّ غايةَ الحرِّيَّة فِي المفهوم التَّوحيديّ أن يحقِّـقَ الإنسَانُ فضِيلَةَ ذاتِه بالحقّ، كمَا جاء فِي قول السيِّد المسيح “إعرفُوا الحقَّ والحقُّ يحرِّرُكُم”.
ومِنَ الأمُور الَّتي تدخُل فِي بَابِ ارتِكابِ الحَرام كلّ أنواع العلاقات الشَّاذّة كالزّواج المِثـلي، والمَساكَنة وغيره. وبالإجمال، فإنَّ الرؤيَة الأخلاقيَّة لِلموحِّدِين، مِن حيثُ هيَ مرتبطةٌ ارتِباطًا وثيقًا وضروريًّا بقاعدَة الترقِّي فِي العُلوم المُثمِرَة، واقتِبَاس اللطائف العقـليَّة السَّاميَة، واستِخدَام الجَوارح فِيمَا خُلِقَت لهُ مِن دون انزلاقٍ فِي الإفراطِ المؤذِي، والتَّـلهِّي فِيمَا يطمس بصيرة القـلب، كلّ ذَلِكَ يُسهِمُ فِي تحدِيد الموقف أيضًا مِن أمُورٍ متعدِّدَة منهَا عدم الاحتشام في اختِيار الأزيَاء والألبِسَة، خصُوصًا عندَ النِّسَاء، ومِنهَا الاختِلاء بينَ الجِنسَين مع عدم وجُود محرم، ومِنهَا أيضًا الموقف مِنَ القَضايَا المندرجَة تحت عنوان “الأخلاق الطبِّيَّة” مثل الإجهَاض، والموت الرَّحيم، والاستِنسَاخ وما شَاكَل، وكلّهَا تُعتبَر دخُولاً فِي بابٍ من أبوابِ الحرام.
أمّا في ما يتعلَّق بالأولاد، فإن نسبَهُم يعُود إلى والدِهم، ويُنسب الولدُ إلى والدَيهِ المتزَوِّجين زواجاً شرعيّاً. أمّا فكرة التبني فقد تمَّ رفضهَا فِي أوساطِ الموحِّدِينَ الدّروز، لما يُمكِن أن يترتَّبُ عنهَا من مشَاكل أسريَّة.

المخدِّرات
المخدّرات آفَة محرَّمَة لِما تسبِّبُهُ من أضرار صحيَّة وعقـليَّة وروحيَّة وأدبيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة، والرَّسول  يقول: “لا ضَرر ولا ضِرار”، لذلك تحرّم المخدّرات بمشتقاتها، بقاعدة دفع الشرّ وصدّ ذرائع الفساد.
يَستشعِرُ العدِيد من مؤسَّسات المجتمعِ المدنيِّ أخطار هذه الآفَة المتفشِّيَة فِي المجتمَعَات المُعاصِرة، ويعبِّرُ أهلُ الاختِصَاص عَن المدى الخطِر الَّذي تستحضِره المُشكلة، وكمَا يقولُ أحدُهم: “إنّ المخدِّرات تهلك الأرواح والمجتمعات، وتقوِّض التنمية البشريَّة المستدامة وتولِّدُ الإجرام، وهي تمسّ جميعَ قطاعات المجتمع في كلّ البلدان مؤثّرة على وجه الخصوص في حرّية ونموّ الشباب الذين يمثّلون أغلى ثروة يملكها العالم… ليس للمشكلة بُعدٌ شخصيّ بل أيضًا أبعاد اقتصاديَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة وسياسيَّة بحيث يُصبحُ تنفيذ استراتيجيَّة خلق ثقافة مضادّة للمخدِّرات جزءًا لا يتجزّأ من تنفيذ الاستراتيجيّات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة والصحّيّة والثقافيَّة.”
عُقدَت العديد منَ المؤتمَرات الإسلاميَّة لمعالجَة تحدِّيات هذه الآفّة. وَتمحورت مقرراتها حول مفاهيم إصلاح نظام التعليم والتربية، ودعوة الأسرة إلى النهوض بواجبها، ورعاية الشباب، وإنشاء مركز علمي دولي للأبحاث وما إلى ذلك، وَصعَّدت اللهجة لدى حديثها عن المهرّبين والمروِّجين والمتاجرين مطالبة بتوقيع أقصى العقوبات عليهم.
وفي الرؤيَة الأخلاقيَّة التَّوحيديَّة، يُعتبَر العقلُ والجسَدُ مِن نِعَم الله الكُبرَى، لِذلِك كان واجب الحفاظ علَى سلامتهما منَ الفَرائِض اللازمَة، لارتِبَاط ذلك بصحَّة المسلك ذاته. إنَّ مَا يؤذِي العقل بالتشويش عليه، وبتعمُّدِ تعطيل حركتِه الفِكريَّة، وقدرتِه علَى الاستنباط والتحليل، لَهُو أمرٌ لا يقرّهُ دِينٌ، ولاَ يسلِّم بهِ قانُون. كذلِك، فإنَّ تـلويثَ بيئَة الجسَد بفِعل استِخدام المواد المخدِّرَة هوَ هدمٌ للنِّعمَةِ المُعطاة للإنسَان، وتدميرٌ لمستقبل الحياةِ، والارتِمَاء فِي هَاويَةٍ لاَ يسلمُ مِنهَا إلاَّ ما رحم الله عزَّ وجلّ. وفِي كلِّ حَال، فإنَّ هذه المسألة تتطلَّب تضافُر جُهود الجميع لدرء خطرهَا، والحدّ من انتشارِهَا، ورعايَة ضحاياهَا بردِّهِم إلَى الثِّقَة بالحياة، والاقتِصَاص منَ المُتاجِرين بهَا بما يصون المجتمع مِن شرِّهِم.

التّدخيـن
مضار التدخين (وإدمان النارجيلة) يتفاقَم فِي ناحيتين: إتلاف الجِسم وإسقامه، وذهابه بالمال وإهداره. وبما أنه منَ الثَّابت علمياً وطبياً بما لا يدع مجالاً للشك وقوع ضرر التدخين بالنفس والمال، وقد جعلهما الله وديعتين عند كل إنسان، فإن المسؤولية بين يدي الله تعالى عنهما يوم لقائه مسؤولية كبرى.

الأمور الاجتماعية
أما في ما يتعلق بالأمور الاجتماعية، فإن تاريخ وتراث هذه الطائفة الشريفة هو خير شاهد على مدى تأصل أبناء طائفة الموحدين الدروز بالعادات والتقاليد والتراث العريق والقيم الإنسانية النبيلة. هذه القيم لا تتبدل في زمان أو مكان سواء في التاريخ القديم أو الحضارات المعاصرة.
وقد شدَّدت تعاليمُ الموحِّدين وأدبيّاتهم على ضرورة الامتثال بالمثال الأخلاقي، والالتزام بالفضيلة مسلكياً وعملياً، وبالتالي اجتناب الكثير من الأفعال والأقوال المنافية للأخلاق والقيم والآداب الإنسانية: كالقتل (الجائز منه الدفاع عن العِرض والنفس والمال)، والانتحار، والسرقة، وشهادة الزور، والظلم (البغي)، والغيبة، والنميمة، والخيانة، والتجسّس، والرشوة، والغش، والرياء، والفحش، والغدر، والكذب، والتعصب، والحسد، والربا، وارتكاب الذنوب، والتعدي على مال اليتيم، والتعدي على مال الأوقاف، كلها أمور محرّمة عند الموحدين الدروز عملاً بحدود الدِّين الحَنيف.
أما في موضوع وهب الأعضاء، فإنّه يُترك للموحِّد اتخاذ القرار المناسب من خلال قاعدة التخيير في الأعمال وقاعدة اكتساب الخير والشر من خلال جوارح الإنسان، وبعد الاطّلاع علَى توصِيَات المؤتمرات الطبيَّة الشّرعيَّة استئناسًا وتبصّرًا.
الإيصاء والإرث
قالَ اللهُ سبحانه وتعالى في كتابِه العزيز كُتِبَ عَلَيكُم إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوتُ إِن تَرَكَ خَيرًا الوَصِيَّةُ لِلوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ بِالمَعرُوفِ حَقًّا عَلَى المُتَّقِينَ (سورة البقرة 180).
إنَّ الموحدين الدروز انطلاقاً من هذه الآية يرون أنَّ الوصيَّةَ واجبةٌ على كل مُوحِّد، ويتميَّزون في حريَّة الإيصَاء وفقاً لقاعدة التخيير في الأعمال.
فِي حال عدم وجود وصية، يُعتمد في توزيع الإرث على المذهب الحنفي. وقد نصَّت المادة171 من قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدّروز الصادر بتاريخ 24 شباط 1948 علَى مَا يلي: “إنَّه في جميع المسائل الداخلة في اختصاص قاضي المذهب والتي لم يرد عليها نصٌّ خاص في هذا القانون يُطبِّق القاضي المُشار إليه أحكام الشَّرع الإسلامي، المذهب الحنفي، وجميع النصوص القانونية التي لا تتعارض مع الشَّرع الإسلامي”.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الفصل السابع: البُعدُ الإنسانيّ الكونيّ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الحقيقةُ هيَ مِرآةُ الموحِّد في غايةِ القصْد. لِذا، فإنَّ قـلبَهُ ولِسانَهُ وجميعَ جوارحِه متَّحِدَةٌ في انسِجام لطيف لا تشوِّشُ عليهِ التباسَات المُركَّب. والتَّركيب يتأتَّى مِن التناقض الناتِج عن الفرق بين مضامين العِلم وَواقع الأفعال، واختِلاف النَّوايا عَن ظاهر المَسالِك، والرّكون إلى نسبيّة الرؤية من أجل أن يصِيرَ ثوبُ الحَقيقةِ على قِياسٍ خاص. فلا عجبَ إذن أن يكونَ الصِّدقُ سيِّدَ الخِصال الحَمِيدة المَطلوبَة، وحُسن الخُلُق قاعِدة أساسيَّة لتهذِيب الأخلاق، وتصفيَة القـلب، واكتساب المزايا الشَّريفة.
المُوحِّدُ تعلَّمَ بعقله وقلبه وحسه أن يميِّز ويتفهَّمَ الفضِيلَةَ ويثقَ بهَا مِن حيثُ أنَّ بِهَا وحدها تتحقَّق وحدةُ النَّفس المتَّزنَة الَّتي بهَا يكونُ الإنسانُ إنسَانًا بالمَعنى الأسمَى المتعلِّق بالغَايةِ مِن وجوده. وإنَّ من شأنِ هذَا التحقُّق الأشرَف أن يهبَهُ قوة الإدراك، والوعيَ، والرّزانَةَ، وسكون الرُّوح المطمئنة، والاستِقرار الداخليّ الَّذي هوَ حَاجَةٌ عزيزَة فِي قـلبِ عالَمٍ مُتأرجِح يعبُر أكثر عصُوره اضطرابًا والتبَاسًا ونزوعًا مُقـلِقًا نحوَ دوّامةِ النَّزَق واللجَاجةِ وتهافُت الغرائز. يُدرِكُ المُوحِّدُ سرَّ النِّعمَةِ والفَضل فِيمَن أتَى يُزَكِّيهِم ويُعلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكمةَ (آل عمران 164)، ويوقِـنُ بأنَّ مَن يُؤتَ الحِكمةَ فَقد أُوتِيَ خَيرًا كثيرًا (البقرة 269)، لِذَلِك، فهُوَ لا يفوِّتُ فرصَةَ التَّعـلُّم، وطَلَب الفائِدَة، واكتِسَاب المَعرفَة، لا لمُجرَّدِ أخذ العِلم، بَل لاستِدراك الأمر الإنسَانيّ المُلِحّ، والتَّحلِّي بِخصَال الخَير الَّتي تُنير القـلبَ والعقـلَ، وتأخذ بِيدِ الإنسَان بكلِّ عَطفٍ وحُبّ فِي أيِّ مكان وزمَن، الَّذي إنْ خذلته مَصاعبُ الحيَاة، وأوحشتهُ الأكدار، ونغَّصَت عليه عيشَهُ الهُمُوم، فلسَوفَ يجدُ فِي فَائِدةِ تِلك الخِصَال ملاذَه وسنَدَهُ وسبيلَ الخَلاص.
تمثِّـلُ حركةُ الإفادَة والاستفادَة فِي المعرفَة التوحيديَّة أصلاً راسِخًا من أصُول المسلك الصَّحيح، حيث أنَّ التَّعلِيمَ المُثمِر ينمو بالتربيَة الحسنة والمُذاكَرة وحُسن الرِّعايَة. إنَّ فِي صمِيم غاياتِ التَّربيَة بِشكل عام، إنضاج الشَّخصيَّة الإنسَانيَّة السَّويَّة المُتمكِّنَةِ بقوَّة سجاياها الخَيِّرة من مواجَهَة مخاطِر وقوع الأبناء الأعزَّاء في مزالِق الابتذال، والسطحيَّة، وضعف التَّدبير، وفقدان التَّمييز بين ما هوَ خيرٌ، ومَا هوَ مُؤذٍ وضار.
يقولُ الأميرُ السيِّدُ (ق) فِي رسالةٍ لهُ لأحد الأفاضِل مَا معناه أنْ ليسَ ثَمَّ غُربَة إلاَّ بالحُجبَةِ عن الحقّ، لأنَّ المُحِقِّينَ غُربتُهُم هيَ حُجبتُهُم عن اقتِباسِ أنوار الحَقيقَة، فالغُربَة هي الانقِطاعُ عن مَعرفَةِ الله، والانصِرَافُ عن فائِدَة العقـل، والرّكون إلَى الغَـفلة. إنَّهُ بالعَودةِ إلَى المفاهِيمِ البسيطَة الصَّادِقَة الجَوهريَّة، والسَّعي في إيقاظِ معناهَا فِي النُّفوس، لهُوَ أشرف الأعمال وأجلّها، لأنَّ انشغَالَ المَرءِ فِي تَهذيبِ نفسِه وجَوارحِه بنيَّةٍ صادِقَة، يكشِف بصيرتَهُ، ويُسدِّد عـقلَهُ، ويثبِّتُ روحَه فِي الحقّ، وهذا غايةُ الكمال الإنسَانيّ.

[/su_spoiler][/su_accordion]

التنمية الزراعية في الأرياف

التنمية الزراعية في الأرياف
فــرص حقيقيــة أم حنيــن إلــى مــاضٍ بعيــد

يُنفق الإتحاد الأوروبي مبلغ 365 مليار يورو سنوياً لدعم الزراعة في الدول الأعضاء للاتحاد، وتُصرف معظم بنود الدعم تحت عناوين «الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي ومكافحة البطالة». فالأمر بالنسبة لهذه المجموعة العريقة من الدول هو الحفاظ على استقرار العاملين في الاقتصاد الزراعي في أماكن سكنهم في المدن والبلدات الريفية، وهو ايضاً المحافظة على استمرار قدرة دول الاتحاد الـ 26 على تأمين معظم حاجاتها الغذائية من داخل أسواقها، فلا تكون مكشوفة بالتالي وفي لحظات الصراع والأزمات الكونية إلى الضغوط الخارجية (وخاصة من الحليف الأميركي) في ما يتعلق بالحاجات الغذائية الأساسية لمواطنيها.
هذا المبدأ الحيوي كان فيلسوف ملهم مثل اللبناني جبران خليل جبران قد لحظه ببساطة كلية عندما كتب في «حديقة النبي» سنة 1933:
«ويــــــلٌ لأمـــــةٍ تلـــــبس ممـــــا لا تنســـــُج، وتأكـــــلُ ممـــــا لا تـــــزرع، وتشـــــرب ممـــــا لا تعصُـــــر».
لبنان بلد الجمال، وأيقونة الطبيعة، كان عبر التاريخ يسمَّى «جبل لبنان»، أو بلاد الأرز، في إشارة لوجود شجرة الأرز السحيقة القدم في أعالي قممه. لذلك، فإن الطابع الذي يَغلُب على صورته، هو في كونه قرىً ودساكر جبلية، وأريافاً تَقطُنها المجموعات اللبنانية المتنوعة منذ مئات السنين، أي أن لبنان في الأساس ليس بلداً «مدينياً» (أي مكوّنٌ من مجموعة مدن على الطريقة اليونانية القديمة)، مع التقدير الكامل لدور مُدنه الساحلية، ومنها بيروت، التي شكلت على مرّ العصور أهم الثغور والحواضر التجارية في البحيرة المتوسطية من دون أن يعني ذلك أنها كانت مدينة مكتظة بالسكان، والدليل على ذلك أن بيروت كانت حتى الاستقلال محصورة في الحدود الإدارة الضيقة لها بينما كانت أقسام كبيرة منها وكذلك الضواحي المنبسطة حولها ما زالت تعيش على الاقتصاد الزراعي وتعتبر الممون الرئيسي لسكان المدينة في ما يحتاجونه من سلع عبر المواسم المختلفة.
وعلى الرغم من موجات النزوح الكبيرة التي حصلت من أطراف لبنان الريفية في البقاع والجنوب وعكار وجبل لبنان إلى بيروت (خصوصاً مع انفتاح باب الوظائف الحكومية بعد الاستقلال) فأنه وحتى مطلع ثمانينات القرن الماضي كان 35 % من سكان لبنان ما زالوا يعملون في الزراعة، ويعتاشون من دخلها بالكامل. لكن هذه النسبة تقلصت اليوم إلى 20 %، كما تراجع إسهام القطاع الزراعي في الناتج المحلي
إلى 6 %، علماً أن الصادرات الزراعية ما زالت تمثل نحو 17 % من مجمل الصادرات اللبنانية إلى الخارج.
وفي مطلع الثمانينات كان اللبنانيون أصبحوا يتوزعون في سكنهم مناصفةً بين المدن والقرى. أما اليوم فقد أصبح أكثر من 60 % منهم يقطنون في بيروت وضواحيها ( أو ما يسمى بـ بيروت الكبرى). وهذا التكوُّر، أو التحول الديموغرافي، خلق تشوهات في جسم الوطن، فانتفخت بعض أعضائه ونواحيه، وضعُفت أخرى. وهذا ما نراه في الاكتظاظ الهائل والمخيف الذي تشهده بيروت ومحيطها، بينما تفرغ جباله وقراه من سكانها. وبات لبنان الجديد الذي نَحلمُ به مولوداً مشوهاً يحتاج إلى عمليات تجميل، لتقويم الاعوجاج، وهذا إذا ما نجحت هذه العمليات، وإذا كان الأطباء مَهرة.

نسبة العاملين في الزراعة في لبنان تراجعت من 35 % من السكان في الثمانينات إلى 20 % وإسهام الزراعة في الناتج المحلي تراجع إلى 6 %

ماذا وقع لبنان في مرض التورم المُدُني؟
ساهمت مجموعة عوامل في إنتاج هذه المشكلة، منها الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على لبنان، وإجبار مجموعات كبيرة من أبناء الجنوب على النزوح إلى ضواحي العاصمة، ومنها أيضاً – وأبرزها- تدني دخل المزارعين اللبنانيين، بسبب عدم اهتمام الدولة بالقطاع وغياب أي سياسات فعّالة للحفاظ عليه وتطويره. وقد أدى الإهمال الرسمي المتراكم إلى إضعاف مقومات الاقتصاد الزراعي والحياة الريفية وبالتالي تدفق أبناء الأطراف إلى المدينة بحثاً عن مصدر عيش يكفي أو باب لهجرة الأبناء، أو مردود لائق. ولا ننسى أيضاً تأثير الحروب الداخلية المقيتة التي مرَّت على لبنان وساهمت في إعادة التموضع السكاني الجديد.
لقد كان لتقهقر القطاع الزراعي آثارٌ مدمرة على البُنية الاقتصادية والاجتماعية للبنان، وقد كان لهذا التقهقر أسبابه الموضوعية بالطبع مثل ازدهار الدور الوسيط للبنان ومعه قطاعا التجارة والخدمات. لكن كان يُمكن تلافي بعضاً إن لم يَكن جزءاً كبيراً من تلك النتائج لو توافرت الرؤية السليمة ثم الإرادة عند الدولة، وعند هيئات المجتمع المحلي من بلديات وجمعيات وتعاونيات، وفعاليات سياسية واقتصادية، لأن الأمر ليس مجرد تراجع قطاع ونمو قطاع آخر مكانه، بل هو مقاربة وطنية لدور لبنان، ومستقبل أبنائه وأمنهم الغذائي، واستقرارهم الاجتماعي.
لقد ساهمنا جميعاً في تدعيم نمو قطاع الخدمات على حساب تراجع قطاعي الزراعة والصناعة، فأدى ذلك إلى أن يصبح سعر المتر المربع في بعض مناطق بيروت 15000 دولار أميركي، بينما في بعض القرى ما زال ثمن المتر دون الـ 5 دولارات، وارتفعت أسعار السلع – وخاصة الغذائية – وتصاعد غلاء المعيشة الذي يتطلب مداخيل أكبر، لا تؤمنها عائدات الزراعة، خاصة وأن هذا القطاع في لبنان ما زال يدار بصورة بدائية، كما أن إنتاجه مرتفع التكلفة بسبب ضعف الفعالية ونقص التقنيات وغياب الإرشاد وسياسات الدعم المطبقة في معظم دول العالم.
إن محاولة وقف التراجع في التنمية الريفية مسؤولية وطنية، كما أن تأمين البيئة الحاضنة والملائمة للزراعة الجبلية واجب تاريخي، لن ترحمنا على التقصير فيه الأجيال القادمة.
لقد أدى عدم وجود بنية تحتية للتنمية الريفية، وخاصةً للزراعات الجبلية، إلى التدهور الحاد لهذا القطاع، وبالتالي إلى التغيير الديموغرافي غير المناسب لبنية وواقع لبنان. فشبكات الطرق ولا سيما الطرق الزراعية ما زالت في وضع بدائي، إذ يعود تاريخ تنفيذ معظمها إلى فترة الستينات من القرن الماضي، عندما كان في لبنان حوالي مئة ألف سيارة، بينما يسير على طرقاته اليوم ما لا يقل عن المليون وسبعمائة ألف سيارة. أما الكهرباء والمياه فنكاد نقول إنهما ربما كانتا متوافرتين في ذلك الوقت أكثر مما هما اليوم، بينما تتوافر الاتصالات لكن بأسعار مرتفعة. أما طريقة ريّ المزروعات فما زالت بمعظمها تشبه ما ورثناه من حقبة الأمير فخر الدين (التطويف). ولبنان اليوم لا يستطيع ان يُخزِّن أكثر من 1 % من كمية الأمطار المتساقطة على أراضيه في السنة، جراء عدم وجود سدود وبحيرات جبلية لهذه الغاية، بينما أعلن سفير الصين السابق في لبنان أمامنا في أحد اللقاءات: أنه في الصين لا تسقط نقطة مياه واحدة من السماء وتذهب إلى البحر مباشرةً دون الاستفادة منها، في الريّ أو لتوليد الكهرباء، أو للنقل بواسطة الممرات المائية، أو لتربية الأسماك.
ويستورد لبنان 80 % من حاجاته الغذائية، وفاتورة هذه الحاجات تتجاوز الـ 3 مليارات دولار أميركي سنوياً وهي إلى ازدياد، وأكثر من 75 % من مزروعاتنا بعلية (أو مطرية) بمردود منخفض، ولا يستخدم في الريّ أكثر من 700 مليون متر مكعب، بينما تقدر كمية الأمطار التي تتساقط سنوياً فوق أراضيه بنحو 8 مليارات متر مُكعب تقريباً.
لقد أدت سياسة اللامبالاة وانعدام أي خطة لدعم المزارع في الأرياف إلى هجرة المزارعين في اتجاه المدن، وهجرة الشباب في اتجاه الخارج، (1) وأوقع ذلك لبنان في مشكلة أمن غذائي بالغة تتضح مدى خطورتها عند المحطات الأمنية الصعبة – لاسيما أثناء العدوان الإسرائيلي – كما أثناء أزمات الشح الدولية التي تؤدي فوراً إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، كما هو عليه الحال اليوم.
لكن السؤال المطروح هنا هو التالي: هل التنمية الريفية، وخاصة الزراعية ما زالت ممكنة وضرورية؟ أم أنها حنين رومانسي إلى ماضٍ لن يعود.
ان اعتبار الإنتاج الزراعي، والعمل بالزراعة موضة قديمة، ثقافة مدمرة، وكارثة بكافة المقاييس على الوطن وأهله، وهذا على الرغم مما يعتري القطاع الزراعي من تشوهات، خصوصاً بسبب الملكيات الصغيرة وعدم وجود قانون واضح ومُسهل لتأجير الأراضي الزراعية، وعلى الرغم من تدني أسعار المحاصيل بسبب تفرق المزارعين وسيطرة تجار الحسبة على الدورة التسويقية، وعلى الرغم من وجود 280 ألف هكتار أراضٍ زراعية جبلية متروكة بوراً ودون استغلال زراعي، واكتساح الباطون لمناطق أخرى كما في سهول الدامور والشويفات وصيدا وصور وطرابلس، على الرغم من كل ذلك، فإن التنمية الزراعية الريفية ضرورية، وممكنة، وليست مستحيلة، ولها أبعادها الوطنية في آن.
كيف يتم ذلك؟
أولاً : مسؤولية الدولة  على الدولة اللبنانية بوزاراتها المختلفة، وخاصةً وزارة الزراعة، القيام بسلسلة خطوات لتحقيق هدف إعادة الاعتبار للزراعات الجبلية، والنهوض بالقطاع بشكلٍ عام، ومن أهم تلك الخطوات:
1. تأمين البُنى التحتية الملائمة، من الطرقات العادية والزراعية وتأهيلها، وتأمين النقل المشترك ليتمكن المزارعون وأبناؤهم من الانتقال بكلفة معقولة إلى المدينة، ولاسيما إلى الجامعات والعودة منها إلى القرى.
2. إعطاء حوافز تشجيعية في أسعار الكهرباء والهاتف (أسوة ببعض الدول الأوروبية)، كما في تخفيض الرسوم والضرائب لمدد محددة على المزارعين الذين يقطنون في قراهم، وإعطاء جوائز على كمية الإنتاج وجودته.
3. إنشاء السدود والبحيرات الجبلية وتأمين المياه للمزارعين، مجاناً أو بتكلفة تشجيعية، وإنشاء شبكات للريّ الحديث ( التنقيط).
4. تفعيل الإرشاد الزراعي (وفق خطة الوزير د. حسين الحاج حسن) وتعميمه أفقياً، وإجراء الأبحاث المتطورة بهدف استنباط أفضل سُبل إنتاجية، وزراعة أنواع ذات ميزات نسبية بحيث يمكن بيعها أو تصديرها بأرباح جيدة.
5. إصدار القوانين والتشريعات الضرورية لمواكبة العصر، خاصة قانون سلامة الغذاء، وقانون تنظيم استيراد وبيع المستحضرات الزراعية (منعاً للاستغلال) وقانون الحجر الصحي النباتي، وقانون الزراعات العضوية، وقانون أو مرسوم لتحديد مصادر الفاكهة والخضار، تسهيلاً للمراقبة. كما أن مرسوم تصنيف الأراضي الصادر في شباط من سنة 2009 بحاجة لبعض التعديلات، على وجه الخصوص لناحية إعطاء حوافز استثمارية في المناطق الجبلية في مجال الزراعة، وفق مبدأ الحفاظ على البيئة، والإلتزام بمفاهيم التنمية المستدامة، لحفظ حقوق الأجيال القادمة في الطبيعة.
6. توقيع الإتفاقيات الملائمة مع الدول العربية والأجنبية، بما يكفل مصالح الزراعة اللبنانية، خاصة وأن لبنان يستورد عشرة أضعاف ما يُصدر من المواد الغذائية، وهذا الأمر يعطيه مكانة تفاضلية في الاتفاقيات. ولا بأس من بعض الحماية الجمركية التي لا تتناقض مع مبادئ منظمة التجارة العالمية، لأن فتح الحدود على الزراعات المدعومة في الخارج يعني القبول بشكل من أشكال الإغراق . (2)
7. إعادة النظر بسياسة الدعم الحكومي لثلاثة أنواع زراعية فقط، لا تستفيد منها إلا منطقتان من لبنان، وكبار الملاكين فيهما. وهي الشمندر السكري والتبغ والقمح، بينما لبنان مشهور بالفواكه والخضار الجبلية، مثل التفاح والكرز والعنب والزيتون، والخضار، وهي متروكة من دون أي دعم.

الإهمال الرسمي المتراكم أضعف الزراعة والحياة الريفية وحفز نزوح سكان الأرياف إلى المدن وضخم البطالة والضغوط على البنى التحتية

ثانياً: دور المجتمع المحلي
إن التنمية المحلية المستدامة، لا يمكن أن تأخذ طريقها الصحيح إلى النجاح من غير أن يكون هناك دور أساسي للمواطن والهيئات المحلية المُنتخبة (البلديات) والتعاونيات والجمعيات الأخرى، وهذا الدور يمكن أن يتلخص بالتالي:
1. تعزيز مشاعر تعلُق المواطن بأرضه، وأهمية المساهمة في إعلاء شأن سمعة السلع المُنتجة محلياً، وإبراز ميزاتها على السلع المنافسة.
2. تعميم أجواء التسامح والتعاون، لما فيه خير الجميع، وخاصةً في مجال تسهيل تنظيم عمليات الري المشترك وتوزيع المياه بالتساوي، وبالعدل، ومن دون طمعٍ أو استغلال، وبالتالي الحفاظ على سلامة المشاريع المشتركة.
3. على البلديات القيام بدورها، في تشجيع الاستثمارات الزراعية، وتقديم الخدمات الضرورية للمزارعين، وتنظيم شؤونهم المشتركة، ولاسيما منع استغلالهم من قبل التجار ومُوردي الأدوية الزراعية، ومطالبة السلطات المعنية في الدولة تأمين البنى التحتية اللازمة لتطوير القطاع الزراعي.
4. إنشاء المشروعات الصغيرة التي توزع خدمات على المزارعين، وخاصة البحيرات الجبلية لتجميع مياه الأمطار وتوزيعها.
5. إن البلديات والتعاونيات مدعوة لإنشاء أسواق شعبية للمساهمة في تسويق الإنتاج، كذلك الأمر في إقامة المعارض الإنتاجية، وتقديم الجوائز لأفضل المنتجات، وذلك بهدف إعلاء قيم الإنتاج وتشجيع المزارعين الناجحين وتسليط الضوء بصورة دائمة على ميزات الإنتاج المحلي.
6. التشدّد في منع الحرائق ومكافحتها، لأنها تشكل خطراً محدقاً على الثروة الزراعية والحرجية (مثال على ذلك، أنه في 6 آب 2008 التهمت النيران 20 ألف دونم من الأراضي معظمها زراعية في قرية عيناب ومحيطها في يومٍ واحد).

تجربة البحيرات الجبلية في مرستي الشوف

في سنة 1998، وبتشجيعٍ من الاستاذ وليد بك جنبلاط، أنشأت بلدية مرستي بحيرة على أملاكها العامة – دون تغيير وجه الملكية – تتسع لـ 15 ألف متر مكعب من المياه الشتوية، قدم الحفارة للعمل النائب نعمة طعمة مجاناً، وكانت البحيرة الأولى في المنطقة، وفي السنة التالية بدأ توزيع مياهها مجاناً على المزارعين، ثم قامت البلدية بإنشاء برك أخرى حتى أصبح عددها ست برك، تمّ تمويلها من عائدات الحفر وبعض الرمول، بشفافية مطلقة، وبتكلفة تقارب ربع تكلفتها السوقية أو التجارية، وذلك بفضل العمل المجاني، وتعاون أعضاء المجلس البلدي والأهالي، وقد تكرَّم الأستاذ وليد بك جنبلاط وساهم في تقديم أنابيب للري على النقطة إلى المزارعين .
أدى هذا الأمر إلى استصلاح الأراضي المهملة، وزراعة ما يقارب الخمسين ألف شجرة – خاصة من التفاح والكرز – كما أدى إلى دخول دورة الإنتاج الزراعي مجدداً من قبل نحو مئة رب عائلة، منهم مَن يعتمد على الزراعة بشكل كامل، ومنهم مَن يعتمد على مردودها بشكل جزئي. وتقوم البلدية بتكليف أحد الأشخاص للإشراف على توزيع المياه من البحيرات من دون مقابل، إلا أن المُكَلف يسترد بعض أتعابه من المزارعين.
إن النتائج الاقتصادية والاجتماعية التي نجمت حتى اليوم، من جراء هذا المشروع يمكن إيجازها كالتالي:
– زيادة الأراضي المستصلحة على نطاقٍ واسع في البلدة، وبالتالي تغيرت معالم الطبيعة إلى اخضرار، فيه حياة، ورائحة جهدٍ ونشاط وعمل من جراء إعادة التجليل والاستصلاح.
– عودة مجموعة كبيرة من أبناء البلدة إلى العمل الزراعي، وبالتالي الإنتاجي، بعد أن كان معظمهم نسيَ هذا الأمر، ومنهم مَن كان مقيماً خارج البلدة لكنّه ونتيجة للفرص التي فتحها المشروع قرر العودة إليها.
– زاد الإنتاج الزراعي بصورة كبيرة كما قفزت العائدات المالية المحصلة من المزارعين بصورة غير مسبوقة لتصل هذه السنة إلى نحو 250 مليون ليرة لبنانية (نحو 166,000 دولار) وذلك من مبيعات الكرز فقط، ومن دون احتساب الاستهلاك المحلي، وهناك عائدات مهمة بدأ الحصول عليها من مواسم أخرى مثل التفاح وغيره.
تجدر الإشارة إلى أن هذا العائد تمّ تحقيقه من أشجار حديثة الزراعة ولم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج الاقتصادي والنضج، وهذا يعني أنه في إمكاننا أن نتوقع تضاعف العائدات المالية للزراعات التي تمّ استحداثها بفضل مشروع البحيرات الجبلية سنة بعد سنة لتصل بعد سنوات عدة إلى مبالغ ضخمة وتتحول بالتالي إلى مصدر إسناد أساسي لمعيشة قسم كبير ومتزايد من السكان.
إلا أنه في المقابل تزيد هذه المشاريع من الأعباء على العمل البلدي، كونها بحاجة إلى متابعة دائمة، إضافةً إلى الصيانة والتَفقُد المستمر لها في فصل الشتاء، وإذا كان التعاون بين الأهالي والبلدية ضرورياً للحفاظ على استمرارية هذه البحيرات، ولكن بعضاً من استخدام سلطة القانون ضروري أحياناً للحفاظ على الحد الأدنى من الانتظام في توزيع المياه بالعدل بين الجميع، وكي لا نَغرق في بحر الفوضى الذي غالباً ما أدى في حالات عديدة إلى تعثر العمل المشترك وخسارة الكثير من فوائده من قبل الجميع.

فضائل الصوم

فضائل الصوم

الصوم لغة هو الإمساك عن الشيء، فيقال صام عن الطعام أي أمسك عنه فلم يأكل، ويقال صام عن الكلام أي أمسك عنه فلم يتكلم. أمّا شرعاً، فإن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والشهوات من طلوع الفجر حتى مغيب الشمس. والصيام ركن من أركان الإسلام وقد فرض في السنة الثانية للهجرة عملاً بقوله تعالى: ” يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون”(البقرة 183)، ثم حددت الآية شهر رمضان شهراً للصوم وبينت فضل هذا الشهر: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ”(البقرة 185)، ولاحقاً اجتهد العلماء والفقهاء كثيراً حول الصوم، وعملوا على تفسيره ظاهراً وباطناً وغاية، فبعضهم رأى أنه صوم عن الأكل والشرب والشهوات فقط، والبعض اشترط النية مع الصيام بينما اعتبر بعض الصوفية الصيام صوم النفس عن الهوى والعبودية التامة لله تعالى.
رغم تنوع آراء العلماء والفقهاء والمذاهب إلا أنهم أجمعوا على أن من أهداف الصوم أن يشعر الغني والميسور بألم الجوع والعطش والحرمان فيكون دافعاً قوياً له نحو عمل الخير والزكاة والصدقة في المجتمع. ومن أهدافه أيضاً تقوية العزيمة وتدريب المؤمن على الصبر وإعانة النفس على شهواتها، فيقول الإمام الغزالي في الإحياء عن أسرار الصوم: “الحمد لله الذي أعظم على أوليائه المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه، إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجُنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وأن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة”، فنراه وضع الصوم سلاحاً للنفس يعينها على قهر شهواتها، لتستطيع بذلك التغلب على جوانبها الحيوانية والإرتقاء في معراج الإنسانية. ثم نقل عن رسول الله (ص) قوله: “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع”، وكذلك نقل عن رسول الله (ص) قوله لزوجه: “داومي قرع باب الجنة”، فقالت له:” بم يا رسول الله”، قال:”بالجوع”.
اما الإمام جعفر الصادق(ع) فيقول: “الصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع ، وفيه صفاء القلب وطهارة الجوارح وعمارة الظاهر والباطن والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء وزيادة التضرع والخشوع والبكاء والالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمة وتخفيف السيئات وتضعيف الحسنات”.
والأمير السيد جمال الدين عبدالله التنوخي يشدّد على حفظ البطن عن الشهوات والشبع دوما وليس في الشهر الفضيل فقط، فإن شهوة الطعام والشبع من محركات الشهوة ومغارسها، وحجاب للنفس عن معرفة باريها.
أما المتصوفون فيرون في الصوم معاني أبعد من صيام الأكل والشرب والشهوات، إذ يرون فيه نكرانا للذات وتقرباً من الله تعالى، وما يراه المؤمنون صياماً لله يروه هم صياماً بالله، وقد عبر الإمام القشيري عن هذا الإيمان بقوله:”من شهد الشهر صام لله، ومن شهد خالق الشهر صام بالله. فالصوم لله يوجب المثوبة، والصوم بالله يوجب القربة. والصوم لله تحقيق العبادة، والصوم بالله تصحيح الإرادة. والصوم لله صفة كل عابد، والصوم بالله نعت كل قاصد. الصوم لله قيام بالظواهر، والصوم بالله قيام بالضمائر. الصوم لله إمساك من حيث عبادات الشريعة، والصوم بالله إمساك بإشارات الحقيقة.
اما المبالغة في الصوم فهو أمر غير مستحب بحسب ما نقل من أحاديث عن الرسول (ص) وبعض صحابته، وذلك لما يسببه من ضرر على الصحة، والصحة أمانة لدى الإنسان لا يجوز التفريط بها، وقد روي أن سلمان الفارسي(ع)المشهور بورعه وزهده وتعففه زار أبا الدرداء فوجد أم الدرداء في حيرة فقال لها: “ما شأنك؟” فقالت: “إن أبا الدرداء ليست له حاجة في الدنيا، يصوم النهار ويقوم الليل”، فقال سلمان(ع) لأبي الدرداء: “ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه وبات عنده، فلما كان من آخر الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فحبسه سلمان، فلما كان الفجر قال سلمان: “قم الآن”، فقاما فصليا، فقال له سلمان: “إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك ولضيفك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه”، ولما بلغ هذا القول الى رسول الله(ص) قال: “صدق سلمان الفارسي”.

السبيل إلى التوحيـــد

مشيخـــة العقـــل تنشـــر دليـــل المهتميـــن والطالبيـــن
للتعـرُّف علـــى مرتكـــزات الإيمـــان والسلـــوك التوحيدييـــن

الحلقة الثانية

[su_accordion]

[su_spoiler title=” الفصل الثاني فرائض الإيمان التوحيدية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الفصل الثاني: فَرائِضُ الإيمان التوحيدية

غلاف كتاب السبيل إلى التوحيد

إنَّ للإيمان فرائضَ وَاجِبَات شأنُهَا تحقِيق ثمرة الطّاعَة في ذاتِ المُوحِّد في العاجلة والآجلة. وسَبَقَ أن ذكَرنا مَا علَّمهُ جِبريل للنَّاسِ، بِواسِطَةِ النبيّ ، مِن أُسُس عَقائِد الدِّين ومفتَرَضاته. لكنَّ هذِه العَقائِد تحتَاجُ إلَى أعمَال الجَوارِح، وإشغَال خواطِر الصُّدُور، فيما يَقتضِي الوصُول إلى الغَايةِ مِنهَا مِن التزامٍ بقاعِدةِ العِلمِ والعمَل والإخلاص فيهِمَا، لِكَي يَستَشعِرَ المُوَحِّدُ الصِّلةَ بِالحقّ، وتَنكَشِفَ لبَصيرَتِهِ حقائِقُ نِعَم الله، وأسرَارُ لطائِفِ مَحبَّتِه. ومن أهم الفرائض الإيمانية الواجبة:

الطَّاعَـة
هِيَ الانقِيادُ لأمرِ الله ونَهيِه في الإقبالِ والعمل بالمَعروفِ، والإدبارِ عنِ المُنكَر، وَالانشِغَال بِكلِّ مَا فِيهِ رِضى وتقرُّبٌ إلى الله تَعالَى. وَالطَّاعةُ ثمرةُ المَحبَّة، فمَن أحَبَّ الحَقَّ، انقادَت جوارحُهُ وخَواطرُهُ فِي المَسالِكِ الحميدَة، والسُّبُل المُستقِيمَة، بِهَديِ التَّعالِيمِ الشَّريفَة، والسُّنَنِ الفَاضِلَة. قَالَ عزَّ مِن قائِل وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزاً عَظِيماً (الأحزاب 71)، وَهُوَ أن يُصلِحَ باطنَهُ وقلبَهُ، فإنَّهُما مَوضعُ نَظَر الحقّ، ويُصلِحَ ظاهرَهُ بالأعمَال الطَّيِّبَة، واتِّبَاع طَرائَق الهُدَى.

العِبَادَة
هِيَ “اسمٌ يَجمَعُ كمَالَ الحُبِّ لله ونِهايتَهُ، وكَمالَ التضرّع والتذُّللِّ لله ونِهَايتَه”، لِذَلِكَ هِيَ تألِيهٌ وتَقدِيس لاَ يَستحقّهُمَا إلاَّ مَن لهُ العِزَّة والمُلك، رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدْهُ وَاصطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعلَمُ لَهُ سَمِيّاً (مريم 65)، أي أَطِعهُ بِجَسدِكَ وَنفسِكَ وَقَـلبِكَ وَسِرِّكَ ورُوحِكَ، مُتغْـذِيًا بِلطائِف العلم، ومُقتبِساً فَوائِدَ العَقـلِ مِن نُورِ الذِّكر الحَكِيم، ومآثِر أَهلِ العِفَّةِ وَالفضلِ والثِّقَة. وَلاَ تَصِحُّ العِبَادَةُ دُونَ استِشعَارٍ يَقِينيّ لله الواحِدِ المَوجُود، كمَا قالَ مَا يكُونُ مِن نَجوَى ثلاثَة إلاَّ هُوَ رَابِعُهُم وَلاَ خَمسَة إلاَّ هُوَ سَادِسُهُم وَلاَ أَدنَى مِن ذَلِك وَلاَ أَكثَر إلاَّ هُوَ مَعَهُم أَينَ مَا كَانُوا (المجادلة 7). وعن لِسانِ الإمام عليّ (ع) كمَا وردَ فِي شروح “نهج البلاغَة أنَّهُ قال: “إنَّ قوماً عبدُوا اللهَ رَغبةً، فتِلك عبادةُ التّجَّار، وإنَّ قوماً عبدُوا اللهَ رهبةً، فتلكَ عبادةُ العبِيد، وإنَّ قوماً عبدُوا اللهَ شكراً، فتلكَ عبادةُ الأحرار”.
الصَّلاة
عَدا عن كَونِها صلاة مخصُوصَةً مَوقُوتةً، بِهَا كلاَمٌ ودُعاءٌ وتسبيحٌ وركوعٌ وسجُودٌ لله، فإنَّ الصَّلاةَ فِعلٌ مِن أفعَال لَطائِف الرُّوح إذ تَتوجَّه بالتَّضرُّع والخُشوع والاستِغفَار إلى الواحِد الأحَد، ربِّ العِباد، وَغَايةِ الغَايَات. وأجمَلُ الصَّلاة هِيَ التِي تبلُغ حَدَّ الصِّلةِ باستِشعارِ الله سُبحَانَهُ وتَعالَى “كأنَّـك تَراه”، ولكِنه منزَّه لَيسَ كمِثـلِه شَيْء
(الشورى 11). وقَد جاءَ فِي الحَديثِ الشَّريف: “أقرَب مَا يَكُون العَبْدُ مِن رَبِّه إذَا سَجَد”.

النوايا الخيِّرة
النِّـيَّةُ عمَلٌ قلبيٌّ خالِص خصَّهَا الشَّرعُ بالإرادةِ المُتوجِّهَةِ نَحو الفِعل ابتغاءً لِوَجه الله، وامتِثالاً لحُكمِه. جاءَ فِي الحديث الشَّريف: “إنَّما الأعمَالُ بالنِّـيَّات، وإنَّـما لكلِّ امرئٍ مَا نَوى”. فالنِّـيَّةُ روحُ العمَل، يَصفو ويُثاب بصفائِهَا، ويخيبُ ويبور بِكَدَرهَا، لذلِكَ يقولُ السّالكون: “رُبَّ عمَلٍ صَغِير تُعظِّمُهُ النِّـيَّةُ، ورُبَّ عمَلٍ كبير تُصغِّرُهُ النِّـيَّة”.
يردِّدُ الموحِّدون الحَدِيثَ الشَّريف: “إنَّ اللهَ لاَ ينظُر إلَى أجسَادِكُم، ولاَ إلَى صُوَرِكُم، ولكِن يَنظُر إلَى قـلُوبِكُم”، ومَوضِع نَظَر ربِّ العِبَاد أولَى أن يَكُونَ نقيـّاً، بريئـاً مِن كلِّ شائبَةٍ، ليحصل التَّوفِيق، وتتحقَّـقُ الغَايةُ المرجوَّة. والثِّقات الكِبار يُدركُون مبلغ عظم صفو النيَّة، فالنَّوايَا عندَهُم قُطبُ الأعمَال وَسَابقَة لهَا، و”الأمُورُ بِمقاصِدِهَا”، ومَا مِن ميزانٍ راجحٍ فِي الخَير دُون نِيَّة طيِّبَة مَعقودَة بِه.

الفرق بين الحَلال والحَرَام
الحَلالُ هُوَ مَا أبَاحَهُ الشَّرعُ، وأمّا مَا نَهَى عنهُ وحظَّرهُ فهُوَ حَرام. إنَّهُ مِن قَواعِدِ الدِّينِ العِظَام معرفَةَ مَا هُوَ حِلّ ومَا هُوَ مُحرَّم وفقاً لِمَا رَسَمَتهُ الأصُولُ الدِّينيَّة الّتي أوحَى بِهَا اللهُ عزَّ وجَلّ. وَمَن يعدَم التَّمييز بينَهُمَا، لاِ يَستقِيمُ بهِ مَسلكٌ مُثمِر. وِيُسلِّمُ المُوَحِّدُ بحَقيقَةِ وُجُوب التِزام الحَلال فِي جُملَة أعمَالِهِ الظَّاهِرَة والبَاطِنَة، فِي سعيِهِ الحَمِيد إلَى المُحافَظَةِ علَى صفَاء القَـلبِ ونقَاءِ السَّريرَة، ويقِينُهُ أنَّ الخُبثَ يتأتَّى مِنَ الوُقُوعِ فِي الحَرَامِ لقَولِهِ تَعَالَى وَيُحِلُّ لهُمُ الطَّيّباتِ وَيُحَرِّمُ عَليهِمُ الخَبائِث (الأعراف 157).

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  الفصل الثالث التخيير في الأعمال” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الفصل الثالث: التَّخيير في الأعمال

معرفة النفس
ان النفس صفوة المخلوقات، وانها من عالم البقاء، حيّة جوهرية شفافة، عالمة عاقلة قابلة للخير، معقولة بحبائل العقل، وهي أمّارة بالسوء، عاجزة جاهلة قابلة للشر، مهددة بحبائل ابليس.
يَعتبِرُ الشُّيُوخُ الثِّقات أنَّ الأخلاقَ في الحَقيقَة هِي سَجايَا الخَير فِي ذاتِ النَّفسِ، أي في جوهَر طبيعتِهَا الكامِن، فإذَا لم يحقِّقها الإنسانُ بِالفِعل، جَنحَت النَّفسُ الأمَّارَة إلَى مَا يُضَادِدُهَا، وارتدَت ثوبَ الأخلاق المذمُومَة. أمّا إذا جهدَ المرءُ فِي تغذِية سجَايَا الخَير بِالعِلم اللطيف الشَّريف، وبِالمسَالِك العَادِلة المستقيمَة، فيَظهَر مِنها بتوفيقِ الله الأفعال الجميلَة، والأخلاقُ الرَّضِيَّة، والآداب والسَّمت القويم المتولِّدة جميعها من تلك السّجايَا “المحمودَة السَّعيدَة” كمَا سمَّاها الشَّيخُ الفَاضِل، لأنَّها “مقـرُّ الدِّين ومعدنه، ولاَ ثباتَ للدِّين إلاَّ بِهَا”.فمَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ خيراً يرهُ* ومَن يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شراً يرَه (الزلزلة 8-7).

الاجتِـنَاب والاكتِسابُ
يُنبِّهُ الشَّيخُ الفَاضِل فِي إرشَادِه الحَكِيم إلَى “أصْلٍ أَصِيل” فِي مَسلكِ الطَّاعَة، وهُو “أنَّ العِبادَةَ شَطرَان، شطرُ الاجتِـنَاب وشطرُ الاكتِسَاب، فالاكتِسَابُ فِعلُ الطّاعَات، والاجتِنَابُ الامتِنَاعُ عن المَعَاصِي والسيِّئَات، وهُوَ التَّقوَى. وأنَّ شطرَ الاجتِـنَابِ أسلَم وأصلَح وأفضَل وأشرَف لِلعَبدِ مِن شطر الاكتِساب. ويَشتغِلُ أولُو البصَائِر مِنَ أهلِ العِبَادَة بِشطر الاجتِـنَاب، إنَّما همَّتُهُم أن يَحفَظوا قلوبَهُم عنِ المَيلِ إلَى غَير الله، وبطُونَهُم عنِ الفُضُول، وألسِنتَهُم عنِ اللَّغـو، وأعيُنَهُم عنِ النَّظَر إلَى مَا لاَ يعنيهم.” ويؤكِّدُ الشَّيخُ الفَاضِل أنَّ حصُولَ الشَّطرَين فِيهِ استِكمَالُ الأمر، وبلوغُ المراد، وتحقِيقُ السَّلامَة وَالفَلاَح.

الأمر بالمَعروف والنَّهي عن المُنكَر
تكرَّر أمرُ البَارِي تعالَى فِي العَدِيد مِن آياتِ الكِتَابِ الكَريم اسْجُدُوا لآدَم (البقرة 34)، “فكأنَّهُ تَعالَى، لمّا خلقَهُ بحيث يكونُ نَموذجاً للمُبدَعاتِ كلِّها بَل المَوجُودَات بِأسرِها، ونُسخةً لِما فِي العالَمِ الرُّوحانِيّ والجِسمانيّ، أمرَهُم بالسُّجود تذلُّلاً لِما رَأوا فيه مِن عظيمِ قدرتِه، وبَاهِر آياتِه، وَشكراً لِمَا أنعمَ عَليهِم بِواسِطَتِه”(البيضاوي). فسَجدوا إلاَّ إبليسَ أبَى واستكبرَ (البقرة 34)، وَيَصِفُ المُوَحِّدُون عِصيَانَ الأمرِ هذا بالمُضَادَدة، ويردُّوه إلى اختلافٍ جوهريٍّ في الطِّباع هُوَ فِي أسَاسِ التَّميِيز بينَ الخَير وَالشَّرّ، وَبَينَ المَحمُود وَالمَذمُوم، وَبَينَ المَعرُوف وَالمُنكَر، وَبمَعنَى أعمّ، بَينَ التَّوحِيد وَالشِّرك.
الضِّدِّيَّةُ هَذِه، جَسَّدَهَا إبليسُ بالخُبثِ والبُعدِ عنِ الحَقّ، وعَدَم الامتِثَال لأمر الله عزَّ وجلّ، وَمِن طَبعِه، فِي بَعضِ مَا وُصِفَ بهِ في الكتابِ العزيز، الأمرُ بالفحشاء والتضليل والكَيْد والوسوَسَة والإغواء والمعصية والفِتـنة ومَا شاكَل ذلك، لِهذَا كانَ الشَّيطانُ للإنسَانِ خَذولا (الفرقان 29)، أيْ “يخـذُلُه عنِ الحَقّ، ويَصرِفُه عنه، ويستعـمِلُه في الباطل، ويَدعُـوه إلَيه” (ابن كثير) وَ”يُواليه حَتَّى يُؤدّيه إلَى الهَلاك ثم يتركه ولا ينفعه” (البيضاوي).
إنَّ طبيعَةَ العَقـلِ المُتَّصِل بالحَقائِق اللطِيفَة هِيَ طبيعةٌ حَاكِمَة، فِي حِين أنَّهُ يَتوجَّب علَى النَّفسِ الأمّارَةِ الجَامِحَةِ عَن طَريقِ الحَقّ أن تَكونَ مَحكُومَة، ليَستَقيمَ مسلكُ الإنسانِ فِي طَريقِ الفضِيلَة. وقد مثَّـل أحدُ الحُكَمَاء العقـلَ بقَائدِ العَربَة الَّتي يقودُها جَوادَان. فَالعَربَةُ هِيَ الجِسمُ، والجَوادان أحدهُمَا قوّةُ الغَضَب، والآخَر قوَّةُ الشَّهوَة، فإذَا جَمَحَا وعَصَيَا القَائِد الَّذي هوَ العقل، ابتَعَدتِ العرَبَةُ عنِ الوُصُولِ إلَى غَايَةِ الطَّريق، وجَنَحَت عنِ السَّبيلِ السَّويّ وُصُولاً إلَى مَا لا تُحمَد عُقبَاه، ألاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِين (الزمر 15). وكَفَى بِالعَقـلِ نَاصِحًا أنَّهُ المُوضِحُ سبيلَ الحقّ، وقد قال الإمامُ عليّ (ع) فِي هذَا المعنَى: “كَفاكَ مِن عَقـلِكَ ما أوْضَحَ لَكَ سُبُلَ غَيّـكَ مِن رُشْدِكَ”.

العِلمُ والعَمَل
يُردِّدُ الشّيُوخُ الثِّقات قولاً راسِخاً فِي عُقولِهِم باعتِبَاره حِكمَة بالِغَة فِي محلّ أدقّ النَّصائِح وألطفها: “عِلمٌ بِلا عمَلٍ عقِيم، وعمَلٌ بِلا عِلمٍ سَقِيم، وعِلمٌ وعَمَلٌ صِراطٌ مُستقِيم”. إنَّ واجِبَ الارتِبَاط الجوهريّ بينَ العِلم والعمَل هوَ قاعِدَة ضَروريَّة فِي قـلبِ المَسلك السَّلِيم مِن آفاتِ الغَـفلةِ الباطِنَة. ذكر الأمير السيد(ق) في إحدى رسائله “أجهلُ النَّاس مَن تركَ العَمَلَ بِمَا يَعلم، وَأعلمُ النَّاس مَن عَمِل بِمَا يَعلم، وَالحُكمُ جَازِمٌ بِأنّ العالِمَ إذَا لَم يَعمَلْ بِعِلمِه فليسَ بِعالِم.” كذَلِكَ، فإنَّ الشَّيخَ الفَاضِل حذَّرَ مِن خُطورَةِ العِلم وإثمِهِ الكبير إذَا لم يقتَرن بالعَمَل والإخلاص فِيه لله تَعَالَى، وقال الإمام علي (ع) ان لسان العلم يعبر عن الحلال والحرام والحدود والاحكام، وهو زين المؤمن وفضيلته (ختم الانبياء). وقالَ عن أحدِ الحُكمَاء ناصِحاً:” لِيكُن طلبُ العِلم طلبَ دِرَاية لاَ طَلب روَاية، فمَن طلبَ العِلمَ ليَصرِف بهِ وُجُوهَ النَّاس إلَيه، أوْ يُجالِس بهِ الأُمَراء، وَيُباهِي بهِ النُّظرَاء، أو يَتصيَّد بهِ الحُطامَ، فتِجارتُه بَائِرة، وَصفقـتُهُ خَاسِرة.” ومِن نَصَائح أصحَابِ الفَضل فِي تفضِيل العمَل الصَّالِح علَى كلِّ شيءٍ سواه، قولُهم: “قـلِيلٌ مِنَ العِلم مَع العَمَل بِه، خَيرٌ مِنَ الكَثِير مِنهُ مَع عَدَم العمَل به”.

الدنيا دار مَمَر لا دار مُستَقر
إنَّ الله سبحانه وتعالى أوجَدَ الدّنيا كاملة النظام لإرادة له فيها، هي الإنسان، لإرادة له منه. وقد جعلها في ظاهرهَا محبوبة مطلوبة، موهوبة مسلوبة، وجعل فيها مَسَالك ومَهَالك، كما جعل لها طرقاً شتى منها ما يُحمد، ومِنهَا مَا يُذمّ. والإنسَان محتاجٌ إلَى الدّنيا ولا غنى له عنها، فيها غذاء جسده وتمام قصده، وجعل الفوز في تجاوز عقباتها.
هَذه الدُّنيَا وُصِفَت فِي الكِتابِ الكريم بأنَّها ليسَت إلاّ مَتاعُ الغُرُور (الحديد 20) لأنَّها “مُعَرَّضَةٌ للزَّوال، غيرُ لابِثةٍ ولا ماكِثـة، فَمَن طلَبَها لِذاتها قَسَا قـلبُه، وصَدِئت مِرآةُ بصيرتِه، والتَبَست في خَواطِره معالِمُ التَّمييز بينَ موجِبات اكتِسابِ الفضيلة مِن جانِب، وبَينَ متطلِّبات المصالِح الأنانية مِن جانبٍ آخَر. ومَن سعَى فيهَا فِي الحَلال، وجَعلَ فرصتَهَا وَسيلةً لبَذل الخَير، واقتِناء الزَّاد، ونفع النَّاس بالمعرُوف، فإنَّهُ بها وفيها ومنها يَسعد السّعادة الكُبرى، ويَتَـبَوَّأ مقعدَهُ منَ النّـعيم في الدّار الأُخرى، لأنَّه جَعَلهَا سبيلَ الجَـنَّة، ومِضمارَ السِّباق، وميدانَ اللِّحاق، ومَتْجرَ الاكتساب، وشِعارَ ذَوي الألباب، ومَوْقفَ العِلم، ومُـدَّةَ العَمَل، وَبَدْوَ الثَّواب، وفرْصةَ ذَوي الهِـمَّة، وبَيتَ الاجتِهَاد، ومحَلَّ التّقوى.

التَّـوبَة
قالَ عَزَّ مِن قائِل فأَقِم وَجهَكَ لِلدِّين حَنيفًا فِطرةَ الله الَّتي فَطَر النَّاسَ علَيها (الروم 30)، أي أخلِص قصدَكَ لله، واحفَظ عهدَك مع الله، واقبِل إليهِ واستقِم لأنَّهُ سُبحَانَهُ وتَعالَى أوجَدَ الخَلق وفِي طبيعتِهِم الإنسَانيَّة القُدرة علَى قبول الحقّ، وَالمَكِنَة مِن إدراكِه، والتَّهيُّوء العَادِل ليكونَ مِن جُملَةِ الَّذينَ يُوفُونَ بِعهدِ الله ولاَ يَنقُضُونَ المِيثاق
(الرعد 20)، وهُوَ “مَا عقدُوهُ علَى أنفُسِهِم منَ الاعتِرافِ بربُوبيَّتِه حينَ قالوا بلى، أو مَا عهدَ اللهُ تعَالَى عليهِم فِي كُتُبِه” (البيضاوي).
إنَّ ارتِكابَ الذّنُوب والآثَام يُورِثُ فاعلَهُ العَجزَ عَن دَركِ العِبادة، ويُصيِّرُهُ عَرَضاً مِن عَالَم الحِسِّ والهَوَى، ويُخرِجُهُ مِن غَايَات المَعَانِي، ويُبعِدُهُ عنْ كَنَف الأُنس بِالخَيراتِ المعنويَّة إلَى وَحشةِ الحيْـرَة والتكلُّف كما أوضحه الأمير السيد (ق) بأفصح العبارات. لِذَلِك، كانتِ التَّوبَةُ بَاباً مِن أبوابِ رحمَة الله الَّتي وسِعَت كلَّ شيء، بَل مِن الأبوابِ إلى مَحبَّتِه كمَا قالَ تعَالَى إنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتطَهِّرِين(البقرة 222).
والتَّوبُة هُي تركُ الذَّنب علَى أجمَل الوُجُوه، يعنِي بالاعتِرافِ والنَّدَم والإقلاع. والتَّوبةُ كمَا وردَ فِي الحدِيثِ الشَّريف: “أن تبدلَ بدَل الجَهل العِلم، وبدَل النِّسيَان الذِّكر، وبدَل المَعصِيَة الطَّاعَة”. وَهِيَ الرُّجُوع عنِ المَذمُومَات فِي الشَّرع إلَى المَحمودَات فِيه، أي مِنَ المخالفَة إلَى الموافقَة، ومِنَ الطَّبع إلَى الشَّرع، ومِن الغَـفلَةِ عنِ الحقّ إلَى السَّعي فِيه، قبُولاً لأمر إلَه العَالمِين فِي قوله يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى الله توبةً نَصُوحا (التحريم 8)، والتَّوبة النَّصُوح هِيَ تَوثيقُ العَزمِ علَى ألاَّ يعُود بمِثـلِهِ، وَهِيَ “مِن أعمَال القـلب، يعنِي تنزِيه القَـلب عنِ الذُّنُوب، وعلامتُهَا أن يكرهَ العبدُ المَعصِيَة ويستقبِحَهَا، فلاَ تخطُر علَى بالهِ، ولاَ ترِدُ فِي خَاطِرهِ أصلاً (التهانوي).

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الفصل الرابع المسلك الروحاني البسيط  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الفصل الرابع
المسلك الروحاني البسيط

الصِّدق
يعتبِرُ المُوحِّدونَ أنَّ الصِّدقَ هـوَ “عمادُ الأمر، وبهِ تمَامُه”، قالَ تَعَالَى يَا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّـقوا اللهَ وكُونُوا معَ الصّادِقين
(التوبة 119)، قِيل: همُ الَّذينَ اسْتوَت ظَواهِرُهُم معَ بَواطِنِهم. والمَعنَى الأشمَل للصِّدقِ عندَهُم هوَ التَّصدِيقُ بِخَالِقِ الكَون الأحد، وبأصفِيائه الأنبياء، وبِرسَالاتِهِم التَّوحِيديَّة، وبِاليَومِ الآخِر، وبِأنَّ الخَيرَ غايةُ الكَون، وبأنَّ الحقَّ هوَ الغَرَضُ مِن خَلقِ الإنسَان، وبأنَّ السَّعيَ فِي تحقِيقِ خِصَالِ الخَير هوَ السَّبيلُ إلى رِضَى الله حيثُ السَّعادة الَّتي هيَ الثَّواب الأعظَم. لِذَلكَ، يَكُون الثَّباتُ فِي قَولِ الصِّدق ثَمرةَ حُسن الاعتِقادِ، وصَفاء القَـلب، ونقاء النيَّة، وَالرَسُوخ الحمِيد في استِكناه معنَى الفَضيلَة والالتِزام بموجِباتِهَا.
تنعقـدُ أمورُ المَسلك عندَ الموحِّدِين بالصِّدق، فهُو كالنَّواةِ التي لاَ يصِحُّ دون صَلاحِها دِين. لِذلِك، تـزخَرُ الآثارُ الوَعـظيَّةُ لثِقاتِ المُوحِّدِين بالحَثِّ علَى إيلاءِ أَمر الصِّدق فِي الأقوال والأفعَال العنايَة القصوَى. والصَّادِق عندَ الشَّيخ الفَاضِل هوَ المُتَّقِي الَّذي إذا قالَ قالَ لله، وإذا عمِلَ عمِلَ لله، فِي السِّرّ، أي فِي أعمال القـلب، ونقاء السِّرِّ وصفاه، وفِي العلانيَة، وهوَ مَا يَظهَر مِن أفعال الجَوارح.
تَهذِيبُ الأخلاق واستِشعَار الخلاَّق
التَّسليمُ عند الأمير السيد (ق) هُـوَ الفِعـلُ الَّذِي يُقدِمُ عَليهِ المَرءُ بَعدَ الرِّضى بِعَهدِ الله المُتمثِّـل بِحُسنِ الاعتِقاد، وَقواعِـد الأمر والنَّهي الدِّينيَّة. وبَعدَ أنْ يُؤَكِّدَ علَى أنَّ أوَّلَ المَواجِب اللازِمَة علَى السَّالِك المُريدِ هُـوَ مَعرفَةُ النَّفس مَدخلاً إلى السَّبيلِ القائِد إلَى تحقِيق الفَضِيلةِ والثَّبَات، يُحَدِّدُ القَاعِدةَ الَّتي هِيَ “الينبُوع الأعظَم” لِفِعلِ الطّاعات، وَالَّتِي اعتبرَهَا الشَّيخُ الفَاضِلُ أنَّهَا “أسَاسُ الخَيْر كلّه”، وهِي “تَهذِيبُ الأخلاَق واستِشعَار الخلاَّق”.
وأسْمَى الأفعَال الأخلاقيَّة عندَ الموحِّدين هِي الفَضل، أي بذل الخَير والإحسَان وَالمَعرُوف لِوَجه الله بِخالِص النِّيَّة، وأصلُ الفَضل هُو بِيَدِ الله يُؤتِيهِ مَن يَشَاء (آل عمران 73). وَالشَّرَف وهُوَ فِي المَعنى المسلَكيّ سُموّ وارتِقَـاء عَنِ الغَايَات الدّنيويَّة إلَى التّعلّق بالفَضيلَة ومُوجِبات تَحقِيقها فِي القـلب. والعَفاف وهُوَ الكفُّ عمَّا لاَ يَحِلُّ، وَعنِ طَلب الحُظوظِ، وضبْطُ النَّفسِ عنِ النّزوع إلَى شَهوَاتِهَا، واجتـِناب السَّرَف، وقَصد الاعتِدَال.
والبَابُ الأعدَل لتهذِيب الأخلاق هُوَ التَّقوىَ، لأنَّ “فِيهَا جَمَاعُ الخَير كلّه” كمَا وردَ فِي آثار الشَّيخ الفاضِل، الَّذي عدَّد الشّروط الواجِبَة علَى كلِّ مَن أرادَ الخَير، ومِنهَا: معرفَة الفَرائض الإلهيَّة، والمَواجِب الدِّينيَّة، وحُسن المُعامَلة، وحُسن الخُلُق، وترك الزِّينَة والتَّكبُّر والحَسَد والغِيبَة والنَّمِيمَة، والتَّحرّز مِن حبِّ المَجد والجَاه وطلَب الرِّئاسَة.

إنَّمَا المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ
الأُخوَّةُ الرّوحيَّة تَرعَاهَا آدابُ الدِّين وأوامرُه ونوَاهيه، وهِيَ حقولُ المسَالكِ الَّتي يُعبِّـرُ بِهَا الموحِّدُ عَن مدَى ارْتِبَاطِ آثار العَقـل، الَّتي هيَ هُنَا عُلومُ الدِّين اللطِيفَة، بِالنَّفس ومَا تُظهِرُهُ مِن أعمال، ذَلكَ أنَّ عِلاقةَ المُؤمنِ بأخِيه المؤمِن تتطـلَّبُ حِفظ العُهُود، وصِيانة الذِّمَم، ومواظَبَة الخِدمَة، وقضَاء الحَوائج، ومَحض المَحبَّة، والذَّبّ عـنهُ بِالمَال واليَدِ واللِّسَان، وإدراك المِيزَة بمِيزان العِلمِ والعمَل والعِفَّةِ عنِ الزَّلل. كمَا تتطلَّب إسْدَاء النُّصح، والتنزُّه عنِ الغِيبَةِ والنَّمِيمَة، ومعرفَة مَنزلة المُفِيد الفَاضِل لاستِدراكِ حُسن الاقتِداء والمُشابَهَة لِقولِه “المؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِن”.
لِهَذا، يرتَقي المُوحِّدُونَ بِمَعنَى الأخُوَّة إلَى حَدِّ اعتِبارهَا امتِحَاناً حقيقيّاً لمَدَى تزكِية النَّفس، واختِبَاراً حَاسِماً لِمدَى انطِبَاق الأفعَال النَّاجِزَة علَى الأقوَال الواعِدَة.

التـربية
يُعرَّفُ مفهومُ الزواج عندَ إجراء العقد وفق طقوس الموحِّدين بأنَّهُ “سُنَّةٌ من سُنن الأنبياء، وشِرعةٌ من شرائع البقاء، وصونٌ عن الفحشاء، ووقايةٌ من ربِّ الأرض والسماء.
يقول الأميرُ السيِّدُ (ق) إنَّ طريقَ الزواج ركنٌ عظيمٌ في الدِّين، قاعدته الرِّضى، وغايته الائتلاف. وهذا أمر تأسيسيّ لنواة المجتمع الأولى: الأسرة. ولا يؤسِّسُ العاقـلُ صورةَ حياته ومستقبلها فوق جُرْف هار، وإنَّما على بيِّنةٍ راسخةٍ من حسن التدبير، وأهمّها الوعي ووَحدة القـلب والعقل معاً.
إنَّ تثبيت أواصر الكَنف العائلي بالألُفة والتفهُّم والتفاهُم وتبادُل العلاقات الواعية، وتوفير الأجواء الهادِئَة والرَّشيدة داخل حرمة البيت الأسري ومَا شابهها من أمور، من شأنِه أن يوطِّد أسُس التربية السّليمة التي تسهِم في بناء شخصيَّة إنسانيَّة مستقرَّة وقادرة لاحقاً على مجابهَة تحدّيات الحياة العمليَّة والفكريَّة وتطوّرها الرّوحِي المستقيم لتجنب مخاطر الفساد مهما بلغت نظريات التطور العلمي والتقني على كافة المستويات.
لقد أوصَى الأفاضل الثِّقات بتعليم الأبناء منذ بدو نشوهم قول بِسْم الله الرَّحمَن الرَّحِيم لدى المباشرة بأي عمل، ومثـله قول الحمدُ لله ربّ العالَمين لدَى الانتِهاء مِنه بداية لطريق الهداية والارشاد. إنَّ اكتِسابَ هذه العَادَة الجلِيلة، وما يتبعها من التَّذكير الدائم برِفعَة المسلك الخُلقي الحميد، يزرع في النّفوس وفِي القـلوب بذورَ الاستِشعار، ويفتَح البَابَ لِسوانِح البَركَة والتَّوفيق، ويُكسِب النفس سجايا الخَير والحياء والأدب، فلا تنزلق بسهولة، عند أولى التجارب، فِي التشبّه بمَعشر السوء، والتعلق برغباتٍ مُفسِدة للمروءة، وهادِمَة لطريق بناء المستقبل كما قال تعالى في كتابه الكريم:
انما اموالكم واولادكم فتنة (سورة التغابن 15) والمقصود هنا الولد العاق والمال الذي جُمع من الحرام.
إنَّ التربية العائليَّة الرَّشيدة، هي الكنف الأوّل الحاضِن للنفوس اليانِعَة لأبنائِنا الأعزّاء الأحبّاء، وَهيَ التي تبني المَداميك الراسخة الصلبة لكيانهم الإنساني، وهيَ التي تُمهِّد السُّبُل لفُسحَة العقـل عند النّضوج، لفَهم المسائِل الكُبرى المتعلِّقَة بمَصِير الإنسَان ومثوله أمام خالِقه، وأهمها محاسبة النفس فيبني في ذاته معبداً قبل ذهابه إلى المعبد. ولا بد لتحقيق ذلك من تربية مكتملة تجمع بين غذاء الجسد وغذاء الروح. انه ادب الحياة بجناحيه ومن ظن ان التربية تجري حسب الأهواء ولا يضبطها نظام فقد ظن سوءاً.

الرِّضَى
لُغةً، هُـوَ الاختِيَار والقبول، فإذَا تَحقَّـق خُـلُقاً توحِيديّاً كانَ ثمرةً مِن ثمَراتِ المَعرِفَة الرُّوحيَّة المترتِّبَة عَن اليَقين بِالحَقّ، المُوَلِّدَة لاستِشعَارِ وُجُود الله وتَنزيهِه. والمَعرِفَةُ فِي هذِهِ المَنزِلة تملأُ قـلبَ المؤمِن بالمَحبَّةِ والخَوفِ والرَّجاء، فَيصِير الرِّضَى كمَا يقُولُ السَّالكون “سُرُورَ القَـلب بِمَرِّ القَضَا، وسُكُونَهُ تَحتَ جَريَان الحُكم بِمَا أرادَ مَن لهُ المُلك.” فمَن رَضِيَ قَانِتاً، كانَ منَ الَّذِينَ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ
(البينة 8)، فَرِضَى العَبد عنِ الله أن لاَ يَكرَهَ مَا يَجرِي بهِ قَضَاؤه، وَرِضَى الله عنِ العَبدِ هُـوَ أن يَراهُ مُؤتَمِراً بأمرِه ومُنتَهياً عَن نَهيِه.

التَّسلِيم
لمّا كانَ الرِّضَى متَرتِّـباً عَن المَعرفَة والمَحبَّة والقبُول، كانَت ثَمرتُه التَّسلِيم، وهُـو الفِعلُ والالتِزام المَسلكيّ بِما ثبتَ لِلنَّفسِ علَى خِلاف مُقتَضَى طبعهَا، مثل لزُوم الحِلم مَكان الطّيش، والعقل مَكان الجهل، والتّواضُع مَكان الكِبر، والتّحلِّي بالأخلاق المَحمُودَة عوض النّزوع نَحوَ النّزَق واللجاجَة وإفراط الرَّغبَة. وهَذِه الأفعَال الشَّريفَة قائِدَة حَتماً، مَع صِدق النَّوايا وإخلاص القَـلب، إلَى القُربِ كمَا قال تعالى أولئِكَ المُقرَّبُون (الواقعة 11)، “أي الَّذِين قربَت دَرَجَاتهم، وأُعـلِيَت مَراتبُهُم، ورقيَت إلَى حَظائِر القُدس نفُوسُهُم الزَّكيَّة” (روح البيان).وَمَن أَحسَنُ دِيناً مِمَّن أسلَمَ وَجهَهُ لله وهُو مُحسِنٌ
(الواقعة 11).
تسلِيمُ الوَجْه لله بإخلاَصِ النَّفس له، والرضى بقضائه في السراء والضراء، والإتيَان بالحَسنَات، وترْك السَّيِّئات، وبالإجمَال كمَا قالَ القُشيريّ: “لم يدَّخِرْ شيئاً عنِ الله، لاَ مِن مالِه ولاَ مِن جَسدِه، ولاَ مِن روحِه ولاَ مِن جَلَدِه، ولاَ مِن أهلِه ولاَ مِن وَلَدِه”.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

ندوة الضحى الشبابية حول الزواج المختلط

ندوة الضحى الشبابية

الشبـاب والــــزواج المختــــلط

المنصة ويبدو من اليمين رئيس التحرير، الشيخ مرسل نصر، الشيخ دنيل عبد الخالق والمهندس علاء رضوان

الشيخ مرسل نصر
الاختلاط والتربية والعاطفة والسفر والتعلم في دول أجنبية
عوامل مسببة ونعترف بتقصير المؤسسات الدينية في السابق

بعض الشباب أصبح يذهب في مسالك جانبية
بسبب شروط أهل العروس والتكلفة الباهظة للزواج

دانيل عبد الخالق
الشباب لا يدرك تبعات الانجراف إلا بعد خمود العاطفة
لكنه يحمّل النتائج الاجتماعية وحده في غالب الأحيان

علاء رضوان
نحن فرقة مسلمة لكن عندنا خصوصيات ثقافية وسلوكية
ومن الصعب على الشخص الاستقالة من بيئته الطبيعية

نظّمت “الضحى الشبابية” ندوة حول موضوع الزواج المختلط استضافت سماحة الشيخ مرسل نصر، الرئيس السابق لمحاكم الاستئناف الدرزية، وشارك في الندوة عن الشباب كلٌ من دانيل عبد الخالق، عضو مجلس الأمناء، والمهندس علاء رضوان، رئيس نادي أمد، وبشرى غرز الدين، أمينة السر في نادي عقول وميساء نصر. وتولى رئيس التحرير تقديم المشاركين وإدارة الندوة. وفي ما يلي عرض موجز بالمداخلات والمشاركات.

رئيس التحرير: سنحاول وبناءً على الخبرة المشتركة لكل من أعضاء هذه اللجنة الحوارية وكذلك تجربة الحاضرين أن نعرض لما يعتبره البعض الإشكالات المحددة الاجتماعية والنفسية والتربوية التي يثيرها موضوع الزواج المختلط. وسنعوّل في هذا المجال بصورة خاصة على الخبرة الطويلة والحكمة اللتين يتمتع بهما الشيخ مرسل نصر، الرئيس السابق لمحاكم الاستئناف الدرزية، وسنحاول أخيراً الخروج ببعض النتائج بشأن الظاهرة وكيف يمكن توفير إدراك موضوعي لأبعادها وذلك لاعتقادنا أن موضوع الزواج المختلط ليس واضحاً بكل تبعاته لمن يقرر دخول هذه التجربة، نظراً لأن أصحاب هذه التجارب غالباً ما يكون تركيزهم الرئيسي على الرابطة العاطفية والفكرية، كما أن الزواج المختلط في نظرهم هو في حدّ ذاته نوع من التمرد على المجتمع أو المحيط المباشر للأشخاص، وبالتالي فإن موضوع الانعكاسات الاجتماعية على المدى الطويل قد لا يكون في أبرز أولوياتهم.

الشيخ مرسل نصر : مذهب التوحيد من المذاهب الإسلامية يتميز عن غيره عبر التفسير الذي يعطيه الموحدون الدروز لبعض أحكام القرآن والسنة النبوية وأحكام الأئمة عليهم السلام. “احياء في الدين”، وسندخل الموضوع من بابه العريض وهو أن مذهب التوحيد يحرّم الزواج المختلط للأسباب التالية:
أولاً : لأن الدين الإسلامي وهو الأصل قد حرّم زواج المسلمة من غير المسلم ، وأجاز زواج المسلم من غير المسلمة ، غير أن مذهب التوحيد توسع في التحريم بحيث شمل الذكور والإناث الموحدين من الزواج من غير أهل التوحيد .
ثانياً:لأن مذهب التوحيد يعتبر جميع المذاهب والأديان مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة، وعليه فإن الموحدين يقرون بصحة جوهرها، بينما أتباع المذاهب والأديان الأخرى لا يقرون بصحة جوهر مذهب التوحيد .
ثالثاً:إن مفاهيم مذهب التوحيد تختلف في بعض الأمور عن المفاهيم المعتمدة لدى الطوائف والمذاهب الأخرى وبخاصة لجهة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات الدينية والدنيوية، وحرية الإيصاء، وعدم إعادة المطلقة، وعدم تعدّد الزوجات، ومعايير الحضانة للأولاد وتربيتهم، وعدم التعصب، وغير ذلك.
وبالتالي، فإن مذهب التوحيد حرّم الزواج من غير الموحدين حفاظاً على مزايا التوحيد الإنسانية والدينية .
وعرض الشيخ مرسل نصر بالاستناد إلى خبرته الطويلة لموضوع الزواج المختلط والإشكالات التي يثيرها في مداخلة مكتوبة قررنا نشرها كوجهة نظر متكاملة إلى جانب هذا الكلام.

رئيس التحرير: سماحة الشيخ تحدّث عن الإشكالات التي لا تظهر دائماً عند الإقدام على الزواج المختلط. لكن السؤال مطروح، لماذا يقبل الشباب على الزواج المختلط رغم هذه المحاذير، وما هي العوامل التي تدفع البعض لتحمّل أعباء هذا القرار على الرغم من تبعاته؟ أود أن أطرح السؤال على الزميل دانيل عبد الخالق .

الشيخ مرسل نصر: مذهب التوحيد يجعل الزوجين شريكين شراكة كاملة في كل ما يملكانه ويجنيانه وهذا مبدأ تقدميٌّ ينفرد به الموحدون الدروز

دانيل عبد الخالق: الموضوع في نظري يتعلق بالوعي والهدف اللذين يحددهما الإنسان لنفسه. إذا كان الهدف السامي هو ما يشغل الشخص فإن موضوع الزواج لا يتخذ هذه الأهمية المركزية في حياة البعض، بل ينظر إليه كمساعد على أداء مهمات الحياة الجسدية والروحية. قمة الشهوة وطلب الجنس الآخر يكونان في عمر المراهقة لكن هذه الرغبة تبدأ بالاعتدال مع تقدم السن وربما التجربة. يبدأ عندها طرح أسئلة جديدة تتعلق بمعرفة الوجود ومعرفة الله وسر وجوده. أذكر أنه في بداية الدراسة الجامعية لم أكن أجد سوى قلة يهتمون بهذه المسائل. الغالبية تهمها السيارة أو الأصحاب وتمضية الوقت بأمور عامة يومية أو حياتية أو جدل سياسي.. لكن الملاحظ أن أكثر الشباب بعد الأربعين وبعد الزواج وتربية الأسرة يبدأون بطرح الأسئلة الجدية. أفلاطون الحكيم وصف الإنسان بأنه حيوان متحضر وكان يقصد بذلك أنه يختلف عن الحيوان بوجود حاجات ترتفع عن الضرورات الوجودية مثل الطعام والتناسل. بعض الناس تتفتح عندهم ملكة العقل والتحضر باكراً فيبدأون في البحث وبعضهم مع الأسف يتخلف ويبقى في حدود الضروريات. وغالباً وبسبب قوة الحاجات المباشرة غير العقلانية مثل الجسدية والنفسية قد يندفع الشاب أو الشابة من دون أن يقيم أحدهما وزناً لما سيأتي بعد، وغالباً ما يحصل الانجراف ولا يدرك الشخص تبعاته إلا بعد حين عندما تكون قوة العواطف قد خمدت وبقيت النتائج الاجتماعية للعمل. لكن عندها سيواجه الواقع ويجد صعوبة في العودة إلى الخلف. كل إنسان حرٌّ في معتقده وبعض الناس عندهم توجه اليوم نحو العلمانية لكنهم يفسرون العلمانية بالزواج المختلط، وهذا استباق في غير محله لأن العلمانية المقصود بها أولاً تحقيق درجة من التطور الوطني والاندماج السياسي، وهناك مسافة كبيرة بين ذلك وبين القفز إلى الزواج المختلط واعتباره تعبيراً عن هذه العلمانية، لأن الواقع غير ذلك. هناك أيضاً فكرة ينطلق أصحابها من نية سليمة ولا شك لكنها فكرة ساذجة، وهي أن الزواج المختلط يقرّب الطوائف من بعضها البعض. في الحقيقة هو يخلق هوة بين الشخص وبيئته ويفكك لحمة الجماعة من دون أن يؤثر بأي شكل في التقريب، أي أننا نبقى مع المشكلة الشخصية والعائلية لكن دون الأثر المأمول على مستوى الدمج الوطني. وأعتقد أن الوئام يحصل في الزواج المختلط في حال كان الزوجان غير متدينين ولا يهمهما الموضوع. لكن لو بدأ أي منهما التفكير في الشأن الروحي وقرر مثلاً العودة إلى الجذور، فإن الآخر سيواجه حينذاك مشكلة وقد تتفاقم المشكلة وقد تنعكس بصورة خاصة على الأولاد وخيارهم الديني لأن كل شخص سيبدأ بالفطرة بالميل إلى دينه.

علاء رضوان: هناك أهمية للوعي المبكر . ومن المهم أيضاً طرح السؤال: ما هي الغاية من الزواج، ربما يساعد الجواب على جلاء مسألة الزواج المختلط. أرسطو يحدّد العلاقات الاجتماعية بالقول إن أياً منها سيصبّ في ثلاثة أمور، إمّا في منفعة مشتركة أو في لذة معينة أو بعلاقة لها أهداف معينة. الزواج يؤسس لعائلة. العلاقة بين رجل وامرأة هل الغاية منها هي اللذة؟ إذا نظرنا إلى من يختار الزواج من خارج الطائفة نرى أنه لا يفكر غالباً بالنتائج أو الأطراف الأخرى المعنية بالزواج. عند التفكير في الزواج قد يتوقع الشخص المدرك وجود فضائل وميزات معينة عند الشخص الآخر، وهذه الفضائل موجودة عند الكل ولا نقول إنها مقتصرة على جماعة، لكن هناك خصوصيات ثقافية ونفسية لكل جماعة تسهل التواصل والتضامن بين أفرادها. نحن فرقة مسلمة لكن عندنا خاصيات معينة في السلوك والتعامل. إذا فكر الشاب بهذا الجانب فإنه سيجد أنه من الأسلم والأسهل لبناء الأسرة أن تكون متفرّعة عن الأسرة الكبيرة وليس مناقضة لها أو خارجة عنها وعندها فإن خيار الزواج المختلط لن يطرح بالنسبة له. الإرث الجماعي هو نتاج تاريخ طويل وتراكم، وأي شخص له جذور ويعيش حقاً داخل الجماعة لا يجدّ من السهولة اقتلاع نفسه من وسطها وهو سيسأل نفسه هل هذا الثمن مبررٌ من أجل علاقة عاطفية أو تعلق لا يدوم غالباً بشخص؟ المهم أن يكون للشخص أفكار واضحة عن الهدف من حياته ومن الزواج وعن العلاقة بالبيئة التي ينتمي إليها، وهي علاقة تفاعلية. ويجب أن ننتبه إلى أن العلاقات تتغير ولا يوجد ثبات في الحياة وهذا يشير إلى أن المخاطرة أكبر مما يظن البعض عند الإقدام على الزواج المختلط. ولهذا أيضاً نجدّ أن نسبة المشكلات في هذا النوع من الزواج مرتفعة وكذلك نسبة الحالات التي تنتهي بالطلاق لأن كلا الطرفين أو أحدهما سيستفيق لاحقاً على الصعوبات التي تحيط بالعلاقة، الأمر الذي يخلق توتراً وقد يذهب بالحب الأصلي ليحل محله الآلام والمشاكل.

رئيس التحرير: أقترح أن نواجه موضوع الزواج المختلط ليس فقط من منظور ديني، لأن الموضوع الديني يشدّد على موضوع التحريم. بغض النظر عن موقف الدين، فإن الذي ينتقل إلى ضفة أخرى إنما يقوم بذلك عن قناعة وإن كانت تلك القناعة هي بنت الظرف والوقت الذي يعيشه، لذلك أقترح أن نركّز أكثر على الناحية العملية.

بشرى غرز الدين
عامل المعتقد واختلاف البيئات وراء النسبة العالية للفشل

 بشرى-غرز-الدين

بشرى-غرز-الدين

 


الشيخ-مرسل-نصر

 

 

ميساء-نصر
ميساء-نصر

بشرى غرز الدين:أوّد الكلام عن قصة العاطفة. موضوع الحب. لا ينتبهوا إلا إلى تلك الناحية تغيب عنهم النواحي الإشكالية مثل احتمال التحول إلى علاقة روتينية أو حتى غير سعيدة بعد سنوات ومثل مشكلة هوية الأولاد وغير ذلك مما ينطبق عليه قول سماحة الشيخ مرسل نصر “تذهب السكرة وتأتي الفكرة”. الموضوع العاطفي غير مبرر لأن العديد من شبابنا نزل إلى الجامعات وتعاطى مع مختلف الفئات لكن أكثرهم قرر في النهاية أن الخيار الأفضل هو الاختيار من البيئة التي يعرفها.
وجود المناعة أمر مهم، وعندما نتعرّف على شخص من خارج البيئة يجب أن لا نترك العنان للعاطفة لأنها تقودنا، بل علينا نحن أن نقود العاطفة ونحكم عليها بالعقل. الذين ينتهون إلى تبرير الزواج المختلط بعامل العاطفة أخطأوا في الأصل عندما سمحوا للنفس أو للهوى بأن يقودهم في طريق يعرفون أنها شائكة ووعرة. لم يدركوا مثلاً أن عامل المعتقد مهم وأن اختلاف البيئات مهم لذلك كثيراً ما تنتكس هذه العلاقات بدليل النسبة العالية للفشل التي تسجلها. لماذا علينا أن نختبر ونفشل ولا نتعلم من اختبارات الآخرين؟. أخاطب الصبايا الزميلات لألفتهن أن أحكام الزواج في الشرع التوحيدي تحمي الزوجة وحقوقها وكرامتها، بينما الزواج المدني غالباً ما يتم كعقد وهو عرضة لتبدل القناعات أو الأهواء.

ميساء نصر
تأثير المدينة يختلف حسب الأشخاص ودور كبير للتربية الأسرية

ميساء نصر: الموضوع ليس عاطفياً بل الدين له أهمية لأن الشخص الموحد عندما يعرف معنى توحيده ويعمل به لا يحتاج لأي سبب لكي يضع الزواج المختلط خارج خياراته باعتبار أنه لا ينسجم مع قناعاته الروحية. العامل الثاني الذي يؤثر في الموقف من الزواج المختلط هو عامل التربية، إذا كان الأهل ساهرين على أولادهم فلن يكون الزواج المختلط خياراً مطروحاً. في حال توافر هذين العاملين أي الإيمان بالتوحيد والتربية الأسرية فإنه من الصعب أن تؤثر نزوة معينة أو انجراف في قرار الشاب الدرزي أو الشابة الدرزية.
بالنسبة لتأثير المدينة يختلف الأمر حسب الحالات وحسب الشخص. أنا شخصياً عشت في المدينة فكان تأثيرها عليّ زيادة في الاهتمام بقناعاتي وثوابتي الفكرية والروحية. على العكس من ذلك، فإن الصبية قد تكون تربّت في القرية لكن عند نزولها إلى المدينة لا تجد في نفسها المناعة الكافية أو الفهم الكافي للبيئة الجديدة فتقع في مشاكل. في ما خص العلاقات قبل الزواج، أعتقد أن الاقتصار على الصداقة يوسع الأفق ويظهر للشباب الموحدين الفوارق والتمايزات الثقافية لذلك يجعلهم على بينة من المحاذير، لكن شرط عدم التمادي بالطبع في تلك العلاقات.
أوّد هنا طرح السؤال، إذا كنا لا نريد التشجيع على الزواج المختلط، باعتبار أننا مدركون لسلبياته فلماذا نجيز إذاً للرجال الدروز الذين يتزوجون من خارج الطائفة وفق أحكام الزواج المدني أن يحتفظوا بهويتهم وأن يسجلوا أولادهم كموحدين دروز؟. هذا يطرح مشكلة بالنسبة للذين يهمهم أن يكون الشريك الآخر من أبوين درزيين لأننا مع توالي الأجيال لم يعد التأكد من ذلك سهلاً أو في متناول الفتاة أو الشاب.

الشيخ مرسل نصر
الأولاد يلحقون بالأب

الشيخ مرسل نصر :حسب الانتظام العام، الأولاد يلحقون بالأب. عندما يتزوج المرء من سنية مثلاً، وبين هلالين أقول إننا مذهب إسلامي له تفسيره الخاص للشريعة. أعود لأقول إن الأولاد يلحقون بآبائهم. هذه القاعدة لا يمكننا تخطيها، إذا كان الوالد درزياً فإن الأولاد يتبعونه.

رئيس التحرير: الصبايا ركزوا على اعتبار أن المعتقد أو التمسك به يجب أن يكون عاصماً للشباب من الانجراف باتجاه الزواج المختلط. لكن يجب أن لا ننسى أن قسماً كبيراً من الشباب والشابات اليوم ليس له بالضرورة التزام ديني. ربما له اهتمام بالعصبية أو بالعشيرة بحيث يهب إلى مؤازرة إخوانه أو الجماعة في حالات التعدي لكن موضوع الالتزام الديني ليس عاملاً أساسياً في تقرير الزواج. المشكلة اجتماعية ثقافية، وأي معالجات لموضوع الزواج المختلط يجب أن تركز بصدق وموضوعية كاملة من دون تهويل أو أحكام على الأشخاص. الشباب يقتنعون أكثر إذا قمنا بعرض الواقع كما هو والنتائج والمحاذير أكثر من اقتناعهم بأنهم سيُـكَفّرون أو سيخرجون من الدين إذا تزوجوا من خارج الطائفة. المهم هو أن يفهم الشباب إشكالات الزواج المختلط. هناك شباب مستعدون لتحمل النتائج ولا مشكلة بالنسبة لهم. لكن المهم أن يعرفوا وأن يكون هناك حوار عقلاني حول الموضوع.

الشيخ مرسل نصر : هناك ذرائع كنت أسمعها من بعض الشباب وهي أن الطائفة ليست فيها بنات متعلمات وهذا لم يعد قائماً لأن معدل التعليم بين الفتيات الدرزيات مرتفع جداً وقسمٌ كبيرٌ منهن يعمل في المؤسسات، وبالتالي يعتبر منتجاً أيضاً، الأمر الآخر المهم يتعلق ربما بسلوك أهل الفتيات وطلباتهم الكثيرة من الخطيب أو المتقدم للزواج من بناتهم، وهذا الأمر قائم وقد يكون أحد أسباب التحوّل عن الزواج بصيغته الشرعيّة والمطلوبة. لذا أقول إن من المعيب أن تكون البنت بضاعة وأن يعتقد الأهل أنهم يعملون مصلحة ابنتهم عندما يرفعون المهر ويلقون بشتى الطلبات على طالب الزواج. ولا ننسى هذه الأيام نفقات ما قبل العرس ونفقات العرس والجهاز والمصاغ وغيره. وأعتقد أن هذا قد ينفر بعض الشباب ويجعلهم يندفعون في مسالك أخرى. كل هذه الطلبات في غير محلها لأن مذهب التوحيد يجعل الزوجين شريكين شراكة كاملة في كل ما يملكانه ويجنيانه وهذا مبدأ تقدميٌّ ينفرد به الموحدون الدروز. ومن أجل تكريس هذا المبدأ في القانون الوضعي تقدمت بمشروع لم يقر حتى الآن ينص على أن كل ما يتحصل من أموال منقولة وغير منقولة أثناء الحياة الزوجية تكون ملكيته مشتركة بين الزوجين. وبهذا المعنى فإنه في حال الطلاق يجب أن يقسم المال الذي استجدّ خلال فترة الزواج مناصفة على أن يدفع من يظلم أو يتحمل مسؤولية الطلاق تعويض عطل وضرر للفريق المظلوم قد يتجاوز قيمة الأملاك. لذلك أخاطب الأهل بأن يتقوا الله في الطلبات التي يقدمونها لطالبي الزواج.
في نهاية الندوة فتح باب الأسئلة وطرح أحد المشاركين على المحاضرين سؤالاً عن الأسباب التي تدفع في نظرهم الشباب للتفكير في الزواج المختلط. وهل السبب هو التربية أم هو المعشر والرفقة، وهل هناك فارق بين اختيار الشاب للزواج المختلط وبين اختيار الفتاة للزواج المختلط. وأثار السائل موضوع المناعة الذاتية سائلاً كيف تحصل هذه المناعة وما هو طريقها؟
الشيخ مرسل نصر: الأسئلة التي طرحت تتضمن الأجوبة: هناك ولا شك أثر للاختلاط وللتربية وللعاطفة الجياشة التي تشل التفكير العقلاني، السفر والتعلم في دول أجنبية أيضاً عنصر، لأن الكثير من الشبان سافروا في سن صغيرة وعانوا من الغربة ووجدوا هناك من يؤانسهم فاطمأنوا ودخلوا في تلك العلاقات وتزوجوا من جنسيات أجنبية. مشكلتنا هي أننا نستسلم للعاطفة ولا نهتم بالإطلاع على الواقع إن لم يكن على المذهب فعلى الأقل على واقعنا الاجتماعي. غياب عملية التفكير هذه ودرس العواقب سبب أساسي. طبعاً أنا لا أوافق على بعض من يقسون على الذين يقومون بتلك الخطوة لأنني أسأل أياً منهم: لو كنت في مكان هذا الشاب أو الشابة هل كنت ستصمد أو ربما وقعت في الأمر نفسه؟ فيجب علينا أن لا نحكم بل علينا أن نرحم ونسعى للحفاظ على الشخص ونرمم علاقته بالبيئة. يجب توعية الشباب قبل السفر. هناك من يحرص على أن يخطب للشاب قبل سفره وهذا أمر جيد ويدل على بعد نظر.
أحد المشاركين قال إن على الشاب الدرزي أن يدرك معنى كونه موحداً تختلف قراراته بشأن موضوع الزواج وغيره عن من لا يدرك أو يعرف حقيقة انتمائه، حتى لو نجح الزواج المختلط بين شخصين فإن ذلك ليس قاعدة ولا ينفي المشكلات الاجتماعية الكثيرة التي يثيرها.

جانب-من-الحضور-النسائي-في-الندوة
جانب-من-الحضور-النسائي-في-الندوة

الشيخ مرسل نصر : في الزواج المدني أي خلاف يحصل بين الزوجين يعاد إلى المحاكم المدنية. في المحاكم المدنية أحكام مخالفة للشرع مثلاً في القانون المدني الحضانة للأم حتى سن الـ15 للبنات، في الشرع حتى التاسعة. في الزواج المدني أحكام الإيصاء أيضاً تختلف .
أحد الحاضرين سأل أين التوعية وأين المرجع لهذه المواضيع؟
الشيخ مرسل نصر: السؤال يتضمن نقداً خفيّاً وهو سؤال محق. نحن كمسؤولين قصرنا كثيراً. لذلك لا يمكننا أن نلوم من يتخطى الأصول إذا لم يكن يعلم. لذلك نتكلم مع سماحة شيخ العقل لتأسيس لجنة أو مؤسسة لتوعية الشباب نحن ليست عندنا إذاعة دينية ولا تلفزيون . وهناك تقصير. البعض قد يتوجه بالسؤال إلى شيخ العقل. لكن لا تطلب من شيخ العقل بل قدّم مشروعاً، عندها يدرس ويبت.. لا نرى مشاريع. الشباب أيضاً يحتاجون إلى وعظ عصري يخاطبهم على مستواهم ويكون الحديث علمياً ومبنياً على وقائع. ونحن نشعر بهذا النقص وهذا التعطش للتوجيه في أماكن كثيرة. نقول إنشاء الله يحصل خير.

الصـــــــلاة

الصـــــــلاة

سبيــــــل العبــــادة الخالصــــة
أحــــد أهــــم أركــــان التوحيــــد

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين
الصلاة في جميع الأديان هي حلقة الوصل بين الإنسان وربه. وعلى الرغم من أن الصلاة تنوَّعت بتنوُّع الثقافات والأزمان، فإن الأساس فيها هو نية التوجّه بالخضوع نحو الخالق تعالى. والصلاة الصادقة عبادة محض، بمعنى أن العابد لا يرجو منها غرضاً، ولا يحملها طلباً أو رجاء سوى في ما يرضي الله، لأنها مجرد تسليم وخضوع واعتراف بالعجز في حضرة المولى جلَّ جلاله. كما أنَّ الصلاة تختلف عن غيرها من العبادات مثل الدعاء أو الأذكار في أن لها أوقاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103). ولأن الصلاة امتثال في حضرة المولى، فإنها مشروطة بطهارة البدن (الوضوء)، والنفس (عدم انشغال الفكر بأي شيء سوى الله). فضلاً عن ذلك فإن الوقوف في حضرة الحق أمر عظيم، لذلك اعتبرت الصلاة عاصماً من الفواحش والمنكرات، كما في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
(العنكبوت: 45).

أهمية الصلاة
الصلاة في الإسلام هي الركن الثاني، لقول النبي محمد (ص): “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً”. وهي عامود الدين لا يقوم إلا بها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “رَأْسُ الأمْرِ الإِسْلام وَعَمُوده الصَّلاةُ، وَذِرْوَة سَنامِهِ الجِهَادُ في سَبِيْل الله…” (أخرجه الترمذي).
فمداومة الصلاة أمر واجب ولا تستقيم حياة الإنسان إلاَّ بها. وهي – أي الصلاة الصادقة – تذكار دائم للمرء تشعره أنَّ خالقه معه ومراقبه، ممَّا يجعله متَّزناً متقياً عند أخذه لأي قرار في حياته اليومية، سواء أكان عادياً أم مهماً، وتردعه عن الإقدام على الفاحشة أو الرذيلة لدوام شعوره بمراقبة ربه. والتزام الصلاة هو أمر واجب ولا عذر للمؤمن في تركها، فمن تركها يكون قد أهمل العمَل بالواجب الشرعيّ، وهذا فيه خطر كبير، قال الإمام علي(ر): “فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر”، وقد ربط الله تعالى بين تركها وبين اتباع الشهوات حيث قال إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وحيث ذم المضيعين لها والمتكاسلين عنها: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ آلصَّلاَةَ وَآتَّبَعُواْ آلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ( مريم : 59 ). وقد تكلم العديد من العلماء عن فوائد الصلاة على النفس والروح، كقول ابن القيِّم الجوزي: “الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، طاردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن”. والشيخ الفاضل أبو هلال محمد (ر) يذكر بوجوب الصلاة في كل يوم، “لأنها أمر رب العالمين، وتشريع سيد المرسلين، وما أمرنا بها إلا لمصلحتنا”، ويقول أيضاً: “هي واجبة محتمة على كل عاقل ديان ممن تأسم بسمة الدين من الرجال والنسوان”؛ ويقول: “إن من خالف أمر الله ورسوله فقد عصى وحاد وكان من أمره في شك متماد”.

صدق الصلاة
كما أن الصلاة تفصل بين المؤمن والكافر، فإن صدقها يفصل بين المؤمن والمنافق: (إنَّ آلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ آللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى آلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ آلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ آللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : 142). فالصلاة الصادقة يتوجه بها المؤمن إلى ربه بصدق النية – وهي الشرط الأول لصحة الصلاة – مما يعكس خشوعاً على جوارح المؤمن وسلوكه ومعاملته في حياته اليومية: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون :1-2)، أما المراءاة في الصلاة فهي حرام، لأنها عبادة للناس والقصد منها الشهرة، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع): “ان الله يكره الشهرتين: شهرة اللباس وشهرة الصلاة”. وقد نقل الصحابي الكريم عمار بن ياسر عن رسول الله (ص) قوله: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها (أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبَّان). ونقل عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قوله: “الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى ومن طفف فقد علم ما قال الله في المطففين”. وتوضيحاً للحالة الروحيَّة التي يستحضرها الموحِّدُ إذا ما نوى الصّلاة وأدّاها، شرح الأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي (ق)، في جواب لهُ لابن الكسيح، حقيقة الاستشعار عند الدخول في الصلاة، قال: “نقوم بالأمر، ونمشي بالسكينة، وندخل بالقصد، ونكبر بالتعظيم، ونقرأ بالتوسل، ونركع بالخشوع، ونسجد بالخضوع، ونسلم بالنية، ونتمثل الجنة عن يميننا والنار عن شمالنا، ونقول في أنفسنا ان الله حاضر معنا واننا قد لا نصلي صلاة بعدها”. والانتباه إلى أهمية الصلاة اختلاءً أمر مستحسن، وذلك لضمان صدقها وبعدها عن الرياء، ويكون هذا عملاً بنص الآية الكريمة: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول).
(الأعراف 205).
والله ولي التوفيق.

الصـــــــلاة

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسوله خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين
الصلاة في جميع الأديان هي حلقة الوصل بين الإنسان وربه. وعلى الرغم من أن الصلاة تنوَّعت بتنوُّع الثقافات والأزمان، فإن الأساس فيها هو نية التوجّه بالخضوع نحو الخالق تعالى. والصلاة الصادقة عبادة محض، بمعنى أن العابد لا يرجو منها غرضاً، ولا يحملها طلباً أو رجاء سوى في ما يرضي الله، لأنها مجرد تسليم وخضوع واعتراف بالعجز في حضرة المولى جلَّ جلاله. كما أنَّ الصلاة تختلف عن غيرها من العبادات مثل الدعاء أو الأذكار في أن لها أوقاتها (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: 103). ولأن الصلاة امتثال في حضرة المولى، فإنها مشروطة بطهارة البدن (الوضوء)، والنفس (عدم انشغال الفكر بأي شيء سوى الله). فضلاً عن ذلك فإن الوقوف في حضرة الحق أمر عظيم، لذلك اعتبرت الصلاة عاصماً من الفواحش والمنكرات، كما في قوله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
(العنكبوت: 45).

أهمية الصلاة
الصلاة في الإسلام هي الركن الثاني، لقول النبي محمد (ص): “بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً”. وهي عامود الدين لا يقوم إلا بها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف: “رَأْسُ الأمْرِ الإِسْلام وَعَمُوده الصَّلاةُ، وَذِرْوَة سَنامِهِ الجِهَادُ في سَبِيْل الله…” (أخرجه الترمذي).
فمداومة الصلاة أمر واجب ولا تستقيم حياة الإنسان إلاَّ بها. وهي – أي الصلاة الصادقة – تذكار دائم للمرء تشعره أنَّ خالقه معه ومراقبه، ممَّا يجعله متَّزناً متقياً عند أخذه لأي قرار في حياته اليومية، سواء أكان عادياً أم مهماً، وتردعه عن الإقدام على الفاحشة أو الرذيلة لدوام شعوره بمراقبة ربه. والتزام الصلاة هو أمر واجب ولا عذر للمؤمن في تركها، فمن تركها يكون قد أهمل العمَل بالواجب الشرعيّ، وهذا فيه خطر كبير، قال الإمام علي(ر): “فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر”، وقد ربط الله تعالى بين تركها وبين اتباع الشهوات حيث قال إنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وحيث ذم المضيعين لها والمتكاسلين عنها: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ آلصَّلاَةَ وَآتَّبَعُواْ آلشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ( مريم : 59 ). وقد تكلم العديد من العلماء عن فوائد الصلاة على النفس والروح، كقول ابن القيِّم الجوزي: “الصلاة مجلبة للرزق، حافظة للصحة، دافعة للأذى، طاردة للأدواء، مقوية للقلب، مبيضة للوجه، مفرحة للنفس، مُذهبة للكسل، منشطة للجوارح، ممدة للقوى، شارحة للصدر، مغذية للروح، منورة للقلب، حافظة للنعمة، دافعة للنقمة، جالبة للبركة، مبعدة من الشيطان، مقربة من الرحمن”. والشيخ الفاضل أبو هلال محمد (ر) يذكر بوجوب الصلاة في كل يوم، “لأنها أمر رب العالمين، وتشريع سيد المرسلين، وما أمرنا بها إلا لمصلحتنا”، ويقول أيضاً: “هي واجبة محتمة على كل عاقل ديان ممن تأسم بسمة الدين من الرجال والنسوان”؛ ويقول: “إن من خالف أمر الله ورسوله فقد عصى وحاد وكان من أمره في شك متماد”.

صدق الصلاة
كما أن الصلاة تفصل بين المؤمن والكافر، فإن صدقها يفصل بين المؤمن والمنافق: (إنَّ آلْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ آللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى آلصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاءُونَ آلنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ آللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء : 142). فالصلاة الصادقة يتوجه بها المؤمن إلى ربه بصدق النية – وهي الشرط الأول لصحة الصلاة – مما يعكس خشوعاً على جوارح المؤمن وسلوكه ومعاملته في حياته اليومية: (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون :1-2)، أما المراءاة في الصلاة فهي حرام، لأنها عبادة للناس والقصد منها الشهرة، وقد قال الإمام جعفر الصادق(ع): “ان الله يكره الشهرتين: شهرة اللباس وشهرة الصلاة”. وقد نقل الصحابي الكريم عمار بن ياسر عن رسول الله (ص) قوله: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها (أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبَّان). ونقل عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قوله: “الصلاة مكيال، فمن أوفى استوفى ومن طفف فقد علم ما قال الله في المطففين”. وتوضيحاً للحالة الروحيَّة التي يستحضرها الموحِّدُ إذا ما نوى الصّلاة وأدّاها، شرح الأمير السيِّد جمال الدين عبدالله التنوخي (ق)، في جواب لهُ لابن الكسيح، حقيقة الاستشعار عند الدخول في الصلاة، قال: “نقوم بالأمر، ونمشي بالسكينة، وندخل بالقصد، ونكبر بالتعظيم، ونقرأ بالتوسل، ونركع بالخشوع، ونسجد بالخضوع، ونسلم بالنية، ونتمثل الجنة عن يميننا والنار عن شمالنا، ونقول في أنفسنا ان الله حاضر معنا واننا قد لا نصلي صلاة بعدها”. والانتباه إلى أهمية الصلاة اختلاءً أمر مستحسن، وذلك لضمان صدقها وبعدها عن الرياء، ويكون هذا عملاً بنص الآية الكريمة: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول). (الأعراف 205).
والله ولي التوفيق.

أخلاق توحيدية