الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

خصومــه اتهمــــوه بالتقيــــة فــي إسلامــــــه
و«رسالة الصحابة» استثارت حفيظة المنصور

يعتبر ابن المقفّع من آباء الأدب السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، فهو الأب الرّوحي المؤسّس للآداب السلطانيّة، تلك الكتابات التي تزامن ظهورها مع ما يدعوه الجميع بحدث “انقلاب الخلافة إلى مُلك”
وكانت في جزء كبير منها نقلاً واقتباساً من التراث السياسي الفارسي والحكم اليونانيّة والتّجربة العربيّة الإسلاميّة، وتهدف هذه الآداب إلى حسن تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة وتقوم على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم تتضمن موادّها مجموعة هائلة من النّصائح الأخلاقيّة والقواعد السلوكيّة الواجب على الحاكم اتباعها بدءاً ممّا يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيّته مروراً بكيفيّة اختيار خَدَمِه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه1. ويرى محمّد عابد الجابري أنّ ابن المقفّع أوّل من دشّن القول في هذا الباب، فأوضاع المجتمع العربي في العصر العبّاسي الأوّل كانت تتطور في الاتّجاه نفسه الذي تطوّرت فيه أوضاع المجتمع الفارسيّ من قبل وذلك عبر عمليّة انتقاله من دولة الدّعوة والخلافة إلى دولة السّياسة والسلطان2.
لكن قدر ابن المقفع أنه عاصر زمن صراعات عنيفة على السلطة بدأت بانتصار الثورة العباسية واهتمام أعلامها بتوطيد سلطاتها وقهر خصومهم وفرض الطاعة على المجتمع وقمع الثورات وأعمال الفوضى، وكان من الطبيعي أن تورث تلك الفترة لدى الحكام حذراً طبيعياً شديداً وميلاً للقسوة في التعامل مع معارضيهم، ويعتبر الخليفة أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية وأحد أعظم خلفائها وأقدرهم على إدارة شؤون الدولة المترامية الطرف التي تعتمل فيها على الدوام عوامل الفتن والتمرد، لذلك أوعز أبو العباس السفّاح لوزيره أبي مسلم الخراساني أن “اقتل من شَكَكتَ فيه”. وغدت هذه الوصيّة سيفاً مُسلطاً على الرقاب إذ استعان بها أبو مسلم لقتل بعض نقباء الدّعوة العبّاسيّة نفسها من الذين شاء التخلّص منهم سواء لعطفهم على العلويّين أو لعلوّ شأنهم “ وأصبح العلويّون ــ وهم ذريّة علي بن أبي طالب ــ هم الخصوم الجدد لبني العباس الذين سرقوا منهم دعوة الخلافة والثورة على الأمويين بالخديعة والعنف”3.
في ذلك الزّمن المفعم بالقمع، زمن الخليفة المنصور باني العاصمة بغداد؛ قدم إليه رسول لملك الروم، فكلّف الخليفة أحد أتباعه الخلصاء “عُمارة بن حمزة” لمرافقة الرّسول المهتم بزيارة بعض معالم المدينة الناشئة، وعندما كان الرّجلان يعبران على جسر الرّصافة استرعى انتباه الرّومي فقراء يستعطون (شحّاذون)، فقال لِعُمارة “إنّي أرى عندكم قوماً يسألون، وكان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤونتهم “4.
وقد عرفت بغداد في تلك الفترة عدداً لا يحصى من طوائف العيارين والشطّار والصّعاليك5 وأهل الكدية وهم نتاج لفساد الحياة الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية في العصر العباسيّ.
ولئن كان الناس قد أمِلُوا خيراً بالخلاص من دولة بني أميّة فقد

رسم تخيلي لإبن المقفع
رسم تخيلي لإبن المقفع

خابت آمالهم في الدولة الجديدة وحَنّوا لمظالم الأمويين حيال ما نالهم من خيبة في ظلّ بني العباس حتى قال الشاعر في ذلك:
يا ليتَ ظُلمَ بني مروانَ دامَ لنا وليتَ عدلَ بني العباسِ في النار

مولدُه ونشأتُه
لا يوجد دليل يقيني يوضح تاريخ مولد ابن المقفع، وبحسب البلاذُري أنه، ولد عام 80 هـ في قرية جور (فيروز أباد الحاليّة) القريبة من مدينة شيراز، ومعنى اسمه بالفارسيّة “المبارك.
لقِّب والده بـ “المقفع” لأنه اتهِم بِمّدَ يده واختلاس أموال المسلمين والدولة الإسلامية، لِذا نكّل بِه الحجاج بن يوسف الثقفي وعاقبه فضربه على أصابع يديه حتى تشنجتا وتقفَّعتا (أي تورمتا واعوجت أصابعهما ثم شُلَّت). وقال ابن خلكان في تفسيره: كان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولّى داذويه خراج فارس، فمدّ يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفَّعت يده فقيل له المقفع[3]، وقيل انه سمي بالمقفع لأنه يعمل في القِفاع[3] ويبيعها، ولكن الرأي الأول هو الشائع والمعروف وعلى أساسه عرف روزبه بابن المقفع4.
وهكذا ورث الابن اسم عاهة أبيه وإليها نُسِب. وفي رواية البلاذُري أنّ ابن المقفّع في شبابه المبكّر عمل على خراج بعض كُوَرِ (نواحي) دجلة في خلافة سليمان بن عبد الملك (عصر بني أميّة) الذي امتدّت خلافته من عام 96 إلى عام 99هـ وهذا يدلّنا على أن روزْبِه كان يتمتّع بمواهب خوّلته لعمل يجمع بين مهارة الحساب ومهارة الكتابة، كما عمل كاتباً لـ يزيد بن عمر بن هُبيرة، وكان والياً على كِرمان في عهد مروان بن محمّد، آخر خليفة أموي ثم كتب بعد ذلك لابنه داود الذي قُتل في خلافة السفّاح، كما قُتِل أبوه يزيد وأخوه إبراهيم ووجوه قادتهم على الرّغم من الأمان الذي منحه الخليفة المنصور لآل هبيرة، وكتبه بخط يده وجعل قُوّاده شهوداً عليه6.
ويعقّب أحمد عُلَبي على مقتل كثيرين ممّن شغلوا أعمالاً لدى بني أميّة ومنهم صديق ابن المقفّع الحميم عبد الحميد بن يحيى الكاتب، ونجاة ابن المقفع فيقول: “أمّا كيف سَلِمَ ابن المقفّع فهذا من جملة الأمور التي لم تنفرج لها شفتا التاريخ عن جواب مقنع يشفي منّا الغليل”.

صفاته
عُرِف عبد الله بن المقفع بذكائه وكرمه وأخلاقه الحميدة، وكان له سعة وعمق في العلم والمعرفة، ما جعله من أحد كبار مثقفي عصره، حيث تقوم معارفه على مزيج من عدة ثقافات هي العربية والفارسية واليونانية إضافة إلى الهندية، ولا يخفى الأثر الطيِّب لهذه الثقافة الموسوعية إذا تصفّحتَ مؤلفاً من مؤلفاته، إذ تنهال عليك الحكمة من بين الأسطر، وتنعم بالأسلوب السلس، والذوق الرفيع.
وكان ابن المقفع ملماً بلسان العرب فصاحةً وبياناً، وكاتباً ذا أسلوب، وذلك لنشأته في ولاء آل الأهتم، ووصف بمنزلة الخليل بن أحمد بين العرب في الذكاء والعلم، واشتهر بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب، والتشدد في الخلق وصيانة النفس. ونستطيع أن نعرف عنه صدقه من خلال كتاباته وحبه للأصدقاء حتى قال: “إبذل لصديقك دمك ومالك”.

إسلامه
اتصّل ابن المقفّع برجال الدّولة الجديدة بعد سقوط الأمويين، وكتب لعيسى بن عليّ عمّ المنصور، ولزم بعض بني أخيه إسماعيل ــ عم آخر للمنصور ــ يؤدّبهم ويشتغل بتعليمهم وتثقيفهم ثمّ كتب أيضاً لسليمان بن عليّ عمّ المنصور واعتنق الإسلام، وقد روي في ذلك أنّه بينما كان يمشي ذات يوم في طريق ضيّق إذ سمع صبيّاً يتلو بصوت مرتفع قوله تعالى: “ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً…” فوقف مُنْصِتاً حتى أتمّ الطفل قراءة السورة، ثمّ قال في نفسه: “الحقّ أنه ليس هذا بكلام بشر”، ولم يلبث بعدها أن ذهب إلى عيسى بن علي وقال له: “لقد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يديك”. فقال له عيسى: “ ليكن ذلك بمحضر من القوّاد ووجوه النّاس، فإذا كان الغد فاحضر”، ثمّ حضر طعامٌ لعيسى عشيّة هذا اليوم، فجلس ابن المقفّع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: “أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟” فقال: “كرهت أن أبيت على غير دين”، فلمّا أصبح أسلم على يده ــ وسمّي عبد الله ــ وصار كاتباً له واختصّ به7.

هل كان زنديقاً؟
لم تثبت تهمة الزندقة بأي حال على عبد الله ابن المقفّع، ولا يوجد في كل آثاره المكتوبة ما يدل دلالة صريحة عليها، لكن كثيرين أظهروا شكوكاً في صدق إسلامه فهو قلما يعود إلى أحكام الإسلام أو إرثه الواسع في شرح أخلاقياته على رغم الثروة الهائلة التي تضمنها الإسلام في الكتاب والسنة وأخبار الصحافة والتابعين. وهو سئل مرة من أدبّك؟ فأجاب على الفور: “نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحاً أبَيْته” وهذا من المفارقات لأن المسلم المؤمن غالباً ما يعتبر الإسلام الهداية التي بدلت حياته وأصبحت قانون سلوكه. واعتبر البعض أن ابن المقفع وإن لم يظهر الزندقة فإنه اعتنق الإسلام تقيّة ومن أجل تأمين حظ له في العهد العباسي الناشئ وإن قلبه بقي بالتالي متعلقاً سراً بالمجوسية، كما إن اهتمامه الشديد بالتراث الفارسي لم يكن سببه فقط انتماءه إلى ذلك التراث بل افتخاره الشديد به وشعوره الضمني أن الحضارة الفارسية التي تركها مكرهاً بسبب اعتناقه الإسلام وغيرها من المراجع اليونانية أو الهندية التي استعان بها ربما تفوق الإسلام في مضمونها، وبهذا المعنى فإن نشر ذلك الكم الكبير من التراث الفارسي كان من قبيل “المقاومة السلبية لصعود وغلبة الإسلام، وذلك عبر التذكير بمجد فارس وإظهار الحنين الضمني إلى تلك الحضارة التي قضى عليها الإسلام بعد الفتح.

نكبته
هناك إجماع على أنّ قاتله المباشر هو سفيان بن معاوية بن المهلّب بن أبي صُفرة والي البصرة من قبل الخليفة المنصور، وهو الذي خلف سليمان بن علي العباسي عمّ المنصور عليها، وكانت بين ابن المقفع وسفيان بن معاوية عداوة متأصلة نسجت حولها الأقاويل منها أن ابن المقفع كان يحتقر سفيان وأنه في مرة سبّ أمه، وأنه كان يسخر من ضخامة أنفه ويسلم عليه بالقول: السلام عليكما (أي السلام عليك وعلى أنفك الكبير) وغير ذلك لكن ابن خلّكان يعقب على هذه الروايات بقوله : “يخالجنا الشعور بأن ّهذه الرّوايات يخالطها الغلوّ، فكيف يعقل أن يصدر هذا الكلام عن إنسان عرف بأخلاقه الدمثة، ثم كيف يعقل أن يكون والي البصرة رجلاً حاكماً على هذا النّحو “الكاريكاتوري” بحيث يرضى الاستخفاف بشخصه وبالإهانة الواضحة تلحقه من غير أن يحرّك ساكناً في حينه؟” أي أن هذه الروايات تناقض أخلاق ابن المقفع واتزانه، لكن ربما نسجتها مصادر عباسية لتجعل مقتل هذا المفكر الجريء “حادثاً شخصياً” ناجماً عن ثأر أو ضغينة؛ وبذلك تخفي الأسباب السياسية لمقتله وتحطّ من قيمة موته في الوقت نفسه.
إن أكثر المؤرخين المتابعين يردون مقتل ابن المقفع لعلاقته بأعمام الخليفة المنصور الذين أعلن أحدهم وهو عبد الله بن علي الثورة على المنصور إثر موت السفاح معيناً نفسه خليفة للمسلمين، وقد سارع أبو جعفر المنصور إلى تجهيز جيش كبير فهزمه واضطره

كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس
كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس

للإلتجاء إلى شقيقيه علي وعيسى في البصرة. تبعت ذلك مساع من عدة جهات لأخذ الأمان من قبل المنصور لعمه عبد الله وكان ابن المقفع يومها كاتباً عند المنصور وقد نسب إليه أنه هو الذي أعدّ كتاب الأمان الذي طلب من الخليفة إعطاءه لعمِّه والإشهاد عليه، وكان كتاباً محكماً مُلئ بالشروط القاسية.
وممّا جاء في كتاب المقالات للنّوبختي أنّ ابن المقفّع ردّ سبعين أماناً أرسلها المنصور لعمّه ناصحاً موكّله برفضها لمآخذه عليها ولعدم احتوائها على ضمان الأمان بصورة مرضية من المنصور، وقيل أيضاً إن أحد أسباب إيعاز الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع كتاباته الجريئة ولاسيما كتبه “رسالة الصحابة” التي وجّهها ابن المقفع ضمناً إلى الخليفة المنصور محملاً إياها بالنصائح حول كيفية سوس الرعية وإقامة العدل وما إلى ذلك من أدبيات السياسة المستقاة من التراث الفارسي لكن التي وجد فيها المنصور تجرؤاً على سلطانه في مرحلة دقيقة كانت تشهد توطيد أركان الدولة العباسية والتعامل مع أعدائها الكثيرين.

نصّ الأمان الذي وقّعه المنصور لعمّه
ممّا جاء في نسخة الأمان التي وقّعها المنصور بخطّه: “وإن أنا نلت عبد الله بن عليّ أو أحداً ممن أقدمَهُ معه بصغير من المكروه أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سرّاً أو علانية على الوجوه والأسباب كلّها تصريحاً أو كتابة أو بحيلة من الحيل فأنا نَفِيٌّ من محمد بن علي (والد الخليفة) بن عبد الله مولود لغير رِشْدة (أي ابن زنا) وقد حلّ لجميع أمّة محمد خلعي وحربي والبراءة منّي ولا بَيعة لي في رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمّة وقد وجب عليهم الخروج من طاعتي وإعانة من ناوأني من جميع الخلق ولا موالاة بيني وبين أحد من المسلمين إلخ…وكتبت بخطّي ولا نيّة لي سواه، ولا يقبل الله منّي إلاّ إيّاه والوفاء به”. وقد جاء عند ابن خِلِّكان أنّ من جملة فصول الأمان هذا القول: “ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس (أي يبطل حقه في استخدامها لمصلحته الخاصّة وتصبح موقوفة في سبيل الله) وعبيده أحرار والمسلمون في حلٍّ من بيعته”.

المنصور يغضب على كاتب نص الأمان
يروي ابن النديم في كتابه “الفهرست” أنّ المنصور سأل عمّن صاغ نصّ الأمان، فقيل له “إنّه ابن المقفّع كاتب عمّه عيسى بن علي، فأحفظ ذلك أبا جعفر لأنّ ابن المقفّع تصعّب في احتياطه فيه، فقال أبو جعفر : “ فما أحد يكفينيه!” وهذا الكلام ظاهر في تحريضه على قتل ابن المقفّع.
ويرى أحمد علبي أنّه جدير بنا أن لا نبالغ في أمر هذا الأمان، بحيث نجعله السبب المباشر الوحيد لمصرع ابن المقفّع فإنّ تحرير الأمان حدث في السنة 139هـ وفيها عُزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة وتولّى مكانه سفيان بن معاوية في حين أنّ ابن المقفّع قُتِل في السنة 142هـ.
ويعرض علبي لرأي باحث حديث هو محمد غفراني الذي يرى أنّه لو كان الأمان سبباً مباشراً لتبرير مقتل ابن المقفّع لما صبر المنصور عليه هذه السنوات، ثم إنّ المنصور يعلم أنّ ابن المقفع كان كاتباً منفّذاً لرغبات أعمامه، فالمنصور كان قادراً على الصّبر ثلاث سنوات حتى يتخلّص من ابن المقفع وقد صبر على عمّه عبد الله بن علي قرابة عشر سنوات حتى فاز به وقتله مع ما لهذا الرجل من خطورة عسكريّة، ثمّ إن الاجتهاد القائل بأنّ ابن المقفع كان مجرّد منفذ لرغبات غيره لا يحرّره تماماً من مسؤوليته في صياغة الأمان كما إنّ حاكماً شديداً كالمنصور لم يكن في نظرنا ليأخذ القضيّة بهذه السهولة المنطقيّة بأن ابن المقفّع كان مجرّد طائع لطلب أولياء نعمته، كما إنّ ابن المقفع لم يكن شخصاً مجهولاً لدى المنصور فقد اشتغل كاتباً عنده، وكان بعيد الشّهرة كمترجم وأديب، وهو رجل مجتمع ما دام أنّ جلساءه في البصرة كانوا من عيون القوم، لذا فالمنطق يقودنا إلى أن نحكم على مسؤوليّة ابن المقفّع في كتابة الأمان من خلال ماضيه كأديب منظور، لا أن نجعل من كتابة الأمان حادثاً منفرداً.

دور أبو أيوب المورياني
وهناك إلى جانب المنصور الذي لم يكن يقبل أيّة معارضة مهما كان شأنها، وفضلاً عن سفيان بن معاوية والي الخليفة، هناك شخص آخر ينبغي تسليط الضّوء عليه هو “أبو أيّوب الموريانيّ” وكان هذا رئيس الدواوين عند المنصور ثمّ وَزَر له، لم يكن عربيّاً وقد وصل إلى هذه المرتبة الكبرى في زمن قصير، وكان مُلِمّاً بعلوم كثيرة، إلاّ أنّ ثقافته الفقهيّة لا يؤبه لها. كان أبو أيّوب يخشى أن يزاحمه أحد على رئاسة الدواوين، وكان بطبعه متشكّكاً طمّاعاً وذا سطوة، فاصطدم بكتّاب كبار في الدّولة وسعى لإطاحة كلّ منافسٍ مُحتَمل كـخالد بن برمك. والواقع أنّ آل المورياني أضحَوْا عائلة حاكمة إذ تولّى أبو أيّوب وأخوه وأبناء أخيه المناصب الكبرى، وقد شُبّهت نكبتهم التي حدثت في السنة 153هـ بنكبة البرامكة، وكان من أبرز منافسي أبي أيوب كاتبنا ابن المقفّع.
وروي أنّ المنصور أنكر شيئاً على أبي أيّوبَ فقال له: “كأنّك تحسب أنّي لا أعرف موضع أكتب الخلق وهو ابن المقفّع مولاي؟” 8 فلا شك أنّ قولاً كهذا كان كفيلاً بإثارة حفيظة أبي أيّوب على ابن المقفّع الذي سبق له وشغل عند المنصور مركز الكاتب الخاص، وكان الخليفة شديد الإعجاب بمؤهِّلاته، وهذه، في رأينا شهادة لها قيمتها، لأنّ المنصور شخصيّة تدرك أقدار الرّجال، لذا كان أبو أيوب يتحيّن الفرصة للإيقاع بابن المقفّع، فكانت مناسبة كتابة ابن المقفع الأمان المعروف التي استغلّها أبو أيوب ليوحي إلى المنصور ويحبّب إليه فكرة قتل ابن المقفّع فرضي بها، وإذا بأبي أيوب يوصل بواسطة أحد مواليه إلى سفيان بن معاوية أنّ قتل ابن المقفع ليس بالأمر الذي يسيء إلى الخليفة، فوافى هذا الخبر لدى سفيان نفساً راغبة فيه فكان ما كان.
إزاء ما يولّده تعدد الرّوايات في السبب الرئيسي لمقتل ابن المقفع

رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور
رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور

يقول علبي: لنا أن نتساءل عن السبب الذي أدّى إلى مقتل ابن المقفّع: أهو كتابته الأمان الشديد اللّهجة المُحْكم الحلقات الذي دبّجه بناء على رغبة عيسى بن علي؟ أم هي الضّغينة المستعرة في صدر والي البصرة على كاتبنا الجريء؟ أم إنّها الرّسالة الخيّرة، “رسالة الصّحابة” التي خاطب بها أمير المؤمنين في كثير من الدّهاء والحِنكة والشّجاعة،؟ أم تُرى أنّها تلك التّهمة الموضوعة قيد الاستهلاك، تهمة الزّندقة التي كان يُرمى بها المُصلحون أحياناً في عصره، ولكلّ عصر تُهَمُه المجهّزة لمحاربة صُنّاع الفكر والحياة. ويقرر أحمد علبي فيقول: “الرّأي عندنا أنّ الموقف الإصلاحيّ الذي اضطلع به ابن المقفّع في حياته هو سبب مصرعه، وها هي مؤلّفاته ومن ضمنها “رسالة الصّحابة” تشهد أنّه لم يهادن، في وقت لملم فيه بعض الفقهاء البارزين أنفسهم وولّوْا منزوين في بيت أو صَومعة، ضنّاً منهم بأجسادهم من أن تُجلد، أو بأرواحهم من أن تُزهَق؛ لقد آثروا السّكوت على الجهر والمصانعة على الصّراحة، أمّا الزندقة فقد توسّل بها الحكّام أحياناً كتهمة للإيقاع بخصومهم السياسيين.
لقد وجد المنصور في سفيان بن معاوية بعد ذلك بسنوات كفاءة إجراميّة للتخلّص من رجل يزعج الدّولة بآرائه و”يحرّض” الناس على الفضيلة والاستقامة وطلب العدل وسيادة الشرف دون الغدر والاغتيال. إنّه عنصر غير مرغوب به! ولنا في التاريخ العباسي أمثلة منها ملاحقة المعتزلة بعد الخليفة المأمون وتعرّضهم للقمع والاضطهاد والقتل. وليس بغريب على المنصور أن يتخلّص من ابن المقفّع فهو صاحب تاريخ في هذا الميدان وروى الطبري في تاريخه “ج8 ص 86”، أن المنصور تخلّص من محمد بن أبي العباس بواسطة “الخصيب” المتطبب الذي سقاه دواء مسموماً، وتخلّص من الشاعر سُدَيف بأن أمر أحد عمّاله فدفنه حيّاً ولمّا مات المنصور ترك لابنه المهديّ مفاتيح أحد الأبنية وكان قد شرط ألّا يُفتح إلّا بعد موته، وعندما اخترم الموت المنصور فتح المهديّ باب هذا البناء الكبير فعثر فيه على جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال ورجال شباب، ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهديّ ارتاع لما رآه وأمر فحُفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها.
يقول محمد فريد بن غازي: “عرف ابن المقفع كيف يؤدّي على حساب حياته الخاصّة الرّسالة الفلسفية التي صاغها الفيلسوف الهندي بيدبا لعدة قرون قبله. لقد عرف كيف يؤدي هذه الرسالة حتى النهاية.

آثاره
إنّ الأثر الكتابيّ الوحيد الذي لا يخالطه اقتباس أو ترجمة لابن المقفّع هو “رسالة الصحابة” بالإضافة إلى متفرّقات ثانويّة من تحميد أو تهنئة أو تعزية، ولكنه خلّف لنا كتباً تترجّح بين الاقتباس والتّرجمة منها “الأدب الصّغير” و “الأدب الكبير” وهما عند التدقيق يتضمنان اقتباسات من الآداب القديمة الهنديّة والفارسيّة والإغريقيّة. ورسالة “الأدب الوجيز للولد الصغير” وكتاب “الدرّة اليتيمة”، وقد ضُرِب به المثل في البلاغة، ويعتبر ابن المقفّع في رأس الطّبقة الأولى من الكتّاب العرب والفرس الذين أدركوا دولة بني العبس، و”زعيم كتاب الفرس والعرب “9.
وهو لم يمارس التّرجمة في فنّ واحد، بل وَردَ غير ينبوع من ينابيع المعرفة فتعدّدت موضوعاته بين حِكَميّة وتاريخيّة وحقوقيّة ودينيّة وفلسفيّة. ففي الحكمة؛ وهنا لا بد من ذكر “كليلة ودمنة” و “كتاب مزدك”، الذي يبدو أنه نوع من الأمثال.
وفي التاريخ، نقل ابن المقفع كتاب “خداينامه”، ويتضمّن تاريخ إيران منذ البدء وحتى نهاية الساسانيين، ومن مترجماته “كتاب التاج في سيرة أنو شروان” وكتاب التاج أو “تاجنامة” يدور على أحوال ملوك الفرس وأساليبهم في الحكم، وأقوالهم ورسائلهم ومراسلاتهم، كما نقل كتاب “آيين نامة”، أي كتاب الآداب والقواعد

الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه
الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه

والتقاليد وتربية النفس وكتاب “السكيسران” وكتاب “تَنْسَر”، وهذا الكتاب أقدم نص عن النّظم الفارسيّة قبل الإسلام.
وينسب المسعودي إلى ابن المقفّع أنّه نقل إلى العربيّة بعض كتب “ماني” و “ابن ديصان” و “مرقيون” وهذان الأخيران من الفلاسفة القدامى وقد عاشا في إيران وبلاد ما بين النهرين، وهما على المسيحية المتلقّحة بأفكار الحكيم الفارسيّ “ماني” ولعلّ هذا ما سهّل على خصومه اتّهامه بالزندقة، كما قيل إنّ ابن المقفّع نقل بعض كتب أرسطو من البهلويّة إلى العربيّة، وذكر بعضهم أنّ ابن المقفع اختصر هذه الكتب اليونانيّة، وقد ذهب محمد بن غازي إلى أنّ ابن المقفّع عرف الفارسيّة والعربية والسّريانيّة والعبريّة وربّما اليونانيّة.
وعموماً، فإنّ الرّجل كان يعبر في كتاباته عن حسّ اجتماعيّ إصلاحيّ كما يرى أحمد علبي، فرسالته “رسالة الصّحابة” موجّهة بالنّصح رأساً إلى أمير المؤمنين وتتميّز بالبحث في أمور سياسيّة واجتماعيّة، فنحن حيال أدب سياسي وفكر اجتماعي وهو نوع مبتكر جريء لا نعثر على نظيره إلاّ في عصر تالٍ لعصر ابن المقفّع. ويرى طه حسين في “رسالة الصّحابة” أنّها توشك أن تكون برنامج ثورة10، ويرجّح أن تكون هي التي قتلته..
فالمنصور كان خليفة قاسياً وكان يهمّه أن تُغلق الأفواه فلا تمتد الألسنة إلى الجهر، ولا حرج في أن يتحدّث الأدباء بأخبار الجاهليّة وقصصها فهي تروق لأبي جعفر لأنّها تحمل سامعيها على المهاجرة والتعزّي وإغماض العيون عن الواقع الرّاهن والغيبوية طيّ ماض مُسَلٍّ! أمّا أن ينبري مفكّر كابن المقفع ليوجّه وينصح في مشاكل اجتماعيّة وقضايا فقهيّة وأمور سياسيّة فهذه جراءة لأنّه يمشي في سبيل غير مطروق ولربّما حملت العدوى غَيْرَه على أن يعبّروا.

يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية
يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية

المنصور وابن المقفّع، منطلقان ضدّان
لقد وافت رسالة الصّحابة لابن المقفّع رجلاً صعباً، شديد المراس لا يمكن أن يكون للشورى الحقّة سبيل إلى نفسه ومزاجه، فعداوته مُرّة ومن يدلي برأي فكأنّما يفتئت على سلطانه ويشجّع الآخرين على نقض طاعته والمنصور شديد الحساسيّة بالنسبة إلى موضوع الطاعة، فهو يرى أنّ الرّعيّة لا تصلح إلاّ بها، يقول المنصور في خطبة له عَقِبَ قتل أبي مسلم الخراسانيّ : “أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وَحشة المعصية… إنّه من نازعنا عُرْوة هذا القميص (يقصد سلطة الخلافة) أجزرناه خَبِيّ هذا الغمد (يقصد: قتلناه بنصل السيف).
وهكذا كان المنصور صارماً جادّاً، فهو من الرجال البناة، ويمتاز بصفات لا نعتقد أنّ ابن المقفّع يُغفل قيمتها، فهذا الخليفة لم يعرف اللّهو سبيلاً إليه قطّ، يأخذ الحكم مأخذ المسؤوليّة، وقد عزل أحد ولاته في حضرموت لأنّه كان يتلهّى بالصّيد! ، فهو حاكم يصرف وقته بالعمل وينظر في أمور هذه الدولة الكبرى فلا يهمل شيئاً من نفقاتها ومتطلّبات أمنها، ويذكر الطبري في تاريخه أنّ ولاة البريد كانوا يكتبون إليه كل يوم بأسعار المأكولات ويطلعونه على الأنباء السياسيّة والقضائيّة والماليّة والأحداث المختلفة وكان يكره التبذير، فحافظ على أموال الدولة لأنّها حصن السلطان ودعامة الدين والدنيا وعزّهم…
ولو قدّر لابن المقفّع أن يَلِجَ تلك الحُجَيْرة التي كان يبيت فيها المنصور لعجب من زهد صاحبها بمتاع الدّنيا، إذ لن يعثر فيها إلاّ على فراش المنصور ومرافقه ودثاره وهو سيزداد عجباً عندما يعلم أنّ المنصور لا يستنكف وهو الخليفة ظل الله على الأرض عن ارتداء جُبّة مرقوعة وقميص مرقوع، بل إنّه يأمر بضرب كاتب لأنّه يسرف على نفسه فيلبس سراويل من الكَتّان11..

رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد
رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد

وهناك صفة في المنصور قلّما وقف عندها الدارسون وهي أنّه خطيب من الطراز الأوّل مفوّه طلق اللسان قويّ العبارة حسن القافة وهو في رأينا تكملة عبّاسيّة لتلك السلسلة الذهبيّة من خطباء العهد الأموي. هذه الخصال لا نظنّ أنّ مُصلحاً كـ “ابن المقفّع” يتغافل عن جوهرها إذا ما تحلّى بها حاكم يسوس الناس ولا يغمض الجفن عن أشجانهم، لكنّه فضلاً عن هذه الصفات كان ثعلبة داهية ماكراً دمويّاً ونعتقد أنّ آراء صحابته الذين خبروه عن كثب قدّموا أوضح شهادة في شخصه. قال عثمان بن عُمارة “إنّ حشوَ ثياب هذا العبّاسيّ لمكرٌ ونُكرٌ ودهاء”. لقد كان ابن المقفّع يأمل أن يكون المنصور مُصلحاً اجتماعيّاً لهذه الإمبراطوريّة لكن الكثير من تلك المفاهيم التي طرحها ابن المقفّع في “رسالة الصّحابة” والتي اقتبسها من معين التقاليد الفارسيّة واقترحها على الخليفة المنصور في مطالع عهده كانت سابقة لأوانها بل ربما غير مناسبة لدولة في مرحلة التأسيس تعلي شأن الطاعة ومصلحة الدولة على هذا النوع من النصح أو الوعظ للسلطان.

شهادة في كليلة ودمنة
يقول الدّينوَري في “الأخبار الطّوال”، إنّ “كسرى أبرويز” بعث إلى “بهرام” الخارج على الدولة رجلاً من ثقاته ليستطلع أمره، فكان ممّا أخبره الرسول أنّ بهرام يطيل النظر في كتاب كليلة ودمنة فقال كسرى أبرويز: “ما خفت بهرامَ قط كخوفي منه السّاعة حين أُخبرت بإدمانه النّظر في كتاب كليلة ودمنة؛ لأن قراءته تفتح للمرء رأياً أفضل من رأيه، وحزماً أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن”.

رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة
رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة

 

قصص الأمثال

قصص الأمثال

يضرب هذا المثل في الأمر الفاسد الذي يفرض نفسه بقوة السلطة.
والحكاية أنه في أيام الحكم العثماني كان الناس يعصرون الزيتون في معاصر تعود ملكيتها للمتصرف، وكان المتصرف يستوفي أجرة عصر الزيتون زيتاً ، وكانت لديه كيلتان: إحداهما تنقص أوقية، والأخرى تزيد أوقية عن الوزن الحقيقي، وكان يأمر البرّاك أن يكيل الزيت بالكيلة الصغرى، ويستوفي الأجر بالكيلة الكبرى .

فضج الناس، وظنوا أن اللعبة من البرّاك، فهو الذي يستوفي منهم الأجر مضاعفاً، فذهبوا إلى المتصرف يشكونه، فاستنكر المتصرف الأمر، وقال لهم :
ـ هذا ظلم، وأنا لا أرضى به، وغداً بإذن الله سنصلح الأمر.
في اليوم التالي ذهب الناس إلى المعصرة، فوجدوا برّاكاً جديداً فعلاً، لكن الكيلتين لا تزالان موجودتين، فضجوا ثانية، وتوجهوا إلى المتصرف يشكون الأمر . فقال المتصرف :
ـ ها قد بدلنا لكم البرّاك، ماذا تريدون أكثر من ذلك ؟! . فقالوا له :
ـ يا جناب المتصرف ! نحن لا نريد تغيير البرّاك، نريد تغيير الكيلة .
فرد المتصرف :
ـ ماذا ؟! . هذه الكيلة كيلة السلطنة، وكيلة السلطنة ما بتتغير .

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

ما بيهز العروش غير النسوان والقروش

من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي ولا أنا مولاه

يضرب هذا المثل في حالات عديدة، فربما ضرب لربّ العمل الذي يحاول الاستهانة بالعمال الذين يعملون عنده لقاء أجر يومي، وربما يضرب للعامل الذي يحاول أن يتطاول فيفرض رأيه على رب العمل مستغلاً حاجة صاحب العمل لخبرته. ورغم أنه لا يوجد ما يوضح مصدر هذا المثل والمكان الذي قيل فيه أو ظروفه، فإنه توجد حكاية تفسر كيف أصبح هذا القول مثلاً بل إنه كان من البساطة والمنطقية بحيث ألهم أهل الحكم صياغة قاعدة أصبحت أحد مرتكزات التشريع أو القانون العرفي الذي ينظم العلاقة بين رب العمل والعمال.
والحادثة ذكرها سلام الراسي في كتابه يا جبل ما يهزك ريح .
وتقول الحكاية إنه في مطلع الانتداب الفرنسي على لبنان قام مستخدمو إحدى الشركات في بيروت بإضراب، فأقدمت الشركة على صرف بعضهم، ورفعت القضية إلى المحكمة المختلطة ( وهي محكمة فرنسية ـ لبنانية ) لأن بعض المستخدمين كانوا من الأجانب.
وبحث رئيس المحكمة ـ وهو فرنسي ـ عن تشريع لبناني يساعده على الحكم في القضية ومنح المصروفين تعويضات صرف من الخدمة، إلا أنه لم يجد ذلك. لذلك سأل هذا القاضي عن الأعراف المحلية المتبعة في لبنان في مثل هذه الحالة، فأشار المحامي الشيخ يوسف جرمانوس أحد كبار المحامين في ذلك الزمان إلى مثل شعبي يقول:
“ من اشتغل عندي وأخذ كراه، لا هو شريكي، ولا أنا مولاه “
وقيل إن الأمر تناهى إلى حاكم لبنان الكبير يومئذٍ الكومندان “ ترابو “ الذي استأنس بالمثل المشار إليه لاعتماده، باعتباره عرفاً له قوة القانون، للحكم بموجبه في القضية المشار إليها، على أن توضع في ما بعد تشريعات حديثة للمثل للفصل في مثل هذه الحالة2.

من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود

هي عبارة تطلق للتعبير عن الأمل بإنفراج أزمة ما، فالأيام كفيلة بحل أعقد المشكلات .
وحكاية العبارة أن رجلاً حُكِم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت، وحان تنفيذ الحكم، فسيق الرجل إلى حبل المشنقة، وكان ينتصب في المكان أكثر من عمود للشنق، ولما كانت تقضي العادة أن يسأل المحكوم عليه عن آخر رغبة له في حياته كي تقضى له، فقد سأل الآمر هذا المحكوم عن آخر رغبة له، فأبدى رغبته بأن يشنق على عمود آخر غير هذا العمود، فدهش الآمر وسأله : وما الفرق بين الموت على هذا العمود أو ذاك ؟! . فأجابه المحكوم قائلاً :
«من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود»
وكان للمحكوم ما أراد إذ أمر القائم على تنفيذ الحكم أن تلبى رغبة المحكوم، فينقل إلى العمود الذي يختاره.
وبينما كان الرجال يهمون بنقله إلى عموده الذي اختاره، ولم يبق إلاّ أن يعلقوا الحبل في رقبته، أقبل قوم من بعيد يركضون ويصرخون: أوقفوا الشنق … أوقفوا الشنق، وكان لا بد أن يتريث الرجال ريثما يصل الراكضون، إذ كان هؤلاء يحملون دليل براءة هذا المحكوم مما نسب إليه، فانفرجت أساريره وقال : ألم أقل لكم: من عمود لعمود بيفرجها الرب المعبود ؟! .
وفي رواية أخرى أن السلطة الحاكمة أصدرت أمراً بالعفو عن جميع المحكومين فشمل العفو صاحبنا وتمّ إبلاغ الجلاد بالعفو في آخر لحظة بينما كان يهمّ بتنفيذ الحكم.
وقد عثرنا على حكاية هذا المثل في الموسوعة الحورانية، ولم تختلف روايتها عما جاء في روايتنا 3.
وأياً كان الأمر، فإن حكاية هذه العبارة تلتقي مع حكاية قراد بن الأخدع مع الملك النعمان بن المنذر، الذي ذهب يوماً الى الصيد، فجنح به حصانه، ثم أدركه المطر فلجأ إلى بيت أحد الطائيين، فأكرمه، وأحسن وفادته دون أن يعلم أنه الملك النعمان، وحين همّ النعمان بالإنصراف قال للطائي : إذا عرضت لك حاجة فأنا مقضيها لك، فأنا النعمان بن المنذر، فردّ الطائي : أفعل إن شاء الله .
وكان أن تردّت حال الطائي فقالت له زوجته : لتذهب إلى صاحبك، علّه ينجز وعده، فما كان من الطائي إلا أن توجه إلى النعمان، ولسوء حظه فقد صادف وصوله يوم بؤس النعمان، إذ كان من شأن النعمان أن يقتل من يفد عليه في هذا اليوم، ولو كان من أعز أصحابه. فاغتم النعمان لمجيء الطائي في هذا اليوم، لكنه لم يرَ بداً من قتله، فقال له : أما وقد أتيت في هذا اليوم فإنك مقتول، ولكن سلّ ما بدا لك قبل الموت، فإن لك علي يداً، فقال الطائي أذهب إلى أهلي أدبر أمرهم ثم أعود إليك في مثل هذا اليوم من العام القادم، فقال النعمان : أقم عليك كفيلاً فنظر الطائي إلى شريك بن عمرو فأنشده :
يــــــــــــــــــــــــــــا شريـــــــــــــــــــــــــك يــــــــــــــــــــــــــــابــــــــــــــــن عمــــــــــــــــــــــــــــــــــــرو مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من المــــــــوت محــــــــــــــــــــــــاله
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــــــــــل عتيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــقٍ يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من لا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا له
يــــــــــــــــــــــــــــا أخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا النعمــــــــــــــــــــــــــــــــان فـــــــــــــــــكّ اليــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوم ضيفـــــــــــــــــــــــــــــــــــاً قــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــى لــــــــــــــــــــــــــه
فأبى شريك بن عمرو أن يكفل الطائي، فنظر الطائي في وجوه الرجال، فرأى ضالته في قراد بن الأجدع الذي كفله، وأعطى النعمان الطائي مئة ناقة، وهو يأمل ألا يعود، فيقتل به قراد بن الأجدع .
ومرّ حول إلا يوم، فقال النعمان لقراد بن الأجدع : ما أراك إلا مقتولاً غداً، وكان اليوم الأخير من العام قد ولّى نصفه، فقال قراد بن الأجدع :
لئن يــــــــــــــك صــــــــــــــدرُ هـــــــــــــــــــــذا الـيوم ولّى فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــإن غــــــــــــــداّ لنــــــــــــــــاظره قـــــــــــــــــــــريب
وأخذت زوجة قراد تبكي زوجها متيقنة بموته في اليوم التالي فقالت:
أيـــا عين بكّي لـــــــي قراد بن أجدعا رهـــــــــــــــــــــــين وفــــــــــاء لا رهيـــــــناً مودعـــــــا
ولما كان اليوم الثاني همّ النعمان بقراد يريد أن يمضي به، غير إن رجاله قالوا له : ليس لك أن تقتله قبل أن يمضي النهار. وفيما كان قراد بن الأجدع فوق النطع، ولم يبقَ إلا أن تنزل شفرة السيف على رقبته، إذ ظهر غبار من بعيد، فقالوا للنعمان : ليس لك أن تقتله قبل أن تتبين من خلف الغبار، وحين انكشف الغبار، انكشف عن الطائي الذي جاء مسرعاً فقال له النعمان: ما حمّلك على المجيء وقد نجوت ؟! فقال الطائي: الوفاء، فقال النعمان: والله لن أدع الاثنين أكرم مني فعفا عن الطائي وأحسن لقراد بن الأجدع .

أول فتوح الشر ذبح البصيلي

عبارة تطلق في معركة استجرت معارك عديدة، والعبارة شطر من بيت شعر من قصيدة للشيخ أبي علي قسام الحناوي، يستعرض فيها المعارك التي دارت بين أهل الجبل وجيوش إبراهيم باشا المصري. والبصيلي هو علي آغا البصيلي، أحد قادة إبراهيم باشا الذين توجهوا لإخضاع الجبل ما قبل منتصف القرن الثامن عشر، وقد نقل أخبار هذه المعركة الدكتور فندي أبو فخر4، كما نقلها آخرون5.
وتكاد تجمع المصادر المختلفة على أن حكومة إبراهيم باشا فرضت على الجبل الضرائب كما فرضت تجنيد عدد من شباب الجبل في جيش إبراهيم باشا ونزع سلاح السكان، الأمر الذي جعل يحيى الحمدان شيخ مشايخ الجبل ـ وقيل واكد الحمدان ـ أن يدعو إلى اجتماع عاجل لبحث القضية، وتقرر على أثره إرسال وفد إلى الشام برئاسة يحيى الحمدان أخ الشيخ واكد، للتفاوض مع شريف باشا والي دمشق. ولم تسفر المفاوضات عن اتفاق ، بل تطورت تطوراً خطيراً، عندما قام شريف باشا بصفع يحيى الحمدان على وجهه فعاد الوفد إلى الجبل، وبدأت الاستعدادات لمواجهة الاحتمالات كافة، واختلفت الآراء، وتغلب الرأي الذي قرر المواجهة، ورفض مطالب إبراهيم باشا، وعُقد تحالف مع البدو المقيمين في اللجاة.
وحين علم شريف باشا بهذه الاستعدادات وجه إلى الجبل حملة بقيادة علي آغا البصيلي، الذي توجه إلى قرية الثعلة، وهناك دارت معركة حاسمة، قتل فيها عدد كبير من جنود البصيلي، واختلفت الروايات في مصير البصيلي نفسه، إذ تقول بعض المصادر “لم ينج من الحملة إلا علي آغا البصيلي ونحو ثلاثين فارساً6 في حين ذكرت مصادر أخرى أن البصيلي نفسه قتل، ودليلهم على ذلك قصيدة الشيخ أبي علي قسام الحناوي التي يقول فيها :
أول فتــــــــــــــــوح الشـــــــــــــــــــر ذبــــــــــــــــح البصيلي كسبنا خمسمية حصان بفرد نهار7

بدنا عباي لصعب

أورد سلامة عبيد حكاية هذه العبارة التي تحث على إيجاد حل لمشكلة ما كيفما اتفق، وإن لم يكن حلاً جذرياً، وربما جاءت صيغة العبارة بحسب عبيد : “ طويلة … قصيرة … عباي لصعب “
وصعب هو صعب هنيدي من قرية مجدل الهنيدات 10 كم غربي السويداء، وقد اشتهر في هجومه الشجاع على قلعة عثمانية وتكسير بابها بالبلطة، وإخراج المساجين بالقوة.
ويقال إن شبلي الأطرش الشاعر المعروف، وأحد زعماء الجبل المعروفين قد خلع عباءته على صعب هنيدي، تكريماً له وتشجيعاً. ويبدو أن صعب كان قصيراً، فعلّق الحاضرون على ذلك بأن هذه العباءة فضفاضة ولا تناسبه، لكن شبلي الأطرش أصرّ على تكريمه مردداً هذه العبارة : “ طويلة .. قصيرة .. عباي لصعب “ فغدت مثلاً في الحث على المبادرة السريعة في معالجة ظرف وعدم التأجيل بحجة إمكان وجود حل أفضل 8.

بعده على اجتماع قنوات

مثل معروف في أنحاء الجبل كافة. ويضرب للرجل يأتي بخبر قديم، معتقداً أنه جديد، لم يسبقه إليه أحد، على حين تجاوزته الناس، إلى ما هو أحدث منه. وغالباً ما يستخدم هذا المثل للتنديد بالجمود وعدم التطور، آخذاً بذلك منحىً مختلفاً عن استخدامه السابق .
وقنوات بلدة في محافظة السويداء. خمسة كيلومترات شمالي المدينة، وهي المشهورة بآثارها الرومانية الجميلة .
وحكاية هذا المثل رواها لي زميلنا المرحوم يوسف الهجري عام 1988 وذلك عن أبيه، عن جده. والمرحوم يوسف الهجري من قرية قنوات. وتقول الحكاية إنه في أواخر الحكم التركي أوائل القرن العشرين كثرت الحملات العثمانية على الجبل لإخماد الانتفاضات التي أعلنها أهل الجبل احتجاجاً على المظالم التركية، وقد بلغت تلك الحملات أكثر من أربع متعاقبة، كان آخرها حملة سامي باشا الفاروقي بتاريخ 25 /9 / 1910 م9.
ضاق الجبل ذرعاً بهذه الحملات المتوالية من جهة، وبالضغوط التي كان يمارسها العثمانيون من جهة أخرى والتي كان آخرها فرض الجندية الإجبارية على شباب الجبل، وفرض ضريبة الطرق، وقد أسموها “ الدربية “ من الدرب، وذلك من أجل تسهيل الطرق أمام القوات العثمانية لإحكام قبضتها على الجبل، فما كان من أهل الجبل إلا أن تنادوا إلى اجتماع في بلدة قنوات، بلدة الزعيم الروحي، وشيخ عقل المسلمين الموحدين الدروز، فضيلة الشيخ أحمد الهجري.
وبعد أن تدارسوا أمر فرض الجندية الإجبارية، وفرض ضريبة الدربية، استنكروا ذلك، وأعلنوا رفضهم وتمرّدهم على أحكام العثمانيين، وخرجوا من الاجتماع بالقرار التالي : “لا جندية، ولا دربية “.
وحين وصل خبر الاجتماع إلى الوالي في دمشق، وأحسّ رائحة تمرد جديد، أراد أن يخنقه في المهد، فأمر بتجهيز حملة جديدة على الجبل وعلم أهالي الجبل بأمر الحملة، فتنادى عقلاؤهم إلى اجتماع جديد في السويداء لتدارس الوضع، بعد أن بلغوا حد الإنهاك جراء عدة حملات متوالية، وفي اجتماع السويداء كان الرأي أكثر اعتدالاً إذ أبدى العقلاء رأيهم بأنه ليس من مصلحة الجبل خوض مواجهة جديدة مع العثمانيين في هذا الظرف، ما دام الباب مفتوحاً للمفاوضات فلنذهب إلى دمشق، ولنجر مفاوضات مع الوالي، علّنا نصل إلى حل وسط .
وشكلوا وفداً منهم من أجل المفاوضة. وصادف أن التحق بالوفد رجل كان قد حضر اجتماع قنوات دون أن يعلم بمقررات مؤتمر السويداء، وفي ذهنه أن الوفد ذاهب لإملاء شروطه على الوالي في دمشق.
ودخل الوفد على الوالي، وسأل الوالي أعضاء الوفد عن حقيقة ما استقر عليه الرأي العام في الجبل، فوقف ذلك الرجل الذي التحق بالوفد دون أن يكون من أفراده، ودون أن يعلم ما يحمله الوفد من مقترحات جديدة، وقال:
سعادة الوالي! لا جندية ولا دربية .
وصعق الوالي، واستشاط غضباً ؛ إذ لم يكن يتوقع هذه الإجابة، إلا أن أحد عقلاء الوفد وقف مخاطباً الوالي بالقول :
ـ سعادة الوالي ! هذا الزلمي بعده على اجتماع قنوات .
فذهبت مثلاً في التندر بالجمود وعدم التطور.

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

استشهاد القديس يوحنا المعمدان

صدر أخيراً كتابٌ قيّم للمحامي الدكتور منيف حمدان بعنوان “تركيب الملفات وثورات الكبار”، يتضمن ملفات عن ما يسميه “عشر مظالم تاريخية” أهمها وأجلّها ملف النبي يحيى بن زكريا أو القديس يوحنا المعمدان، الذي سنركز عليه في هذه المراجعة.

وخير ما يبتدأ بذكره الإنجيل المقدس عن يوحنا المعمدان،إذ يقول: “ومن ذلك امتنان الرّب تعالى على أبوية الأكرمين وهم في حالة الكبر”، وكذلك شهادة السيد المسيح (ع) قائلاً: “إنه أعظم نبيٍّ وأنا أشهد أنه أعظم من مائة وثمانين نبياًّ، ومن جملة الأنبياء أصولاً مائة وتسعون نبياًّ”. وأن يوحنا المعمدان الوارد ذكره في الإنجيل المقدس هو ذاته يحيى بن زكريا الوارد ذكرهُ في القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: }يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا{ (مريم:7) وكذلك قول الرسول محمد (ص) : لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا، إذ وصفه القرآن فقال }وآتيناه الحكم صبيا {ولم يعمل سيئة قط ولم يهم بها. وقد ورد اسم النبي يحيى عليه السلام في القرآن الكريم ستَّ مرات، وجاء ذكره في أربع سور قرآنية: آل عمران، الأنعام، مريم، الأنبياء. وجاء الحديث الرئيس عنه في سورة مريم عليها السلام.
حسب النصوص المسيحية فإن القديس يوحنا ولد وعاش في عهد الحاكم الروماني المستبّد هيرودوس لوالدين هما النبي زكريا وزوجته المؤمنة من بنات هارون أليصابات. وكانا عابدين تقيين ملتزمين بالشريعة، وقد طعنا في السن ولم يُرزقا بولدٍ إذ كانت الزوجة عاقراً، ومع هذا لم يفقد زكريا الأمل، وقد كان من عادته ككاهن أن يترك قريته الجبلية ويتوجه إلى القدس مرتين في السنة، وكان من مهامه أن ينثر البخور على الجمر المتوهج، ولما يبدأ البخور برائحته الزكيّة يتصاعد حاجباً ما حوله سأل زكريا ربّه “ربّ هبني من لدنك ذريّة طيّبة إنك سميع الدعاء”. وأجاب الله دعاءه وبعث إليه الملائكة مبشرين.وقال “لا تخف يا زكريا فإن صلاتك قد سُمعَتْ وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتدعوه يوحنا فيكون لك الفرح والسرور، ويكون إماماً عظيماً لا يشرب الخمر والمُسكر ويمتلىء من الروح القدس ويسير أمام المسيح بروح إيليا النبي وقوته”. ولما سأل زكريا الملاك المتكلم معه أجابه: “أنا جبرائيل الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشّرك بهذا فلتكن منذ الآن صامتاً لا تستطيع الكلام إلى يوم تكون هذه البشارة لأنك لم تؤمن بكلماتي وهي تتم بأوانها”. ولما جاء الوقت لأليصابات أن تلد ولدت ابناً فأسمته يوحنا.
بعد وفاة والديه أدرك الطفل يوحنا أنه معدّ لرسالة عظيمة، فعاهد نفسه على الصبر، لهذا اعتزل الحياة في المدن والقرى وتوجّه إلى البريّة هائماً على وجهه، وقطع عهداً على نفسه أنه لن يقتات إلاّ بأكل الجراد والعسل البريّ، وكان قميصه مصنوعاً من وبر الجمال… ولما بلغ الثلاثين من العمر ترك البرية وعاد إلى القرى المحيطة بالأردن منادياً بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا حيث أثّرت كلماته الروحيّة بسامعيه، فتذكروا كلمات الأنبياء السابقين أشعيا وأرميا وحزقيال، فتقاطرت الجموع إليه من كلّ مكان، من القدس ومحيط البحيرة وبريّة جلعاد حيث يسكن بنو اسماعيل، وراحوا يسألونه فيجيب: “ أثمروا ثماراً تليق بالتوبة، من له قميص فليعط من ليس له، ولا تطالبوا أيّها العشّارون بأكثر مما أردتم به، ولا تظلموا يا أيها الجنود أحداً، ولا تعتمدوا علي وكفاكم أجركم.. أنا أعمّدكم بالماء ويأتي بعدي من هو أقوى منّي.. ذاك الذي لا أستحق أن أحلّ سير حذائه.. هو يعمّدكم بالروح القدس وهو الذي قلتُ عنه يأتي بعدي رجلٌ صار قدّامي لأنه كان قبلي”… بسرعة البرق انتشرت أخبار يوحنا المعمدان، ولما طرقت هذه الأخبار مسامع هيرودوس أطلق جواسيسه في كل مكان لينقلوا ما يتحدث عنه، ودامت تلك المراقبة عدة شهور فأدرك هيرودس أن المعمدان رجلٌ صادقٌ وأمين وطاهر. ويوماً أرسل إليه أحد أتباعه لإلقاء إحدى عظاته في القصر الملكي فلبّى الدعوة واستمع إليه الملك بكل سرور.
غير إنه في زياراته المتكررة للقصر الملكي تكلم القديس يوحنا بأمور عامة ثم ألمح إلى بعض الأخطاء من قبل المشرفين على الإدارة فلاقى ذلك استحساناً لدى السامعين، وسرّ به الملك سروراً عظيماً كون القديس لم يأت على ذكر خطيئته الكبرى بزواجه المحرّم من هيروديا زوجة شقيقه وهو حي رغم أنه كان متزوجاً من بنت الملك عبيدة النبطي ملك العرب في دمشق وجوارها، ولهذا بعد أن علمت الأميرة العربية بهذا العمل المشين ثارت لكرامتها وهجرت القصر الملكي وعادت إلى ذويها في دمشق.
لكن القديس اغتنم فرصة دعوته إلى حفل في قصر هيرودوس ليوجه النقد لسلوك الملك وزوجته مكرراً نبوءته بمجيء قريب لملكوت السموات ووجوب الإنتقال من حياة الغفلة والخطيئة إلى حياة التوبة والفضيلة، ثم قال موجهاً حديثه نحو الأمبراطور: “أما أنت يا هيرودوس فقد أتيت من الأعمال التي لا تأتلف مع هيبتك كملك، ومع أمانتك كزوج ومع دمك كأخ وطعن زوجتك العربية بكرامتها وجميع هذه الأعمال لا تحلّ لك وستدفع مقابلاً لها ثمناً يوماً ما” …
غضب الملك لعظة يوحنا المعمدان كما غضبت زوجته هيروديا فأمر باعتقال القديس وأمر بإرساله إلى قلعة ماكيرا أو البرج الأسود على ضفاف البحر الميت، وهو لم يزل قائماً حتى يومنا الحاضر، وفي هذا السجن الذي لا يدخل إليه النور ولا الهواء النقي، ألقي يوحنا المعمدان بعد أن أوثقوا يديه بالأصفاد وكبّلوا رجليه بالسلاسل انتقاماً منه ومن مواعظه.
ويوماً، وبناء على رغبة زوجته هيروديا، أقام الملك هيرودوس حفلاً عامراً في قلعة ماكيرا ليكون على مقربة من سجن ذلك القديس الذي نغّص عليهما حياتهما، وربما لغاية في نفس زوجته، في تلك الليلة طلبت هيروديا من ابنتها صالومي الرقص بصورة أثارت السرور في قلب هيرودوس فأشار إليها أن تقترب منه، ثم قال: “سلي ما تريدين وأنا أعطيك ما تسألين وأقسم لك بذلك”.
تظاهرت صالومي بالتمنع والخجل، ثم خرجت إلى أمها وسألتها بماذا تجيبه، فقالت أمها على الفور: رأس يوحنا المعمدان. عادت الصبية إلى الملك وقالت له: أريد أن تقدّم لي رأس يوحنا المعمدان على طبق.
تردّد هيرودوس بادئ الأمر، لكنه ونزولاً عند رغبة هيروديا أمر أحد السّيافين بالذهاب إلى السجن وقطع رأس يوحنا المعمدان والعودة به على طبق قدم إلى صالومي التي قدمته بدورها إلى أمها هيروديا. وأدرك هيرودوس على الفور عظم فعله وغدا يرى يوحنا المعمدان ماثلاً أمامه في الليل والنهار يوبخه على إقدامه على فعلته. ثم انتشر الخبر ووصل إلى مسامع ملك دمشق الحارث الرابع، الذي جرّد حملة عسكرية كبيرة ضد صهره هيرودس في العام 27 للميلاد ونازله في عقر داره وانتصر عليه انتصاراً ساحقاً في معركة (جلعاد) وانتقم لشقيقته وأعاد إليها الفرح والحبور، وكذلك انشرح صدر تلامذة يوحنا المعمدان على أعظم انتقام ضد الظالمين في التاريخ أمثال الملك هيرودوس وزوجته هيروديا.
أمّا مكان دفن رأسه، فتروي بعض الكتب التاريخية أنه عند تحويل كنيسة دمشق ما أصبح اليوم الجامع الأموي في دمشق عثر العمال في أساس البناء على مغارة، فأخبروا الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي جاء أثناء الليل يحمل الشموع، فنزل فإذا هي قبو في أسفل الكنيسة وإذا بداخلها صندوق حديدي، فلما فُتِح سقط منه رأس مكتوب عليه: “هذا رأس يحيا بن زكريا”، فردّه الوليد إلى مكانه وقال: اجعلوا عليه عمداً مسفّطاً، وهو العمود المسفّط الشرقي الرابع من ركن القبة في الجامع الأموي والذي يعتبر من أشهر المزارات الدينية والإسلامية.

لله في خلقه شؤون، والناس أجناس لكن أكثر ما نلاحظ توزع أكثرهم بين من هم على سلامة السجية وطيبة القلب وحب الخير ومدّ يد العون للمحتاج وبين من يفتقدون الفطرة السليمة ويحملون سوء النية والظن بالآخرين وربما سقطوا في اتهام الآخرين بما ليس فيهم افتراء وحمقاً. بينما تسهم الفئة الأولى في نشر أجواء الخير بين الناس وتخفف عنهم همومهم وتنشر الإيجابية في المجتمع فإن الثانية هي مصدر دائم للنكد وتعكير الأجواء فهم مثل جنود إبليس لا عمل لهم إلا إفساد المسرّات ونشر الفتنة والتفريق بين أهل المودة والخلّان.
هنا قصة عن رجلين أحدهم هبّ إلى مساعدة جاره وقدم له خدمة جليلة وعظيمة إذ ساعده على إعادة ما فقده من أموال ومصاغ ومقتنيات وليرات ذهبية، ومع ذلك فإنه لم يلقَ من جاره المذكور أي تقدير أو شكر أو امتنان، بل على العكس من ذلك قوبل بسوء الأخلاق وخشونة التصرف وقلة الأدب.
فما هي تفاصيل القصة؟
أثناء حرب قوات حكومة فيشي الفرنسية والتي أقامها الاحتلال الألماني لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية وكانت موالية له، حصلت معارك ومواجهات عنيفة في قرى الجنوب والعديد من مناطق جبل لبنان بين تلك القوات وبين جيوش الحلفاء التي كانت بدأت في مطلع الأربعينات من القرن الماضي تميل الكفة إلى صفها. وحصلت في منطقتي مرجعيون وحاصبيّا بصورة خاصة معارك بين جيش حكومة فيشي التي كانت تحكمنا، وقوات فرنسا الحرة وبريطانيا التي تمكنت من طرد قوات فيشي من تلك المنطقة في حزيران 1941.
وسط هذا الاقتتال انسحبت الأجهزة الأمنية من المنطقة وفرغت المخافر من عناصرها فغرب حبل الأمن في داخل بلدة حاصبيا ومنطقتها وانتشر القلق على السلامة الشخصية أو على المال بين الناس. لكن فراغ الأجهزة الحكومية وسلطة الأمن ملأتهما على الفور مبادرات المشايخ الأجلاء والوجهاء والعقلاء في منطقة حاصبيا والذين كانوا على يقظة وتماسك في ما بينهم للحفاظ على الأمن والأمان. فبقيت الحياة الإجتماعية على طبيعتها واستمراريتها وحصد الناس غلالهم في جو آمن وامتلأت الكواير بالحبوب حتى إن كبير المشايخ في حينه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين حين سُئل عن رأيه في تغيّر الأوضاع أجاب: “الراعي صالح، أما المغادرون فلا نأسف لرحيلهم وأما القادمون فلا نسّر لقدومهم”.
ومع هذا فإن بعض ضعفاء النفوس وضيقي التفكير لم يجدوا في كل هذا التدبير وتضامن العقلاء سبباً كافياً للطمأنينة ولم تفلح تطمينات الناس والمعارف في تهدئة خواطرهم وهم المصابون بمرض الحرص الشديد على الدنيا والمقتنيات وحرصهم يجعلهم في حالة رعب دائم على مالهم ولا علاج له.
هذا ما غشى على عقل السيد أبو نصري أسعد الدبغي، من أبناء حاصبيا المقيمين فيها، إذ كان رغم أجواء الهدوء والإلفة يتقلب على نار المخاوف، وقد بدأ يرى في كل إنسان أو جار أو عابر سبيل ربما تهديداً لماله ولرغد حاله. ولما لم يعد في قادراً على تهدئة روعه، جمع كل ما يملك من مئات الليرات الذهبية والمصاغ والمجوهرات العائدة لزوجته وبناته المتزوجات وجميع الصكوك والحجج وكل المقتنيات الثمينة فوضعها كلها في مرطبان كبير الحجم من الزجاج ثم أودع المرطبان داخل صفيحة من التنك وأحكم إغلاقها.
وعندما أسدل الليل عتمته فوق بلدته ومنزله خرج إلى الحديقة، وبعد أن أجال الطرف يميناً وشمالاً استقرّ رأيه على أن يحفر تحت أحدى شجيرات الحديقة حفرة عميقة قدر الإمكان، ثم قام بدفن الصندوق الحديدي فيها ولم ينس بالطبع أن يضع قطعة من الخشب فوق تراب الحفرة كعلامة يهتدي لاحقاً من خلالها على مكان الصندوق. لكن، من حكمة الخالق الذي يكره الحرص والظنون أن مرّ على الطريق العام المحاذية لحديقته في تلك اللحظة ثلاثة رجال عرف منهم السيد شاهين حمزة، وقد ألقى الرجال التحية على أبو نصري ثم سألوه قائلين: “يا عم أبو نصري، شو عمتعمل أول الليل في الحديقة؟” ولم يكن تساور المارة الثلاثة أي شكوك إنما أرادوا ملاطفة الرجل الذي كان في منزله وداخل حديقته فربما خرج لحاجة أو للبحث عن شيء من أغراضه.
لكن أبو نصري المسكون بالهواجس صدم بمرور هؤلاء الرجال فاشتعل فكره بعشرات الأفكار والافتراضات، وكل إنسان ينكب على عمل في السرّ وفي عتمة الليل يميل بطبيعة الأمور للخوف ولتفسير أي أمر ولو كان عادياً تفسيراً يقوم على الشك والظنون واحتمال الفضيحة. والله تعالى يقول في قرآنه الكريم }إن الله لا يصلح عمل المفسدين{ (يونس:81)
هكذا أصبح الحال عند العم أبو نصري، وغدا على ثقة تامة بأن هؤلاء الشباب اطلعوا على ما كان يفعله في الحديقة، وأنهم سيتآمرون للاستيلاء على كنزه، لذلك وبعد أن دخل بيته وجلس على أريكته لم يهدأ له بال، وكانت الأفكار تأخذه وتعيده وهو مشوش الفكر حتى لم يعد قادراً على الاحتمال أو السكون في مكانه، فانطلق مسرعاً نحو الحديقة والمكان الذي دفن به مقتنياته، لكنه وبسبب اضطراب فكره وحالة الذعر التي كانت مسيطرة عليه أضاع الاتجاهات واسودت الدنيا أمامه فلم يعثر على العلامة التي وضعها للاستدلال على كنزه الدفين، وقد أضلّه الله ليجعل منه عبرة ومثلاً.
بحث أبو نصري بصورة هستيرية عن المكان ودار على نفسه وفتش في أكثر من اتجاه لكنه لم يعثر على العلامة وأضاع الدليل على كنزه، فعاد في حالة من الخوف الممتزج بالحنق والغضب على كل مخلوق..لا يحمل لفشله في العثور على كنزه إلا الظنون مطلقاً التّهم جزافاً بحق من مرّ قربه قائلاً ومردداً أنهم قد أخذوا أمواله وتحويجة عمره، ثم أخذ يجوب أرض الغرفة ذهاباً وإياباً ويضرب كفاً بكف وبلغت به حال الضياع والغضب أن توجه إلى زوجته المسكينة متهماً إياها بأنها هي التي دبرت المكيدة موجهاً لها التهديد واللغة العنيفة..
المرأة المسكينة أصيبت بالخوف والحيرة، فهي لا تعلم ما يمكنها أن تفعله أمام ثور هائج، لذا سكتت خوفاً من إقدامه على عمل طائش، ثم انسلّت إلى خارج الغرفة وقفزت فوق الحائط الذي يفصل بين منزلها وبين منزل جارهم الشاب أبو سليمان إسماعيل أبو غيدا، متوسِّلة وراجية منه أن يأتي معها ويبحث عن الأموال التي استودعها زوجها في أرض الحديقة لعله يجدها ويهدىء من هيجان وثورة زوجها.
أبو سليمان اسماعيل هبّ مسرعاً ثم ذهب مع خالته أم نصري، كما كان يناديها، وأخذ يتنقل في الحديقة من مكان إلى مكان، ومن زاوية إلى أخرى إلى أن صادف مروره تحت شجرة الليمون، وإذا بدعسة قدمه تهتز تحتها خشبة، فعمل فوراً على نبشها وإذا به يهتدي إلى الصندوق وفي وسطه مرطبان الزجاج، فحمله وعاد مسرعاً إلى منزل جاره وأم نصري تنظر إليه بامتنان واعتزاز.
ذهب الجار بالكنز ليبشر جاره وطرق الباب:
“إفتح يا عم أبو نصري إفتح فهذا قطرميز الزجاج كما وضعته يداك، إفتح “ كان يردد ذلك بكل تهذيب واحترام ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داود.
فأبو نصري المسكون بالرعب والظنون اعتبر أن كلام جاره من قبيل تهدئة الخاطر فرفض تصديقه كما رفض فتح الباب له واستمر في الصياح من الداخل مكيلاً اللعن والسباب للجميع فالمرطبان “مع الزعران” ثم لعن الأيام والحياة والزمان والمكان. لهذا وبعد أن يئس أبو سليمان من هذا التصرف الغبي والسيىء ناوله إلى خالته أم نصري وقفل عائداً إلى منزله وكأن شيئاً ما كان.
الزوجة أم نصري هالها هذا التصرف المشين من قبل زوجها أكثر من فقدان مصاغها، لهذا تجرأت ثم فتحت الباب وأدخلت المرطبان وقالت لزوجها الغارق في الهيجان: خذه وتفقده وكفى سوء تصرّف وغضب وقد كان أقل واجب عليك أن تستقبل جارك وتشكره بل وليس إهداؤه شيئاً من محتويات هذا الصندو.. ومع كل ذلك لم يهدأ أبو نصري لكنه مدّ يده وأخذ المرطبان ثم تفقدّه فوجده كما كان، لكنه بقي على تجهمه ولم يتلفظ بأي عبارات تحمد الله أو تشكر جاره على المعروف الذي أسداه إليه، فهو انزوى في مقعده عاقد الجبين وزوجته حائرة في ذاتها آسفة لعشرة السوء هذه التي ابتلاها الله بها وهي صابرة محتسبة.
العبرة من هذه المأثرة يلخصها قول الشاعر العربي زهير بن أبي سلمى:
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِـهِ يَكُـنْ حَمْـدُهُ ذَمـاً عَلَيْـهِ وَيَـنْـدَم

قصص الأمثال

قصص الأمثال

الموت ولا المنع بوجه طقيعان

وهو مثل يضرب للنفور من الخضوع للخسيس ولو كان دون ذلك الموت، ويقابله من الفصيح:” المنيَّة ولا الدنيَّة” . والمنع: الأسر . والمنع بوجه فلان: أي الدخول في ذمته ليحفظ له حياته. طقيعان : لقب يقصد به السخرية والتقليل من الشأن.

والحكاية أنه في إحدى الغزوات التي كانت تتم في المنطقة أيام الدولة العثمانية إذ السلطة غائبة والحكم للأقوى، أغارت مجموعة من فرسان الجبل على بعض القبائل البدوية، وغنموا مواشيهم، فساقوها أمامهم ومشوا لكن رجال القبيلة البدوية سرعان ما جمعوا شتاتهم، ولموا شعثهم، وهيأوا أنفسهم، وانطلقوا في هجوم معاكس استطاعوا به أن يتغلبوا على فرسان الجبل، ويستردوا مواشيهم، وأن يطاردوا الفرسان الذين بوغتوا بالهجوم المعاكس. وكان أن لاحق أحد فرسان البدو فارساً من فرسان الجبل بقصد منعه (أي أسره) واستمرت المطاردة إلى أن وصلا إلى مشارف واد سحيق، ولم يبق أمام الفارس المطارد إلا سبيلان: الاستسلام، أو الاندفاع إلى الوادي بفرسه حيث الموت المحتم، وأدرك الفارس البدوي مأزق خصمه، فاندفع يناديه :
– امنع يا ولد امنع . أي استسلم.
وكانت العادة إذا حدث أمر كهذا أن يطلب المغلوب على أمره الأمان، والدخول في ذمة خصمه . وكان يسأل عن اسم خصمه قبل أن يعلن استسلامه، كي يتأكد من أن هذا الخصم أهل للوفاء بالوعد. وعلى ذلك فقد سأل الفارس الجبلي خصمه البدوي، بعد أن ضاقت به سبل النجاة:
– يا ولد ! بوجه من امنع؟ .
فردّ عليه البدوي ساخراً ومستخفاً بالفارس الجبلي، إذ استطاع أن يأسره أخس الناس :
امنع بوجه طقيعان وعليك الله .
فلما سمع الفارس الجبلي ذلك أدرك مقدار الإهانة التي يوجهها إليه البدوي، فالتفت إليه قائلاً:
– خسيت ! الموت ولا المنع بوجه طقيعان .
ثم وجه فرسه باتجاه الوادي واندفع مسلماً نفسه للموت .

وانخلي له يا هلالة

مثل يضرب في تجاهل الهموم وتناسيها، وقد روى لي أحد الأصدقاء أن المثل كما يسمعه منذ خمسين عاماً يضرب عند استهجانهم لخبر غريب بعيد عن التصديق، غير إنني وقعت على حكاية هذا المثل في كتاب صور فكاهية من الأشعار الحموية لمؤلفه أحمد عكيدي .
وقد وردت قصة هذا المثل حين كان المؤلف يتحدث عن صحافة حماة الفكاهية التي سميت بأسماء تعطي معنى مضحكاً وساخراً ومنها صحيفة “ انخلي يا هلالة “ لصاحبها عبد الرحمن المصري وقد صدر العدد الأول منها يوم الأربعاء 20 تموز عام 1910 ولم تعمّر طويلاً .
والحكاية كما نقلها المؤلف أن أحد الأشخاص سرق في أيام القحط والجفاف والحرب كيساً من الطحين، وكان يعيل أسرة كبيرة، فوقع عليه الاتهام، وطلب إلى المحكمة . فمثل أمام القاضي، فأنكر ما فعله، فطلب منه القاضي أن يحلف اليمين، فسرّ وقال في قلبه : لقد جاء الفرج. فهذه من أبسط الأمور لديه. فأقسم وحلف كاذباً، فبُرِّئ . فعاد إلى البيت مسروراً، فخاطب زوجته وتسمى “هلالة “ وقال: “ إنخلي يا هلالة “، أي إنها قد فرجت. فصار مثلاً شعبياً يضرب لمن يستخف بالأمور، ولا يكترث بأهميتها وعواقبها2.
على أنني وقعت على حكاية هذا المثل في مصدر آخر برواية: “ وانخلي يا أم عامر “ وقد ذكره أحمد تيمور باشا في معجم الأمثال العامية، وقال :
“ أي قد وضح الأمر، ولم يبق سبيل إلى الكتمان وإخفاء الدقيق الذي سرقته فانخلي يا زوجتي وأعجني” .
ويضيف تيمور : “ وفي مثل آخر : “ قالوا لحرامي الدقيق: احلف، قال يا مره انخلي “ أي لا داعي للحلفان ثم توسعوا في معناه، فصاروا يضربونه لمن نال حظاً وتوفيقاً في أموره، داعياً إلى التبسط والتوسع في المعيشة . ويروى “ والله وانخلي3 “ .
وبذلك يتجه المثل إلى التعبير عن الغبطة بالنجاح والتوفيق .

الولد ولد ولو حكم بلد

يضرب هذا المثل في الولد الذي نتوسم فيه النباهة ، فنوكل له ما ليس من شأنه الاهتمام به، فلا يلبث أن يعود إلى طبيعته الطفلية .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي، أن والي مصر محمد علي باشا خرج يوماً يتنزه مع بعض حاشيته، فمروا بأولاد يلعبون بالكلل، وكان بينهم ولد يلبس طربوشاً جديداً، فتناوله محمد علي عن رأسه وقال له: “بكم تبيع هذا الطربوش ؟” فقال: “ طربوشي كان سعره عشرين مصرية قبل أن تمسه يدكم الكريمة، أما الآن فقد أصبح في يدكم أغلى من أن يباع بثمن”!
أعجب محمد علي بنباهة الولد، وقال لمن معه : “ هذا الولد ربما صار حاكماً عظيماً” ثم قال له: “ إذا أعطيتك ثمن الطربوش ألف مصرية فماذا تعمل بها؟ “ قال: “أشتري كللاً وألعب مع رفاقي”.
فضحك محمد علي باشا وقال: “الولد ولد ولو حكم البلد “ وجرى كلامه مثلاً تتناقله الألسن1 .
حقيقة الأمر أن محمد علي أخطأ في حكمه على الولد لأنه تصرف على سجيته وبما يلائم عمره وحاجته إلى اللهو والرفاق، ولو أجاب الولد بخلاف ما ذكر كأن يذكر أشياء لا قبل له بها لحقّ عندها القول أنه ليس عاقلاً.

يا مدبر العربان دبر حمارك

يضرب هذا المثل للرجل الذي يحاول تقديم النصح أو المساعدة للآخرين، وهو أحوج الناس لهذه النصيحة أو المساعدة .
وقد عالج المثل الشعبي هذه المسألة في أكثر من مثل ؛ كقولهم “ عجقة وبتطلع ببيت جيرانها كواير” .
وحكاية هذا المثل رواها سلامة عبيد فقال : “ أصل هذا المثل أن بدوياً ذهب يشكو إلى أحد قضاة البدو مظلمة، فأخذ يسأل عن بيت ذلك القاضي، وفي أثناء بحثه صادف شيخاً بدوياً يركب حماراً هزيلاً مقرحاً، فسأله عن بيت القاضي . فقال الشيخ : أنا القاضي. فاستغرب البدوي أن يهتم ذلك القاضي بشؤون العربان، ولا يهتم بحماره، فيتركه هزيلاً مقرحاً “ وقال في نفسه : “ يا مدبر العربان دبر حمارك4“.

ارجع لكارك لوّلي فاروعتك والمشحرة5

وهو مثل يضرب للرجل الذي يعزّ بعد ذلّ، ثم يذلّ ثانية . أو للرجل الذي يرتكب حماقة تفقده ما وصل إليه من شأن رفيع، فيعود إلى ما كان عليه من صغر شأن . والمثل فيه رائحة الشماتة .
يعود تاريخ الحكاية إلى أواخر العهد العثماني نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وقد كان العثمانيون يستخدمون سلاح التفرقة، وبث الخلافات بين أبناء الوطن الواحد كي يحافظوا على مناخ الاضطراب وعدم الاستقرار الكفيل باستمرار سلطتهم، وإحكام قبضتهم على البلاد.
وكان من أساليبهم إشعال نار الضغينة بين سكان الجبل والسهل الحوراني ، حيث جرت سلسلة من المواجهات بين الطرفين، كان وراءها سلطة الوالي بدمشق . وإحدى حلقات تلك السلسلة بدأت من “ الشيخ مسكين حينما اجتمع أهل السهل الحوراني يريدون الإغارة على الجبل لإدراك ثأر سابق، فطالب المجتمعون زعيمهم “ابن مذيب” أن يخرج العطفة وهم كفيلون بحمايتها فاشترط ابن مذيب على رجاله أن يوافوه بمئة شاب يختارهم بنفسه لحماية العطفة وهكذا كان . وتوجّه المهاجمون من السهل الحوراني إلى الجبل، عبر قرية خربة غزالة فلاقاهم فرسان الجبل بقيادة الشيخ أبي علي قسام الحناوي .
ومما كان يهزجه فرسان العطفة قبل المعركة، وهم في طريقهم إلى الجبل أنشودة حماسية تقول :
يا دريزي وِش لك بالحرب فاعت عليك المدبـرة
ارجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع لكـــــــــــارك لــــــــــــــــولـــــــــي فاروعتـــــــــــــــك والمشحرة
والأهزوجة تخاطب الفارس الجبلي محبطة من عزيمته مذكرة إياه أنه لا قبل له بالحرب ومواجهة الرجال المهاجمين، الذين هم مثل الدبابير التي خرجت من “المدبرة” باتجاه هدفها . وفي البيت الثاني تذكر الأهزوجة مقاتل الجبل بأن الحرب ليست كاره “صنعته” بل صنعته قطع الحطب بالفاروعة لصنع الفحم، فعليه أن يرجع إلى صنعته الأولى، وإلى فاروعته ومشحرته.
وتنتهي الموقعة بهزيمة المهاجمين من السهل الحوراني، وأسر العطفة، واقتيادها إلى سهوة البلاطة، حيث نزلت ضيفة مكرمة على حرم الشيخ إبي علي قسام الحناوي . وتهرع أمها من الشيخ مسكين داخلة على الشيخ إبي علي قسام، طالبة ابنتها تحت أي شرط يريده، أو التعرف على قبرها إن هي قتلت . وتندهش الأم حين ترى ابنتها بكامل زينتها، ضيفة معززة حيث يعيدها الشيخ أبو علي قسام بحماية ثلة من فرسان الجبل، لتصل إلى “ الشيخ مسكين “ معززة مكرمة .
ورغم هذه النهاية المخيِّبة للهجوم الحوراني فإن البيت الثاني من أهزوجة فرسان السهل التي قالوها في مقاتلي جبل الدروز وهي “إرجع لكارك لولى فاروعتك والمشحرة “ تحوَّلت إلى مثل يضرب في الشماتة أو الاحتقار واستصغار الشأن6 .

عرس فهيدي

مثل يضرب في الأمر إذا طالت ذيوله وتفرع، وعجز الناس عن حسمه بالسرعة المطلوبة فتسبب ذلك في فتن واقتتال لا طائل تحته. وفهيدي امرأة من درعا عرض لقصتها الدكتور فندي أبو فخر في كتابه “ تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840ـ 1918” وقد جاء في الرواية أن بدوياً من الجوف قام باختطاف فهيدي من درعا، واحتمى ببيت الشيخ ياسين الحريري شيخ قرية بصر الحرير بقصد تزويجه إياها، وهي عادة متبعة لدى بدو المنطقة، لكن الشيخ ياسين قام بطرد البدوي، وهمّ بإعادة فهيدي إلى أهلها، وتزويجها من شخص آخر غير عريسها الذي خطفها .
فالتجأ البدوي بعد طرده من بصر الحرير، إلى قرية الدويرة القريبة والمتاخمة للسهل الحوراني، واستجار بشيخها حمود نصر، (وفي رواية أخرى سليمان نصر) لاسترجاع عروسه . وبادر الشيخ حمود نصر لمؤازرة مستجيره بالإغارة على قرية بصر الحرير . وكانت الحروب سجالاً بين الطرفين، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من الجانبين، الأمر الذي سمح بتدخل الدولة العثمانية بحجة الفصل بين المتنازعين، وهي التي كانت تتحين مثل هذه الفرص وتغذيها .
ويورد الدكتور أبو فخر في المصدر نفسه ما قاله شبلي الأطرش في هذه المناوشات:
أول فتـــــــــــــــــــــــــوح الشرّ جازة فهــــــيـــــدي جرى عقبها عركات يابو الهمايم
جرى يوم قراصة الذي تخبرونه يــــــــــــــــــــــــــا ما فقدنا كل قرم مخاصــــــــم7
ولا يتابع الدكتور أبو فخر قصة فهيدي في المصدر المذكور. غير إنه نقل لي شفهياً لدى سؤالي له عن مصير فهيدي ونهاية الحكاية: إن الشيخ ياسين الحريري وضع خطة لخداع البدوي وجرّه إلى بصر الحرير بقصد قتله، وتقوم هذه الخطة على إرسال من يبلغ البدوي أن عروسه تنتظره على بركة بصر الحرير ساعة كذا ليلاً، وهناك ينتظر البدوي موته على يد مجموعة من المسلحين . وبذلك لا يضطر ياسين الحريري لفتح خلاف مع سكان الجبل، غير إن الخطة فشلت حينما رافق البدوي مجموعة من فرسان الجبل، وهناك دارت معركة، تلتها عدة معارك . وكان فرسان الجبل يرددون أثناء هذه الغارات مخاطبين أهل السهل الحوراني:
مــــــــــــــــــــــــــــــا دام فهيــــــــــــــــــــدي عنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفّــــــــــــــــــــَانكم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريح8
أما عن مصير فهيدي فقد كان مصيرها القتل على يد أهلها وذويها9. والله أعلم .
هذا، وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته واكتفى بالقول: فهيدة امرأة خطفت فطالت المعارك بسببها، وخاطب شاعر المخطوف منهم قوم الخاطفين بقوله :
مــــــــــــــــــــــــــــــا طــــــــــــــــــــول فهيـــــــــــــــــــــــدة عنــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــكم مــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــريــــــــــــــــــــح
وأورد مثلاً آخر مشابهاً لهذا المثل في مغزاه : “عرس بالي ما له تالي10”
من جهة أخرى، بيّنت الكاتبة الألمانية بريجيت شيبلر في كتابها “انتفاضات جبل الدروز” النوايا العثمانية المبيتة لإحكام قبضة الدولة على الجبل من خلال استغلال هذه الحادثة واتخاذها ذريعة للتدخل وفرض سلطانها . ونقلت شيبلر أن الوالي العثماني مدحت باشا لم يكن مستعداً لقبول خروج الجبل عن سلطة العثمانيين، وقد صرّح علناً أن حالة نصف الاستقلال في جبل الدروز يستحيل أن تصنع “حكومة تنظيماتية مستقرة”، وطلب من الباب العالي السماح له بإخضاع هذه النواحي. ووجهت القوات العائدة من الحرب الروسية العثمانية سنة 1879 مباشرة إلى حوران، ولم يبق للسلطة العثمانية إلا الذريعة للتدخل، ولم يطل انتظارهم فالقضية موجودة .
هذا وتسرد السيدة شيبلر الحادثة على النحو التالي:
“ كان لدى بدو الجبل فتاة عزباء، ذات جمال مشهور، عزم بدو الجوف على اختطافها، ففرّ خطيبها معها إلى بصرى (كذا في المصدر، والصحيح بصر الحرير) عند الشيخ ياسين الحريري الذي بدوره أعجب بها، وطرد عريسها . وتبعاً للعادات ذهب العريس ودخل عند سليمان نصار (كذا في الأصل والصحيح سليمان نصر) في الدويري . لم يرغب سليمان في حرب بصر فأرسل ليلاً رجلين من الدروز ومعهما بدويان إلى بصر كي يسألا العروسة إذا كانت ترغب في الهرب، فقتل الدرزيان، وهكذا اندلعت الحرب لثأرهما11.
وتضيف شيبلر في نهاية الخبر: “خدم القتال بين بصر والدويري نوايا مدحت باشا المبيتة، واتخذ من هذه الحالات ذريعة للتدخل، وأبلغ العثمانيون الشيخ الروحي الحناوي الذي كان يسعى في التوسط شروط السلطة العثمانية12. “
ويبيّن الدكتور فندي أبو فخر مدى الروابط المتينة بين السهل الحوراني والجبل بالرغم من المشاحنات التي كان يصطنعها العثمانيون، فيورد ما نصه : “من النادر أن تجد قرية في لواء حوران لم تعبّر عن تضامنها مع الجبل، حتى شيوخ بعض القرى، التي شهدت مشاحنات ونزاعات بينها وبين قرى الجبل، فالشيخ ياسين الحريري ـ شيخ بصر الحرير ـ الذي تشاجر مع الشيخ حمود نصر، وبعض ساكني قرى الجبل، بسبب ما يعرف بـ “عرس فهيدة” خبأ أموال الشيخ يحيى الأطرش، ومفروشات داره، وأموال أهالي قرية عرى في بيته، كما أخفى سكان قرية خربا أموال أهالي قرية المجيمر والعفينة والقريا في بلدهم”13.

عرس-فهيدي
عرس-فهيدي

 

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

الدكتور محمد السماك في كلام بليغ
عن وحدة الإيمان الإسلامي المسيحي

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما
الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا

(أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي)
في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل.
يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق.
وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.”
وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”.

عهد النبي للنصارى
توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م.
حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه:
“هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي:
“تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف:
1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين.

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا (أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي) في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل. يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق. وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.” وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”. عهد النبي للنصارى توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م. حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه: “هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف: 1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين. 2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين. 3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”. ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42) يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.
الأستاذ محمد السمّاك

2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين.
3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”.
ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42)
يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.

من مآثر وعبر المُصلح الإجتماعي
عارف النكدي

عارف النكدي علمٌ من أعلام العروبة والتوحيد، ومنارة مشعّة وركن تليد.. وحصنٌ حصين للمعذبين واليتامى والمشردين لا يُماثله نديد.
حقاً إنه كان المُصلح الإجتماعي الكبير، وأحد العاملين لتأمين سلامة المجتمع ورُقيّه في هذه البيئة المعذبة من الشرق، في وقتٍ كان الفقر والعوز والتشرد سيد المواقف بين أبناء وطبقات المجتمع. وقد لمع اسمه هذا الرجل الكبير في عمله الوظيفي، فكان كالسيف القاطع بوجه الإنحلال والإنهيار كالرشوة وسوء المعاملة والإستعلاء واستغلال المواقع من قبل المفسدين.
من هنا كانت له تلك المكانة الرفيعة في نفوس أبناء طائفته وعارفيه ومقدّري فضله وعلمه، والمطّلعين عن كثب على أعماله الخيرية وفي طليعتها بيت اليتيم الدرزي، وكم كان لهذا العمل من أفضال على اليتامى والمشردين، وكم هم كُثر عند الطبقة الفقيرة من المجتمع الشرقي، وكم كان لهذا الميتم من رفع شأن طلّابه ونزلائه، والذين يفوق عددهم الألف نزيل كل عام، حيث توصل البعض منهم إلى أعلى المراتب والمواقع الإجتماعية والسياسية والعسكرية وسواء ذلك، ليصحّ به القول المأثور “الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله وأَحَبُّهم إليه أنفعُهم لعِيالِه”.
تقلّد النكدي العديد من المناصب والمواقع، إذ عمل قاضياً ثم محافظاً ثم مديراً عاماً لوزارة العدل السورية العام 1944، ثم رئيساً لمجلس الشورى السوري العام 1946، ثم مديراً عاماً للشرطة في تموز 1946 وبقي في موقعه هذا حتى تقاعده من الوظيفة العامّة ليعيّن بعدها بالوكالة محافظاً لجبل الدروز بالإضافة إلى تولّيه الأوقاف الدرزية منذ العام 1930. ومما قام به من خدمة مميزة إنشاءه فروعاً للمدرسة الداودية (عبيه) في 43 قرية درزية من قرى جبل لبنان ووادي التيم..
غير إن ما نحن في صدده هو مآثره ومواقفه أثناء حياته الوظيفية والإجتماعية والتربوية، ومنها أنه أثناء خدمته كمفتش عدليّ في وزارة العدل السورية إبان الإنتداب الفرنسي، يقصده يوماً “المسيو سيرو” أول مستشار فرنسي لوزارة العدل السورية، وقصده تأنيب أحد المفتشين لتقريره الشديد اللهجة ضد المستشار الفرنسي ذاته وعلى مرأى من السيد النكدي، لكن النكدي استهجن تصرف المستشار الفرنسي وتحركت حميته دفاعاً عن كرامة زميله المفتش فتوجّه إلى سيرو يخاطبه بحدّة قائلاً: “إنك لا تخيفنا لا أنت ولا دولتك، وإنني لن أتردّد عن طردك من هذا المكتب إن لم تتراجع عن تهديدك”.

عارف بك النكديّ
عارف بك النكديّ

وعندها أدرك المستشار الفرنسي خطأه وأن النّكدي جادّ في تهديده تراجع بانتظام ثم صافحه معتذراً.
ويوماً عمل النكدي على تسريح أحد القضاة، فحضر المستشار الفرنسي إليه وقال: “إنني لا أوافقكم على تسريحه، لأن السلطات الفرنسية راضية عنه تماماً. أجاب النكدي: كيف لا أسرّحه وهو يختلف مع الحاجب عنده في ما إذا كانت الهدية التي قُدّمت له أم للحاجب، وفي النهاية تمّ تسريحه عنوة عن المستشار.
في العام 1942 تقدم وزير العدل السوري بمشروع قانون يتضمن تسريح أربعين قاضياً من بينهم قاضٍ له نفوذ بين زعماء الأحياء في دمشق، وذلك بعد استشارة عارف النكدي ومباركته لهذه الخطوة. رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد شكري القوتلي استدعى السيد عارف النكدي ثم طلب منه أن يستثني هذا القاضي من قائمة المسرّحين لما له من حظوة وأنه يعده بأنه سيوقع هذا القانون فور وصوله إليه. وبعد أخذ وردّ بين الرئيس والسيد النكدي، أجابه الأخير: لقد وجدتُ لكم الطريقة لإنقاذ الموقف يا فخامة الرئيس، ثم تناول ورقة وقلماً وكتب استقالته وقدمها للسيد الرئيس قائلاً: في هذه الحالة يمكنكم الإحتفاظ بهذا التاجر..! لكن في النهاية تنبّه الرئيس القوتلي إلى صعوبة ما يطلبه فوقّع قائمة التسريحات ومن بينهم القاضي المشار إليه.
صديقه وابن موطنه لبنان، الرئيس فارس بك الخوري، وكان يومها رئيساً للمجلس النيابي السوري، اجتمع وإيّاه في أحد المنازل ثم فاتحه القول: يا صديقي عارف بك، إنني لا أوافقكم الأمر على ما تقومون به من تسريحات بين القضاة وسواهم من الموظفين، والواقع أنه لا يمكنني النوم إزاء ذلك. تبسّم عارف النكدي وأجابه : “أيضاً لا أقدر أن أنام إذا لم أسرّح مرتشياً أو فاسداً وخيرٌ لي ولك أن لا تنام أنت من أن لا أنام أنا”.
أحد رجالات التربية المرموقين في لبنان حدثني قائلاً : كنت العام 1956 في الصف الثالث التكميلي في المدرسة الداودية في عبيه، وقد حلّ عيد تأسيس الجامعة العربية في 22 آذار 1945 من كل عام، وكانت تلتزم بعطلة هذا العيد جميع المدارس الرسمية والخاصة في لبنان، غير إن إدارة المدرسة الداودية لم تلتزم بذلك، بل كان الدوام عادياً مما حملنا نحن الطلاب على الإحتجاج والإمتناع عن الدخول إلى غرف التدريس، فما كان من الإدارة إلا أن دعت المغفور له عارف النكدي كونه يتولى الأوقاف والرئيس الأعلى للمدرسة كي يساهم في حلّ هذه المشكلة بين الطلاب والإدارة.
أتى عارف بك ثم استدعى من كل صفّ تلميذاً، وكنت شخصياً ممثلاً لصفي، وعند الإجتماع معه قال: “أشكر غيرتكم من أجل العروبة والجامعة العربية، ولكن يا أبنائي الأعزاء لعلمكم أن هذه الجامعة عملت على إنشائها بريطانيا لتكون وسيلة للتفريق بين العرب والحؤول دون وحدتهم، ولو كان الواقع غير ذلك لكنتُ أوّل الدّاعين إلى الإحتفال بالعيد”. ثم خرجنا من لقائه ونحن مقتنعون وغير مقتنعين لكننا نزولاً عند رغبته (وهيبته) عدنا إلى صفوفنا لمتابعة الدراسة.
في العام 1969، وبعد مرور عامين على نكسة حرب حزيران 1967، أقام أساتذة مؤسسة بيت اليتيم الدرزي في عبيه، بالإشتراك مع طلاب وطالبات المدرسة، احتفالاً بالمناسبة استنكاراً للهزيمة وتنديداً بالعدو الإسرائيلي، وخلال الإجتماع وصل المُصلح الإجتماعي ورئيس المؤسسة عارف النكدي وجلس مع الحضور. وبعد أن ألقى بعض المعلمين والطلاب خطابات ملؤها الحماسة والحث على الدفاع والإستماتة في سبيل القضية العربية.. طُلب إلى السيد عارف بك أن يلقي كلمته، فصعد إلى المنصة ثم ارتجل الكلمة التالية: “أخواني وأبنائي الأعزاء، لو سُئلتُ عن إقامة هذه الحفلة قبل أن دُعيتُ لما وافقت على إقامتها، فالخطيبة الأولى وصفت إسرائيل بالدولة المسخ، فإن كانت دولة مسخاً فعلت بنا ما فعلت، فماذا كانت ستفعل لو لم تكن كذلك؟؟ لستم أنتم وحدكم من يُؤخذ عليكم هذا، فالحكومات العربية دأبت على إسماعنا مثل هذه الخطب الطنّانة أما أنتم فعليكم أن تكونوا مجتهدين أولاً بدروسكم وبأخلاقكم، لا يجوز أن نُكابر ونعمي أنظارنا عن الحقيقة رغم مرارتها، بل يجب علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتغيير واقعنا، وأعظم رجل إذا أراد أن يحكم أمّته يجب أن يكون خادمها وصادقها وأمينها. الرسول محمد بن عبدالله (ص) كان إذا عظّموه يقول: “أنا لستُ سوى ابن إمرأة كانت تأكل القديد”.. وإلا فإننا سنبقى مثل ذلك الأعرابي الذي جاء إليه اللصوص وسلبوه إبله فعاد إلى أبيه وقال: لقد ذهبت إبلي، فسأله أبوه: وماذا فعلت؟ قال: “لحقتهم بالشتائم” وأضاف النكدي مثل الخليفة عثمان بن عفان (ر) الذي وقف ليخطب فلم يطاوعه لسانه، فوقف وقال: “أنتم أحوج إلى إمام فعّال منكم إلى إمام قوّال، وبالفعل فقد تمّت أعظم الفتوحات العربية في زمن عثمان بن عفان (ر). ثم قال العرب يا أعزائي وصلوا إلى الأندلس ثم وصلوا هددوا أوروبا، لكن دبّ بينهم الخلاف فأضاعوا ذلك الفردوس. وإلى اللقاء في مرة قادمة في حفلة تكرّم فيها اليد وليس اللسان”.
في جلساته المتكررّة كان دائماً يردد ويقول: الشباب والعلماء مدعوون إلى العودة للماضي الغني جداً بالقيم والمآثر والبطولات للإستعانة بكنوزه في بناء الحاضر والمستقبل، وأن يفتحوا خزائن أجدادنا وما قدموا وما ضحوا في سبيل عزة العرب وكرامتهم، وليس ذلك بالمستحيل لأن باسقات النخيل عميقات الجذور، وما البحرُ إلا مجمّع للسواقي والأنهار، وما الزمان إلا الأيام والأسابيع والشهور والأعوام..
أتى لزيارته قبيل وفاته بيوم واحد الأستاذ زهير مارديني فدار بينهما حوار عن الحياة والموت نقله الأستاذ مارديني بهذه الكلمات:
سأل عارف النكدي جليسه قائلاً:
ماذا بعد الموت؟
أجاب الأستاذ مارديني: العدم
النكدي: هذا مستحيل.. فالعدم لا يؤدي إلى الوجود.
المارديني: ماذا قبل الوجود إذا؟
النكدي: وجود ينتهي إلى وجود
المارديني: ماذا بعد الحياة؟
النكدي: حياة
المارديني: ألا تؤمن بأن الحياة تفنى؟
النكدي: الحياة كالشمس، تغيب لتشرق..
المارديني: ألا يُساورك الخوف من الموت؟
النكدي: الموت ليس مشكلة، الحياة هي المشكلة.
بعد هذا الحوار ترك عارف النكدي بيروت وانتقل إلى بلدته عبيه، ثم قام بتفقد مؤسسته الشامخة، بيت اليتيم الدرزي، وبعد هذا أخذ يطوف على أقاربه وأصدقائه في البلدة ثم أوى إلى منزله وقال لزوجته: أشعر ببعض التعب، لقد تجوّلت اليوم كثيراً، ثم تمدّد على الفراش بعد أن أحسّ بألم طفيف في رأسه، فطلب إلى زوجته أن تهيىء له كأساً من الشراب الساخن، فذهبت الزوجة لتعدّ له ما طلب ثم عادت إليه بالكأس الساخن لتجده غافياً، وكانت تلك الإغفاءة الأخيرة.

كرامَةُ صاحبِ دكّانٍ ماتَ مظلوماً

حدّثني الشيخُ أبو نجيب محمود الخماسي، فقال: “روى أمامي والدي عن تاجر خضار في سوق حاصبيّا عاش منتصف القرن الماضي. وكان ذلك البائع، جليل القَدر، كبير النّفس، فقير الحال، متديّناً حقاًّ وحقيقة. نهاره عمل، وليله عبادة، بيعه معتدل، وحديثه مقتضب، لا يُجيب إلّا إذا سُئل، ولا يتفاصح ولا يحدِّث إلّا بما عرف وما يُلمّ. ومع هذا، حصل له ابتلاء لم تظهر الكرامة المقصودة منه إلّا بعد وفاته وذلك عندما ظهر إلى العلن السرّ الذي أخذه معه إلى القبر وأصبحت حكايته عبرة لمن اعتبر، ونبراساً لمن أراد الصّدق وإليه امتثل.
تقول الحكاية إنّ هذا التّاجر الورع أتاه يوماً رجل اشترى بعض الحوائج والخضار من دكّانه، وبعد أن نقده ثمنها، قفل الرجل راجعاً نحو منزله، إلّا أنه نسي كيس النّقود الذي أخرج منه ثمن ما اشتراه، إلى جانب إحدى السّلال، وبداخله خمسمائة قرش تركي.
قبالة دكّان التاجر، كان حلّاق يتابع جاره عندما انتبه إلى أنّ المشتري نسيَ الكيس، فما كان منه إلّا أن تسلّل على مهل وانتشل كيس النّقود الذي نسيَه الرّجل دون أن ينتبه التّاجر أو يدري ما حصل.
ما أن بلغ الرّجل المشتري منزله، حتى تذكّر فجأة ما نسي، فعاد أدراجه مُسرعاً من حيث أتى، لكنه لم يجد الكيس في موضعه، فضرب كفّاً بكفّ وسأل التاجر بلهفة وقلق عن الكيس، موضحاً أنّه يحتوي على مبلغ كبير من المال أضيف إليه في النّهار نفسه ثمن موسم القز الأخير.
دُهِشَ التّاجر الورع لسؤال الرّجل، لكنّه عرض على الرّجل أنْ يساعده على البحث عن الكيس، راجياً من الله أن يوفّق في العثور عليه، وبالفعل إنهمك الرّجلان في البحث والتّنقيب وقلبا الدّكان وسلال الخضار وكل ما يحيط بها رأساً على عقب، لكن لم يعثرا على شيء. عندها، وعندما فقد الرّجل الأمل بالعثور على ماله دبّ الشك في صدره من أن يكون البائع هو الذي أخفى الكيس طمعاً بالثّروة التي في داخله. لذلك صرخ في وجه التّاجر بغضب “إنّك أنت المسؤول عن المال”، ثم أمسكه بصدر سترته قائلاً: إنّك لن تأكل حقي وأنا حيّ، فإمّا إعادة الكيس وإمّا الموت!”. وعلا الصّوت بين الرّجلين، ثم تدافعا بالأيد،. عندها تدخل التّجار والمارّة بينهما، وأخذ الجميع يبحثون عن حلٍّ ينهي الخلاف ويُظهر الحقيقة.
تقدّم شيخ طاعن في السنّ من الاثنين، ثم قال: “المثل يقول البيّنة على من أدّعى، واليمين على من أنكر. فعليك أيّها الرّجل إثبات ادّعائك بشاهد يؤيّد دعواك حول ما أضعت، وأنت أيها التّاجر الكريم، ما عليك سوى قَسَم اليمين لرفع التّهمة عنك”.
الرّجل المشتري سارع فوراً، فاستشهد برجل كان يرافقه حيث شهد بأنّه شاهده وهو يخرج المال من الكيس الذي فقده. أما التّاجر التقي فإنّه رفض أن يقسم اليمين عملاً بسنّة الأولياء الصّالحين، راضياً بدفع التّعويض من جيبه لعلّ ذلك يهدّئ من رَوْعِ صاحب الكيس، وهذا رغم ثقة التّاجر التامة أن أحداً ما اغتنم فرصة وجوده داخل الدّكان فسرق الكيس خِلسة وظلماً.
من أجل إنهاء المشكل عمد التّاجر التقيّ إلى كرم زيتون لا يملك سواه، فباعه ودفع ثمنه بدل كيس النّقود المفقود، وكأن شيئاً لم يكن. ورغم ذلك شاع عندَ العامّة (وأن لم يقولوه جهرة) أنّ التّاجر ربّما هو الذي أخفى كيس النّقود، وعاب على نفسه إظهاره في ما بعد.
دارت الأيام دورتها التقليديّة، ومرّت الشّهور والسّنون، ومات التّاجر وأخذ السرّ معه، أمّا جاره الحلّاق الذي أخفى كيس النّقود فقد استعمل النّقود الحرام في شراء كرم زيتون جاره التّاجر المنكوب بخسارة المال وبشكوك أكثر العامّة من النّاس في أمانته وكان ذلك أقسى عليه من خسارة المال. لكن ما أن أُسدل الستار على هذه الحادثة حتى بدأ الزّمن يعاكس الحلّاق، إذ دب الخلاف داخل الأسرة وبلغ حدّ طلاق زوجته، وتشتت شمل أولاده، فخيّم الهمّ عليه وفوق منزله. ولم يكن هذا العقاب الربّاني سوى مظهرٍ لحكمة ربانيّة قصدت إظهار سرّ التاجر وكرامته عند ربّه وعبيده وكشف السّارق الحقيقيّ.
كيف تمّ ذلك؟
بعد طلاق الحلّاق لزوجته، عمدت المطلّقة إلى فضح أعماله القبيحة وذكرت منها كيف أنّها كانت شاهداً على إخفاء زوجها الحلّاق لكيس النّقود الذي فقده ذلك الرّجل عند التّاجر المتوفّى، بعد أن راقب كيف وضعه صاحبه، واشترى بقيمته كرم الزّيتون من التّاجر المذكور. وفي أقلّ من أسبوع كان سرّ الحلاق قد افتُضِح وشاعت قصته الشائنة في أنحاء المنطقة، كما برئت في الوقت نفسه ساحة التّاجر الورع وإن بعد وفاته. ولمّا علم المشايخ والمجتمع بأكمله بما فعل ذلك الحلّاق، أسرع أبناء التاجر لمقاضاته أمام الشّيوخ الثقات فاستدعي إلى خلوات البيّاضة لتبرير ما سُمع عنه. لكنّه أمام هيبة الشّيوخ ورهبة الموقف، تلعثم وبدت على محياه صورة المذنب، وعاد المشايخ ليطلبوا إليه أن يعترف أمامهم وأمام الله بالحقيقة وإذا كان له فعلاً دور في سرقة كيس النقود. أمام هذا الموقف الرّهيب، أحسّ الحلاق بأن ثقل الدنيا كلّه وقع على كاهله في تلك اللحظة، ولم يقوَ على الاستمرار في الكذب وأنّه لن يرتاح صدره إلا بعد أن يقرّ بما حدث فأقرّ فعلاً وأنبأ المشايخ بقصّة استيلائه خِفية على كيس الزّبون. بناء على ذلك أمره المشايخ بأن يعيد كرم الزّيتون لأسرة صاحب الدكّان، أو قل صاحب السرّ الدّفين الذي ظهرت كرامته للملأ لأنّ الله أراد أن يبيّض صفحته ويظهر تقواه، وقد تقاطر النّاس في الأيام التّالية لزيارة قبر الرجل الذي مات مظلوماً، وقرأوا الفاتحة أمامه، وترحّموا عليه وأثنَوْا على خصاله أمام أفراد عائلته والعموم.
أمّا الحلاّق، فقد هجر حاصبيّا إذ لم يعد قادراً على العيش فيها بعد افتضاح عمله، وتركَهُ أولاده إلى مكان آخر بينما حلّت الزّوجة بين ذويها، وصحّ بذلك القول المأثور: “إذا كان الحلال يَذهب، فالحرام يذْهِب ومعه أصحابه وأتباعه”.

العدالةُ السّماويّةُ عند المؤمنين نعمةٌ
وعند الفاسقينَ نقمةٌ

العدالةُ السماويةُ سيفٌ قاطع، ومهما يكن الإنسان قويّاً أو جباراً فإنّ العدالة السماويّة ستلحق به عاجلاً أم آجلاً، لكنّ العقاب السماويّ المُعجّل عبرة لأولي الألباب لأنّه يرهب العاصي ويثبّت المؤمن في إيمانه ويزيده ثقة بعدالة الخالق الجبّار، وبحكمته الخالدة: إنّما هي أعمالكم تُردّ إليكم.
في هذا الموضوع حدّثني أحدهم بموعظة حدثت في جبل العرب مع تاجر ذهب، يتنقّل عادة بهدف التبضّع لمحالِّه التجارية الواقعة في مدينة حلب. وفي يوم استقلّ التاجر الحافلة من دمشق عائداً إلى منزلة وأعماله، لكن بتأثير طول الطّريق وإرهاق العمل غلب عليه النّعاس، وأخلد إلى غفوة استغرقت قسماً من الطّريق الطويل.
كان يجاوره الجلوسَ في المقعد أحدُ الركّاب الذي كان يقظاً واستيقظت حواسّه أكثر عندما انتبه إلى إغفاءة التّاجر وغطّه في نوم عميق. بدأ الرّجل بفحص جاره النّائم فلاحظ محفظة النّقود التي كانت تبرز من جيب سترته، وعلى الفور وسوس له الشّيطان وأغرته المحفظة التي بدت محشوّة بالنّقود فمدّ يده على مهل دون إثارة شبهة المسافرين وأمسك بالمحفظة وسحبها بهدوء ووضعها على الفور في جيب سترته، وبعد أن تحسّسه ألقى نظرة سريعة على ما في داخله فإذا هي حزمة من النقود تفوق قيمتها المليون ليرة سورية (كما صرّح صاحب المال في ما بعد) وهذا بالطّبع كان ثروة كبيرة عندما كانت اللّيرة السورية في عز قوّتها.
لكن بعد أن قطعت حافلة الركّاب شوطاً من الطّريق توجّه السّارق إلى مُقدَّمة الحافلة وطلب من السائق التوقّف لأنّه بلغ مقصده على اعتبار أنّ قريته على مسافة قريبة من المكان. استغرب السّائق طلب الرّجل لعلمه أنّه لا توجد أماكن مأهولة أو سكنيّة في تلك المنطقة القاحلة، لكنه مع ذلك أوقف الحافلة ليهبط منها الرّجل وتابع سيره وهو يفكّر في ملابسات سلوك الرّجل ودوافعه الغامضة.
لكن ما أن وطأت رجلا السّارق أرض الطريق السّريع حتى جاءت سيّارة مسرعة فصدمته وقذفت به لأكثر من عشرة أمتار، فسقط أرضاً يتخبّط بدمه بعد أن تشوّه وجهه وتقاسيم جسمه وغطاه الدّم بأكمله، فبات من الصّعب التعرّف على هوّيته. أما السّائق الذي دهسه فقد تابع طريقه ولم يعبأ يأمر إسعافه، وبقي الرّجل ملقى على الطّريق إلى أن أتت دوريّة عسكريّة قامت بنقله إلى أقرب مستشفًى في تلك النّاحية.
وبعد إجراء الأمور القانونيّة للتعرّف على شخصه لم يعثر إلا على محفظة النّقود التي سرقها وبداخلها هويّة صاحبها، فتمّ الإتّصال بذوي التّاجر وإبلاغهم أن يحضروا إلى المستشفى المعيّن لاستلام الجثمان مع الجزدان والدّراهم.
أمّا التاجر فعند وصوله إلى مدينة حلب تفقّد المحفظة فلم يعثر عليها، فدبّ في قلبه الهلع من خسارة “تحويشة” العمر وتوجّه إلى سائق الحافلة مستغيثاً وطالباً منه مساعدته في العثور على المحفظة أو يكشف كيف اختفت ومن يا ترى استولى عليها، وقد اتّجه الشكّ بالطّبع إلى الرّاكب الذي كان يشاركه المقعد خلال قسم من الرّحلة قبل أن يغادر الحافلة فجأة ودون سبب وجيه.
وبالفعل فقد هزّ السائق برأسه قائلاً: ظنّي هو أنّ السّارق هو الشّخص الذي كان إلى جانبك لأنّني كنت أعتقد أنّه ذاهب إلى حلب، لكنّه بدّل خطّته وقرّر الترجّل من الحافلة بعد وقت قصير من بدء الرّحلة في مكان قاحل لا أثر لسكن أو لعمران فيه، وعبّر السّائق الخبير في هذه الأمور عن شكّه في أن يكون الرّجل الذي ترجّل في ذلك المكان من سكّان تلك النّاحية. وأردف بالقول إنّ من الصّعب العثور على الرّجل لأنّه اختفى على الأرجح مع الغنيمة سائلاً التّاجر أن يسلّم أمره إلى الله وأن يسأله تعويض ما خسره. لكنّ التاجر الملتاع ردّ على السائق بأنّه خسر كلّ شيء وأنّه لم يبقَ معه حتّى ما يكفي للعودة إلى منزله في حلب. فعرض السائق مساعدته وقدّم له من المال ما يكفيه لتأمين طريق العودة.
لكنّ التّاجر بعد عودته إلى بلدته وجد أبناء قريته يقيمون له مأتماً والجميع بادٍ عليهم علامات الحزن والأسى، والبعض الآخر مشتغل بتعداد حسناته ومزاياه الحميدة، وما أن أحسّ الجمع بوجوده بينهم حتى صُعِقوا وتحلّقوا حوله غير مصدّقين ما يشاهدون أمامهم، ومع هذا علت البهجةُ والفرحةُ وجوه الجميع وعانقوه مهنّئين ومستفسرين في الوقت نفسه عمّا يا تُرى حدث معه في سفرته.
وبعد أن قصّ عليهم كيف سُرقت محفظته من قبل من كان يشاركه مقعد الحافلة، وأخبرهم أيضاً أنّه علم من بعض الشّهود في طريق العودة إلى بلده أنّ السارق استحق عقاباً شديداً إذ مات دهساً تحت عجلات سيّارة مسرعة، ثمّ كيف استضافه صاحب حافلة الركّاب وزوَّده بالمال كي يتمكّن من العودة.
آنذاك اتّضح للجميع أنّ الجثمان المشوّه هو للسّارق وأن ما قامت به السّلطات الرّسميّة كان اعتمادها على البطاقة التي وجدت داخل المحفظة، وبعد أن تبيّن أنّ الجثمان المسجّى هو للسّارق الذي استحقّ العقاب حدث هرجٌ ومرجٌ ودعا بعض الحاضرين لإحراق الجثمان، غير إنّ التاجر رفض ذلك قائلاً: ليس هذا من شيمنا وأخلاقنا، وما عليكم سوى أخذه ودفنه في أي مكان ليظهر للجميع عفونا وفي الوقت نفسه ليبقى مثواه عنواناً لعدالة السّماء ودرساً يُنقل إلى الأجيال، ثمّ توجّه للحاضرين المتحلّقين حوله شاكراً حامداً أريحيّتهم سواء أكان بحضورهم للمأتم على موته أم سرورهم وفرحهم بعودته.
سؤال للقارىء الكريم: ما رأيكم بما أصاب السّارق..؟
أليس خلف هذا كلّه إرادة سماويّة كانت سريعة وفاعلة في إظهار عدالتها وأنّ الله لا يحبّ الفاسقين؟؟

بينزع الدّبس عن الطّحينة

بعض الذين يتميّزون بالذّكاء المفرط وبالدّهاء وسعة الحيلة يصحّ فيهم الوصف القائل: “بينزع الدّبس عن الطّحينة”، وقد بقي في ظنّي أن هذا الوصف مجرّد صورة مَجازية جميلة لأمر لا يمكن أن يحصل لأنّه من المستحيلات حتى سمعت هذه القصة الغريبة عن شابٍّ من عين جرفا عمل أجيراً عند أحد الفلّاحين الكبار الذي وبسبب انشغاله بموسم الحصاد واضطراره لتناول الطّعام في البيدر طلب من زوجته أن ترسل له طعامه ومع الطّعام قصعة من الدّبس والطّحينة وهو من أصنافه المفضّلة.
الشابّ الأجير كان أيضاً ذوّاقاً و”يموت” في دبس الخرّوب لكنّه لا يحبّه مع الطّحينة، ومن شدّة حبّه للدّبس لم يستطع مقاومة رائحته اللّذيذة وطعمه الألذّ فشحذ مخيّلته وتفتّق عقله عن حيلة جهنّمية تمكّن بواسطتها من أن يأتي على معظم الدّبس قبل أن يصل إلى البيدر لتسليم معلّمه طعام اليوم. لكن بدل الدّبس والطّحينة كان سيّده لا يجد إلّا الطّحينة بمفردها في قعر الوعاء ممّا أثار حنقه على زوجته التي اعتقد أنّها تقوم عمداً بإرسال الطّحينة له من دون الدّبس وبعد تكرار هذا الحادث قرّر مواجهة زوجته وتأنيبها بشدّة بسبب ما تقوم به من عدم تلبية طلباته. وقد ختم الرّجل تأنيبه لزوجته بالقول: إذا كانت الأمور ستبقى هكذا فما أمامنا سوى الطّلاق والفراق…
بُهتت الزوجة المخلصة لهذا التّهديد، لأنّها لم تكن على علم بما يحصل وأنّ زوجها لم يكن يجد في القصعة سوى الطّحينة، أمّا الدّبس فكان يختفي تماماً، وهي كانت دائماً تردّ على تهديد زوجها بالإنكار الشّديد وكانت تُقْسم أيْماناً مغلّظة بأنّها لم تغفلْ يوماً عن إرسال الدّبس مع الطّحينة، وإن كانت لا تعلم ما الذي يحصل قبل بلوغه مكان زوجها، وفي يوم قالت له: لِمَ نستمرّ في هذه المشاحنات إذ ليس عليك سوى التحقّق والبحث عن سبب ذلك بنفسك”.
الزّوج لم يقتنعْ، ولم يكترثْ لقَسَم ويمين زوجته وكان غالباً ما يخاطب أقرانه وأصحابه بالقول: هل بإمكان أحد أنْ ينزع الدّبس عن الطّحينة؟ فالاثنان سائلان ممزوجان فوق بعضهما بعضاً، لكن يبدو لي أنّ في الأمر مَكيدة ما.
المرأة بدورها أعملت فكرها في الأمر خصوصاً بعد اتّهام زوجها لها ولهذا فهي اقتربت منه وقالت: جُلّ ما أرجوه أنّ تتحقّق من الموضوع أوّلاً عن سبب اختفاء الدّبس وأنا أصبحت مقتنعة معك بأنّ هناك مكيدة لم نعرف ملابساتها حتّى الآن.
بدأ الزوج يفكّر وانتبه إلى أنّ أجيره كان كلّما “احتدمت” بينه وبين زوجته يترك موقعه وينسحب بهدوء بعيداً في الحديقة، وكأنّ في الأمر شيئاً يخصّه أو خوفاً من السّؤال والجواب. لهذا لحق به ثم استدعاه إلى غرفته ليسأله عن سبب هربه وابتعاده عندما يعلو الخلاف بينه وبين زوجته. وقد أتّبع سؤاله بقدر من التّهديد بأنه ما لم يُصْدِّقه أجيره القول فإنّه سيطرده على الفور.
الأجير وجد الأمر في غاية الجديّة وخاف على مسيرة عمله ورزق عياله، لذلك قرّر أن يُفصح عن سوء عمله مهما تكن النّهاية، فاقترب من معلّمه ثم قال: سيّدي حقّاً إذا كان الكذب حجّة فالصّدق منجاة، لعن الله هذه النّفس الدّنيئة ومن يتبعها، لكن كما أنتم تحبّون وترغبون أكل الحلويات بعد الطّعام كذلك فإنّني أشتهي الحلوى، ولم أستطع أن أمنع نفسي من تناول الدّبس وحده لأنه عندي ألذّ حلو اً لا يقاوَم ويفوق في قيمته عندي الطّحينة التي تمزج معه.
قال معلمه: فهمت لكن أخبرني كيف توصلت إلى نزع الدّبس عن الطّحينة؟
أجاب الأجير: لقد تفتّقت مخيّلتي عن حيلة لا تخطر على بال بشر إذْ عمدت إلى قشة “فاقوع” فارغة من قلبها فكنت أغرسها في الوعاء المليء بالدّبس وفوقه الطّحينة وبهذا أصبحت أشفط الدّبس بمفرده لتبقى الطّحينة..
الرّجل استراح في محله؛ بعد أن قلب على ظهره من الضّحك لحدّة ذكاء هذا الأجير وشيطنته ثم قال: “والله والله لا يُجاريك في عملك هذا سوى الشّياطين والعفاريت، لأنّك بنزعك الدّبس عن الطّحينة كِدْت تُفْسدُ علاقتي بزوجتي الوفيّة وتخرّب بيتنا بعد طول السّنين.

المال بيجر المال

المال بيجر المال

جِدّي أبو عوّاد والكنز المفقود

عند الشدائد تعرف الرجال

مآثـــر وعبـــر

قِصصٌ عن الشّهامة والأمانة والطّمع الأحمق

جَدّي أبو عوّاد وصاحبُ الكَنزِ المَفقود

“كـــــلّ مستودِع تقبض منه وديعتــــه، وكل أمين لا يخون في ما ائتمن عليه”
(حكم توحيدية)
ما أحوجَنا في عصرنا الحاضر، عصرِ التّردّي الخُلُقيّ وعبادة المال، إلى التّمسك بقيم أجدادنا الأقدمين وعِفَّتهم وتقواهم، والتفاخر بالأجداد وبالقِيَم والعادات التّوحيديّة الشّريفة وهذا أصبح من أولى الواجبات هذه الأيام لأنّ أجيالَنا الشابّة في حاجة لأن تستخرج منها العِبرة وتتّخذها قدوة تنظّم سلوكها وتطهّر نفوسها. ولنا من عبرة جدّنا أبو عوّاد، ذلك الشّيخ التّقيّ الصّابر القانت درساً بليغاً في قِيَم العفّة والقناعة وحفظ الأمانة، وإليك الحكاية:
عاش في حاصبيا في النّصف الأوّل من القرن الماضي شيخ اشتُهِر بتسميته بين الناس (جدّي أبو عواد) لما كان له في نفوس الجميع من تقدير واحترام، لزُهده في دنياه، وتعلّقه بخالقه ورضاه.
عمله حراثة الأرض نهاراً، والانقطاع لعبادة خالقه ليلاً. يملك قطعة أرض تُعرَف (بالمقيل) نظراً لموقعها على الطّريق العامّ الذي يربط وادي التّيم بفِلِسطين جنوباً، وبلاد البقاع وسوريا شمالاً، حيث يرتاح بها المارّة قيلولة واستراحة.
كانت وسيلة النّقل الرّئيسة في تلك الأيّام هي الخيل أو الجمال أو الدواب وليس سواها. وذات يوم، بينما جدّنا أبو عواد يعمل في حراثة أرضه (المقيل)، إذ بأحد عابريّ السّبيل يترجّل عن جواده لأخذ قسط من الراحة، وما كاد يستلقي على الأرض حتى غلبه النّعاس تحت ظلّ شجرة زيتون وارفة الظّلال، فالهواء منعش، والرّجل مُتْعَبٌ من عناء السّفر الطّويل.
طالت فترة نومه، وإذا به ينهض مذعوراً ليجد الشّمس تميل نحو المغيب. اعتلى صهوة حصانه وحثّ الركب شمالاً نحو البقاع، لكن سرعته هذه، جعلته يغفل عن (خِرْج) يضمّ رأس ماله مع بعض الحوائج كان قد ألقاها بجانبه عند نومه.
غابت شمس ذالك اليوم، وانتهى الشّيخ من عمله، وبطريق عودته إلى بيته عثرَ على الخِرج المُلقى تحت الشّجرة فقرّر أنْ يحفظه في مكان آمن على أمل أن يظهر صاحبه في وقت قريب. وهكذا فقد ألقى بالخِرْج على بردعة دابته وعاد نحو منزله.
فور وصوله، أعلم زوجته بما وجد، ثم اتّفقا على وضع الخِرج ومحتوياته على الرّف، إلى أن يظهر صاحبه، طالت الأيام أم قَصُرت.
انقضى بعض الوقت، والخِرْجُ في مكانه الآمن، وصاحبه رغم مضي الوقت لم يظهر ولم يُعْرَف. لكن ذات يومٍ، وبينما شيخنا يعمل في أرضه، إذ به يسمع صوتاً ملهوفاً، التفت ليرى رجلاً لا يعرفه يندب حظّه، ضارباً كفاً بكف. سأله: “ ما بك أيها الرّجل؟
أجاب الغريب: لو عرفت قصّتي لزال استغرابك، وتأسّفت لحالتي، وعذرتني لما أنا فيه”.
– “ماذا بك يا أخي، تكلّم لعلّني أساعدك.”
قال الرجل موضحا قصّته: أنا رجل من التابعيّة التركيّة، ومهنتي تاجر غنم، أقضي السّنة في تسويق الغنم وجمعه من هنا وهناك، وفي فصل الّربيع آتي بها نحو فلسطين لأبيعها، وهذه السّنة وأثناء عودتي إلى بلادي بعد بيعها وجلب ثمنها، افترشت الأرض تحت هذه الشجرة لكنّي غادرت المكان دون أن أنتبه إلى أنّني نسيت الخرج الذي كان بجانبي مع محتوياته من مال وليرات ذهبية، وهي كلّ رأس مالي، فما عساك أن تفعل لمساعدتي وقد مضى على إضاعتي لمالي فترة من الزّمن؟”
رد عليه الشّيخ دون تردّد: كن مطمئنّ البال، فمالك محفوظ، وخِرْجك موجود.”
دُهش التاجر، وقال بلهجة غير المصدّق لما سمعه: “أصحيح مالي عندك كما تقول؟”
– “هوّن عليك يا أخي، نعم .. نعم”
تقدّم التاجر من الشّيخ بعد أن تيقّن من صدق حديثه وأمسك يده كي يقبّلها، لكنّ الشّيخ أبى قائلاً: “استغفر الله، نحن لم نفعل سوى ما يأمرنا به الدّين من حفظ العهود والأمانات” ثمّ دعاه إلى بيته ليستلم أمانته.
اعتلى كلّ منهما ظهر دابته واتّجها حيث أراد الشيخ. وكم كان تعجّب التّاجر عندما رأى بيتاً بسيطاً متواضعاً، مبنيّاً من الحجارة الخشنة (غير المقصوبة)، يسكنه الشّيخ وزوجته. دخل المنزل برفقة الشّيخ فاستقبلتهما الزّوجة بكل ترحاب، ثم قدّمت طعام العشاء بعد استئذان زوجها، ممّا حمل التّاجر على إكبار فعلهما متعجبّاً لكرمهما وحسن ضيافتهمها. لكنّه بات ليلته قلق البال حائر الفكر متسائلاً إلى ماذا ستؤول قصّة الخِرْج.
عند الصّباح، أتى الشّيخ بسلّم أسنده إلى حائط فوق رفٍّ، ثم طلب إلى التاجر ارتقاء السّلّم وإنزال الخِرْج الذي لم يزل في مكانه كما وُضع سابقاً.
تفقّد التاجر محتويات الكيس والدهشة بادية عليه بسبب ما رآه من الشيخ الفقير وزوجته من استقامة وفطرة سليمة. جثا على ركبتيه في ما بدا أنه محاولة لتقبيل الأرض بين يدي الشّيخ لكن الأخير استغفر الله واستنهضه قائلاً: “هذه أموالك، وهي ملكك، ونحن لم نفعل سوى ما يوحي به ضميرنا، وما يفرضه الواجب الدّيني”
كبُر ذلك الشيخ البسيط في عين التّاجر فإذا به يمسك بالخرج محاولاً أن يفرغ بعض محتوياته أمام الشيخ امتناناً وتقديراً، لكنّ الشّيخ بقي على إصراره ورفضه قبول أيّ شيء سواء كان كثيراً أم قليلاً ممّا جعل التّاجر يقع في حَيْرة من أمره، وكيف لا يكافىء من حفظ له هذا الكنز والثروة الكبيرة. ولمّا أعيته الحيلة ولم يجد سبيلاً إلى إقناع الشّيخ، ودّعه وانصرف مسرور البال، عائداً إلى بلاده محدّثا بقيم أهل المعروف وحفظهم الأمانات وصِدقِ حديثهم وكَرم ضيافتهم.

عند الشدائد والمُلمّات
يُعرف أصحاب الشّرف والمكرُمات

الأريحيّة والشّهامة، وحق الجيرة، تتأصّل وتُعْرَف عند الشّدائد والضّيق مع أصحاب الضّمائر وشرفاء النّاس، هذا كان مثل العديد من أبناء شِبعا، وفي مقدّمتهم ذلك المقدام السيّد شاهين هدلا، أرثوذكسي المذهب، شريف الأخلاق، كريم المحتِد والمعتقد. بعدما طلب منهم القائد العسكريّ الأرناؤوطيّ (إبّان حملات ابراهيم باشا المصري ضدّ الموحّدين الدروز)، وكان ذلك القائد يقيم في بيت إبراهيم قاسم الخطيب، جلب بعض النسوة الدرزيّات باعتبارهنّ “سبايا” مبرراً ذلك بأنّه قانون الحرب بعد اندحار وانكسار قومهم”!!
بادىء ذي بدء، حاول السيّد المذكور مع مختار البلدة ردعه وردّ طلبه باللّين والعطف والمسالمة، وحتى التّرجي، إلا أن القائد الوقح بقي على إصراره وأمرهم بالنّتيجة بإحضارَ النّسوة.
إذ ذاك، انتفض الرّجل الشريف شاهين هدلا وصرخَ في وجه القائد قائلاً: “تهون علينا أيّة تضحية على أن نجلب نساء من هم أهل الكرامة والشّرف لينلن الإهانة على أيديكم، فأنتم ذاهبون، ونحن وإيّاهم جيرانٌ باقون، إفعل ما تريد بنا، ولن نسمح أن تُمَسّ نساؤهم مهما كان الثمن وعظمت النّتائج”
شعر الضّابط الفظّ الطّباع بشيء من الحرج والارتباك لهذا الموقف البطوليّ، وممّا زاد في تردّده أن الجيش المصري رغم مظالمه كان يطبق سياسة صارمة في تحريم الاعتداء على الأعراض وذلك لمعرفته بشراسة الموحّدين الدّروز في حال المسّ بأعراضهم واستماتتهم في الدّفاع عنها. ومن حسن الحظّ أن وصل القائد إبراهيم باشا بذاته إلى شبعا، فانفرجت الأسارير، وفرض الأمن، وضبط العسكر ولم تمسّ كرامة أيّ إنسان بعدها.
وأثناء وجود ابراهيم باشا في شِبعا، قدم إليه الشّيخ حسن البيطار، نيابة عن قائد الثّورة شبلي باشا العريان، يُرافقه الوسيط بين الفريقين، السيّد جرجس الدّبس، لإتمام عقد الصّلح بين المتحاربين. وكانت النّتيجة، إنهاء الحرب وتسليم السلاح من قبل الثوّار، مقابل السلام والاطمئنان. وهنا أيضاً يروي المؤرّخ أسد رستم في كتابه “بشير بين السّلطان والعزيز” إنه بينما كان السيّد جرجس الدّبس ذاهباً لإبلاغ الثوّار الموجودين في جبل الشّيخ نتيجة الاتّفاق بين إبراهيم باشا والشّيخ حسن البيطار، شاهد بالقرب من قرية شِبعا اثنين من العسكر الأرناؤوط ممسكين بامرأة درزيّة فرجع مسرعاً وأخبر الباشا بما شاهد، وعندها طلب الباشا من البورجي (لقب عسكري مصري) أن يردعهما فلم يمتثلا، بعدها ساق السّر عسكر بغلته بنفسه نحوهما، وما أن أو وصل إليهما حتى قتلهما بيده”
(بعض معلومات هذه القصة مستوحاة من كتاب “شِبعا نافذة على التاريخ” للأستاذ مُنيف الخطيب)

المالُ يجرُّ المالَ
والقمل يجرّ السيبان

(الناس فيك إذا التقوا فثلاثة: مستعظم أو حاسد أو جاهل)

التّاجر والوجيه نسيب زَهوي، من كبار تجّار حاصبيا أوائل القرن العشرين. بعد أن كبُرت تجارته، وازدادت أرباحه، أصبح غناه حديث المجتمع، ينسجون حول ثروته قصصاً وأخباراً منها امتلاكه آلاف اللّيرات الذّهبيّة عدا المجوهرات واقتناء المزارع، واستخدامه الخَدم في منزله، وما شابه ذلك من ضروب الوجاهة وآفاق الزّعامة.
يجاوره في السّكن رجلٌ فقير الحال، معدوم التّدبير، مقطّب السّعي، مكسور الخاطر. ليله مع عائلته شجار ونهاره مع الأرض نقار.
ذات سهرة من سهرات كانون الطّويلة تفتّقت مخيّلة الزّوجة المُغَفّلة عن بِدعة ظنّت أنّها العلاج الناجع لفقرها وطريق قصير إلى الثّروة السّهلة. كانت تمتلك ليرة ذهبية واحدة قدّمها زوجها لها كمهرٍ يوم زواجهما. اقترحت أن يأخذ زوجها اللّيرة الذّهبيّة إلى دكّان جارهم الثّري فيربطها بخيط من المصّيص ويدفعها تحت الباب كي تصل إلى ليرات التّاجر الموضوعة في صندوق خشبي خلف الباب، علّها تجرّ وراءها بعض ليرات وفق المثل المعروف بأنّ “المال يجرّ المال”، وكانت مقتنعة، بفضل خيالها الواسع أنّ اللّيرات “ممغنطة” وأنها تجرّ بعضها البعض.
عمل الزّوج الذي لم يكن أقلّ حماقة برأي زوجته، فأمسك اللّيرة وثقبها بمسمار ثم ربطها إلى خيط من المصيص المتين، وذهب رغم الطّقس العاصف الممطر إلى دكّان جاره الغنيّ. تقدم من باب الدكّان الخشبيّ، والذي يرتفع مقدار سنتيمتر واحد عن البرطاش، ثم تفرّس ذات اليمين وذات الشمال، وعندما لم يجد من حسيس أو أنيس، دفع بليرته إلى داخل الدكّان. انتظر برهة وبدأ بشد الخيط متوقعا أن تعود اللّيرة الذذهبيّة اليتيمة بليرات كثيرة معها، لكنْ كم كانت خيبته صادمة عندما انقطع الخيط وعلقت اللّيرة الذهبية داخل الدكان.
عاد الخائب إلى داره وأخبر الزّوجة بما حصل موجّها لها اللوم على مشورتها البائسة.سألها:
– ما العمل؟ أكملي مشورتك، كيف سنعيد اللّيرة؟”
أجابته بعد ذهول وتفكير: “رأيي أن تذهب وتنام أمام باب الدّكّان حتى الصباح، وعندما يأتي صاحب الدكّان تروي له بكلّ صدق ما حدث معك، لعلّه يشفق علينا، ويرثي لحالنا، ويعيد إلينا ما فقدناه”.
التحف ذلك المسكين بقايا فروة من جلد الضّأن، ونام ليلته تحت قصف الرّعد ووميض البرق، وزخّات المطر، تقيه بعضاً منها سقيفة صغيرة تظلّل باب الدكّان. وما أن انبلج شعاع الصّباح، حتى نهض المسكين وجلس القرفصاء ينتظر قدوم التّاجر. حتى إذا ما أطلّ، ركض إليه متوسّلاً قائلاً: “يا عمي أبو زهير، قاتل الله الطمع، حقيقة أنّ النفس أمّارة بالسّوء. أقسم لك بالله العظيم إنّ هذا العمل ليس منّي ولا من تفكيري، لكنّ الفقر والتّعثير وطمع زوجتي وانقيادي لرأيها جعلني أُقدم على ذلك “
دُهِش التّاجر لهذا الاستقبال الصّباحي سأل أبا يوسف عمّا حدث له.
روى أبو يوسف وقد اعتراه شعور عارم بالعار قصّته الغريبة وكيف سعى لجرّ بعض ليرات الجار الغنيّ بواسطة ليرة ربطها إلى خيط مبرراً ذلك بفقره وبرأي زوجته وحاجتهم إلى شراء بعض الحاجيّات والثّياب للعيد. ثم أخبره كيف انقطع الخيط وعلقت اللّيرة الذّهبيّة اليتيمة داخل الدّكان. وختم أبو يوسف روايته بالقول: تصديقاً لقولي، فإنك ستشاهد اللّيرة وقد رُبِط الخيط بها، وهي مرميّة قرب الصندوق.
هزّ التاجر برأسه، ثم طيّب خاطره، وربّت على كتفه بعد أن برد فكره لما حدث، ثم تقدّم من الباب وفتحه، فإذا ما تفوّه به المسكين حقيقة واقعة، فاللّيرة مربوطة بخيط، وقد علقت بجانب الصّندوق المشار إليه. أخذها ثم راح يقلِّبها. حقاً إنها ليرة إنكليزية قديمة، ويعود سكّها إلى أكثر من مائة عام، وتحمل صورة الملكة فكتوريا على أحد وجهيها.
صاح أبو يوسف متلهّفاً: “ هل تأكدت يا سيدي؟؟”
أجابه : “نعم، لكنّ الليرة فقدت قيمتها التّجارية بثقبك لها، وخسرت كثيراً من ثمنها، وهي لم تعد تصلح إلّا للكسر أي لتحويلها إلى سبيكة”.
ندب المسكين حظّه التعيس، ولعن السّاعة التي أطاع فيها رأي زوجته، ثم أردف قائلاً: “المنحوس منحوس” وأكمل حديثه : “ ما العمل يا عم أبو زهير …؟؟”
أجابه أبو زهير: “سمعت منك أنّك بحاجة إلى طَحين وسكّر ورز وزيت وثياب، فهل تأخذ بها ما تحتاجه؟ وأنا بدوري سآخذ هذه اللّيرة إلى الصائغ في بيروت وأبيعها للكسر”.
وافق المسكين بعد أسًى، ثم أخذ ما يحتاجه بثمنها من الحوائج ومن الثّياب أذرعاً من الكتّان والخام، وبعضاً من الحوائج المنزليّة، وقبل مغادرته الدكّان استودعه صاحبها قائلاً: “يا صاحبي المثل القائل بأن “المال يجرّ المال” صحيح، لكن غرُب عن بال زوجتك أنّ لهذا المثل تكملة وهي: إنّ الكثير يجرّ القليل وليس القليل هو الذي يجرّ الكثير”.

بشر الحافي

لا يجد من يحبّ الدنيا حلاوة العبادة

الإمام بشر الحافي

الصوفي الذي أمات نفسه

قل لمن طلب الدنيا: تهيأ للذل
الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيقَ

لا تعمل الحسنة لكي تُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة
ولا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح

الإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو نصر بِشْر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، وعبد الله كان اسمه بعبور، أسلم على يد علي بن أبي طالب (ع). كان واحدًا من كبار أعيان السلف الصالح الذين ولدوا في القرن الثاني الهجري. ومن الألقاب التي أطلقت عليه في زمنه “الإمام العالم” “المحدِّث” “الزاهد” “الرباني” “القدوة” و”شيخ الإسلام”.
ولد سنة 152هـ، وارتحل في العلم وأخذ عن مالك وشريك وحماد بن زيد، وكان عالمًا ورأسًا في الورع والإخلاص، صَحِب الفضيل بن عياض، قال السّلمي: كان بشر من أولاد الرؤساء، فصحب الفضيل، سألت الدارقطني عنه، فقال: زاهد، جبل، ثقة، ليس يروي إلا حديثًا صحيحًا. وقال عنه أبو حاتم: ثقة رضي، ووثقه مسلمة، أصله من مرو سكن بغداد ومات بها، سنة 227 هـ وهو ابن 76 سنة. وقد أفرد ابن الجوزي مناقبه في كتاب.

سبب توبته
قيل أنه أصاب في الطريق ورقة مكتوب فيها اسم الله تعالى وقد وطئتها الأقدام، فالتقطها واشترى طيبًا فطيّب به الورقة ووضعها في شق حائط، فرأى في النوم كأن قائلا يقول: يا بشر، طيّبتَ اسم الله، ليُطَيّبَنّ اسمك في الدنيا والآخرة، فلما تنبّه من نومه تاب.

شيوخه
سمع الحديث من إِبْرَاهِيْمَ بنِ سَعْدٍ، وَحَمَّادِ بنِ زَيْدٍ، وَابْنِ المُبَارَكِ وغيرهم.
حَدَّثَ عَنْهُ: أَحْمَدُ الدَّوْرَقِيُّ، وَمُحَمَّدُ بنُ يُوْسُفَ الجَوْهَرِيُّ، وَسَرِيٌّ السَّقَطِيُّ، وَإِبْرَاهِيْمُ بنُ هَانِئ النَّيْسَابُوْرِيُّ، وَخَلْقٌ سِوَاهُم.

مناقبه
بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخَلْق.
كان له ثلاث أخوات زاهدات ورعات استفاد منهن، وقد أورد ابن خلكان في “وفيات الأعيان” قصة مُفادها أن امرأة دخلت على الإمام المجتهد أحمد إبن حنبل (ر) وسألته قائلة: يا أبا عبد الله، إني امرأة أغزل في الليل على ضوء السراج، وربما طفئ السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل عليَّ أن أبَيّنَ للمشتري غزل السراج من غزل القمر، فقال لها: إن كان عندك بينهما فرق فعليك أن تبيني ذلك. وسألته غير ذلك من الأسئلة وخرجت.
فقال الإمام أحمد عنه لابنه عبد الله: ما سمعتُ إنسانًا قط يسأل عن مثل ما سألت هذه المرأة اتبعها، فتبعها ابنه إلى أن دخلت دار بشر الحافي، فعرف أنها أخته، ولما أخبر الإمام أحمد قال له: هذا والله هو الصحيح، لا تكون هذه المرأة إلا أخت بشر الحافي.
ويروي ابن خلكان عن سبب تسميته بالحافي أنه جاء إلى إسكافي يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، وهو الزمام يوضع في النعل ويكون بين إصبعين، فقال له الإسكافي: ما أكثر كلفتكم على الناس أيها الفقراء، فألقى النعل من يده والأخرى من رجله، وحلف ألا يلبس نعلاً بعدها.
ومن الروايات التي تظهر تقواه وورعه ما رواه الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” وهو أن أخته قالت له: يا أخي قد بلي إزارك، فلو جئت بقطن حتى أغزل لك، فصار يأتي بالقطن ويحسب وزنه حتى انتهت أخته من الغزل، فأخذه وأخرج ألواحه ووَزَنَه فإذا بأخته قد زادت فيه فأعاده إليها وقال: كما أفسدتِيهِ خذِيه.

ومن أخبار مخالفته لنفسه
ذكر الخطيب البغدادي أن أم بشر الحافي قالت له: أطلب لي سفرجلة، فجاء بها وصار يشمها ووضعها بين يديه، فقالت له أمّه: يا أبا نصر كُلْها فما زال يشمها وأبى أن يأكل السفرجل في كل حياته.
وعن “تاريخ بغداد” أيضًا أن جارًا له بقالا كان قد عمل طعامًا لذيذًا مطبوخًا بالباذنجان، فمر بشر فنظر إليه فعلم البقال أنه اشتهاه، فتبعه وقال له: بأبي أنت، هذا الباذنجان تعمله بُنيَّة لي من غزل تغزله وأبيعه لها فخذ منه ما شئت، فقال له بشر: ارجع حفظك الله، فرجع البقال وسمعه يخاطب نفسه قائلاً: هيه، افتضحتِ، تشتهين الباذنجان بأصباغه؟ والله لا تذوقينه حتى تفارقي الدنيا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ المَرْوَزِيُّ: سَمِعْتُ بِشْراً يَقُوْلُ:الجُوعُ يُصَفِّي الفُؤَادَ، وَيُمِيتُ الهَوَى وَيُورِثُ العِلْمَ الدَّقِيْقَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بنُ عُثْمَانَ: سَمِعْتُ بِشْرَ بنَ الحَارِثِ يَقُوْلُ: إِنِّيْ لأَشتَهِي شِوَاءً مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً مَا صَفَا لي درهمه.

قال محمد بن عبد الوهاب الفراء: حدثنا علي بن عثام، قال : أقام بشر بن الحارث بعبادان يشرب ماء البحر، ولا يشرب من حياض السلطان، حتى أضر بجوفه، ورجع إلى أخته وَجِعا، وكان يعمل المغازل ويبيعها ، فذاك كسبه. وكان يأكل الخبز فقط فقيل له: أما لك أدم؟ فقال: بلى أذكر العافية فأجعلها أدماً.

حكمه ومواعظه
كان بشر الحافي لا يتكلم إلا في الخير، وإذا تكلم كان جُلّ كلامه حكمًا ومواعظ تذكر بالآخرة وتحث على الازدياد من الطاعات والخيرات، كما كان لسانه لا يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن أقواله في الحكمة والحث على التقوى أنه سئل عن القناعة فقال:“ لو لم يكن في القناعة شيء إلا التمتع بعز الغنى لكان ذلك يجزئ”، ثم أنشد يقول:
أفادتنـــــــي القنـــاعةُ كُــــــــــــــلُّ عـــــــــــــزٍ وهل عزٌ أعـــزُّ مـــــــن القنـــاعــــة؟
فصِّيْــــــــــرها لنفســكَ رأس مـــــــــالٍ وصيرِّ بعدها التقــــــــــــــوى بضــاعـــةْ
تَحـــُزْ ربحـاً وتغنى عــــــــــن بـــــــخل وتنعمُ في الجنــــــــــانِ بصبرِ ساعةْ

ومن أشعاره الحِكَمية قوله:
قَطْعُ الليـــالي مـــــــــــــــــع الأيام في خَلَـــــقِ والنوم تحت رُواق الهـــــم والقلـــــق
أحرى وأعـــذرُ لي من أن يقال غدا إني التمست الغنى من كف مختَلَق
قالوا رضيتَ بذا قلتُ القُنوع غِنىً ليس الغنى كثرة الأمـوال والورِق
رضيتُ بالله في عسري وفي يُسري فلســـت أسلك إلا أوضح الطُـــرُق
ومن دعائه: “اللهم إن كنت شهرتني في الدنيا لتفضحني في الآخرة فاسلبه عني”.

ثناء العلماء عليه
بدأ الخطيب البغدادي في “تاريخ بغداد” ترجمة بشر الحافي بقوله: “وكان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفرة العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس وإسقاط الفضول”. وقال مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى لأحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما تقول في هذا الرجل فقال: أي رجل قيل: بشر، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال.
وقال إبراهيم الحربي: رأيت رجالات الدنيا، لم أرَ مثل ثلاثة: رأيت أحمد بن حنبل وتعجز النساء أن تلد مثله، ورأيت بشر بن الحارث من قرنه إلى قدمه مملوءًا عقلا، ورأيت أبا عبيد القاسم بن سلام كأنه جبل نُفخ فيه علم.
وقَالَ إِبْرَاهِيْمُ الحَرْبِيُّ: مَا أَخْرَجَتْ بَغْدَادُ أَتَمَّ عَقْلاً مِنْ بِشْرٍ، وَلاَ أَحْفَظَ لِلِسَانِه، كَانَ فِي كُلِّ شَعرَةٍ مِنْهُ عَقْلٌ، وَطِئَ النَّاسُ عَقِبَه خَمْسِيْنَ سَنَةً، مَا عُرِفَ لَهُ غِيبَةٌ لِمُسْلِمٍ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ!

وفاته
ذكر ابن خلكان عدة أقوال في وفاته فقال: “توفي في شهر ربيع الآخر سنة مائتين وست وعشرين للهجرة، وقيل مائتين وسبع وعشرين، وقيل يوم الأربعاء عاشر المحرم، وقيل: في رمضان بمدينة بغداد، وقيل بمرو” وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة.

ثناء العلماء عليه
قال إلإمام أحمد بن حنبل يوم بلغه موته: لم يكن له نظير إلا عامر بن عبد قيس ولو تزوج لتم أمره. وفي رواية عنه أنه قال: ما ترك بعده مثله، وقال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، ولا أحفظ للسانه منه، ما عرف له غيبة مسلم، وكان في كل شعرة منه عقل ولو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شيء.
وقال يعقوب بن بختان : سمعت بشر بن الحارث يقول : لا أعلم أفضل من طلب الحديث لمن اتقى الله ، وحسنت نيته فيه، وأما أنا، فأستغفر الله من طلبه، ومن كل خطوة خطوت فيه
قِيْلَ: كَانَ بِشْرٌ يَلحَنُ وَلاَ يتقن العَرَبِيَّةَ وكَانَ رَأْساً فِي الوَرَعِ وَالإِخْلاَصِ ثُمَّ إِنَّهُ دَفَنَ كُتُبَهُ.
رُوِيَ عَنْ بِشْرٍ أَنَّهُ قِيْلَ لَهُ: ألَّا تُحَدِّثُ؟ قَالَ: أَنَا أَشْتَهِي أَنْ أُحَدِّثَ وَإِذَا اشتَهَيتُ شَيْئاً تَرَكْتُه.

جماهير بغداد تؤبنه
لما مات كانت جنازته حافلة جدًا حتى أنه أخرج من بيته بعد صلاة الفجر، فلم يوضع في قبره إلا بعد صلاة العشاء. وقد رآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ولكل من أحبني إلى يوم القيامة
وحين مات اجتمع في جنازته أهل بغداد عن بكرة أبيهم فأخرج بعد صلاة الفجر فلم يستقر في قبره إلا بعد العتمة، وكان علي المدائني وغيره من أئمة الحديث يصيح بأعلى صوته في الجنازة هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.

من أقواله

رؤية:إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلم.
من صور الرياء:قال قد يكون الرجل مرائيًا بعد موته! فسئل: كيف يكون ذلك؟ فال: يحب أن يِكثُر الخلق في جنازته.
خطر الشهوات: لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سدًا
الإخلاص في طلب العلم:لا أعلم شيئًا أفضل منه إذا أريد به الله. – يعني: طلب العلم.
من معاني التوكل:الرضى بالمقدور: يقول أحدهم: توكلت على الله! يكذب على الله! لو توكّل على الله رضي بما يفعل الله.
وصية: قال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال: أَخْمِل ذكرك، وطيِّب مطعمك.
العبد الخفي:لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس
علامة حب الدنيا:حب لقاء الناس حب الدنيا وترك لقاء الناس ترك الدنيا
من عقوبات حب الظهور والشهرة:لا أعلم رجلاً أحب أن يُعرف إلا ذهب دينه وافتضح
ذم المدح والانبساط إليه:سكون النفس إلى المدح وقبول المدح لها أشد عليها من المعاصي
ذم الشهرة:ما أتقى الله من أحب الشهرة.
الزهد:لو سقطت قلنسوة من السماء ما سقطت إلا على رأس من لا يريدها.
كتمان الحسنات:لا تعمل لتُذكَر، اكتم الحسنة، كما تكتم السيئة.
نصيحة لأهل الحديث:يا أصحاب الحديث، أدوا زكاة هذا الحديث، قالوا: وما زكاته؟ قال: تعملون من كل مائة حديث بخمسة أحاديث.
الهوى:من جعل شهوات الدنيا تحت قدميه فرق1 الشيطان من ظله، ومن غلب علمه هواه فهو الصابر الغالب. واعلم أن البلاء كله في هواك، والشفاء كله في مخالفتك إياه.
الصحبة السيئة:صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار.
نصيحة لمن يريد الدنيا: أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن يطلب الدنيا، اطلبها ممن بيديه الدنيا.
من يستحق أن يسأل:من أحب أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأَل.
علامات:علامة طاعة الله تسليم أمره لطاعته، وعلامة حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تسليم آثاره والعمل على سنته، ولا يلتفت إلى غيره.
نصيحة سديدة:لا تكاد تضع يدك إلا على مراءٍ؛ إما مراءٍ بدين وإما مراءٍ بدنيا وهما جميعا شر شيء فانظر أشد الناس توقيا وأعفهم وأطيبهم مكسبا فجالسه ولا تجالس من لا يعينك على آخرتك.
وقفة تأمل:وقف بشر على أصحاب الفاكهة فجعل ينظر إليها فقيل له: يا أبا نصر لعلك تشتهي من هذا شيئًا؟ قال: لا ولكن نظرت في هذا إذا كان يطعم هذا من يَعصيه، فكيف من يطيعه؟!
ذم الإسراف:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الحلال لا يحتمل السرف.
الأخذ من الناس مذلة:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: الأخذ من الناس مذلة.
رؤية:وقال جعفر بن هاشم المؤدب: سمعت بشر بن الحارث يقول: ليس هذا زمان اتخاذ إخوان إنما هو زمان خمول ولزوم البيوت.
في الوقت أَمْسُ قَدْ مَاتَ وَاليَوْمُ فِي السِّيَاقِ وَغَداً لَمْ يُولَدْ.
حلاوة العبادة:لا يجد من يحب الدنيا حلاوة العبادة.
وقال، يوم ماتت أخته إن العبد إذا قصَّر في الطاعة سُلِب من يؤنسه “
سَمِعَهُ رَجُلٌ يَقُوْلُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعلَمُ أَنَّ الذُّلَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ العِزِّ، وَأَنَّ الفَقْرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الغِنَى، وَأَنَّ المَوْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ البَقَاءِ.

 

مآثر وعبر

مآثـــر وعبـــر

حكاياتٌ عن العِلاقةِ المُمَيّزَة
بين جبلِ عاملٍ ووادي التّيم

مبارزةُ خيلٍ تتحوّلُ إلى جَفاء
ووفدُ مشايخٍ يعيدُ المياهَ إلى مجاريها

كان سوق الخان (والسهل المحيط) به مركز تلاقٍ وتواصل بين وجهاء وزعماء منطقتي جبل عامل ووادي التّيم، والسّبب الوجيه لذلك أن السّوق كان الحدّ الفاصل بين ولايتيّ صيدا ودمشق حسب التقسيم الإداري السائد أيام الحكم العثمانيّ وقد بقي كذلك أيام الانتداب الفرنسيّ.
في يوم التقى في سوق الخان الزّعيم كامل بك الأسعد والوجيه الحاصبانيّ سامي بك شمس، وبعد انفضاض الاجتماع ما كان من الوجيه الحاصبانيّ إلّا أن دعا الزّعيم الوائليّ إلى المبارزة خيلاً في عرض ذلك السّهل وطوله.
وكامل بك الأسعد وهو بالمناسبة جدّ كامل الأسعد الأخير لوالدته وقد كان على قامة سمقاء ورشاقة ومهابة تفوق التصوّر، وإذا اعتلى صهوة جواده لا يبارزه سوى القلّة، ومن كان له باعٌ في مضمار الفروسية. منذ بدء المبارزة بدا واضحاً أن الوجيه الحاصبانيّ لم يُوفَّق إذ بدا تفوق غريمه واضحاً وفاضحاً، وهذا الأمر أحرجه أمام أتباعه مما أثار غضبه وجعله يتفوّه بكلام قاسٍ وشتائم مهينة لغريمه. أمّا الزّعيم الوائليّ، فرغم أنّ الدم غلى في عروقه إلا أنّه أطلق العنان لفرسه بعد أن تبعه مرافقاه مقدّماً أمثولة في ضبط النفس وتغليب الحكمة على النّزق والانفعال.
لكن ما إن عاد الزّعيم الحاصبانيّ إلى منزله في حاصبيّا حتى انتبه إلى الخطأ الجسيم الذي ارتكبه بحقّ زعيم الجنوب وكما يقول المثل العاميّ “ راحت السّكرة وأتت الفكرة”، وكان يخاطب نفسه بكثير من التأنيب: ماذا فعلت؟ وكيف تصرّفت؟ وبأيّ حق تفوهت بما تفوّهت به تجاه رجل كريم؟ النّدم، النّدم.. لكن ما نفع الندم؟ في تلك اللّيلة لم تغمض عينا الوجيه الحاصبانيّ بل تسمّر جسده فوق مقعده وهو محتار من أمره وكيف سيعيد المياه إلى مجاريها، والصّداقة الأولى إلى سابق عهدها. وفكّر أخيراً أنْ ليس لي سوى الأفاضل من المشايخ الأكارم أصحاب العمائم ومقرّبي الخواطر: “إذهب يا أبو علي النّاطور إلى الشّيخ أبوفايز علم الدّين بدوي وقلْ له كي يحضر إذ إنّني قد وقعت في مأزق كبير وليس حلّه باليسير”.
حضر الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي وكان في ريعان الشّباب ولكنّه كان في الحكمة والدّراية شيخ من أشياخ الزّمان، ومن مشايخ البياضة المتنوّرين بالمعرفة ومحبّة الخير وتقريب الخواطر وفضّ النّزاعات، كما أنه كان صاحب البيت المشهور والكرم الحاتمي المعهود. لكن بعد اطلاعه على ما حدث وما أقرّ به الزّعيم الحاصبانيّ من تسرّعه وسوء تصرّفه دُهش واستغرب ما حدث، ثم تفكر في ذاته محتاراً من أمره فالموضوع مع زعيم كبير وغلطة لا تُغتفر، وكيف سيقرّب الأمور ومن أين سيبدأ الحلّ.

حاصبيا في عشرينيات القرن الماضي
حاصبيا في عشرينيات القرن الماضي

لهذا قرّر التصرّف بسرعة فعمد إلى تشكيل وفدٍ كبير من أهل الحل والعقد من الوجهاء الذين عرفوا بنبل مساعيهم وقد قبلوا أن يرافقوا الشّيخ أبو فايز في صباح اليوم التالي إلى بلدة الطّيبة، والتي يلزمها ستّ ساعات سيراً على الأقدام.
وصل الوفد في الوقت المحدّد لدار الطّيبة، لكنّ استقبالهم كان استقبالاً فاتراً، ومع هذا لم يدبّ الوهن في عزيمتهم، وكان التّفويض بالكلام لصاحب المقام الشيخ أبو فايز. بعد الجلوس وشرب القهوة وقف الشّيخ أبو فايز وسط القاعة ثم ابتدأ بالكلام تحية واحتراماً قائلاً: دار الطيبة اسم لمُسمّى وأشمل وأغنى من أي معنىً ورحابه صدرها للأنام عندها مسرّة، لذا أتينا من حاصبيّا، قاعدة وادي التيم، للاعتذار وتقديم الإجلال والاحترام للزّعيم الكبير آملين أن نُسلِّم عليه.
أجاب المسؤول: إنّ البيك خارج القصر. عندها قال الشّيخ أبو فايز: مسيرتنا لأكثر من ستّ ساعات ويلزمنا وقت مماثل في طريق العودة، لذا فإننا لن نبرح هذا المكان إلا بعد مقابلة صاحبه وتقديم الاعتذار كما أُمِرنا، ومهما تكن النفوس متباعدة فلا شيء يمنع من تقاربها والخلاف يحصل بين الإخوة والأقارب وزعيمنا الوائلي رائد محبة وتقارب وأملنا أن لا يعيدنا خائبين.
كبير المسؤولين في دار الطّيبة، وكان على دراية وبعد نظر، هزّه هذا القول مقتنعاً ومتّعظاً ومقدّراً كلام الشّيخ ومجيء الوفد، لذا انسلّ خارجاً ثم ذهب إلى مكان تواجد الزعيم فأخبره بما سمع وبأنّ عليه أن يقابل وفد المشايخ مهما تكن الخلفيّات خصوصاً وأنهم من أهل الكرامة والاقتدار ويكفي تحمّلهم عناء القدوم من مكان بعيد لكي يرفعوا إلى مقامكم اعتذار زعيم حاصبيّا وأسفه لما حصل.

كامل الأسعد
كامل الأسعد

الزّعيم الوائلي، وبعد سماعه كلام مرافقه، عاد إلى ضيوفه هاشّاً باشّاً وخاطبهم بالقول: أهلاً وسهلاً، وشكراً بما أشدتم وتكرّمتم لكن بالنّسبة للسّيد سامي بك فإنّني لن أحادثه مطلقاً وأرجو أن لا يقع نظري على نظره، وحتى حاصبيّا مُحرّمة عليّ.
الشّيخ أبو فايز تبسّم ثم تقدم من الزّعيم الوائلي مصافحاً إيّاه بحرارة وكذلك فعل بقية أعضاء الوفد، ثم جلس الجميع. غير أنّ الشيخ أبو فايز ظلّ واقفاً وابتدأ بالحديث قائلاً: يا كامل بك ، الأخوة تتخاصم، لكنّ الكبار الكبار أمثالكم لا يوجد للحقد أو الكراهية مكان في نفوسهم، فالصّفح شيمتهم، وقد كان قدومنا إلى هنا بطلب من زعيمنا شخصياً، ونحن نزيد على ذلك أن لعن الله الخمرة وما تسبّبه، وليس بالكثير إذا كانت عند أهل التوحيد منكرة ومحرمة. ولهذا عند عودته إلى منزله في حاصبيا كان الوعي والرّشد قد عادا إلى مخيّلته فاستدعانا على عجل وطلب إلينا الإسراع بالقدوم إلى دياركم لتقديم اعتذاره الصّادق.
انتظر الشيخ أبو فايز ليرى وقع كلامه على الزّعيم الجنوبي فلاحظ أنه بقي على عبوسه، عندها أكمل القول: هل تسمح لي بأن أسألكم سؤالا بسيطا؟ قال اسأل
قال الشيخ أبو فايز: ما هذا الذي يُغطي رأسكم؟
شقّل الزّعيم الوائلي حاجبيه وقال: ماذا تقصد يا شيخ بسؤالك؟ ألا ترى العقال والحطّة؟
تبسم الشّيخ وقال : هذا مقصدي بالضّبط، أليس يكفي أن يُجلّل رأسكم العقال، وكم هي بليغة وعميقة هذه الكلمة، وخاصة إذا كانت تكلّل هامات الرّجال العقلاء أمثالكم؟
كامل بك هزّه هذا القول فانفرجت أساريره وقال للشّيخ أبو فايز: حقّاً وصدقاً، أمثالكم قليلون أيّها الشيخ الجليل، لذلك ومهما كان غضبنا لما حصل، وتقديراً وتكريماً لخاطركم الكريم، قل لسامي بك إنني ذاهب إلى حاصبيا، وقريباً تشاهدوننا في دياركم.
وهكذا وفى الزّعيم الوائليّ بوعده فأتى برفقة سبعين خيّالاً إلى دار آل شمس، وكأنّ شيئاً لم يكن. وبعد الاستقبال والعناق كان التّكريم والحداء والرّصاص يملأ الآفاق وزِد على ذلك فقد أمر الزّعيم الحاصبانيّ بذبح سبعين خروفاً على عدد الزّائرين وبقي الجميع ثلاث ليال مكرّمين معززين.

أنعم وأكرم بأبناء العم

وندعــو كريمــاً مـــــــــــــــن يـــــــــــــجـود بمالــــــــه
ومن يبذل النَّفس النّفيســة أكـــرمُ
إن الكــرام إذا ما أيسـروا ذكــروا
من كان يألفهــم في المنزل الخشنِ
(شاعر قديم)

مالت الشّمس خلف جبل القاطع، وأذن الوقت بالعودة نحو المبيت. لهذا اعتلى الشيخ أبو فايز علم الدّين بدوي ظهر دابّته واتّجه عائداً نحو بلدته، بعد جهدٍ وتعبٍ مُضْنِيَين، من غرسٍ للبذور والشتول، وسقاية ورش ونكشٍ للعشب والجذور. فالوقت ربيع، وأيام العمل في البساتين تبدأ مع الفجر ولا تنتهي إلاّ مع الغروب، خصوصاً وأنه اقتنى بستاناً كبيراً من تعب اليد وعرق الجبين.
كالمعتاد يوميّاً، يرافقه في طريق العودة جاره في العمل الشّيخ علي، والقول المتّبع عند الفلّاحين الرّفيق قبل الطّريق.
قبيل وصولهم إلى بلدتهم، بعد هبوط العتمة إذ برهط من المكاريّة خارجين لتوّهم من البلدة، وكان زِيّهم يدلّ على أنهم غرباء مساكين وقد بدا الوجَل على وجوههم. اهتمّ الشّيخ أبو فايز للأمر فاستوقفهم قائلاً:
إلى أين أنتم قاصدين؟
نحو بلادنا.
وأين هي بلادكم؟
نحن من بلدة حولا في جبل عامل.
أنعم وأكرم بأهل حولا أبناء العم الكرام.
كان هذا النوع من السّلام دارجا بين دروز المنطقة وشيعتها بالنّظر لكون الموحدين الدروز كانوا معاً من ذات القبائل التي دانت بالمذهب الشّيعيّ الفاطميّ، لذا فهم من أرومة واحدة ويربطهم تاريخ من الصّداقات والعيش المُشترك وأدب الجيرة.
بعد السلام نزل الشّيخ عن ظهر دابته ثم تقدّم نحوهم فدعاهم وأصرّ عليهم أن يقبلوا المبيت عنده على اعتبار أنّ الوقت ليلٌ والطّريق طويلة وبعيدة نحو حولا، و..”شرّ الصّباح ولا خير المسا”!
ولما وجدهم متردّدين أجار عليهم بالقول المأثور “أجير الله وأنبياءه عليكم أن تقبلوا دعوتي”.
بعد سماع هذه الدّعوة الصّادقة، ما كان من المكاريّة إلّا أن قبلوا الدّعوة وعادوا معه شاكرين حامدين.
رفيق الشّيخ أبو فايز نظر نحو الموكب وهو عائد ثم هزّ برأسه وقال في ذاته: “ما أكثر غلبة عمّي أبو فايز، كيف يستضيف هذا العدد من الرّجال مع العشاء والمنامة، وفوق هذا دوابهم وجمالهم وخيولهم، وكيف ستقابلهم زوجته وهم في وضع مادّي غير ميسور؟! ثمّ تقدّم من الشّيخ وصارحه هامساً: “لقد جلبت العنت لك ولعائلتك وكان الأفضل تركهم وشأنهم، خصوصاً وأنّهم من بلاد بعيدة ولا تعرفهم؟”
هزّ الشيخ أبو فايز برأسه وأجاب رفيقه وابتسامة رضا تزين وجهه:”اسمع يا صاحبي، النّاس للنّاس والرّزق من الخالق الرّزّاق، قِسْ على نفسك إذا حلّ بهم مكروه في هذا اللّيل، والطّريق غير آمنة ومعرّضة للكثير من الأخطار، سواء كان من قطاع الطرق أو اللّصوص، ولا يغرب عن بالك أنّهم سيمرّون قرب الحدود مع اليهود، فلربّما اعتبروهم مهرّبي أسلحة أو مجاهدين فلسطينيّين وأطلقوا عليهم النّار وهم عُزّل مساكين. ومع هذا ماذا سيكلّفوننا؟..العشاء واحد، وأختك أمّ فايز، مثل كلّ غانمة، تعمل حسابها عند طبخ العشاء تحسّباً لضيف مساء أو عابر سبيل، والمثل يقول زاد واحد يقري اثنين وزاد خمسة يقري عشَرة والله يبارك لنا وللجميع، وبعملنا هذا ربّما ننقذ أرواحاً أو نكسب أصحاباً أو نطعم جوعاناً أو نروي عطشانا”
عند سماع ذلك سكت رفيق درب الشّيخ، لكنّه في قرارة نفسه لم يقتنع بما سمعه بل إنه عد سلوكه من قبيل الوجاهة وليس الكرم.
لكنّ مبدأ الشّيخ في الحقيقة كان ينبع من الكَرَم ومَدّ يد العون لعابر السّبيل وعمل الخير للجميع. فمنزله طوال حياته كان مضافة عامرة، و”محكمة أهليّة” لفضّ المشاكل وتقريب الخواطر وإغاثة الملهوف، وقدوم الضّيوف عليه وعلى عياله كان أمراَ مألوفا.

الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي
الشيخ أبو فايز علم الدين بدوي

سهرة ممتعة قضاها الشّيخ أبو فايز مع ضيوفه من سمرٍ ومسامرة وتبادل أفكار واكتساب معرفة عن بلاد بعيدة وعادات جميلة.
عند مغادرة الضّيوف صباحاً منزله، وقف كبيرهم قبيل توديعه قائلاً: “ أقسم بالله وبالنّبي والإمام عليّ، وقد تجاوزت الخمسين من عمري، لم أصادف رجلاً في حياتي كلّها وأنا تاجر متجوّل من بلدة إلى بلدة، ومن بيت إلى بيت، كما لمسنا وشاهدنا من كرمكم وأفضالكم وترحيبكم وطراوة أحاديثكم يفوق ما يتصوّره أيّ إنسان. ويكفي أنّكم كنتم المبادرين لدعوتنا قبل أن نطرق بابكم، وهنا تظهر أريَحيّتكم وشهامتكم. فهنيئاً لكم ولبلدتكم ولطائفتكم بأمثالكم، وعسى الله تعالى يقدّرنا على الوفاء، وردّ الجميل”.
دارت الأيام… ومواسم الحاصبانيّ من السّفرجل والرّمان والملفوف والباذنجان لا يصحّ تركها بعد نضجها، والخريف آن، وحان وقت القطاف والتّسويق.
لهذا، حمّل الشيخ عليّ جار الشّيخ أبو فايز أحمالاً عدّة مع رفاق له، واتّجهوا جنوباً نحو قرى جبل عامل لبيعها. ثمّ بادروا للتنقّل من قرية إلى قرية إلى أن غربت الشمس عنهم في خدرها وهم بعيدون عن ديارهم والعودة ليلاً محفوفة بالأخطار، ومع هذا لم تنفذ البضاعة ويجب تصريفها وإلا كانت عرضة للأضرار.
ما العمل، قال الشّيخ علي لرفاقه، وكيف العودة والطريق نجهلها، والغريب أعمى ولو كان بصيراً، فكيف إذا كان الوقت ليلاً وليس بيننا دليل؟!
إذ ذاك ما بقي أمامهم سوى طرق باب أحد المنازل قصد الضيافة. وهكذا حدث من قِبل أحدهم.
استقبله صاحب المنزل قائلاً: “ أهلاً وسهلاً، ماذا تريد يا أخي؟”
أجاب الطارق: “إنني ورفاق لي من بلاد بعيدة، وليس بالإمكان العودة ليلاً، فهل تسمح باستضافتنا منامة وليس أكثر؟”
“تفضلوا يا أخي، على الرّحب والسعة”.
بعد الدخول والاسترخاء من قبل الضيوف، تفرّس المضيف بهم، ثم بادرهم القول: “عسى أن تكونوا من بلاد حاصبيّا؟”
تبسّم الضّيوف، إذ وجدوا بهذه الكلمة نوعاً من التّرحيب وراحة النّفس قائلين: “نعم..”.
“إذاً من بلدة الشّيخ أبو فايز علم الدين بدوي!”
“ نعم نعم من بلدته وجيرانه، والبعض منّا من أقاربه”.
“ يا أمّ حسين” نادى صاحب المنزل على زوجته، “ تعي أنتِ والأولاد ..لأعرّفكم على أقارب وأصحاب وجيران أجلّ وأشرف رجل عرفته، وكم حدثتكم عنه وعن كرمه وأصالته وسعة محله.”
“ألا يكفي أن أرجعنا عن الطريق إلى بيته بعد أن تصدّى لنا وأجار الله وأنبياءه علينا كي نقبل دعوته؟ لقد كرّمنا بأكثر من مقامنا وأتحفنا بكرم الخلق وأدب الضّيافة، وأفادنا بأمثال وحكم بليغة من علومه وتراث عشيرته”.
لم تمضِ فترة من الوقت، حتّى مُدَّت سُفرة من الطّعام الشهي للضّيوف، والبيت بأكمله يعمّه الفرح والسرور.
الشيخ علي كان يأكل ويهزّ برأسه من وقت لآخر، ثم يوشْوِش رفاقه قائلاً: “أطال الله بعمرك يا عمّي أبو فايز وبيّض وجهك وثناك في الدّنيا والآخرة كما بيّضت وجهنا ونحن حقيقة نأكل الآن على جاهك ونغرف من معجنك”
عند عودته إلى بلدته، كان الخجل يعلو وجه رفيق الشيخ أبو فايز وهو يخبره عمّا لاقَوْه من كرمٍ وترحيب فاقَ ما يتصورونه في بلدة حولا الجنوبيّة. وكلّ ذلك عائد لفضلكم وكرمكم وبُعد نظركم. ثم أكمل حديثه قائلاً: “إنّ أصدق قول يناسب مقامكم يا شيخنا ما كنت تردده أمامنا هو: من جاد ساد، ومن بخل رُذِل، وأجود النّاس من جاد من قلّة وصانَ وجه السائل من المذلة، وأجمل المحاسن كلّها الكرم.

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

الحلقة الرابعة والأخيرة

في هذه الحلقة الرابعة من حكايات مُلّا نَصْر الدِّين تختارُ “الضحى” باقةً من حكايا وقصص هذه الشخصية الشهيرة في الإرث الأخلاقي والشعبي الشرقي وتُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً.

ظرافة تلين قلب تيمورلنك
ظرافة تلين قلب تيمورلنك

ظرافة تُلين قلبَ تيمورلنك
كانت جيوشُ تيمورلنك تجتاحُ أواسطَ آسيا، وسَرَت شائعاتٌ أنّ تيمورلنك كان يتّجه نحو قرية المُلّا نَصْر الدِّين.
وما أن تناهى ذلك إلى سَمعِ المُلّا حتى دعا الناسَ خلال خطبة الجمعة إلى الدعاء والصلاة.
وقال: “دعونا نُصلِّي لموت تيمور الأعرج قبل قدومه”، فصاح جميعُ القرويين “آمين”.
ووقف رجلٌ من بين المُصلّين وسأل المُلّا نَصْر الدِّين: “هل رأيتَ تيمورَ قط؟.
أجابه المُلّا: “لا ولم أركَ من قبل أنتَ أيضاً”.
فقال الرجلُ: “إنّك على حق، فأنا تيمورلنك”.
فصعق المُلّا نَصْر الدِّين لهذا النبأ، وكذلك ذُهِلَ القرويون.
ومن ثم تابعَ المُلّا خطبتَه بهدوءٍ، وقال: “دعونا نُصلِّي جميعاً مرّةً ثانية، وهذه المرّة صلاة جنازتنا”.
سأله تيمور: “كيف تُصلِّي صلاةَ جنازتك أيُّها الأحمق، فصلاةُ الجنازة تُتلَى على الميت”.
فأجابَ المُلّا: “نعم يا مولاي، لكن كما ترى فإنّنا جميعاً على وشك الموت دون أن يكون ثمة مَنْ يُصلِّي صلاةَ الجنازة علينا. لذا ينبغي علينا أن نقوم بذلك بأنفسنا”.
فضحك تيمورلنك من أعماقه وعفا عن المُلّا وأهل القرية.

تيمورلنك ووجه الشيطان
يُحكَى أنّ تيمورلنك لمّا دخلَ قريةَ المُلّا نَصْر الدِّين الشهير، قام باستدعائه.
وقال له: “يُحكى أنّك رجلٌ واسع المعارف، رجلٌ متحالِف مع قِوى الظلام وأنّك تملك قِوى غريبة وتعلم أرهبَ التعويذات، بل يقولون عنكَ إنّك في تحالفٍ مباشر مع الشيطان بحدّ ذاته!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين باستخفاف: “هذا ما يقولونه!”.
فصاح تيمورلنك بصوتٍ هادر، وقد استفزّته برودة المُلّا نَصْر الدِّين: “إن كنتَ حريصاً على حياتك، فقلْ لي إذاً كيف تبدو هيئة هذا الشيطان؟”.
فتبسَّم نَصْرُ الدِّين وناولَ تيمورلنك مرآةً، وقال له: “انظرْ في المرآة فتراه!”.

الثالث مُحِقٌّ أيضاً!
ذهبَ قاضي البلدة في إجازةٍ قصيرة. وطُلِبَ من المُلّا نَصْر الدِّين تولِّي القضاء مكانه مؤقتاً ليومٍ واحد.
فجلس المُلّا نَصْر الدِّين على كرسي القضاء، وبدا الحزمُ على مُحيّاه مُحدِّقاً في الجموع، واستعدَّ للنظر في القضية الأولى.
وبعدما سمِعَ مرافعة الطرفَ الأول، قال له نَصْرُ الدِّين: إنّك على حق”.
وقال للطرفِ الثاني بعد سماع وجهة نظره: “إنّك أيضاً على حق”.
فصاحَ أحدُ الحاضرين وسط الجموع قائلاً: “لكن لا يمكن أن يكون الطرفان على حق”.

السمكة الصغيرة للمتفلسف
السمكة الصغيرة للمتفلسف

السمكةُ الصغيرة للمُتَفَلسِف
مرَّ أحدُ العلماءِ المُتَفَلسِفين بقرية المُلّا نَصْر الدِّين، وما أنْ التقاه حتى سأله عن مكانٍ يُقدِّم طعاماً شهيّاً. فاقترح المُلّا مكاناً، فدعاه العالِمُ المُتَعطِّشُ للمحادثة للانضمام إليه.
فرافق المُلّا نَصْر الدِّين العالِمَ مُكرهاً إلى مطعمٍ قريب.
وعند وصولهما إلى المطعم سألا عن طبق اليوم، فأجاب صاحبُ المطعم: “سمكٌ! سمكٌ طازج!”
فقالا له: “أحضِرْ لنا سمكتَين”.
وما هي إلا بضعُ دقائق حتى أحضرَ الرجلُ طبقاً كبيراً تُزيِّنه سمكتان مشويّتان، واحدةٌ منهما أصغر قليلاً من الأخرى.
فانبرى المُلّا نَصْر الدِّين من دون تردُّدٍ والتقطَ السمكةَ الكبيرة ووضعها في صحنه.
العالِمَ، الذي بدَت على مُحيّاه الدهشةُ والاستغراب، لفتَ انتباه نَصْر الدِّين إلى أنّ ما قام به لم يكن عملاً أنانيّاً بشعاً فحسب، بل ينتهك الأدب ومبادئ الدين!
أصغى المُلّا نَصْر الدِّين لمحاضرة مرتجلة ألقاها العالِمُ المُتَفلسِف بكلِّ صبرٍ، لكن ما أن نفدَ صبرُهُ حتى قال له:
“حسناً يا سيّدي، ماذا كنتَ لتفعَل أنت؟”.
فأجابه العالِمُ: “إنّني كصاحبِ مبادئ وضميرٍ، كنتُ سأختار السمكة الأصغر حجماً”.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين: “هاكَ إيّاها”، ووضعَ السمكةَ الصغيرة في صحنِ المُتَفلسف.

أُمنيةٌ أخيرة!
أخذ المُلّا نَصْر الدِّين ورفيقاه يحتسون القهوة، ويتساءلون حول الموت: “إذا كنتَ مسجَّى والأهلُ والأصدقاء يبكون من حولك، فما الذي تتمنَّى أن تسمعه منهم؟”.
قال رفيقه الأول: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ طبيباً عظيماً في زماني، ومُحبِّاً لأُسرتي وعائلتي”.
ومن ثمّ قال رفيقه الثاني: “أودُّ أن أسمع منهم أنّني كنتُ زوجاً صالحاً ومعلِّماً تركَ أثراً كبيراً في أجيال الغد”.
أمّا نَصْرُ الدِّين فقال: “أودُّ أن أسمع منهم: انظروا!! إنّه يفتح عينيه!!!”.

سمكةُ القاضي في الشبكة!
ذات يوم، تناهَى إلى مسمعِ المُلّا نَصْر الدِّين أنّ السلطانَ قد أرسل لجنةً متخفّية سعياً إلى اختيار مُرشَّحِين أكفّاء لتولِّي منصب القاضي.
فعمدَ المُلّا إلى التنقُّل في الأنحاء واضعاً شبكةً قديمة لصيد السمك على كتفه.
ولمّا وصلَ أعضاءُ اللجنة إلى قريته، استرعت الشبكةُ انتباهَهم وسألوا المُلّا نَصْر الدِّين ما السرّ وراء ذلك.
فأوضح نَصْرُ الدِّين: “نعم، أحملُ هذه الشبكة معي لتُذكّرني بماضيَّ الوضيع كصيّادٍ فقير”.
فتأثَّر أعضاءُ اللجنة أيما تأثر، وعندما حانَ الوقت، عُيِّنَ المُلّا نَصْر الدِّين قاضياً.
وبعد فترةٍ وجيزة، التقى ممثِّلو السلطان المُلّا نَصْر الدِّين مجدداً لكنّهم لاحظوا اختفاء الشبكة.
فسألوه: “أيُّها المُلّا أين الشبكة”.
فأجاب المُلّا نَصْر الدِّين: “حسناً، لا حاجة للشبكة بعد اصطياد السمكة، أليسَ كذلك؟”.

عودةُ الجَمَل
صاحَ المُلّا نَصْر الدِّين بأعلى صوته: “لصٌّ، لصٌّ! لقد سرقَ لصٌّ جَمَلي!”.

وما أن هدأ رَوْعُه وسكَنَ صخبُه حتى بادره أحدُهم بالقول متعجِّباً: “لكن يا نَصْر الدِّين، لا جملَ لديك”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “صُهْ .. أخْفِت صوتَك، أتمنّى ألَّا يسمعك اللصُّ، لعلّه يُعيد إليَّ جَمَلاً”.

قوةٌ لا تشيخ!
كان المُلّا نَصْر الدِّين يوماً يتباهى بقوتِه التي لم تؤثّر فيها السنون. وقال: “إنّني على القدر ذاته من القوة التي كنتُ أتمتّع بها شاباً”.
فسأله القوم متعجِّبين: “وكيف أمكنَ ذلك؟”.
فأجاب المُلّا: “هناك صخرةٌ كبيرة خارج منزلي. لم يكن بوسعي أن أُحرِّكها من مكانها وأنا شابٌّ، ولا يسعني أن أُحرِّكها كذلك اليوم!”.

الحمد لله ليست يقطينة!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يستلقي تحت ظلال شجرة جوزٍ عتيقة. استراحَ جسدُه لكنّ فكرَه الوقّادَ لم يجد له راحة. كان يتطلّع إلى أغصان تلك الشجرة الهائلة ويتفكّر في خلقها.
وتساءلَ الخُجا في سِرّه: “ما الحكمةُ في أنْ تُثمِرَ مثلُ هذه الشجرةِ الكبيرة السامقة حبّاتَ الجوز الصغيرة هذه؟ فها هو جذعُها ضخمٌ، وأغصانُها ثخينةٌ بإمكانها أن تحمل بسهولة أكبرً يقطينةٍ تنمو من نبتةٍ ضعيفة مُعرِّشَة في الحقول، نبتةٌ لا يمكنها أن تحمل حتى وزنَ ثمرتها. ألا ينبغي للجوز أن ينمو من تلك النباتات الضعيفة، واليقطين من هذه الشجرة الراسخة؟”.
وفيما هو غارقٌ في تفكُّرهِ وتغشاه الحَيرةُ، سقطت حبّةُ جوزٍ من أعلى الشجرة لترتَطِمَ برأسه.
فانتفضَ نَصْرُ الدِّين مرتاعاً، وقال: “الحمد لله! لو كان ما سقطَ على رأسي يقطينةٌ لقُضِيَ عليَّ حتماً! إنّ الله رحيمٌ! وهو أبدعَ الطبيعةَ وفي نيته أن يُنقِذ حياتي”.

اخترع كذبة وصدّقها
اخترع كذبة وصدّقها

اخترعَ كذبةً وصدّقها!
ذات يوم قرّر المُلّا نَصْر الدِّين أن يُمازِح سكّان قريته. فما أن صادفَ حشدٌ منهم حتى أوهمه بوجود منجمِ ذهبٍ اكتشفه في مكانٍ حدّده لهم.
وما أن سمعَ الجميعُ ذلك حتى أخذوا يهرعون إلى ذلك المكان للاستئثار بالذهب.
وما هي إلَّا هُنيهةٌ حتى وجدَ نَصْرُ الدِّين نفسَه سائراً معهم.
وعندما سأله مَنْ يعرف سرَّ حيلتِه عما هو فاعلٌ، قال: “عندما يصدَّقَ ذلك الجمُّ الغفيرُ من الناس، فإن هناك احتمال بأنّ يكون صحيحاً!”.

لا يفقهونَ الخبزَ ويَحكِمون
اتّهمَ ثلاثةُ علماءٍ المُلّا نَصْر الدِّين بالخروج عن الدِّين، لذا استُدعَى إلى بلاط السلطان للمحاكمة.
وفيما هو يُدافع عن نفسِه، سألَ نصر الدين العلماء الذين جلسوا لمحاكنه: “أيُّها الحكماء، ما هو الخبز؟”.
فقال العالِمُ الأول: “الخبزُ هو قوتٌ، طعامٌ”.
وقال العالِمُ الثاني: “الخبزُ هو مزيجٌ من الطحين والماء عُرِّضَ لحرارة النار”.
أمّا العالِمُ الثالث فقال: “الخبزُ هو نِعمةٌ من الله”.
فتوجَّه المُلّا نَصْر الدِّين إلى السلطان قائلاً: “مولاي، كيف لكَ أنْ تثق بهؤلاء الرجال؟ أليسَ من الغريب أنّهم عاجزون عن الاتّفاق على طبيعة شيءٍ يأكلونه كلّ يوم، ومع ذلك يُجمِعُون على أنّني خارجٌ عن الدِّين؟”.

حصانُ السلطانِ يُغنِّي
ذات يوم، ألقى المُلّا نَصْر الدِّين نُكتَةً في حضور السلطان أثارت سخطَه. فأمرَ على الفور باعتقال نَصْر الدِّين وإلقائه في السجن، واتّهمه بالمروق والعصيان.
اعتذر المُلّا نَصْر الدِّين من السلطان على هذه الدعابة السَّمِجَة، وتوسَّل إليه أن يعفو عنه ويُبقِي على حياته.
لكنّ السلطان بقِيَ متشبِّثاً بموقفه، وبفعل الغضب الشديد أمرَ بقطع رأس المُلّا نَصْر الدِّين في اليوم التالي.
وعندما أُحضِرَ نَصْر الدِّين في الصباح لتنفيذ حُكم الإعدام به، خاطبَ السلطانَ قائلاً: “أطالَ اللهُ عمرَ مولاي السلطان! أنتَ تعلم أنّني مُعلِّمٌ حاذق، والأكثر براعة في مملكتك، فإذا ما أَخَّرتَ إعدامي عاماً واحداً، فسأُعلِّم حصانَكَ الحبيب الغناء”.
لم يكن السلطانُ يعتقد أنّ ذلك ممكناً، لكنّ هذا ما هدّأ من رَوعه، فأجابه: “حسناً، سأمنحُكَ عاماً. لكن الويلَ لكَ إذا حلَّت نهايةُ العام ولم تُعلِّم حصانَي الحبيب الغناء”.
وقام أصدقاءُ نَصْر الدِّين بزيارته مساءً في السجن، فوجوده فرِحاً مسروراً. فسألوه مندهشين: “كيف لكَ أن تكون مسروراً؟ هل تعتقد حقّاً أنّ بوسعك تعليم حصان السلطان الغناء؟”.
فأجابَ نَصْر الدِّين: “بالطبع لا. لكن أمامي مهلة عام، وقد يحدث الكثير في هذه المهلة. فلربّما هدأ غضبُ السلطان وعفا عنّي. ولربّما قتلته الشدائدُ أو المكائدُ أو المرض، ولعلّه يُصدِرُ عفواً عن السجناء جميعاً. أو قد يموت الحصانُ، ولا يعود للسلطان حُجّةً عليّ”.
واستدرك نَصْرُ الدِّين أخيراً وقال: “إذا لم يحدث أيٌّ من ذلك، فما أدراكم، لعلّ الحصانَ يتعلّم الغناء!”.

السجنُ ولا شِعْر السلطان!
خُيِّلَ للسلطانِ يوماً أنّه شاعرٌ. وبعدما سهِرَ ليالٍ عديدة، أكملَ قصيدةً عصماء، واستدعَى المُلّا نَصْر الدِّين ليُلقيها أمامه.
وبعدما انتهى من إلقاء قصيدته، أحبَّ السلطانُ أنْ يعرف رأيَ المُلّا نَصْر الدِّين. فقال نَصْرُ الدِّين مندهشاً: “أحقّاً يا مولاي؟”.
فأجابه السلطانُ: “بالطبع، لِمَ أحضرتُكَ إلى هنا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين: “حسنٌ، إنّها يا مولاي.. فظيعة”.
فاستشاطَ السلطانُ غضباً ونادَى الحرس: “ضعوه في السجن، ثلاثين يوماً”.
وبعدما أكمل نَصْرُ الدِّين فترة عقوبته، استدعاه السلطانُ مجدداً لسماع قصيدة أخرى، وعندما انتهى السلطانُ من إلقائها، نهضَ نَصْرُ الدِّين على الفور واتّجه نحو الباب.
فسأله السلطانُ باستغراب: “ما خطبكم، أين أنتَ ذاهبٌ يا نَصْر الدِّين؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “إلى السجن يا مولاي”.

لا شنقَ لمَنْ جاء يُشْنَق!
استاءَ السلطانُ كثيراً من كثرة الغشَّاشين والكذَبَة المخادعين الذين يدخلون أبواب عاصمته الزاهرة ويعيثون فيها فساداً. لذا، أمرَ بوضع حامياتٍ من الجند عند جميع بوابات المدينة المحاطة بأسوارٍ منيعة. وصدرت الأوامر للجنود بشَنْق كلّ مَنْ يكذب حول الغرض الحقيقي وراء رغبته في دخول العاصمة.
أسرجَ المُلّا نَصْر الدِّين حمارَه وانطلقَ قاصداً العاصمة.
وعند إحدى البوابات، استوقفه حارسٌ وسأله عن الغرض وراء رغبته في الدخول إلى المدينة، وحذّره من أنّ الكذب قد يؤدّي به إلى الشنق.
فقال المُلّا نَصْر الدِّين بكلِّ هدوء: “هذا أمرٌ جيد، إذ إنّني أتيتُ إلى هنا لكي أُشنَق!”.
فقال الحارس مندهشاً: “إنّك كاذبٌ وسوف تُشنَق حتماً!”.
فأجابه المُلّا نَصْر الدِّين: “إذاً، أنتَ تَعلم أنّني نطقتُ بالصدق، ووجبَ بذلك ألَّا أُشنَق”.

أحمق في الظلام
أحمق في الظلام

أحمقٌ في الظلام!
في إحدى الأمسيات من ليالٍ حالكات، كان المُلّا نَصْر الدِّين يعود أدراجه إلى المنزل. الطريقُ كانت قصيرة جداً، لكن عند وصوله بدا عليه استياءٌ شديد، وأخذ يقول: “يا حسرتاه، يا ويلتاه”.
وصُودِفَ مرور أحد الشبّان بالقرب من منزله وسمعه يتحسَّر.
فسأله: “بالله عليك، قُلْ لي ما خطبُكَ يا مُلّا”.
فأجابه نَصْر الدِّين: “آه يا صديقي، يبدو أنّني أضعتُ مفاتيحَ منزلي. هلَّ ساعدتني في البحث عنها؟ أنا متأكّدٌ أنّها كانت في حوزتي عندما غادرتُ المقهى”.
فهبَّ الشابُ إلى مساعدة المُلّا نَصْر الدِّين في البحث عن مفاتيحه.
وجَهِدَ الشابُ في البحث هنا وهناك عن المفاتيح لكن لم يجد لها أثراً. ومن ثم نظر فوجدَ نَصْرَ الدِّين يبحث في بقعةٍ صغيرة يُضيئها مصباحٌ معلّق في الشارع.
فسأله الشابُ: أيُّها المُلّا، لماذا لا تبحث سوى في هذا المكان؟”.
فأجابه نَصْرُ الدِّين: “هل أنا أحمقٌ لأبحث في الظلام..!”.

العدل .. حسب نصر الدين
جادلَ أحدُ الأشخاص المُلّا نَصْر الدِّين، وقال له بعد نقاشٍ مستفيض: “دعنا نقذفُ قطعةَ نقودٍ ونرى مَنْ هو على حق؟”.
فسارع المُلّا نَصْر الدِّين وقَذَف قطعةَ نقودٍ في الهواء وقال مُستبقاً حُكمَ الشخص الآخر: “إن جاءت الطُرَّة لي فأنا الفائز، وإن كانت النَقْشَة لكَ فأنتَ الخاسر”!

لله في خلقِهِ شؤون!
وجدَ ولدان كيساً يحتوي على اثنتَي عشرة من الكرات الزجاجية الملوّنة التي يلعب بها الأولاد، واختلفا حول كيفية تقسيمها في ما بينهما، وأخيراً اتّفقا أن يحتكما إلى المُلّا نَصْر الدِّين.
وعندما طلبا منه أن يُقسِّم الكرات الزجاجية بالعدل بينهما، سألهما ما إذا كانا يرغبان بأن يقوم بتقسيمها بعدلٍ إنساني (أي مناصفة) أو استلهاماً لحكمةٍ ربّانية دون تساؤل منهما أو اعتراض وقد آثر الولدان بالطبع الخيارَ الثاني.
عندها قام المُلّا نَصْر الدِّين بعَدّ الكرات، وأعطى ثلاثاً منها للأول وتسعاً للثاني ..!!

إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب

حبيب أبو شهلا يروي قصة طريفة
عن معَّاز كفرتبنيت وموكب الرئيس

“إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب
وإذا قلّت المراعي بيخف الحليب”
هذا ما قاله راعي بلدة كفر تبنيت للوزير حبيب أبو شهلا في لقاء عابر على قارعة الطريق أصبح موضوع تداول وتندُّر في مجلس رئيس الجمهورية والوزراء.
سبب هذا القول أن قطيعاً من الماعز اعترض موكب رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري وصحبه دولة رئيس الوزراء رياض الصلح والأمير مجيد أرسلان وهم في طريقهم لزيارة الزعيم أحمد الأسعد في دارته بالطيبة أواخر الأربعينات. نزل الأستاذ أبو شهلا من السيارة وصاح بالراعي كي يُسرع بسوق قطيعه من أمام الموكب.
استهجن الرّاعي هذا التصرّف وصاح بوجهه قائلاً: مهلك يا أخي فهذه أرواح ويجب الرفق بها.
أجابه أبو شهلا هذا موكب فخامة الرئيس ولا يليق أن يتوقف. أسرع، أسرع بإبعاد هذه الماعز والأغنام عن الطريق..
ضحك الرّاعي وقال : من هو هذا الرئيس وعلى من؟؟
نرفز أبو شهلا وقال: هو رئيس الجمهورية ورئيسنا ورئيسك ورئيس كل الناس وما عليك سوى فتح الطريق وإفساح المجال!
هزّ الراعي برأسه وأجاب: عليه أن يتوقف قبل غيره لأنه رئيس الكل، وقُل له عن لساني أن مثله معنا ومع شعبه كمثلي مع قطيعي ..
اندهش أبو شهلا لفلسفة الرّاعي هذه وصراحة إجابته بعدما وجد فيها شيئاً من الحكمة، قال للراعي : ماذا تقصد بكلامك هذا؟
قال الراعي: كنت أسمع من جدي وأنا صغير كلاماً يعظني به قبل أن أسرح مع قطيعي فيقول : “إذا نام الراعي بيرعاها الذيب، وإذا قلّت المراعي بيشحّ الحليب.”
كذلك على رئيس البلاد أن يرعى جميع الناس سواسية، وإذا لم يكن ذلك فستفشل الرئاسة، ثم أدار بظهره بعدما نهر قطيعه.
هذا ما رواه الأستاذ أبو شهلا في ما بعد عن بلاغة راعي كفر تبنيت.
وبعد أن عاد الموكب الرئاسي إلى بيروت واجتمع مجلس الوزراء للتداول بشؤون المنطقة التي زارها والمشاريع التي وعدوا بها، توجه أبو شهلا إلى رئيس الجمهورية وسأله: “فخامة الرئيس ما الذي أثار إعجابكم من الخطب والأحاديث التي سمعتها سواء كان في زيارتكم لدار الطيبة أم لسرايا مرجعيون أم لسرايا حاصبيا أم سواها من الأماكن التي توقفتم عندها؟” أجاب الرئيس بصراحة: “إن مَثَل معاز كفر تبنيت الذي قاله لكم، هو الأبلغ والأشمل من جميع الخطب والأقوال، وسيبقى دائماً في البال.”
وتابع أبو شهلا بسؤال آخر: أيضاً ما الذي أعجبكم في طبيعة تلك البلاد؟
أجابه الرئيس، وكان بحقٍ أديب الرؤساء وأقواهم منطقاً وفصاحة، فقال: “في لبنان واديان مقدّسان وادي التيم ووادي قنوبين، وكلاهما متعة للعين ومسكن للنساك الصالحين. ولن أنسى مطلقاً وقفتنا قبالة مجرى نهر الحاصباني في ذلك الوادي الأشيب الأبر، يحرسه من الشرق جبل شاهق يعانق السماء كأنه أسد هصور أمام أكمة خضراء وارفة الظلال أغر”.
الوزير أبو شهلا بعدما أثار إعجابه هذا القول وهذا التشبيه، قال: “أرجو يا فخامة الرئيس أيضاً أن لا يغرُب عن بالكم أنها عرين الأهل والآباء والأجداد وأنه لم يمض على قدومنا إلى بيروت سوى ثمانين عاماً لا غير، ولتاريخه لم يزل العديد من الأعمام والأخوال والأقارب في تلك الديار، إذ أن معظم مسيحيي المصيطبة والمزرعة ومار الياس وبعض سكان الأشرفية هم من بلدات حاصبيا والكفير وميمس وما يجاورها”.
وأضاف أبو شهلا القول: “رجاءنا الوحيد هو مدّ يد العون إليهم وخصوصاً بلدتي ميمس عبر إيصال المياه الجارية إليها لأنها ورغم قربها من نبع الحاصباني يصح فيها قول الشاعر البدوي:
كالعيس في البيــداء يقتلها الظمــا
والمـــاء فــوق ظهورهـــا محمــــــول
وكان للوزير أبو شهلا فيما بعد أن جرت المياه إلى بلدته ولكن من نبع عين جفور وليس من نبع الحاصباني وهو الأقرب والأغزر.
المشهور عن المحامي أبو شهلا أنه سيد من أسياد المنابر وظريف من ظرفائها كونه مستحضراً لجميع القوانين ومصادرها وكذلك للطرائف النادرة وقد كان صاحب بداهة في استحضارها حسب كل موقف.
تسلم رئاسة مجلس النواب وكذلك عمل رئيساً لحكومة الإستقلال في بلدة بشامون لفترة وجيزة مع الرئيس صبري حمادة والأمير مجيد أرسلان، وكان لخطابه المثير الذي ألقاه من شرفة أحد بيوت بشامون، المركز المؤقت لحكومة الاستقلال، الأثر الكبير في اشتعال الثورة الوطنية ضد الإنتداب، والتصدّي للفرقة التي أتت لمحاصرتهم واستشهد آنذاك سعيد بو فخر الدين عند مدخل البلدة المذكورة قبل أن يتم الإفراج عن الحكومة الأصليّة من معتقلها في قلعة راشيا، وكانت تضم الرئيس الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي وعادل عسيران وسليم تقلا.
وفي يوم، وبصفته نائباً لرئيس مجلس النوّاب، طلب من أحد زملائه الجنوبيين أن يتكلم فإذا هو يغطّ في نوم عميق، فاستدار نحو الحاضرين وقال: زميلي يعبّر عن واقع حالنا والبلاغة في نومه ..
فضحك الجميع وعلا التصفيق مما جعل النائب الغافل يفيق من نومه مصفقاً مع الجميع دون أن يعلم ما سبب ذلك.
كان أبو شهلا يُصنّف رجال السياسة في لبنان إلى ثلاثة، فسألوه كيف ذلك؟!
قال: كان لأحدهم ثلاثة أبناء.
الأول يصدق دائماً في كل أقواله.
والثاني كاذبٌ دائماً في كل أقواله.
أما الثالث فمتقلبٌ حسب مزاجه ومصالحه.
الأول والثاني كان يعرف كيف يتعامل معهما.
أما الثالث، فكان يحار في كيفية التعامل معه. وكان يقصد أن السياسيين هم من الصنف الثالث الذي يحار المرء كيف يتعامل معهم.
عمل حبيب أبي شهلا محاميا لشركة التابلاين، وقد وصفه الأديب يوسف غانم في كتابه “مشاهير الرجال” بالقول: “الأستاذ أبو شهلا في وجهه معانٍ كثيرة كلها مدعاة للإفتتان والإعجاب، فمن إشراقٍ واستدارة وسعة جبين إلى نظرات حادّة، شوارد يتشطّى منها شرر الذكاء إلى إبتسامات كثيراً ما تتحول إلى الضحك والتطرب، فتُصوِّر لك ما في صاحبها من عذوبة ومرح واغتباط”.
مَثلٌ للثقافة العالية بين السياسيين الأوائل، فقد كان يحمل دكتوراة دولة في الحقوق من باريس، ومحامٍ بارع وخطيب مفوّه، وكاتب وأديب ومُحدّث طريف، وكان إلى أدبه المورق الزّاهر حسنُ التصرف بضروب الكلام، له في المجالس نواصي الحديث بطبعه المنصف فتحلو عنده النكتة، وينقاد إليه البيان فتسمعه وأنت معجب فيه مرتاح إلى نبراته، متعلق بعباراته وربما ازددت غبطة إذا جمعك وإياهُ مجلس للغبوق والإنس حين يصير الحديث لهواً وعبثاً.
وحقيقة الناظر إلى تمثاله أمام باحة الأونسكو، في بيروت، يقر ويلمس الكثير من هذا الوصف الجميل البديع الطروب.

حبيب أبي شهلا
حبيب أبي شهلا

الأمير توفيق أرسلان والشيخ سليم خير الدين
في زيارة موفقة للرئيس شارل دبّاس

“يا ليتكم طالبتم بالجمل كلِّه وليس بأُذُنِه”

ثورة 1925 ضدّ الفرنسيين التي اشتعلت في جبل العرب ما لبثت أن امتدت نيرانُها إلى لبنان مع قدوم مجموعة من قادة الثوّار من جبل العرب إلى جنوب لبنان. كان في طليعة هؤلاء زيد الأطرش شقيق قائد الثّورة سلطان باشا الأطرش وحمزة الدرويش وفؤاد سليم وشكيب وهّاب وسواهم. وقد وصل هؤلاء حاصبيّا بتاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1925، وحال وصولهم عقدوا الاجتماعات مع وجهاء حاصبيّا وخلَصوا إلى توزيع منشور سعى لطمأنة سكان المنطقة ولاسيّما المسيحيّين منهم إذ جاء فيه “إن قدوم الثّوار إلى هذه الدّيار ما هو سوى لإنقاذها من السّيطرة الأجنبية وأنهم قاموا بعملهم هذا باسم الوطن لا باسم طائفة دون أخرى، وأنهم يعتبرون أبناء الوطن جميعهم أخوة في النفس والمال والحرّيّة الشخصيّة، وعلى مبدأ رئيسي واحد: الدّين لله والوطن للجميع”.
لإتمام تلك الأهداف تألّفت لجنة كان الناطق باسمها المحامي نسيب أفندي غبريل المسيحي الأرثوذكسي، وهي بشكل حكومة مُصَغّرة، ثم كان بدء مهامها طرد الحامية الفرنسيّة المتواجدة في محلّة زغلة (محل دار الخليل حالياً) سلميّاً والبالغ عددهم نحو خمسين جنديّاً، وقد أوصلوهم إلى منطقة مناجم الحُمّر قرب الحاصباني بعد أن زوّدوهم بالمأكل والمشرب، ومن هنالك انتقل الجُند إلى مرجعيون بأمان.
بعد ذلك كان الثوار يُوَدّون تعزيز الأمن والأمان في منطقة حاصبيّا وراشَيّا. لكنّ عملاء القوّات المحتلة لجأوا إلى الدّسائس، وبذلك قرّروا طرد الحامية الفرنسيّة من راشيّا ومرجعيون وإبقاء وادي التّيْم بأكمله تحت سيطرتهم، غير أنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فبعد محاولتهم طرد الحامية الفرنسيّة من ثُكْنَة مَرجعيون دون التعرّض لأيِّ فريق من اللبنانيين، دخلت المخابرات الفرنسية على الخطّ، وعملت على افتعال حادثة طائفية كان الهدف منها تخويف المسيحيين من الدّروز بحيث يتعزّز شعورهم بأنّ فرنسا هي الحامية الوحيدة لهم. وبالفعل أرسلت القوات الفرنسيّة ثلاثة من عملائها وهم غطّاس كرم ونايف الحصان وخليل الجِزّيني، وقد أشار إلى تلك الحادثة الأديب سلام الرّاسي في أحد كتبه، وهو الخبير المعاصرُ لتلك الأحداث، إذْ ذَكَر بأنّ الثلاثة كَمَنوا للثوّار الذاهبين إلى مرجعيون في منطقة زيتون المغاريق قرب بلدة كوكبا. يومها كان كاهن البلدة قد دعا المجاهد حمزة الدرويش ورفاقه لاحتساء القهوة في منزله، وكان هدفه إظهار أنّ كوكبا وسكّانها بلدة مسالمة، وكانت أملاك القرية يومها بمجملها ملكاً لآل شمس في حاصبيّا. لكنّ أول عمل قام به عملاء القوّات الفرنسيّة هو إطلاقهم النار على الكاهن فأردَوْه قتيلاً.، ثم وَجّهوا رصاص بنادقهم نحو الثوّار السائرين على الطريق العام نحو مرجعيون فقتلوا ثلاثة منهم، اثنين من آل أبو دهن وآخرَ من آل شرف، وكان ما كان.. اعتقد الثوّار أنّ الرصاص أُطلق من داخل كوكبا، لذا هاجموها وأحرقوا عدداً من بيوتها وقتلوا 31 من شبانها.
بعد ذلك، ووفقا لما خطّطَته المخابرات الفرنسيّة، اعتُبِرَت تلك الحادثةُ مُبرِّراً لتدخُّل الجيش الفرنسي للقضاء على الثّورة بذريعة الدّفاع عن المسيحيين المُهَدّدين. وأرسلت القيادة الفرنسيّة بقوّاتها المتمثلة بجيش الشّرق (إحدى الفرق في الجيش الفرنسي) ومساندة الطّيران الحربيّ المرابط في مطار ريّاق العسكري. وبدأ القصف والهجوم، واستغرقت معارك حاصبيّا عدّة أيام، وبفعل القوّة الحاسمة للقوات الفرنسية وتسليحها الحديث اضطُرّ الثوّار إلى مغادرة بلداتهم، ثم كان دخول الجيش الفرنسيّ وأتباعه، فنُهِبت حاصبيّا وأحرقت، وهكذا كان حال شتّى قرى وادي التّيْم، وتشرّد الأهالي إلى الجليل والجولان وبلاد حوران لأكثر من عشرة أشهر. غير أنّه عند عودتهم إلى ديارهم لم تعمل السّلطات الرّسمية اللّبنانية على مساعدة العائدين لترميم منازلهم وممتلكاتهم، بل عَمَدَت فقط إلى دعم فئة مُعَيّنة بنت القصور والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر، وهي لم تزل ظاهرة للعيان إلى يومنا هذا في راشيا وحاصبيا ومرجعيون، بالإضافة إلى بناء الكنائس وسواها من دور العبادة، بينما لم يَنَل المواطنون الدّروز الّذين أُصيبوا أكثرَ من غيرهم تعويضات تُذكَر لتساعدَهم على إعادة بناء بيوتهم ودورهم التي احترق الكثير منها على يد الفرنسيين، كانت تلك السّلطات تعمل في حينها بإمرة القوّات الفرنسية.

الرئيس شارل دباس
الرئيس شارل دباس

مع تمادي الدّولة في سياسات التّمييز بين المواطنين طَفح الكيل وقرّر عدد من المُتنوّرين الدروز ووجهائهم التحرّك للطّلب من الدّولة إنصاف الجميع، والكفّ عن التّمييز بين مواطنيها. في تلك الأثناء كانت خلوات البيّاضة قد تعرّضت لعمليات حرق، وهبّ المشايخ وأعلام الطائفة يطالبون بأن تساهم الحكومة في إعادة بنائها وصرف الأموال لهذا الغرض، لأنّ عمليّة التّرميم كانت تتطلّب أموالاً تفوق طاقة النّاس على احتمالها.
الشيخ سليم قاسم خير الدين، الذي كان تاجراً يجلب بضاعته من بيروت كلّ ثلاثة أشهر، قرّر في إحدى رحلاته التجاريّة تلك إلى العاصمة أنْ يزور الأمير توفيق أرسلان، ويعرض عليه وضع المنطقة وخصوصاً خلوات البيّاضة وما آل آليه الأمر، ثم سأله أنْ يسمح له بأن يرافقه لمقابلة الرّئيس اللبناني آنذاك الرّئيس شارل دبّاس قائلاً:” عطوفة الأمير قد دبّت الغَيْرَة والاستغراب في نفوس الجميع، وهالنا أن نرى أنّ الكنائس والجوامع مُدّت يدُ العون إليها من قِبَل الدولة من حيث إعادة بنائها أو ترميمها، وأعتَقِدُ أنّ خزينة الدّولة للجميع!، ولهذا أليس من واجبنا أنْ نطالبها بالمساعدة على ترميم خلوات البيّاضة وسقف بنائها من جديد، إذ إن إمكانياتنا لا تسمح بذلك؟”
أجابه الأمير: “كيف يا شيخ أبو اسماعيل ستطلب من الدّولة ذلك وأنت تعلم أنّ المستشار الفرنسي هو الحاكم الفعلي، وطبعاً ستكون الإجابة سلبية وغير إيجابية، لأنّ المستشار سيرفض متذرِّعا بأنّكم حاربتم الدّولة الفرنسية وألحقتم الأذى بجنودها”
تبسّم الشيخ أبو اسماعيل وأجاب:” عطوفة الأمير، لكلِّ سؤال جواب، وكلّ ما أرجوه منكم أن تقبل عطوفتكم بمرافقتي لكم في زيارة رئيس البلاد، وعلى الله الاتكال”.
قال الأمير: “ ماذا في اعتقادكم أنّكم ستحصلون عليه من أموال؟”
أجاب الشّيخ: “إذا أعطَوْنا من الجمل أُذْنَه فهذا جزء يساعدنا يا عطوفة الأمير”.
وفي الوقت المحدّد من جانب رئاسة الجمهورية لاستقبال الأمير وصحبه، وعند مدخل القاعة في القصر الجمهوري لم يكُنْ من الأمير إلا أن طلب من الشيخ أبو اسماعيل أن يدخل أمامه فرفض الشيخ كُليّاً وأجاب:”عطوفة الأمير هذا لا يجوز والعين لا تعلو فوق الحاجب”.
تبسّم الأمير توفيق وقال:” لاعليك، أنتَ اْدخل كما طلبت منك وسترى القصد من ذلك”، وأخيراً أذعن الشيخ لرغبته ثم دخلا، وحيث أنّ البروتوكول الرّسمي يقضي بأن الداخل أولاً يجلس إلى جانب الرئيس، وبما أنه لا يوجد سوى كرسي واحد فقد أُجلس الشيخ إلى يمين الرئيس وجلس الأمير إلى جانبه.
ابتدأ الأمير بالحديث قائلاً: “ يا فخامة الرّئيس، الشيخ أبو اسماعيل قادم من حاصبيّا وباسمه وباسم مشايخ البيّاضة يطلبون من جانبكم المساعدة على إعادة بنائها لأن ذلك يفوق إمكاناتهم وخصوصاً أنّهم منهكون بتكاليف ترميم منازلهم”.
أجاب الرئيس:” هذا صعب، وربّما مستحيل يا عطوفة الأمير، فكيف ستساعد الدولة من حاربها وقتل جنودها وبعض المواطنين الأبرياء، وفوق هذا تعلمون لمن القرار اليوم، إذ ما من أمر يتمّ إلا بإذن من المستشار الفرنسي، وأعتقد أنّ الموافقة التي ترجونها من المستحيلات”.
آنذاك تَرَحْرَحَ الشيخ أبو اسماعيل في مقعده، ثم استأذن الأمير بالكلام وتوجّه إلى الرئيس شارل دبّاس بالقول:”فخامة الرّئيس، نعترف ونُقِرّ بأنّنا قد حاربنا الدولة المُنتدَبة -وليس دولتنا- وأنتم تعلمون أننا قوم نعشق الحريّة والكرامة، وأنّه لم يمضِ على تحرّرنا من الاستعمار التّركي أكثر من بضع سنوات، أمَا يكفي ذلك لكي نُستعمر من جديد؟ أمّا ما حدث في منطقتنا وخصوصاً حريق بلدة كوكبا وقتل كاهنها فهذا ولا شك من قبل عملاء، وليس للدّروز أيّة علاقة بذلك، كون البلدة المذكورة بحدّ ذاتها هي ملك لآل شمس زعماء المنطقة، والحكومة المنتدبة تعرف من المسبب وكيف تمّ ذلك، وفي النّهاية كنّا نحن الضّحيّة إذ أحرقت جميع بيوتنا وممتلكاتنا وأرزاقنا وعشنا مشرّدين نحو سنة كي يسمح لنا بالعودة. ويا فخامة الرئيس إذا أردتم مساعدتنا فليس ذلك بالمستحيل، وأرجو أنْ تنقل هذه العبارة وبالحرف إلى فخامة المستشار الفرنسي فتبلغه عن لساني ولسان بني معروف: “إن الدّولة هي بمثابة الأمّ لشعبها وإذا أخطأ الولد مع أمّه فهل تبقى حاقدة عليه إلى الأبد أم تصفح وتسامح مع مرور الزمن؟؟”.
ضحك الرئيس دبّاس طويلا ثم أجاب:”خيراً إنْ شاء الله”.
وهكذا، وبعد مدّة اتّصَلت دوائر القصر الجمهوري بالشيخ أبو اسماعيل، وطلبت إليه أن يحضر ويستلم مبلغ ثمانماية ليرة ذهبية وليرتين، وعندما أخبر الأمير توفيق بما حدث ضحك الأخير وقال له: “ياليتكم يا شيخ أبو اسماعيل طالبتم بالجمل كلّه وليس بأُذُنِه!”.
على أثر تلك المساعدة الماليّة الحكوميّة اشترت اللجنة المشرفة على أعمال خلوات البيّاضة بتلك الأموال أرضاً من السّهل، وقرب الطريق العام لصالح الخلوات، ولم تزل تلك الأرض المشتراة حينها تُعرف إلى اليوم بـ “أرض الحرام” لكونها اشتريت بمال الدولة الذي يعتبره المشايخ الملتزمون مالا حراما بسبب ظلم الدولة أو الحاكم، أما القيمة الحالية للأرض فأصبحت ربما توازي ملايين الدولارات، ويبقى الأجر عند الله لمن سعى للخير دون غاية أومِنّة.

ملا نصرالدين

حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن

مقالبُ ومواقفُ طريفة وعِبَرٌ منَ الحياة
لأشهرِ الحكماء السّاخرين عبرَ العُصور

الحلقة الثالثة

في هذه الحلقة الثّالثة من حكايات ملّا نصر الدّين تختارُ «الضّحى» باقةً من حكايا وقصص هذه الشّخصيّة الشّهيرة في الإرث الأخلاقي والشّعبيّ الشّرقيّ وتُترجمها للقارئ العربي عن اللّغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفيّ إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التّعليميّة، أدبيّاً وأخلاقيّاً وفلسفيّاً.

مسألة وقت
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحرثُ قطعةَ أرضٍ له حينما اعترضه صيّادٌ على صَهوة جواده.
قال الصّيّاد: “يا رجل! هل رأيتَ أرنباً يمرّ من هنا؟”
أجابه الخُجا: “نعم”.
فبادره الصيّاد قائلاً: “في أيّ اتّجاه ذهب؟”.
أشار الخُجا إلى الاتّجاه الذي توارى فيه الأرنب.
انطلقَ الرّجلُ بعيداً من دون أنْ ينطقَ بكلمة شكر، لكنّه سُرعان ما قفلَ عائداً بعد دقائق.
وقال: “لا أثرَ له! هل أنتَ متأكّدٌ أنّه ذهبَ في هذا الاتّجاه؟”.
فأجاب الخُجا: “أنا واثقٌ.  لقد ذهبَ في ذلك الاتّجاه منذ عامين”.
حمارُ الخُجا قلَّ نظيره!
أخذَ نَصْرُ الدِّين خُجا حمارَه إلى السّوق وباعه بثلاثين ديناراً.
وسُرعان ما قام الرّجلُ الذي اشتراه بطرحه في مزاد علنيّ.  وصاحَ بالحاضرين: “انظروا إلى هذا الحيوان الرّائع! هل شاهدتم أفضل منه؟ كم هو نظيفٌ، وكم هو قويٌّ!”.
وطفقَ يعُدّ مزايا الحيوان العديدة.  وما أن فرغَ من كلامه، حتى صاح أحدهم ودفع ثمن الحمار 40 ديناراً.  وعرضَ رجلٌ آخر خمسيناً، وثالثٌ خمسة وخمسين ديناراً. أمّا خُجا الذي كان يراقب ما يحدث، فقد ذُهِلَ للاهتمام الذي أبداه الجميع بالحمار.
وفكّر في نفسه:  “كم كنتُ غبياً عندما خِلتُه حيواناً عادياً.  إنّه حمارٌ فريدٌ قلَّ نظيره بين الحمير…”.
وسُرعان ما أدركَ أنّ صاحب الحمار قد تلقَّى عرضاً جيداً وكان على وشك إنهاء المزايدة.
قال ذلك الرّجل: “75 ديناراً “، وكرّرها ثانيةً: “75 ديناراً”.
فقال الخُجا: “80 ديناراً!”.
حتى النّار تخشى زوجة خُجا!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا يحاول إشعالَ النّار بنفخِ جَمْرِ فحمٍ كانت على وشك أن تنطفئ في الموقد.
لكنّه لم ينجح سوى في إثارة سحابة كثيفة من الدخان أدمعت عينيه.
فاستعانَ بغطاءِ رأسٍ لزوجته، ووضعه لمنع الدّخان من استثارة عينيه، وأخذَ ينفخُ مجدَّداً.
فتصاعدَ اللهبُ من الفحم هذه المرّة.
فقال خُجا: “آه! إذاً، أنتِ أيضاً تخشين زوجتي”.
حين لا ينفع لا نحوٌ ولا صرفُ!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا ينقل عالِمَ نَحْوٍ من ضفةِ نهرٍ إلى أُخرى، فَنَطقَ أمامه بما بدا له يُسيء للصّرف والنحو.
فسأله العالِم:  “ألم تدرس قواعد اللّغة قَطُّ؟”
أجابه خُجا: “لا”.
فقال العالِم وهو يرمقه بشفقة: “إذاً، لقد ضيَّعتَ نِصْفَ عمرك”.
وبعد هُنَيْهة، التفتَ خُجا إلى عالِم النّحو. وسأله: هل تعلّمتَ السّباحة يوماً؟”.
فأجابه العالِم: “لا”.
فقال خُجا: “إذاً، لقد ضيّعت عُمْرَكَ كلّه، إنّنا نَغْرق”.
خُجا .. بين القرنين!
كان لدى نَصْرُ الدِّين خُجا ثورٌ ذو قرنَيْن كبيرَين متباعدَين.
وغالباً ما كانت تتملّكه رغبةٌ مُلِحّة للجلوس على رأس الثّور بين قرنَيه، لكنّه لم يجرؤ على ذلك.
وذات يوم حدَثَ أنّ الثّور جثَمَ بالقرب منه.  وهنا اغتنمَ خُجا الفرصة وتمسَّكَ بقرنَي الثور جالساً بينهما.
وقال متباهياً أمام زوجته: “الآن أشعرُ كأنّي ملكٌ على عرشه!”.
أمّا الثور، الذي استفزّه الاختراق المفاجئ لخصوصيّته فقد استوى على قدمَيه بغضبٍ ونطحَ برأسه إلى الأمام عنيفاً.
فقُذِفَ الخُجا عالياً في الهواء، وسقطَ في حفرة.
وقال لزوجته التي هُرِعَت لنجدته: “لا عليكِ يا امرأة! إنّها ليست المرّة الأولى التي يفقد فيها ملكٌ عرشَه”.
خُجا .. بين القرنين
خُجا .. بين القرنين

القميصُ الورديّ أنقذ الخُجا
ذات يوم، هُرِعَ رجلان إلى منزل المُلّا نَصْرِ الدِّين خُجا.
فسألهما الخُجا: “ما خطبكما؟”.
فأجابا: “لقد دَهست عربةٌ يجرّها حصانٌ رجلاً يُشبهك في السوق. فظنّنا أنّه أنتَ، وجئنا لنُبلغ زوجتك”.
فسألهما خُجا: “هل كان بطولي؟”.
فقال الرّجلان: “نعم”.
ومن ثمّ سأل مجدداً: “هل كان ذا لحيةٍ مثلي؟”.
فأجابا: “نعم!”.
وسألهما أيضاً: “ما كان لونُ قميصهِ؟”.
فأجابا: “وردياً”.
فتنفّس الخُجا الصعداء مُبدِياً ارتياحه، وقال: “ورديّاً! إذاً، إنّه ليس أنا” فأنا لا أملكُ قميصاً وردياً!”.

خطُّ الخُجا
ذات يوم، جاءَ نَصْرَ الدِّين خُجا جارُه طالباً منه أن يكتب له رسالة.
فسأله الخُجا: “لمَنْ تريد أن تُرسِلها؟”.
ردّ الرجل: “إلى صديقي في بغداد”.
فقال الخُجا: “أنا آسف، لا وقتَ لديّ للذهاب إلى بغداد”.
فسأله جارُه مُتعجِّباً: “مَنْ يطلب منك الذّهاب إلى بغداد! كلّ ما أُريده منك هو أن تكتب لي رسالة!”.
فقال الخُجا: “أعلمُ ذلك. لكنّ خطَّ يدي سيِّئٌ جداً، لدرجة أنّ أحداً هناك لن يكون قادراً على قراءة خطي، وفي نهاية المطاف سيُرسِلون في طلبي لكي أقرأ الرّسالة بنفسي. وكما أخبرتك، ليس لديّ وقتٌ للذهاب إلى بغداد”.

ملّا نصر الدين يحلم بالثروة
ذات مساءٍ راودَ نَصْرَ الدِّين خُجا حُلُمٌ… أنّ رجلاً قرعَ بابَه وسأله إذا كان بإمكانه أن يمضي اللّيلَ في منزله. وقال له إنّه سيدفع لقاء ذلك 10 دنانير ذهباً.
وافقَ الخُجا على هذا العرض، واصطحبه إلى غرفته.
وفي الصّباح الباكر، شكرَ الرّجلُ الخُجا وأخذ يَعُدّ له النّقود الذّهبيّة.
فوصلَ إلى تسعة وتوقّف.
فصاح الخُجا: “لقد وعدتني بعشرة”، واستفاق.
فالتفتَ من حوله بحثاً عن الرجل فلم يجده.
فأغمض عينيه سريعاً، وقال: “حسناً، حسناً، أعطني التّسعة!”.

خُجا ومَشْوَرَةُ زوجته
ذات مساء، استيقظت زوجةُ نَصْر الدِّين خُجا فوجدته قلِقاً، يروح جيئةً وذهاباً على الشُّرفة وهو في حالةِ اضطرابٍ شديد.
فسألته: “ما خَطبُكَ؟”.
فأوضح لها الخُجا: “اقترضتُ مئةَ دينارٍ من جاري الشّهر الماضي، ووعدتُه أن أُعيد له المالَ في آخر يوم من هذا الشهر”.
“غداً هو آخر يوم من الشّهر، ولستُ أملك تلك النّقود. ولا أدري ماذا أفعل”.

الحل عند الخجا
الحل عند الخجا

قالت له زوجته: “وما عساكَ تفعل! اِذْهَب واخْبِر الرّجلَ أنّك غير قادرٍ على الدّفع!”.
أخذ خُجا بنصيحة زوجته.
وعندما عادَ من منزلِ جاره، بدا مرتاحاً وسعيداً. فسألته زوجتُه: كيف تقبّل الأمر؟”.
فقال الخُجا: “آه، حسناً، الآن هو الذي يروح جيئةً وذهاباً على شُرفته”.

الحلُّ عند الخُجا
في أحد الأيام التقى ملّا َنصْر الدِّين أحد الأصدقاء في الشّارع.
بدا الرجل قلِقاً، فسأله الخُجا: “ما الذي يُضايقك؟”.
فأجاب الرجل: “ينتابني حُلُمٌ سيّئٌ، فأنا كلّ مساءٍ أحلمُ بوحشٍ يختبئ تحت سريري. وعندما أستيقظ وأنظرُ هناك، لا أجدُ شيئاً. وبعد ذلك يجفوني النّوم. إنّني في طريقي الآن إلى منزل الطبيب. فهو يقول إنّه قادرٌ على شفائي، وذلك لقاء مئة دينار”.
فقال الخُجا متعجِّباً: “مئة دينار! بوسعي أنْ أُخلِّصَكَ من مشكلتك لقاء خمسة دنانير!”.
فالتقط الرّجل على الفور خمسة دنانير ونقَدَها إلى الخُجا.
وقال بلهفة: “الآن أخبرني ما الحلّ”.
قال الخُجا، وهو يضع النقودَ في محفظته: “العلاجُ بسيط، اِنْزع أرْجُلَ سريرك” وتأكّد عندها أنه لن يمكن لأي وحش أن يختبئ تحته.

خُجا الملك!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا غارقاً في تفكيره وهو يجتاز طريقاً بالقرب من قصر الملك، حينما اصطدمَ برَجُلٍ.
فاستشاط الرّجلُ غضباً، وبدأ يلعن الخُجا ويصيح بوجهه.
وقال بصوتٍ عالٍ: “هل تعلم مَنْ أنا؟ أنا مستشارُ الملك!”.
فقال الخُجا: “حسناً. أمّا أنا فالملكُ بعينه”.
فسأله الرجل: “ملكٌ؟ وأيُّ بلدٍ تحكُم؟”.
قال الخُجا: “إنّني أحكمُ نفسَي. فأنا أملكُ انفعالاتي. ولن تجدني أفقدُ أعصابي كما فعلتَ أنتَ للتوّ أبداً”.
فاعتذرَ الرّجلُ منه، وذهبَ في طريقه وهو يشعرُ بالخجل لما بدر منه.

جوابٌ كاوٍ كالخَلّ
ذات يوم، قال رجلٌ لنَصْرِ الدِّين خُجا: “سمعتُ أنّ لديكَ خَلّاً عمره أكثر من أربعين عاماً”.
قال الخُجا: “هذا صحيح”.
فسأله الرّجل: “هلَّا أعطيتني شيئاً منه؟”.
قال الخُجا: “لو اَنّني أعطيتُ خلّاً لكلِّ منْ يسألني، لَمَا تجاوزَ عمرُ ها الخَلّ أربعين يوماً”.

شِجارٌ وحَلوى!
تشاجرَ المُلّا نَصْرُ الدِّين ذات يوم مع زوجته. وصاحَ بوجهها حتى لم تعُد تتحمّل، فهربت إلى منزل جارهما.
تبعها المُلّا إلى بيت جاره، لكنّ الجيران تمكّنوا من تهدئة الزّوج الغاضب، وقدّموا له ولزوجته الشّاي وقطع الحلوى، للاحتفاء بالصّلح.
لكن ما أن عاد الخُجا إلى منزله مصطحباً زوجته حتى بادرها إلى الشّجار، ثم بدأ يصيح في وجهها.. عندها فتحَت الزّوجة البابَ مجدّداً وخرجت إلى الطّريق وهي غاضبة. في تلك اللّحظة لحق بها المُلّا ناصحاً إيّاها: “هذه المرّة، اذهَبِي إلى منزل الخبّاز، إنّه يصنعُ كعكاتٍ لذيذة”.

المُلّا أمام السّلطان
تسلَّل فيلُ السلطانِ إلى قرية المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وعاثَ فساداً في الحقول.
قرّر سُكّانُ القرية أخيراً تشكيل وفدٍ، والذّهاب إلى السّلطان بغية مطالبته بإبعاد فيله عن القرية.
وحيث إنّ المُلّا نَصْر الدِّين كان معروفاً من السّلطان، فقد سأله وفد الأهالي أن يتقدّمهم ويكون ناطقاً باسمهم.
وعندما وصلوا إلى القصر، أحسَّ القرويّون برهبةٍ من هيبة المكان وخانتهم شجاعتهم. وأخذوا واحداً تلو الآخر بالانسحاب من الوفد والانسلال بعيداً، فوجدَ الخُجا نفسَه في نهاية الأمر وحيداً جَزِعاً في حضرة السلطان.
فسأله السّلطانُ المُتَكدِّر المِزاج وبصوتٍ جَهْوَريّ: “حسناً، ماذا تريد يا نَصْر الدِّين؟”.
فقال المُلّا مُتلَعثِماً: “إنّ فِيلَكَ يسْرَح في قريتنا أيُّها السّلطان”.
فردَّ السلطانُ بصوتٍ هادر: “إذاً؟”.
قال المُلّا وهو يرتجف: “إذاً…، نحن، أقصدُ أنا، جئنا نُخبركَ أنّه يشعر بالوحدة … فرجاءً أرسِل له صاحبة!”.

الفَقرُ يُنقِذ نصرَ الدّين!
استُدعِيَ مُلّا نَصْر الدِّين يوماً أمام القاضي من قِبَل رجلٍ كان قد استدان منه مالاً.
وقال الدّائن للقاضي: “هذا الرّجلُ مَدين لي بـ 500 دينارٍ استحقّ سدادُها منذ فترة طويلة. وأنا أُناشد فَضيلتكم مطالبته بأنْ يدفع لي على الفَوْر، من دون أيّ تأخيرٍ إضافي”.
أقرَّ الخُجا قائلاً: “إنّي بالفعل مَدِينٌ للرّجل بهذا المال، وأعتزم أن أُعيده له. ولهذا فإنّني قرّرت أنْ أبيعَ بقرتي وحصاني إذا اقتضى الأمر، لكنّ ذلك سيستغرق وقتاً”.
قال الرّجلُ: “إنّه يكذب، فهو لا يملك بقرةً أو حصاناً أو أيَّ شيءٍ ذي قيمة. وقد عَلِمتُ أيضاً أنّه لا يملك حتى طعاماً في منزله!”.
فقال مُلّا نصر الدين: “بما أنّه يا فضيلة القاضي يعلم مدى فَقري المُدقِع، فكيف يتوقّع منّي أن أدفع له على الفَور”.
فصرَفَ القاضي النظرَ عن الدعوى.

الفقر ينقذ نصر الدين
الفقر ينقذ نصر الدين

أقاربُ الحمار
كان نَصْرُ الدِّين خُجا في طريقه إلى السّوق مُحمِّلاً حماره سلّة كبيرة ملأى بالخضار.
وفي منتصف الطّريق، توقّف الحمار فجأة. وحاول الخُجا جاهِداً دفْعَهُ قُدُماً لكنّ الحيوانَ لم يتحرّك قَيدَ أنمُلَة.
فأخذَ الخُجا بتأثيرِ الغضبِ واليأسِ يضربُ حمارَه بعصا.
وشرعَ الناسُ يتحلّقون من حوله.
وسأله أحدُهم: “لماذا تضرب هذا المخلوق الضّعيف؟”.
ونَهَرَه ثانٍ: “توقّف عن ضربه حالاً!”.
وقال ثالث: “إنّك رجلٌ غليظ القلب!”.
فرمقَ الخُجا حمارَه بنظرة إعجاب.
وقال: “لو كنتُ أعلمُ أنَّ لديكَ الكثيرَ من الأقارب يُدافِعُون عنك، لمَا كنتُ ضربتك قَطُّ”.
“أرى أنّك متحدِّرٌ من عائلة كبيرة ومتشدِّقة”.
فانسلَّ أولئك الذين وبّخوه بعيداً وهم مُحْبَطُون، فيما انصرفَ الحشدُ تاركاً الخُجا يتعامل مع حماره كما يحلو له.

عَيِّنَةٌ تكفي
سعى نَصْرُ الدِّين خُجا إلى بيع منزله، لكنْ عبثاً.
وفي أحد الأيّام، اقتلعَ حجرَ طُوبٍ من جدارٍ في منزله.
فسألته زوجته مُرتَعِدَة: “لماذا فعلتَ ذلك؟”.
قال نَصْرُ الدِّين: “يا لَحماقتك يا امرأة، وما أدراكِ ماذا أفعل؟ فَكَي يبيع المرءُ شيئاً، لا بُدّ له من أن يعرِض عَيِّنةً منه. وأقترِح أنْ أعرِضَ هذا الحجر كعيِّنة من منزلنا”.

ثورٌ يُسابِق الجياد!
تهيَّأ المُتنَافِسون على صَهواتِ جِيادهم للانطلاق في سباقٍ للخيول.
فجأةً، وصلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين خُجا على ظهرِ ثورٍ وطالبَ بالمشاركة في السباق.
فقال له المُنظِّمون: “هل جُنِنتَ؟ فما عسى لِثَورٍ أن يفعل أمام الجياد؟”.
فقال الخُجا: “تتحدّثون كذلك لأنّكم لا تعلمون شيئاً عن ثوري. فحينما كان عِجْلاً صغيراً، كان بإمكانه أن يعدو سريعاً كمُهر. والآن وقد كَبُر فلا بُدَّ أنّه يُضاهي الجيادَ خفةً وسرعة”.

هاتِ وأعطني الحليب!
ذات مساءٍ، أوقفَ رجلٌ يحمل وعاءً من الحليب المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وسط الشارع، وكشفَ له أنّه يشكو مشكلةً وطلبَ مشورَته.
فسأله الخُجا: “ما هي مشكلتك؟”.
أوضحَ الرجل: “مشكلتي هي أنّني على الرّغم من عدم احتسائي للخمر، أشعرُ بالثّمَل عندما أستيقظ صباحاً”.
سأله الخُجا وهو يرمقُ وعاءَ الحليبِ في يده: “ما الذي احتسيته ليلة أمس؟”.
أجاب: “حليباً”.
قال الخُجا: “تماماً كما ظننت. إنّه سبب المشكلة”.
فأجابه الرّجل مندهِشاً: “هل الحليبُ يُثمِل (أي هل يتسبب بالسُّكْر؟)”.
فأوضحَ له ملّا نصر الدين المشكلةَ على هذا النّحو: “تحتسي الحليبَ وتخلدُ إلى النّوم. وتتقلّب أثناء نومك. فيَمْخَضُ الحليب، ويتحوّل إلى زُبدة. ومن ثمّ تَمْخَضُ الزبدة، فتتحوّلُ إلى جُبْن. والجُبْن بدوره يتحوّل إلى دهون، ومن ثمّ إلى سُكَّر، والسُّكر يتخمّر ويتحوّل إلى ما يُسكِر. فلذلك تستيقظ في الصّباح ثمِلاً”.
فاحتارَ الرّجلُ وسأله: “ماذا عساي أفعل؟”.
قال الخُجا: “ببساطة، إيّاكَ وشربَ الحليب. هاتِ واعطني إيّاه”.
وانتزعَ نصر الدّين وعاءَ الحليبِ من يد الرّجل وسار بعيداً، تاركاً إيّاهُ وهو يُدمدِم ويهذر.

امتيازٌ من السّلطان!
عادَ نَصْرُ الدِّين خُجا إلى قريته من العاصمة، وتحلّق القرويّون من حوله لمعرفة ماذا حدَثَ معه هناك.
قال الخُجا: “هذه المرّة، أوَدُّ أنْ أقولَ فحسب إنّ السلطانَ تحدّث إليَّ”.
وانطلقَ بعض القرويّين ليُذيعوا هذا الخبر الرّائع.
أمّا منْ بقِيَ فقد سأله: “ماذا قال لك السّلطانُ؟ بالله عليك أخبرنا ماذا قال؟”.
فأجابَ الخُجا بهدوء: “ابتعد عن طريقي!”.
عمّت البُسطاءَ والسُّذجَ فرحةٌ غامرة، لقد سمِعَ الخُجا كلماتٍ نطقَ بها السّلطانُ بنفسه، إنّهم يُشاهِدون الآن الرّجلَ الذي حَظِيَ بهذا الشّرف العظيم..

مآثر و حكم