الخميس, نيسان 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

The will of Sheikh Mohammed Abou Chakra

In the name of of Allah the Merciful

My brothers and my sons…

I did not want to leave this finite world to meet the face of my Lord without advising you with some of my concerns that have never lost sight of my thoughts and intentions throughout my whole life, and I summarize those concerns in this letter, which I preferred to hold the interpretation of (a commandment) for its significance and value to be taken of utmost importance, for present and future generations to our gracious monotheistic faith in general, and to each of its members in particular.

Therefore, I appeal to you for the truth of what you have known from self-praise, elevation, awareness, and loyalty:

Each of you should always remember the origin and heritage of our gracious monotheistic faith, its history and its glory, to tell your grandchildren and children, and to cultivate in their thoughts and souls the virtue of adhering to the ethical and moral rules that were behind those glories and bright history, and to preserve your cohesion and unity in both good and bad.

  1. To always thrive for keeping your leadership unified in all circumstances because the many trials nations and people went through have always confirmed that there is no immunity for any nation, no elevation, no progress, no tranquility, no stability, and no dignity if it is plagued with conflict and division.
  2. I warn you against the prolonged migration that carries the seeds of disintegration and decay that give rise to long-term common weakness, with the consequent loss of your country’s identity, one that has always provided you with all the components of prestige, respect and stability.
  3. I warn you from marrying foreigners due to what it leads to in denial of the principles of our gracious monotheistic faith and in departure from all of its traditions and honorable heritage, and what results in blurring of these customs and practices and in prevention for everything related to it – what we take pride in from history to heritage are not only limited to you, but also to your children who may become in complete alienation from all the solid rules that have helped our ancestors take on the most demanding responsibilities, and helped them confront the greatest dangers, and also helped them occupy the most prestigious positions throughout a history rich with exploits and promotions.
  4. I warn you from falling into the sludge of drugs, abuse, alcoholism, gambling and smoking, not only because they are considered taboo, but also because they lead you to lose your health, money, masculinity and even dignity.
  5. I urge you to seek the achievement of education of applied sciences and not only theoretical sciences. I also urge you to enduldge in respectful commercial, industrial and artistic activities, such that you would not be overwhelmed by progress and to stay current with the era which you live in, where competition at the individual and group level will spread.
  6. I urge you to involve yourselves in the establishment of different types of activities of health, social, cultural and humanitarian natures, because such healthy establishments protect your presence and preserve your dignity and empowers you and helps to meet your needs, and pushes you forward in the areas of progress, liberation, and prosperity.

This is my message, but also my will to you brothers and children of our gracious monotheistic faith. I hope that you reflect on its content and examine its dimensions and educate individuals and groups about it. I believe that in committing to it, you will preserve your presence and protect it both internally in your homelands and externally outside the borders of homelands, over ages and ages to come. God be your companion and guardian to your virtue, dignity, and contentment.

الوحدة الإسلامية ومخاطر التصنيف والإقصاء

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربِّ العالَمِين، والصَّلاةُ والسَّلام على سيِّدِ الـمُرسَلين وخاتمَ النبيِّين،
وعلى آله وصحبه أجمعين، إلى يوم الدِّين.

 قال اللهُ تعالى في مُحكَم كتابِه العزيز ﴿وَرَضِيتُ لكُمُ الإسلامَ دِينا﴾ (سورة المائدة – 3)، ذلك بعد استكمالِ الدِّين، ﴿الدِّينُ القيِّم﴾ أي دِين الله المستقيم الَّذي به يهتدي المرءُ إلى الاستقامة دون إشراك، وبعد إتمامِ النِّعمةِ وهي في جوْهرها إخراج الخَلْق من ظلُمات الجاهليَّةِ إلى نُور الإيمان بالله الأحد الصّمد الرَّحيمِ الحكيم العدْل الحقّ.

 وإذا ما عُدنا إلى «رأس النّبع» – كما يقولُ أهلُ الجبال – أي إلى مكنونِ الفطرةِ التي فَطَر اللهُ النَّاسَ عليْها وحقيقتُها «محبَّةُ الحقّ وإيثارُ الحقّ»، نراها متجلّيةً في الهمسات الأولى والخَلَجاتِ البِكْر التي قالها واستشعرها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلَّم مُذ طرقَت سمعَهُ في غار حِرَاءٍ كلمةُ الوحْي الـمُنير: ﴿اقْـرَأ﴾. وهيَ الكلماتُ البسيطةُ (مِدادُ الآيات البيِّنات) التي استبطنَتْ محمولات «الأمانةِ» التي عُرضَت ﴿علَى السماواتِ والأرضِ والجِبال فَأَبيْن أن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ منْها وَحَمَلَهَا الإنْسانُ﴾ (سورة الأحزاب – 72). كلماتٌ قيلَت وانتشَرت تحت سَطْوةِ الاضطهاد والتنكيل في السنوات المكِّيَّةِ الأولى قبل
الهجرة، ممَّا دعا الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، بعد أن رأى ما يُصيبُ أصحابَه من البلاء، أن يدعوَهُم للخروجِ إلى الحبشة (مملكة أكسوم) «وهْي أرضُ صِدْق» كما وصفها صلَّى الله عليه وفق معيار العدْل الذي اتَّصفَ بهِ حاكمُها إذ كان «لا يُظلَمُ أحدٌ عنده»، وهذا تمييزٌ قائمٌ على أساس الأخْذ في عيْنِ الاعتبار بالقِيَم في «الـمُشترَك الإنسانِـيّ العام».

 ويُمكِنُ استخلاص فَحاوى الأحاديثِ التي كانَ يتمُّ تداولُها في تلك السَّنوات، خصوصاً في الدارِ المخزوميَّةِ دارِ الأرقم، من الإجابةِ التي فاهَ بها المهاجِرون إلى النِجاشيّ في سؤالِه لهُم عن ماهيَّةِ «هذا الدِّين» الَّذي قد فارقوا فيهِ قوْمَهُم. وهي إجابةٌ (كنَّا قوماً أهلَ جاهليَّةٍ… حتَّى بعثَ اللهُ إلينا رسولًا منّا… فدعانا إلى الله لنوحِّدَه…) تحمل هيولى المعنى في الدِّين الحنيف في لحظةٍ صافيةٍ نقيَّة من إسلامٍ خالصٍ لوجهِ الله. أحاديثٌ استولَتْ بنورها على قلوبٍ سارعتْ إلى الإيمان كظمآنٍ إلى عذْبِ المياه. ومن الجميلِ أن يتأمَّلَ المرءُ أبرزَ الأسماءِ الأربعين ممَّن اهتدوا آنذاك، وفيهم من كان معاندًا فانصدعَ قلبُه بأحقِّيَّة المعنى، ليُدركَ أنَّ منهُم (في التاريخ الاسلامي بعد ذلك) كوكبة من خلفاء راشدين وقادةِ جيوش ووُلاةِ أمْصار وكبارِ صحابةٍ ومقرئين وفقهاء علماء. كان المعنى يصْهَرُ الأفئدةَ في مَصهَرٍ واحد ما مكَّنَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم من أن يكتبَ في صحيفة المدينةِ عن المؤمنِينَ بعد الهجرة «إنَّهُم أُمَّةٌ واحدةٌ مِن دونِ النَّاس». أمَّةٌ غيرُ مستأثرةٍ بحقوق أُممٍ أُخرى، قال تعالى ﴿وَمَا كانَ النَّاسُ إلَّا أمَّةً واحدةً فاخْتلفُوا﴾ (سورة يونس – 19)، لذلك، كتبَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في الصَّحيفة عينِها « وأنَّ بني عوْف أمَّةٌ مع المؤمنين لليهُودِ دينُهُم وللمسلمينَ دينُهُم» وجعل لقبائل اليهودِ في يثرب مثل ما لبني عوْف «إلَّا من ظلَم أو أثِمَ فإنَّهُ لا يُوتِغُ إلَّا نفسَه وأهْلَ بـيــتِه.». وكما يُـبـيِّنُ أحدُ كبارِ الـمُفكِّرين في الدّراسات الإسلاميَّة تعليقاً على «عهْدِ المدينة»، فقد باتَ «للأُمَّةِ دارٌ أو أنَّها تقومُ على مساحةٍ منَ الأرضِ لها عليْها السِّيادة، وبين الموْجودينَ عليْها تعاقُدٌ أو ولاءٌ أو موالاة. وهو ما جرى التَّعبير عنهُ في الأزمنة الحديثةِ تحت اسم: «المواطَنَة». وهذا ما أكَّدهُ «إعلانُ الأزهر» الصَّادر عن مؤتمر «الحرّيَّة والمواطَنة… التنوُّع والتكامُل» حيث ورد فيه في (أوَّلًا) ما يلي: «إنَّ مصطلحَ “المواطَنة” هو مُصطلَحٌ أصِيل في الإسلام، وقد شعَّتْ أنوارُهُ الأولى من دستُور المدينة وما تلاهُ من كتُبٍ وعهُود لنبيِّ الله (ص) يُحدِّدُ فيها علاقةَ الـمُسلِمين بغير الـمُسلِمين…»

 انْشقَّ فجرُ رحمةِ الإسلامِ عن ظلامِ الجاهليَّةِ والوثنيَّةِ والعصبيَّةِ في سنواتٍ لا تُقاسُ في مقاييس تحوُّل الأمَم بنصر الله العليّ القدير. وفي العقود المتتالية سطعت شمسُ الرّسالةِ من الأندلس إلى ما بعد سور الصّين حيث قدَّم المسلمون للعالم حضارةً فريدةً عظيمة تآلفتْ بالعقلِ الموحِّدِ مع كلِّ الحضارات، وحفِظت للأجيال إراثَ حضاراتٍ شتَّى بعيداً عن عقليَّة الأخذ بتعسُّفِ التَّصنيفِ والإقصاء.

 واليوم، حين يُواجهُ الإسلامُ مكائدَ الوصْمِ بالتطرُّفِ والإرهابِ، وتوليدِ الرُّهابِ منه بين الأمَم، نرى قادةً ومؤسّساتٍ عريقة وعُلماء حُكماء يتصدَّون بالحُجَّةِ والمعرفةِ والبيانِ الحقّ لكلِّ شنائعِ الدّسائس وباطِلِها، بل وينيرونَ حضورَهُم في العالَمِ بأزكى المقاربات الحضاريّة. ومن مكَّة المكرَّمة (رابطة العالم الاسلامي مثالا)، إلى القاهرة (الأزهر الشريف)، إلى فيينا (مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز للحوار بين أتباع الأديان والثقافات) تتراكمُ المواقف النيِّرة، والتوثيق المؤصَّل، والطَّرح المنهجيِّ السَّديد. ولا غَرْو في ذلك، فإنَّ النَّهَلَ من مَعِينِ الرِّسالةِ العذْب الصَّريح من شأنِه أن يرفدَ العقولَ والأفئدةَ المؤمنة بأشْرف ما ذخرتْهُ الإنسانيَّةُ في وجدانها وضميرها الحيّ. إنَّ في مكنُونات الدِّين الحنيف وتراثِه الأثيل ما فيهِ منَ البيِّناتِ والهُدى ما يُحصِّن النُّفُوسَ ويُلهم الخواطرَ والأحلام بكلِّ خيْر، ليس فقط فيما هو صورةُ الحقيقةِ عن الإسلامِ العظيم، بل وأيضاً ما فيه نوافذ الخلاص في عالَمٍ مُهدَّدٍ بأشنع الأخطار وفق مفوَّضة السياسة الخارجيَّة بالاتحاد الأوروبي التي لم تُخْفِ قلقَها من «سيطَرة قانونِ الغاب على العالَم». ﴿إنَّ فِي ذلكَ لَعِبْـــرَةً لِأُولِي الأبْصَار﴾ (سورة آل عمران – 13).

والسَّلامُ عليْكُم ورحمة الله وبركاته.

Islamic Unity and the Risks of Classification and Exclusion

In the name of Allah, the Compassionate, the Merciful.

All praise is due to Allah, Lord of the Worlds, and Allah’s Peace and Blessings be upon His Final Messenger, his pure family, his noble Companions, and all those who follow them with righteousness until the Day of Judgment.

Allah the Almighty says in His holy Book, ﴾I have approved Islam for you as religion﴿(Surat Al-Maidah-3),that is after perfecting the religion﴾ the right religion﴿, the true religion of Allah by which one is guided to integrity with no polytheism, and after the completion of grace, which in its essence is the removal of people from the darkness of ignorance to the light of faith by Allah, the One, the Eternal Refuge, the Merciful, the Wise, the Right, the Just.

If we return to the “source of the spring” – as the people of the mountains say- that is to the well-guarded instinct that Allah has created people upon and its truth which is “the love of Just and favor of Just”, that we see manifested in the first whispers and early heartbeats that the Messenger of Allah (Peace be upon him) has said and felt since he heard the word of enlightening revelation in the cave of Hira: ﴾Read﴿. These are the simple words (the distinct verses) that revealed the “trust” that was presented ﴾ to the Heavens and the Earth and the Mountains; but they refused to undertake it, being afraid thereof: but man undertook it﴿ (Surat Al-Ahzab-72). Words that has been said and spread under the severity of oppression and hazing in the first Meccan years before migration, which led the Prophet (Peace be upon him), after watching what afflicted his companions, to call them to flee to Abyssinia (Kingdom of Axum) “a land of truth” as described by the Prophet (Peace be upon him) in accordance with the standard of justice that characterized its king who “shall not tolerate injustice”,, and this distinction  is based on the consideration of values in the “ General Humanitarian Commonality”.

We can draw the essence of the narrations that were being circulated in those years, especially in Dar Al-Makhzoumiyah Dar Al-Arqam, from the answer given by the migrants to Al-Najashi upon questioning them about the core of “this religion” with which they left their people. The answer (We were people of the Age of Ignorance… until Allah sent us His messenger…that called us to believe in the oneness of Allah…) carries the meaning of the true religion in a pure moment of the wholehearted Islam for Allah’s sake. The Ahadeeth that captured by their light the hearts that hastened to faith just as a thirst to water. It is beautiful to ponder the most prominent forty names who were guided at that time, some of which were recalcitrant whose hearts were broken by the rightfulness of the meaning, to realize that some (in the Islamic history afterwards) were a group of Rightly Guided Caliphs, army leaders, governors of lands, senior companions, reciters, and scholars. The meaning melted all hearts in the same smelter, which enabled the Messenger of Allah (Peace be upon him) to write in the Charter of Medina about the believers after the migration that they are “one united nation”. A nation that doesn’t take over other nations’ rights, Allah says, ﴾ And mankind was not but one community, but then they differed﴿ (Surat Yunus-19), thus the Messenger of Allah (Peace be upon him) wrote in the same Charter “Banu Awf are a nation with the believers; the Jews have their religion and the Muslims have theirs” and he made what is for the tribes of Jews in Yathrib as in with what is for Banu Awf “except who has sinned or oppressed, then he has destroyed but himself and his family”.

As one of the leading scholars of Islamic studies shows, commenting on the “Covenant of Medina”, “the nation now has a house or it is based on a territory on which it has sovereignty, and between those present on it a contract, loyalty, or allegiance. This was expressed in the modern times under the name of “citizenship”. This has also been confirmed by the “Declaration of Al-Azhar” on the “Freedom and Citizenship … Diversity and Integration” Conference, where it states in (First) the following: “the concept of ‘Citizenship’ has its origin in Islam as it was perfectly applied in the constitutional document of Madina and the subsequent covenants and treaties in which Prophet Muhammad, peace and blessings be upon him, defined the relationships between Muslim and non-Muslims…”

The dawn of the mercy of Islam broke away from the darkness of ignorance, paganism, and fanaticism in years that are not measured in the standards of the transformation of the nations by the Almighty Allah’s victory. In the successive decades, the light of the mission shone from Andalusia to beyond the Wall of China, where Muslims presented to the world a unique civilization that was harmonized with the unified reason with all civilizations. It preserved heritages of several civilizations for the coming generations away from the mentality of arbitrariness of classification and exclusion.

Today, when Islam confronts the schemes of stigmatization of extremism and terrorism in addition to the creation of fear among nations, we see leaders, long-standing institutions, and wise scholars who confront by pretexts, knowledge, and the true statement all falsehoods and horrible conspiracies, along with illuminating their presence in the world with the most civilized approaches. From Mecca Al-Mukarramah (Muslim World League) to Cairo (Al-Azhar Al-Sharif) to Vienna (King Abdullah bin Abdulaziz International Centre for Interreligious and Intercultural Dialogue) accumulate bright stances, authenticated documentation, and the systematic methodological presentation.

And no wonder in this, delving through this treasured wisdom will fill the minds and souls with the noblest of what humanity has given in its beating heart and conscious mind. What lies in this true religion and deep-rooted culture including the clear signs and guidance strengthens souls and inspires thoughts and dreams with all goodness; not only with a sincere image of the great Islam, but also with its abundant salvation in a world threatened with the most atrocious dangers as per the High Representative of the European Union for Foreign Affairs and Security Policy that is concerned about “the control of the jungle law over the world”. ﴾In these things is indeed a lesson for those who have insight﴿ (Surat Al-Omran-13)

Peace, mercy and blessings of God be upon you.

وصيّة سلطان باشا الأطرش

 تتميّزُ وَصِيّةُ سلطان باشا الأطرش عمّا عداها من الوصايا التي يأذن بكتابتها الأشخاص المُتَوَفَّوْن. فهي لا تتعلّق بتوزيع ميراث بين الأبناء وذوي المتوفّى بل هي وصيّة رجل عظيم لأمّته التي يخاف عليها عوادي الزّمن، والنّص يفصح عن ذاته، أمّا سيرة سلطان باشا فهي سيرة وطنيّة نضاليّة عروبيّة ضد الاستعمار، وضدّ التّجزئة وتشتيت الأمّة وتمزيق الأوطان، فقد رفض تجزئة سوريّة، تلك السياسة التقسيميّة التي عمل عليها الفرنسيّون منذ احتلالهم البلاد عام 1920 إذ رفض مقولةَ الدُّولِ الطائفيّة ومنها الدَّولة الدرزيّة.
 كان سلطان عميقاً وأصيلا في وعيه الوطني والعروبي. سأله مرّة أحد الصحفيين: ما رأيك بالقضية الفلسطينية يا باشا؟، فانتفض في جلسته، وأخذ شارباه يتراقصان غضباً، وقال لمحدّثه: لا تقل القضية الفلسطينية يا بُنَيّ، بل قل الحقّ الفلسطيني، لأنّكم بتسميتها قضيّة تُضَيّعون وَجْهَ الحقِّ الثّابت لأهل فلسطين…

 يقول الدكتور حسن أمين البعيني مؤرّخ سيرة «سلطان باشا والثورة السوريّة الكبرى»، أنّ سلطان باشا تطرّق في وصيّته إلى الإرث المعنوي والسياسي الضخم الذي كان يملكه، وأهمّه قيادته الثورة السوريّة الكبرى الذي أوْلَتْهُ الأُمَّةُ إيّاها فأدّى الأمانة، فَوَصِيَّتُه هي توجيهاتٌ مُخلصة وواجباتٌ تُؤَدَّى فهو يطلب من أبناء العروبة كافّةً المحافظةَ على أمانة الاستقلال والجهاد مع النّفس وضدّ العدوّ والصّبر على الشدائد والإيمان بالحقوق، وتحقيق الوحدة العربيّة واستعادة فلسطين وسائر الأراضي المُغْتَصَبة. هي وصيّةُ خُطوط سياسيّة مبدئيّة ونضاليّة تمشّى عليها في حياته وأرادها نَهجاً لأبنائِه وإخوانه بعد مماته بهدف تحقيق العدل والنّهوض بالبلاد والانتصار على الأعداء، قُرِئَتْ يومَ مأتمهِ الحاشد الذي جمع مئات الآلاف من المشيّعين وهذا نَصُّها:

بسم الله الرحمن الرحيم

إخواني وأبنائي العرب:

 عَزَمْتُ وأنا في أيّامي الأخيرة أنتظرُ الموتَ الحقّ أن أُخاطبَكم مُوَدّعا وَمُوصِياً. لقد أولَتني هذه الأمّة قيادة الثّورة السوريّة الكُبرى ضدّ الاحتلال الفرنسيّ الغادر. فقمتُ بأمانةِ القيادة، وطلبتُ الشهادةَ، وأديتُ الأمانة. انطلقت الثّورة من الجبل الأشم ،جبل العرب، لتشملَ وتعمَّ، وكان شعارها “الدّينُ لله والوطنُ للجميع”. وأعتقد أنّها حقّقت لكم عزّة وفخراً، وللاستعمار ذلّاً وانكساراً.

وصيّتي لكم إخوتي وأبنائي العرب هي أنّ أمامكم طريقاً طويلة،ومشقّة شديدة تحتاج إلى جُهدٍ وجهاد. جهاد مع النّفس وجهاد مع العدو. فاصبروا صبرَ الأحرار. ولتكن وحدتكم الوطنيّة، وقوة إيمانكم، وتراصّ صفوفكم، هي سبيلكم لردّ كيد الأعداء، وطرد الغاصبين وتحرير الأرض. واعلموا أنّ الحفاظ على الاستقلال أمانة في أعناقكم بعد أن مات من أجله العديد من الشهداء، وسالت للوصول إليه الكثير من الدّماء، واعلموا أنّ وحدة العرب هي المنعة والقوة، وأنّها حُلُم الأجيال وطريق الخلاص. واعلموا بأنّ ما أُخذَ بالسّيف بالسّيف يؤخذ، وأنّ الإيمانَ أقوى من كلّ سلاح، وأنّ كأس الحنظل بالعز أشهى من ماء الحياة مع الذلّ، وأنّ الإيمان يُشْحَن بالصبر ويُحْصَدُ بالعدل ويُعَزَّز باليقين ويُقَوّى بالجهاد..

 عودوا إلى تاريخكم الحافل بالبطولات الزاخر بالأمجاد، لأنّي لم أرَ أقوى تأثيراً في النفوس من قراءة التاريخ لتنبيه الشعور وإيقاظ الهمم، ولاستنهاض الشعوب لتظفَرَ بِحُرِّيَّتها وتحقيق وحدتها وترفع أعلام النّصر. واعلموا أنّ التقوى لله والحُبّ للأرض، وأنّ الحقّ منتصر، وأنّ الشّرف بالحفاظ على الخلق، وأنّ الاعتزاز بالحُرِّيَّة، والفخرَ بالكرامة، وأنّ النّهوض بالعِلم والعمل، وأنّ الأمن بالعدل، وأنّ التّعاون قوّة.

 الحمد لله، ثم الحمد لله. لقد أعطاني عُمْراً فقضيتُه جِهاداً، وأَمضيتُه زُهداً. ثبّتني وهداني، وأعادني لإخواني. أسألُه المغفرةَ وبه المستعان، وهو حسبي ونِعْمَ الوكيل. أمّا ما خلّفتُه من رزق ومال، فهو زهد فلّاح متواضع تحكمه قواعد الشريعة السمحاء.

سلطان الأطرش

Sultan Basha Al Atrash Will

In the name of God the Merciful

My Arab brothers and sons:

In my last days, I have decided while waiting for righteous death, to address you as a retiree and a preacher. This nation has guided me to lead the great Syrian revolution against the precarious French occupation. So I undertook the honorable quest of leadership, I asked for martyrdom, I fulfilled the entrustment.

The revolution was launched from the great mountain, Jabal Al Arab, to spread and expand, and its motto was “religion is for God and the homeland is for all”. I believe it has brought for you honor and pride, and for Colonialism humiliation and shame.

My wish to you my Arab brothers and sons is that the long way awaiting you ahead demands great hardship that needs effort and struggle; a struggle with one’s self and a struggle with the enemy. So be patient like the free. Let your national unity, the strength of your faith, and the stability of your ranks, be your way to cease your enemies, to expel invaders and to liberate the land.

Be informed that the preservation of independence is your honorable quest after too many martyrs have died, and too much blood have been spilled for its purpose, and know that the unity of the Arabs is their power and strength, it’s the dream of generations and the path for salvation. And know that what was taken with the sword, by the sword can it only be taken back, and faith is stronger than any weapon, and that the cup of melancholy with honor tastes way better than the most delicious water of life with humiliation. And know that faith is grown with patience, harvested with justice, nourished with certainty and strengthened with struggle.

Go back to your rich history of heroism and achievements, because I have not seen a stronger influence in people than the influence of reading their own history to motivate their feelings and awaken their inspiration, and to mobilize people to earn their freedom and unity and raise the flags of victory.

Be informed that piety is for God and love is for the earth, and that virtue prevails, and that honor comes with virtue and pride comes with freedom, that pride is in dignity, and advancement is provoked by knowledge and hard work, and that security comes with justice, and cooperation is strength.

Praise be to God. He gave me a lifetime which was ruled by struggle and humbleness. He strengthened me and guided me, and sent me back to my brothers. I seek God’s forgiveness and to Him I return, He is my suffice and the best deputy. As for money and belongings I leave behind, it is of a humble peasant governed by the rules set by God.

Sultan Al Atrash

حُسن الخلُق

  • حسنُ الخُلُقِ في آية
شهد الله عزّ وجل للرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم بأنه على أكملِ الأخلاقِ وأتمّها وأرفعها وأفضلها، فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم 4)، وهذا الخُلق الحسن العظيم، جسّد ما أمره به سبحانه
﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف 199)
وليس في القرآن الكريم آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وقد تضمّنت قواعد الشّريعة في المأمورات والمَنهيّات، وجمعت أصول الفضائل الثلاث:
(أ) ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾: (صلة القاطعين والعفو عن المذنبين والرّفق بالمؤمنين وغير ذلك من أخلاق المطيعين) وقيل: هو الأخذ باليُسر والسماحة، ودفع الحَرَج والمشقّة عن الناس، بالأقوال والأفعال.
(ب) ﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ صلة الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغَضّ الأبصار، والاستعداد لدار القرار، وقيل: هو المعروف والجميل من الأفعال.
(ج) ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ الحضّ على التخلّق بالحُلُم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزّه عن منازعة السّفهاء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرّشيدة، وقيل: عدم مقابلة السفهاء والجهّال بمثل فعلهم وعدم مماراتهم والحلم عنهم، والصبر على سوء أخلاقهم، والغضّ على ما يسوؤك منهم، ومقابلتهم بالعفو والصّفح.
  • المنبعُ الصَّافي للخُلق الحسَن
الأَخلاقُ في المَفهوم الدِّيني، ليست فقط مجموعة اصطلاحاتٍ ولِياقات، يَتَّفِقُ عليها النّاسُ في عصرٍ من العُصورِ بُغيةَ تنظيمِ حياتِهم الاجتماعيّة، وتيسيرِ أعمالِهم الدُّنيوِيّة، بل هي في الحقيقةِ ثمرةٌ فِعليّةٌ للعقيدةِ الدِّينيّة، فالعقيدةَ هي منبَعُها الصّافي الأصيل، وهي مِنه كالسَّواقِي المُتدفِّقة، والموحّدُ يَلتزِمُ الأخلاقَ الفاضلةَ مَسْلَكاً لأنّها مُرادُ الله تعالى، ولأنّها تعبِّرُ عن مَكنونِ صحّةِ العقيدة، وهومُلزَمٌ أن يُظهِرَها مَناقِبَ وخِلالاً، لِيكون القُدوةَ الحَسنة، ويُساهِمَ في بناءِ مُجتمع، قِوامُه الفضائلُ والآدابُ ومكارمُ الأخلاق.
ومن المُسْتَبعد جدّاً أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع النَّاس، محبّاً للحقّ، معطاء متواضعاً، صبوراً عليهم، رحيماً بهم، ودوداً لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا يكون ذا خلق كريم مع ربّه، فلا يؤمن بحق ربوبيّته، وألوهيّته، ويذعن له بذلك ولا يؤدي واجب العبادة له، كما أنّه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس، وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم.
ثمّ إنّ الإنسان مهما تخلّق بالأخلاق التوحيديّة فإنها ستبقى صورة بلا روح، إذا لم يَرِد بها وجه الله ورضاه، فليس الغرض من الأخلاق وجود صورتها الخارجية، التي لا تعدو أن تكون طلاء يسقط لأي حَكّة، وإنّما تهدف الأخلاق إلى أن تملك على الموحد قلبه، فيدفعه إليها إيمانه، ويزيده الالتزام بها إيماناً، فمصدرها قلبي، وأصلها صلاح الباطن، وما لم تكن الأخلاق خالصة فإنها ستظهر نفاقاً، ثم تزول ويظهر ما وراءها من سوء الخلق.
وإِنَّ دِيناً لا يُثمرُ الأخلاقَ لَجَدِيرٌ بأن يُترَك، وإِنَّ امْرَأً لا تُستفادُ المناقبُ مِنه قولاً وفِعلاً لَأَولَى أن يُهجَر، وكلُّ شجرةٍ لا تثمرُ ثِماراً زكيّةً تُقطَعُ وفي النّارِ تُلقَى.
  • تؤتي أُكُلَها كُلَّ حين
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (إبراهيم)
إذا كانت الكلمة الطيبة – التي تنبعث عن خُلق حَسن – تؤتي ثمارَها، فلا بدّ أن يكون هذا الأصل الذي صدرت عنه، ذا ثمار دانية، وكيف لا تكون كذلك وقد جُبل عليها أولياء الله، قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: “ما جُبل وليّ لله إلّا على السّخاء وحسن الخلق”.
وقال الإمام عليّ بن أبي طالب (ع): “حسنُ الخُلُقٍ رأسُ كلِّ برّ”
وقال الأمير السيّد عبد الله التّنوخي قُدِّس سرّه: “إنّ في سعة الأخلاق كُنُوْز الأرْزَاقِ، وفي تصفية الأخلاق استشعار الخلاق”.
وكذلك ورد في شرح الخصال لسيّدنا الشيخ الفاضل عن حُسْن الأخلاق بأنّه “الخصلة المرضيَة والسجيّة المُنَجِّية، التي بها تُنَال خيرات الدنيا والآخرة، وبها تكون السعادة في الدارين إذا اقْتَرَنَتْ بالإيمان والدّين.”
من هنا يَسْتَشِفّ الإنسان معنى خَصلة تحدو بمالكها إلى السعادة في الدار الآخرة رضى عند الله، وفي الدار الدنيا محبّة وقبولاً عند الناس.
وما جمع من فضل حُسن الخلق يضيق المجال عن ذكره، ومن ثمرات هذه الخصلة:
البركة في الدّيار والأعمار: “صلة الرّحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجِوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار”
المكارم تُثقِل الميزان يوم القيامة: عن أبي ذَرٍّ قال عليه السلام: “يا أبا ذر ألا أدلّك على خصلتين هما أخف على الظَّهر وأثقل في الميزان من غيرهما؟ قال: بلى يا رسول الله قال: عليك بحسن الخُلُق وطول الصمت” قيل “ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخُلُق”
سببٌ لتألُّف القلوب: “الأرواح جنود مُجنّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف”
كمال الإيمان: قيل “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنُهم خُلُقاً”.
محبوب لله: أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلُقاً.
يكون في درجة الصُّوَّام القّوَّام: “إن الرّجل ليُدرك بحسن خُلُقه درجات قائم الليل صائم النهار”.
  • الأخلاقُ قُوْتُ الأمم
يُمكننا القول باستحالة قيام مجتمعٍ دون قيمٍ أخلاقيّة؛ فالأخلاق هي ما يُحدّد معايير السلوك الإيجابي الخيّر، ويُرسّخ مفهوم الواجب لدى الأفراد، كما أنها تكبحُ أفعال الإنسان الشرّيرة فتقاومها وتهذّبها، وبعبارةٍ أخرى هي ما يُملي على الإنسان ما ينبغي فعله وما لا ينبغي فعله.
وصدق أمير الشّعراء عندما قال: وإنّما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيَتْ فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا. وإنّ المتعطش إلى السّعادة عليه أن يسترشد بقول أرسطوالذي يرى أنّ الأخلاق مُرتبطة بسعادة الإنسان التي هي غاية وجوده، فيعرّفها على أنها الأفعال الناتجة عن العقل، من أجل الخير الأسمى؛ السّعادة.
  • صبغة المشايخ الأجلّاء
إنّ لمشايخنا الأجلاء رصيداً وافراً من الخِصال الحميدة، التي حثت الكتّاب على أن ينشروا ما كان مطويّاً من فضلهم، وقد كان حسن الخلق صبغةً ظهرت آثارها في سَلكهم القويم، وتأدّبهم مع الله عزّ وجل، و مع النّاس.
ومن هؤلاء سيّدنا الشيخ الفاضل محمّد أبو هلال الذي كان ممّن وصفهم الكتاب العزيز: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران 134)
وقد كان عندما يحدث ما يثير غضبه – وما كان ليغضب إلّا لِما يخالف شرع الله – تظهر علامات الغضب عليه فيتمثّل قول الرّسول صلى الله عليه وسلم: “إذا غضبت فأمسك” وقول الصّحابي الجليل سلمان الفارسيّ عليه السّلام: “فإذا غضبت فأمسك لسانك ويدك” فيلوذ الشيخ بالصمت، ثمّ يتململ ويدخل يديه في طرفي كمّيه، ويسكن قليلا، حتى يسري عنه الغضب ويلين خاطره، ثمّ يتحدّث عن سبب غضبه بكلام موزون وبتمييز صحيح، فيصوّب الخطأ ويعالج الخلل، بحكمة ورويّة.
والحديث في سِيَر الأجلّاء وآدابهم يطول، فها هو سيّدنا الشيخ أبو حسين محمود فرج خير مقتدى لمن أراد أن يقتفي أثر ذوي الأخلاق الحميدة، والمسالك الحسنة الرشيدة، ويروى أنه – رضي الله عنه – سأل أحدهم “بتحب الحق أو الأفضل منه ؟” فتعجّب السامع، وما أفضل من الحق؟! فيشير سيّدنا الشيخ من له حق ويعفو عنه.
وكان يُسمع في أكثر من مناسبة يقول: “من لا يغاضي لا يراضي، وإنّ الرّضى من طبع العقل”.

ورُوِيَ أن شخصينِ اختلفا على أمر ما، وبعد مدّة قصد أحدهما سيّدَنا الشيخ ليوضح حقيقة ما حصل مع خصمه، فطلب سيّدنا الشيخ من هذا الأخ أن يقرأ بعض وصايا لقمان الحكيم سلام الله عليه، فما إن وصل في قراءته إلى القول: “يابني من عاملك بالقبيح فعامله بالمليح” حتى استقام سيّدنا الشيخ بعد أن كان متّكئا، وطلب منه إعادة القراءة، فأعادها، فقال رحمه الله “يا خيي ما قال من عاملك بالقبيح فاصبر عليه واكتفى، بل قال عامله بالمليح”.

وما صدر عن شيخنا الجليل مُجَسّدٌ لمكارم الأخلاق، دالٌّ على الشِّيمِ العربيّة في العفو والصّفح، مُوافق لتعاليم السّيد المسيح عليه السلام، حيث قال: سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ، لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟

في الحقيقة إنّ النّاظر في قِصص هؤلاء المشايخ يجد البَون الكبير بين ماكانوا عليه، وما نحياه نحن في واقعنا اليوم، على الرّغم من أنّنا بحاجة للتمسّك بالفضائل في هذا الوقت أكثر من أي وقت مضى، لأنّها تقوّي هذا الجسد الذي “إذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”.

خصال المرأة الموّحدة

شرف لي الغوص، في هذا البحر المتألق من صفاتهن، بموضوعية أتكلم، هي وقفة فخر أقفها مع اللواتي كرّمهن الله، بالعزة والسؤدد واعطاهن نفحة من روحه، وقد حملنَ جذور الأصالة الدينية، حملة رسالة، هي ثمرة أجيال تتكرر، متجذرة في معراج الترقي وتوهج الحق… وقد تنادين لحفظ التراث، تراث روحي، تعمقت جذوره مع أبناء التوحيد، وتفاعل مع نفوس فاضت أعماقها بقدسية التوحيد… تسلسل مجدٍ واكليل غار، نستنشق عطر أريجه، طمأنينة في القلب واستنهاضٌ لمآثر روحية، زرعت في النفوس، لتتوارثها الأجيال المتعطشة دوماً وأبداً، إلى معرفة الخالق جلّ وعلا. وان كان الطابع التوحيدي، هو الغالب في المعطيات، فلننطلق منه، مستكملين البحث، لتكون لنا صورة متكاملة، تظهر هذا الجانب الروحي التوحيدي، فأنا أريد أن أروي وأرتوي عبر رحلة، تتواصل مع الماضي، وتراكم العطاء وتكامل مع حاضر مشرق، ومعكم جميعاً.

المرأة الموحدة الدرزية بشكل عام وباختصار كلي: ماذا أقول فيك أيها الرسول المبارك، يا سرّ استمرارية الوجود، يا عهداً من الله لبني البشر، أطليت على الدنيا، لتجسدي الهوية الانسانية كاملة. الموحدة الدرزية انسان عظيم، باركها الانجيل، باركها الأنبياء والرسل، باركها النبي محمد (ص) انها العنصر الفعال في المجتمع.

فما التأنيث لاســـم الشمس عــارٌ                   ولا التذكيــــــر فخـــر للهــــــلال

فحضن الموحدة مهد تربية نساء ورجال عظام، ان التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها. إن صلاح وفساد أي مجتمع تابع من صلاح وفساد النساء فيه.

الفساد هو في الجهل والصلاح هو في العلم
فالجهل يخفض أمةّ ويذلها والعلم يرفعها أجل مقاماً
أعطني أماً صالحة أعطيك وطناً صالحاً.
والمثل يقول: إذا علّمت رجلاً، علّمت انساناً منفرداً، ولكن إذا علمت امرأة، علّمت أسرة ومجتمعاً ووطناً، يسير في منعرجات الرقي والتقدم والحضارة، يا من هديت العقل بوعيك، وأظهرت صراط الحق بنور هدايتك، انت تصنعين الانسان وتعمرين الأوطان انت مبدأ جميع الخيرات، والتاريخ يشهد على عظمتك ودورك الريادي، والقيام بالمهمة الشاقة التي اؤتمنت عليها، انت الأس المتين والركن الركين في عملية بناء الأوطاد المبنية على التقوى والشرف الرفيع وتقدمها في مجال المعرفة والعلم والحضارة، وعلى عاتقك تقوم العملية التربوية التثقيفية الدينية. الموحدة الدرزية تواقة إلى العلم والمعرفة والعمل: أقانيم ثلاثة تقريباً مرفوعة إلى الله عزّ وجل “تقربوا إليه بالعلم والمعرفة والعمل”؛ جبارة في صبرها، متعاونة مع العائلة إلى أقصى الحدود “الزوج يجني وهي تبني” هي للأبناء المرشد والموجّه، هي فكر وقلب ووفاء، وهي أم الموحدين والموحّدات.
لا يمكن للمرأة الموحدة الدرزية تطبيق مفهوم التوحيد والقيام بواجباتها الدينية، كما يريدها الله والأنبياء والرسل والأمير السيد عبد الله التنوخي(ق)، الا بالترافق مع واجباتها نحو عائلتها والمجتمع. فقد نظر الأمير السيّد(ق) إلى المرأة الموحّدة نظرة رفيعة، لا تقل شأناً عن نظرته إلى الرجل الموحّد، أكان لجهة الإمكانيات والاستعدادات، أم لجهة التكليف. لكن التقدير ذاك، أكان للرجل، أم للمرأة، مرهون باتباعهما للمسلكيات الأخلاقية الدقيقة التي لطالما أشار إليها الأمير السيّد(ق) في كتبه ومراسلاته ووصاياه. والمسؤولية هنا متساوية، لا يقل شأن المرأة فيها عن شأن الرجل، وكذا الحقوق والواجبات. فحقوق المرأة هي في المبدأ حقوق الرجل بالمعنى الإنساني الشامل، لأن حقوق الإنسان واحدة، هكذا في الدين، منذ البدء، وكذلك في شرائع حقوق الإنسان المتعاقبة. وأي افتئات على حقوق المرأة، التي كفلتها الأديان والشرائع السماوية والدنيوية، افتئات على حقوق الرجل بالمقدار نفسه، وتعد على كرامة الإنسان كإنسان، والتي لطالما صانها الدين، ولم يميّز في ذلك بين رجل وامرأة، إلا بمقدار النجاح (أو التقصير) في القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية، وفي ذلك يتساوى أيضاً الرجل والمرأة – ويمكن هنا العودة تفصيلاً للأبحاث التي تناولت المكانة الخاصة التي احتلتها المرأة في وصايا الأمير السيّد(ق).

وأولى الوصايا للمرأة الموحّدة التعالي في جميع الأمور، والرضى بإرادة الله تعالى، وتقديس مشيئته، والقبول بجميع أحكامه، سارة كانت أم ضارّة، والله لا يطيق الضرر أو الشرّ للإنسان، فإذا صادف شيئاً من ذلك، فمن سوء تقديره أو سوء أعماله، وامتحان في الآن نفسه ليعود إلى جادة الإيمان والعقل والصواب.
ولا غنى للموحّدة عن الإيمان: فالله سبحانه وتعالى خلق الكون، وأحسن الخلق، وجعل العدل قسطاطاً في الكون. وعلى ذلك فنحن قادمون على حساب عادل على جميع أفعالنا لنتناول الثواب والعقاب: أنها انكار الذات قرباناً لله وتوسلاً إليه وعملاً بمشيئته. لا تعارض بين العقل والإيمان، وما يصوننا من المصائب سوى الإيمان والوعي والتوكل على الله بالعودة إلى الإيمان بالروحانيات والقيم الأخلاقية وبالمثاليات الإنسانية يحيا الإنسان.
ولا بديل عن الصلاة للموحدة. فالصلاة تطهّر القلب وتزكي النفس وتقوّي الإيمان وتغذي الروح وتقرّب إلى الله وتحبب الخير لجميع الناس اخواتنا في الإنسانية.
وعلى الموحّد الحث على تحصيل العلم، العلم الصحيح قبل سواه. وأن يتحول طلب العلم مثالاً لأبنائها ولعائلتها. وقد قدّم الله تعالى في كتابه العزيز العلماء على سواهم، واعتبر العلم (الصحيح) طريقاً من طرق معرفة الله. فالعلماء ورثة الأنبياء، وأيضاً “تقربوا إليه بالعلم والمعرفة والعمل”، انهم حملة الكتاب وقد خصهم الله تعالى بشرف المقام والعلم الشريف.

وعلى المرأة الموحّدة معرفة الدين. فالدين طريق إلى الله يسلكه الناس على اختلاف درجاتهم، وهو الطاعة والعبادة: انه باب الإيمان والإيمان باب التوحيد. أما العبادة فلله وحده: تقديس، تنزيه، توحيد. الدين هو الحق.
وعليها أيضاً معرفة الحلال والحرام، والخير والشر. هي الفطرة السليمة التي برى الخالق الناس عليها، فمن حاد عنها هلك: اعمل/لا تعمل: الحلال هو خير ونفع وطاعة وصدق، والحرام شر ومعصية وكذب. والأعمال كلها بين هاتين الحالتين والله تعالى أمر الموحّد والموحدة بالحلال ونهى عن الحرام وعاقب من فعله. فان فعلت الموحدة بأمر الله وانتهت عما نهاها عنه، سلكت السبيل إلى الطريق والاتصال بالله تعالى.

كذلك، عليها معرفة الدنيا وأحوالها ان تُجني نفعها وتميز بين الخير والشر. وقد سميّت بالدار لأنها دار ممر لا دار مقر ويكون طلب الموحدة من الدنيا ما هي بحاجة إليه من صلاح الأعمال ورحم الله من أتى من الأعمال أحسنه واتبع من الحق أبيانه.
والمرأة الموحدة تدرك أن لا بد من يوم يحاسب فيه الناس على الحسنات والسيئات واليوم الاخير يسأل كل واحد عن عمره كيف أفناه وعن جسده كيف ابلاه، وعن عمله وما عمل فيه، وعن ماله كيف اكتسبه وأنفقه، وأنه أهوال لمن عصى أو عصت ونعيم سرمدي لمن أطاع أو أطاعت، يوم لا ينفع مال ولا بنون وانما ينفع البعد عن المعاصي والمحرمات، وكلمة حق نطقتها المرأة الموحّدة وخير أدّته ومعروف أثبتته والويل للغافلين. فيه عظمة الخالق القهّار، فتخر الخلائق لعظمة الهيبة والجلال وتخشى منادية: المُلك والقدرة اليوم وفي كل يوم لله الواحد الجبار. أن تلقى الموحّدة وجه ربها الكريم بغبطة واطمئنان وفي هذا لذة اللذات وغاية الغايات. طلب الدنيا ذل النفوس وطلب الآخرة عزّها – واستغفري رب العزة والمنّة تفلحين وتخلدين في سعادة أبدية.

والمرأة الموحدة تدرك أن الاخلاص في العمل سبيل إلى الثواب: يقول الرسول (صلعم) “ان الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه” والعمل لا يكون إلا لله خالصاً لوجهه طالباً مرضاته وعليها بالأعمال المجيدة والإخلاص لها والأعمال الخالصة هي البغية والمراد بها الفوز يوم المعاد والله لا يرضى بالتقصير عن الطاعة وإهمال صالح الأعمال.

انطلاقاً من هذه المرتكزات وغناها، ومن تمسكها بقيم العقل (وذروته توحيد الخالق)، والأخلاق المثلى، وذروتها القيام بالواجبات الشرعية والاجتماعية والعائلية، سواء بسواء، تستطيع المرأة الموحدة أن تقوم بنجاح بمهام التوعية الدينية والأخلاقية التربوية لأسرتها ومحيطها وكما يريدها المؤمنون: يا من استلهمت الأخلاق الرفيعة والدعوة السماوية الخالدة واستوحيتها بمهداة العقل النيّر والفكر الثاقب الرزين وبنيت على أساسها مجدك وتقربك إلى الله تعالى وعظمتك الخالدة إلى الأبد.

ماذا عن الموحدات المثاليات؟؟ لجّوا معي قلاع التاريخ والحصون واقرعوا أبواب نسب التنوخية والدة الأمير فخر الدين المعني الثاني اخشعوا في رحاب مزارات الوليات وفاءً لعهد العرض والدين: الست ساره السلام عليها والتي تكون اسطورة في عزمها وقوة شخصيتها وتحمل المشقات: انجاز عجز عنه كبار رجل عصرها، حملت مشعل الدعوة من مصر إلى وادي التيم بالقرن 12 يتبعها جمهور من الشقيقات الملتزمات برأيها، مؤدية الأمانة، ملتزمة بالرسالة، والثقة الكبيرة جداً، شعارها: “ان الله لن يترك عبده أكرم منه” … وكل موحدة لها راية بيضاء مرتفعة، وهل من بين نساء الأرض من يتجاوزهن حكمة وعطاء؟ بهذه المفاهيم تستطيع الموحدة الدرزية أن تسير بأولادها نحو طريق الخير في معارج الرقى الروحي لأنها مظهر من مظاهر العفاف والطهر والقداسة. الموحدة هي الكائن الوحيد الذي بمقدوره أن يهيّئ الجيل الجديد لتحقيق آمال المستقبل المرتكز على الأخلاق والصفات النبيلة. ابتدعها الله نصف المجتمع وشريكة الحياة وأنسها وبهجتها: “جعلنا من أنفسكم أزواجاً تأتون إليها تسكنون”.

الموحدة هي من دعاة التقوى والعلم والشرف الرفيع، مسؤولة عن تربية أجيال فتمسكن بالتوحيد والأخلاق والدين. الموحدة مصدر الوحي والإلهام ومآثر التضحية والوفاء سمت قداسة من الله عز وجل. مستمدة قولها وعملها من الأمير السيد (ق) الذي حث على العلم وجعله فريضة وواجباً لها، فهي مع زوجها في السراء والضراء. كذلك دعاها إلى الاهتمام بالعائلة أولاً فتلك هي مسؤوليتها الأولى. العائلة هي رمز الوطن، فإلى تفاهم وتعاون مع شريك العمر ليتكامل الدور مع الرجل نضالاً وتوحداً وإنسانية. انها العبادة المرتكزة على التربية الدينية الصحيحة. التربية الدينية والوعي الخلاق هما النعم الوافرة وصاحبة الخلق الرفيع لا تهمل العلم الروحاني ساعة واحدة تعمل على مرضاة خالقها بحسن أخلاقها لبيتها بين عائلتها وأقرانها هو نور البصيرة وبدونها تستوي الظلمة على القلوب تتقن وتتمم واجباتها الدينية وشعارها الكد أمام العائلة عبادة ثانية. الاثنان معاً الموحد والموحدة يتبعان تعاليم الأمير السيد في تنشئة الأولاد والتربية الدينية والأدب والمساحة الزمنية بين الولد والولد. فالدين لا يتعارض مع الدنيا ضمن الضوابط الأخلاقية:
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل

إنها خير موحدة خصّها الله بالمكرمات.
كم نحن بحاجة ماسة لرفع الوعي الاجتماعي ونشر وتفسير مفاهيم التوحيد السامية من أجل إنارة الدرب إلى طريق المعرفة الحقة خاصة للجيل الصاعد. كم نحن بحاجة ماسة إلى ثقافة دينية روحية. هذه الجوهرة الثمينة التي أرسلها الله لنا عن طريق الرسل والأنبياء حرام أن تبقى قابعة في الأدراج، هي الأس المتين والركن الركين في عملية بناء الأوطان المبنية على الأسس المتينة من الأخلاق والتربية الدينية والثقافة. يجب تعليمها في المدارس في المؤسسات. لقد طغت المادة على الأخلاق، وتكالب الناس على المادة وعلى الانحطاط الخلقي والثقافي. يجب الابتعاد عن المفاسد والأخلاق السيئة للسير على السراط المستقيم الذي رسمه لنا الله تعالى. وبالتفاعل والتكامل والتواصل مع جميع الأديان نصل إلى ثقافة دينية موحدة لأن كل الأديان تصب في أناء واحد إلا وهي معرفة الله والوطن (ومحبة الوطن من الإيمان) وهو انتماؤنا إلى الوطن الواحد، إلى المواطنية الصالحة، لا إلى الانتماءات الطائفية البغيضة وذلك يعود إلى التربية الدينية وإلى الوعي الثقافي. التربية والوعي الخلاق يحققان وجوديتنا كاملة متوجهين نحو الحق ويبقى نصراً للحقيقة ومثالاً للتربية. “تاريخنا الديني الحافل بالمآثر والمكرمات صورته قائمة جداً فالحاجة كبيرة جداً لإعادة إحياء هذا التراث خاصة مع الجيل الجديد والذين لا يفقهون أشياء عن تراثهم الإسلامي التوحيدي. يجب تقريب الجيل الجديد من مسلكه. نحن بحاجة ماسة اليوم إلى تعريف هؤلاء الأعلام في سياق معهد أو جامعة تعني بالدراسات التوحيدية فتشكل مركزاً لإعداد رجال الدين على قاعدة العلم الحقيقي والمعرفة الروحانية وإلى إحياء السلف الصالح. يجب المساهمة في نشأتهم ومصالحتهم مع الحداثة. علينا بتربية منفتحة لأن التقوقع والانغلاق مرض فتاك، والتعصب قتّال، والانفتاح على الثقافات والحضارات والتفاعل الخلاق دون إنكار الجذور الصلبة والانتماءات الأولية والتخلي عن الثوابت الدينية والثقافية الفقهية والتاريخية والسياسية والثقافية. يجب إبراز دور الموحدين الدروز كعنصر هام لوحدة لبنان واستقلاله وسيادته طوال ثمانية قرون. يجب تنشيط ودعم التوحيد لكي يؤدي دوره بفاعلية حتى لا يبقى مهمشاً. نحن بحاجة لإبراز تراثنا التاريخي والوطني ومن المفترض أن تقوم به النخبة المثقفة ويجب على الجيل الجديد أخذ زمام المبادرة وعدم نسيان الجذور والأصول التي نفخر بها ونعتز والعمل لمصلحة وطنهم دون إغفال الطوائف التي ينتمون إليها” (عباس الحلبي في كتابه “الموحدون الدروز ثقافة وتاريخ ورسالة” الصادر عن دار النهار).

وأخيراً، أتوجه إلى الأمهات آملة إدراك مخاطر الطلاق (مرض العصر في أجزاء واسعة من هذا العالم، وغير بعيد عن قيم حضارته المادية السطحية والمتسرعة) وانعكاساته الخطيرة على العائلة ثم على المجتمع بأسره. ونقيض ذلك، الاهتمام الكلي من الأب والأم في سبيل وحدتهما، أولاً، للحصول على عائلة متماسكة ملتزمة بقدسية الأمومة والأبوة وهذا يعود إلى التربية الأسرية الأصيلة المبنية على الدين والأخلاق. فالدين والأخلاق هما وجهان لعملة واحدة، هما متلازمان لزوم الرياح للفضاء، والروح للجسد والمعنى للفظ. هما التركيز على المبادئ السامية والأخلاق والصفات والنبل والتضامن المعادات والتقاليد الموروثة للموحدين إلى يوم الدين. ولا أغالي ان اعترفت بأنني فهمت دين التوحيد أكثر عبر رسالتي. فهمت نبل الرسالة، الرسالة التي لحظت الاحترام والالتزام بمفاهيم الأديان السماوية وعقائدها جميعها. من هذه المنطلق الأساس، وقد جعلته رسالة لي أيضاً، رسالة كل مؤمن ومؤمنة، كل موحّد وموحّدة، في تجاوز القوقعة الطائفية، واعتبار الدين بما هو معرفة للخالق، وتمجيد له، وعبادة له، وعمل في الدنيا في ضوء ذلك، أسمى بكثير مما تطرحه الطائفية، كل طائفية، فهي غريبة عن الدين. الدين دعوة إلى إعمال الفكر، فمن فكّر على نحو سليم لا بد أن يبلغ الإيمان. العقل والمعرفة طريق للإيمان. من عرف آمن، ومن آمن جعل حياته سبيلاً للعبادة والعمل الاجتماعي والعائلي الصالح. ومسؤولية المرأة في ذلك خطيرة جداً، وأهميتها هنا تتساوى، أو ربما، تفوق ما للرجل من دور. فناصية التربية في يد المرأة الأم، وفي ضوء نجاحها أو فشلها (لا سمح الله) يتقرر مستقبل أمور كثيرة.

(جزء من محاضرة أطول ألقتها الباحثة في الولايات المتحدة الأميركية)

المقــــــــال الأخيـــــــر

كلمة سواء

المقــــــــال الأخيـــــــر

إلى قرائنا الأعزاء الذين تابعونا بشغف خلال ما يزيد على سبع سنوات، الشباب منهم والكهول المهنيين والطلاب والمثقفين الرجال منهم والنساء..
إلى أخواننا في جبل العرب الأشم أحفاد سلطان والثورة والعروبة الذين أدركنا منذ البدء أنهم شركاء في هذا المشروع ويجب أن يرتبطوا به وبرسالته الثقافية،
إلى جميع الكتّاب والمساهمين والمحررين الذين تفاعلنا معهم حول كل موضوع وكل مناسبة أو إسهام فنشأت بيننا لذلك روابط مودّة وزمالة نعتزّ بها،
إلى أخواننا الأمناء وأعضاء المجلس المذهبيّ الذين دعموا رسالة المجلة والذين نقدّر صداقتهم جميعاً، إلى سماحة شيخ العقل الذي نشهد بأنه كان الضامن لحريتنا المهنية والذي وفّر الظروف المطلوبة للنجاح، من خلال احترام دورنا كرئيس للتحرير، مع الحضور الدائم لإعطاء التوجيه المناسب والنصيحة الرشيدة، إلى جميع هؤلاء أكتب هذا المقال الوداعي معلناَ أنني قررت التخلّي عن مهماتي كرئيس تحرير لمجلة “الضحى”، وأنا أترك “الضحى” راضياً وشاكراً الله على ما وفقني إليه من إعادة إصدار المجلّة الجامعة للمسلمين الدروز في لبنان وفي سوريا، ثم الإرتقاء بها لتصبح إحدى أفضل وأغنى المجلات التي يتابعها عدد لا بأس به من نخبة الطائفة ومهنييها ومثقفيها فضلاً عن المحبين والمتابعين للمجلة من أبناء البيئات الثقافية والروحية الشقيقة..

لماذا نجحت “الضحى”؟ ولماذا تميّزت عن غيرها؟
نجحت لأنها لم تمارس الثقافة بمعناها النظري أو النخبوي المنسلخ عن الحياة، وكم من خطاب ثقافي هذه الأيام يكاد لا يزيد على تعبيرات ذاتية أو مونولوج لا يغني القارئ المتعطش ولا يسمنه من جوع، وبسبب أسلوبها السلس والواضح في معالجة كافة الأمور كبيرها وصغيرها، تمكّنت المجلة من أن تصل بفكرها إلى الجميع، فخاطبت أهل الرأي والفكر لكنها تمكّنت في الوقت نفسه من اجتذاب الناس العاديين من المهتمين بالشأن الثقافي على تنوع مشاربهم واهتماماتهم.
أخذنا من المعلم الشهيد كمال جنبلاط مفهوم “العمل المباشر”، وهو الذي كان يعتبر أن التغيير لا يتم بالشعارات بل بتقديم القدوة والمثال للناس بما يعطيهم الثقة بأن في إمكانهم أن يبدّلوا ظروف عيشهم إلى الأفضل إن هم أخذوا المبادرة وبذلوا الجهد. والثقافة بهذا المعنى يجب أن تكون واضحة وحاملة لمضامين يفهمها الناس ويصدِّقوها فتصبح حافزاً لهم لكي ينهضوا ويبدأوا في تبديل واقعهم، أما ثقافة الكتب والتنظير فلا فائدة ترجى منها وهي قطعاً مضيعة للجهد وللوقت.
هذا المفهوم للثقافة كمحفّز للتغيير هو الذي ألهمنا وضع التصوّر الشامل للمجلة ولأبوابها منذ العدد الأول، وأي متابع لـ “الضحى” يدرك أن المجلة استقرت على تصميمها وترتيب موادها منذ الأعداد الأولى ثم حافظت على ذلك طيلة السنوات السبع من الصدور، والرؤية الصحيحة لا يشوبها تردد ولا تخبّط بل تترجم دائماً بعمل منسجم يزداد قوة ووضوحاً مع الوقت.
وبما أننا نخاطب قراءنا للمرة الأخيرة من هذا المنبر فإننا نجدّ فائدة في التذكير ببعض المبادئ التي بني عليها مشروع إعادة إصدار “الضحى”، ونحن نكتفي باقتطاف فقرتين مُعبّرتين من المذكرة التأسيسية بهذا الخصوص جاء فيهما التشخيص التالي:
1. هناك غياب واضح في الوضع الدرزي الحالي لأي وسيلة إعلام جادة يمكنها أن تمثل محور تواصل بين الموحدين أنفسهم وكذلك بينهم وبين العالم الخارجي الذي يزخر بالأفكار المسبقة أو الملتبسة عن الموحدين الدروز أو ينقصه معرفة الكثير مما يوضح الصورة المشرقة لهذه الطائفة الفريدة في مسلكها وثقافتها الخاصة والغنية بتاريخها والمهمة في موقعها الجغرافي وأدوارها السياسية.
2. إن الفراغ الإعلامي والثقافي ثغرة وجودية بكل معنى الكلمة لأنه لا يبقى فراغاً بل يُملأ على الفور من موج الأفكار والمؤثرات المحيطة سواء عبر الإعلام المتنوع والمفتوح على شتى التيارات أو عبر التقليد الأعمى أو عبر التشوّش القيمي والاجتماعي، وإن إحدى النتائج الملحوظة للفراغ الثقافي القائم هو أن الأجيال الشابّة والناشئة من الموحِّدين لا تمتلك تعريفاً واضحاً لذاتها ولا يربطها حالياً أي تفاعل حقيقي وجادّ بتاريخها وبالقيم والعناصر التي تكوِّن شخصيتها وتحدّد موقعها وروابطها وخياراتها الأساسيّة الوطنيّة والروحيّة والسلوكيّة.
ثم نقتطف من برنامج العمل والأهداف ما يلي:
1. إن الضحى الجديدة لن تكون منبراً للتحليل النظري أو عروض البلاغة بل ستسعى إلى تركيز اهتمام الدروز على المشكلات والتحديّات والقضايا الداهمة التي تواجه الطائفة في وجودها وتقدّمها ومستقبل أجيالها.
2. إن المجلة ستكون في أحد أدوارها وسيلة لتعريف الموحِّدين الدروز أنفسهم ولاسيما الشباب والناشئة بتاريخهم الغني وثقافتهم وبأعلامهم وأبطالهم وسير الصالحين ممن سبقوهم، لأن من لا تاريخ له لا هوية له، ولأن من لا يعرف ماضيه لا يمكن أن يفهم حاضره وما يفرضه من مسؤوليات وما يفتحه من خيارات وفرص.
3. إن المجلة ستكون وسيلة لنشر الإرث الروحيّ الواسع ووسيلة لإعلاء شأن القيم التي بني عليها مسلك التوحيد منذ القدم كما بنيت عليها مسالك الجهاد والترقي الروحي والسلوكي في جميع الحضارات والتيارات الإنسانية.
4. ستركز المجلة على استنهاض مساهمات أفضل الكفاءات والعقول المستنيرة في الطائفة كما ستمدّ في الوقت نفسه الجسور نحو الطاقات الفكريّة والعقول الخلاقة من خارج الطائفة، وذلك سواء عبر دعوة بعض المفكرين إلى المساهمة فيها أو عبر أنشطة الترجمة والنشر وعروض الكتب والأحداث والمحاورات وغيرها.
5. إضافة إلى دورها الفكري والروحي فإن مجلة الضحى ستمارس دورها كأداة فاعلة لحفز المبادرات الاجتماعية والتنموية في مناطق تواجد الموحدين الدروز، ويتضمن ذلك الاهتمام الحقيقي بنواحي الحياة اليومية وشؤون المجتمع المدني والبيئة ومسألة الأرض والزراعة والحرف واقتصاد المناطق وشؤون التعليم والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتمويلها.
لا حاجة للقول إننا التزمنا بجميع هذه الأهداف وتمكّنا من إنتاج مجلة تعكس بصورة إجمالية برنامج التحرير الذي ألزمنا به أنفسنا، وبسبب ذلك تحوّلت “الضحى” إلى وسيلة التواصل الجامعة للموحدين الدروز مما جعلهم يسعون في أثرها ويسألون عنها ويحرصون على جمع أعدادها في مكتباتهم، وغالباً ما كنا نسمع من بعض القرّاء المتابعين أنهم يقرأون المجلة من الغلاف إلى الغلاف وهذا تصريح مدهش لا يمكن أن تسمعه عن مجلة، أي مجلة، في زمن القحط الفكري وسيطرة الإعلام المرئي وأنماط الإثارة وصحافة الجدل والخصومات، وهو يدلّ على أننا أدركنا بالحدس الصحيح مواضع الفراغ المهمة للناس ولحياتهم وثقافتهم، والتي أهملتها الصحافة العامة أو السياسية وغيرها، وتمكنّا عن هذا الطريق من اجتذاب القارئ مجدداً ليس فقط إلى الكلمة المطبوعة، وقد فقدت اليوم الكثير من جاذبيتها لصالح الأقنية الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، بل إلى الاهتمام الثقافي بأرقى صوره.
هذا كان الجانب السهل من تجربة “الضحى”، ونعتبره سهلاً لأنه كان متعلقاً بنا وبالتزامنا كرئيس للتحرير وككتاب ومحررين وكإخراج فني مميز، فهذه الأمور كانت في يدنا، لكن ما لم يكن في يدنا أو كان في مقدورنا أن نضمنه هو ظروف العمل نفسها ومعادلة الأشخاص والأهواء، ولكل عمل عام في الحقيقة محطات ترتبط بتبدل الناس – والمشاعر- ومدى اتساق الآراء والتواصل أحياناً بل أحياناً تسرب التعب هنا وهناك، والمؤسسات مؤلفة من بشر في نهاية المطاف وهي تستمر بهم أو تنكص بسببهم..
وصيتنا المخلصة لأخواننا الأمناء ولأعضاء المجلس المذهبي ولجميع من يتولون المسؤولية هو أن حافظوا على دور المجلة كأداة تنوير وتواصل للموحدين الدروز، وتابعوا رسالة الاهتمام بأخواننا في جبل العرب، وأخيراً اجعلوا للمجلة موارد تعينها على الاستمرار في دورها ودعماً حقيقاً يكون في مستوى هذا الدور.

الحوار واحترام الآخر في ثقافة الموحدين الدروز

الحوار واحترام الآخر
في ثقافة الموحدين الدروز

دَخَلتْ في أحاديثنا الاجتماعيّة اليوميّة، السياسيّةُ منها والدينيّةُ، مُصطلحات مثل الحوار واحترام الآخر وقبول الآخر وغيرها، مُصطلحات عامّة تجري على ألسنة البعض دون أن يكون لها أيّ انعكاس أو مفعول في أدائهم الدّينيّ أو السياسيّ، فمنهم من يعتبرها مبادئ غير قابلة للحياة أو التّحقُّق في زمن التّعصّب والعنف والتّخندق المذهبيّ أو الدينيّ ممّا يجعلها مُجَمِّلات خطابيّة ليس أكثر، ومنهم من يعتبرها غطاء أو ممرّاً لتغطية استيراد المفاهيم الغريبة عن المجتمعات أو ذريعة لزيادة الآراء والاختلافات التي تساهم في تفتيت النّسيج الاجتماعيّ. أمّا عند البعض الآخر فقد تحوّلت هذه المُصطلحات إلى ما يوازي القضيّة من حيث الأهميّة باعتبارها دواء ناجعاً يساهم في نهضة المُجتمع دون الحاجة إلى إلغاء أو تهميش أي مُكوّن من مكوّناته.
وكتمهيد نظريّ للخوض في موضوع الحوار واحترام الآخر عند الموحّدين الدّروز، لا بدّ من توضيح أنّ كلّ اعتبار من الاعتبارات التي سبق ذكرها له من الأسباب ما يبرّره، وقد يكون تفضيل أيّ اعتبار على الآخر دون دِراية وفَهْم للطّبيعة البشريّة وتطوّرها تفضيلاً يخضع للمشاعر والمصالح، فالانفتاح والحوار يلزمه بعض الشّروط ليكون نافعاً ومُنتجاً:
֍ أوّلُها معرفة الإنسان لنفسه، وقد غاص الفلاسفة والمفكّرون منذ التاريخ القديم وصولاً إلى المفكّرين المُعاصرين في التّحليل والتّعليل حول ذلك، فقد تكون أَشهر حكمة وأقصرها وصلت إلينا عن أرسطو أحد أكبر الفلاسفة القدماء الذين بصموا حياة البشرية بفكرهم وأخلاقهم هي قوله: اِعرف نفسَك، وقد تُختَصر رائعة فريد الدين العطار التي جَسّدها في كتابه “منطق الطّير” وصف مشقّة الطّريق إلى الحقيقة والتي كلّفت طيور السّيمرغ كلّ أصناف الاحتمال والعذاب في طريقها إلى “جبل قاف”، تُختَصر في أنّهم وجدوا الحقيقة في انعكاس صورهم وحقيقتهم بوجهها الكماليّ. فمن لم يعرف نفسه سيبقى خائفاً من غيره لا مَحالة، وسيلجأ إلى تنمية العصبيّة الفرديّة والجماعيّة لفرض سياج حول نفسه لا يخترقه منطق أو حقيقة.
֍ ثانيها معرفة الإنسان لغيره، فلا حِوارَ دون احترام، ولا يُمكن واقعيّاً احترام الآخر دون معرفته ومعرفة حدود خصوصيّته، ولعلّ أحدث نصٍّ تشريعيّ صدر على نطاق عالميّ يكفل هذا الحق هو ما ورد في الفقرة الثّانية من المادة التّاسعة والعشرين من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان.
֍ ثالثها وليس آخرها قناعة الفرد أو الجماعة بأنّ التّنوُّع في كلّ أشكاله هو سرٌّ من أسرار الوجود، وهو حقيقة لا يستطيع عاقل أن يتجاهلها، ومن أكثر الآيات ترداداً قوله تعالى في كتابه العزيز: “يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لِتَعارفوا أنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”. وفي الجانب الفلسفي والوجودي فإنّ الحركة هي ضدّ الجمود، ولذلك يقوم الكون من أصغر جزئياته إلى أكبرها على الثنائيّات أو الثلاثيّات أو غيرها، تتحرّك ضمن القوانين الفيزيائيّة ممّا يخلق التوازنات التي تكفل ديمومة الحياة وعدم جمودها.
أمّا تاريخيا، فقد طوّرت معظم المذاهب والأديان خطابها في القرون الأخيرة خصوصاً في القرن العشرين، الظاهريّ منه على الأقل، وانتقلت من المناداة بحصريّة الحقيقة عبر طُرُقها ومؤسّساتها إلى إمكانية خلاص الآخر بصلاح عمله ولو كان يحمل إيماناً مُختلفاً، نُلاحظ أنّ عديداً من العلماء ورجال الدّين المُعاصرين قد غيّروا من توجّهات وتقنيّات أبحاثهم وخطابهم، فبعد أن كان الأولون يبحثون في الفوارق مع الآخر في ما يُشبه السّعي الدّائم إلى تبرير وإثبات الهُوِّية المستقلّة لمذهبهم، وقد يكون ذلك خدمة للمسارات السياسيّة حينها، نرى أن توجّهات المعاصرين ركّزت على المساحات المشتركة بين المذاهب والأديان، وكذلك ركّزت على استنباط القيم الإنسانيّة المُشتركة المودوعة فيها، واقتنع معظم رجال الدّين المُتنورين أنّ خطابهم يعبّر عن إرادتهم هم وليس عن إرادة الدّين، فالكتب الدينيّة المُقدّسة لم تُكتب دفعة واحدة بل نزلت أو كُتبت بترتيب زمنيّ مُعَيّن مع تسلسل الأحداث، ويمكن لرجل الدّين أن يقرأ من الكتاب ما يتوافق مع إرادته ونيَّته، فإنْ شاء التقرُّب من الآخر المُخلتف وجد ما يسانده، وإن شاء إقصاءً ورفضًا وجد أيضا ما يسانده.
فيما يتعلّق بنهج طائفة المُوَحِّدين الدّروز تحتمل هذه المقالة أن أذكر ما فهمته واكتسبته من متابعة عُلَمائها وشيوخها تحت ثلاثة عناوين:
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين،
2- المسلك العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتّنوُّع،
3- اِحترامُ الخيارات الشخصيّة للأفراد.

مع التّوضيح أنَّ ما يَرِدُ في هذه المقالة، خصوصاً في الجانب الدينيّ، ليس بالضّرورة موضع إجماع إذ لا يوجد نصٌ أو مصدر مَرجعيّ يُلزم أبناء المذهب بدراسته والالتزام به، وأتحمّل شخصيّاً مسؤوليّة بعض الاجتهادات والاستنتاجات التي قد لا يستحسنُها أو يوافق عليها غيري من المُفكّرين والباحثين الذين يجهدون مشكورين ومقدّرين في توضيح الالتباس المُزْمِن الذي يُحيط بفَهْم مجتمع المُوَحّدين الدّروز، والذي نتج عنه الكثير من الافتراء والقذف والتَّجنّي بحقّ هذه الطائفة على مُستويات عدة.
1- حُرِّيَّة الالتزام الدينيّ لأبناء المذهب وللآخرين: يميل علماء المَسلك وشيوخه في التاريخ القديم والمُعاصر إلى حَثِّ الفرد على إصلاح نفسه طَوعاً، فلا إكراه في الدّين، ولم يسجِّل التّاريخ أيّة محاولة لرجل دين من طائفة الموحِّدين سعى إلى فرض العقائد الدّينيّة عبر استعمال القوّة أو السّلطة على أفراد مجتمعه، ولم يَسْعَ حتى الدُّعاة الأوائل في المسلك إلى استخدام السّلطة لفرض المَسلك الجديد. وذلك عن قناعة بالثَّابت المُشترك بين كُلِّ المذاهب والأديان أنَّ وصايا الله هي الرّحمة والمَحبَّة، وليس القتل والإلغاء. وما أدلّ على سِعَة رحمة الله إلَّا قوله تعالى: “إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والنّصارى والصّابئين مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرُهم عند ربِّهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون”، ورغم اعتبار بعض العلماء والمُفسّرين أنَّ هذه الآية قد نُسِخَت بغير آية، إلّا أنَّها تبقى نصّاً مقدّساً لا يُمكن تجاهُلُه، يكفل أنّ من يعمل خيراً وصالحاً ويؤمن بالحساب فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، خصوصاً أنّ العديد من الآيات أشارت إلى أنَّ العدل الإلهيَّ لا محالة يعكس أعمال المرء إليه، مع رحمةٍ وعفوٍ من الله لمن يشاء، كقوله تعالى: “وما أصابكم من مُصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير”، وكذلك قوله: “فمن يعملْ مثقالَ ذرَّة خيراً يَرَهْ ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يَرَه”، أو قوله: “ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسِك”. وانطلاقاً من هذا الإيمان فقد صار لازماً على الموحد أن يسعى لإصلاح نفسه ولجم جموحها، وبصلاحها يصطلح المجتمع لأنّ صلاح الجزء يساهم في صلاح الكُلّ، والأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكر لا يُخوِّلان العبدَ أنْ يَحكُم على عبد آخر ويُصدر الأحكام عليه إلّا مَنْ كان قاضياً أو والياً يحكم بموجب القانون والشّرع على الأفعال لا على النيّات. وأقصى عقوبة دينيّة تحلّ بالمُلتزم دينيّاً إذا بَدَرَ منه ما يستوجب العقاب هو هجرانه دينيّاً وحِرمانه من حلقات الذّكر لفترة من الزَّمن، فيكون هذا دافعاً له على استشعار ذنبه وطلب التّوبة والاستغفار من ربِّ العالَمين.

2- المسلكُ العِرفانيّ – فَهْمٌ للوجود واحترامٌ للتنوُّع: إنّ هذا المسلك يرتقي بالعقول والنّفوس لما له من دور في قمع الشّهوات، ومتى ما تهذّبت شهوة التسلُّط وما ينتج عنها من إلغاء معنوي ومادِّي للآخر فإن قَبُولَه سيصبح أمراً طبيعيّاً لا تَكلُّفَ فيه. كذلك فإنّ النظر إلى هذا الوجود كَتَجلٍّ لنور الحقيقة المُطلقة التي لا يخلو منها مكان ولا هي إلى مكان أقرب من مكان كما قال موسى عليه السلام، يُصبح مَحَبّةً وعِشْقا لأنَّه الكلمة التي تدلّ على المَعنى دون أن تكون هي هو. ويصبح النّظر إلى الإنسان الآخر كنظيرٍ في الخَلق كما قال الإمام علي (ع) أمراً إنسانيّاً طبيعيّاً، وتُصبح مُعاملة الناس بالتي هي أحسنُ سلوكاً دينيّاً وإنسانيّاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: “الخلقُ كلُّهم عيال الله وأحبُّ خَلْقه إليه أنفعهم لعياله”. اتِّباعا لهذا المسلك يرى الموحّدون الدّروز أنّ الوجود بأنظمته هو تنوُّعُهُ وألوانُه واختلافاتُه له معنًىً حقيقيٌّ واحدٌ لا يُمكن للعقل البشريّ أن يُحيطَ بكلِّيَّته، بل يُحيط بشيءٍ منه على مستوى العقل الطبيعيّ والغريزيّ، ويعرفُ من الماورائيّات على مستوى العقل المُكْتسَب والعقل الدّينيّ، فاللهُ “يُؤتي الحكمةَ من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خَيْراً كثيراً”، “وقَتَل داوودُ جالوتَ وآتاه الله المُلك والحكمة وعلَّمه ممّا يشاء”، وفي سورة آلِ عمرانَ خاطب الملاكُ مريمَ يُخبرُها عن عيسى: “ويعلِّمُه الكتابَ والحكمة والتّوراة والإنجيلَ”، وفي سورة لُقمانَ: “ولقد آتينا لقمان الحكمة أنِ اشكر الله”، وفي سورة الإسراء خاطب النّبي صلّى الله عليه وسلّم: “ذلك ممّا أوحى إليك ربك من الحكمة”. يتجلّى معنى هذا الوجود للقلوب على مقدار صفائها وجلاء الرّان عنها وعلى مقدار ما تعقل من هذه الحكمة، والرّان هو حِجابٌ من الذنوب والمعاصي والانغماس بالماديّات تغلّف القلب فتَحُول بينه وبين استشعار الحقيقة، ويُصبح هذا القلب قاسياً لا يقبل اللّطائف ولا يزدجر عن النّواهي، وفي هذا المنحى قال تعالى: “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه خاشعاً مُتَصدِّعا من خَشْية الله”، ومن لم يتخلّص من الرّان لا يصل إلى لبّ التّوحيد الذي هو الإحسان، وقد أجمع المسلمون أن الإسلام ثلاث مراتب: إسلام فإيمان فإحسان، والإحسان هو أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تَرَه فهو يراك. وبما أنّ رؤية الحقيقة الإلهيّة هي قِمّةُ النّعيم الذي وَعَدَنا تعالى بها، وجحيمه هو الحرمان من هذه الرُّؤية: “كلّا إنّهم عن ربّهم يومئذ لَمحجوبون”، ممّا يدلُّ على أنَّ أهل الجنّة لن يكونوا عن ربّهم محجوبين، فصار نصيب الإنسان في الدّنيا هو رؤية انعكاسات الحكمة والتدبير الإلهيين في مخلوقاته، فيرى معنى الحقيقة في كلِّ ما يراه: “ولله المَشرق والمغرب فأينما تُولّوا فثمّ وجه الله”.

أمّا على صعيد الأخلاق وكيفيّة انعكاس هذا المَسلك العِرفاني عليها، فبعد أن كَفل القرآن الكريم تنوّع واختلاف خَلقه مُحَدِّداً أنّ أقربهم إليه أتقاهم، اعتمد المُوَحّدون مبدأ اقتران حُسن النّتيجة بحُسن السّبب، وبهذا فإنّ حُسْنَ الإيمان وصدق العبادة لا بدَّ إلّا أنْ يُترجَم حُسناً في معاملة الآخرين، لذلك يُردِّد مشايخُنا وعلماؤنا قولاً مُختَصراً شدّد عليه الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد: “يُسْتدَلُّ على صِحّة دين المرء من صِحّة مُعاملته”، وهذا القول المُبَسّط يحمل روحيّة قول نبيِّنا الكريم “المُسلم مَن سَلِمَ الناس من يده ولسانه”، والتّديُّن والإيمان لا يتعارضان مع الأنظمة والقوانين الوضعيّة، فالدّين عند المسلمين كافّة هو شِقّان: عبادات ومُعاملات، أمّا العبادات فهي حقٌ لكلّ إنسان بموجب إيمانه وباعتبار أنَّ حرّية الإيمان مقدّسة، وكل طائفة تقوم بطقوسها كما تشاء. أمّا المُعاملات، وهي الشّقُّ الذي يتعلّق بالتّعامل مع الآخر، فهو يتوافق مع القوانين جملة وتفصيلاً خصوصاً لجهة حفظ الحقوق وعدم التعدِّي على حقوق الآخرين.

3- اِحترام الخيارات الشّخصيّة للأفراد:
وينطبق ذلك على أبناء المذهب وأبناء المذاهب الأُخرى:
֍ بالنّسبة لأبناء المذهب فقد اعتمد مَسلك التّوحيد في كثير من قضاياه مبادئ دون مسميّات، فالمُسَمّى قد يتغيَّر مع مرور الزّمن بينما المبدأ يبقى ثابتاً، فمن مبادئ التّحريم مثلاَ وقوع المُحَرّم تحت أحد هذه الخصائص الأربعة: إذهابُ العقل أو إذهابُ الصِحّة أو تبذير المال أو تبذير الوقت دون مردود أو منفعة، وتحت هذه الخصائص يقع التّدخين مثلاً، بكل أصنافه وأشكاله، لأنّه مُذهِبٌ للصحّة ومُذهِبٌ للمال ممّا يجعله مُحَرّماً عند المُوَحِّدين الدّروز حتى لو لم يوجد في القرآن الكريم والسنّة النبويّة ما يُحَرّمه، ومن اختراعات العصر الحديث مثلا المُفَرقعات الناريّة، ولا يوجد نصٌّ حولها لأنّه لم تكن موجودة، آن نزول النّص لكنّها تبذيرٌ للمال فجاز تحريمها.

أمّا في الأمور الحياتيّة فقد اعتمد المَسلك التّوحيديّ أيضاً في كثير من الجوانب التي تتعلّقُ بمرتبة وعلوّ درجة المُوَحّد مع ربّه في غير المطلوب ضمن دعائم الإسلام، اعتمد وضع قواعد مُثلى دون أن يحدّد التفاصيل وعتبة الاجتياز، فتكون درجة الموحّد وعلوّ شأنه أمام ربه على مقدار اقترابه من هذه القاعدة المُثلى، كعلاقة العقل بالشّهوة مثلا، فمن غَلَبَ عقلُه شهوتَه تقرّب وتشبَّه بالملائكة، ومن غلبَت شهوتُه عقلَه انحدر في إنسانيَّته نحو الغرائزيّة. انطلاقاً من هذه المبادئ وهذه القواعد يَحْترم رجال الدِّين خيارات الفرد الشّخصيّة لأنّه هو وحده من يحمل وِزْرَ أعماله من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الله عز وجلّ وحدَه يعلم أسباب ودوافع الفرد في خياراته، لذلك يكتفي رجل الدّين بالأمر بالمعروف والنّهي عن المُنكَر، باستثناء ما يُنظّمه قانون الأحوال الشّخصيّة كالزَّواج والميراث، وكذلك الدّور المعنويّ في التّوجيه الأخلاقيّ الاجتماعي والوطني العامّ. مع الإشارة إلى أنّ الكثير من العادات الاجتماعيّة المعروفيّة الموجودة حاليّاً بنسب متفاوتة بين مِنْطقة وأُخرى تختلط على الباحثين فيعتبرونَها دينيّة.
֍ بالنّسبة لأبناء المذاهب والأديان الأُخرى فالتّوجّه منذ البداية كان احترام عقائد الآخرين احتراماً تامّاً دون الدّخول في مُناظرات أو مُقارنات أو نقاشات، فكلّ ما يُشوّش إيمان الآخر أو يُوصِل إلى نزاعات يُعتَبرُ مكروهاً غير مرغوب فيه. ومن واجبات الموحّد أن يلتزم بمراتب الإسلام الثّلاث ولا يكتفي بالتزام المَسلك العِرفاني الذي نشأ متأثِّرا بمرتبة الإحسان، فالإحسانُ لا وصولَ إليه إلّا من الإيمان، والإيمان لا وصول إليه إلّا من الإسلام، فالإسلام هو جذع الشّجرة والإيمان أغصانُها والإحسان ثمارُها. ولا يجني الثّمرَ من أهمل الأغصان والجذع، وقد ذكّر وحسم بذلك الأمير السيّد جمال الدّين عبدالله التنّوخي وكذلك الشيخ الفاضل أبو الهلال محمّد وضوحاً وصراحةً، وتشدَّدا على من عاصرهما للالتزام التامّ في ذلك. والالتزام بهذه المراتب فعليّاً يعني الالتقاء مع الأمّة قِيَمِيّاً وروحيّاً دون أن تكون خصوصيّة أيّ مذهب أو دين سبباً للنّزاع أو التّفتّت.

وفي الختام يمكن أن أوجز انعكاس ما حاولت إيضاحه في هذا النّص عن مُجتمع الموحّدين الدّروز وأخلاقيّاتهم على سلوك أبرز القادة السّياسييِّن ونُصرة الموحّدين المعروفييِّن لهم في التّاريخ المُعاصر، فبعد أن امتلأت ذاكرة التّاريخ ببطولاتهم وتضحياتهم في الدّفاع عن ثغور بلاد الشّام، واستبسالهم في قطع طرق الإفرنج نحو القدس على مدى عقود، فقد تصدّر سلطان باشا الأطرش صفحات تاريخ جبل العرب في مطلع القرن العشرين في مواجهة الانتداب، ولُقِّبَ الأميرُ شكيب أرسلان بفتى الثَّورات العربيّة التي أوصلت الدّول العربيّة إلى استقلالها من شمال أفريقيا إلى شبه الجزيرة العربيّة، ولا زال التقدّمي المُتَصَوِّف كمال جنبلاط أبرز شهيد للقضيّة الفلسطينيّة التي ما برحت تنزف مدى ستِّين عاماً. نعم كُلّهم يحملون من مبادئ مسلك التّوحيد وخِصاله، وتجري في عروقهم نخوة المعروفييِّن المجاهدين، يَدعون إلى التّعاضُد والتّعالي عن الانقسامات والحِسابات المذهبيَّة التي تُشكل أقوى سلاح يستعمله الأعداء والمتربِّصون، ولم تُشكلْ خصوصيّة مذهبهم حائلاً أمام انفتاحهم على الآخرين فكانوا رِيادييِّن في الدّفاع عن قضايا المِنطقة لا سبباً في تفتيت نسيجها كما يُرَوّج بعض المُتَشَدِّدين الإلغائييِّن الذين مازالوا يتوهّمون بأنّ ضَعفَ الأُمّة سببُه التنوُّع في مجتمعاتها.

المكتبةُ الوطنيّة

المكتبةُ الوطنيّة
من أغنى الصروح الثقافية في لبنان والعالم العربي وتضم 140 ألف كتاب و280 ألف مطبوعة دورية

مدير المكتبة الوطنيّة غازي صعب لـ :
طموحي أن نرتقي بالمكتبة الوطنيّة الى مصافّ كبرى المكتبات في العالم.

لدينا مشاريع كثيرة بحاجة الى أريحيّة أصحاب الأيادي الخيّرة لتنفيذها.

تمثال الأمير فخر الدّين المعني شكَّل هاجساً لدى النائب جنبلاط حتى أعيد تركيبه في الباحة الخارجية

قد تكون المكتبةُ الوطنيّةُ في بعقلين من أهمّ الإنجازات التي تحقّقت في منطقة الجبل، ويعود الفضل في تأسيسها إلى رئيس اللّقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط الذي أصرّ على الرّغم من كلّ الاعتراضات التي واجهته أن يحوّل هذا المكان الذي كان محكمة وسجناً إلى مكتبة، متجاوزاً المثل القائل (من يفتحْ مدرسة يقفلْ سجناً) إلى القول: من يفتح مكتبة يقفلْ كلّ السجون ويفتحْ أبواب العلم والثّقافة أمام روّاد العلم والمعرفة لتكونَ في مُتناوَل الجميع دون عناء. تلك هي رسالة المكتبة الوطنيّة، شاءها راعي الثقافة في الجبل الأستاذ وليد جنبلاط منارة في قلب هذا الجبل الذي أعاد إليه عزّه وعنفوانه فسما به إلى العلى مَجداً خالداً لا ينحني ولا يلين.

تلك هي المكتبة الوطنيّة في بعقلين؛ فيا أيها الساعون إليها من أيّ مكان أتيتم لتنهلوا العلم من معينه مهلاً إنْ أضعتم البوصلة في الاهتداء إليها، فذا تمثال الأمير فخر الدّين المعني الثاني الكبير؛ المنتصب في باحتها الخارجيّة، بما يرمز من شموخ وكبر، يحفظ لكم في بطانة عباءته عشرات آلاف الكتب القيّمة والمطبوعات النادرة تغرفون من بحورها ما تشاؤون.
تشغل المكتبة الوطنية في بعقلين اليوم مبنىً أثريّاً مميّزاً يعود بناؤه إلى سنة 1897م أيام المتصرفيّة، وكان يُعْرَف بِسَراي بعقلين حيث يضمّ محكمة بدائية ومخفراً للدّرك وسجناً.

تم افتتاح المكتبة الوطنيّة في 13 آذار 1987 بعد ترميم المبنى وتأهيله من الداخل والخارج وتجهيزه بكلّ المستلزمات الخاصّة بالمكتبات العامة بمبادرة من معالي الأستاذ وليد جنبلاط. وفي العام 1996 تبنّى مجلس الوزراء في قراره رقم40 بتاريخ 6/3/1996 هذا الصّرح الثقافيّ المجتمعي. ثم تعاقدت وزارة الثّقافة مع الموظفين العاملين فيها بناء على القرار رقم 44 تاريخ 6/10/ 1996 وهي تضمّ مجموعة أقسام: الإدارة – الفهرسة والتصنيف – الخدمات القرائية والمرجعية – التوثيق والأرشيف – التزويد والاقتناء – الكمبيوتر ــ مكتبة الأطفال – اللغة الإنكليزية – قاعة النّشاطات والنّدوات – مسرح وصالات احتفالات مركزيّة هي اليوم قيد التنفيذ.

وفي هذا الحوار مع مديرها الأستاذ غازي صعب إضاءة مشرقة على ما تحقق من إنجازات وفيما يلي نَص الحوار:
منذ مدة والعمل في المكتبة الوطنيّة لم يتوقّف، فما هي أبرز المشاريع التي نُفِّذَت والمنويّ تنفيذها؟
من الواضح أنّ المكتبة الوطنيّة كانت في السنوات الماضية تقتصر على السّراي القديم، ولقد أصبحت اليوم تضيق بالنّشاطات التي تستضيفها بشكل دائم. وبطلب من رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط تقرر توسعتها وإنجاز الأقسام الباقية مع شرط المحافظة على طابعها العمراني القديم. ومنذ ثلاث سنوات تمّ افتتاح قاعة المحاضرات في المبنى الجديد، وهي تتّسع لنحو 250 شخصاً، وفي المبنى نفسه يوجد المركز المخصّص للأرشيف، ويضم نحو 280 ألف مطبوعة دوريّة من بينها مجلّات وصحف ونشرات متعدّدة. وبعد أشهر قليلة سيتمّ افتتاح مسرح المكتبة الوطنيّة الذي يتّسع لنحو 450 شخصاً وفق أحدث نظم المسارح العالميّة، ويضمّ أيضاً عدّة قاعات قد تُستخدَم للمعارض وصالات للسينما.

من هي الجهة المُموِّلَة لهذه المشاريع الضّخمة؟
مصدر التمويل هو وزارة الأشغال العامّة والنقل، أمّا توقيع الاعتماد فقد تمّ في أيام الوزير غازي العريضي مروراً بوزارة الثقافة وديوان المحاسبة، وقد تطلب الأمر مني متابعة شخصية حتى أصبح قيد التنفيذ.
هل هناك من مشاريع مُلحِّة يجري تنفيذها؟
بعد أن ضاقت الأمكنة بالكتب المُنتقاة، نعمل حاليّاً على تحويل القاعة في الطابق السُّفلي الى مكتبة وتجهيزها لتستوعب الكتب والمراجع الجديدة، وهي بغالبيتها مُهداة للمكتبة من النائب وليد جنبلاط، وهو مشروع كبير تتولّى وزارة الثقافة تنسيقه وتمويله، كما بدأنا بتطوير برنامج مكننة المكتبة وتحويله إلى برنامج حديث يمكّنها من تقوية موقعها الإلكتروني على شبكة الإنترنت. وفي العام 2002 كنّا من أوائل المكتبات اللّبنانية والعربيّة التي سهّلت لروادها البحث عن مصادر المعلومات من خلال موقعها الإلكتروني www.baakeenlibrary.com وهذا الموقع نال المرتبة الأولى من حيث المضمون والمحتوى وقد تمت المقارنة بين موقعنا الإلكتروني والعديد من المواقع المشاركة بشكل دقيق.

مدخل المكتبة الوطنية
مدخل المكتبة الوطنية

ما هي البرامج والأفكار التي أطلقتَها لتحديث المكتبة؟
من أهم البرامج التي اشتغلنا عليها لتحديث المكتبة وتطويرها، برنامج الإعارة الخارجيّة الذي باشرنا العمل عليه منذ ثلاث سنوات بعدما أتَحْنا فرصة الإعارة الخارجية المجانية للجميع على مستوى لبنان، ولقد بلغ معدّل الإعارة سنويّاً عشرة آلاف كتاب، وهذا رقم قياسي إنْ في لبنان أو في بعض الدّول العربيّة. والجدير ذكره في هذا الموضوع أننا خطّطنا لتشجيع المطالعة للفئات العمرية كافّة، وكنّا نستهدف بشكل خاص الأطفال والناشئة وجيل الشباب، وأعتقد أننا حقّقنا هدفنا إذ بلغ عدد المستعيرين 65 بالمئة من روّاد المكتبة. ومن المفيد ذكره أنّ هناك الكثير من طلّاب الدراسات الجامعيّة والجامعيّة العليا يزورون المكتبة لمتابعة دراساتهم وأبحاثهم من مختلف المناطق اللبنانية، وهذا أمر نعتزّ به ونفتخر لأنّنا استطعنا أن ننشرَ المعرفة بين أبناء الوطن بكل فئاته.

هل لك أن تذكر لنا أبرز المعوقات التي اعترضت قيام هذه المكتبة؟
المعوقات كانت كثيرة في بداية الأمر ولكنها ذُلِّلَت. والقِصّة بدأت في العام 1985 عندما حاولت الدّولة استرجاعها والإبقاء عليها كسجن. لكن أهالي بعقلين رفضوا ذلك وطلبوا من النائب جنبلاط المحافظة على طابعها الجديد وتحويلها إلى مكتبة فكان لهم ما أرادوا، وقد اعتصمت الهيئات الثقافية اللبنانية في المكتبة دعماً لاستمرارها. في العام 1986 قام النائب جنبلاط بترميمها وأمر بإزالة الزنازين والقضبان الحديديّة التي كانت تحيط بها ومحو معالم السّجن عنها، وحوّلها إلى مكتبة وطنيّة وقدّمها إلى الدولة اللبنانية التي انتظرت عشر سنوات حتى اتّخذت قراراً بضمّها إلى وزارة الثّقافة بقرار من مجلس الوزراء في العام 1996، ثمّ جرى التعاقد مع الموظّفين المختصّين في السّنوات اللاحقة.

من يُموّل النشاطات التي تُقام في المكتبة الوطنية؟
لدينا معاناة كبيرة بالنسبة لتمويل الأنشطة والأعمال المطلوب تطويرها، فوزارة الثقافة تؤمن رواتب الموظّفين، وتقدّم القليل من المصاريف والنّفقات الضّرورية، كأعمال الصيانة وتأمين المحروقات لجهاز التدفئة، والقرطاسية، ولكي نؤمّن الموازنة التي تحتاجها المكتبة نقيم كلَّ سنة عشاء سنوياً ندعو إليه بعض الشخصيّات البارزة لتقديم الدّعم للمكتبة. كما أن جمعيّة أصدقاء المكتبة تضمُّ عدداً من المتطوّعين من الشخصيّات الفاعلة في المجتمع وتبذل جهدها لمساعدة إدارة المكتبة.

قاعة المحاضرات والمعارض
قاعة المحاضرات والمعارض

لملاحظ أنّ تمثال الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير عاد لينتصب من جديد في باحة المكتبة، فماذا أضاف هذا الرّمز التاريخيّ على المكتبة الوطنية؟
منذ أن أزاح الرّئيس الراحل سليمان فرنجية الستار عن تمثال الأمير فخر الدين ممتطياً ظهر حصانه في هذا المكان. كان لهذا التمثال حكاية طويلة، ففي الحرب الأهلية أصيب التمثال بقذيفة من العيار الثقيل أدّت الى تحطّمه آنذاك، وقد شكّلت إعادته إلى هذه الساحة هاجساً بالنسبة لوليد بك، حتى أنّه أوعز بتحضير تمثال بدلاً منه، وهذا ما حصل، وقد أشرف الفنان عساف عساف وأخواه على تصميمه، وعند الانتهاء منه أصرَّ النائب جنبلاط على وضعه في باحة المكتبة مع الإبقاء على اللوحة الرخاميّة نفسها التي كتب عليها (تمّ وضع هذا التمثال في عهد الرئيس سليمان فرنجيّة) مع الإشارة إلى أنّ معظم المكتبات في العالم تزدان بمنحوتات وتماثيل لقادتها وزعمائها وأدبائها وعباقرتها. ولقد أضفى هذا التمثال على باحة المكتبة جماليّة خاصة ومميزة.

ما أهميّة وجود مكتبة وطنيّة بهذا الحجم في قلب الجبل؟
لا تقتصر أهمية المكتبة على منطقة الجبل فقط، وإنّما على لبنان كلِّه، فقد استطعنا من خلال التواصل الدائم مع وليد بك ووزارة الثقافة لاحقاً، أن نجعل منها مكتبة لكلّ لبنان لما تقدمه من خدمات تقليديّة وعينيّة ومرجعيّة؛ ولما نقيمه من أنشطة ثقافيّة وتربويّة يشارك فيها معظم الأدباء والشعراء والمبدعين من كلّ لبنان.

متى يتدخَّل النائب جنبلاط في شؤون المكتبة؟
أجزم أنّ مؤسس المكتبة وليد جنبلاط، لا يتدخّل في أيِّ شأن من شؤون المكتبة منذ أن أصبحت تابعة لوزارة الثقافة، وأذكر بالمناسبة أنّه مرّة أرسل لنا كتاباً بالّلغة الإنكليزية لنضعه في المكتبة، وبعد فترة سألني إذا تم تسجيل الكتاب في أرشيف المكتبة فأجبته بنعم، فردّ سائلاً ما إذا كان يستطيع استعارته لمدّة أسبوعين فقط فأجبته بالتأكيد، ولكنّه قبل انقضاء المدّة اتّصل وأبلغني عدم الانتهاء من قراءته فأعطيناه فرصة أسبوعين آخرين غير أنّه أعاده إلى المكتبة بعد أسبوع، وهو كما أشرت يَهَبُ المكتبة كلَّ ما يَصِل إليه من كتب ودراسات.

من هي أبرز الشّخصيات التي قمتم بتكريمها؟
كثيرة هي الشخصيات التي جرى تكريمها في المكتبة الوطنية منها: مئوية الشاعر الكبير سعيد عقل، والشاعر الكويتي عبد العزيز البابطين، ومن أبرز الأنشطة التي أتذكّرها، زيارة العديد من السفراء العرب والأجانب، المعتمدين في لبنان الذين تعاونّا معهم في العديد من الأنشطة المشتركة وأخص بالذكر إمارة الشارقة تحديداً، وزيارات العديد من الوفود العربية والأجنبية التي تشارك في المؤتمرات التي تعقد في لبنان، ومن الزوار المهمين مدير المكتبة الوطنية في طهران، وأصدقاء المكتبات العربية المشاركة في مؤتمر جمعيات المكتبات العربية، والعديد من الباحثين من دول أوروبا والشّرق الأوسط. وبالمناسبة أتمنّى على كل اللبنانيين القادرين وخاصة من أبناء الجبل زيارة المكتبة لتشجيع هذا الفريق العامل فيها، والمميّز بدقة عمله وبخبرته المكتبية لدعم المكتبة لنعمل معاً على تطويرها بشكل أفضل ولدينا مشاريع كثيرة بحاجة إلى أريحية أصحاب الكرامة لتنفيذها.

ل لديكم إحصاء حول مجموع روّاد المكتبة في العام 2017؟
بلغ مجموع المشاركين في مُجمل الأنشطة التي أقيمت في المكتبة للعام 2017 ما مجموعه 20369 شخصاً، وهذا العدد فاق كلّ التوقعات لهذه السنة.

لمزيد من المعلومات عن المكتبة يرجى زيارة:
www.baakeenlibrary.com

المقاربة الرّوحيّة لمفهوم الأخلاق في نهج الأمير السيّد (ق)

سيـرةٌ أثـيلَة

عاشَ الأميرُ السيِّد جمال الدّين عبد الله التنوخي قَدَّس الله سرّه منذ بداية العقد الثالث إلى ما قبل منتصف العقد التاسع، في القرن التاسع للهجرة (820 – 884 ه) / (1417 – 1479 م) وفقاً لما ورد في مصادر سيرته التي كتبها بعد وفاته من عرفهُ ووعاه واستنار بلطائف فوائده الروحيَّة والتزم نهجه في التدبير الحكيم لأمور المسلك والتعليم والتهذيب الأخلاقي الذي هو قاعدة أساسيَّة من قواعد أصول العبادات والمعاملات في الدّين.

وَتَتطابقُ رواية الفصول الأساسيَّة في سيرته التي كتبها، كلّ وفق أسلوبه، ثلاثة من معاصريه، منهم اثنان من خواص تلاميذه وإخوانه هما الشيخ أبو علي مرعي، والشيخ أبو يوسف علم الدِّين سليمان بن حسيْن، والثالث هو حمزة ابن أحد التلاميذ المعلّمين الذي كان يُقرئ غالبية التلاميذ القرآن الشّريف (أي يعلِّمُهُم قواعدَ قراءته) كما جاء في كتاب “صِدق الأخبار”، وهو الفقيه شهاب الدّين أحمد بن صالح الشهير بابن سباط. وكان حمزة، ابنه، في رَيعان الشباب عند وفاة الأمير السيِّد.

وأمَّا ملامح تلك الفصول فهي التزام الأمير جمال الدّين المسلك وفق الأعراف الأثيلة، وظهور مآثره الاستثنائيَّة خلال شهر واحد أدرك فيه سنّ البلوغ، ومن ثمَّ طوافه في البلاد طلباً للفائدة والمذاكرة مع “الأجواد”، ثمَّ تَشَكُّل كوكبة من المريدين النابهين المتيقظين حوله حملوا معهُ أمانة النهوض بالوعي الرُّوحيّ من التباسات “عصر الانحطاط” (يُسمّيه د. أسد رستم في أحد بحوثه: العصور المظلمة، ويتحدَّث عن الدور التنويري الذي قام به الأميرُ السيّد في تلك الحقبة)، إلى منافذ الإنابة والاستبصار والسَّعي الحثيث علماً وعملًا نحو “القبول والترقّي والعروج إلى حدِّ الإنسانيَّة” حيث تكون ثمرة أفعال المرء “العقل والحِلم والسُّكون والرَّزانة والرُّجحان، والعفاف والصِّيانة والنَّظافة والطَّاعة والطَّهارة ومكارم الأخلاق” إلى ما ماثلها من فضائل راقية سامية.

وتتعرَّض مصادر السيرة إلى ما واجهه من “مضادَدة” من العديد الذي “لم يفهم مبناه”، الأمر الذي أدَّى في ظروف معيَّنة إلى مغادرته “منطقة الغرب” إلى دمشق، حيث مكث فيها ما يناهزُ اثني عشر عاماً حتَّى تبدَّت للخَلق كراماته برزانة العقل وثاقب البصيرة وتوقّد القريحة وسموّ المسلك واتّساع فسحة المعرفة إلى آفاق لا تفي “بشرح معانيها الطّروس”. ومن ثمَّ عودته إلى بلدته، وانصرافه، بعد وفاة ولده الذي بلغ درجة العالِم في مستهلّ شبابه، إلى توضيح دقائق المعاني ولطائف مكنوناتها ممَّا يُحيي القلوب ويهذّب النفوس ويهيِّـــئُها إلى امتثال “مراسم الحقّ” كما هو لائق بكلِّ عاقِل.

والمرجَّح أنَّ السببَ المباشَر لعودته من دمشق إلى جبل لبنان بعد غيابٍ مديد هو وقعُ الرِّسالة الخطيرة التي كتبها “إلى جماعة البلدان وهو قاطن بمدينة الشام” (الاقتباسات من مجموع “مكاتبات الأمير السيِّد”)، ونبَّه فيها إلى عدم جواز بقائها في أيديهم، وقصْده من ذلك أن يُصار إلى قراءتها “في جميع البلدان”، كما أنَّه أنذر الكلّ بانَّه لم يبقَ عنده “مراجعة ولا كتاب، وهذه الصَّحيفة آخر القول والخطاب، ونهاية اللوْم والعتاب، إلَّا أن يكونَ الجوابُ حُسنَ المآب، والرّجوع إلى الحقِّ والصَّواب”. .

الكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها

تضمَّن الكتابُ “تعتُّب وتعنيف وحثّ لجميع الإخوان”، وتبدَّى في ثنايا سطوره الكثيرُ من الإشارات الواضحة الدالَّة على التقصير والتأخير “عن عنوان منازل السَّابقين”، وعلى القعود كلالًا (أي تعباً وضعفاً) وتخلُّفاً “عمَّا انتهَت إليه عزائمُ المجتهدين اللاحقين”، وذلك يُردُّ لأسبابٍ منها النزوع إلى “طلب الجاه، وحبّ الرئاسة وكثرة الأعوان، والمبالغة في إقامة الحُرمة والناموس إلى أبعد غاية وأقصى مكان” (مصطلح “الناموس” في المأثور الرُّوحيّ الذي نهل منهُ الأميرُ السيِّد بات يعني الانكباب على عمل الظاهر والاطمئنان إليه من دون اكتراث بتعلّق القلب وأهواء النفس المتلاطمة بزخاريف العالم الدنيويّ). تلك المنازع هي كلّها “مصارع” لأهل الزمان، مؤدية إلى سلبهم الدّين والدّنيا، وهدم المنزلة، وخسارة السّعي. ومن استبصر “ما هو كائن من أحوال المعاملات” لوجد في ذاته القناعة والغنى لوقوفه في مقام الاعتبار واستشعار النَّصيحة.
قاعدةُ السَّعادة

أراد الأميرُ السيِّدُ أن يكونَ في رسالته فصل الخطاب مع كلّ الّذين لم يستشعروا في مساره الروحي، ومقاربته الإصلاحيَّة البالغة العُمق، سوى مقابلتها كعادتهم “بشخص السماع”، ومعاملة لطائف المعاني بما في مادّتهم “من كثيف الطّباع”، وجعلها “سنْحاً لا على سبيل الانتفاع، وصفحاً عن العقول بخلاف الاعتراف والخضوع والارتجاع”. أراد، بما أضاء به جَنانَه من نور المعرفة، وبما حقـقه في نفسه العاقلة من ثمار التحقّق، “بذلَ النَّصيحة وإنهاج طرُق الرَّشاد” لئلَّا يقولوا “ما جاءنا مُنبِّهٌ ولا واعظٌ، ولا رأينا في الزمان مشمِّراً ولا ناهضاً”، بل هي “حُجَّة لله” عليهم.

هكذا، تبلْوَرَ في كتابه هذا، وأيضاً في كتابه إلى الشيخ أبي عبد القادر زين الدِّين ريَّان “الّذي فرَّغ قلبَهُ لتحصيل ما يوجب الفوز العظيم(1)”، الكثير من “اللُّـمَع” الروحيَّة البليغة الواردة في مقام النُّصْح والتعليم، والتي من شأنها إيضاح المقاربة الرُّوحيَّة لمفهوم الأخلاق من حيث هو، من كلِّ وجوهه المعرفيَّة والمسلكيَّة، شرطٌ أساسيّ وضروريّ لصحَّة “الدّيانة” ولتحقق “حدّ الإنسانيَّة” الآنف الذِّكر.

تشتدُّ لهجةُ الأمير السيِّد حين يعدِّد بعضَ الآفات التي من شأنها أن تُـقْعِد “عن سلوك الطريق الواضح” وهي: “موتُ القرائح، والكسل الفاضح، وعدم القبول من الناصح، والتعامي عن الذّنوب، والرّخصة في اتّباع الحقّ المطلوب”. فأمَّا القريحةُ، عدا عن كونها مَلَكَة تُمكِّنُ من استنباطِ العِلم، فإنَّها تدلّ أيضاً على “ما خرجَ من طبيعة الإنسان من غير تكلُّف”، وعليه، يكونُ موتُها سبباً لغلبة التكلُّف والتصنُّع والبلادة وركود الذّهن على حركة التصرُّفات والأعمال.

والكسلُ هو الفتور والتهاون والتقاعس، في هذا السياق، عن بذل الهمَّة سعياً إلى تهذيب النَّفس، وتعليمها ما يُفيدُ نباهتَها وحسنَ إدراكها لحقائق الأمور، وإلَّا صارت “عَرَضاً لأسباب البلاء… متورِّطة في مهاوي الحَيْرة والعمَى… كلَّما أيقظها المُنذرون تناعست… وكلَّما شافهتها الأنوار أظلمت…”

إنَّ العجزَ عن “درْك العبارة والتكييف” هو بلْوى تُصيبُ النّفس فتأبى “أنْ تَـتَّحِدَ بالعنصر الكريم الشَّريف”، و”درْك العِبارة” هو إدراك معناها بالعقل وفهمه، ومن ثمَّ “تكييف” السلوك على ما تقتضيه مقاصد المعنى، أي مواءمة النَّفس مع تلك المقاصد بإحداث التغيير في الأعمال ظاهراً وباطناً فيما يؤدِّي إلى حالة الانسجام مع غاياتها الشَّريفة، ويؤكِّدُ الأميرُ السيِّد بأنَّ العجزَ عن بلوغ ذلك، وإهمال مكابدته سعياً إلى تحقيقه، يولِّدُ في النَّفس حتماً نوازع النفور والامتعاض والامتناع بل والعجز عن الاتّحاد “بالعنصر الكريم الشَّريف”، وهو معنى قوله: “أبَتْ نفوسُكُم”.

إنَّ “تـنقية النّفس وتصفيتها بعون الله سبحانه” هي الشَّرط الحتميّ لـ “اتّصالها بباريها واتّحادها بأنوار عظمته، وكمال التذاذها بجماله وجلاله… وهذا هو الدِّين الصَّحيح”(2) ويُسمِّي الأمير السيِّد هذا “الاتِّحاد” بصريح العبارةِ: “عَوْدُها إلى مشاهدة باريها” مؤكِّداً أنَّ “قاعدة السعادة في الدّنيا والدِّين أنَّ العبدَ يستشعرَ وجود حضور خالقه في سرِّه وطَوِيَّته… ولا ينطبع في جوهر العبْد مشاهدة الخلَّاق إلَّا بعد تهذيب الأخلاق…”

مقام الإحسان

ولا بُدَّ من توضيح مفهومَي “الاتِّحاد” و “المشاهدة” على قاعدة السَّنَد الشَّرعيّ السليم للحؤول دون الانزلاق في متاهة التباسات المعنى.
وردَ الحديثُ الشَّريف المشهُور المتعلِّق بمراتب الإسلام والإيمان والإحسان في كتُب السّـنَّة عن جماعة من أصحاب رسول الله (ص)، وأخرجهُ أئمَّة الحديث، واعتُبر في غاية الأهميَّة حيث ينتهي بتوضيح الرَّسول (ص) لهويَّة السائل عن تلك المراتب، وكان رجلًا “شديد بياض الثياب شديد سواد الشَّعر لا يُرى عليه أثرُ السَّفَر ولا يعرفُه منَّا أحد” قال: “فإنَّه جبريلُ أتاكُم يعلِّمكُم دينكم”(3) .

ما يهمّ هنا على وجه الخصُوص، الجزءُ من الحديث في سؤال السائل لرسول الله (ص): “فأخبرني عن الإحسان. قال: أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراك”(4)
ويشرح الشيخ الحَكمي في “معارج القبول…” ما سمَّاهُ “مرتبة الإحسان، مستهلَّا الفصل بهذين البيتيْن:
وثالـــثٌ مــرتبــــــة ُ الإحســــــــــانِ وتلكَ أعلاها لدى الرَّحمنِ
وهي رسوخُ القلبِ في العرفانِ حتَّى يكون الغيبُ كالعِيانِ

ويقولُ موضحاً: ” وهي أعلى مراتب الدِّين، وأعظمها خطراً، وأهلها هُم المستكملُون لها، السابقون بالخيْرات، المقرَّبُون في علوّ الدرَجات… والإحسانُ هو تحسينُ الظاهر والباطن… ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾(5).
ويلزمُ المرءُ أن يحقِّقَ “مقام الإخلاص” في تهذيب النفس، واتّباع مكارم الأخلاق، وبذل الهمَّة في السَّعي علماً وعملًا بصفاء نيَّة ونقاء قلب كي يصلَ إلى المقام الأعلى في الإحسان أي “المشاهدة”(6). “وهو أن يعملَ العبدُ على مقتضى مشاهدته اللهَ عزَّ وجلَّ بقلبِه، وهو أن يتــنوَّر القلبُ بالإيمان، وتنفذ البصيرةُ في العِرفان حتَّى يصيرَ الغيْبُ كالعِيان”(7)، وهذا كلّه لا يخرج عن معاني الحديث الشّريف: “… وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافِل حتى أحِبَّهُ، فإذا أحببْتُه كنتُ سمْعَهُ الذي يسمعُ بِه، وبصرَهُ الذي يبصر به… وإن سألني لأعطينَّه، ولئن عاذ بي لأعيذنَّه…”(8) وقد جاء في القرآن الكريم ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾(9).

يقومُ العملُ على «تطهير القلب من الخبث والخيانة» مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ

تهذيبُ الأخلاق

تبيَّن أنَّ المدخلَ الحتميّ لتحقيق “قاعدة السَّعادة في الدّنيا والدِّين” هو “تهذيبُ الأخلاق”، والسَّعادة هنا متعلّقة بكمال “الجوهر الأنسيّ”، لا بالوهْم الَّذي يولِّدُه الانهماكُ في طلبِ اللذَّة الآنيَّة العابرة.
والتَّهذيبُ هو التنقية والإخلاص والإصلاح، ذلك أنَّ ما يشوبُ النَّــفس من عُيوب ونزوع إلى الهوى وإباحة الأشياء، هو من الأمور المؤذية، بل المُميتة، في المدى البعيد، لفطرتِها المولودة بالخيْر، وقد وُصِفت في القرآن الكريم بأنَّها “أمَّارة بالسُّوء”(10)، وتتضمَّن سورة الشَّمس فيه قسَماً يتلوهُ بيانٌ في قوله عزَّ وجلّ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، “فبيَّنَ لها طريقَ الشَّرّ وطريقَ الخيْرِ، قد فاز مَن طهَّرها ونمَّاها بالخيْر، وقد خسر مَن أخفى نفسَه في المعاصي”.

إنَّ الرّسالتيْن المميَّزتيْن للأميرِ السيِّد المذكورتيْن آنفاً، فائضتان بالتَّعبير عن نهجِ روحيّ ذي مستوى راق في المعرفة، حيث أنَّ مسألة “التهذيب” تشكِّل مُرتكزه ولبَّ مُحاجَّته وصولًا إلى الغاية الشَّريفة التي توخَّاها من كلِّ ما قام به في سيرتِه المعروفة، وتكثر “المدارج” المُفعَمة بالدلالات داخل نصَّيْهما والتي من شأنها الإضاءة بقوَّة على ما يتوجَّب التنبُّه إليه في أغوار النّـفس ودواخلها من دقائق الأسرار ولطائفها، ومن تناقُض الطّباع وانفعالاتها والتباسات نوازعها في الكثير من الأحوال. ومن هذه المدارج، فضْلًا عمَّا جرى اقتباسه أعلاه، ذِكْرُ ما قيل إنَّ “المفتاح كلمة التوحيد”(11)، ولا يُفتَح به إلَّا بعد “تطهير القلب من الخُبث والخيانة، وتطهير اللسانِ منَ الكذب والنَّميمة، وتطهير البطن من الحرام والشّبهة، وتطهير العمَل من الرِّياء والبدعة”(12).

فالقلب “خزانة كلّ جوهر نفيس”، وهو موضع نظر ربّ العالمين كما جاء في الحديث الشريف: “وإنَّما ينظر إلى قلوبكم”، وفيه لطائف أثر العقل والبصيرة والنيَّة ومدارك العلوم والحِكَم(13)، ولكن ثمَّة آثار ملوِّثة فيه تُسبِّبها الآفات الظاهرة والباطنة التي من شأنها أن تحجبَ عن مرآته إمكان استجلاء الحقيقة واستبصار السُّبُل إليها بالمعرفة والتحقق، لهذا سُمِّيت في المأثور المعتمَد “آفـات مُهلِكة”، وهي بالنتيجة “أخباث” مُضادَّة لـ “الطيِّـبات” وفقاً لِما ورد في القرآن الكريم ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾(14)، وظاهرُ الخبيث الأفعال المذمومة، والموبقات الشائنة، وباطنُه الطّباع المفترِسة لأثر العقل، والعقائد الفاسدة وكلّ ما يُضادِدُ الخيْر، ﴿قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(15). بطبيعة الحال، فإنَّ استسلامَ “القلب” لطغيان الخبائث هو “خيانة” للفطرة الإنسانيَّة في أصل التكوين، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾(16)، بذلك، يقومُ العملُ على “تطهير القلب من الخبث والخيانة” مقام النَّسغ الحيّ لشجرة الأخلاق الطيِّبة في الكيان الإنسانيّ، وهو عملٌ لا يغفل الباتّة عن حركةِ الدَّاخِل مهما كان الالتزام بادياً في حركة الظاهر، لأنَّ ما يعوَّلُ عليْه هو نقاء القلب كما جزمت به الآية الكريمة ﴿إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.(17)

وفي نقده الحادّ لواقع الحال الرُّوحي لكثيرين من أهل عصره الَّذين التبست في دواخلهم معايير القيَم ولم ينسلخوا “مِن حُلَّة الكثائف”، يصفُ الأميرُ السيِّد قلوبَهُم بأنَّها “حواصلُ المذق والرّيا والنّفاق”، أي إنَّ ما بقي فيها وثبت وذهَب ما سواه هو “المِذْق” أي المزج والخلط وعدم الإخلاص في الودّ، وأمَّا الرِّياء فأصلُه “طلب المنزلة في قلوب النَّاس يُرائيهم خصال الخيْر”(18)، وفي الحديث الشريف: “إنَّ أخْوف ما أخافُ عليْكُم الرِّياء والشَّهوة الخفيَّة”، فكأنَّهُ يرائي الناس بتركه المعاصي، والشَّهوة لها في قلبه مُخفاة(19). وأمَّا النّفاق فقد أتى تحديد معناه في “شرح الخصال”: “هو مخالفة الظاهر للباطن بالقوْل أو الفعْل، وكلُّ من طلبَ المنزلةَ في قلوب النَّاس فيضطرّ إلى النِّفاق معهُم، والتظاهر بخصال حميدة هو خالٍ عنها، وذلك عينُ النفاق”.

هكذا، وبالوتيرة ذاتها، يُمكن متابعة ما تقتضيه الأمور في تطهير اللسان، الذي هو “أشدّ الأعضاء جماحاً وطغيانا، وأكثرها فساداً وعدواناً…”، من آفة الكذب المدمِّرة لأساس الأخلاق، ومن آفة النّميمة التي هي “معصية… توغر الصدور وتفتح الشرور وتوصل إلى عظائم الأمور(20)”, وتطهير البطن من الحرام المؤدّي إلى عصيان الجوارح، وتطهير العمل من كافَّة أشكال الزّينة الباطنة، والنزوع في أهواء الرأي والقياس إلى ما ينأى عن الصِّحَّة في الأقوال والأفعال ومكنون الضمائر.

ينبوعُ الأخلاق

وفق هذا النَّهج، أي البحث عن ينبوع المفاهيم الأخلاقيَّة داخل الحقل المتحرِّك أبداً في أغوار النَّفس البشريَّة، والمُـعَرَّض بالقوَّة (أي بالإمكان) إلى عواصف المضاددة والأهـواء، يمضي الأميرُ السيِّدُ في مُحاجَّته لذوي الالتباس والشّبهات(21)، مُوضِحاً، على غايةٍ من العُمق والإبلاج والبيان، سُبُل المسالك الناجعة في “تهذيب الأخلاق” من حيث هي السَّمْتُ القويم لتحقيق الغاية التي بها يلاقي الإنسان حقيقة معناه.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

الأخلاق التوحيدية الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

الأخلاق التوحيدية
الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

في أهمية الأخلاق
لم يخطء أمير الشعراء، أحمد شوقي، حين قال:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الأفراد، كما الجماعات والمجتمعات، إنما تُختصر في أخلاقها. هي أفضلُ الحلي ليتزيّن بها المرء، لا تشترى بمال وإنما بالأعمال الصالحات، وقبل ذلك بالنية الحسنة والقصد الموقوف على عمل الخير. لا يذهب بها فقر أو مرض، ولا يزيدها مال ولا غنى. فالأخلاقُ مع الفقر أو المرض حسنةٌ يُحسبُ لها حساب وأجر، وهي بعض الصبر الذي كان عليه المتقدّمون في الدين والتقوى والنضال الشريف بكل ألوانه. والأخلاق مع المال والغنى مكرمةٌ وخلقٌ وحليةٌ وبخاصة إذا رافقها ما يناسب من التواضع وأدب المعشر وعمل الخير والالتزام بما أمر به الإنسان من معروف وما نُهي عنه من مُنكر.
والحضارات نفسها عبر التاريخ الطويل إنما قويت واشتد عودها وزاد بأسها وعظم قدرها بما توفر لبنيها من أخلاق ولمجتمعاتها من إيمان ولأحكامها من عدالة ولحكّامها من شجاعة وحلم وحكمة، وكلها عناوين أخلاقية. وبالمقابل، فالحضارات التي ذوت واضمحلّت، أو في الطريق لذلك، هي تلك التي ساء حاكمها وفسُد حكمه وفقد رجال حكمه النزاهة والشجاعة والسمعة الحسنة، فتراجع مجتمعها، وتقاعس أفراده، وتنازعوا بدل أن يتراصّوا، فضعفت لذلك شوكتها وباتت ضعيفة أمام كلّ عارض وتحدٍ، وأزفت بالتالي ساعة غروب شمسها.
هوذا ديدنُ حضارات عظمى (وفي مقدّمها الحضارة العربية الإسلامية التي بسطت شمسها وفي فترة قصيرة جداً من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب المعروف يومذاك) فهي إنما قامت وتوحّدت ونهضت وسادت بالتالي بما توفر في روحها وسلوكها من إيمان وشجاعة وإخلاص، ومن تراصّ بين أبنائها وطبقاتها، ومن تفانٍ واقتدار لدى قادتها وحكامها. وغياب أو فقدان الخصال الأخلاقية تلك هو ما يذهب بالحضارة نفسها أو بسواها، حيث لا يكفي مال أو عدد أو مدد وحده، وما من شيء في وسعه أن يعوّض غياب العنصر الأكثر قوة في بناء الحضارات: الأخلاق.
وحتى في الدين نفسه، فالأخلاق شرط الإيمان، بل هي الوجه الخارجي الملموس للإيمان الداخلي، ولا يعتدّ في زعم من يزعم أن لا صلة راسخة ضرورية بين الإيمان والأخلاق. الأخلاق في كلّ الأديان، وبخاصة في الأديان التوحيدية، ثمرة طيبة من ثمار الإيمان، والمؤمن يُعرفُ بأفعاله قبل أقواله، وبتقواه وسلوكه الحسن وسمعته العطرة كما يُعرفُ بما يعرِف، يحفظ ويذاكر. وقد كان الدين الاسلامي الحنيف حاسماً في ربطه الإيمان بالأخلاق، وأولُ ذلك حين خاطب الله رسوله قائلاً: ﴿…وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، أو حين قال الرسول الأكرم في ما يشبه العنوان لبعثته النبوية المشرّفة: “إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق”، أو في قوله في مكان آخر: “أحبّكم إلي أحسَنكم أخلاقاً”. وحتى على مستوى الأخلاق “التطبيقية”، كان القرآن الكريم حاسماً في ربطه النيّات بالأفعال والإيمان بالأعمال، فلم ينِ يردد في عشرات الأمكنة، وعلى نحو لم يسبقه إليه دين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…﴾، أي هو جعل عمل الصالحات في مرتبة الإيمان أو تليها مباشرة. وفي ذلك ما يكفي للدلالة على أولوية الأخلاق، لدى الفرد، كما في التاريخ والحضارات، ومن باب أولى في الدين نفسه، وهو ما رفع الفعل الأخلاقي والأخلاق بعامة إلى مرتبة الصدارة فلم تعد فعل اختيار بل فعل ضرورة واضطرار لا يتقدّم عليها منطقياً إلا الإيمان بالله والرسّل، إذ لا نفع في أخلاق، بل لا تقوم أخلاق، إن لم يكن في إس تكوينها الإيمان بالخالق وبواسع حكمته ورحمته وسداد أحكام رسالاته السماوية، وبخاصة مبدأ الثواب والعقاب والحساب واليوم الآخِر.

في الأخلاق عموماً
نبدأ، كما نفعل غالباً، بالتعريف، تعريف الأخلاق. الأخلاق، كمبحث نظري أو ما نسميه بـ “الأخلاق النظرية”، هي العلم الذي نعيّن به الخير، ونميّزه بالتالي عمّا هو شر. أي هو بمعنى ما علم التمييز بين ما هو خير وما هو شر. أما الأخلاق كمجال عملي، أو ما نسميه بـ “الأخلاق التطبيقية” فهي الحثّ على طلب الخير والعمل به وتجنّب الشر ومهاويه.
لكن الأخلاق، وفي كلّ الأحوال، ليست بالأمر المثالي أو المجرد فقط، بل هي في صلب التكوين الفردي (الضمير والعقل)، والاجتماعي (القوانين والشرائع الوضعية) ومسرح تجلّي الحكمة الإلهية الكونية وعلى أحسن صورة متخيّلة. وعليه، فإذا انتبه المرء من غفلته لدقائق، لا أكثر، فسيكتشف أن الإنسان السويّ وحده قد اختصّه الله بمجال “الأخلاق” وأحكامها. وحده الإنسان، لا الملائكة ولا الحيوان، هو موضوع علم الأخلاق، ومحل أحكامه ونواهيه. الملائكة لا تحتاح علم الأخلاق، لأنها عقول/أرواح خالصة، وخير خالص بالتالي؛ والحيوان خارج حقل أحكام الأخلاق لأنه بدن أو جسد محض محكوم بالغريزة الحيوانية، الآلية، وخالٍ (عموماً) من العقل الذي له وحده أن يميّز بين الخير والشر. وكيما يكون إنسان سويٌ ما خارج الأخلاق يتوجب أن يكون: إما آلة ميكانيكية صمّاء، أو ملاكاً (بدون جسد) أو حيواناً (بدون عقل). لكن الإنسان السوي ليس كذلك على الإطلاق: هو ليس آلة ميكانيكية صمّاء، ليس ملاكاً، ولا حيواناً.
هوذا مبعث الإشكالية الكبرى في علم الأخلاق: لماذا الإنسان وحده موضوع علم الأخلاق؟ ويقود السؤال إلى حقيقة أخرى، وهي احتواء الإنسان (وحده) على جوهرين متصلين مترابطين: المادة (أي الجسد)، من جهة، والعقل/الروح (أي النفس) من جهة مقابلة. ما نعرفه عن كيفيات هذه الصلة أو العلاقة قليل جداً، ولكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن الإنسان واقع تحت ضغط الجوهرين المتقابلين: حاجات الجسد من جهة ونواهي العقل/الروح من جهة مقابلة. كيف يحدث الاتصال بين الجوهرين؟ وأين؟ سؤالان ليس هناك إجماع على الإجابة عليهما، ولا فائدة من الدخول في نزاع حول من له اليد الطولى أو النفوذ الأعظم في الآخر: الجسد أو العقل. ما نعرفه حقيقة هو أن الجسد والعقل/الروح قائمان بحق، وأنهما يتبادلان التأثر والتأثير، وأن شخصية الإنسان ثم سلوكه هما مسرح الصراع (وأحياناً الوفاق) بين حاجات الجسد وأحكام العقل. يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحوّل حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة، فيعود الإنسان القهقرى نحو غريزته وحيوانيته، أو حين تتحوّل حدود العقل/الروح عن فضيلة الاعتدال نحو الغلو والتطرّف.
وعليه، فالتكليف الأخلاقي أعلاه الذي اختص به الإنسان ليس فعل مصادفة، أو بالأمر العارض؛ وإنما لحكمة سامية وكجزء حيوي من النظام الكوني، وليس الاجتماعي فحسب، الذي أراده الله لخلقه. فالمجتمع لا ينتظم، والنظم الكوني لا يستوي، إلا على قاعدة العدل: العدل في التكليف والعدل في الحساب. وفق الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، أو قوله في آية أخرى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الله لا يمكن أن يكون ظالماً – ومن صفاته وأسمائه الرحمة والمغفرة والإحسان. لكن الله أيضاً عادل، والعدل مبدأ وأصل. فكيف تتحقق العدالة – وهي الترجمة العملية لمبدأ العدل – ومن دون أن ننزلق إلى الظل، والله ليس ظالماً ولا يحب الظالمين؟ الجواب هو ببساطة، ولحكمة إلهية ومنطقية فإن مبدأ التكليف الأخلاقي القائم (وكيما يكون عادلاً ولا يعتوره شبهة ظلم) فيجب أن يتوفر له مرتكز أساسي: مرتكز المسؤولية، مسؤولية الفرد الواعي والحرّ عن أفعاله الإرادية:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الوعي والحرية هما شرطا المسؤولية، والمسؤولية شرط التكليف الأخلاقي للفرد.
حين تتوفر المسؤولية الفردية القائمة بدورها على الوعي (لا الغريزة) والحرية (لا القسر) يتحقق شرط العدالة، ويتحقق جوهر التكليف الأخلاقي والغاية منه، ولكن بمضمون أعلى متسام ومختلف. فبتحقق العدالة القائمة على المسؤولية والحرية يتحوّل التكليف الأخلاقي من إلزام خارجي قسري (كما هو الحال في الشرائع الوضعية) إلى خيار داخلي طوعي، يجري التعبير عنه بالعقل أو بالضمير، وكلاهما واحد في المجال الأخلاقي (كما هو الحال بامتياز في العقائد الدينية وفي بعض الفلسفات، لا جميعها). في العقائد الدينية، الالتزام الأخلاقي الفردي الطوعي (أو الضمير في الفرد) هو نتاج الثقة بالحكمة الإلهية والطاعة لنواهيها بالتالي (مبدأ الرضى والتسليم). وهو في الفلسفات العقلانية والمثالية (وكلها بدأت بفيثاغوراس وأفلاطون) نتاج الثقة بالعقل وبمنطقه وأحكامه، حيث الخير (والفضيلة) نتاج المعرفة العقلانية الصحيحة، بينما الشر (والرذيلة) نتاج الجهل أو غياب المعرفة العقلانية الصحيحة ومضاددة العقل. في الفعل الإنساني الأخلاقي الطوعي يلتقي العقل بالضمير، والدين بالفلسفة، وتغدو الأحكام الأخلاقية موضع قبول، بل وإجماع تقريباً، بضمانة الوحي الإلهي والاعتبار العقلاني في آن. ويزول من ثمة التناقض المفتعل بين العقل والدين، كما يظن بعض ضيّقي التفكير، فإذا الحكمة الإلهية الكونية أفق مشرق لامع جاذب أنّى جئته، أكان من جانب الدين أو من جانب العقل. فهما مستويان في رؤية الحقيقة الواحدة نفسها، ولكن من زاويتين مختلفتين، أو من موقعين مختلفين.

يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحول حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة

مبادئ الأخلاق التوحيدية
تُشتقُ مبادئ الأخلاق التوحيدية من الإطار القرآني الواسع والحديث النبوي الشريف، ومن مرتكزات مسلك التوحيد، وأخيراً من أعمال السادة العلماء والمشايخ العارفين ومن السير العطرة للأنبياء والصحابة وكبار المتعبّدين والزهّاد والأتقياء الصالحين؛ وفي مقدّم هؤلاء عند الموحدين الدروز أعمال العالمَين العلَمَين التقيَين الأمير السيّد عبد الله التنوخي والشيخ الفاضل.
ترسي آيات القرآن الكريم، ومعها الحديث النبوي الشريف، المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية بعامة، وللأخلاق التوحيدية على وجه الخصوص، موضوع هذه المقالة. فعلى قاعدة أركان الإسلام الخمسة المعروفة، يحضّ القرآن الكريم المؤمن (بين الأمر الصريح حيناً والحث حيناً آخر) على التمسُّك بالفرائض والعبادات والنواهي التي تضمنها الشرع والتي تبدأ مما هو مبدأي وأساسي ومفصلي ولتنتهي بما يتصل بكيفية سلوك المؤمن المتعبد في حياته الدنيا.
وفي الجانب الثاني (وهو موضوع الأخلاق التطبيقية) حضّ القرآن الكريم والحديث الشريف على: 1) ترك غواية الدنيا وإغراءاتها الملتبسة والزائلة، والتمسك بدلاً من ذلك بموجبات اليقين الذي لا يعتوره شك؛ و 2) ترك ما يزول ويموت ويفنى ويفسد من غايات وأغراض، والتمسك بدلاً من ذلك بما لا يفنى ولا يزول ولا يفسد، أي ترك ما هو شر وفساد أو ما هو أقرب إلى الشر والفساد وطلب ما هو خير خالص أو أقرب إلى الخير، في الأفعال كافة، وفي النيّات مع الأفعال أو ربما قبل ذلك. ومنطق هذه القاعدة بسيط ومتين: الدنيا “دار فناء”، فيما المبادئ والقِيم ومن ثمة الآخرة “دار بقاء”، وعليه فالعاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، لهذا السبب أو ذاك، بل وزائلة في النهاية، غداً أو بعد غد، أي في يوم ما. وبالمنطق نفسه، وفي باب الأخلاق التطبيقية، فما نفعله في هذه الدنيا يزول مع هذه الدنيا، إلا الرصيد الإيماني والأخلاقي الذي وفّرناه للحساب الأخير على أبواب دار البقاء. في الحياة الدنيا نحن مجرد آلة نحمل فيها ما هبّ ودبّ، ومعظمه ما لا حاجة لنا إليه، أما القليل الذي نفعله لدار البقاء فكله لنا، بل وأجره ليتضاعف ويزيد لأن الله جلّ جلاله مُحب ورحيم وغفور فيلاقي عبده المتجه إليه في منتصف الطريق، يمدّ له يد العون والرحمة، فيمنحه دفء الإيمان ورضى الواصلين، ما يملأ عقله باليقين التام وقلبه بالفرح الغامر. ولذلك فأنت لترى العارفين الأتقياء الواصلين، أو من اقتربوا من الوصول، أشدّ الناس سعادة وفرحاً وحبّاً، يغمرهم نور في وسع من امتلك بعضه أن يراه بوضوح فتكون له إشارات مشجعة ومطمئنة ودافعة له في طريق التقوى والخلاص.

مرتكزات الأخلاق التوحيدية يمكن تلخيصها بثلاثة:
1- التوحيد التام لله تعالى وترك سائر ما عداه، أي اليقين الثابت
لا يخالطه أو يعتوره شك،
2- الصدق،
3- الرضا والتسليم بما قدّره أو يقدّره الله تعالى.
على هذه المرتكزات تقوم محاور الأخلاق التوحيدية ومطالبها، في أوامرها كما في نواهيها.
مبدأ الأخلاق التوحيدية ومصدرها الأساس التوحيد لله تعالى لا يخالطه شك أو التباس أو شبهة، وتنزيهه عمّا عداه من صفات ولواحق وأسماء وتشبيه. حين يملأ التوحيد عقل المؤمن وقلبه، يتشكّل هذا المؤمن من جديد، ويتشكّل عالمه الخارجي، كما نواياه ومقاصده، من جديد أيضاً. حين نقرع الباب ويملكنا الخالق لا شيء أدنى منه يبقى معه أو يليق أن يسكن معه. حين تقيم مع الله، ويقيم الله معك، حين تملك الحق أو يملكك الحق، فلا مكان بعد ذلك لدنيا زائلة خادعة غير حقيقية. لا مكان ساعتذاك، لا في النوايا ولا في الأعمال، لشيء، لا للمادة وفسادها وطغيانها، ولا للنفس ونوازعها. لا مكان للدنيا الفانية وغرائزها – عدا ما هو ضروري وكاف للعيش واستمرار الحياة. ولا مكان، قبل ذلك كله، لـ “الأنا” وشيطنتها و”أبلستها” في تعبير المرحوم الدكتور سامي مكارم. فالمسافة دون الآخر، ودون الله، إنما تصطنعها “الأنا”. أما حين نتحرّر من الأنا، فالآخر هو أنا، الوجه الخارجي مني، تماماً كما “أنا” هي الوجه الخارجي منه. حين نتحرّر من “الأنا” نتحرر ربما من ثلاثة أرباع مفاسد الدنيا وسقطاتها، إن لم يكن كلها. فالشرور وفي طليعتها الجشع والطمع والغرور والكبر وغيرها كلّها من نتاج “الأنا” الفردية البشعة. وحين نتحرّر من “الأنا” الفردية تسقط الحُجُب التي حجبت الحقيقة عنا، وتنفتح فرصة السفر في الاتجاه الصحيح صوب الحقيقة والحق، الله تعالى. نقول فرصة، إذا لا تسقط الحجب تلقائيا بل يحتاج الوجه السالب الأولي ذاك إلى وجه موجب يستكمله وذلك بالعلم والسعي والبذل والمجاهدة وغيره مما يحتاجه المريد في طريق الخلاص.
والصدق ثاني مرتكزات الأخلاق التوحيدية. الصدق، كما قال العارفون، هو كمال التوحيد. وننقل عن الدكتور سامي مكارم قوله: “من هنا قول مسلك التوحيد: إن مثل الصدق من الدين كمثل الرأس من بقية الجسد، وأن الصدق هو كمال التوحيد، فالمقامات التوحيدية كلها تكون باطلة من دون صدق في السريرة واللسان، وتصديق بالجنان” (العرفان في مسلك التوحيد، 126). بالصدق نفتتح صفحة المعرفة الصحيحة والخير والأعمال الصالحات وكل ما يشتق منها أو يعود إليها. تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة نقيضة تماماً، صفحة الشر والوهم والفساد والجهل. بالصدق نفتتح صفحة الحق، تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة العدم. وشتّان ما بين الحق والباطل، الخير والشر، الحقيقة والعدم.
والرضى والتسليم ثالث مرتكزات أخلاق التوحيد. إذا كان التوحيد هو بلوغ الحقيقة، والصدق هو كمال العمل بموجبها، فالرضى والتسليم هما كمال ديمومتها، ديمومة التوحيد، أو الحقيقة، التماهي فيهما، وعيشهما في كلّ لحظة من لحظات حياتنا ومندرجاتها؛ في نهارها وليلها، حلوها ومرّها، يسرها وعسرها، بأسها وبؤسها، قوتها وضعفها، غناها وفقرها، إلى سائر ما يعرض لنا أو يصيبنا في حياتنا الدنيا. ومن بلغ التوحيد والحقيقة فماذا ينقصه؟ وإلامَ يحتاج بعد ذلك؟ هذا هو مبدأ الرضى والتسليم. حين نبلغ الحق، ويمتلكنا الحق، وحيث لا شيء فوق الحق، أو قبله، حق للنفس أن ترضى أي أن تطمئن. وهو ما يجعل المؤمن يشعر بطمأنينة عجيبة، راسخ التوحيد رسوخ الجبال، وثابت الجنان ثبات الجلمود، (تنأى الحوادثُ عنه وهو ملمومُ). والمؤمن في ذلك كله عارف ما يفعل، مدركُ مآل رضاه وتسليمه، وهو الرضوان التام الذي ينتظره وفق الآية الكريمة: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ (التوبة 21). أما التسليم فخطوة مكملة على طريق الحقيقة. فإذا كان الرضى هو القبول فالتسليم هو الفعل: لقد أسلمت نفسي وما لي وما أملك للحق والحقيقة، بعدما ارتضيت التوحيد مذهباً، والصدق مسلكاً. التسليم هو الغاية القصوى للمؤمن. بالتسليم يكتمل التوحيد. فنُسلٍم الدنيا إلى مالكها، والأنا إلى باريها، والدار إلى صاحبها، فلا يبقى إلا الحق والحقيقة، أو وفق ما قال كمال جنبلاط في واحدة من قصائده العرفانية “ليس في الدار إلاّ صاحبها”.
يمكن على قاعدة الأسس الأولى أعلاه التقدّم أخيراً لتعيين آداب السلوك والقواعد العملية التفصيلية، أو الأكثر وضوحاً بينها، والتي يحتاج المؤمن معرفتها أولاً والعمل بها ثانياً في مسلكه اليومي.
وفق العالم الجليل الشيخ الفاضل(ر)، فإنّ أهم الآداب والقواعد هي التالية (كما نقلها الصديق الدكتور أسعد البتديني في أطروحته للدكتوراه “فلسفة الأخلاق عند الموحدين الدروز، الشيخ الفاضل نموذجاً”، 2007):

العاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، بل وزائلة في النهاية

أولاً: تقوى الله سرّاً وعلانية. أي معرفة الله، والثقة به، والإخلاص له، في السر والعلانية. وهذه مقدمة أولى ضرورية، إذ لا تقوم أخلاق، من دون تقوى الله، أو خارج الله.

ثانياَ: الاجتهاد في العلم والعمل. المعرفة هي الخير، والمعرفة الصحيحة هي الخير كله. ولكن العلم من دون عمل يبقى ناقصاً، فالعمل الصالح هو كمال العلم الصحيح الخيّر الذي ينتفع به.

ثالثاً: القيام بالفرائض الإلهية والواجبات الدينية. فمن لا يقوم بالأصول، حسب الشيخ الفاضل، لا يعرف الفروع. والفرائض الإلهية هي أصل الدين. والموحّد هو من قام بالواجبات الدينية المعروفة وعلى قاعدة الفرائض الإلهية أعلاه.

رابعاً: حُسنُ المعاملة. حسن المعاملة في كل شيء (في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في القرض والوفاء، وسواها) هي أيضاً تطبيق مباشر لأصل الدين وفروعه، وقد قال رسول الله: “الدين معاملة، وأحاديث أخرى كثيرة تدعو إلى الحديث اللطيف، والدعوة اللطيفة، وأخذ الناس باللين”.

خامساً: حُسن الأخلاق، وطيبُ الصحبة والمعشر، ونفي الطيش والغلاظة. كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آل عمران 159). وإذا كان اللين مطلوباً في الدين نفسه، فكيف في الأسرة، والحياة الاجتماعية؟

سادساَ: ترك الدعاء بالسوء بالكلية، سواء على إنسان أو حيوان. فالدعاء بالسوء إشارة إلى خبث النوايا وسوء المقاصد، وهو ما لا يتوافق وسريرة المؤمن الموحّد الموقوفة للخير الخالص ولرب العالمين.

سابعاً: ترك المباهاة والزهو والخيلاء والريا والزينة لأنها كلها وسائل لطلب الجاه في هذه الدنيا، وكلها بقايا من “أنا” واهمة يجب أن لا يبالغ المؤمن في امتلاكها، أو إظهارها، لأنها منازعة لله تعالى في ملكه، ولله الأرض والسماء والكون وما فيه، فضلاً عن كونها حجاباً يحول بين المرء وبلوغ الحقيقة والخلاص.

ثامناً: ترك الكبر والعجَب. فالكبر وفق الشيخ الفاضل(ر) هو استعظام النفس برؤية قدرها فوق قدر الآخرين. أما العجب فهو أن يعجب المرء بنفسه وعلمه وعمله ورأيه، فلا يرى علم غيره وعمله ورأيه. أي أن يرى نفسه أفضل من غيره، وهو مرة أخرى من فعل “الأنا” النافية للآخر، والمنافية لجوهر التوحيد.

تاسعاً: ترك الحسد. فالحسد جحد للحق، وتعريض بالمحسود، وبعث للضغينة والكراهية، وإشارة إلى الجشع والطمع والعداوة، وقبل كل ذلك تعظيم ما في الدنيا الفانية؛ أو هو في كلمات الشيخ الفاضل(ر)، ظالم في صورة مظلوم.

عاشراً: صون النفس عن حب المجد والجاه وطلب الرئاسة. وحب المجد والجاه مذموم، بحسب الشيخ الفاضل، لأن المرء إذا شُغل بذلك فسيجانب الصدق لصالح الكذب والتودّد والرياء، وهو باب للنفاق والفساد. ومن جديد فذاك مرض من أمراض الأنا المتكبرة التي تنافق في الظاهر بغية تحقيق المآرب. وهو في كل الأحوال هوى في النفس يخرجها عن جادة الإيمان والإخلاص لله تعالى والاستغراق في عبادته.

حادي عشر: ترك الغِيبة، لأنّ الغِيبة كما يقول الشيخ الفاضل من علامات عدم الأمانة، وعدم الأمانة كذب وبهتان. وفي الغيبة، إلى ذلك، ظلم للغائب، والله لا يحب الظالمين.

ثاني عشر: ترك النميمة. في النميمة شيء من الغيبة؛ ولكن فيها إلى ذلك إيغار للصدور، وهي باب للعداوة والبغضاء. والنميمة تذهب بالود بين الناس، وتفرّق بينهم، فيما الآية الكريمة تحث على الوحدة والتعاون على البر والتقوى.
ثالث عشر: مداومة الصلاة. الصلاة فرض عين، لأنها الصلة بين القلوب، وبين المتعبّد والخالق. وهي فرصة لاستذكار الحقيقة، ودوام ذكر الله، والوعد بطاعته، والعمل بموجبات الطاعة تلك.

رابع عشر: الاحتشام في الملبس والمظهر. والاحتشام بحسب الشيخ الفاضل سترة عظيمة ودرع مانع وحصن حصين ووقاية للجسد وجمال ظاهر وكمال في المروءة وشدة في الحياء. والاحتشام باب آخر من أبواب الفضيلة. وهو استشعار وحياء أمام الخالق قبل المخلوق، واحترام أولاً وأخيراً لقدسية الإنسان وتعبير عن الورع والتسامي عن البدن ومتعلقاته. هو تعليق لحضور الجسد كيما تتمكن الروح/العقل من أن تتفرغ لصورها ومُثُلها الكلية والثابتة.

خامس عشر: الحرص على الطهارة. والطهارة نوعان، طهارة الظاهر وطهارة الباطن. والجانبان متلازمان، فبمقدار ما تحمي طهارة الظاهر صحة الجسد وكرامته وجماله، تحمي طهارة الباطن صحة النفس وكرامتها من طغيان “الأنا”. بالطهارة تتحقق الفضيلة، وتكتمل حلقات التوحيد في ترك ما يجب تركه كي تتفرغ النفس للعلم والمعرفة والصلاة والمجاهدة وما تقتضيه رحلة طلب الحقيقة والاستغراق فيها.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

خلاصة:
يتضح من القواعد والشروط الخمس عشرة التي فصّلها الشيخ الفاضل (وفق الدكتور أسعد البتديني) أنها بدأت بما بالأصول وانتهت في الفروع، وبدأت بالنظر الذي لا بد منه وانتهت بالعمل التطبيقي في أدق تفاصيل السلوك الذي لا بد للمؤمن والمؤمنة من أن يأخذا به في تجنُّب الدنيا الفانية وإغراءاتها وأفخاخها، (وهو جانب السلب أو النفي)، ليتمكنا بعد ذلك من بناء أخلاق الموحّد العارف المتجّه بكليته ناحية الحقيقة والحق والسعي للتوحد بهما والتخلّق بما يتناسب والمقام ذاك.
أما إذا حللنا القواعد والوصايا أعلاه فسنجد أنها تبدأ بما تتطلّبه الحياة الاجتماعية السوية (ترك النميمة والحسد والغيبة وحُسن المعاملة والاحتشام وسواها)، إلى ما نص عليه الشرع (من مداومة الصلاة وترك المباهاة والجاه) وأخيراً إلى ما ألزم به أهل الزهد والعرفان أنفسهم من موجبات التوحيد الخالص والعبادة التامة وعدم إشراك ما عدا الله في عبادة الله ويتضح ذلك في التقوى والعلم والعمل بوجب الفرائض الإلهية.
وفي الحقيقة، فالقواعد والوصايا تلك هي في صلب الأخلاق الإسلامية كما بلغتنا من سيرة صحابة الرسول عليه السلام، و”أهل الصفاء” إلى جانبه، مروراً بأهل المعرفة والبرهان من حكماء وفلاسفة، (راجع مثلاً المدينة الفاضلة للفارابي)، وصولاً إلى أهل الحقيقة والعرفان، وجميعهم يعودون إلى منظومة القِيم والأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم، وإلى سيرة الرسول (الفقير الأمين الزاهد) والأحاديث النبوية الشريفة. بل في وسعي القول بثقة أن وحدة تفكير المسلمين والفرق الإسلامية (على اختلاف اجتهاداتهم) لتتضح، في الغالب، أكثر ما تتضح في باب الأصول والفروع والقِيم والقواعد الأخلاقية والمسلكية التي يتوجب على المسلم المؤمن الأخذ بها، كما تلك التي يتوجب عليه تركها واجتنابها.
ونعود في الخاتمة فنكرّر أنّ الأخلاق ليست فرعاً، بل هي من الأصول، في الدين كما في الدنيا، وأنّ كلّ جسر موّدة نمدّه بالخير بيننا وبين الآخر، إنما هو أيضاً جسرٌ بيننا وبين الله الذي لا يريد بنا إلا يسراً، في داخل ذواتنا، في أسرتنا، مع جيراننا، كما مع الآخر، كلّ آخر، كلّ إنسان: وكل الناس إنسان واحد، فإن أسأت إلى إنسان أسأت إلى كلّ الناس. قال الله في كتابه العزيز:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ… فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة، 32).

أخلاق توحيدية