السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قراءة أفلاطونيّة صُوفِيّة لتاسُوعَات أفلوطين

«إِنّي ربّما خَلَوتُ بنفسي، وخَلَعتُ بَدَنِي، وصِرتُ كأنِّي جوهرٌ مُجرَّد بلا بَدَن، فأكونُ داخلاً في ذاتي راجِعاً إليها، خارجاً من سائر الأشياء، فأرى في ذاتي من الحُسْنِ والجَمال والبَهاء ما أبقى له باهتاً مُتعجّباً، فأعْلَم أنّي جزءٌ مِن أجزاء العالَم الأعلى الفاضِل الشريف…»، هذه التجربةُ الرُّوحيّة ذات البُعد الأفلاطوني هي ما نقله القدماءُ عن كتاب «أثولوجيا-الرُّبُوبيّة» ونَسَبُوه خطأً إلى أرسطو، وهو في الحقيقة مختارات باللغة العربية من كتاب «التاسُوعَات» (Enneads) للفيلسوف المصري-اليوناني أفلوطين (Plotinus) (القرن الثالث للميلاد)، الذي شاركَ مُعلِّمَه أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) (انظرْ العدد السابق من «الضّحى») في تأسيس مدرسة «الأفلاطونية المُحْدَثة»، ذاك الكتاب الذي جَمَعه تلميذُه فورفوريوس الصُّوري (Porphyry) في ست مجموعات تتألف كلٌّ منها من تسع مقالات.

وإذا ما وُسِمت هذه التجربة الرُّوحيّة بالبُعد الأفلاطوني ذلك أنّ مفاهيمَ أفلاطون في المُثُل وخلود النَّفْس و«الواحد» والفضيلة، والعدل والحب والخير والجَمال، قد تركت تأثيراً كبيراً لدى أفلوطين وتلامذتِه «الأفلاطونيين المُحْدَثين» من بعده. فقد حَرَص أفلوطين في مشواره الفلسفي الرُّوحي على تحليل المبادئ والفضائل الأفلاطونية الأساسية، حيث نجد تعاليم أفلاطون الأخلاقية، خصوصاً من مُحَاورات «فيدون» (Phaedo)، و«فايدروس» (Phaedrus)، و«الجمهورية» (Politeia)، و«المائدة» (Symposium) في صميم نظريات أفلوطين في تاسوعاته لا سيّما حول الفضيلة بكونها الصفة الجوهرية المُتَأصِّلة في النَّفْس البشريّة، وطَهَارة النَّفْس وصَفَائها في تَأمُّلِ المُثُلِ العُليا والحقائقِ الخالدة الأزلية وارتقائها نحو «العالَم الأعلى الشريف»، عالَم العقل الكونيّ «نوس» (Nous)، بحسب المفهوم الأفلاطوني.

وهناك إشارات إلى مُحَاورات ومبادئ أفلاطونية في جميع أعمال أفلوطين، وهو قد اعتمدَ «الصُّوفِيّةَ الرُّوحَانيّة الإصطِفَائيّة» (Eclectic Mysticism)، أي تلك التَّوفِيقيّة الرَّاقِيَة، لِمَا هو أَقدس وأرقَى في جميع التعاليم، وتَحدَّثَ عن «الحِكْمَة المُقَدَّسَة» (Theosophia) التي ثمة رموز وإشارات إليها لدى أفلاطون، وفي كُلّ التعاليم والأديان.

استِنَارة وجدانية

لكن كيف تغذّى أفلوطين على رحيق تعاليم أفلاطون التي هي جوهر فلسفته؟ قال فورفوريوس في كتابه «حول حياة أفلوطين وترتيب أعماله» إنّ شَغَف مُعَلِّمه بالفلسفة دَفَعَه للإستماع إلى العديد من محاضرات المُفَكِّرين في الإسكندرية لكنّه كان يعود حزيناً ومُحبَطاً إلى أنْ أرشَدَه صديقٌ إلى أمونيوس ساكاس، فَسُرَّ بمُحاضَراته أيما سرور: «هذا الرجل هو ما كنتُ أبحثُ عنه». فقد استمالَه بتعاليمِه عن النَّفْس وخُلودِها ورُقِّيَها و«التَأمُّل العقليّ» (theoria) الرُّوحاني، فَلَزَمَهُ أحدَ عشرَ عاماً، لينضمّ فيما بعد إلى حملة الإمبراطور الروماني غورديان الثالث (Gordian III) الفاشلة ضدّ الفُرْس أَمَلاً بتَقَصِّي أثر التعاليم الفارسية والهندية. وقال فورفوريوس إنّ أفلوطين «كان يَعْلَم الأسرارَ بَديهيّاً وتلقائياً من خلال استِنَارَتِه الوجدانية».

في الفترة الأخيرة من حياته، كَسَبَ أفلوطين احترامَ الإمبراطور الروماني غالينوس (Gallienus) وزوجته سالونيكا (Salonica)، وحاول إقناعه بإعادة إعمار مستوطنة مهجورة في «كامبانيا» (Campania) في إيطاليا لتكون مدينة للفلاسفة على أن تحمل اسم «مدينة أفلاطون» (Platonopolis) يعيش فيها السُّكّانُ وفق المبادئ والسُّنَنِ التي تَحدَّث عنها أفلاطون في مُحَاورة «القوانين» (Nómoi)، لكنّ الإمبراطور تراجع عن مَنْح هِبَة ماليّة لتمويل هذا الهدف المنشود لأسبابٍ لم يَطَّلِع عليها فورفوريوس، الذي نَقَل هذه المعلومات، غير أنّ صديقاً من أصل عربي اسمه زيثوس (Zethios) (زيد؟) وهبَه قبل وفاته جزءاً من ميراثه وقطعةَ أرضٍ ومنزلاً في «كامبانيا»، ذلك الذي قَضَى فيه آخر أيام حياته.
وكَتَبَ أفلوطين مادة «التاسوعات» على مدى 17 سنة، بدءاً من العام 253 ميلادي وحتى فترةٍ قصيرة سَبَقَت وفاته في العام 2070 ميلادي، وجَمَعها تلميذُه فورفوريوس، كما سبق القول، في مجموعاتٍ ست تتألّف كُلٌّ منها من تسع مقالات، ولهذا السبب سُمِّيَت «تاسوعات» (Enneads). ولم يكن أفلوطين قادراً على مراجعة نصوصه لشِحٍّ في نَظَرِه، فترك هذه المهمة وترتيبها لتلميذه فورفوريوس، الذي قام بدوره على أكمل وجه.

فورفوريوس الصُّوري

أنْ نصبح مُقدَّسين كالعالَم العُلُوي!

أضاء فورفوريوس الصُّوري على الفضائل الأفلاطونية كما شَرَحها أفلوطين في التاسوعتَين 1 و 2. وأشار إلى تدرُّجٍ رباعي للفضائل: الفضائل السياسيّة المُتَعلِّقة بالنِّطَاق العَمَلِي والمدني، والفضائل التطهِيريّة المُتَّصِلة بتَنقِية النَّفْس وصفائها وارتقائها من طينيّة الجسد، والفضائل النظرية المُتَعلِّقة بتأمُّل النَّفْس في المُثُل، ومن ثم تلك الفضائل الأرقى المختصّة بتأمُّل النَّفْس مباشرةً في عالَم «العقل الكونيَ» الشريف.

وصنَّف فورفوريوس المقالات التسع في المجموعة (التاسوعة) الأولى من «التاسوعات» بأنّها تختصّ بالأخلاقيات. فنظرية أفلوطين الأخلاقية تُناقَش في المجموعة الأولى، المقالة الثانية من «التاسوعات» تحت عنوان «الفضائل»، حيث يُحلِّل أفلوطين الفضائلَ الأساسية الأربع لدى أفلاطون: «الحِكْمَة العَمَلِيّة» (phrónēsis)، و«الشَّجَاعة» (andreía)، و«العَدَالة» (dikaiosýnē)، و«ضَبْط النَّفْس» (sōphrosýnē)، مُشدِّداً على طبيعة النَّفْس العقلانيّة والتأمُّلية. ويُضِيء أيضاً على أهمية الجَدَل المنطقي الحِواري (ديالكتيك) (Dialectic) لدى مُعلِّمه المُلهِم أفلاطون في ما يتعلّق بـ «التطهير العقلي للنَّفْس» (katharsis) وهدفه الإرتقاء بها.
وفي المقالة السادسة من المجموعة الأولى أيضاً من «التاسوعات» الموسومة بـ «حول الجَمَال»، يشير أفلوطين أيضاً إلى تلك الفضائل الأفلاطونية قائلاً: «فإنّه كما قيل في الأيام الخوالي، ضَبْط النَّفْس والشَّجَاعة والعدالة وكُلُّ فضيلة هي تنقيّةٌ وتطهير، وكذلك الحكمة بحدّ ذاتها… فضَبْط النَّفْسِ ما هو إلَّا النأي عن المُتَع الجسدية، والشجاعة هي عدم الخشية من الموت، وتكمن عظمة النَّفْس في التَرفُّع عن كُلّ تلك الأمور، فالحكمة هي نشاطٌ عقلي ينأى عن تلك الأشياء في الأدنى ويقود النَّفْس رقياً إلى تلك في الأعلى»، فأَرقى مَراقِي العدالة في النَّفْس لديه هو عروجها نحو العقل الأسمى.
ويفتتح أفلوطين المقالة الثانية «حول الفضائل» بسؤالٍ عن تحرُّر النَّفْس من الشُّرور في العالَم الدُّنيويّ: «بما أنّ تلك الشُّرور هي هنا، وباقية هنا بالضرورة، والنَّفْسُ تنشد الفرار من الشُّرور، فينبغي أن نفرّ من هنا، لكن كيف يكون هذا الفرار؟». لقد وجدَ أفلوطين الإجابة على سؤاله في مُحَاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) الأفلاطونية: «أَنْ نصبح قَدَر الإمكان مُقدَّسين كالعالَم العُلُوي»، ولا سبيل إلى هذا التماثُل إلَّا بفضيلة الحكمة، أي أسمى المبادئ في الكون.

الوَجْد الصُّوفي العِرْفَاني

أمّا من ناحية التجربة الرُّوحانيّة الفريدة لأفلوطين، فهي تُماثلُ الوَجْدَ الصُّوفي العِرْفاني، الذي هو بمثابة تأمُّلٍ عقليّ فِكْرِيّ رَاقٍ (Noetic ascent)، ترقى فيه النَّفْسُ الفاضِلَة المُتَعَالِيّة (Transcendental) إلى المَلأ الرُّوحاني العقلاني الأعلى، أولاً بطَهَارتها، ومن ثمّ بالإستغراق في حقيقتها (على خُطَى «إِعْرَفْ نَفْسَك»)، من ثمّ في «شُهُودها العِرفاني». ويشير أفلوطين في مقاربته الماورائية إلى إمكانية أن تَرتَقِي النَّفْس بهذا التأمُّل إلى أعلى مَراقِي عالَم المعقولات من دون محدودياتٍ، بل بصفائها وطهارتها وتأمَّلها في العُلُويات. فالفضائل بالنسبة إليه هي قوى من المعقولات موجودة في النَّفْس تستمدّ وجودَها من عالم العقل الأعلى، لذا تكون النَّفْس قادرة للعودة إلى عالَم المُثُل العقلية والتشبّه به. فهدفُ الإنسان الفاضل الحكيم إذاً هو أن يصبح أشبه بالعالَم العُلُوي، عالَم المعقولات المثالية، بصفائه ونقائه.
والفضيلةُ بالنسبة إليه «تُعَقلِن» النَّفْسَ «بجزئها الأعلى» في تأمُّلها الذاتي لعالَم المعقولات. فكُلُّ فضيلة لدى أفلوطين هي تنقيّةٌ وتطهير، وكُلُّ نَفْسٍ نقيّة تغدو كمبدأ المُثُل. فالنَّفْسُ الفاضلة ترتَقِي عقليّاً من دون الجسد إلى العالَم الأعلى الشريف، عالَم الخير والحَقّ والجَمَال.

أفلوطين

أفلوطين الأفلاطوني

وأمام هذا الحضور القوي لمثالية أفلاطون، أجرى الباحث دايفيد يونت (David Yount) مقارنةً بين «ماورائيات» (metaphysika) أفلاطون ومثيلتها لدى أفلوطين لا سيّما في المجموعة الأولى من تاسوعاته، حيث يُقارِن بين مفهوم «الواحد» في محاورة «بارمينيدس» (Parmenides) الأفلاطونية (انظرُ عدد «» رقم 31) و«الواحد» لدى أفلوطين (التاسوعة 1 المقالة 3، والتاسوعة 6 المقالة 5)، ومن ثمّ التَّماثُل بين «الواحد» و«الخير» لدى الفيلسوفَيْن. فأفلاطون يُؤكِّد في «الجمهورية» أنّ «الخير» أرقَى من كَينُونَة الوجود الماديّ (einai)، و«فوق كلِّ ماهية» (Ousia)، وذلك ما ردّده أفلوطين في أكثر من «تاسوعةٍ» له.

مدرسة «توبانغن»

تؤكّد مدرسةُ «توبانغن» (Tübingen) الفلسفية المُتخصِّصة بأفلاطون منذ خمسينات القرن الماضي، أنّ «ماورائيات» أفلوطين تُشبه إلى حَدٍّ كبير «العقائد غير المُدَوَّنة» لأفلاطون (راجِعْ العدد الأسبق من «الضّحى»)، التي أشار إليها أرسطو وألمحَ إليها تلامذةُ الأكاديمية الأوائل وعلى رأسهم سبيوسيبوس (Speusippus)، بما يُثبِت أنّ «الأفلاطونية المُحْدَثَة» (Neo-Platonism) هي قراءة في عقائد أفلاطون غير المُدَوَّنة التي كان ينقلها إلى الخاصة من تلامذته شَفَهِيّاً. وترى هذه المدرسة الفِكْرِيّة أنّ أفلوطين كان استمراراً لفِكْرٍ ماورائي إنّما بدأه أفلاطون وتَبَلوَر في مُحَاوراته واستمرّ مع نُخبْة تلامذته، ويُؤكِّد ذلك وجهة نَظَر أفلوطين بحدّ ذاته الذي شَدَّدَ على أنّه فحسب مُفَسِّرٌ مُخلِصٌ لعقائد أفلاطون، ولو على طريقته الخاصة.

لكنّ معظمَ الباحثين المُخَتصّين بفلسفة أفلوطين دأبَ على التَّغافُل عن تجربته الرُّوحانيّة الصُّوفِيّة أو أنّ هؤلاء قد أخفقوا في تفسيرها وفَهْم أعماقها – فطريقة أفلوطين في وَصْف هذه التجربة الفريدة والشُهود الوَجْدي لا سابِقَة لها في تاريخ الفلسفة اليونانية.

التأمُّل الجَمالي الشُّهُودي في «الواحد»

«الواحد» عند أفلوطين مُتَعالٍ فوق الكِثرة والصِّفات والأرقام والأعداد وفوق كُلّ كينونةٍ، يفيضُ بالموجودات، بدءاً من الفيض الأول «العقل-نوس» الذي يُقارِن مع الـ «ديميورج» (Demiurge) في مُحَاورة «تيماوس» (Timaeus) الأفلاطونية، الذي يتأمَّل (يَعِي) «الواحدَ» أبداً، وهذا «العقل الكونيّ» يحوي كُلّ شيء من واحدٍ رياضيّ وأزواجٍ وكِثْرة وتَعَدُّدية وإمكانات، مستودع المعقولات والموجودات المُمكِنَة والأفكار وبالتالي المُثُل، وغاية تأمُّل الكائنات هي الإتّحاد به.

وإنّما هذا الارتقاءُ الرُّوحاني نحو «الإتّحاد بالعقل» يتمُّ بالتأمُّل الجَمَالي الذي أضاء عليه أفلاطون في مُحَاورتِه «المائدة»، لا سيّما عند تَحدُّثه عن «سُلَّم الحُبّ الارتقائي» (Ladder of Love) تَدَرُّجاً في تأمُّل «الجَمَال»، وهو مِثالٌ من أرقَى المُثُل. وقد وَضَع أفلاطون وصف هذه التجربة الروحية على لسان الفيلسوفة ديوتيما (Diotima) في المُحَاورة المذكورة مع مراحل رقي ذلك السُّلم نحو «بحر الجَمَال»، أي إلى مِثَال «الجَمَال» (وأقصى الجَمال هو «أن نصبح ذلك الجَمال بحد ذاته» بحسب قوله)، ومن ثمّ إلى ما هو أعلى وأرقَى، أي مِثَال «الخير الأسمى» (كما في «الجمهورية»)، الهدف النهائي للإرتقاء «الشُّهُودي»، كمثل نورٍ يظهر مُشِعَّاً للنَّفْس المُتَرَقِيّة على هذا النحو، وهو أشبه بـ «الفَيْض العِرفاني» أو «التَّبَدِّي النُّوراني» كما لدى أهل التصوُّف. وثمة تَشابُه مع الفِكْر الأفلاطوني أيضاً في التاسوعة 5 – المقالة 8 تحت عنوان «حول الجَمَال المُدرَك بالعقل».

إذاً، التجربةُ الرُّوحيّة عند «الشيخ اليوناني» (كما أسماه العرب) أفلوطين هي انتقالٌ من المفهوم النظري في الفلسفة إلى المنحَى العَمَلِيّ التطبيقي في مسائل مثل «تطهير النَّفْس» وتزكيتها، والإرتقاء تأمُّلاً في عوالِمِ الحقيقةِ والوَجْدِ والذوقِ الرُّوحاني. وهذا المنحَى الدِّيني الصُّوفيّ عند أفلوطين يُشبِه «النَّشْوَة الرُّوحانية» (Ékstasis) أو الإنجذاب أو الوَجْد الصُّوفيّ في نوعٍ من «الرؤية أو الكَشْف الإِلهَامِي الحَدْسِي» (بما يُشبِه «وحدة الشُّهود» Intuitive unveiling vision)، فتَتَحقّق فضيلة كاملة في نَفْسِ مَنْ يَتَأمَّلها. كما لدى الفِكْر الصُّوفيّ الذي تأثَّر به لاحقاً واستقى من مَنَاهلِه.

انتقلت مسحةُ أفلوطين الصُّوفية ببُعْدِها الرُّوحِي الأفلاطوني إلى أوغسطين (Augustine) والأكويني (Aquinas) ومن ثمّ إلى الفلاسفة المُسلمين، الكندي والفارابي وابن سينا وغيرهم، بل نجدها حتى في إشراقات الأفلاطونيين المُحْدَثين العرب، وفي الشُّروحات على أخلاقيات أرسطو، وقد تركت تأثيراً عميقاً لدى أهل التصُّوف ومواجيدهم، وعند «إخوان الصفا»، ومَنْ جاء بَعدهم… ونقِفُ هنا!

في محراب القيم الإنسانيّة

الحمد لله والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد؛

فلم يكن الوجود الإنساني مجرّد صدفة فوق هذا الكوكب الصغير، كما أنّ القيم الإنسانيّة لم تكن لتتطوّر عبر العصور لولا وعي ُ الإنسان لهذا الوجود. فالإنسان بطبيعته يحبّ الحياة، لأنّه يدرك أبعادها الزمكانيّة، فهو قادر أن يعود بذاكرته إلى طفولته، أو أن يستشرف شيئا من المستقبل من خلال قوّة التخيل التي يتمتّع بها، وقادر أيضًا أن يتكيّف مع الظروف التي يعيش فيها مستفيدًا من تجاربه أو من تجارب غيره.

لذلك عندما نتكلّم عن هذا الوجود، فإننا نتكلّم عن القيم الإنسانيّة، فلولا وجود الإنسان لما كان ثمّة قيمة لهذا الكون الواسع الأرجاء، فبالإنسان تكتمل صورة الكون الذي وُجِد لأجله، فهو سرّ هذا الوجود المعنوي والماديّ علما ومعرفة ومسلكا وقدرة على التحليل والاستنباط. من أجله أنزلت الصحف على الأنبياء الكرام عليهم السلام، وتنزلت الكتب السماويّة على الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام، فكانت خارطة طريق للإنسانيّة جمعاء، بها تكتسب العلوم الروحانيّة، وعليها تدور معرفة النفوس الإنسانيّة القادرة على الاختيار بين ما هو نافع لها، وما هو ضارّ، ألم يقل الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾. وهذه الآية الكريمة شرحها السيّد الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي قدّس الله روحه، فقال: «اعلم أنّا إن حملنا النفس على الجسد فتسويتها تعديل أعضائها، وإن حملناها على القوّة المدبّرة فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيّلة والمفكّرة … ونفس إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة عالم المركبات رئاسة بالذات. وأمّا قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ فاعلم بأنّ المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكّاها الله تعالى وأصلحها من الكفر والعناد، وطهّرها من الغوايات الخارجة عن الطاعة. واعلم أنّ التزكية عبارة عن التطهير، أو عن الإنماء. وفي الآية قولان أحدهما أنّه قد أدرك مطلوبه من زكّى نفسه، بأن طهّرها بفعل الطاعة ومجانبة المعصية. والثاني قد أفلح من زكّاها الله».



ولمّا كانت النفس الإنسانيّة محور الوجود المعنويّ للإنسان كان لا بدّ من توصيفها حتّى ندرك ما لها وما عليها. قال أحد الحكماء اليونانيين: «النفس الشريفة جوهر يفعل وينفعل لأنها عاقلة عالمة حيّة قابلة للصور فهي تقبل الجهل كما تقبل العقل» والجهل بمعناه الروحي يعني الصور الحسيّة التي تكتسبها النفس باستغراقها في عالم المادة من حبّ المال، والانغماس في المخدرات والشهوات والجرائم، والابتعاد عن التربية الصالحة التي تعنى بتنمية الطاقات العقلية والأخلاقية، ولهذا قال السيّد المسيح عليه السلام: «لا تعبدوا ربيّن الله والمال». أمّا العقل فيعني الصور الروحانية من فضائل نفسية وعلوم دينية تعنى بصقل النفس وتسوقها إلى معرفة الله تعالى وطلب المقامات السنية كالتوبة والورع والفقر والزهد والصبر والتوكل والرضا والأحوالِ القلبية كالمراقبة والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس بالله والطمأنينة والمشاهدة واليقين، وهذه المقامات والأحوال هي التي تسكن في القلب فتطهره من أدران الذنوب وإليها أشار الله تعالى في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (78) النحل). يقول السيّد الأمير جمال الدين عبدالله التنوخي(ق) في بيان معنى هذه الآية الكريمة: «أشار الله تعالى إلى أنّ الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليًا من معرفة الأشياء كما قال: ﴿وَالله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ ثمّ تفضّل عليه بأعظم وأكمل نعمة بخلق السّمع والبصر والفؤاد فيه، كما قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ والمعنى أنّ الإنسانيّة لمّا كانت في أوّل الخلقة خالية من المعارف والعلوم بالله، فالله تعالى أعطاها هذه الحواس لتستفيد بها المعارف والعلوم».



وبعد أن يستعرض السيد الأمير أهمية الحواس والأفئدة يقول: «واعلم أنّه لمّا كان الإنسان موضوعًا في وسط العالم فلا يمكنه أن يعيش ويحفظ نفسه إلاّ بمخالطته للأجسام المحيطة يأخذ منها وسائط معيشته. وأعضاء الحواس والجهاز العصبي هما المعدّان لمخالطته لهذه الأجسام كي يعرف بهما ما ينفعه، وما لا ينفعه؛ فيسعى في تحصيل الأولى وترك الثانية. ولهذه المخالطة أسباب ووسائط موجودة فيه، فأهمّ أسباب احتياجاته والوسائطِ، أعضاءُ الحواس، وينبوع هذه الاحتياجات منوط بوجود الحياة وتدرك هذه الاحتياجات في الإنسان بمركز المخالطة، ومتى كانت الأجسامُ الأجنبيّة غيرَ مخالطةٍ للسطح الظاهر من الجسم، ومركزُ الإدراك جاهلاً، فلا ينتج عن ذلك إلا مشقة محيّرة لا يمكن التعبير عنها، تؤدّينا إلى سعي لا نعرف نهايته. وعدم إدراك المخ للأجسام يعبّر به عن المشقة المذكورة، وعن تنهد الشباب في سن البلوغ الذين تربوا في الجهل بعيدين عن الأشياء المرضية».

ثمّ إنّ السيد الأمير يستفيض في شرح دور القوتين الإلهامية والحافظة في رعاية الإنسان منذ ولادته حتى وصوله إلى سنّ الشباب ذاكرا أثرهما في حفظ وجوده وتنمية قدراته المعرفية، مبينا أنهما وإن كانتا قوتين أساسيتين لكنهما لا يكتملان إلاّ بالقوة الحاكمة التي بوجودها يستقيم العقل عند الإنسان، وباختلالها يختل العقل فيجنح الإنسان إلى إيذاء نفسه، مما يسبب له الانتحار فيقول قدس الله روحه: «أمّا القوة الحاكمة فهي القوة التي بها يقف الإنسان على حقيقة النِسبِ الموجودة بين أجزاء الشيء الواحد على انفراده أو بين جملة أشياء متقاربة وهي أهم القوى العقلية، إذ بواسطتها نكتسب جميع معارفنا. وأول درجة منها مقابلة شيء بشيء؛ وهذه المقابلة متى اشتدت وطالت مدة الاشتغال بها سميت بالتأمل، وتسلسل الأحكام المرتبطة ببعضها يسمى تعقلا، والعقل الذي هو أصل للصفات النفسانية وكمال الذهن ليس إلا القوة الحاكمة التي بها نقتدر على تمييز الخير من الشرّ في أفعالنا. ومن المعلوم أن الحكم المستقيم، وهو ما لا يكون إلا بمقابلات ونسب محققة الوجدان فيما بين المحكوم عليها، أمر مهم جدًا، فإذا حكمنا على جوهر سامّ بالجودة فقد سعينا بالمخاطرة في إتلاف الحياة. فإذن يكون هذا الحكم الفاسد الصادر منا ضارا بنا، وقس على هذا كل ما كان من الأحكام من هذا القبيل.»

إنّ إتلاف الحياة لا يقف عند موت الإنسان جسديًّا، بل يعني إتلاف القيم الإنسانيّة التي ذكرناها سابقًا أعني المقامات الروحيّة والأحوال القلبيّة. وإذا كان الناس كما ذكر أحد الحكماء أربع طبقات طبقة نباتية وطبقة حيوانيّة وطبقة إنسانيّة وطبقة ملائكية لا تبلغها عزائم المجتهدين، فالواجب إذن أن نسعى جاهدين للخروج من الطبقتين النباتية والحيوانيّة اللتين من طبعهما الأكل والشرب والغضب والشهوة والشراسة وحب الرئاسة واللهو وما شاكل ذلك، إلى الطبقة الإنسانيّة التي من طبعها العقل والحلم والتواضع واليقين والتفكّر في عظمة هذا الوجود، وإخلاص العبادة لله تعالى، لنصبح جديرين بالوقوف أمام محراب القيم الإنسانيّة، التي لولاها لأصبح الناس كما ورد في القرآن الكريم،﴿أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.

واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للّه الذي هدى فأهدى وعفا فأعفى وجاد فأجاد،
الحمدُ له في كلِّ بَدءٍ وختام، حمداً على الدوام، ما شقَّ فجرٌ وما ليلٌ دجا، وما غرّد طيرٌ وما طيرٌ شجا،
الحمدُ لله على نعمةٍ كنَّا عنها غافلين، وعلى بليَّةٍ كنَّا منها هاربين، حمداً لا منَّة فيه ولا كللا، ولا غنى عنه ولا بدَلا.

إخواني القرَّاء الأعزَّاء،

عامٌ جديد وعددٌ جديد، ورحلة العطاء تستمرُّ من محطةٍ إلى محطة، في توقٍ دائمٍ نحو الأفضل والأكمل، مع غروب شمسٍ وشروق شمس؛ نغوص في بحر التأمُّل ونحلِّق في فضاء التفكُّر، مدركين أنّه إذا كان الثبات على الإنجاز المحقَّق أفضل من التراجع عنه فإنَّ التقدُّم إلى الأمام هو الأفضل، سائلين أنفسَنا ومتسائلين ما إذا كان الموتُ نهايةً أم بداية، وهل أن كلَّ من مات مات وكلَّ من هو على قيد الحياة حيٌّ.

هي ذي المعادلة العادلة، فإمَّا موتٌ وإمَّا حياة، فماذا نختارُ؟ أليس من الأجدى والأجدر أن نرومَ الحياة في كل ما نفكِّر به أو نقولُه أو نفعلُه؟ لكي لا يكون أُفولُ سنة وحلولُ سنة سوى انتقال من أعلى إلى أعلى، وسوى استكمالٍ لمسيرة الترقّي والمسافرة في درجات الخير والمعرفة، وكي لا يكونَ الموتُ نهايةَ الحياةَ، بل الولادة الجديدة لرحلة الروح: «نموتُ لنحيا، عندنا الموتُ مولِدُ».

صحيحٌ أنّ أوضاعَ البلاد تسيرُ من صعبٍ إلى أصعب، ومن أزمةٍ إلى أزمات، عاماً بعد عام، في سنواتٍ سبعٍ عجافٍ أو أكثر أو أقل، لكنّنا وإن خسرنا ما هو غالٍ ونفيس لا نتذمّر ولا نتفجّع ولا نركن لليأس والإحباط:
«لكنَّنا نأبى التفجُّعَ كاليمامْ»،

ولا نرضى بأن يأخذنا الواقعُ المريرُ إلى الإحباط واليأس، بل نريدُه أن يدعوَنا إلى تعزيز الثقة بالله تعالى وإلى المزيد من شحذ الهمم والمثابرة وتحمُّل المسؤولية، أليس التاريخُ مليئاً بمحطاتٍ عديدةٍ معقَّدة ومراحلَ متكرّرة مؤلمة كمثل تلك التي نمرُّ بها اليوم، وقد تجاوزتها الشعوب وتخطّتها، ونهضت من كبوتها وتابعت مسيرة الحياة والتقدُّم، فرُبَّ كبوة أنتجت صحوة، ورُبَّ ضارَّة نافعة، أمَّا الواجب فيقضي بالإتّكال على الله وتثبيت الإيمان في القلوب وترسيخ اليقين في النفوس وعقد العزم على تجاوز المحن والصعاب، والتعاون في مواجهة الواقع بالتكيُّف معه وعدم الإستسلام أمام تحدياتِه وبذل الجهد للنهوض ومتابعة السير إلى الأمام.

رسالتي إلى إخواني وأبنائي الموحِّدين أولاً أنِ ارجِعوا إلى الآية الكريمة القائلة:

«واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا»،

وكونوا معاً قلباً نابضاً بالمحبة وفكراً طامحاً للخير ويداً عاملة بجدٍّ واجتهاد، غنيُّكم سخيٌّ كريم وفقيرُكم متعفِّفٌ قانع، شبابٌ لا يعرف الخمول والكسل، وكهولةٌ لا تتوانى عن العطاء والنصح والتوجيه. حذِّروا بعضكم بعضاً واحذروا من أن تتسلَّل إلى بيوتِكم ومجتمعكم الآفات القاتلة وأن تجرفكم التيارات الفاسدة، فخطر تلك الآفات والتيارات أشدُّ تأثيراً من خطر الحروب وأخطار المجاعة، إذ لتلك دروعٌ تُصَدُّ بها وملاجئ تقي من أهوالِها وحِيَلٌ ووسائلُ تحمي منها، ولكنَّ مجاعة الأرواح ومخاطرَ الآفات الفكرية والقلبية والروحية والأخلاقية تخترق الدروع والحصون والملاجئ ما لم يكن هناك رادعٌ من إيمان ووازعٌ من قِيم وحارسٌ من تربية صالحة وثقافةٍ رفيعة وإرادةٍ صلبة لا تقوى عليها الإغراءاتُ ولا ينالُ منها تهديدٌ أو وعيد، ولا ترهيبٌ ولا ترغيب.

ورسالتي إلى اللبنانيين جميعاً؛ مسؤولين ومواطنين، أنِ ارتقوا بلبنانيتكم إلى مستوى المواطَنة الحقَّة، لتكونوا موحَّدين غير متفرّقين، متعاونين ومتّحدين لإنقاذ البلاد من الفراغ الدستوري والشلل الإداري والإنهيار المالي والعدوان الإسرائيلي الجاري، اصغوا لصوت الحكمة في عقولكم ولنبْض الأخوَّة والمحبة والرحمة في قلوبِكم، فالمهمُّ وحدتُكم وولاؤكم الخالص للوطن، فهذ هو أمضى سلاحٍ لمحاربة العجز والفساد والترهُّل والإعتداء الخارجي على البلاد، فكلُّ المشاكل والتحديات قابلة للحلّ وللمواجهة إذا ما كنتم أقوياء في وحدتكم وصادقين في ولائكم، أمَّا إذا كان الخلل موجوداً في ذلك فهو إذاً في أساس وطنكم، وإذا ضعف الأساس يُخشى على البناء من السقوط، وهذا ما لن يحصل، بعونه تعالى، طالما أنّ هناك حكماء وعقلاء ووطنيين أصيلين من كل المذاهب والقوى السياسية والاجتماعية والروحية اللبنانية.

وما بين عددٍ وعدد من «الضّحى»، كي لا نقول ما بين عامٍ وعام، أملٌ يتجدَّدُ وعملٌ يتضاعفُ، علّ العمل يحقِّق الأمل، فيتزيَّن العدد القادم بنبأٍ مفرحٍ وصورٍ مبشِّرة بالخير لرئيسٍ جامعٍ مقتدر ولقادةٍ ومسؤولين يملؤون الفراغ في المواقعَ العسكرية والأمنية والإدارية فتنتظم مسيرة الدولة وينتصر لبنان بأبنائه ومؤسساته، وتحلو المعايدةُ إذّاك والقول: «كلُّ عام وأنتم بخير».

بعد 150 سنة من الحروب الأهلية العبثية: “الجبل” نحو المزيد من النضج والعقلانية!

شكلت زيارة سيّد صرح بكركي نيافة الكاردينال الراعي إلى الجبل نهار الجمعة في 8 أيلول 2023، إحياء للذكرى الثانية والعشرين لـ «مصالحة الجبل» التي رعاها مثلث الرحمات البطريرك صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق، الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط، حدثاً أيجابياً استثنائياً وسط لوحة غرائبية (محزنة) سوداء تحيط بلبنان، منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.

زيارة غبطة البطريرك تلك، من ألفها إلى يائها، في تفاصيلها كافة، (من استقبال سماحة شيخ العقل له في شانيه، إلى الباروك، فبيت الدين فبعقلين، ثم المختارة، والتي غطّتها «الضحى» بالتفصيل في عدده الأخير) تستحق أن نعتبرها الذروة في تطور العلاقة البينية بين مكوّنين رئيسيين في جبل لبنان التاريخي، ومؤسسين، بين آخرين، للكيان اللبناني الحديث. الزيارة هي كذلك، في رأينا، لأسباب عدّة باتت معروفة ومكرورة.
ما هو أكثر أهمية استخلاص الدروس الضرورية، المرّة قبل الحلوة، في العلاقة «الدرامية» المتقلّبة بين مكوّني الجبل الأساسيين. ما الذي جعلهما ينخرطان من غير هوادة في دورات عنف متبادلة المرّة تلو المرّة، طوال 150 سنة؟ وما الذي يجعلهما في آن يكتبان معاً في أحايين أخرى صفحات مضيئة من الوحدة في الجبل والوطن، وبخاصة حين يتعلق الأمر بالسيادة الوطنية؟ فسلام الوطن، إلى حد كبير، من السلام بين مكوّني الجبل الأساسيين؛ تماماً كما أن سلام الجبل وازدهاره، من سلام لبنان بأسره، ووحدة بنيه، وازدهار اقتصاده.

في موضوعنا، وباختصار، هل من قوانين «خلدونية» يمكن استخلاصها من العلاقة الدرزية – المارونية المضطربة في الجبل طوال 150 سنة؟ هل من قوانين تفسّر فترات الاضطراب والحرب بينهما؟ وقوانين أخرى تفسر فترات الجيرة والوئام والسلام؟

للجزء الأول من المعادلة (حقبات الاضطراب والحرب)، تتسم الخلاصة التي انتهت إليها المؤرخة المتمكنة ليلى طرزي في الفصل الأخير من عملها التوثيقي «الحرب الأهلية في دمشق ولبنان 1860» (صدر سنة 1996)، وهي تقارن حرب 1860 بحرب 1975-1989، بالكثير من الدقة التاريخية والمنطق. تقول المؤرخة طرزي أن عاملين حاسمين كانا الأكثر أهمية في صنع الحربين أعلاه، وفي وسعهما صنع كل الحروب المشابهة الأخرى، وهما: فقدان التوازن والعدالة في الداخل، والتدخل الإقليمي أوالخارجي المنتظر على الدوام الفرصة والذريعة للدخول والسيطرة. ففي حرب 1860 كان التوازن في جبل لبنان قد اختل بشكل متصاعد وسريع منذ سنة 1824: إعدام بشير جنبلاط بدسيسة من بشير الثاني ووالي عكا، ثم تلا ذلك إبعاد الملّاكين الدروز الكبار إلى حوران ومصادرة أراضيهم وبيعها أو تقديمها لأتباع بشير الثاني وإغراق الدروز بالضرائب، وصولاً إلى ضريبة «الشاشية» على قماش عمائم مشايخ الدين، ما قاد إلى فقدان التوازن والعدالة وعلى نحو متصاعد حتى 1840، تاريخ عودة المُبعدين الدروز واصطدامهم بملاّكي الأراضي الجدد. وتعاظم عدم التوازن ذاك في كل شأن، ما أوصل المجابهة الدرزية المارونية في جبل لبنان عشية 1859-1860 درجة الغليان ثم الانفجار. وفي الشق الخارجي من المعادلة هذه، أفاد الأتراك من جهة والفرنسيون من جهة أخرى من الاضطراب الداخلي ذاك للدخول بقوة إلى الجبل بذريعة حماية المسيحيين (عنوان الحملة الفرنسية العسكرية لتسعة أشهر، أيلول 1860-حزيران 1861) كما حماية مصالح الدولة العثمانية (عنوان التدخل التركي المقابل).

عاملا التأزم الداخلي (فقدان التوازن والعدالة من أوجه عدّة، والاستثمار الخارجي للتأزم الداخلي من جهة ثانية)، سيستمران في قلب كل حرب أهلية في الجبل، وبخاصة بين الدروز والموارنة، لمئة وخمسين سنة (1840-1990). والحرب الأهلية الطويلة تلك هي من دون شك أحد أبرز الأمثلة التاريخية على صحة قانون المؤرخة طرزي. الفئوية وفقدان العدالة (مطلب المسلمين بين 1969 و1979) من جهة، والخوف على مستقبل المسيحيين ( بنتيجة الخلل الديمغرافي والانتشار الفلسطيني الكثيف والفوضوي) كانا في صلب اندفاع المسلمين والمسيحيين معاً للحرب الأهلية في نيسان 1975. وسرعان ما جلب التأزم الداخلي التدخل الخارجي الصريح (السوري والاسرائيلي، وسواهما على نحو أقل علانية وصراحة).

العاملان أعلاه، وفق المؤرخة طرزي، يفسّران كل حرب أهلية حدثت في جبل لبنان، وبخاصة بين الدروز والموارنة طوال 150 سنة (1840-1990).

وبالمقابل هل من «قوانين» للسلم بين الجماعتين، الدرزية والمارونية؟ وهل اكتشف الدروز والموارنة حديثاً ، أي منذ سنة 2001، تاريخ مصالحة الجبل التي أسس لها ورعاها الراحل الكاردينال صفير والأستاذ وليد جنبلاط، «مفاتيح» العيش الواحد في المكان الجغرافي نفسه، بسلام ووئام وحرية؟ ترسيخ العيش الواحد في الجبل اللبناني، مهمة سياسية وتنموية في الآن نفسه، إذ الكثير من اضطرابات الجبل طوال 150 سنة إنما كان سبباه الحصريين: اللاتوازن التنموي بل فقدان التنمية في أجزاء كبيرة منه من جهة، والتدخلات السياسية الخارجية من جهة ثانية. وهو ما أسميناه مفاتيح نجاح العيش الواحد وترسيخه.

المفتاح الأول لنجاح العيش الواحد وديمومته بسلام ووئام وحرية بين المجموعتين تلك (بمواصفات السلام والوئام والحرية) سياسي ويجب أن تتأتى دستورياً من الدولة ومؤسساتها الراعية لمصالح مواطنيها أفراداً وجماعات. لكن استقالة الدولة من وظائفها الأساسية، نقل الرعاية اللصيقة تلك إلى قطبين أساسيين: الزعامة السياسية الأبرز لدى الدروز (المختارة)، من جهة، والمرجعية الروحية الأعلى لدى الموارنة والمسيحيين عموماً (بكركي)، من جهة ثانية.

المفتاح الثاني وطني، وهو أن حال السلام في الجبل ووحدة بنيه انعكاس لحال السلام في لبنان والوحدة الوطنية فيه. وبمقدار ما يسهم السلام في الجبل في السلام الوطني الشامل، كذلك في وسع حال السلام الوطني المريح أن يؤسس للسلم الداخلي في الجبل ويمنحه باستمرار أسباب القوة والديمومة، ما ينزع عن العلاقة أعلاه تهمة الثنائية.

المفتاح الثالث اقتصادي، إذ لا قاعدة صلبة لسلام مستدام حين يجري تهميش الجبل وابنائه اقتصادياً وتنموياً. تتضمن القاعدة الاقتصادية المطلوبة للجبل، والتي في وسعها ضمانة العيش الواحد، توفّر خدمات الدولة الأساسية، وبخاصة ما اتصل بتعزيز العمل البلدي وتحفيز حضور الوزارات والمصالح المستقلة والإفادة من الشراكات الدولية، كذلك أعمال التدريب والتأهيل الضرورية.

المفتاح الرابع تنموي، أيضاً، وهو ضرورة قيام القطاع الخاص بدوره في التنمية الشاملة لبلدات الجبل، (ومن ضمنها كونتوارات إقراض زراعي وتجاري وصناعي صغيرة منتشرة في البلدات الكبيرة)، فتخدم بين أغراض تنموية عدة بقاء سكان الجبل في قراهم على وجه الخصوص.

المفتاح الخامس اجتماعي، وهو توفر الخدمات التربوية والصحية والرياضية والشبابية في البلدات الكبيرة، وقيام مجالس أهلية ترعى الأنشطة تلك، إضافة إلى قيام مؤسسات الدولة بواجباتها.

المفتاح السادس سياسي، وهو توفر مظلة سياسية حريصة على السلم الأهلي في الجبل فتُقلع عن استخدام مكونات الجبل الدينية وقوداً لأي مشروع سياسي فئوي.

لا يخفى بالتأكيد ما للعامل الإقليمي من دور (فاعل)، سلبي في الغالب، في انتظام الحياة الواحدة في الجبل، أو اضطرابها. لكنه عامل لا سيطرة للبنانيين عليه.

يبقى أن زيارة غبطة البطريرك الراعي للجبل، والحفاوة الواسعة، الأهلية والسياسية، التي لقيها في كل محطة من محطاتها، هي خطوة واسعة في الاتجاه التاريخي الصحيح؛ وهي تشي في كل تفصيل من تفاصيلها أن العلاقة الدرزية -المسيحية (والمارونية على وجه الخصوص) بلغت درجة النضوج. الخطوة الكبرى أعلاه لا تبني وحدها حال السلم الأهلي الداخلي المستدام، لكنها فتحت الباب واسعاً في الاتجاه الصحيح: وحدة الجبل الراسخة جوهر وحدة الوطن الراسخة.

الضحى تواكب مأساة غزّة

يخرج هذا العدد من «الضّحى» (العدد 40)، وفي أعلى جدول اهتمامات القارىء، و«الضّحى»، ما حدث، ويحدث (حتى دخول العدد المطبعة) ما لم يكن في الحسبان: عملية 7 تشرين أول للمقاومين الفلسطينيين داخل ما يسمّى «غلاف غزة»، وهو مجموع المستوطنات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزّة والتي كانت اقتطعت منه بنتيجة حرب حزيران، 1967، وما تلاها.

كنّا نخطط في «الضّحى» لاستئناف ما انتهت عنده زيارة غبطة البطريرك الراعي للجبل في الثامن من أيلول 2023، وبخاصة ما اتّصل بإطلاق مشاريع التنمية في قرى العودة، ليستفيد منها العائد والمقيم، ولتكون بعض المطلوب لترسيخ أبناء الرّيف في قراهم، فلا يجبرون إلى الهجرة غير مرة، إلى بيروت ومدن الساحل، أو إلى خارج البلاد، فيفرغ الجبل من طاقاته البشرية، وتُحرمُ أرضه المعطاء من أنيسٍ وجليسٍ ومُحبٍ تآخى وأرضه الطيبة لعقود وسنوات، ثمّ وجد نفسه ودون تصميمٍ منه مجبراً على الرحيل، تحت ضغط الحاجة المادية (المتضخّمة هذه الأيام على نحو لم يسبق له مثيل). لكنّ الواقع المستجد تجاوز ذلك. وهو ما شغل أذهان مسؤولي «الضّحى» وهم يخططون للعدد 40.

وعليه، سيجد القارىء أنّ العدد الجديد هذا، وإلى التحقيقات والأبواب الأخلاقية والعرفانية والتربوية والثقافية، يغطّي ما أمكن أحداث قطاع غزّة، والعدوان الإسرائيلي الوحشي على شعبها، كما أثّر ذلك في أطفالهم على وجه الخصوص (والذين عانوا ما لم يعانه أطفالٌ في العالم، إلى الحد الذي جعل مسؤولين دوليين يرفعون الصوت: إنّها حرب إبادة ضد الأطفال!).

وبعد، فنحن نأمل أن يجد القارىء في العدد هذا الأنيق شكلاً الغني مضموناً، وهو يضيفه إلى مكتبته، من التنوع ما يبرر اعتبار «الضّحى» مجلة المجتمع بكل اختصاصاته وشرائحه، بل مجلة الأسرة بأكملها بكل ثقة!

ولا يفوتنا أخيراً، باسم إدارة «الضّحى»، معايدة القراء، في لبنان والخارج، بعيدي الميلاد ورأس السنة الميلادية، راجين لقرائنا، وعائلاتهم، ولوطننا، وسائر الأوطان العربية، عاماً جديداً تتحقق فيه طموحاتهم، وتنحسرُ فيه الغمّة عن شعبنا اللبناني، والشعوب العربية كافة، وعن أشقائنا المظلومين في قطاع غزّة.

مع ترحيب «الضّحى» بكل الملاحظات والإقتراحات التي ربما رغب القرّاء بتسجيلها.

أحداث غزّة فضحت الدول الديمقراطية… ليس هذا هو الغرب الذي نعرفه
الإنتهاك الصريح للقوانين الدولية

شكَّلت الأحداث المأساوية الأليمة التي حصلت في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي الضفة الغربية في الربع الأخير من العام 2023؛ امتحاناً في غاية القسوة للديمقراطيات الغربية، وللدول الكبرى الأخرى. غالبية هذه الدول سقطت في الإمتحان، وبدت على واقعة نقيض مع ما تُعلنهُ، وهي تُمارس سياسة الكيل بمكيالين، حيث تقف الى جانب المُعتدي وتضطهد صاحب الحق استناداً إلى زبائنية مصلحية أو عقائدية غير مبررة. والمؤسف أن هذه الدول تنادي بإحترام حقوق الإنسان، وتطالب بالإلتزام بالقانون الدولي وبمعايير المساواة والرأفة والعدالة، وبحق الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية او العرقية او القومية او القارية؛ بالحياة وبالحفاظ على تراثها الثقافي والتاريخي، وبالعيش الكريم محفوظي السلامة الجسدية مع مُوجب أن يتأمن لهم سُبل الإستمرار.

غالبية حكومات الدول الغربية الكبرى – لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا – أشهرت انحيازاً غريباً الى جانب العدوان الوحشي غير المسبوق الذي شنَّته قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، ولاقى موقف هذه الدول استهجاناً لدى مئات الملايين من الناس الذين شاهدوا القتل العَمد للأطفال وللنساء وللعجزة، ورأوا الدمار والخراب الذي طال المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومنازل المدنيين، من دون أن يكون هناك أي مبرر لإستهداف هؤلاء العُزَّل الذين لا ناقة لهم بما جرى ولا جمل، بشهادة الهيئات المحايدة التابعة للأمم المتحدة والجمعيات الإنسانية الأخرى، الذين أعلنوا جهاراً: أن الذي حصل في قطاع غزة لم يشهد له التاريخ مثيلاً من قبل، حيث قُتل المرضى على أسرتهم عمداً، وتمَّ ترك الأطفال والنساء من دون طعامٍ ولا شراب ولا مأوى لأيام، كما بقيت جثث الشهداء على الأرض وتحت الأنقاض لمدة طويلة، ولم يتمكن المعنيون من دفنها وفق الأصول والتقاليد المرعية بسبب القصف العشوائي واطلاق النار على فرق الإسعاف الصحية وعلى مجموعات المتطوعين للقيام بالأعمال الإنسانية.

الدعاية الصهيونية سارعت الى تعميم مشاهد مُزورة وغير صحيحة عن عمليات ذبح للأطفال، قام بها المقاومون الفلسطينيون ضد مدنيين يقطنون في مناطق محتلة في محيط قطاع غزة، او فيما يسمى «بغلاف غزة»، وقد يكون هؤلاء المقاومين تجاوزوا حدود قواعد المقاومة في عملياتهم المشروعة التي حصلت ضد مقرَّات عسكرية كان فيها مدنيين، او أن ذُعر قوات الاحتلال الإسرائيلي مما جرى ليلة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ أدى الى سقوط عدد من الإسرائيليين غير العسكريين في المواجهة. لكن الدعاية الغربية التي تعاطفت مباشرةً مع رواية المحتلين؛ تجاهلت كل المعطيات المحيطة بالحدث، وتعامت عن كون ما حصل مقاومة مشروعة تقرُّها القوانين الدولية لفلسطينيين طُردوا من أرضهم، وهم يعيشون في سجنٍ مُطبق داخل جدران مُحكمة بناها الاحتلال الإسرائيلي، وحرم أصحاب الأرض من العيش بكرامة في وطنهم الأم فلسطين الذي ورثوه عن أجدادهم منذ مئات السنيين كما كل شعوب الأرض.

ردة فعل العدوان الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر؛ لم تكُن متناسبة مع حجم العملية البطولية للفلسطينيين، بل كانت حرب إبادة فعلية طالت الحجر والبشر بهدف دفع أبناء غزة الى خارج القطاع، وتهجير مَن تبقى منهم على قيد الحياة مرة ثانية من أرضهم الى مصر او الى الأردن او غيرهما. وهذا الفعل الإسرائيلي المتوحِّش؛ لم يكُن ليحصل لولا الدعم الذي لاقاه قادة «إسرائيل» من الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية التي أرسلت أساطيلها البحرية لمساندة العدوان، وكذلك المانيا التي تمادت في تأييد عمليات القتل التي قام بها الإسرائيليون، ومثلهما فعلت بريطانيا وبعض المسؤولين الفرنسيين. وقادة هذه الدول تراكضوا لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم لها وتشجيع عدوانها، بينما كانت مشاهد القتل والتدمير التي ترتكبها إسرائيل تملأ الشاشات وتستثيرُ المشاعر.

– لماذا اتخذت الدول الغربية هذا الموقف؟

مراقبة تصريحات المسؤولين في هذه الدول، وتحليلات قادة الرأي الذين يدورون في فلك الحكومات المعنية؛ توضِّح بعض الدوافع التي تقف وراء موقفهم الصَلف. فجزء من الأسباب وراءها طموحات انتخابية، ويرى هؤلاء المعنيون: أن الحركة الصهيونية، وحراك «المسيحيون الجُدد» لديهم قدرة على تجيير أصوات تفيدهم في استحقاقاتهم القادمة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية التي تتحضَّر للإنتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن مع الرئيس السابق دونالد ترامب أو غيره من مرشحي الحزب الجمهوري. وواشنطن أجرت اتصالات مع حلفائها الغربيين، لاسيما مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومع المستشار الألماني أولاف شولتز ومع رئيس وزراء بريطانيا – الهندوسي الأصل – ريشي سوناك وطلبت منهم مساندة إسرائيل، بحجة أنها مهددة، وقد تتعرِّض للزوال إذا لم يقف الغرب معها، على حد ما تمَّ تسريبه من المحادثات السرية التي جرت بين القادة الغربيين بُعيد وقوع العملية في غلاف غزة.

وبعض المعلومات التي ذكرتها تحليلات صحفية نشرت في دول غربية؛ تقول أن غالبية قادة هذه الدول مقتنعون: أن الشعوب العربية والإسلامية تكره الغربيين، وإذا ما تعرَّضت إسرائيل لأي هزيمة، سوف يؤدي ذلك الى إيصاد أبواب الشرق الأوسط والبلاد العربية وغالبية الدول الإسلامية في وجه النفوذ الغربي، كما تصبح الممرات المائية الدولية التي تربط العالم ببعضه مع البعض الآخر عن طريق بحور الشرق الأوسط؛ بخطر (ودائماً برأي هؤلاء). ووجود إسرائيل وبقاؤها قوية يشكل ضمانة لسياسة الدول الغربية ولإستثماراتهم وفق ما يقولون. لكن هذه التحليلات ليست صحيحة، وهي مبنية على دعاية تحريضية «صهيونية» سبق أن فعلت فعلها في تشويه صورة العرب والمسلمين لدى الغرب من خلال الصاق تهمة الإرهاب والتخلف بهم عن غير وجه حق، وحمّلوهم مسؤولية عمليات شنيعة وارهابية غالبيتها مدبرة من جماعات رعاها الغرب؛ لتأليب الرأي العام ضدهم. ولا تعني عدم صحة هذه الرؤى أن مشاعر الودّ بين شعوب هذه الدول والغرب على أحسن حال، ذلك أن الترسبات الأليمة الناتجة عن مرحلة الإستعمار؛ ما زالت تفعل فعلها في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية، لكن هؤلاء تجاوزوا غالبية المحطات السوداء في تاريخ العلاقة مع الغرب، ولولا امتعاض هذه الشعوب من دعم غالبية الغرب لإسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني؛ لكانت العلاقة بين العرب والغربيين على أفضل حال، نظراً لواقع الجيرة الجغرافي بينهم، واستناداً الى خاصية التقارب في لون البشرة وفي بعض العادات، ولما للثقافة الغربية (الفرنكوفونية والإنكلوفونية) من تأثير عند الكثيرين من شعوب الدول العربية والإسلامية.

وبدل أن يساهم وجود دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا منتصف القرن الماضي – في أهم منطقة من العالم – في تعزيز مكانة الدول الغربية في هذه المنطقة؛ أدى ذلك الى اثارة مشكلات متعددة لم تكُن موجودة في السابق بين هؤلاء وبين العرب والمسلمين الذين يتعاطفون مع اشقائهم الفلسطينيين الذين اُغتصِبت أرضهم، كما أن غالبية من المسيحيين الشرقيين وبعض الكنائس الغربية ترى أن إسرائيل تحتل المقدسات المسيحية في فلسطين كما تحتل المقدسات الإسلامية، وتحديداً في مدينة القدس ومحيطها. ولا ترى الأكثرية من شعوب المنطقة على تنوعها العرقي والديني والثقافي؛ أي مبرر للمواقف الغربية الداعمة لإسرائيل، سوى بهدف تعزيز مكانة قادة غربيين يحتاجون لمساعدة الحركة الصهيونية التي تتمتع بنفوذ واسع في الولايات المتحدة الأميركية وفي الدول الغربية، وظهور حراك «المسيحيين الجُدد» المتعاطفين مع اسرائيل في الغرب، هو وليد دعاية صهيونية تستند الى ميثولوجيا غير صحيحة، حيث يرى هؤلاء أن وجود إسرائيل ضروري كمؤشر على حصول استحقاقات تاريخية، لكن هذا التفسير ليس له أي أساس واقعي او منطقي لدى المراجع الإسلامية او المسيحية الرسمية.

موقف الدول الغربية من العدوان على غزة؛ أدى الى تداعيات واسعة. ودعم هؤلاء العسكري والمالي والإعلامي لإسرائيل أحدث خدوشاً سياسية وإنسانية لا يمكن تجاهلها، وهذه لن تكون في مصلحة الدول الغربية في المستقبل.

– كيف تراجعت سمعة دول الغرب من جراء مواقفهم من العدوان الإسرائيلي الأخير؟

يمكن الإشارة اولاً الى أن بعض الدول الغربية، وجزء واسع من المواطنين في هذه الدول؛ لم يقفوا الى جانب إسرائيل في عدوانها الأخير، وفي هذا السياق جاء الموقف المتوازن لحكومات اسبانية وبلجيكيا وإيرلندا والنروج على سبيل المثال لا الحصر، وشريحة واسعة من الرأي العام في غالبية الدول الغربية الكبرى تفاعل ايجاباً مع حقوق الشعب الفلسطيني كما لم يحصل من قبل، وشارك عدد كبير منهم بمظاهرات حاشدة تستنكر العدوان الإسرائيلي وتدعوا لوقف المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في غزة. وقيل أن المسيرة التي حصلت في لندن لهذا الهدف التضامني؛ غير مسبوقة في تاريخ المدينة، وشارك فيها ما يقارب مليوني شخص، ومثلها حصل في مدينة برلين الألمانية وفي لوس انجلس الأميركية وفي باريس وغيرهم من المدن الأوروبية والأميركية. وفي هذه التحركات مؤشرات إيجابية على حرص قوى ومجموعات غربية – حتى داخل الأحزاب الحاكمة – على الديمقراطية بمفهومها العصري، وعلى حقوق الإنسان، وهي تمرُّدت على الفرضيات التي تروِّج لها الدعاية الصهيونية والتي تعتبر كل مَن يعارض سياسة إسرائيل «معادٍ للسامية» والواقع أن تصرفات الإحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين، والتمييز العنصري والعرقي الذي تفرضه سلطات الإحتلال؛ هي عداء فاضح للسامية بحد ذاته، وأبناء سام ليسوا اليهود كما تروِّج الصهيونية، بل هم العرب بالدرجة الأولى والكنعانيون والعبرانيون. وقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة هذه المرة في الإضاءة على واقع الأحداث، وبيَّنت منافسة جدية لوسائل الأعلام الغربية الموجهة بغالبيتها، والتي تخدم سياسة الحكومات الغربية المنحازة، وفضحت هذه الوسائل تقصير الغرب – لاسيما الولايات المتحدة الأميركية – في السعي الجاد لحل سلمي للقضية الفلسطينية وفق القرارات الدولية. وقد قدمت القمة العربية في بيروت عام 2002 مبادرة إيجابية وفيها تنازلات مقبولة، وتقضي بحل الدولتين، والأرض مقابل السلام.

اما على ضفة الحكومات الغربية التي دعمت العدوان الإسرائيلي وشجعته على التنكيل بالفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وفي جنوب لبنان؛ فقد تأكد أن موقفها يتناقض مع غالبية الشعارات التي ترفعها، لاسيما فيما يتعلق بحرصها على حقوق الإنسان وعلى القوانين الدولية ذات الصلة. وتشوَّهت صورة هؤلاء لدى غالبية من الرأي العام العالمي، كما انكشفت ادعاءاتهم عند الشعوب العربية والإسلامية على وجه التحديد، كونهم يمارسون ازدواجية معايير تعتمد على تصنيف عنصري للناس، بحيث أنهم ينظرون الى حياة الإسرائيليين او الغربيين كأنها تسمو على حياة المواطنين الآخرين – لاسيما الفلسطينيين – وبينت مواقف قادة الدول الغربية الكبرى؛ أنهم حريصون على منع أي إساءة ضد المدنيين في إسرائيل، بينما يتجاهلون عمداً الإعتداءات الوحشية التي تُمارس ضد الفلسطينيين، وهذا ينطبق على المعتقلين او السجناء ايضاً.
وانكشفت ادعاءات هؤلاء القادة الغربيين الذين ينشدون الدفاع عن القوانين والأعراف الدولية، خصوصاً على القانون الدولي الإنساني الذي يجب أن يُراعىَ إبان الحروب العسكرية، بينما في الواقع تجاهلوا انتهاك إسرائيل لهذه القوانين، ولم يقدموا على إدانة تعرضها للطواقم الطبية ولسيارات الإسعاف، ولدخول قواتها الى حرم المستشفيات بعد أن دمرت العديد منها على رؤوس المرضى والمُحتمين فيها، بمن فيهم طواقم الهيئات الدولية التي تقوم بإعمال الإغاثة الإنسانية، ولم يسمع الرأي العام استنكار من قبل هذه الحكومات للأفعال الإجرامية التي ارتكبتها إسرائيل، بل تلهّى بعض قادة الغرب بالحديث عن التقديمات الإغاثية المحدودة التي خُصصت من دولهم للمنكوبين، وهي لا تقارن بالمبالغ الطائلة التي يقدمها هؤلاء كمساعدات عسكرية لإسرائيل، بحيث أقرت الولايات المتحدة الأميركية وحدها تقديمات لها للعام القادم بما يزيد عن 10 مليار دولار، ولولا منح هؤلاء الأسلحة الفتاكة لإسرائيل، لما استطاعت هذه الأخيرة ارتكاب الفظائع بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم.

تضررت صورة الغرب على شاكلة واسعة من جراء ما حصل في فلسطين مؤخراً، وتأكد بوضوح أن هذا الغرب الذي عمل جاهداً لإرساء قواعد القانون الدولي، وأسس للإنتظام على المستوى العالمي وفقاً لمعايير موحدة؛ يتجاهل تطبيق هذه المعايير، او أنه يريد تطبيقها في مكان ويتجاهل انتهاكها في أماكن أخرى. ويمكن ذكر مثال على هذه الوقائع؛ ما حصل في المدة الأخيرة، بحيث تحركت محكمة الجنايات الدولية الدائمة فوراً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأصدر مدعي عام المحكمة مذكرة توقيف دولية بحقه – وهو رئيس دولة كبرى – بتهمة انتهاك حقوق أطفال اوكرانيين نقلتهم سلطات موسكو الى روسيا وابعدتهم عن ذويهم، بينما لم تحرِّك المحكمة ذاتها ساكناً ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب موصوفة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك قتل ما يزي عن 8000 طفل، وليس سراً، بأن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تتأثر بنفوذ الدول الغربية الكبرى، ويخاف قُضاتها وموظفيها من عقوبات قد تفرض عليهم من قبل سلطات الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية الأخرى، وبدت المحكمة كأنها تكيل العدالة بمكيالين مختلفين.

لا يُحسد الغرب الذي ساهم في إغناء الحياة البشرية – بإبتكاراتٍ علمية وحضارية وقانونية فائقة الأهمية – على موقفه من التداعيات التي عكستها الأعمال الإجرامية التي حصلت بغطاء من هذا الغرب ضد الفلسطينيين. والمستقبل يؤشر الى تطورات تدفع العرب والدول الإسلامية والشرقية عامةً على تجاهل هذا الغرب، والشعوب التي تطلّعت اليه كسند وعضد للبشرية ضد البدائية التي هشَّمت بالناس، وقدَّمت الكثير منهم ضحايا اضطهادات عنصرية وطائفية وجهوية؛ خاب ضنها من مواقفهم الأخيرة. وعودة الغرب إلى التصرُّف بتهوُّر وبإنحياز؛ يشبهان العودة الى ما حصل إبان مرحلة الإستعمار ويخفيان حنيناً له، وسيشكل ذلك خسارة موصوفة لهذا الغرب، ويساهم في تراجع مكانته بين أمم الأرض، وهذه الأمم التي تفاعلت بمعظمها مع التطور الذي حصل في العالم، لاسيما مع ثورة التواصل والتكنولوجيا الحديثة؛ لن يستسلم لمقاربات استعمارية جديدة، ولن يخضع لنيّر الإستغلال والإستعباد من جديد.

السردية الإعلامية لحرب غزّة الجارية: الانحياز الإعلامي الغربي الفاضح!
التزوير والإنحياز والتقصير

الكلام على التزوير الإسرائيلي صحيح، لكنه لا يفاجئنا، ولا يتضمن جديداً. لكن المفاجىء حقاً، إنما كان التبنّي السريع من الإعلام الغربي للسردية الإسرائيلية، إلى أقصى حد، ودون مراجعة أو نقد – رغم أن ذلك مفهوم أيضاً ويفسّر للمرة الألف طبيعة الكيان الصهيوني باعتباره منصة غربية استعمارية استيطانية في الشرق، وبخاصة في قلب العالم العربي.

المفاجىء حقاً هو التخلي السريع من أهم شبكات الإعلام التلفزيوني الغربي عن أبسط قواعد الإعلام المعروفة، والمكرسة في مدوّنات ملزمة أخلاقياً ومهنياً وأحياناً قانونياً لكل أداة إعلامية. كلها اختفت في لحظات، لأن الموضوع إسرائيل! على عتبة مصلحة إسرائيل (والعداء للعرب) تصبح كل المدونات الأخلاقية والمهنية، وعنواناها الحياد والموضوعية، في الخارج، ولا من يسأل عنها.

وهو ما حاولت متابعته في الأسابيع الستة الماضية، مكتفياً بمتابعة لصيقة لتغطية شبكتين عالميتين، CNN&BBC، (الأولى بنسبة عالية جداً، وربما كاملة، والثانية أقل، لكنها تكفي كعينة لما يجري عرضه عموماً.) وخطورة ال سي أن أن على وجه الخصوص تكمن في أنها الأضخم على مستوى الإمكانيات البشرية والتقنية، والأكثر سرعة وشمولية في إنتاج الأخبار وبثها عبر السواتل الفضائية، ما حوّلها مصدراً لمعظم الأدوات الأخبارية عبر العالم. أي ما تقترحه من سرديات يتكرر من دون تعديل غالباً في معظم تلفزيونات العالم ومصادرة الإعلامية.

من ملاحظات اللحظات الأولى التي أعقبت الإعلان عن طوفان الأقصى، أظهرت القنوات الفضائية الدولية (وخصوصاً السي أن أن) على الفور ومباشرة تبنّيها شبه التام للسردية الاسرائيلية الإعلامية «الرسمية»، وجرى التعبير عنها لا باعتبارها سردية إسرائيلية، بل باعتبارها سردية موضوعية تنقل ما حدث فعلاً. تخلّت ال سي ان أن ومثلها القنوات التلفزيونية الغربية لأيام وأسابيع عن قفازات الحرية الديمقراطية والموضوعية والتوازن والحياد – وهي قواعد تفاخر القنوات الغربية باعتمادها في نقلها للأخبار – فكشّرت عن أنيابها وأظافرها وقدّمت ما حدث في منطقة غلاف غزة، خبراً وصورةً، على النحو الذي تضمنته السردية الإعلامية الإسرائيلية: هجوم وحشي مسلّح على مدنيين مسالمين يحتفلون بالغناء والرقص طوال الليل على الشاطئ، أو على العجّز والأطفال في المستوطنات، مع صور الجثث على الشاطىء، دونما أي ذكر لسيطرة حماس على النقاط العسكرية الاسرائيلية، دون أن يتخلى مقدّم أو مقدّمة الأخبار عن هدوئه وصوته المنخفض وانتفاء أي مؤشر لانفعال على الوجه، مما يوحي بالجدية والحيادية إزاء ما يُقدّم من أخبار وصور.

لاحظنا على مدار الساعة مدى تكرار نقل قنوات الإعلام التلفزيوني للخطاب الإسرائيلي، من دون مناقشة، ولا نقد، ولا محاولة التعمّق أو التوسع أو الاستناد إلى مصادر مستقلة، أو نقد السردية الاسرائيلية بأي شكل من الأشكال، واحتمال الكذب أو المبالغة فيه.

منذ اللحظة الأولى، انضمّ إلى حملة التضليل التي قادها الإعلام الاسرائيلي، معظم قنوات الإعلام العالمي المعولم ( CNN, FOXNEWS, CBS, SKYNEWS, BBC, وسواها ). كيف غطّت القنوات الدولية تلك هذا الحدث الرئيسي الأبرز من دون شك، بدليل دفعه تطورات حرب أوكرانيا إلى المرتبة الثانية أو الثالثة؟ كانت المهمة التقنية للقنوات تلك جعل المشاهد حول العالم، وخصوصاً، الغربي «بلع» السردية الإسرائيلية بالكامل من دون نقاش، والتعاطف مع إسرائيل موضع التهديد، من خلال صور منتقاة بدقة، وبعضها من ألأرشيف.
نقلت القنوات تلك منذ اللحظة الأولى السردية الإسرائيلية كاملة:
من المنصات والمواقع، من تل أبيب، أو من المستوطنات الأمامية الإسرائيلية؛
يندر أن ظهر مراسل غربي في غزة لأسابيع، واكتفي في أحسن الأحوال بمراسل خاص لا أكثر،
بل رافق بعض المراسلين (نك روبرتسون من سي أن أن، 14/11)القوات الإسرائيلية، في مقراتها كما في تحركاتها، وفي توغلها في غزة.

جرى نقل الموقف الاسرائيلي السياسي والعسكرية، وخصوصاً إحاطات الناطقين العسكريين، دقيقة بدقيقة، كلمة كلمة، حتى في الأكاذيب الفاقعة (من مثل تبرير الهجوم على مجمع الشفاء لقتل مسلح كان يحتجز ألف مدني)، (10/11)، إلخ.

في وسعنا نسيان كل تفاصيل روايات المحطات تلك، لأنها تشابهت على نحو غير مسبوق، في الأيام الأولى لعملية طوفان غزة، ثم مع تحوّل إسرائيل للهجوم البري على غزّة.

في الجزء الأولى جرى التركيز على المدنيين الذين كانوا في احتفال موسيقي قبل أن تهاجمهم «ميليشيا متعصبة متعطشة للدماء». وتعززت السردية كما قلنا بصور الجثث المتناثرة في غير مكان من المستوطنات، أو في المكان القريب من الشاطئ؛ مع إغفال تفاصيل ما حدث في المقرات العسكرية، قبل أن يجري تمرير المعلومات التي تفرج عنها الرقابة العسكرية الإسرائيلية.

في الجزء الثاني، مع القصف التدميري دون تمييز لأحياء غزة ومستشفياتها ومدارسها ومخابزها ومدارس الأنروا حيث لجأ عشرات ألوف المدنيين، جرى التعتيم على صور الفظائع ضد الحياة المدنية والمدنيين، دون أن يكون هناك ما يستحق التعاطف أو الإدانة وعلى قاعدة الخطاب الرسمي الإسرائيلي we kill the killers وعليه لا حاجة لنقد أو احتجاج أو اعتراض أو حتى تقديم وجهة النظر الفلسطينية المقابلة بأي حال من الأحوال. جرت تغطية المؤتمرات الصحافي للمسؤولين الاسرائيليين السياسيين والعسكريين لساعات، ومن دون أن يعطى الجانب الفلسطيني ما يوازي عشر ذلك لتقديم سرديته أو خطابه. جرى تبنّي خطاب ناتنياهو لما يجري من فظائع لا تصدّق بحق المدنيين باعتباره تحرير غزة من القتلة ورفع هيمنتهم على سكان غزة المسالمين، وفق مقابلة نتنياهو في Fox News في التاسع من نوفمبر:
Demilitarizing Gaza, liberating Gaza from killers, human beasts, who intimidate Gaza peaceful population

ويكمل في خطاب موجّه للغرب، (11/11 «أن اسرائيل يجب أن تنتصر في حربها على حماس، فإذا هزمت سينتقل إرهاب حماس إلى أوروبا وأمريكا».

والشواهد المماثلة بالعشرات، وكلها متشابهة: الاستناد التام إلى الرواية الاسرائيلية، مع القليل القليل من الرواية الفلسطينية، من الخارج، بتقطع، واختصار، وإبراز كل التناقضات المحتملة، وبخاصة تناقض رام الله – غزة؛ وبما لا يؤثر في كل الأحوال على السردية الأساسية المنحازة إلى الجانب الإسرائيلي. وفيما كان الجانب الفلسطيني يقدّم في صورة «الملثّم» المجهول- المخيف، كان التركيز على المخطوفات، وبخاصة صغار أو صغيرات السن، ونقل صورهم/ن العائلية يلعبن، يسبحن، يتمددن في حدائق منازلهن الخضراء، مع استصراح ذويهم. إلى ذلك، يجري تقديم الإسرائيلي في صورة الجيش النظامي؛ متجاهلين كلياً أخبار أو صور المستوطنين المتعصبين والمتدينين وهم يدخلون مخيم جنين بالحديد والنار ويعودون بالعشرات من المعتقلين والمعتقلات، أو صور المستوطنين المتدينين يوقفون سيارات المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية، ينكلّون بالمدنيين الفلسطينيين، ويحرقون قراهم القريبة؛ متناسين آلاف الغارات الجوية في 100 يوم من غزو غزّة، أُلقت خلالها أكثر من 50 ألف طناً من المتفجرات ما يعادل قنبلتين نوويتين، إضافة إلى 100 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ولا يزال تحت الأنقاض. كذلك تصريحات «وزير التراث» الإسرائيلي باحتمال إلقاء قنبلة نووية على غزّة، وتصريحات وزير آخر أن نقل الفلسطينيين من غزة إلى مصر ودول أخرى أمر حتمي، أو ثالث يطلب عودة الاحتلال إلى غزة.

كلّ ذلك لم تره، ولو في الحد الأدنى، عدسات كاميرات ال «سي أن أن» و ال «بي بي سي»، كما غيرهما من الشبكات التلفزيونية الغربية العملاقة، وقد بلغ انحيازهما وسواهما حد التقيّد الحرفي بالتعليمات الصادرة إلى غرف الأخبار، ومن يجرؤ على التعاطف ولو في الحد ألأدنى مع مأساة غزّة مصيرهُ الطرد – كما حدث لندى عبد الصمد بعد 27 سنة خدمة في أخبار ال بي بي سي.

بلغ انحياز قنوات الإعلام العالمي المعولم للسردية الإسرائيلية من دون مناقشة أو تداول، وطرد من يتجرأ على مخالفة حرفية السردية تلك، حد استفزاز الصحفيين الغربيين أنفسهم، إذ وقّع أكثر من 750 صحافي في أسوشيتد برس ورويتر وأي أف ب بياناً نددوا فيه بتبعية «غرف الأخبار» للسردية الاسرائيلية من دون توفير أية فرصة فعلية لأية رواية مقابلة (9/11).

لا نغادر التوصيف هذا من دون توقف للحظة مع ال CNN الأكثر مشاهدة، لي وفي المنطقة برمّتها كما يقال. لم أر إلا نادراً إن لم أكن مخطئاً مراسلاً لها في غزّة، هناك ربما من يرسل لها، تحت تعريف special. تقارير أحداث غزة هي بالكامل من إسرائيل أو من واشنطن. التقارير التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط وفيها تغطية ما يجري من أحداث ليست بالضرورة هي التي تبث لباقي أقسام الكوكب، فله نشراته الإخبارية وتغطية مختلفة عن التغطية التي تبث لمنطقة الشرق الأوسط. الفكرة هنا هي أنه إذا كان لجمهور المنطقة العربي أن يفرض لدى المحطة بعض المراعاة لميوله ورغباته، فالتغطية التي تبث إلى أقسام الكوكب الأخرى ليست مقيدة بهذا الاستثناء وهو ليس مهماً أو كبيراً، وفي وسع شبكة السي أن أن أن تبث المحتوى الأقصى تأييداً لإسرائيل.

ومع ال سي أن أن أيضاً، نقول: هل يتخيّل عقل أن الشبكة العملاقة التي تبث ربما كل ساعة «أنقذوا هذا الحيوان أو ذاك save Tigers for example،» لم تجد في مقتل 30 ألف مدني في غزّة، ثلثاهم نساء وأطفال، وأكثر من 30 ألف مصاب، سبباً كافياً لجعلها تضع لثوان على الأقل: Save Gaza children، أو لتفكّر في الأكثر قسوة على الإطلاق ولم يحرك «ديمقراطية الشبكة» والتزامها «حقوق الإنسان»، والمرأة على وجه الخصوص، وهو الواقعة التي أثبتتها الممرضات الهاربات من غزة (قناة 24 الفرنسية 6/11) من أن 5000 إمراة فلسطينية حاملاً في قطاع غزة كان يفترض أن يضعن في شهر تشرين الأول لم يُعرف ماذا حدث لهنّ! أو لمواليدهن – إذا كانوا أحياء! هل من قسوة أكثر من ذلك؟ لكن شيئاً أيّاً يكن لم يبدّل في سردية ال «سي أن أن» المتطابقة إلى حد التماهي مع السردية الإعلامية الاسرائيلية «الرسمية»! أما مزاعم حقوق الإنسان، وحقوق المرأة والأطفال، والمساواة والديمقراطية، فكلها شعارات للاستهلاك لم تجد في مجازر غزّة بحق المدنيين، وما فيها من قتل دون تمييز، يبلغ حد الإبادة، وتهجير لعشرات الألوف من المدنيين ومعهم حيواناتهم ينتقلون في قوافل تضم عشرات الألوف من شمال القطاع إلى جنوبة ما يستحق التوقف عنده، أو شجبه؛ بل ما يحدث العكس وهو التلذذ (غير المعلن) بصور وفيديوات مطولة للتهجير البطيء ذاك أو New Exodus!
(كأنما شبكة ال سي أن أن تحتفل على نحو ملحمي بنهاية عالم، وتباشير عالم جديد، كما يردد نتنياهو).

دون أن ننسى أخيراً كيف بثّت شبكة CNN صوراً من الإعلام الإسرائيلي لأطفال قطعت رؤوسهم باعتبارها من أعمال مقاومي عملية 7 تشرين أول في غزة؛ ثم سحبت الشبكة الخبر في اليوم التالي واعتذرت عن الخطأ، حسب زعمها. كذلك تبنيها لرواية ناطق عسكري إسرائيلي يشرح بالتفصيل كيف أن سلكاً كهربائيا كان كافياً ليثبت أن قيادة حماس جعلت المستشفى غرفة عمليات لها، قبل أن تعود في اليوم التالي لتقول ليس من أدلة كافية، ولكن في الحالين التأثير المباشر المطلوب من نشر الصور المزيّفة كان قد تحقق، ولا يخفف منه إلا قليلاً النفيُ والاعتذارُ اللاحقين. إذا كان تعريف الخبر في الإعلام، ومنه التلفزيون، هو نقل الواقعة في كلام أو صور مطابقة لما حدث، فإن ما جرى في الإعلام الغربي كانت انتهاكاً تاماً للتعريف الكلاسيكي ذات: بات الخبر هو ما يصنع الواقعة story، على نحو خرافي أو توجيهي، غير مباشر وإيحائي في الغالب.

هذه عينة من المنهج المتبع من طرف قنوات الإعلام المعولم في كل قضية تقريباً، وإلى الحد الذي لا تستطيع تمييزه من الإعلام الاسرائيلي بل ربما اتسع هذا لبعض النقد بخلاف قنوات الإعلام الغربي، الممولة من مراكز القرار السياسي والمالي العالمي – مع الاستدراك بأنه مع نهاية عملية غزة تقريباً واطمأنوا على النصر الإسرائيلي (المعيب) صار في وسع محطات التلفزة الغربية استضافة محاورين فلسطينيين واعتماد مراسلين فلسطينيين وعرب والكلام مطولاً عن مأساة الأطفال «الخدّج»، وهو ما لم نلمسه ابداً حتى في أثناء المجازر كما في مجزرة المستشفى المعمداني، حيث سقط أكثر من 800 مدني بين قتيل وجريح بقنبلة تزن طناً ألقتها طائرة حربية أسرائيلية، وبررها ناطق عسكري إسرائيلي أنها نتيجة عملية إطلاق صاروخ فاشلة من «الجهاد»، وكل صواريخه لم تقتل ربما أحداً في يوم من الأيام.

وأية موضوعية وديمقراطية وتنوع حين يجري طرد موظفة في أخبار ال بي بي سي العربية، ندى عبد الصمد، بعد 27 سنة خدمة في الشبكة لأنها تجرأت وأبدت تعاطفاً مع مقاومي غزة؟

تطول لائحة الانتهاكات تلك، وقد باتت على كل شفة ولسان، وهي ألقت ولفترة طويلة شكوكاً عميقة في مصداقية الخطاب الغربي الإعلامي، ومعه السياسي أيضاً، ليس في تغطية مذبحة غزة بل ربما حيال كل قضية في العالم، من أوكرانيا، إلى الوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا الغربية، وغيرها. انهارت أعمدة أسطورة الموضوعية والتوازن والحيادية والديمقراطية والرأي والرأي الآخر في الإعلام الغربي، ولم يعد مصدراً محايداً موثوقاً للأخبار – كما زعم لعقود طويلة خلت – ولا مشروعاً للحرية Freedom project كما يحلو لل سي أن أن تكرار ذلك طوال الليل والنهار.

شروط اختيار المحكّم/القاضي الخاص ومهاراته اللازمة

في هذه المقال سيتم التعريف بالتحكيم/القضاء الخاص، واستعراض الشروط والمهارات الواجب توافرها في المحكّم/القاضي الخاص.

ما هو التحكيم

التحكيم هو عملية يتفق فيها طرفان أو أكثر على حل نزاعهما من قبل محكّم/قاضي خاص، وليس من قبل المحاكم والقضاء. والتحكيم هو عمليّة خاصّة، مما يعني أنه لا يخضع لنفس القواعد والإجراءات التي يخضع لها التقاضي أمام المحاكم، وهو ما يجعل التحكيم وسيلة أكثر كفاءة وفعاليّة لحل النزاعات، وذلك لعدة أسباب أهمها، أن التحكيم يعد خياراً أبسط وأسرع وأقل تكلفة من التقاضي. وعمليّة التحكيم تتصف بالسريّة ولا تخضع لنفس قواعد الإثبات والاستدلال مثل القواعد التي يستند إليها أمام القضاء.

الشروط التي يجب توافرها في المحكّم/القاضي الخاص

إنّ أهم الشروط التي يجب توافرها بشكل عام في المحكّم/القاضي الخاص هي:

١- يجب ألا يكون قاصراً أو محجوراً عليه أو محروماً من حقوقه المدنية بسبب الحكم عليه فى جناية أو جنحة مخلة بالشرف أو بسبب شهر إفلاسه.
٢ – أن يكون حسن السيرة والسلوك.
٣- أن يكون حاصلاً على الأقل على شهادة جامعيّة، وإذا كانت هيئة التحكيم مكوّنة من أكثر من محكّم فيكتفى بتوافر هذا الشرط في رئيسها.
٤- يكون تعيينه من بين المحكّمين المعتمدين والمقيّدين بسجل قيد المحكّمين بالجهة المعنيّة.
٥- ألا يكون عضواً في مجلس الأمناء أو الجهاز الإداراي لمؤسسة التحكيم المختصة بتنظيم الدعوى التحكيميّة في الدولة.
٦- على من يبلّغ بترشيحه لتولي مهمّة التحكيم أن يصرّح كتابةً بكل ما من شأنه أن يثير شكوكاً حول حيادته أو استقلاله، وعليه منذ تعيينه وخلال إجراءات التحكيم أن يبادر دون أي تأخير بإخطار الأطراف وسائر المحكّمين في حال نشوء أي ظرف قد يثير الشك حول حيادته أو استقلاله، وذلك ما لم يكن قد سبق له إحاطتهم علماً بذلك الظرف.
٧- يجب أن يكون عدد المحكّمين وتراً وإلا كان التحكيم باطلاً.

أهم المهارات الواجب توافرها في المحكّم.

المحكّم هو طرف ثالث محايد، يتم تعيينه للمساعدة في حل النزاعات بعيداً عن النظام القضائي. ومن أجل أن يكون محكّماً فعالاً، يجب أن يمتلك مجموعة من المهارات التي تمكّنه من تقييم الأدلة بنزاهة، والاستماع إلى الحجج التي يقدمها الأطراف، واتخاذ قرارات عادلة ومستنيرة. وتشمل هذه المهارات:
١. المعرفة القانونيّة.
٢. المهارات التحليليّة.
٣. مهارات التواصل والقدرة على إدارة المواقف المعقّدة.
٤. قادراً على البقاء محايداً.
٥. أن يكون لديه فهم عميق لمبادئ التحكيم والقوانين واللوائح التي تحكم النزاع الذي يتم الفصل فيه.
٦. الصبر والتفاهم والمرونة والاستماع الفعال. ٧. منح جميع الأطراف فرص متساوية لتقديم حججهم وشرح دعواهم.
٨. الفهم الكامل لإجراءات التحكيم.
٩. تجنب إطالة النزاع دون داعٍ.
١٠. تجنب خلق نفقات إضافية على الأطراف المعنيّة.
١١. مراعاة الإجراءات القانونية المنصوص عليها في القوانين المتعلقة بالتحكيم.
١٢. مهارات الكتابة القانونية، لأن من واجبه جعل قرار التحكيم مفهوماً وقابلاً للتنفيذ.
١٣. يجب أن تكون المستندات المرسلة إلى الأطراف المتنازعة في شكل مكتوب، سواءً كانت اتفاقيّة أو ملفّات أو حتى رسائل بريد إلكتروني أو قرارات صدرت خلال إجراءات التحكيم، لذا يجب أن تتم كتابتها بطريقة واضحة ومتسقة ولا لبس فيها.
١٤. مهارات التخطيط والإدارة بشكلٍ فعّال، فالتحكيم هو مشروع مدته تتراوح في الغالب بين 6 إلى 24 شهراً. لذا يجب على المحكّم أن يحسن إدارة عملية التحكيم بحيث يتم إنهاء النزاع خلال أقل مدة وبأقل تكلفة، والتي تعد الميزة الأساسية التي تميز التحكيم عن القضاء كوسيلة قانونية لفض المنازعات.
١٥. مهارات صياغة اتفاق التحكيم.
١٦. مهارات إدارة جلسات التحكيم.
١٧. مهارات صياغة حكم التحكيم

العدد 40