الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 5, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حول كتاب لبنان

حول كتاب “لبنان في عهد الأمراء التنوخيِّين”
المؤرِّخ الّذي استأنَس بروح القَوم

تشكِّل المصادر الأساسيَّة لتاريخ الدروز في القرن الوسيط العمود الفقري لكتاب د. سامي مكارم “لبنان في عهد الأمراء التنوخيِّين” (وهي على التوالي: “تاريخ بيروت” للأمير صالح بن يحيى، و”صدق الأخبار” لابن سباط، و”السجلّ الارسلاني” من حيث هو ثبتٌ.
بيدَ أنَّ مقاربة د. مكارم لتلك المصادر تتميَّز بما يُمكن وصفُه بـ”نور داخلي” متأتٍّ من طول مراس بحثيّ في متونها، حيث أنَّ المعالجة التاريخيَّة لها أتت استلحاقًا باهتمامات واسعة تناولت البُعد الرّوحي والفكري والاجتماعي للعشيرة المعروفيَّة في الجبل اللبناني التي قادها الأمراء التنوخيُّون من مطلع القرن الحادي عشر الميلادي إلى نهاية القرن الخامس عشر. وهذه حقبة استهلَّها الأثر الاجتهادي الفاطمي في فقه الشّريعة، واستجابة القوم له، ممّا أدّى إلى انعكاسات واضحة على نواحٍ مسلكيَّة عدّة عندهم، في حين أنَّ تاريخ حلف القبائل العربيَّة المسمّى “تنوخا” يرجع بالذّاكرة إلى ماضٍ غابر امتدَّ لقرون عدَّة قبل الإسلام – وهو أمر تطرّق إليه البحثُ تأسيساً للحقبات اللاحقة- ممّا يعزِّزُ قاعدة الدّراسة لتكون تاريخاً لـ “تنوخ” ذاتها، وهو العنوان الأصل الّذي تصدَّر مخطوطة مكارم قبل أن تجدَ طريقَها إلى النّشر.

حلف القبائل
يتقصَّى الباحثُ خبر “تنوخ” من البدايات الموغلة في القدم، وأتى على ذكره بطليموس المتوفى حوالي سنة 170 للميلاد، مُورداً اسم هذا الحِلف من بين قبائل العرب في جغرافيَّته، وهو “حلفٌ أقامته قبائل من الأزْد وقُضاعة وكهلان ولَخم وغيرها، فعُرفَت إثره بـ ”تنوخ”، وكان من شأنه أن أعطى قبائلَ هذا الحِلف قوَّة مكَّنتها من أن تنتقلَ من البحرين إلى غربي الفرات – ما بين الحيرة والأنبار – لتسيطر على قسم منَ الطّريق التّجاريَّة التي تربط الخليج وبلاد فارس شرقاً بالبحر الأبيض المتوسِّط غرباً”.
منطقة استراتيجيَّة أقامت فيها تنوخ في النّصف الأوَّل من القرن الثالث للميلاد دولةً كان أوَّل ملوكها، في ما يُروى، مالك بن فهم الأزدي. ويذكرُ الباحثُ استناداً إلى “المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام”، واعتماداً على المزيد منَ الإيضاحات من بعض أمّهات المصادر الإسلاميَّة (الطّبري، ابن الأثير، المسعودي إلخ…) أنَّ هذه الدّولة “تبوَّأت مركزاً مرموقاً بين العرب فخطب ودّها كلٌّ منَ الدّولتَين الكبريَين في ذلك الوقت: الدّولة الساسانيَّة والامبراطوريَّة الرومانيَّة…”، من دون أن تكون خاضعة لأيٍّ منهما.
ويستقرئُ الباحثُ بعضَ النّصوص الأثَريَّة ليعزِّزَ المعطيات التاريخيَّة، وليبيِّن من ثمَّ أنَّ سلطانَ المملكة التنوخيَّة امتدَّ من الحيرة شرقاً إلى بلاد الشّام غرباً إلى نجران جنوباً، و”كانت المملكة في وقتٍ من الأوقات تسيطر على معظم الجزيرة العربيَّة … وكانت لها شخصيَّتها المستقلَّة، ودورُها السياسيّ والعسكريّ الَّذي يتوخَّى مصلحتها الخاصَّة وإن كان يعودُ بالنّفع العميم لكلتا الدولتين المتصارعتَين”.

ملوك تنوخ
يستعرضُ الباحثُ من ثَمَّ أسماء الملوكِ الَّذينَ تعاقبوا على عرش تنوخ، مبيِّناً الأدوار التي لعبوها، والمآثِـر التاريخيَّة التي خلّفوها، ومنها بناء قصر الخورنق المنسوب للنعمان بن امرئ القيس، وصراع المنذر بن ماء السّماء ضدّ الرّوم من جهة، والغساسنة من جهةٍ أخرى، كذلك خبر يوم ذي قار، والموقف الشجاع لهانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني في وجه كسرى، عندما أبى تسليم الودائع، التي أودعها النّعمان بن المنذر المعروف بأبي قابوس ملك الحيرة، إليه، وانتصار العرب على الفُرس في تلك الواقعة.
ومنذ صدر الإسلام، شاركت سيوف “تنوخ” في الفتوح. فقد اعتنقَ المنذر بن النعمان الاسلام. واشترك بقيادة خالد بن الوليد في الزّحف عند قدومه إلى الشّام، عون بن المنذر مع المسلمين، كما حضر مشاركاً في واقعة أجنادين بين المسلمين والبيزنطيّين سنة 13 للهجرة وقُتِل فيها.
وأمَّا الأمير مسعود بن عون بن المنذر فقد حضر فتح دمشق ومعركة اليرموك “وقاتل هو ومَن معهُ من لخم وجذام قتالاً شديداً”، كما يقول “السجلّ الأرسلاني” الَّذي يفتتح وثائقه الإثباتيَّة بذِكر تلك المآثـِر.
ويُعتبَر هذا السجلّ أحد الأصُول التاريخيَّة للتنوخيِّين كما سبقَ القول، إنَّما تتوجَّبُ قراءتُه منهجيّاً بعين ثاقبة، ونظر عميق يعقد المقارنة، ويقيمُ البحثَ على استقصاءٍ موضوعيّ للحوادث اعتماداً على موازنتها بالمصادر الأساسيَّة للحقَب الزمنيَّة التي جرت فيها، وهو أمر يجهد فيه الباحثُ وسع الجهد.

دفاعاً عن الثغور
بعد الفتح، كان بمعرَّة النعمان “جمع تنوخ المستكثر” على حدّ تعبير القلقشندي، وكما يقتبسُه مكارم الَّذي يستعرضُ من ثَمَّ المعطيات التي تشيرُ إلى أنَّ قبائل من تنوخ قطنت بلادَ الشّام شمالها وأوسطها قبل الفتح الاسلاميّ وفي أثنائه وبعده، وصولاً إلى وادي التَّيم و”بلاد الصّنوبر” على حدّ تعبير شاعر قُضاعي. هكذا، بدأت مهمَّة “المثاغرة” للإمارة التنوخيَّة التي وُصِفَت بأنَّها “غرس الملوك”، وكان من شأنها “الدّفاع عن عددٍ من ثغور دار الاسلام ضمن الدّولة الجامعة، كما كان من شأنها أن تسهمَ في طبع هذه المنطقة بالطّابع العربي”.
يتحرَّى الباحثُ بعد ذلك عن الامتداد التنوخي في ساحل الشّام بعد أن ميَّز بين سلالتَين هما الفرع الأرسلاني والفرع البحتري الجُميهري. ويروي في السّياق ما باشرته سيوفُهُم من الدّفاع عن ثغر بيروت لقربه من هجمات المرَدة الموالين للروم، ووقائع الانتشار مصحِّحاً العديد من الأخطاء التي وقع فيها بعضُ المؤرِّخين (تحديد موقع بلدة البيرة على المثال).
هكذا تبدأ الحقب الكبرى التي شهدت أدواراً قام بها “أمراءُ الغرب” في عهد الخلافة العبَّاسيَّة فالفاطميَّة، حيثُ نقرأ عن مبايعة سيف الدولة المنذر بن النعمان بن عامر أمير الغرب للإمام الفاطمي المعزّ لدِين الله عبر قائده جعفر بن فلاح الكتامي الَّذي فتح دمشق.
ويُلفِت مكارم إلى خطأ في السجلّ الأرسلاني – ليس الوحيد على كلِّ حال – حين يقف عند الالتباس الَّذي وقع فيه البعضُ بين الأمير أبي الفوارس معضاد بن همام الفوارسيّ، وبين الدّاعي أبي الفوارس معضاد بن يوسف الفوارسي. ثمّ ينتقلُ البحثُ إلى عهد الأتابكة وصراعهم مع الفرنجة، وبدء حملات الفرنجة، ودور أمراء الغرب فيها.
وهنا يدخلُ في سياق البحثِ تاريخُ الأمير صالح بن يحيى المذكور آنفًا. ويكشف مكارم مسألة التنافس بين سلالات الأمراء إذ تعبِّرُ إثباتات “السجلّ الأرسلاني” عن النسَب الأرسلاني، وتعبِّرُ وثائق “تاريخ بيروت” عن النّسب التنوخي (البحتري) على الرغم من ارتباط النّسَبَيْن بجدٍّ أعلى هو النعمان بن المنذر بن ماء السّماء، وهو كشفٌ يسلِّطُ الضّوءَ على آثار هذا التنافُس في قلب هذه المتون القديمة لجهة إغفال بعض الأحداث، أو إيلاء الأهميَّة لبعضها الآخَر.
من ثمَّ يتحدَّثُ عن أدوار الأمراء الجميهريِّين في عهد الأيوبيِّين، محلِّلاً المنشور الَّذي منحهُ صلاح الدِّين للأمير جمال الدِّين حجي بن كرامة، ومستنتِجاً منه أنَّ صفةَ الإمارة أُزيلت لتوزّع إقطاعات على الأمراء. كذلك يحلِّلُ منشورَ الملك الأفضل نور الدِّين الأيّوبي. ثمَّ يُسهبُ في شرح دور ثالوث الأمراء جمال الدِّين حجي وسعد الدِّين خضر وزين الدِّين صالح ودورهم المهم في الأحداث السياسيَّة والعسكريَّة التي دارت في زمنهم، الَّذي شهد اضطرابات كبيرة تَنازَع فيها الأيوبيُّون والمماليك والمغول والفرنجة. دورٌ بلغَ الذّروة في المشاركةِ في المعركةِ الطّاحنة التي جرت في عين جالوت بين المماليك والتتار.
وينتقلُ سياقُ الأحداث إلى عهدِ دولة المماليك البحريَّة، وأهمُّها في ما يعني أمراء الغرب الحملة على “شيعة وباطنيَّة كسروان”. كما يشرح أثَر التّرتيب العسكري الَّذي فرضهُ المماليك على فرسان الإمارة لجهةِ إدراج الجبل في النِّظام الَّذي فرضُوه على مقاطعات بلاد الشّام.

بيروت القديمة
بيروت القديمة

ويُرافق الأصل التاريخيّ “صدق الأخبار” لابن سباط، حقبة دولة المماليك البرجيَّة، وهو يُكمل تاريخ الأمير صالح المنتهي سنة 840 هـ. وهذه حقبة تميَّزت بانهيار أسُس النِّظام المملوكي في ما اعتبرهُ بعضُ المؤرِّخين “عصراً مظلماً” أضاءت فيه سيرةُ الأمير السيِّد جمال الدِّين عبد الله التنوخي بشكل لافت.

سيرة الأمير السيِّد
ويُسهِبُ د. مكارم في سردِ سيرة هذه الشخصيَّة المهيبة الفذَّة ليعطينا صورة تاريخيّة جليَّة عنها، وعمّا كان لها من أبعد الأثَر في تاريخ الموحِّدين ومسلكهم، مدقِّـــقًا في بعض المُعطيات، ومُبرزاً أبعاد النَّهضة الإصلاحيَّة المتعدِّدة الجوانب التي قام بها الأميرُ السيِّدُ وسط بيئته الاجتماعيَّة، راوياً الظروف التي دعتهُ الى تركِ البلاد، ثمَّ عودته، فابتلائه بفقد أولاده وصبره وقيامه برسالته حتَّى كان “نموذجاً للفناء عن الأنا، ومِثالاً للرضى والتَّسليم…”
ويتعقَّبُ الباحثُ أخبارَ تلاميذ الأمير السَّيِّد، ومن بعدهم آخر أخبار التنوخيِّين التي انتهَت بالمأساة التي سبَّبها الأميرُ علي بن علم الدِّين الَّذي ولّاه كجك أحمد باشا على “بلاد الدّروز”، بقتله لآخِر سبعة أمراء منهم بعد أن باغتهُم في قرية عبيه “ولم يترك من بيت التنوخ ولا ذكراً يخلفهُم” على حدِّ قول الأمير حيدر الشهابي.
ويخلص مكارم إلى الاستنتاج بأنَّ التنوخيِّين “قاموا بدور رئيسي في بناء الشخصيَّة المميَّزة لهذه البلاد، فحافظوا على هويّتها اللبنانيَّة العربيَّة، وكان لهم الفضل الكبير في إبقاء هذه البلاد جزءاً أساسيّاً من الدولة الجامعة، ولكنَّهم عملوا كذلك على إبقاء هذه البلاد جزءاً مميَّزاً، كما كان لهم الفضل الكبير في تكوين صفاتها اللبنانيَّة ذات الفرادة الأصيلة القائمة على الانصهار الاجتماعي بين السكَّان على مختلف انتماءاتهم الدينيَّة أو العرقيَّة، ذلك أنَّ ما شاهدهُ اللبنانيُّون من منازعات قليلة بين القيسيَّة واليمنيَّة في القرنين السادس عشر والثامن عشر، ومن منازعات طائفيَّة بدءاً من القرن التاسع عشر، لم يكن موجوداً في عهد السّيادةِ التنوخيَّة على الإطلاق”.

حمانا

ضربت مثلاً في التعايش وردت الفتن على الأبواب

حمّانـا بلــــدة الـــوادي
ولامارتيـــن والكـــرز

طبيعة خلاّبة وضيافة وتنوع حضاري جذبت إليها العرب
لكن الهجرة والنزوح أضعفا الزراعة وموسم الكرز

رئيس البلدية حبيب رزق

بــدأنا توزيــع نصــوب الكــرز المؤصلــة علــى مزارعــي البلــدة
والهــدف تعزيــز صــادرات حمــانا مــن الكــرز نحــو أوروبــا

قصــــر المقدميــــن سحــــر بــــه لامارتيــــن وكتــــب فيــــه
وصنّفــــه فــي المرتبــــة الثانيــــة بعــــد قصــــر بــــيت الــــدين

بلدة فينيقية
هناك فرضيات عدة برزت في شرح أصل كلمة «حمانا» والمعاني التي ربما ارتبطت بالتسمية، لكن المتفق عليه أن أصل الكلمة يعود إلى الحقبة الفينيقية. وقد رجح البعض أن تكون التسمية مشتقة من كلمة «Hamo»، وهي كلمة فينيقية تعني «معبد الشمس»، بينما اعتبر البعض الآخر أن التسمية مشتقة من اسم الإله الفينيقي حمون أو من اسم لبعل حمان: أي مكان مكرّس لعبادة الإله، و«حمى» تعني الحرارة، لهذا، فإن التفسير الأقرب إلى الواقع أخذ في الاعتبار المكانة الخاصة التي أعطيت للشمس في الحضارات القديمة هو أنّ « حمانا» تعني مركز عبادة لبعل شمس.

موقعها وامتدادها الجغرافي
تقع حمانا إدارياً في قضاء بعبدا في محافظة جبل لبنان، وهي تبعد عن بيروت حوالي 30 كلم. يبدأ ارتفاعها من 1050 متراً في أسفل البلدة ليصل الى 1560م عن سطح البحر في المنطقة الجبلية التي تتصل بجبل الكنيسة. وتمتد المدينة على مساحة 883 هكتاراً أو 8.83 كلم²، مناخها بارد شتاءً إذ قد تصل درجة البرودة فيها الى ما دون الصفر أحياناً، ومعتدل صيفاً، إذ تتراوح حرارة الجو فيها ما بين 20 الى 25 درجة مئوية.
يصل عدد سكانها في موسم الصيف إلى ما بين 10 آلاف و12 ألف نسمة لكنه ينخفض بصورة كبيرة في الشتاء إلى نحو 1500 نسمة، وهذا التقلص الكبير في عدد المقيمين في البلدة بين الصيف وبقيةمواسم السنة يعكس كونها بلدة اصطياف بامتياز، وإنها وبسبب جاذبيتها وجمال طبيعتها استقطبت الآلاف من المصطافين عبر السنين، وكثير من هؤلاء ابتنوا لأنفسهم بيوتاً أو قصوراً فيها.
يمكن بلوغ بلدة حمّانا من بيروت من خلال سلوك الطرق التالية:
– بيروت- عاليه- بحمدون- القرية- الشبانية- حمانا.
– بيروت- عاليه- بحمدون- المديرج- حمانا.
– بيروت- المنصورية- المونتيفردي- رأس المتن- حمانا.

البلدية قررت حصر خدماتها في النطاق الجغرافي للبلدة منعاً لابتعاد البناء وترتب أعباء كبيرة عليها لجهة تأمين البنى الأساسية والخدمات

قصر-المقدّمين
قصر-المقدّمين

وادي لامارتين
يتعانق وادي لامارتين أو وادي حمانا مع وادي الجعماني في ملتقى طبيعي ساحر يشكّل في الشتاء مجرى نهر بيروت. والوادي هو أحد أشهر المعالم التي تمتاز بها حمانا، وقد ارتبط إسمه بإسم الشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين، الذي قام بوصفه بأجمل الأوصاف، وقال إنّه أجمل ما يمكن أن تقع عليه عين، وهذا الوادي، وما أذاعه لامارتين عبر شعره عن سحره، جذب مع الزمن الكثير من السيّاح الفرنسيين والأوروبيين وساهم في إعطاء حمانا مكانتها على خارطة السياحة اللبنانية. ويعتبر الوادي أيضاً نقطة جذب رئيسية لمحبي الطبيعة ودافعاً مهماً يحثهم على زيارة البلدة بهدف التمتع بطبيعتها الخلابة، وهناك حالياً تعاون وثيق بين بلدية حمانا وبين اتحاد بلديات إسباني، وذلك بهدف تطوير قطاع السياحة البيئية عن طريق خلق رياضات بيئية متنوعة كتسلّق الجبال ورحلات اجتياز الجبال سيراً على الأقدام أو رياضة تسلق الانكسارات الصخرية وغيرها، وقد ساهم الترويج لهذه الرياضات في جعل حمانا مقصداً لكل محبٍّ للطبيعة وباحثٍ عن الهدوء في أوديتها وطبيعتها الجبلية.

تراجع الزراعة
تُعرف حمانا بإنتاجها مواسم عدة، منها التفاح والخوخ والتين والكرمة والفاصوليا، إلا أن أهمّ وأشهر مواسمها هو موسم الكرز. وللكرز الحماني شهرة واسعة أوّلاً بسبب حباته ونكهته المميزة، وثانياً بسبب مهرجان الكرز الذي كان يُقام سنوياً في حمانا، والذي توقّف بسبب ظروف الحرب في لبنان. وتسعى البلدية وبالتعاون مع مختلف جمعيات المجتمع المدني والخيّرين في البلدة لإحياء هذا المهرجان بهدف تشجيع السياحة والاصطياف في البلدة من جهة، وتفعيل قطاع الزراعة، ولا سيما زراعة الكرز من جهة أخرى، وقد كان لمهرجان الكرز دور مهم في ترويج الكرز الحماني واستقطاب المستهلكين والمتذوقين وهو ما ساعد عادة على تصريف المنتجين لموسمهم، وكذلك لكلّ ما يقومون بإنتاجه من ثمار الكرز من مربيات وشراب وغيرهما.
ويأسف رئيس بلدية حمانا المحامي حبيب رزق للتراجع الكبير الذي أصاب الزراعة في حمانا بسبب ظروف الحرب، أو قل الحروب التي مرّ بها لبنان، وقد أدى انعدام الأمن وتقطع المواصلات والهجرة الكثيفة إلى تراجع الاهتمام بالزراعة، وتعمق هذا الاتجاه التراجعي بسبب تراجع القيم الزراعية ولجوء أكثرية الناس الى قطاعات تؤمّن أرباحاً أكثر. لذلك كان على البلدية اتخاذ إجراءات فعّالة لوقف هذا التراجع، ومن أهم الخطوات التي تمّ تبنيها وضع استراتيجية متوسطة الأمد، بالتعاون مع الجامعة اللبنانية ومركز الأبحاث الزراعية، تستهدف تأصيل نصوب الكرز لتصبح أكثر انتاجية وقدرة على مقاومة الامراض ثم توزيعها مجاناً على المزارعين، وقد بدأ العمل في المشروع منذ حوالي السنة تقريباً، وكلّ هذا يتم بغية الوصول الى تأمين قدرة انتاجية ضخمة تسمح لحمانا بأن تصبح مركزاً لتصدير الكرز الى الأسواق الأوروبية حيث يصل سعر كيلو الكرز فيها الى 20 أو 25 يورو.

نزيف الهجرة
دفعت بلدة حمانا، شأنها شأن كلّ المناطق والبلدات اللبنانية ثمناً باهظاً للحرب على شكل موجات نزوح وهجرة للعديد من أبنائها. وبدأت أولى موجات الهجرة في الحرب العالمية الاولى امتداداً إلى الحرب العالمية الثانية، ثم الى الحرب الأهلية اللبنانية، وساهمت تلك الحروب في هجرة حوالي 30 في المئة من سكان حمانا الى الخارج وخصوصاً إلى أميركا الشمالية، بينما توزّع القسم الآخر منهم بين المغتربات الأوروبية والخليجية. وقد طرحت البلدية مؤخراً مبادرة تستهدف توطيد الصلة مع مواطني حمانا الذين استقروا في أميركا الشمالية، وشملت المبادرة حتى الآن زيارة قام بها رئيس البلدية إلى الولايات المتحدة للإلتقاء بمواطني البلدة والبدء بتجميع داتا تتضمّن جميع المعلومات عن مغتربي البلدة وأماكن تواجدهم في الولايات المتحدة الأميركية وأعمالهم ووسائل الاتصال بهم.

ثروة مائية ضخمة (300 نبع مياه) لكن زراعات حمانا في تراجع

حمّــانا-تحت-الثلج
حمّــانا-تحت-الثلج

العرب في حمانا
كغيرها من بلدات الاصطياف في لبنان، والتي تعتمد في اقتصادها على موسم الاصطياف شهدت حمانا تطوراً مستمراً من سنة الى أخرى للحضور العربي في فصل الصيف ولاسيما الكويتيين. وهناك حوالي 80 الى 100 فيلا في حمانا مملوكة من قبل الكويتيين ومن بين هؤلاء السفير الكويتي السابق في لبنان، وزير العمل الكويتي السابق ورئيس الأمن العام الكويتي السابق، وهناك عدد آخر أقل من الفيلات والقصور مملوك من بعض السعوديين أو القطريين.
وكان الحضور الكويتي في حمانا سبباً في اهتمام الصندوق الكويتي للتنمية بالمساعدة على تمويل العديد من المشاريع التنموية كان أبرزها ترميم السوق الأثرية القديمة للبلدة.

حمانا في التاريخ
عرفت المنطقة نشاطاً للشعوب القديمة، واشتهرت «حمانا» بكثرة الينابيع (نحو 300) نذكر منها نبع الشاغور، ونبع الصفصافة؛ وكما توجد فيها عيون عدة منها عين النسور، عين العصافير وعين الحاووز.
وعثر علماء الآثار في « حمانا» على حجارة ضخمة تعود الى الحقبة الفينيقية بحاجة الى درس لكشف أصلها وسبب صنعها واستخدامها، إضافة الى نقود قديمة العهد وكهف في جوف الصخر.

قصر المقدّمين
على كتف وادي لامارتين في حمانا، شيّد قصر المقدمين أو ما يُعرف بقصر «لامارتين» العائد بملكيته لأحفاد « آل مزهر» من المقدمين الدروز، الذين استضافوا الفونس دو لامارتين أثناء زيارته للشرق فعُرف القصر بإسمه منذ أواسط القرن التاسع عشر. ويعتبر القصر من روائع العمارة في مطلع القرن التاسع عشر وقد دخلت في صنعه أرفع فنون العمارة والزخرفة البديعة واستخدم كمقر رسمي للمقدمين. وقد سحر الشاعر الفرنسي لامارتين بهذا الصرح فوصفه بأجمل الأوصاف الشعرية وصنّفه في المرتبة الثانية بعد قصر الأمير بشير الشهابي في بيت الدين، كما خطّ الشاعر في رحابه فصولاً عدة من كتابه (رحلة إلى الشرق 1832-1833)، وهي رحلة حملت معها الكثير من الآلام والتجليات في آن معاً.
وبحسب الرواية، فإن الشاعر لامارتين زار لبنان في شهر آذار مارس من العام 1833 حينما كان نائباً في البرلمان الفرنسي وقام أثناء زيارته للشرق بتفقد الأماكن الأثرية، وكانت له زيارة إلى حمانا، عندما كان القصر مقراً للمقدّم صارم الدين مزهر الذي استضاف القافلة الزائرة ومعهم لامارتين وحاشيته. وبعد مرور 100 عام على زيارة لامارتين للقصر، أي في سنة 1933، جاءت بِعثة فرنسية الى لبنان من كتّاب وشعراء ومثقفين وقامت بزيارة الأماكن التي أقام فيها لامارتين، ومن بينها قصر المقدّمين.

التعايش الإسلامي المسيحي
حمانا هي واحدة من البلدات التي لم يترك فيها زمن الحرب البغيضة جراحاً كما لم تقوَ عليها الفتنة، وهذا على الرغم من التنوع الطائفي الذي تتميّز به. وقد بقي أبناؤها يعيشون سوية كما كان عهدهم دوماً ولم تشهد البلدة بالتالي أي مشاكل طائفية أو مذهبية حتى في عزّ الحرب الأهلية اللبنانية، وهذا بإستثناء بعض المشاكل التي كانت تحصل في محيطها، وكان لوجهاء البلدة وعقلائها دور فوري في استيعابها ومنع اتساع أذاها إلى البلدة.
وتعيش في حمانا إلى جانب الاكثرية المسيحية عائلات درزية قديمة مؤسسة لها وهي جزء لا يتجزّأ من تاريخها وأصالتها، بالإضافة الى بعض العائلات السنية التي أصبحت من ضمن مكونات حمانا بموجب قانون التجنيس. إذا أخذنا المكون العربي الذي أصبح جزءاً من البلدة، فإن حمانا تبدو اليوم فسيفساء فريدة من طوائف وجنسيات وثقافات قلّ مثيلها في بلدات الاصطياف اللبناني.

سجل إنجازات

تعتبر بلدية حمانا من البلديات الناشطة في المنطقة، وهي قامت على الرغم من الإمكانات المحدودة بتنفيذ عدد مهم من المشاريع والمبادرات كان أبرزها:
ترميم مبنى المجلس البلدي المستملك قديماً من قبل البلدية.
سعي البلدية بالتعاون مع المطران جورج أبي يونس ومع مؤسسة كارلوس سليم في المكسيك الى إقامة مدينة رياضية في حمانا على أرض تملكها البلدية، سيكون لها أثر إيجابي على المنطقة ككلّ.
قدّمت البلدية أرضاً لإنشاء فرع لإحدى الجامعات الخاصة في حمانا.
ترميم السوق الاثرية القديمة.
بناء خزان للمياه سعة 750 متراً مكعباً.
تنظيم مهرجان الفكاهة خلال فصل الصيف، باللغات الثلاث: العربية، الإنكليزية والفرنسية، وذلك بهدف تشجيع التنوّع الثقافي والحضاري.
افتتاح مكتب للتنمية المحلية في البلدة.
وضع دراسة لكلّ مصادر المياه في حمانا على نفقة البلدية بالتعاون مع وزارة الموارد المائية.
توقيع اتفاقية تعاون بين بلدية حمانا واتحاد بلديات «ثيرس برغيدا» في إسبانيا، من أجل العمل على تطوير السياحة البيئية في جبل حمانا.

رئيس البلدية المحامي حبيب رزق
رئيس البلدية المحامي حبيب رزق

عاصمة المتن الأعلى
حمانا اليوم هي أشبه بعاصمة المتن الأعلى بما تحويه من دوائر رسمية، وفيها:
مركز اتحاد بلديات المتن الأعلى، ودائرة النفوس، ومركز الأمن العام، ومركز للدرك، ومركز لوزارة الإتصالات، ومركز للضمان الإجتماعي، ومركز للدفاع المدني، وثكنة للجيش، هذا وتعمل البلدية على إنشاء محكمة لتسهيل التقاضي وتوفير مشقة انتقال المتقاضين وأصحاب القضايا دوماً إلى بعبدا أو بيروت، بدلاً من الإضطرار دوماً الى اللجوء الى بيروت.
هذا، وفي حمانا أيضاً ثانوية رسمية، سُميت بـ «ثانوية عبدالله الخوري» على إسم من قدّم مبناها على عهد رئيس البلدية السابق الأستاذ نجيب أبو حيدر الذي كان وزيراً للتربية، وسعى جاهداً لاستملاك البلدية لمبنى الثانوية، الذي يحتوي اليوم على مدرسة ومهنية وثانوية، وهو مُستأجر من قبل وزارة التربية.
وفي حمانا مكتبة عامّة أنشئت سنة 2001 بسعي من الأستاذ كلود رزق وسُمّيت باسم «مكتبة نجيب أبو حيدر» وفيها حوالي 13 ألف كتاب، يديرها عدد من سيدات حمانا المثقفات، ويستضفن فيها العديد من ورش العمل والندوات والدورات المتعلقة بتعليم اللغات الأجنبية.

سوق العقارات
تشهد حمانا منذ سنة 2007 فورة في الطلب على عقاراتها أدت إلى قفزات كبيرة في الأسعار وقد وصلت في بعض المناطق إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل سنوات. وساهم في الارتفاع نظام البناء المحدود الذي تعتمده البلدية والهادف الى الحفاظ على الطابع الريفي والقروي للبلدة، فعدد الطوابق محدود، وكل طابق لا يتألّف من أكثر من شقة واحدة فقط، وذلك لمنع إنشاء مجمعات سكنية تجارية ضخمة تحوّل حمانا من بلدةٍ خضراء الى مدينة مكتظة. يشار هنا إلى أن دراسة نشرت حديثاً أظهرت أن معدل تملّك الأجانب للعقارات في حمانا وصل الى حوالي 35 في المئة من مساحة البلدة.
ويبدو أن السياسة المتشدّدة لبلدية حمانا لجهة شروط البناء وتقييد المساحات وأنظمة الشقق جعلتها غير جذابة للمطورين أو للمستثمرين الجدد، وكان بالتالي من الأسباب التي أضعفت الطلب الخارجي الجديد على أراضيها، كما أن السياسة نفسها تشجع على تعزيز حضور مواطني حمانا في البلدة والحفاظ بالتالي على هويتها مع استمرار الترحيب بالمتمولين الكويتيين أو اللبنانيين الذين يبنون فيها الفيلات والمنازل الراقية. ومن بين الخطوات التي اتخذتها البلدية في هذا السياق،الامتناع عن تقديم الخدمات البلدية خارج نطاق جغرافي معين للبلدة. وهذه الشروط، يقول رئيس البلدية المحامي حبيب رزق لا تهدف إلى إبعاد أي فئة وخصوصاً العرب عن حمانا، إذ أن الدافع الأول لها هو عدم التشجيع على انتشار البلدة نحو الأطراف وهو ما يضع أعباء كبيرة على البلدية لجهة تأمين البنى الأساسية الجديدة مثل الطرق وإضاءتها وخدمات المياه والكهرباء وتصريف الأمطار وغيرها، وهذه الأعباء لا طاقة للبلدية في ظروف الوضع الحكومي وتراجع إمكانات الدولة على تحملها لوحدها، علماً أن البلدية لا تحصل على مستحقاتها من الدولة إلا بعد مرور سنوات، فقد تم مثلاً في سنة 2012 تحويل مستحقات البلدية عن سنة 2010، أي بتأخير سنتين.

مهرجان-حمانا
مهرجان-حمانا
مكتبة-حمّــانا-العامّة
مكتبة-حمّــانا-العامّة
شاغور-حمانا-الشهير
شاغور-حمانا-الشهير

نفق شتورا- حمانا مؤجل
بحث المجلس البلدي في حمانا مع معالي وزير الأشغال والنقل غازي العريضي حول إمكانية تنفيذ مشروع قديم يتعلّق بشق نفق يصل حمانا بشتورا، وذلك نظراً لأهمية هذا المشروع لمنطقة حمانا ومنطقة المتن الأعلى بشكل عام، ولكن تبيّن أنّ تكلفته قد تصل الى حوالي 55 مليون دولار موزّعة بين تكلفة الإستملاكات والتنفيذ. ونظراً لهذه التكلفة الباهظة، فإنّ تنفيذ المشروع يحتاج الى قرار من مجلس الوزراء وطبعاً هذا في حال توفّرت الاموال اللازمة لإنجازه سواء من مصادر داخلية أو خارجية.

عائلات حمانا

تعيش في حمانا منذ قديم الأزمان عائلات عديدة تنتمي إلى طوائف مختلفة، ومن أبرز تلك العائلات: أبو جودة، أبو سمرا، أبو موسى، أبو رزق، رزق، أبو صعب، أبي صعب، أبو شديد، شديد، أبو يونس، أبي يونس، أبو فرح، أبو فرج، فرج، فرحات ، أيوب، بدور، أبي توما، توما، برمكي، حاتم، الجبيلي، بشارة، تبشراني، الحكيم، حدشيتي، الخوري، خليل، راشد، الخوري، شبلي، سعد، زغزعي، عساف، عيسى، العيّا، عاد، ضاهر، ضو، عبيد، الحوزي، صعب، شحادة، أبي عساف، غصن، فارس، فواز، كرم، كساب، المغاريقي، نصرالله، نمر، نهرا، مهنا، يونان، يمين، البيري، خوري، أبو حيدر، بو متري، حداد، نصر، شويري، زيادة، الرومي، ريشاني، أبو الحسن، الأعور، مزهر، فليفل، عبيد، بلوط، شعبان، شطيح، بيادر، تيماني.

حكايات الأمثال في جبل العرب

حكايات الأمثال في جبل العرب

تنشر مجلة الضحى بدءاً مع هذا العدد مقتطفات من كتاب الأديب السوري فوزات رزق الذي تناول فيه حكايات الأمثال في الأدب الشعبي في جبل العرب وفي بلاد الشام بصورة أعم. وقام المؤلف بجمع قصص الكتاب بالاعتماد على مجموعة متنوعة من المصادر المكتوبة والروايات الشفهية التي حققها في قرى جبل العرب بصورة خاصة. ومن المصادر التي يعترف المؤلف بفضلها كتاب”أمثال وتعابير شعبية من السويداء” لمؤلفه سلامة عبيد، وكذلك معجم أحمد أبو سعد، ومعجم أحمد تيمور باشا، ومؤلفات الكاتب التراثي اللبناني سلامة الراسي.
ويوضح المؤلف في المقدمة التي وضعها لكتابه أن العديد من أمثال الجبل وحكايات الأمثال لها جذور لبنانية، والسبب في ذلك يعود “إلى العلاقة الوشيجة بين جبل العرب وجبل لبنان؛ فغالبية سكان جبل العرب إنما أتوا من لبنان، ولا تزال عائلات عديدة في الجبل تحمل أسماء القرى اللبنانية التي أتوا منها مثل: الريشاني والحاصباني والعماطوري والباروكي والشوفي والعنداري والبكفاني والمتني، وغير ذلك كثير، فحينما نزحوا من جبل لبنان إلى جبل حوران، حملوا في ما حملوا عباراتهم، وأمثالهم التي جرت حكاياتها في لبنان”.
ويوضح الكاتب الأستاذ فوزات رزق في مقدمة الكتاب السبب الذي جعله يعتمد في لغة السرد أسلوبي الفصحى حيناً واللهجة المحكية حيناً آخر، وهو “اعتقدنا أن بعض الحكايات، وبخاصة الخيالية منها، إنما تفقد بهاءها ورونقها إذا غادرت الثوب الذي ولدت فيه وهو اللهجة المحكية. أما الأمثولات، والحكايات الواقعية، فإن نقلها بالمحكية يضعف من قيمتها، بيد أننا حافظنا أحياناً على المحكية في الحوار القائم في هذه الحكايات فقط”.
ويلفت الكاتب إلى التعارض الذي قد يجده القارئ بين روايته لبعض الحكايات مع ما يعرفه البعض من أبناء المنطقة، “وهذا أمر طبيعي ما دامت المصادر متعددة وشفهية إذ قد تطرأ على الرواية زيادات وتفاصيل تلائم اكثر البيئة التي تروى فيها، وقد تستعير من تلك البيئة موادا،ً ومعطيات تكون أكثر واقعية وتساعد أكثر على فهم المثل أو الرواية. ويلاحظ رزق “أن المصادر المكتوبة التي كنّا نرجع إليها كانت تختلف أحياناً في رواية بعض هذه الحكايات”.

تغرق ولا يردها الأبلق

الأبلق هو الأبيض من البغال وغيرها من الحيوانات وقد خالطه سواد.
وقد سمعت هذا المثل بصيغتين، ولكل رواية غرض مختلف في التمثيل، فمن قائل: “ يا بتغرق , يا بردها الأبلق “. ويضرب هذا المثل عند المغامرة غير المضمونة النتائج. ومن قائل آخر: “ تغرق، ولا يردها الأبلق “. ويضرب هذا المثل في الأنفة ورفض المساعدة من نذل.
غير أن حكاية المثل التي رواها لي السيد تركي رزق من قرية خازمة وعمره ستون عاماً ترجح أن الصيغة الثانية هي الأصل بحسب مضمون الحكاية.
وتقول الحكاية إن فرساً أصيلة جمحت، نحو مستنقع لو دخلت فيه لغرقت، فحار القوم في الأمر من دون أن يستطيعوا إدراكها، وحين وصلت إلى بداية المستنقع أبطأت في عدوها، فأدركها بغل أبلق كاد صاحبه أن يحرفها عن المستنقع، فاستعظم صاحب الفرس الأمر، واعتبرها إهانة لفرسه أن يدركها بغل، فصاح “ تغرق ولا يردها الأبلق “ فذهبت مثلاً في الأنفة من مساعدة الضعيف.
وهناك رواية ثانية لهذا المثل عند الأستاذ سلامة عبيد يقول فيها إن المثل هو شطر من بيت شعر شعبي، يقول: “ تهفى الأصيلة ولا بليق يردها”. وحكاية المثل كما رواها سلامة عبيد هي أن لصاً سرق فرساً أصيلة من خيول أحد أمراء البدو وفرّ بها. فلحقه الأمير وفرسانه لاسترداد الفرس. ولكن الخيل عجزت عن اللحاق بتلك الفرس السبوق، وعندما وصلت الفرس إلى أرض وعرة، كثيرة الحجارة والصخور، بدأت سرعتها تخف. وبدأت سرعة البغل بليق الذي يركبه أحد أتباع الأمير تتزايد حتى كاد يدرك الفرس، عندئذِ أمر الأمير تابعه أن يتوقف قائلاً: “ تهفى الأصيلة ولا بليق يردها “ أي لتذهب هباء. ويقال هذا المثل في رفض المساعدة المهينة.
ويذكر سلام الراسي حكاية هذا المثل تحت عنوان “ تهفى ولا بليق يردها “. وروايته قريبة من رواية سلامة عبيد.

أهل المجيمر عرّسوا والدف يرقع في وِطْر

المجيمر قرية في محافظة السويداء، تقع فوق تل على مسافة 15 كم جنوبي السويداء، وهي التي مرّ بها امرؤ القيس في رحلته الشهيرة إلى قيصر الروم، وقال فيها:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة من السيل والغثّاء فلكة مغزل
والمثل يضرب في القوم الذين يبتهجون في مكان على حين الفرح الذي يبتهجون به في مكان آخر. وحكاية المثل رواها لي السيد معذى الجباعي من قرية المجيمر نقلاً عن أم غازي هنية الجباعي من قرية المجيمر وعمرها ثمانون عاماً، وقد كانت عمتها ياسمين بنت سليم الجباعي بطلة الحكاية.
والحكاية كما روتها هنية أن عمتها ياسمين تزوجت من شحاذة الجباعي. وكان بيت شحاذة العريس متطرفاً عن القرية على طريق “خربة وَطْر” التي تبعد أكثر من كيلومتر عن المجيمر وقد قاد الشبين فرس العروس إلى بيت زوجها، ومن حوله الفاردة. وحينما ابتعدت الفاردة عن بيوت القرية استهجنوا الأمر وكأنهم يزفون العروس إلى قرية أخرى، عندئذ أخذت الفاردة تغني:
أهل المجيمر عرسوا والدف يرقع في وطر 1
كناية عن أن العرس في مكان والفرح في مكان آخر. فصارت الأغنية مثلاً 2.
غير أنني وقعت في كتاب الأستاذ سلامة عبيد على رواية أخرى، لم يسمِ أبطالها واكتفى بالقول إن إحدى بنات القرية قد هربت مع حبيبها الأول في ليلة عرسها إلى خربة وطر”.
وتبدو رواية الأستاذ عبيد أقرب إلى مآل المثل الذي ابتعد عن التصريح، لكنه كنَّى عن التئام شمل الزوجين بالدف الذي يرقع في مكان اختفائهما.
وفي هذا المعنى يقولون في مصر: “ العروسة في صندفا، وأهل المحلة متحففة “. وصندفا والمحلة مدينتان متباعدتان في مصر. والتحفيف نتف الشعر استعداداً للعرس، فمن مظاهر زينة النساء أن يتحففن عند كل عرس.

بدي إدحلها دحل

تطلق هذه العبارة في معرض التهكم حينما يسرف أحدهم في المبالغة عند سرد وقائع جرت معه، والعبارة منتشرة ومعروفة في أنحاء الجبل، وأصل هذه العبارة أن رجلاً معروفاً بمبالغته أثناء حديثه عن مغامراته ومعاركه الوهمية، أخذ ذات يوم يسرد ما جرى له في إحدى المعارك والغزوات، فقال إنه أثناء هجومه في إحدى المعارك أصابت رصاصة إحدى قوائم فرسه، لكن الفرس لم تخذله، وتابعت الإغارة، لكن رصاصة ثانية أصابت قائمة أخرى من قوائم الفرس، واستمرت الفرس بالهجوم، ولم تخطء الرصاصة الثالثة قائمة الفرس الثالثة، لكن الفرس ظلت تقتحم المعركة كأنّ شيئاً لم يكن. وهنا تدخل أحد الحاضرين مستنكراً أن تستطيع الفرس بعد إصابة قوائمها الثلاث الاستمرار في السير، فكيف بها تعدو؟! . . وهنا قال الرجل لمحدثه:
“ أنا حر … بدي إدحلها دحل “ .
وقد ذكر سلامة عبيد هذه العبارة، وأورد حكايتها على نحو لا يختلف عن روايتنا.
وقد وقعت على حكاية مشابهة رواها لي أحد الصيادين. والصيادون معروفون بتزيدهم في الأخبار. قال الصياد:
إن أحد الصيادين حدّث جلساءه عن نشاطه في الصيد، إذ عُرض له في إحدى المرات رف من الحجل، ومعه بارودة خلع، فصوب نحو ديك حجل فرماه. فما لبث أن عُرض له ديك آخر، فبادر إلى رميه، فعرض له ثالث، وهكذا حتى اصطاد أربع أو خمس طرائد متتابعة. فصاح به أحد الجلساء:
ـ دِكّها يارجال … دِكّها. أي ضع بالبارودة طلقات؛ فهي بارودة خلع وليست رشاشاً .

تفضلوا على دار خيي
تفضلوا على دار خيي

 

تفضلوا على دار خيِّي

هذا المثل يضرب للرجل الذي يدعو الضيوف إلى بيوت الآخرين، بدلاً من دعوتهم إلى بيته. وقد ترجموا هذا الفعل بقولهم: “يا ضربة من كيس غيري”.
وحكاية هذا المثل معروفة في أنحاء الجبل، غير أنهم يتناقلونها بغير إسم أحمد أحياناً.
ومن السائد في الجبل أنه إذا حلّ ضيوف على أحد رجال القرية، فمن واجب هذا المُضيف أن يدعو رجال القرية للسلام على الضيوف بقوله: “شرفوا اشربوا قهوة، عندنا ضيوف”، فيتقاطر الرجال إلى المضافة للسلام على الضيوف، ومن ثم يدعونهم للزيارة، ومن واجب الضيوف تلبية دعوة كل من جاء للسلام عليهم.
وخلاصة الحكاية أن أحمد كان إذا أراد دعوة ضيوف في القرية، لا يدعوهم إلى مضافته، وإنما إلى مضافة أخيه.
وقد سمعت أكثر من شخص مدعياً أن هذه الحادثة قد وقعت في قريته، ولا يتورعون عن ذكر اسم الرجل الذي كان يدعو الضيوف إلى مضافة أخيه باسم آخر.
وقد أورد سلامة عبيد هذا المثل بصيغة أخرى واسم آخر، إذ جاء عنده: “كرم خير بدار بَيُّو”، أو بدار خَيُّو، أي بدار أبيه أو أخيه. وقال في حكاية المثل إن خير هذا اشتهر بأنه يدعو الضيوف إلى دار أخيه أو دار أبيه، وقلما يدعوهم إلى بيته.

توبة نصوحة

أنقل هذه الحكاية من الذاكرة البعيدة. وقد سمعتها مراراً حديثاً دينياً وعظياً، في معرض قبول توبة التائب إلى الله توبة خالصة، وأن باب الله لا يقفل في وجه من طرقه صادقاً، مهما بلغت ذنوبه. تاريخ التدوين صيف 2004 .
والحكاية أنه كان هناك رجل تاب بعد ارتكاب العديد من الجرائم فكانت توبته حقيقية خالصة لله، ولوجه الله، فصاروا يطلقون على كل توبة حقيقية خالصة، توبة نصوحة.
المهم أن الرجل كان كسّاراً، قتل في حياته تسعةً وتسعين قتيلاً، وفيما كان يتابع مسيرته الشقية، إذ مر ليلاً الى جانب مقبرة، وحينما حاذاها، تناهى له من الداخل صوت يقول:
ـ “ إن ما وصلت لك طيّبة، بوصلك وإنتِ ميّتة”.
فاستوقفه الصوت، ودخل المقبرة، فشاهد رجلاً ينبش قبراً، وينتشل جثة امرأة ماتت ليومها، يريد أن يطأها. وكان الرجل يحمل بيده مذروباً “عصا غليظة “. فضرب الرجل المعتدي على رأسه، فطرحه ميتاً، ثم تابع طريقه. وعلى الطريق هداه الله بعد هذه الحادثة، وأرشده إلى الطريق القويم. فخطر له أن يستغفر ربه، ويعلن توبته على ملأ من رجال الدين في المجلس “ بيت العبادة “. ومن ساعته اتخذ طريق المجلس، ودق بابه بمذروبه، ففتحوا له، ودهشوا لقدومه إلى المجلس وبيده المذروب. فقال لهم:
ـ “ يا حضرات المشايخ ! أنا تايب لله ولوجه الله، سامحوني عن الماضي، وعاملوني على المستقبل “ .
فضحكوا سخراً، لعلمهم أن هذا الذي قتل تسعة وتسعين قتيلاً لن يكون له مكان إلا في النار.
لكنهم من جهة أخرى لم يستطيعوا أن يقفلوا في وجهه باب التوبة، فقال له الشيخ سائس المجلس:
ـ اذهب وازرع مذروبك هذا في المزبلة، فإن أورقَ تكون توبتك ناصحة.
ولم يكذّب الرجل الخبر، فانصرف من ساعته إلى المزبلة، وغرس مذروبه الخشبي فيها، وانصرف.
في اليوم التالي عاد إلى المزبلة، فوجد مذروبه قد أورق، فحمله، واتجه إلى المجلس. فأيقن الجميع أن توبته خالصة، وسألوه عن سر ذلك، فأخبرهم بحكاية الرجل الذي صادفه في المقبرة، فقالوا له:
“ هذي توبة نصوحة . والله يا عمي شكارتك غلبت بيادرنا .

-2 جبر من بطن أمه للقبر

جبر من بطن أمه للقبر

يضرب هذا المثل للرجل إذا لازمته التعاسة منذ ولادته حتى نهاية حياته.
والمثل معروف في غير محافظة السويداء. وقد ورد في “معجم الأمثال الشعبية الفلسطينية “ لمؤلفيه فؤاد إبراهيم عباس وأحمد عمر شاهين.
وحكاية المثل أنقلها من الذاكرة البعيدة. تاريخ التدوين شتاء 2006.
والحكاية أن رجلاً يدعى جبر كان يعمل في إحدى المدن عاملاً، يشتغل يوماً ويقعد عاطلاً عن العمل أياماً، وصادف أن مر بمقبرة المدينة، فلفت نظره أنه قد ارتفعت فوق كل قبر شاهدة دوّن عليها اسم المتوفى وعمره، وقد استغرب أن هؤلاء المتوفين قد قضوا في سن مبكرة؛ هذا عمره سنة، هذا سنة وستة أشهر، هذا عمره سنتان وهكذا. فاستغرب ذلك وذهب إلى حارس المقبرة يسأله عن سر وفاة هؤلاء في سن مبكرة. فأفاده الحارس أنهم في هذه المقبرة لا يسجلون إلا أيام السعادة التي عاشها الإنسان.
فقال له جبر :
إذا مت في مدينتكم فسجل على شاهدة قبري: “ جبر من بطن أمه للقبر “
وقد عثرت على حكاية هذا المثل في الموسوعة الحورانية وأضاف صاحبا الموسوعة أن جبر هذا إنما هو طنوس الجبر من لبنان سافر إلى الأميركيتين، وهناك حدث له ما حدث . 3

جازة حمزي براس الإمّان 4

والمثل معروف في أنحاء الجبل كافة، وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد في أمثاله على نحو مختلف “ جازة حمزي براس المعناي . 5
ويضرب المثل في الرجل إذا ألح في طلب الشيء دون مراعاة الوقت المناسب . وحكاية المثل أرويها من الذاكرة البعيدة، وهي لا تختلف كثيراً عن رواية الأستاذ عبيد. ولم أقع على المكان الذي جرت فيه واقعة الحكاية غير أنهم يذكرون أن حمزة هذا خطر له أن يتزوج في موسم الحصاد، لأمر ما بينه وبين عروسه. ولما أنه لم يكن من المنطق أن يتوقف عن الحصيدة ليتزوج، فقد طلب منه أهله التريث ريثما ينتهون من عملية الحصاد، لكنه أبَى، وأصرّ على الزواج قبل إتمام الحصاد، فذهبت زيجته مثلاً في الأمر إذا أُلحّ في طلبه في وقت غير ملائم فقالوا: “ جازة حمزي براس الإمّان “

تجارة المجدلاني

هذا المثل معروف في بلدة عرمان وما حولها. ويضرب في الرجل إذا اتَجر فخسرت تجارته. وحكاية المثل ما زلت أسمعها عند كل خسارة تلحق أحد الناس جراء غفلة أو خطأ في الحساب. تاريخ التدوين صيف 2007.
والمجدلاني رجل من مجدلبعنا في لبنان، فقير الحال، وفد إلى الجبل وكان يتعاطى تجارة العنب على حماره مقايضة، فحدث أن اشترى حمل العنب بمدِ من القمح، لكنه بعد بيع العنب تجمّع لديه ثلاث أرباعِ المدّ من القمح لكنه لم يدرك خسارته، وذهب يستعين بمن هو أكثر خبرة منه قائلاً له: “ احسب لي هالحسبة؛ إذا قلنا: اشترينا حمل العنب بمد قمح، وبعناه بثلاث أرباع. قديش بنكون ربحنا؟.

جراب الكردي

مثل يطلقونه على الشيء، يدعي صاحبه أنه نفيس، وهو في حقيقة الأمر لا يساوي شيئاً.
وأصل المثل كما رواه سلام الراسي أن كردياً أراد أن يذهب إلى الحج، فاستودع جاره جراباً، ريثما يعود من حجته. وعندما عاد افتقد جاره الجراب فلم يجده، فأعلن استعداده لدفع ثمن محتوياته. لكن الكردي أبَى، إلا أن يرفع قضيته إلى القاضي.
فسأله القاضي عن محتويات الجراب فقال:
“ فيه جواهر ونقود، وخلاخل وعقود، وعباءات وملاءات، وصوانٍ وأوانٍ؛ وفيه سيوف مرصعة، ودروع مدرّعة، وخناجر وطناجر؛ وفيه أربعة رماح مشرفية، وخمس سجاجيد أعجمية “.
فقاطعه القاضي وصاح به: كفى ! أنت استودعته جراباً ؟ أم بناية بخمسة أبواب؟! . 6

أبو جبر

قصّة واقعية لكنها أغرب من الخيال

الشيخ أبو جبر سلامة الخمود الاطرش و اغاثة الملهوف في تراث الموخدين الدروز

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار

كان الأهل في مضافات جبل العرب يردّدون لقبه “سمّ الموت”، بإعجاب تمازجه الدهشة كلّما ذُكر اسمه، وذلك للدلالة على بطولته وكونه موتاً نازلاً على أعدائه.
يذكره الشاعر أحمد العلَيّان، وهو أحد أبرز الشعراء الشعبيين في القرن التاسع عشر فيقول فيه:
تلفي عا منـــزول مَلْفى لَلاِجْـواد لَلْغَضنــفرْ والنّمـــر،ْ إيضا الفــــــهدْ
تلقى (سَمّ الموت) مامِثْلَهْ أحَـــدْ عِزْ مَنْ ركب الفرس إيضا وْلَـــــــكَدْ
ولد سلامة (سم الموت) نحو أواخر القرن الثامن عشر، وبذا فقد عاش حياة حافلة استغرقت القرن التاسع عشر بطولِهِ، إذ ناف بعمره عن مئة عام، لكن حياة أبو جبر لم تكن إنفاقاً للسنين الرتيبة بل كانت سِجلاً من البطولات وإغاثة الملهوف لكنّه سجل امتزج في الوقت نفسه بمآسٍ موجعة قلّما تجد بطلاً سَلِم من معاناتها وامتحانها.
يتعرّض الأمير متعب الأطرش في مذكّراته لدور(أبو جبر) سلامة ــ وأبو جبر هو جد الأمير متعب لأمّه ــ، فيذكر بأنّه كان له الفضل الأوّل في تدعيم حكم إسماعيل الأطرش في الجبل، ذلك لأنّ أبا جبر كان من الفرسان الأشدّاء الذين تضافرت جهودهم في مجالات اجتماعية متعدّدة “لتوطيد الأسس الجديدة”، ولا بدّ أنه يقصد بالأسس الجديدة، إحلال الزعامة الفتيّة والفعّالة لإسماعيل الأطرش، والتي كانت تلبّي مصالح الموحّدين الدروز، محل الزعامة التي لم تستطع أن تتكيّف مع التغيّرات الاجتماعية في الجبل، من جهة أولى، وذلك بعد أن تزايدت أعداد المهجّرين من الموحّدين الدروز من جبل لبنان ووادي التيم وشمال فلسطين وديار حلب، وبعد أن تزايدت أطماع الولاة العثمانيين في خيرات المجتمع الجديد من جهة ثانية.

مؤامرة لقتل إسماعيل الأطرش
يستشهد الأمير متعب بحادثة جرت نحو سنة 1870م، تدلّ على حذر جدّه سلامة ــ ابن عم إسماعيل ــ وتوجّسه من العثمانيين، فيروي بأن الوالي العثماني في دمشق، تلقّى رشوة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية من الشيخ واكد الحمدان، شيخ جبل الدروز آنذاك، مقابل التخلّص من إسماعيل الأطرش، عدوّه الّلدود ومنافسه على زعامة الجبل، والذي كان يقود معارضة الدروز لزعامة الحمدان الإقطاعية المستبدّة.
كان الشيخ الحمداني قد صوّر للوالي أن لا مصلحة للدولة في بقاء نفوذ إسماعيل الأطرش المتعاظم في أوساط الدروز، وسائر لواء حوران الذي كان يشتمل على جنوب سوريا وشمال الأردن، كان إسماعيل قد نجح في عقد سلسلة من المصالحات والاتفاقيات بين فريقه من دروز الجبل وبين جماعات من عشائر حوران والبادية، وقد جعلت هذه المساعي منه الرجل الأقوى في جنوب سوريا حينذاك ــ وكان المستشرق البريطاني القس بورتر قد زار إسماعيل في قريته، القرَيّا، فأعجب بشجاعته، وباهتمامه بمن حوله، ونعته بـ” أشجع رجل في شعب شجاع”.
استدعى الوالي إسماعيل لمقابلته في دمشق، وكان سلامة بين أبرز من رافقه في تلك الزيارة المشؤومة، ولمّا قابله الوالي أعجب بما تنطوي عليه شخصيّته من مزايا، فلم تُسَوّغ له نفسه قتله، لذا كتب كتاباً ضمن مُغَلّف موجه إلى قائمّقام بُصرى يطلب إليه في ذلك الكتاب بأن يسقي إسماعيل السّمّ، وأعطى المغلّف إلى إسماعيل نفسه، وفي الطريق إلى بصرى قال سلامة لابن عمّه إسماعيل:”افتح الكتاب لنتعرّف ما به”، فأجابه إسماعيل:”كيف نفعل ذلك والرجل وثق بنا على كتاب نوصله لعامله على بصرى؟ هذا لا يجوز، والأمانة لا تسمح لنا به”، فقال له سلامة:” أنا أرى بأن الوالي قد أرسل هذا الكتاب معك لتطّلع على ما به، ولتتجنّب خطره، وأنت يا إسماعيل أصابنا بك مثل الذي حمل كتاباً على قطع رأسه”.
لم يقبل إسماعيل أن يفتح المغلّف، وحاول سلامة أخذه والاطّلاع عليه، فلم يرضَ إسماعيل، بل أصرّ على قراره بعدم فتحه، وفي بُصرى دخل الرجلان على القائمّقام الذي اضطرب لدى قراءته الكتاب ــ كما روى سلامة في ما بعدــ لكن القائمّقام لم يكن أمامه إلّا أن ينفّذ الأمر، فقُدّمَت القهوة المسمومة لهما، سكب سلامة فنجان القهوة ضمن لثامه تحت شفته السفلى، أما إسماعيل فقد شرب القهوة التركيّة، وما أن استقرّت تلك القهوة في جوفه حتّى نظر إلى سلامة قائلاً: “قم نعجّل بالعودة إلى ديارنا”.
أدرك سلامة أنّ ما توقَّعه قد حدث، فركبا جواديهما عائدين، وعندما صارا قرب قرية جْمَرّين ــ شمال شرق بصرى ببضعة كيلومترات ــ ظهرت أعراض السم على الشيخ إسماعيل، فأرسلا “ المفَزِّع إلى المجيمر وهي أولى قرى الجبل ممّا يلي سهل حوران، وشيخها من آل الحمّود الأطرش، نزلا بها للاستراحة، ثمّ انتقل إسماعيل إلى قريته عرى، ولم ينفع معه طبٌّ ولا دواء، فوافته المنيّة بعد سبعة أيّام من الزيارة المشؤومة للموظّفين العثمانيين، وسَلِمَ سلامة بحذره.

إسماعيل الأطرش “أشجع رجل في شعب شجاع” وطّد نفوذه على جنوب سوريا لكن الوالي العثماني اغتاله بقهوة مسمومة بناء على تحريض واكد الحمدان

قصة أغرب من الخيال
في وقتٍ ما من سبعينات القرن التاسع عشر، وبحسب المرويّات الشفهيّة للأهل، أنّ تاجر أبقار شركسيًّا من قرية “الجويزة” في ديار الجولان، جنوب غرب دمشق بنحو خمسين كيلومتراً، قد اعتاد القدوم إلى جبل الدروز، ليبيع أبقاره الجولانية المشهورة بإدرارها للحليب، وبقوّة بُنْيَتها، وبُنْيَة ما تُنْجبه من عجول، تصير ثيراناً قويّة تجرّ المحاريث في أرض الجبل، وفي مثل هذه الحال، كان لابدّ لذلك التاجر وأمثاله من مرتادي جبل الدروز، من أن يعبروا قرى حوران التي تفصل بين الجولان وبين الجبل، وكذلك لا بدّ له من أن يحلّ ضيفاً على أحدهم في إحدى القرى الحورانية، لعلّه يبيع بعض ما يتجر به، ثمّ إنّ المسافة بين الجولان وجبل الدروز يصعب قطعها في يوم واحد على شخص في مثل حاله.
القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار.
حلّ الرجل في رحلته تلك ضيفاً على أحدهم في بلدة بصرى. دارٌ رحبةٌ مسوّرة، تتصدّرها بوّابة عالية، وفي تلك الدار أرزاق موفورة، ونسوة وأبناء ومرابعون.
رحّب صاحب الدار بالتاجر، ولمّا علم وجهةَ رحلته حذّره من أنّ الدروز قد يغدرون به، ونصحه بعدم متابعة طريقه إلى جبل أولئك القوم، لكنّ التاجر كان واثقاً من سلامة طريقه، فهو قد خَبِر الدروز في أكثر من مرّة، وجرّب معاملتهم، واستنتج أنّ رأي مضيفه يستند إلى حزازات سببها أخطاء بعض الأشخاص من حوارنة أو دروز من الجانبين، ويستغلّها العثمانيون من جانب آخر، وبهذا يسهل على هؤلاء التحكّم في الفريقين الضّحيّتين، الدروز والحوارنة.
لم يأخذ الشركسي بنصيحة مضيفه، وفي صبيحة اليوم التالي انطلق بتجارته مبكّراً نحو الشرق من بصرى، حيث قرى الجبل التي تتناثر على السفوح الوعرة. قال له المضيف:”إذا رجعت سالماً فلا تنسَ أن تمُرّ بي”.

غدر في هزيع الليل
بعد أيّام من الاتِّجار في الجبل وُفِّق الشركسي في بيع أبقاره، وملأ جيوب كَمَرِه ليرات ذهبية من ثمنها، عند ذاك قرر العودة إلى قريته في الجولان، ولكنه أحبّ أن يلبّي دعوة مضيفه السابق في بصرى، وكان الغروب قد أدركه قربها، وهو يعلم حق العلم أنّ السفر ليلاً لأمثاله ممّن يحمل ذهباً في ذلك الزمن غير آمن، والطرق مُخوِّفَة حتى في وضح النهار.
نزل الشّركسيّ ضيفاً عند البصراوي، فرحّب به واستضافه، وبُعَيْد هزيع من الليل تأكّد المُضيف أنّ ضيفه قد استغرق في نومه، فعمد إلى بلطة مسنونة أهوى بها على رقبة الضيف الغافي ففصل رأسه عن جسده، وكان قد أعدّ حفرة في جانب من باحة داره، رمى جثة القتيل بها، وأهال عليها التراب ورشّ التبن والقش فوقه، فبدت الأرض متماهية مع ما حولها، ونظّف مكان الجريمة فكأنّ شيئاً لم يكن.
هي الأيّام تمضي، وانقطعت أخبار الشركسي عن قريته في الجولان، وشُغِل أبناؤه وبناته، وذووه بأمره، وأيقنوا بعد متابعة وتقصٍّ أن فقيدهم ضاع أثره وفُقِدَ في جبل الدروز، ولطالما عزّز الحاقدون على الجبل مثل هذه الأقاويل.

ألقاه في حفرة في الحديقة وسوى فوقه التراب
ألقاه في حفرة في الحديقة وسوى فوقه التراب

حكمة الأقدار
وفي يوم من أيّام بؤس أسرة ذلك الشركسي المفقود، مرت بقرية “الجويزة” جماعة من غَجَر ذلك الزمان، كانت تتجوّل في قرى وأرياف الجولان، فاختطفت صغرى بناته، الطفلة “زينب “، وعلى عجل، فرّت بها تلك الجماعة إلى الأردن.
كانت زينب في السابعة من عمرها يومذاك، وقد بقيت عند خاطفيها نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبحت فتاة في العشرين من عمرها، صبية شقراء رائعة الحسن، خضراء العينين ممشوقة القد. ولما كان التّجوال سمة ثابتة في حياة الغجر، فقد شاء القدر لزينب أن تمرّ بها جماعتها في بصرى. هناك اشتراها أحد الرجال بأربع ليرات ذهبية ليتبنّاها، وصدف أن رآها الرجل قاتل ذلك الشركسي العاثر، سُحِر بجمالها، فغَصَب متبنّيها على بيعها له، وأخذها معه إلى بيته. أرادها زوجة رابعة له، بالإضافة إلى زوجاته الثلاث، فأبت زينب ذلك. وتمادت مع الأيّام في رفضها الزواج به، خصوصاً بعد أن علمت من كبرى زوجاته بمقتل تاجر شركسي كان عائداً من قرى جبل الدروز إلى دياره البعيدة.
أدركت زينب أنّ ذلك الرجل القتيل هو أبوها. كانت تلك المرأة قد حذّرتها بأنّه إذا استمرّت في عنادها له، سيقتلها كما قتل الرجل المطمور في تلك الحفرة من زاوية باحة الدّار، وحيث لا يعلم بسرّها غيرها بعد اثنين، هما: الله، وزوجها القاتل، كانت قد راقبته خِفْية عندما قتله وسلب ماله، وواراه التراب، ورشّ على وجه التراب التبن للتمويه، وكذلك أرشدتها إلى موضع حفرة المقتول.
تجاهلت زينب علمها بسرّ مقتل أبيها، وظلّت على رفضها الزواج بقاتله. تحمّلت صنوفاً من العذاب والإكراه، كان يذكّرها بأنّها ستظلّ خادمة في حريمه إلى أن تقبل به زوجاً لها، وعندها ستعيش حياة سعيدة، لكنّها لم تَلِنْ له، وقُدّرَ لها أن تتعرّف على امرأة بدويّة اعتادت المجيء إلى حريم ذلك الرجل، مالكها. أعْلَمَتها بأمرها، وباحت لها بسرّها، وبأنّها عرضة للإغتصاب من مجرم هو قاتل أبيها، فوعدتها البدوية بسبيل خلاص من محنتها.
كانت البدوية زوجة لراعٍ يرعى بأغنام وماعز لدروز قرية بكّا المجاورة، وتقع إلى الشرق من بصرى، على مسافة نحو سبعة كيلومترات منها، وشيخها سلامة الحمّود الأطرش.

زينب الحسناء الأسيرة اكتشفت أن سجّانها هو قاتل والدها فكشفت سرها لبدوية وطلبت منها تدبير نجدة تنقذها من أسر المجرم

استغاثة البدوية بالشيخ سلامة
خرجت تلك المرأة البدوية من دارة مُضيفاتها، فكّت رباط أتانها المربوطة في حوش الدواب، وانطلقت مسرعة إلى بكّا، وقد عزمت على أمر جَلَل، لقد عرفت تلك البدويّة كيف تبدأ به، أمّا خواتيمه فقد تجاوزت قدرات كل الأشخاص الذين مثّلوا أحداث هذه القصة الملحميّة.
ما إن أطلّت البدوية من على مشارف قرية بكّا حتى أخذت تصيح مستغيثة ــ وتلك من عادات الأعراب القديمة ، “آ..آ..آ سلامة، وين سمّ الموت؟” واستمرّت تكرّرها وهي تتّجه إلى بيت الشيخ سلامة، فما أن سمعها حتّى أسرع إليها، إلى باب دياره الواسعة ملبّياً: “أبشري يا بنت، لَكِ ما تريدين”. عند ذاك أخبرته بقصة الشركسية ومأساتها وأنّها تطلب نجدته، قال لها:” غداً صباحاً اذهبي إليها، أبلغيها أن تحضّر نفسها لأخلّصها، وعندما ينتصف الليل عليها أن تكون جاهزة لترفع لي رتاج بوّابة الدار، بحيث تكون قريبة منها، لتدلّني أين يكون الرجل، فأخلّصها وليكن بعدها ما يريده الله”.
الشيخ سلامة يعرف بصرى جيّداً، ويعرف الرجل وداره. انتظر حلول الظلام وانطلق إلى غايته على ظهر فرسه، سلاحه سيفه وبارودته المارتيني، وعبده يتبعه على فرسه، وله مثل سلاحه، كان قد اتّفق معه مُسْبَقاً، أن ينتظره جانباً قرب البوّابة، وما أن وصل حتّى ترجّل، ثمّ ناول العبد مقود فرسه، وتقدّم من البوّابة غير المُرْتَجة كما اتُّفِق. قليلاً قليلاً فتح ضلفة منها، وزينب شبح أسود يلطي قربها، كانت قد أطعمت كلاب الدار فأمنت منها بحيث لا تنبح، همست له:
ــ سلامة؟
ـــ هسّسّ
ـــ أينه؟
مشت أمامه إلى عِلّية في الدار بابها مغلق، أشارت له أن يتنحّى جانباً بحيث لا يظهر، رشّت نفسها بقليل من العطر، ثم طرقت الباب برقّة، لم يلبث أن فتح لها، كان شبحاً ضخماً متين البنيان.

المجرم ينال عقابه
ما إن رآها، عرفها، خَطَتْ أمامه خطوات فتبعها بلا سؤال. عندها تقدّم منه سلامة: “تخون الضيف وتسلب ماله وتغتصب ابنته؟، خذها…” كانت ضربة صاعقة بحيث بقيت صرخة القتيل محبوسة في حنجرته، وتدحرج الرأس إلى الأرض، أمّا الجسد فتمايل قليلاً وسقط أرضاً.
أشار سلامة لزينب فتبعته، ومضيا مسرعين، عَبَرا البوابة إلى الخارج، إلى حيث العبد والفرس ينتظران، تناول مِقْوَد الفرس من عبده ووثب على ظهرها، وكالبرق تناول بيمناه يد زينب اليمنى، ومدّ بقدمه اليمنى عَبْر الركاب بحيث تكون درجة، وضعت زينب قدمها اليمنى عليها وقفزت فكانت خلفه على ظهر الفرس، وانطلقا شرقاً إلى بكّا يتبعهما العبد.
شاع خبر إنقاذ زينب في البلاد، وأخذت السلطة العثمانية تلاحق الشيخ سلامة كقاتل، وأخذ الجنود العثمانيون من مركزهم في بصرى يلاحقونه ويقتفون أثره، أمّا زينب، فإنها صمّمت أن تظلّ إلى جانب عمّها سلامة، الذي أنقذها وحمى شرفها، فلبست لباس الرجال، وحملت سلاحاً وامتطت فرساً ولازمته كظلّه، كانا يتنقّلان بعيداً عن أنظار العثمانيين وجواسيسهم من مكان الى آخر ومن قرية الى أُخرى، ويعودان إلى بكّا في بعض الأيّام والليالي، إذْ لا بدّ للشيخ سلامة من أن يكون على بيّنة من شؤون قريته.

أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة
أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة

زينب تعثر على شقيقيها
وحلّ يوم نَكِد عليهما، إذ أحاط بهما الجند العثماني في خرائب قرية قديمة مهجورة، تقع إلى الشرق من مدينة القرَيّا الحاليّة ببضعة كيلومترات تُدعى”دَفْن”، كما تبعد شمالاً بشرق من بكّا ببضعة عشرة كيلومتراً. هناك قُبِضَ على الفارسين وسيقا مُكَبّلَيْن بسلاسل الحديد، وفي بعض الطريق إلى بصرى أخذ اثنان من الجنود يتكلّمان في ما بينهما باللغة الشركسية، وكان العثمانيون يتّخذون من الشركس وسواهم من غير العرب جنوداً في مخافرهم، ومواقع قوّاتهم على أطراف البوادي لقمع الحركات المناوئة لهم. فهمت زينب أن الشركسيين يريدان قتلهما قبل أن يصلا بهما إلى مخفر بصرى، وعندها نزعت لثام الفارس عن وجهها، وباللغة الشركسية ذاتها أفهمتهما قصّتها، وبأن هذا الرجل الذي معها هو مَنْ حرّرها، نخوةً وشهامةً منه، ولم يمسّها بسوء، وهو من أنقذ شرفها من قاتل أبيها التاجر الشركسي الذي انقطعت أخباره، واتّهم الدروز بقتله.
عندما سمع الشركسيّان كلام زينب، ترجّلا عن فرسيهما، وتعرّفا على شقيقتهما المفقودة، تعانقا بعد فراق، وفكّا القيود عن الأسيرين، وقبّلا يديّ الشيخ سلامة الذي ثأر لهما من قاتل أبيهما، وأنقذ شقيقتهما ممّا كانت تعانيه من محنة، وحين وصلا إلى قائدهما، عرضا عليه قصّتهما وقصّة شقيقتهما، زينب، ومن ثمّ تمّ الكشف عن الهيكل العظمي المدفون في دارة القاتل الذي استحق الجزاء العادل من سيف الشيخ سلامة.

مأساة الشيخ سلامة
كان مسعى البدوية لإنقاذ زينب الشركسية مسعًى فردياً، لكنّه ترك جرحاً عميقاً عند ذوي المقتول، قاتل الشركسي في بُصرى، صاروا يتحيّنون الفرص ليغدروا بالشيخ سلامة، فيُعتبرون أنهم أخذوا بثأرهم منه، وعلى الرغم من وجود مصالحة تمّت بين الدروز والحوارنة سنة 1896، فإن السلطات العثمانية جرّدت على جبل الدروز ماعُرِف بحملة ممدوح باشا ــ أو حرب عُرْمان ــ في أواخر ذلك العام، بدواعي فرض التجنيد على الشبّان الدروز، وتحصيل الضرائب، وبسط هيمنة الدولة. وبما أن تلك الحملة هُزمت هزيمة ساحقة أمام مقاتلي الدروز، إذ خسر العثمانيون أكثر من ألف قتيل، كما خسر الدروز أبطالاً بارزين منهم: عقاب البربور ومحمّد أبو خير، ومحمود غزالي ومنصور الشّوفي، وجبر الحَجَلي وحسين أبو خير ويوسف ياغي، وسليمان طربيه وحمد الصغير وعبّاس المتني، لذا فقد عمدوا سنة 1897 إلى إرسال حملة أخرى بلغ تعداد عناصرها نحو ثلاثين ألف جندي، وتمكّنت تلك القوات من احتلال السويداء، وفرض شروط قاسية على الدروز أقلّها نزع جميع الأسلحة، وتسليم عدد من الزعماء والوجهاء المطلوبين، ونفيهم وتهجيرهم مع أسرهم إلى الأناضول وجزائر البحر المتوسّط، ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة ذهبية كتعويض عن الجنود القتلى من العثمانيين في المعارك، يضاف إلى ذلك تجنيد ثلاثة آلاف درزي لمدة خمس سنوات، للمشاركة في معارك العثمانيين في بلاد البلقان. وكانت سياسة التجنيد العثمانية تعني إفراغ الجبل من رجاله، وتركه هدفاً للغزوات البدويّة، ولأطماع الطامعين.
ومع ذلك لم تنجح الحملات العثمانية في القضاء على المقاومة الدرزية،” حاربوا بضراوة لا مثيل لها”، على حد ما جاء في أحد التقارير الدبلوماسية، وباعتراف الأتراك العثمانيين أنفسهم، إلى درجة أنه في إحدى المعارك بالقرب من بلدة قنوات، إلى الشمال من مدينة السويداء، مركز الجبل، كان بين شهداء الدروز أكثر من ثلاثين امرأة ــ يذكر ذلك عبّاس أبو صالح وسامي مكارم في كتابهما” تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”.(ص 302)
في ذلك الظرف الحرج أخذ العثمانيون يستغلّون التباين المذهبي بين الحوارنة السنّة، وبين الدروز، فيوقظون العداوات النائمة، ومن بينها ثأر ذلك المُضيف من بصرى، الذي غدر بضيفه التاجر الشركسي، ثم شاء له الهوى أن يغتصب ابنته، وكان أبو جبر سلامة ( سمّ الموت)، على إيغاله في العمر، ومع ولديه جبر ونايف وحفيده، ابن ابنته، رشراش، من بين أولئك الفرسان من بني معروف الذين أفلتوا من النفي والقتل، فاستمرّوا في مقاتلة العثمانيين حيثما وُجدوا، فيهاجمونهم في مواقع قواتهم التي انتشرت في العديد من قرى الجبل، ثم هم يؤوبون في بعض الليالي إلى قراهم وبيوتهم خفية عن أنظار الجواسيس لتدبير أمور أُسَرِهم، وتسيير شؤونها، وفي اليوم التالي يلتحقون بسواهم من المجاهدين لشن الغارات على القوات العثمانية ومباغتتها. أمّا ابنه فارس فكان قد سيق إلى المنفى في جزيرة كريت التي كانت آنذاك من ضمن الممتلكات التي أضاعها العثمانيون في ما بعد.

ثأر قديم وتحريض من الولاة العثمانيين مهَّدا الطريق لعملية انتقام غادرة من البطل سلامة الأطرش وأفراد أسرته

كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق
كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق

نكبة الأسرة
في ذلك الزمن المظلم من الليل العثماني المخيّم على جبل الدروز، من سنة 1897، وفي ليلة ظلماء، قدم جماعة من أهل بصرى في زِي ضيوف إلى دار الشيخ أبي جبر سلامة في بكّا، كانوا يشكون إليه سنين القحط والجوع، ويطلبون منه المعونة والمونة لأُسَرِهِم، وهو المعروف بسعة رزقه وكرمه وجوده، فرحّب الشيخ بضيوف الليل، وكَرّمَهم وأطعمهم من زاده، وسقاهم من قهوته، وواعدهم أن يأتوا مع صباح اليوم التالي بجمالهم ودوابهم، فيعطيهم ما يطلبون من قمح وطحين وسمن ودبس ومونة.
ومع فجر الغد جاء ضيوف الأمس بنيّة الغدر، وخلعوا زيّ الضيوف هذه المرّة، قدموا مع مهاجمين آخرين بأسلحتهم، وفاجأوا أهل الدار الآمنين الذين هبوا على جَلَبَة المهاجمين، المفاجأة الغادرة أفقدتهم تنظيم المواجهة، قُتل نايف برصاصة مزّقت صدره قبل أن تمكّنه صولة الغادرين من أن يتناول بندقيته، وهو الفارس المغوار الذي طالما أقلق الأعداء في غاراته عليهم مع والده سلامة، ومع أخيه الأكبر جبر، وابن أخته رشراش، ولم يلبث أن قتل جبر ثم ألحق المعتدون بهما أبن أُختهما رشراش، دقائق صاعقة مرّت كالعاصفة، قتل جميع من في الدار من رجال، ما عدا الوالد سلامة، الذي أُصيب برصاصة في فخذه عطّلت قدرته على المقاومة، وحِيْد به إلى زاوية خَفيّة من الدار فنجا.
على عَجَل نهب القَتَلَة ما استطاعوا نهبه من مؤونة وُعِدوا بها في الأمس، ولم يَعِفّوا عن نهب الأثاث والمقتنيات، ثمّ فرّوا إلى بلدتهم بصرى تحت حماية السلطة العثمانية وأمام أنظارها.
سَلِم من القتل في ذلك الصباح المشؤوم جنين ذكر كان في بطن أمّه ــ ذلك هو صيّاح، الذي سيصبح أحد أهم رجال الثورة السوريّة الكبرى إلى جانب سلطان ــ، أمّا “ بكّا”، القرية المغدورة، فرجالها وشبّانها مُوَزّعون بين منافي الأناضول، أو المُساقين إلى الخدمة القسريّة في جبهات البلقان، أو من هم خارج القرية في مهمّات ليلية لمناوأة معسكرات القوات العثمانية التي احتلّت معظم قرى الجبل، والقلّة الآخرون نأت بهم الغفلة عن صدّ المعتدين.
سريعاً انتشر خبر وقعة بكّا بين أهل الجبل، انتشر كنارٍ في هشيم جاف، لكنّهم في ذلك الظرف العصيب كانوا محاصرين في جبلهم المُدَمّى بين مدافع ورصاص الجيوش العثمانية، وبين سندان الحوارنة والبدو والشركس والأكراد الذين تمكّن العثمانيون من تأليب معظمهم ضدهم، وذلك بهدف إخماد مقاومتهم وكسر شوكتهم.
حزن شبلي الأطرش
شاع خبر نكبة الحمّود الأطارشة في الحواضر والبوادي، وتناقلته الركبان بعيداً، وعبر أسلاك التلغراف وصل إلى المنفيين من الدروز في الأناضول، وفي جزائر البحر العثمانية، كان شبلي الأطرش زعيم الدروز الأسطوري ــ كما تصفه المؤرّخة الألمانية بريجيت شبلر ــ منفيّاً آنذاك في جزيرة سيناب، إحدى جزر البحر المتوسّط. وصله نبأ نكبة أبناء عمّه، وكان شاعراً شعبيّاً، عُرِف برقّة شعره وشفافيّته، وتوثيقه لأحداث عصره في قصائده التي تنبض عاطفة وحنيناً وألماً وصدقاً. بعث شبلي بقصيدة عُرِفت بـ “ قصيدة الحمّود “ إلى عمّه سلامة يستنكر فيها المأساة التي قُتِل على إثرها إبناه وحفيده، ومنها:
إن جيــــــــت “بَكّا” ريــــح يــــا طارش الفـــــــــــلا
ما غيـــــــر هـــــــــذي يــــــــا فتــــــــــــى ما عـــــــــــــــــادْ
نــــــــــوّخْ ذَلولك وانســــــــف الكــــــــور جانِبُــــــــهْ
وانطــــــــي المسَطّــــــــــــر فــــي حـــــــــروف مــــــــدادْ
لَيَدْ “ أبــــــو جبــــر “ الشّجيـــــــــــــع المسمــــــــــــّى
وْفــــارس تَمــــــــام أمّــــــــا زمانــــــــــــو بـــــــــــــــــــــاد
اَلشّـــــــــــيبْ عيّا عــــا ذياب ابــــن غانــــــــــــــــم

رحلة للتجارة انتهت بمأساة
رحلة للتجارة انتهت بمأساة

لا يـــــا خَســــــــارهْ شــــــــــــاخْ نمـــــــــر الــــــــــــــــــــواد
أمّـــــــــا (سلامــــــــه) ماضيــــــــاتٍ مضاربـــــُهْ
لــــــــولا الكَبَــــــــــــرْ زيــــــــــــــر الحــــروب وْكـــــــــــاد
علــــــــى فَقــــدْ (جَبــــْرْ) انْهَدْ حِيْلــــيْ وقوّْتــــي
وعلــــــــى (نايــــــــف) الفــــرسان بالمِــــــــطــــــــــراد
تــــــــرى فقـدهــــم يا عـم خلخل عزايمــــــــــــي
وإدعــــــــــــا همومــــــــــي عَ الفهــــــــود اطْــــــــــــــــواد
تــــرى فقدهـــم يا عم ضعضــــع جوانبــــــــــــي
كأنّـــــــــي من البلــــــــــــوى بغـيــــــــــــر رشـــــــــــــــــــاد
يـــــا حيف عــــا تلك السبــــــــاع البواســــــــــــــل
مــــــــــــع مقطــــــــــــــــعٍ أقســـــى مــــن البـــــــــــــــولاد
فرســــــــان باللّقــــــــا، كَريمــــــــين بالعــــــــــــطا
وِنســــــــــــــــــين بالمحــــــــيا عيــــــــــــــــــال طــــــــــراد
هذا كلامي يــــا “ سلامــــــــــــه “ وبلوتــــــــــــــــي
عَ البُعــــــــْد أعــــــزّيكـــــــــــــم بغيــــــــــــــــر مــــــــــراد
بعد ذلك الاعتداء الغادر بفترة وجيزة، لم يلبث الجدّ، أبو جبر سلامة أن توفّي بعد عمر مديد نَيَّف على المائة عام، أمضى معظمها في ميادين البطولة والكفاح، لكنّها انتهت بمقتل ولديه جبر ونايف، وحفيده رشراش، توفّي قبل أن يرى أو يعرف جنسَ، أو اسم المولود الذي ستنجبه زوجة ابنه الشهيد نايف.

الانتقام المخيف
أمّا فارس، الابن الذي أسلمه المنفى في جزيرة كريت من مذبحة الأسرة في قرية”بكّا”، فقد بقي على قيد الحياة، وعندما علم بنبأ ما حلّ بذويه من شؤم، صمّم على الفرار من منفاه، وبعد جهد، ومعاناة مريرة استطاع الهروب من الجزيرة، عبَرَ البحر، وقطع الفيافي والقفار متجنّباً رقابة العثمانيين، متحمّلاً الأهوال والصعاب، ومتحدّياً الأخطار، إلى أن وصل إلى قريته في نهاية الأمر، ومنها مضى مع ابن أخته قبَلان بن عبدي الأطرش يلاحقان المعتدين بثأر ذويهما للاقتصاص منهم، فكالا الصاع صاعين، وأصبحا شبحين مرعبين تتذرع بهما الأمّهات لتخويف الصغار، وتهديد الكبار، وبقيا على هذه الحال فترة من الزمن، إلى أن أدرك المعتدون أنّ شؤم ما فعلوه من غدر سيبقى عارُهُ يلاحقهم ما لم يطلبوا من أولياء الدم الصلح وحقن الدماء، وهنا تدخّل المصلحون بعد أن أصبحت صولات فارس وقبلان على الجناة حديثاً يتداوله أهل الحضر والبوادي، وعبرة يعتبر منها كلّ غادرٍ معتدٍ، فتوقّفت الملاحقات.

وصية فارس الأطرش
كان فارس قد حمل التركة الثقيلة من بعد وفاة أبيه سلامة، لكنّه لم ينجب أولاداً، كما أنّ القدر لم يمهله ليرعى تنشئة ابن أخيه، توفّي بعد أن وُلد صيّاح، وهو يحمل جرحاً لم يندمل من أثر العدوان على الأسرة ذات التاريخ العريق، لكنه ترك قصيدة يوصي فيها الأهل والأصدقاء والأصحاب برعاية الطفل اليتيم، ويأمل فيها أن تظل المضافة مفتوحة الأبواب للضيوف والمحتاجين، ويتمنّى أن يكبر الطفل ( صيّاح) ليملأ الفراغ الذي تركه الرّاحلون، وليجدّد الأمل المرتجى، يقول فارس في ما يقول من وصيّته:
أوّل وَصيــــّة يا هَلــــــــي وداعتـي لا تنسوهــــــــــــا
(بصيــــّاح) يــــا اللي ضاويــــــــاً فـي نواحيهـــــــــــــا
ثاني وَصيّة يا هلـــــــــــي المضافــــة لا تِخْلوهــــــــا
بالضّــــيف حَيــــــــّوا وبالترحيــــــب زيدوهــــــــــــــــــا
بَلْكي الزمـــــــان بْصَيّـــاح بيــعــــــــــــود ليــــــــــــها
وبلكـي يقــولوا بـــعــــــــد أصحابهــــــــا فيـــــــــــــــــــها

صياح الأطرش يعفو عن المعتدين
ولكن الجرح الذي خلّفه المعتدون لم يندمل، وظلّ جمراً تحت الرّماد إلى أن كبر حفيد سلامة ”صيّاح” إبن الشهيد نايف، وأصبح قائداً مشهوراً في معارك الثورة السوريّة الكبرى على الاحتلال الفرنسي لسوريا، في ذلك الوقت قدم إليه وفد من ذوي أولئك الذين غدروا بِجدّه وأبيه وعمّه وابن عمّته، وطلبوا منه أن يأخذ بثأره منهم دون سؤال أو جواب، فعفى عنهم قائلاً:” معاذ الله أن أقوم بعمل مشين، فالعفو عند المقدرة”، وأكرمهم، وهكذا عادوا سالمين إلى بُصرى.
كانت المعركة على أشدّها ضدّ الفرنسيين، ولم يكن الزمن زمن إحياء الثارات بين الدروز والحوارنة، وهم الجيران، وأهل الوطن، والظروف تتطلّب أن يكونوا في خندق واحد ضدّ المحتلّين، لكنّ ذكرى سلامة الحمّود الأطرش بقيت عنواناً للبطولات والنجدة في تاريخ بني معروف.

العدد 7