الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التقية

حـــــول كتــــــاب

«التقيــة فــي الإســلام»

تأكيد الدكتور سامي مكارم لظاهرة التقية في الإسلام
أثار جدلاً وطرح تحدياً للتفكير المستقر

أول ما يلفت الانتباه في كتاب الدكتور سامي مكارم هو عنوانه: “التقيّة في الاسلام”، يطرح هذا العنوان علامات استفهام كبيرة.
أولاً: هل أنَّ في الاسلام تقية؟…أم أن التقية هي في مذهب دون آخر من مذاهب المسلمين؟
ثانياً: هل أن التقية سلوك اسلامي مكتسب تحت ضغط ظروف وأوضاع طارئة واستثنائية، أم أنها في أساس العقيدة يمكن اللجوء اليها في حالة الشدّة أو في حالة اليسر وفي حالة القلق أو في حالة الاطمئنان؟ بمعنى هل أن ضيق صدر حاكم اسلامي معين، أو مجتمع اسلامي في ظروف معينة باجتهادات فقهية ما، دفعت بهذا الفقيه الى ابتداع التقية سلامة لأبدان اتباعه من الأذى ولإيمانهم من الانتهاك؟ ام أن التقية رافقت الدعوة الاسلامية منذ اشراقتها الاولى في مكة المكرمة وقبل الهجرة الى المدينة المنورة، واستمرت فيها وبعدها؟ وتالياً هل أن للمؤمن حق اللجوء الى التقية حتى من دون اكراه أو اضطرار؟
ثالثاً: هل أن اللجوء الى التقية يكون خوفاً من أذى الآخر وتجنباً لشرّه، أم أنه يكون ايضاً مراعاة لمحدودية الفهم عند بعض المؤمنين، ولعدم قدرتهم على استيعاب حقائق ايمانية كبيرة؟ أو يكون خوفاً من اساءة فهم هذه الحقائق وتالياً تحسباً من سوء عاقبة التعامل مع هذه الحقائق على غير ما يقتضي الحال؟
رابعاً: هل التقية اجازة – ورخصة – من الله للمؤمنين، أم أنها مجرد اجتهاد فقهي انساني أخذ به هذا العالم المجتهد وانكره ذاك؟
خامساً: اذا كانت التقية في الاسلام، كما يقول الدكتور مكارم، فهل ثمة تقية في الأديان الأخرى أيضاً؟ في المسيحية واليهودية تحديداً؟
سادساً: هل أننا جميعاً نمارس التقية من دون أن ندري؟ وهل أن انفتاح معرفتنا على هذه الحقيقة (التي حاول الدكتور مكارم أن يؤكدها من خلال استشهاداته الكثيرة بالآيات القرآنية الكريمة وبتفاسير أئمة كبار علماء المسلمين) سيغيّر من نظرتنا الى التقية بحيث نتعامل معها على أنها ركن من أركان فضائلنا الايمانية؟ ومن ثم نرفع عن أهلها الشك وسوء الفهم؟
اذا خرجنا من هذا الكتاب بإجابات ايجابية على هذه الأسئلة، فإن الكتاب يكون قد أحدث صدمة في الفكر الاسلامي داخل منظومة الثوابت الايمانية، ويكون قد فتح آفاقاً جديدة في الاجتهاد الفقهي وحتى في فقه الاجتهاد. وهذا حكم جريء.
في توطئته للكتاب يؤكد الدكتور مكارم على أمرين أساسيين:
الأمر الأول هو أن التقية هي من الأسس المهمة في الاسلام، وأن القاعدة الرئيسية هي ممارسة التقية، وأن الفرق الاسلامية التي لم تمارسها هي الفرق الشاذة عن القاعدة، وهذا يعني أن القاعدة عنده هي ممارسة التقية.
اما الامر الثاني فهو أن للتقية شروطاً شرعية وأصولاً ومقتضيات أقرّتها الشريعة الاسلامية، ولم يقل الدكتور مكارم أقرّها الفقه الاسلامي. وهذا استنباط جريء ايضاً.
لقد كان واضحاً أن الدكتور مكارم اعتمد تعريف ابن حجر العسقلاني للتقية، وهو تعريف يقول فيه “إنها الحذر من اظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير” (ص9). وهذا تعريف عام جداً. إلا أن الأمر المحدد والمهم، هو أن الدكتور مكارم اعتبر أن كلمة التقية تعني ما تعنيه كلمة تقاة الواردة في الآية الكريمة لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير. (سورة آل عمران – الآية 28)
وجاء اعتباره هذا كما قال في (ص 9) إن اللغويين يجمعون على ذلك. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو هل يجمع على ذلك ايضاً الفقهاء؟ في محاولة غير مباشرة – ربما – للاجابة على هذا السؤال قال الدكتور مكارم (ص 11) “يمكننا القول إن الآيتين القرآنيتين اللتين انطلق منهما المفسرون على العموم عند تناولهم التقية في الاسلام هما الآية المذكورة آنفا والآية التي تقول من كفر بالله من بعد ايمانه الاّ من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (سورة النحل – الآية 106)

مخطوطة-لأخوان-الصفا-تعود-للقرن-الثاني-عشر
مخطوطة-لأخوان-الصفا-تعود-للقرن-الثاني-عشر
مخطوطة لكتاب إحياء علوم الدين لأبو حامد الغزالي العالم الذي وقف بقوة في وجه تيارات التأويل في الإسلام
مخطوطة لكتاب إحياء علوم الدين لأبو حامد الغزالي العالم الذي وقف بقوة في وجه تيارات التأويل في الإسلام

وقد نزلت هذه الآية في أحد المهاجرين من مكة الى المدينة (عمار) وقع في أسر الكفار، فقال لهم كلمة اعجبتهم تقية فخلوا سبيله. ولما وصل الى المدينة وأخبر الرسول (ص) بما حدث قال له رسول الله: “كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا”. قال: لا. فنزلت الآية إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان.
ويؤكد الدكتور مكارم (ص 15) “أن معظم المفسرين اقروا بصورة مباشرة أم غير مباشرة، بأن المضطر يجوز له التقية إما قولاً وإما فعلاً تيسيراً له من الله لا تعسيراً، واجتناباً للقتل أو للحرج. واذا نحن نظرنا الى جميع الآيات المذكورة آنفا نرى أنه رُخِّص للمؤمن المطمئن قلبه للايمان أن يظهر الكفر تقية من الكافرين إن هم أكرهوه على ذلك.
يرى الدكتور مكارم أن آراء العلماء اختلفت في شأن التقية من حيث جوازها ووجوبها وامتناعها، ومن حيث أحكامها وشروطها، كما يرى أن الآراء تعدّدت وتشعبت في شأن اسباب التقية حتى أنها تجاوزت الاكراه الى أسباب أخرى كالرغبة في هداية العدو باستدراجه الى الايمان واتقاء استعدائه”. وقد نقل عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود أنه لا يرى جواز التقية خوفاً على النفس فقط، بل يراها تجنباً لأدنى اكراه يلحق بالمسلم (ص 22).
وفي اجتهاد الدكتور مكارم أن مصطلح “التقية” أو “التقاة” تعزز بمصطلحين قرآنيين آخرين هما مصطلحا “الظاهر” و”الباطن”. ويقول إنه “مع أن المفسرين اختلفوا على بعض التفاصيل عند تطرقهم لهذين المصطلحين اختلافاً كبيراً في بعض الأحيان فقد اتفقوا على أن “الظاهر” هو ما يعلن، في حين أن “الباطن” هو ما يخفى في القلب، وأن “ظاهر الشيء” هو حرفيته، وأن “باطن الشيء” هو حقيقته التي لا يصل اليها إلا اولئك الذين يتوخون الولوج في جواهر المعاني وما ترمي اليه وتشير، وذلك بتأويلهم النص دون الاكتفاء بمعناه الحرفي. وهم يقولون بأن هذا التأويل، أي ما يشير الى المعنى الاصلي، لا يعلمه الا الله والراسخون في العالم، لقوله تعالى وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكّر الا اولوا الالباب (سورة آل عمران – الآية 7).

محمدالسماك
محمد السماك

اختلف المفسرون حول قراءة هذه الآية الكريمة وليس حول نصها. هل “والراسخون” مبتدأ خبره الجملة الفعلية، “يقولون آمنا به…”، أي أن الوقف في القراءة يجب أن يكون بعد اسم الجلالة،
بحيث تقرأ الآية: وما يعلم تأويله الا الله. ثم تتبع البقية: والراسخون في العلم يقولون آمنا به… الى آخر الآية. وبذلك يقتصر علم التأويل على الله وحده دون “الراسخون في العلم”. اما القراءة الثانية فهي تجعل “الراسخون” معطوفة على اسم الجلالة، أي أن الوقف في القراءة يكون بعد “الراسخون” معطوفة على اسم الجلالة، بحيث تقرأ الآية: وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم. ثم تتبع البقية: يقولون آمنا به… الى آخر الآية. وكذلك يكون الله والراسخون في العلم يعلمون تأويله.
أدت القراءتان المختلفتان لنص واحد الى قيام رأيين متباينين كل التباين، رأي لا يجيز للناس تأويل القرآن مهما رسخوا في العلم، فعليهم اذاً أخذ معانيه بظاهرها وعلى حرفيتها، ورأي يجيز للراسخين في العلم تأويل الكتاب والأخذ بمعانيه الباطنة. الدكتور مكارم في كتابه يدافع عن الرأي الثاني ويتبناه.
هنا انتقل الى كتاب آخر جديد أيضاً وإن لم يكن في مستوى جدية ورصانة البحث العلمي الراقي والعميق الذي يتسم به كتاب الدكتور مكارم. مؤلف هذا الكتاب هو جمال بدوي من مصر وعنوانه “الفاطمية” (دار الشروق 2004) ورغم أنني أشك في صحة ما ذهب اليه، فقد أردت عرضه لأنه يعكس وجهة نظر أخرى ليست معاكسة فقط، ولكنها سلبية ايضاً.
يقول المؤلف: “نشأت الدعوة الفاطمية ونظّمت مبادئها السرية للمرة الأولى على يد جماعة من الثوريين الذين تظاهروا بالإسلام وعملوا على غزو العقيدة الاسلامية …، ونشر التأويلات التي يتأول بها دعاتهم على القرآن والسنة، واعتبار أن لكل شيء ظاهراً وباطناً، حتى القرآن الكريم نفسه، جعلوا له ظاهراً وباطناً، أما الظاهر: فهو دلالات ألفاظه العربية حقيقة او مجازاً، وأما الباطن فهو ما وراء هذا الظاهر أو هذه الدلالات، وهذا لا يفهمه إلا أئمة المذاهب. وهذا الباطن لا تقيّده دلالات الالفاظ العربية، ومعانيها اللغوية، وليس الظاهر سوى رموزاً واشارات لا يفهمها العوام، وقد أدت بهم هذه النظرة الباطنية الى تأويل معاني القرآن الكريم تأويلاً غريباً يتناقض ودلالات اللغة العربية”.
إن المقارنة بين أسباب التأويل وأهدافه كما وردت في دراسة الدكتور مكارم، وكما وردت في كتاب جمال بدوي، تكشف عن هوة معرفية عميقة، لا تزال تعمقها باستمرار معاول الجهل بالآخر والتشكيك به، ولا تزال الصور النمطية السلبية عنه التي زرعها هذا الجهل منغرزة في الثقافة العامة، ولا تزال تشكل الاساس الذي تبنى عليه الاتهامات وأحكام الادانة المسبقة.
من هنا الاهمية الاستثنائية في اعتقادي لكتاب التقية في الاسلام، من حيث أنه يوضح الفرق بين المسلم، أي المقرّ بالإسلام اقراراً ظاهراً يقتصر على اللسان ولا يتعدى القول، من جهة، والمؤمن، أي المصدّق بالإسلام تصديقاً لا يقف عند الاقرار الظاهر وإنما يتجاوزه الى الايمان الباطن والعمل في سبيل الله، من جهة أخرى. ومن هنا ايضاً تفسيره لذلك بقوله (ص 20) إن التقية قائمة على رحمة المسلم، فلا يعطى ما لا يستطيع تحمله من الحقيقة دفعة واحدة، بل يتلقاها بالتدريج حرصاً على رسوخها في قلبه وتمكّنه منها.
هنا لا بدّ من الاشارة الى أنه لا يوجد موقف اسلامي واحد من موضوع “الظاهر والبـــــاطن” (ص 43 – 53) ومن موضوع التقية. فهناك من تعامل معها بتساهل كالرازي مثلاً الذي أجازها حتى دفاعاً عن المال، وحتى بين المسلمين انفسهم وليس فقط بين المسلمين والمشركين. وهناك من تعامل معها بتحفظ كالطبري وابن كثير والبيضاوي. ولأن التقية لم تكن بالأمر النادر في التاريخ الاسلامي، فقد الف ابو بكر بن دريد “كتاب الملاحن” لكي يكون دليلاً للمكرهين على الكفر. فالتقية التي تمارس بكتمان الدين وحتى باظهار الكفر لا تؤدي الى الكفر. فالقاعدة هي “لا اكراه في الدين”.
واللا هنا نافية وليست ناهية فقط، بحيث لا يقتصر المعنى على الدعوة الى عدم اكراه الناس حتى يؤمنوا، ولكنه يتجاوز ذلك الى اقرار المبدأ الاساسي وهو أنه لا يكون هناك ايمان بالاكراه. وإذا كان الايمان ينتفي بالإكراه، فمن الأولى أن لا يكون هناك كفر بالإكراه. والرسول عليه السلام يقول: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”. وهو الذي قال أيضاً “من رأى منكم منكراً فيغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”.

احترام الآخر واعتماد الكلمة الطيبة في الدعوة يلغيان حاجة المسلمين الى أن يكره بعضهم بعضاً على رأي عقدي أو سياسي فيضطر المكرَه الى مداراة المكرِه تقية

إفشاء الحقيقة لغير اهلها خطر لا يقل عن خطر منعها عن أهلها، وذلك تقية لصاحب الحقيقة ممن لا يقدرون على معرفتها، وتقية للحقيقة ممن ليسوا من أهلها، وتقية لمن ليسوا من اهلها إن يعميهم سطوعها فيصعقوا

وعلى اساس ذلك رأى حجة الاسلام الغزالي “وجوب ستر الحقيقة عمن هو محجوب عن تقبلها، فلا يعطى الا بقدر التهيؤ المعرفي.”
وقد نقل الدكتور مكارم عن بعض العارفين قولهم: إفشاء سر الربوبية كفر (ص 55). ويفسر الدكتور مكارم ذلك بقوله: “إن اعطاء الحقيقة، في نظر حجة الاسلام، يجب أن يكون في غاية من الحذر. فإفشاؤها لغير اهلها خطر كبير لا يقل عن خطر منعها عن أهلها، وذلك تقية لصاحب الحقيقة ممن لا يقدرون على معرفتها، وتقية للحقيقة ممن ليسوا من أهلها، وتقية لمن ليسوا من اهلها إن يعميهم سطوعها فيصعقوا”. وما اجمل قول الامام محمد بن ادريس الشافعي:
سأكتم علمــــــي عن ذوي الجـــهل طاقتـــي
ولا أنثـــر الـــدر النفيس علـــى الغنـــــــم
ولعل البحث الذي أورده الدكتور مكارم “عن قصة موسى عليه السلام والعالِم بما لم يكن موسى النبي على علم به كما وردت في القرآن الكريم” (ص 61 – 72) ما يكشف عن الكثير من أسرار الحكمة من وراء كتمان المعرفة عمن ليس اهلاً لها حتى ولو كان نبياً. ويمكن الرجوع الى التأويلات الذكية والعميقة التي توصل اليها الدكتور مكارم من خلال عرضه لوقائع تلك القصة المثيرة.
ولكن رغم كل التأصيل العلمي والأكاديمي المثبت بالمراجع الشرعية والاجتهادات الفقهية لمبدأ التقية في الإسلام، فإن الدكتور مكارم يرى أنه “بقبول الآخر والاعتراف به تبطل أسباب التقية إكراهاً، اذ يُقضى على الخوف من طغيان الاكثرية على الاقلية أو طاغوتيتها، فيفسح في المجال امام الاقلية أن تعبّر عن رأيها دون خوف أو تقاة”. إن الدكتور مكارم على حق عندما يقول إن انكفاء الاقلية عن المشاركة في الفكر بلجوئها الى التقية سبّب في الماضي ويسبب في الحاضر الشكوك المتبادلة بين افراد المجتمع، كما سبّب ويسبب ظهور “وحدات” اجتماعية متنافرة لا يربطها الا روابط واهية قائمة على الخداع الاجتماعي والرياء والتعالي والتكاذب والولاء الطائفي، وهي كلها صفات تسم المجتمع الاسلامي بالهشاشة والضعف والتفسخ.
اما كيف تنتفي حاجة المسلمين الى أن يكره بعضهم بعضاً على رأي عقدي أو سياسي فيضطر المكرَه الى مداراة المكرِه تقية، فبالعمل بما دعا اليه القرآن الكريم الى كلمة سواء – أي الى كلمة طيبة – كما يفسرها الدكتور مكارم. وهو يرى عن حق “أن الكلمة السواء تكون ناتجة عن المودة لا عن الكراهية، فتتجاوز اللسان الى القلب، فإذا هي تعبير عن الحقيقة التي تغذي الناس، كل على قدر ما هو عليه من صحة دينه وعقله، وعلى قدر ما هو مهيأ له من الارتقاء في مراقي الاسلام”.
وأودّ أن أردّد معه تأكيده على أنه “عندما تعم هذه الثقة المتبادلة بين المسلمين ولا يعود المسلم، الى أية فرقة أو مذهب انتمى، يشعر برفض الآخر له وتكفيره اياه وبرفضه وتكفيره الآخر، عندما يصل المسلمون الى قبول بعضهم بعضاً يصلون بالتالي الى قبولهم لمواطنيهم أجمع دونما فرق بين منتمٍ الى دين أو آخر”.
وأختم بأننا عندما نقول بحوار الحضارات لا تصارعها، علينا أن نبدأ بأنفسنا ومن داخل عقيدتنا وانطلاقاً من ثوابتها الايمانية. فالحوار من حيث هو البحث عن الحقيقة في وجهة نظر الآخر، يجب أن يكون سبيلنا الى احترام الاختلاف والمختلف معه، والى الاقرار بأن ايّاً منا لا يملك الحقيقة المطلقة وأن للمرء إلا ما سعى، وأن الله وحده هو عالم الغيب والشهادة. وهو وحده يحكم بيننا يوم القيامة في ما كنّا فيه مختلفين.

الاسكندر

رسالة الاسكندر الأكبر

أراد من حربه على الفرس أن تكون
«الحرب التي تنهي كل الحروب»

تضمّنت الحلقة الأولى من هذا البحث عرضاً لمسيرة وسجايا الاسكندر الأكبر كملك وكفاتح للعالم القديم. وهي مسيرة تجعل منه ظاهرة لم تتكرر في التاريخ الإنساني، إذ تمكّن ملك شاب في مطلع العشرينات من عمره وفي غضون أربع سنوات من تدمير الإمبراطورية الفارسية التي هيمنت لأكثر من 230 عاماً على العالم القديم كله، وامتد ملكها من مقدونيا غرباً ومصر جنوباً وحتى جبال الهندوس شرقاً. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة سنتطرق إلى أهمية الرسالة الفلسفية والأخلاقية للاسكندر وللثورة الهائلة التي أنجزها في فترة وجيزة في البلدان التي أخضعها، فكان بذلك من صنف نادر من الملوك الذين أرفقوا الفتوحات بالإصلاح وخاضوا الحروب ليس بهدف تعظيم الملك واستعباد الشعوب أو نهب ثرواتها بل تحقيقاً لرؤية متوقدة تقوم على نشر قيم الفضيلة والعدل والتآخي الإنساني.

الاسكنـــدر أظهـــر كمـــلك الاحتـــرام لآلهـــة الإغريــــــق
لكنــــــه أظهــــــر في خصالــــــه كـــل صفـــات المؤمـــن والحكيـــم

كرّمـــه القـــرآن الكريـــم تحـــت اســـم ذي القرنيــــــن
واعتبــــــره ملكــــــاً صالحــــــاً يكلمــــــه الله ويفــــــوض إليــــــه أحكامــــــاً

التقــــــى في الهنــــــد المئــــــات من أمثــــــال ديوجينــــــوس
ووجــــــد شعوبــــــاً لا تقــــــل في حضارتهــــــا عن اليونــــــان

الأباطــــــرة الرومــــــان سعــــــوا لفــــــرض المسيحيــــــة ونواميسهــــــا
والتقليــــــل من أهميــــــة الارث الهيلينــــــي ومدارســــــه الحكميــــــة

الاسكنـــدر اختلـــف عـــن أرسطـــو ووافــــــق زينــــــون الرواقــــــي
فـــي سعيــــــه لإنشــــــاء حضــــــارة إنسانيــــــة واحــــــدة ومتآخيــــــة

علاقـــة أرسطـــو بالاسكنـــدر اقتصـــرت علـــى سنـــوات الدراســـة
وأثـــر عليهـــا انشغـــال المـــلك بالحـــروب والفيلســـوف بأكاديميتـــه

اهتـــم كثيـــراً بدراســـة الطـــب والنباتـــات علـــى يـــد أرسطـــو
وكـــان يصـــف ويصـــنع الـــدواء للمرضـــى مـــن أصحـــابه

من أبرز أقواله: أفضِّل أن أتفوق على الآخرين بالمعرفة والكمال
على أن أتفوق عليهم بجبروتي واتساع ملكي

كتـــاب «سر الأســـرار» أو رسائـــل أرسطـــو إلـــى الاسكنـــدر
وضـــع بالعربية فـــي القـــرن العاشـــر ولا علاقـــة لـــه بأرسطـــو

لقد جرى التركيز في تأريخ حياة الاسكندر الأكبر على شخصيته وإنجازاته كفاتح وكقائد عسكري ولم يتم إعطاء ما يكفي من الاهتمام لشخصيته كملك حكيم وكرسول إصلاح للبشرية. ويعود ذلك إلى سبب أساسي هو أن العالم الغربي وبعد تحوّل جوستنيان إلى العقيدة المسيحية سعى إلى فرض العقيدة الجديدة ونواميسها ومؤسساتها. ولهذا السبب فقد جرى منذ ذلك الوقت التقليل من أهمية الإرث الهائل الذي أطلقته الحضارة الهيلينية -وكذلك المصرية القديمة- بمدارسها الفلسفية وبمذاهبها الروحية المختلفة الثرية والمتسامحة، هذه المدارس التي يعود العالم اليوم ليستكشف بحارها مجدداً ويغوص في أعماقها وأسرارها، في وقت تعرضت فيه العقائد الرسمية إلى التأخر والجمود وفقدت الكثير من قدرتها على التأثير في الجانب الروحي والمعنوي لحياة البشر.
بالطبع إحدى الصعوبات في فهم العقيدة الحقيقية للاسكندر أنه من جهة، لم يكتب ولم يصدر عنه ما يكفي من الأقوال التي نقلت عنه، وتمثّل بالتالي، زاداً كافياً لفهم شخصيته الحميمة المتخفية وراء مظهر الحرب والشجاعة والفتوحات، إلا أن على من يريد الإحاطة بشخصية الاسكندر وفكره أن يتمعن في مسار حياته وخصوصاً مواقفه وأعماله التي سجّلها المقربون ثم المؤرخون الذين جاؤوا بعده. وهذا ما يؤكده بلوتارك الذي أشار في كتابه (موراليا) إلى أن الكلام الذي صدر عن الاسكندر أو أسلوب حياته وأفعاله أو التوجيه الذي كان يعطيه لجيشه وقواده وللمحيطين به، كل هذه العناصر تؤكد أنه كان فيلسوفاً ومالكاً لأسرار الحكمة، إضافة إلى ما اصطفاه به الله من سلطان وأيّده به من شرف ونصر على الأمم كلها.
بل أن بلوتارك اعتبر أن مهمة الاسكندر في الإصلاح البشري كانت أصعب من مهمة فلاسفة الأكاديمية لأن هؤلاء تحدثوا إلى مجموعات محدودة متجانسة وبلغتها، بينما تمكّن الاسكندر من أن يتحدث إلى شعوب عديدة متنافرة في ثقافاتها وبعضها متأخر جداً في عاداته، وأن يجتذب تلك الشعوب إلى قيم الحضارة الإنسانية وأن يصلح أخلاقها وقوانينها وأساليبها في الحكم. ويعطي أمثلة على ذلك منها، أن الاسكندر أقنع شعوب آسيا باحترام الرابطة الزوجية وعلّم سكان أراكوزيا (افغانستان حالياً) كيف يحرثون الأرض، كما علّم شعوباً متأخرة في آسيا كيف يحترمون أهلهم ولا يقتلونهم، والفرس كيف يقدسون أمهاتهم فلا يأخذونهن زوجات، وعلّم شعوب آسيا الوسطى كيف يدفنون موتاهم. وقد أنشأ الاسكندر خلال الفترة الوجيزة لملكه 70 مدينة في مختلف أنحاء العالم القديم وعيّن المفكرين والقانونيين والقادة على الأمصار الجديدة بهدف نشر قيم العدل والأخلاق التي اعتبرها أساس التحضر والاجتماع الإنساني.
رسالة العالمية
يلاحظ بلوتارك أن الاسكندر اتّخذ طريقاً مختلفاً عن أرسطو ونظريته في تفوق الجنس اليوناني ووافق أكثر نظرة زينون الرواقي الذي اقترح في كتابه «الجمهورية» بناء نظام عالمي يكون البشر فيه جميعاً إخوة، «كما لو كانوا قطيع خراف يشترك في المرعى الواحد». ومن أجل حفظ هذا الكون المتآخي اقترح زينون في كتابه تطبيق نظام قانوني واحد على مختلف شعوب أهل الأرض، بحيث تكون تلك الشعوب إنسانية واحدة بل مجتمعاً سياسياً واحداً.
وقد نظر الاسكندر إلى نفسه باعتباره مرسلاً بإرادة سماوية من أجل توحيد الإنسانية، لذلك فإن الذين كانوا يقاومون فكرته كان يهزمهم في ساحة القتال ثم يدعوهم إلى أن يكونوا جزءاً من رؤيته الكونية.
دعا الاسكندر رعايا مملكته الكبيرة جميعاً لأن يعتبروا الأرض كلها وطنهم وأن يعتبروا المملكة الجديدة حماهم والإطار الطبيعي لأمنهم ولإزدهار حياتهم وحياة الأجيال التالية. وفي مصر استقبل الاسكندر استقبال الفاتحين بسبب نقمة المصريين على الفرس، بسبب الضرائب الباهظة التي فرضوها عليهم، وكذلك بسبب عدم تعاملهم بالاحترام المطلوب مع عقيدتهم وشعائرهم ومقدساتهم.
واعتبر الاسكندر أن ما يجب أن يميّز اليوناني عن الآخرين ليس اللباس ولا السيف ولا الدرع بل هو الفضيلة. أما الأجنبي عن المملكة الجديدة فليس الفارسي ولا الهندوسي ولا البختياري بل هو الإنسان الجائر والمفتقد للفضائل الإنسانية. أما مقومات الحياة الأخرى مثل الطعام والشراب والزواج وأسلوب الحياة فيجب أن ينظر إليها كثقافة واحدة يشترك فيها الجميع عبر روابط الزواج والأولاد.
بعد قليل من إسقاطه للإمبراطورية الفارسية، قام الاسكندر بترتيب زواج نحو 10 آلاف من ضباطه وجنوده إلى نساء ينتمين إلى البلاد التي فتحها، وخصوصاً بلاد فارس، وهو سمح للجنود أن يعودوا إلى مقدونيا، لكنه احتفظ بزوجاتهم في بلدانهن، وكان يأمل أن يتشكل من الأولاد الذين سيولدون من تلك الزيجات المختلطة جيش يكون هو الأساس الذي ستبنى عليه الإمبراطورية الموحدة (أو ما يمكن اعتباره الكومنولث العالمي) وصفاتها الجامعة الجديدة.
وعندما كان في إيسوس، وبعد أسبوع من نصره الحاسم على جيوش داريوس نصب الاسكندر خيمة ضخمة حوّلها إلى مسرح لزواج جماعي بين مائة من قواده ومائة من نساء فارسيات. وقد نقل بلوتارك في كتابه عن حياة الاسكندر صورة حيّة عن أجواء ذلك الاحتفال، الذي أقيم على أثر المعركة، إذ قام الاسكندر بنفسه باصطحاب المحتفى بهم وكان أول من أطلق نشيد الزفاف ووجهه يطفح بشراً. وقد كتب ديماراتوس الكورنثي في ما بعد في تعليق على ذلك المشهد نقداً لاذعاً لأباطرة الفرس الذين أضاعوا عمرهم والموارد الهائلة في محاولة ربط أوروبا بآسيا عبر جسر فوق مضيق الدردنيل. «أخاطبك الآن أيها الملك الأحمق قورش الذي أنفق الجهود العقيمة والموارد في سبيل إنشاء جسر ضخم على الهلسبونت (الدردنيل حالياً). ألا فلتنظرجيداً!!، ذلك هو أسلوب الملوك الحكماء في جمع آسيا وأوروبا. ليس بصفوف الجسور الخشبية العائمة ولا بواسطة الأربطة الجامدة التي لا حياة فيها، بل عبر الرابطة العفيفة للزواج والفرح المشترك والأولاد هم يجمعون الشعوب بعضها إلى بعض.
بناءً على ذلك، اعتبر بلوتارك أن رسالة الإصلاح وحكمة الفيلسوف كانتا الدافع الأساسي لحملة الاسكندر الآسيوية وليس مجرد فتح الأمصار. لأنه «قاد رجاله وتحمل أقصى المخاطر والمشقات ليس من أجل أن يكسب لنفسه حياة العظمة والثراء، بل من أجل أن يحقق التوافق بين البشر ويفرض السلم ووحدة المصالح بينهم»، أي أنه أراد من حربه أن تكون الحرب التي تنهي كل الحروب. ولهذا السبب، فإن الاسكندر لم يتصرف مع الشعوب التي قهرها عسكرياً كتصرف الغازي أو تصرف الطغاة الذين يدمرون وينهبون، وقد كان ذلك الأسلوب شائعاً في الحروب في زمنه، لكنه حافظ على تلك البلاد كما لو كانت جزءاً من مملكته الموحدة وسعى فعلاً الى نشر الحضارة فيها وإسعادها وإصلاح شأنها، وبالتالي زرع الخير وبركات لا تمّحى في حياتها ومستقبل أجيالها.

كان يعلّي من قيم الشجاعة واحتقار الموت والشرف وزجر النفس وضبط أهوائها، وكان مقلاً في الطعام يهب الكثيـــر للآخرين ولا يبقي لنفســـــه إلا القلــــيل

الإسكندر-الأكبر-يدخل-بابل-
الإسكندر-الأكبر-يدخل-بابل-

أحد الأمثلة الساطعة التي تضرب على التوجه البعيد النظر الذي أظهره الاسكندر فور سيطرته على أكثر العالم القديم، هو محاولته التقريب بين الحضارتين اليونانية والفارسية بوسائط مختلفة منها (إضافة إلى تشجيع الزواج المختلط) التقريب في طريقة اللباس بما يؤدي إلى ظهوره هو كملك للفرس واليونانيين في آن. ويذكر ديودوروس سيكولوس أن الاسكندر «ارتدى قفطاناً ملكياً فارسياً ولبس تحته الثوب الفارسي الأبيض وألقى عليه الوشاح وكل ما عداه باستثناء السروال والسترة ذات الأكمام الطويلة، ثم أعطى لقواده عباءات ذات حواشٍ باللون الأحمر الفارسي كما ألبس خيله الأطقم والأسرجة الفارسية. وعبّر الاسكندر بذلك عن احترام لثقافة الشعب الذي بات الملك المطلق عليه. ويبدو أن سياسات الاسكندر هذه لاقت قبولاً كبيراً في الوسط الفارسي الذي قبله فعلاً كملك، إلا أنها اصطدمت كما يبدو بالتصلب المقدوني واليوناني وتمسك الكثيرين من أركان الاسكندر بالثقافة الهيلينية ورفضهم إخضاعها لتسويات تنتقص من صفائها. وسيكون الجدل حول هذه الأمور من بين أسباب الخلافات بين الاسكندر وبين عدد من أعوانه والمقربين منه، بل إنه سيؤدي في وقت ما إلى ما اعتبره الاسكندر مؤامرات استهدفته وانتهت بمحاكمات وبإعدام عدد من قواده، وبعض الذين كانوا مقربين منه.

فتوحات-الاسكندر-الأكبر-وإمبراطوريته
فتوحات-الاسكندر-الأكبر-وإمبراطوريته

عقيدة الاسكندر
على الرغم من وجود نوع من «العقيدة الرسمية» للمجتمع، فإن العصر اليوناني زاخر بالأمثلة على وجود تنوّع في العقائد والتفكير الديني استفاد من مناخ الحرية الفكرية وحرية الاجتهاد التي جعلت لكل فيلسوف في ما بعد مدرسة ونظرية في الوجود والكون وطبيعة القوة التي تحكمه. قد نشأ اتصال أكيد بين العديد من فلاسفة الإغريق وبين فكرة التوحيد، خصوصاً بسبب تأثير أفكار الحكمة المصرية، إلا أن المجتمع الإغريقي، كغيره من المجتمعات القديمة كان يضم من جهة عقائد العامة، والتي تركّزت على منظومة الآلهة التي بنيت حولها الميثولوجيا الإغريقية، إلا أنه ترك المجال واسعاً من جهة ثانية لنشوء مدارس التفكر والتأمل الميتافيزيقي في الوجود وأسراره، وهذه المدارس أنجبت حكماء وفلاسفة توصلوا إلى التوحيد عن طريق التأمل العقلي، ومن بين هؤلاء حكماء عظام مثل فيثاغوراس وسقراط واللذين يعتبر إختبارهما أقرب شيء إلى الاختبار الحكمي أو الصوفي الذي توصل إليه أعلام للتوحيد برزوا في تقليد الفيدانتا الهندوسية أو التاوية الصينية أو التصوف المسيحي والإسلامي.
ومن الملفت فعلاً أن يكون حكماء مثل فيثاغوراس قد حرصوا على كتم عقيدتهم وتعليمهم التوحيدي بسبب تناقضه مع عقائد العامة، أما سقراط الذي اتبع منهج الحوارات من أجل نشر حقائق «التصوف الإغريقي» إذا صحّ التعبير، فقد جاهر كما يبدو ببعض آرائه وتعرض من جراء ذلك لحملة من غوغاء أثينا أدت إلى الحكم عليه بالموت بتهمة «زعزعة عقائد الأجيال الشابة». وتعرض فيثاغوراس نفسه في حياته إلى حملات اضطهاد، كما تعرض أتباعه من بعده إلى محنة حقيقية اضطرتهم إلى ستر عقائدهم وتداولها سراً قروناً من الزمن. لكن يستنتج من النفوذ الكبير الذي كان للفيثاغورسية لوقت طويل في اليونان القديمة، وكذلك لشعبية المعلم سقراط ثم تلميذه أفلاطون أن فكرة التوحيد بمعناها الصوفي لم تكن غريبة عن أوساط النخبة وإن كانت بعيدة عن عقيدة العامة. لكن التوحيد في اليونان القديمة اتخذ منحى فلسفياً، وكان نتاج التفكر والتأمل والحوارات الجدلية للنخبة، وهو في أحسن حالاته لم يكن سوى عقيدة أقلية وليس ديناً.
في هذا الإطار، طرح السؤال تكراراً حول عقيدة الاسكندر وجاء الجواب غالباً أنه كان «وثنياً»، وأنه كان يعبد آلهة الإغريق. ولا يوجد بين العديد من المصادر الغربية من قدّم صورة مقنعة عن عقيدة الاسكندر باستثناء ما روي عن احترامه الشديد لآلهة الإغريق ولمعتقداتهم. وبالطبع ينسجم تصنيف الاسكندر هذا مع التعميم الذي نشأ بسبب قيام المسيحية بين ما هو قبل ميلاد ورسالة السيد المسيح وبين ما جاء بعده. فالتعريف هنا تاريخي أكثر منه تعريف محدد لمعتقدات الاسكندر التي لا يوجد دليل تاريخي يمكن أن يوضح حقيقتها.
فمن جهة، كان مشروع الاسكندر الذي استهدف توحيد الممالك اليونانية تحت رايته يتطلب الضرورة منه أن يظهر كل الاحترام لمعتقدات العامة، ولا يوجد في هذا الموقف المتعقل ما يشير بأي حال إلى ما كان يجول في ضمير الملك أو إلى قناعاته الخاصة. أضف إلى ذلك أن الاسكندر في سعيه إلى توحيد شعوب مملكته الواسعة أظهر الاحترام نفسه لثقافة الفرس والشعوب التي قهرها، ومن المؤكد أنه لم يكن ليفرض عليها تبديل معتقداتها، وكان سيظهر الاحترام لتلك المعتقدات. لكن وفي ما عدا احترامه لمعتقدات العامة، فإن كل ما ظهر من الاسكندر يدلّ على أنه كان متقدماً جداً في تفكيره، وأنه كان بالدرجة الأولى محباً للحكمة، متعلقاً بالزهد والصالحين. وقد كان أول ما فعله بعد اعتلاء العرش ليس تقديم القرابين أو عقد الاحتفالات الطقسية، بل زيارة الحكيم الزاهد ديوجينوس والاجتماع به على قارعة الطريق، حيث كان يجعل منزله صندوقاً خشبياً صغيراً. ومن الصعب أن لا يرى المرء في تلك المبادرة إشارة مهمة من الاسكندر على احترامه للحكمة وعلى تعلّقه بها، وهو الذي أعرب عن احترامه الشديد لهذا الزاهد مخاطباً إياه بالقول: «لو لم أكن الاسكندر لكنت ديوجينوس». وقد شرح بلوتارك معنى هذا القول الاسكندري بالقول إن الملك عقد مقارنة بين ديوجينوس الزاهد لكن الذي لا يستفيد من علمه إلا قليل وبين الرسالة التي أعدته الأقدار لها، وهي نشر الخير والصلاح في العالم عن طريق العمل والفتوحات وتعليم المجتمعات.
والواقع أن حكمة الاسكندر وروحانيته المكتملة تجسدتا بالدرجة الأولى في سيرته وأعماله وفي خصاله، كما تجسدتا أيضاً في التعليم الذي أعطاه سواء بالقول أو بالمثال. وقد نقل عنه أنه كان يعطي أهمية كبيرة لقيم الشجاعة واحتقار الموت والشرف وزجر النفس وضبط أهوائها والتضحية بالذات، وأنه كان مقلاً في الطعام وكريماً يهب الكثير للآخرين، ولا يبقي لنفسه إلا القليل، كما أنه عرف باجتنابه أعمال المجون التي كانت شائعة بين معاصريه وعفته في التعامل مع النساء.
وعرف بأنه دمث الخلق، نزيه في التعامل، وفيّ لأصحابه، كريم من دون تبذير، قاطع وسريع في تنفيذ ما يعزم عليه، وكان شريفاً يرتفع بسمو وكبرياء فوق الصغائر ودناءات النفوس. وقد كان سلوكه ملكياً في كل مناسبة وكان حليماً صبوراً، لكن كان في قوته ومهابته مثل أسد هصور. كما أنه كان عنيفاً في معاملة الأشرار، رحيماً في التعامل مع البائس والمضطر. وفي كل ما يتعلق باهتمامات البطولة والقتال والنصر في المعارك كان الاسكندر شعلة من حماس ملتهب وقوة جسدية خارقة لكنه في الوقت نفسه لم يكن مهتماً بتعظيم نفسه كما كانت حال ابيه الملك فيليب، كما أنه لم يكن ليعبأ كثيراً بأبطال القوة الجسدية ومنافسات الرياضة بقدر ما كان يرسل ماله لتكريم كتّاب المسرح والموسيقيين والممثلين. وقد كان يتحمس لأي شكل من أشكال الصيد أو المبارزة على الخيل لكنه لم يشجع ابداً ألعاباً عنيفة مثل الملاكمة أو لعبة المصارعة الحرة.

لوحة-فسيفساء-وجدت-في-أطلال-مدينة-بومبي-الإيطالية-تظهر-الاسكندر-مهاجما-وداريوس-الخائف-يستعد-للانسحاب
لوحة-فسيفساء-وجدت-في-أطلال-مدينة-بومبي-الإيطالية-تظهر-الاسكندر-مهاجما-وداريوس-الخائف-يستعد-للانسحاب

إضافة إلى شجاعته الاسطورية، فإن أهم عناصر شخصيته الملكية كانت الرقي والتواضع الطبيعي. وقد كان الاسكندر مهذباً ولبقاً يجانب اللغو ويكتفي أحياناً بموقف المستمع. ولم يكن به أي ميل لإظهار قوته أو للطغيان، وقد كان يوماً بين الحضور لمباراة بين فرقتين مسرحيتين مشهورتين في اليونان وقد صوتت لجنة التحكيم، كما يبدو للفرقة التي لم يكن يؤيدها الاسكندر وخسرت الفرقة التي يرعاها. وقد علّق الملك بعد ذلك أنه كان يفضل خسارة نصف مملكته على أن تخسر تلك الفرقة التي كان يفضلها، أي أن الاسكندر الذي دانت له الأرض قبل ببساطة قرار لجنة التحكيم ولم يحاول أبداً التدخل لصالح الفرقة التي كان يميل إليها.

شهامة في الحروب
في حروبه مع الفرس، أظهر الاسكندر أعلى درجات الشهامة والأدب في التعامل مع الخصوم فهو مثلاً أمر بترتيب مراسم دفن واحدة لقتلى الفرس والمقدونيين بعد معركة غرانيكوس، وهي الأولى التي واجه فيها الجيش الفارسي وأوقع به خسائر كبيرة، كما أنه أظهر خصاله النبيلة في التعامل مع عائلة داريوس التي وقعت في الأسر خلال معركة أيسوس بعد فرار الملك الفارسي. إذ جرت معاملة أفرادها معاملة الملوك مع كثير من الرفق والتبجيل، وقد أدت تلك العلاقة إلى قيام رابطة محبة قوية بين أسرة الملك الفارسي والاسكندر إلى حد أن والدة داريوس سيسيغامبيس رفضت الطعام وماتت من الحزن بعد أيام فقط من تلقيها نبأ موت الاسكندر.
عندما أعجب ببروكسانا ابنة أحد أمراء فارس الآسيوية والذي قهره الاسكندر، لم يلجأ الملك إلى استرقاقها وقد أصبح ملك العالم وكانت هي علمياً أسيرته بل عرض أن يتزوجها. كذلك عندما بلغ المكان الذي قتل فيه داريوس ووجد الملك القتيل وقد اخترقت جسده الرماح لم يكن ردّ فعله العفوي التعبير عن أي مظهر من مظاهر الفرح بنهاية خصمه الذي خاض الحروب القاسية لإلحاق الهزيمة به، بل كان أن خلع بمهابة وحزن رداءه وغطى به جسد الملك المسجى، وهو استتبع ذلك بإعطاء أرفع مظاهر التكريم للملك الصريع وترتيب جنازة ملكية له وضمان دفنه في عاصمة مملكته في برسبوليس.
يشير المؤرخون أيضاً إلى أن الاسكندر استنكر اقتراحاً من قواده بشن هجوم ليلي على معسكر داريوس الثالث عشية المعركة الفاصلة في غاوغاميلا (أربيل كردستان حالياً)، إذ أنه اعتبره يناقض مبدأ الشرف وإعطاء الخصم فرصة متكافئة للمواجهة في ميدان القتال (قارن ذلك بأخلاق الحروب والسياسة في أيامنا)، كما أنه قمع بشدة بعد أن دانت له مملكة فارس أي محاولات من الجاليات اليونانية التي كانت تعيش في الإمبراطورية الفارسية للانتقام من الفرس أو الافتئات عليهم وعلى حقوقهم.
والواقع أن هناك ما لا يحصى من الروايات التي تظهر شخصية الاسكندر الفذة والآسرة للقلوب، ومن السهل لذلك لأي متابع أن يرى في هذه الصفات والمناقب خصالاً لا يتمتع بها إلا النادر من أهل الحكمة والحصافة والرشاد، وهي بالتالي لا بد أنها تقدم أوضح مؤشر على حقيقة إيمان الاسكندر وسره الذي لم يطلع عليه أهل زمانه. لكن أحدى كرامات الاسكندر أن الإرادة الربانية ستمن على هذا الملك الحكيم في ما بعد بأعظم تكريم، إذ سيرد ذكره في القرآن الكريم في سورة الكهف مشاراً إليه بـ «ذي القرنين». وهو اسم اتفق أكثر المجتهدين والمفسرين وكتّاب السيرة وعلى رأسهم ابن هشام على أنه الاسكندر المقدوني. وقد أشار القرآن الكريم إلى «ذي القرنين» بعبارات جعلت المفسرين يعتبرونه ولياً إذ جاء فيها تأكيد الله جل وعلا على التأييد الذي منحه للملك } إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا{ (الكهف:84) قبل أن يشير المولى جل وعلا إليه بصيغة المخاطبة وبلغة الوحي إذ قال } قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا{ (الكهف:86) وهذا شرف ما بعده شرف لم يحظَ به إلا بعض الأنبياء من الذين خاطبهم الله في القرآن مباشرة أو وحياً. وفي هذه الآية يفوض الله لمن يعتقد أنه الاسكندر الأكبر أن يقرر أسلوب التعامل مع ذلك الشعب الذي يذكر القرآن الكريم أن ذا القرنين صادفه في مسيرته بين مشرق الأرض ومغربها.
صحيح أن تعيين هوية الملك الذي أشار إليه القرآن الكريم بإسم «ذي القرنين» بقي عرضة للاجتهاد، إذ قال بعضهم إنه قورش الكبير أو إنه ملك يمني من حمير أو غير ذلك لكن أكثر المجتهدين والمفسرين الذين يعتمد عليهم مالوا إلى اعتبار أن المقصود بـ « ذي القرنين» ليس سوى الفاتح المقدوني. وفي ضوء ذلك، فإن الاسكندر الأكبر يصبح في تعريف القرآن، ليس فقط مؤمناً، بل ملكاً مختاراً ومقرباً. وقد ذكر ابن هشام أن تسمية الاسكندر بـ «ذي القرنين» اعتبرت إشارة إلى فتحه للعالم بشرقه وغربه أو امتداد ملكه بين أوروبا من جهة والقارة الآسيوية من جهة مقابلة.

علاقة الاسكندر بمعلمه أرسطو
لم يكن الملك فيليب ليصرف وقتاً على تربية ولده الاسكندر، وذلك بسبب انشغاله الدائم بالحروب والحملات الخارجية. لذلك قرر أن يعهد به إلى الفيلسوف أرسطو الذي كان بدوره تلميذاً لأفلاطون الحكيم، علماً أن افلاطون كان من أبرز مريدي المعلم سقراط، وبهذا المعنى فقد كان الاسكندر متصلاً بسلسلة فريدة من سلاسل الحكمة والمعارف بدأت بسقراط ثم بأفلاطون ثم بأرسطو. هذه السلسلة من الحكمة التي ضمت بعض أعظم حكماء العصور صبت عند الاسكندر في تواتر يكتسب في حد ذاته دلالة كبيرة ويشير إلى عظمة الرجل.

مقبرة-قورش-مؤسس-الإمبراطورية-الفارسية
مقبرة-قورش-مؤسس-الإمبراطورية-الفارسية

الصفات والخصال التي أظهرها لا يتمتع بها إلا النادر من أهل الحكمة وهي تقدم أوضح مؤشر على حقيقة إيمان الاسكندر وسرّه الذي لم يطلع عليه أهل زمانه

مرحلة الدراسة
درس الاسكندر على يد أستاذه في مييزا في مقدونيا مع عدد من الأمراء وأبناء النبلاء الذين سيصبح قسم منهم أصدقاءه وجنرالات في جيشه ويطلق عليهم اسم «الرفاق»، كما سيرتقي بعضهم ليصبحوا حكّاماً وملوكاً في ما بعد. وبالنظر إلى طبيعة التلامذة الذين أرسلوا بهدف إعدادهم للحكم فقد كانت المادة التي يقدمها الفيلسوف اليوناني مادة كلاسيكية ومتفقة مع ما كان مطلوباً لتهيئة طلابه للحياة العامة، ولم تكن علاقة أرسطو بتلامذته بالتالي كتلك التي نشأت بين حكماء اليونان ومريديهم. كما أن المادة التي درسها أرسطو لم تكن الفلسفة مادتها الأولى بل كانت مجموعة من العلوم التي تضمنت السياسة والأخلاق والرياضيات والدين وعلم الفلك والمنطق والشعر والبلاغة، وكان فن الخطابة والجدال المنطقي (دحض الحجة بالحجة) من أهم الفنون التي يتم تدريب حكّام المستقبل على إتقانها.
ويبدو أن اهتمام الاسكندر تركز على فرع خاص من العلوم هو العلوم الطبيعية والطب الذي كان أرسطو أحد أساطينه وهو أعدّ كتاباً عن عالم الحيوان وآخر عن عالم النبات، ولم يكن اهتمام الأمير الشاب بالطب ترفاً فكرياً بل بغرض عملي، إذ أن الاسكندر تعلم الطب وكان طيلة حياته يصف الأدوية ويصنعها للمرضى من أصدقائه ومعارفه. وعندما بدأ الاسكندر حملته على آسيا، فإنه كان متأثراً بأرسطو، فقد حرص على أن يصطحب معه مجموعة كبيرة من علماء الحيوان والنبات والذين عادوا من آسيا بمعلومات ونماذج ساعدت في تحقيق كشوفات علمية مهمة على أصعدة علم الحياة والزراعة والطب.
مكث الاسكندر في مدرسة أرسطو ثلاث سنوات إلا أن والده اضطر سنة 340 ق.م. للتوجه على رأس حملة عسكرية لإخضاع إحدى الممالك المتمردة شمال شرق مقدونيا (Thrace)، لهذا فقد طلب الملك فيليب من ابنه ذي الستة عشر ربيعاً قطع دراسته والعودة إلى بيلا عاصمة المملكة ليشغل منصب نائب الملك والحاكم الفعلي للمملكة أثناء غيابه.

الفيلسوف-أرسطو-أشرف-على-الاسكندر-الشاب-لكن-الملك-احتفظ-بشخصيته-وآرائه-المستقلة
الفيلسوف-أرسطو-أشرف-على-الاسكندر-الشاب-لكن-الملك-احتفظ-بشخصيته-وآرائه-المستقلة

بين الملك والفيلسوف
بالنظر لإقامته القصيرة في مدرسة أرسطو وطبيعة البرنامج الذي خضع له مع زملاء له، فقد نشأ تباين بين المؤرخين في تقدير حجم التأثير الذي مارسه المعلم على تلميذه فمنهم من يعتقد أن أرسطو مارس تأثيراً مهماً على الاسكندر خصوصاً في مجال علم السياسة وإدارة الدولة والمنطق وبصورة عامة في العديد من النواحي التي ساعدت على تكوين رؤيته للعالم. وقد بلغ من تعلق الاسكندر بمعلمه أرسطو أن اعتبره بمثابة والده الروحي وهو كان يعقد المقارنة دوماً بالقول إن والده الطبيعي منحه الحياة بينما ساعده أرسطو على أن يعيش تلك الحياة بصورة أفضل.
إلا أن من المؤرخين من يعتقد أن السنوات الثلاث التي قضاها الملك الشاب في مييزا وإن كانت قد زودته بنظرة إلى العلوم الأساسية والنظرية التي كان يدرِّسها أرسطو، إلا أنها لم تكن العامل الأساسي في تكوين شخصيته الفذة، وهو الذي كان أظهر علامات العبقرية والتفرد منذ صغره. حجة هذا الفريق أن الشجاعة المذهلة للاسكندر في الحروب واحتقاره للموت وخصاله الملكية الرفيعة وعبقريته العسكرية لم تكن نتيجة الدرس في كتب، بل كانت ملكات طبيعية ولدت معه وتفتحت بسرعة ربما في سياق القدر الذي كتب له أن يلعبه في مسيرة البشرية. إلا أن العامل الأهم الذي اعتبره المؤرخون دليلاً على استقلال الملك بآرائه عن معلمه هو التباين بين نظرة السيادة اليونانية التي تبنّاها الفيلسوف وبين النظرة العالمية للاسكندر. إذ اعتبر أرسطو كغيره من الفلاسفة اليونانيين في زمانه أن اليونان هي النموذج الوحيد للحضارة الإنسانية في العالم بينما نظر إلى الشعوب الأخرى باعتبارها من صنف البرابرة الذين لا يوجد لهم أي اهتمام بما يتعدى الحاجات الطبيعية الأساسية والبعيدين بالتالي عن أي فهم للشؤون الروحية والفكرية السامية التي بنيت عليها الحضارة الهيلينية. وبناء على تلك النظرة فقد اعتبر أرسطو أن تلك الشعوب ليست مؤهلة لأن تمارس حقوق المواطنة أو أن تمنح مؤسسات كالتي تقوم عليها حضارة اليونان، ولهذا فهو نصح تلميذه الاسكندر بأن يميّز في المعاملة بين اليونانيين وبين «الشعوب البربرية» التي أخضعها فيكون ملكاً على اليونانيين يعاملهم كأصدقاء وكمواطنين ويكون حاكماً مستبداً على البرابرة الذين يتم إخضاعهم. ويشير بلوتارك إلى أن الاسكندر افترق عن معلمه في هذا الشأن إذ كان قد طور آنذاك رؤيته السباقة لمجتمع عالمي واحد يسوده السلام وتدار أموره بعقلانية واحدة وقوانين واحدة وعدالة لا تفرق بين يوناني وأجنبي.

تأثير كتاب «سر الأسرار»
تختلف الصورة السابقة بالطبع عن النظرة التي استقرت لفترة طويلة عن العلاقة الوثيقة بين أرسطو والاسكندر وخصوصاً تأثير الأول على الثاني. وهي صورة تعود ربما وبالدرجة الأولى إلى عامل تاريخي هو التأثير الذي مارسه الكتاب المعروف بإسم «سر الأسرار» أو «السياسة والفراسة في تدبير الرئاسة» في التصور العام للعلاقة بين الرجلين. والكتاب المشار إليه موضوع، وقد نسب عدة قرون إلى أرسطوطاليس وتمّ تداوله بلغات عديدة باعتباره رسائل بعث بها الفيلسوف اليوناني إلى «تلميذه قائد اليونان الأكبر الاسكندر ذي القرنين». ويتضمن الكتاب الكثير من العلوم والفروع التي يفترض أن أرسطو سطرها خصيصاً لتلميذه وخصوصاً في السياسة وإدارة الحكم وجاء في مقدمة الناسخ أن الاسكندر «استوزر أرسطو وارتضاه واستخلصه واصطفاه»، كما جاء فيه أن الاسكندر تمكن من أن يسود العالم بسبب أنه اتبع رأي الفيلسوف «فلم يخالف له قولاً ولم يعصِ له أمراً»، وبالطبع فإن هذا التقديم للكتاب وحده كافٍ ليجعل من الاسكندر تلميذاً نجيباً للفيلسوف بل صنيعة له وتابعاً.
لكن من المتفق عليه أن كتاب «سر الأسرار» الذي لا يوجد له أصل باليونانية منحول ولا صلة له بالتالي بالفيلسوف اليوناني. وقد وضع الأصل باللغة العربية في القرن العاشر الميلادي وظهرت أول ترجمة لاتينية له عن العربية في منتصف القرن الثاني عشر. لكن على الرغم من ذلك، فإن نسبة الكتاب إلى أرسطو جعلت له تأثيراً كبيراً في القرون الوسطى فترجم إلى اللاتينية أولاً ثم إلى العديد من اللغات الغربية. إلا أن الاهتمام به ضعف كثيراً منذ منتصف القرن السادس عشر بعد أن تأكد أنه موضوع.
أضف إلى ما سبق أن تواصل الاسكندر مع أستاذه توقف بعد قليل من اعتلاء الملك لعرش مقدونيا وبدء حملته الآسيوية المضنية، إذ أن الاسكندر انشغل بالتحضير للحملة بينما غادر أرسطو مقدونيا إلى أثينا بهدف تأسيس أكاديميته (ليسيوم) سنة 335 ق.م. أي بعد سنة فقط من اعتلاء الاسكندر لعرش مقدونيا سنة 336 ق.م. وهو لن يجتمع به أبداً بعد ذلك طيلة الفترة الأهم من حياته وهي الحروب الآسيوية التي ستمتد لـ 12 عاماً وحتى وفاة الملك المقدوني سنة 323 ق.م. وبهذا المعنى، فإن الاسكندر الذي أمضى بقية حياته في الجبهات لم يكن ممكناً له أن يستوزر أرسطو، ولهذا فإن المعروف من تأثير الفيلسوف على الاسكندر هو ما يتصل بمرحلة التعليم التي خضع لها الأمير الشاب في صباه. فضلاً عن ذلك، فإن العلاقة بين الرجلين أثر عليها أيضاً النضج السريع الذي اكتسبه الملك الفاتح خلال حملاته واحتكاكه بمختلف أنواع الشعوب وتعرفه على المدى الشاسع لجغرافية آسيا، وقد أدت تلك الاختبارات إلى إغناء الرؤية المستقلة التي كانت للاسكندر، والتي ازدادت نضجاً ووضوحاً مع الزمن.

 

كتاب سر الأسرار المنسوب لأرسطو
كتاب سر الأسرار المنسوب لأرسطو

سر الاسكندر
اعتبر الاسكندر في زمنه ظاهرة تعلو على الطبيعة الإنسانية فقدسه معاصروه من اليونانيين، كما فعلت ذلك أيضاً بعض الشعوب التي أخضعها الملك. وقد اتسع تقديس الاسكندر بعد وفاته ليدخل في العقائد اليهودية والمسيحية، كما اعتبر ذكره المطول في سورة الكهف من القرآن الكريم تثبيتاً لمكانته كمرسل أو كحاكم صالح تعهدت إليه الإرادة الربانية بأعمال محددة في خدمة العباد. واختلطت العقائد الشعبية حول قداسة الاسكندر بعدد كبير من القصص الشعبية التي نسب للاسكندر شتى الخوارق وحوّلته إلى بطل اسطوري، وقد جمعت تلك القصص مع الوقت تحت عنوان «قصة الاسكندر» Alexander Romance، وانتشرت بلغات عدة بما في ذلك العربية تحت اسم «قصة الاسكندر».
وبغض النظر عمّا نسج حوله من قصص بعد حياته، فإن الاسكندر اعتبر أسطورة حيّة في زمانه، كما اعتبر فتحه للعالم القديم بتخومه الشاسعة وتنوع جغرافيته وشعوبه بجيش صغير نسبياً، وفي مدة قصيرة، نوعاً من الخوارق أيضاً. لكن اللافت هو أن حياة الاسكندر تضمنت حسب التدوين التاريخي أسراراً وعلامات عززت المعتقد الشعبي الذي اعتبره رجلاً من رجال الله مؤيداً ومبعوثاً لمهمة معينة وليكون آية للعالمين.
فقد ذكر أن والدته حلمت قبل ولادته أنها تمسك بشهاب من نار في يدها كما حلم والده الملك فيليب أنه وضع ختماً على جسد زوجته وكان الختم عندما تأمله في المنام على شكل وجه أسد. وقد سأل الملك عن مغزى هذا الحلم فقال له بعضهم أن عليه الانتباه لزوجته أولمبياس، لكن أحد مفسري الأحلام المقربين منه أنبأه أن معنى الحلم هو أن زوجته تحمل طفلاً ذكراً سيكون مضرب مثل في الشجاعة والبطولة.
وذكر المؤرخون أن أبرز ما اشتهر به الاسكندر هو الرائحة الزكية لجسده ولثيابه، والتي كانت تفوق في أثرها عبق المسك أو العنبر، وقد حار المقربون من الملك في تفسير سر تلك الرائحة التي لم تفارقه وقد عزاها بعضهم الى طبعه الحار الذي يحرق كل الخبائث، بينما اعتبرها البعض الآخر بكل بساطة علامة على صفاته الملكية وعلى كرامة من السماء تشير بها إلى مقامه وإلى اصطفائه على غيره من البشر.
وقد تخللت حياة الاسكندر أحداث اعتبرت في حدّ ذاتها علامات ملغزة مثل إخضاعه بسهولة وبسلوك ماهر وحكيم للحصان المتمرد بوسيفالوس، وكان بعد صغيراً مما اعتبر إشارة إلى شخصية استثنائية من حيث الشجاعة والحكمة والقوة والتأثير. ثم هناك زيارته بعد اعتلائه العرش للحكيم ديوجينوس ثم ذهابه إلى غورديوم وقطع العقدة الغوردية بسيفه ثم سفره وحيداً على ظهر باخرة إلى مضيق هلسبونت مفتتحاً الحملة على آسيا برمية رمح من الباخرة باتجاه اليابسة، ثم زيارته إلى أطلال طروادة ووضعه أكليلاً على قبر البطل أخيلوس ثم سفره إلى أعالي مصر وسط مخاطر الصحراء لزيارة معبد آمون المصري، حيث أخبره الكهنة أنه سيسود على آسيا والعالم. وذكرت الروايات أن الاسكندر أكرم من القدرة بمطر غزير رافق رحلته وخفف عنه قيظ الصحراء، كما أنه أرشِد إلى طريق المعبد عبر الصحارى بواسطة سرب من الغربان الذي بقي يطير أمامه إلى أن بلغ وجهته.
وأظهر الاسكندر قوى خارقة عقلية مثل قدرته على أن ينادي 3000 من جنوده وقواده كلٌّ باسمه، هناك أخيراً معجزة بقاء الاسكندر على قيد الحياة رغم عشرات المعارك التي خاضها والجراح الخطرة التي تعرض لها. لكن أعظم كرامات الاسكندر التي اعتبرت دليلاً على تأييد كبير له من القدرة كانت شجاعته الاسطورية واحتقاره للموت وانطلاقه بكل حماس لمقارعة الصناديد وأبطال الجيوش، وهو في مقدمة الجيش مرتدياً لباساً مميزاً جعل التعرف عليه ومحاولة قتله سهلين على خصومه. ثم هناك أخيراً ما روي أنه وقبل ساعات من الملحمة الشرسة والفاصلة مع داريوس في غاوغاميلا ذهب إلى خيمته حيث وجده قواده يغط في نوم عميق وهو ما اعتبر في حد ذاته مأثرة عجيبة تدل على إيمان أو يقين بالنصر صعب على كثيرين إيجاد تفسير له في ذلك الزمن.

مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا--االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا–االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها

نذر موته في بابل
كما أن حياة الاسكندر أحيطت بالأسرار، فإن موته أيضاً رافقته ظواهر وأسرار ذات دلالة. فهو عندما أمر جيوشه سنة 323 ق.م. بالاستعداد للتوجه إلى بابل، قابله في الطريق بعض كهنة الكلدان ونصحوه بعدم دخول المدينة لأن ذلك سيترافق بخطر على حياته، كما نُصِح الملك بأن دخول المدينة ووجهه يقابل مغرب الشمس علامة نحس لأنه يشير إلى غروب شمس مملكته، وهو نصح لذلك بدخول المدينة من جهة يواجه فيها مشرق الشمس، وهو ما فعله إلا أن تلك الناحية كانت زاخرة بالمستنقعات وصعبة المسالك ويبدو أنها كانت أيضاً زاخرة بالبعوض وهو أحد الأسباب التي قال العلماء إنها قد تفسر إصابة الاسكندر بالملاريا بعد أيام فقط من دخوله بابل.
تلتقي نبوءة الكهنة الكلدانيين مع نبوءة أخرى حصلت في الفترة نفسها تقريباً من أحد زهاد الهنود العراة المدعو كالانوس. وكان الاسكندر التقى كما يبدو في مناطق الهند النائية بزهاد وحكماء يعيشون في العراء أو الكهوف ويقتاتون مما تجود به الأرض من غذاء، وهو ما جعله يدرك أكثر أن شعوب تلك المناطق ليسوا برابرة بل لديهم إرث غني جداً من الحياة الروحية والحكمة، وأن لديهم بالتالي ما لا يحصى من الحالات من أمثال ديوجينوس اليوناني.
أحد هؤلاء الذين التقاهم كان من منطقة البنجاب وكان قديساً وحكيماً وقد طلب منه الاسكندر أن يرافقه في طريق العودة إلى بابل وأن يبقى في جواره. وفي طريق العودة وكان الاسكندر لايزال بعيداً عن بابل ولم يقرر بعد التوجه إليها أخذ هذا الزاهد الغريب المسمى كالانوس قراراً فاجأ الاسكندر وحاشيته إذ أنبأ الملك بأنه بات كهلاً لا يرجى منه شيء وأنه قرر وضع حد لحياته الدنيوية بواسطة النار. وعبثاً سعى الاسكندر لإقناعه لكن الرجل أصر وقام جنود الاسكندر بناء على طلب الرجل بإعداد محرقة كبيرة تم إيقادها ثم مضى الزاهد الهندوسي إليها رابط الجأش وكان وفقاً لتقاليد مذهبه قد طلى جسده كله بالرماد وجلس وسط النيران كما لو أنه يجلس في هواء عليل حتى اندمج بالحريق واضمحل تدريجياً أمام الأعين المشدوهة للحاضرين. لكن اللافت أن الزاهد الهندوسي قال للاسكندر وهو يتجه صوب النار: «سنلتقي في بابل». وقد حيّرت كلمة الحكيم الهندوسي الحاضرين ولم يفهم مغزاها. لكن وفاة الاسكندر بعد قليل من دخوله بابل اعتبرت تفسيراً كما اعتبرت دليلاً على أن الحكيم كان يعلم غيوب الأمور وأنه تنبّأ بموت الاسكندر في بابل وأراد أن يترك إشارة إليها قبل أن يفارق جسده في سعير النار.

أكثر المجتهدين والمفسرين وكتاب السيرة وعلى رأسهم ابن هشام اتفقوا على أن الاسكندر هو الذي كرّمــــــه القرآن الكــريم بإسـم «ذي القرنين»

لوحة-تخيلية-تظهر-المعلم-أرسطو-يلقي-دروسه-على-الاسكندر-الشاب
لوحة-تخيلية-تظهر-المعلم-أرسطو-يلقي-دروسه-على-الاسكندر-الشاب

خاتمة
توافق أكثر المؤرخين على أنه لو قيض للاسكندر أن يعيش عمراً كاملاً فإن وجه البشرية كان ربما تغيّر إلى الأبد، ذلك أن الاسكندر الأكبر تمكن في سنوات معدودة من أن يحدث ثورة في حضارة العالم فهو فتح الممالك ووحدها وسعى الى مزج الأعراق وأسس المدن ونشر الثقافات وأسس لقيم جديدة في الفضيلة والتآخي البشري، لذلك وبسبب طاقاته الهائلة وعزيمته الجبارة وحكمته وحصافته فإن الاسكندر لو عاش حياة مديدة كان في إمكانه أن يبدل في وجه البسيطة ما يعجز عن تصوره أي إنسان وأن يجعل فيها نظاماً حضارياً جديداً ومديداً.
لكن لله الحكمة البالغة وهو القائل
} ولو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{
(هود: 118)
}لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ{ (المائدة 48). لقد كان الاسكندر متحركاً بحس الرسالة والدور التاريخي وكان يعتقد واثقاً أن لديه من الإدراك والوسائل لتحقيق تلك الرؤية السباقة لكن كان من الواضح أن لله في خلقه أمراً آخر، ولهذا السبب ربما فإن هذا البطل الذي خاض أقسى المعارك وأخضع العالم ولم تقوَ عليه السيوف والنبال مات شاباً في أوج انتصاراته على يد بعوضة (بمرض يعتقد أنه الملاريا) ولم يقيّض له بالتالي أن يرى تحقق حلم البشرية الواحدة، وفي ذلك عبرة وتذكير من الله جل وعلا بأنه فعّال لما يريد وإنه هو الذي } يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{ (السجدة:25).

من أقوال الاسكندر الأكبر الخالدة

أنني أفضل أن أتفوق على الآخرين بالمعرفة والكمال على أن أتفوق عليهم بجبروتي واتساع ملكي.
لا يوجد مستحيل لذاك الذي يبذل جهده.
قالها وهو يتقدم صفوف الجنود في الهجوم على قلعة محصّنة
إن من أشد أنواع العبودية على الإنسان هو الارتهان لسهولة العيش وأن الأخلاق الملكية هي أخلاق العمل والجدّ.
في تعليق له على انغماس بعض أصحابه في الرفاهية ومتعها
مخاطباً الأموات والقتلى بعد معركة شيرونا التي انتصر فيها الجيش المقدوني على تحالف الممالك اليونانية:
أيتها الأرواح اللطيفة للأموات، لست أنا من يتحمل مسؤولية مصيركم البائس والمرير بل هي الخصومة الملعونة التي تجعل الشعوب الشقيقة تقاتل بعضها بعضاً. لا أشعر بالسعادة لهذا الانتصار بل على العكس إنني كنت سأسعد لو رأيتكم جميعاً واقفين إلى جانبي باعتبارنا أمة عظيمة توحدها اللغة والدم والنظرة الواحدة للكون.
لست ممن يأخذ النصر خلسة أو يسرقه.
قالها رداً على اقتراح قائد جيشه بارمنيو شنّ غارة ليلية على معسكر داريوس بهدف كسب المبادرة وتشتيت الجيش الفارسي قبل طلوع شمس يوم القتال.
عندما وصلته رسالة من داريوس يعرض عليه تقاسم مملكته مقابل عقد الصلح وإعادة أسرته الأسيرة إليه، نصحه قائده بارمنيو بقبول العرض قائلاً: لو كنت الاسكندر لقبلت العرض. وقد ردّ الملك على الفور: وأنا لو كنت بارمنيو لقبلت العرض!!. وفي هذا الجواب المفحم إشارة إلى الفارق بين الملك صاحب الرسالة والرؤية والشجاعة وبين القائد العسكري المفتقد لجسارة وبصيرة الملوك.
عندما دعاه أصدقاؤه، وكان بعد أميراً فتياً، لدخول المباراة الأولمبية وقد كان أسرع أقرانه في الجري، أجاب الاسكندر على ذلك بأن سأل: هل الذين سينافسونني في المباراة ملوك؟ فلما أجيب بالنفي قال إن سباقاً كهذا لن يكون عادلاً لأني لو ربحت فسيكون ذلك فوزاً على أحد عامة الناس وإن خسرت فسيكون ذلك خسارة لملك.
قبل معركة أيسوس توجه الاسكندر إلى جيشه بهذه الكلمات:
«إن خصومنا الميديين والفرس هم رجال اعتادوا عبر القرون حياة الرفاه والنعومة أما نحن المقدونيين فقد تربينا منذ أجيال في المدرسة الصعبة للمخاطر والحروب، أضف إلى ذلك أننا قوم أحرار أما هم فمن صنف العبيد. صحيح أن هناك يونانيين يقاتلون في صفوفهم لكن شتان بين القضية التي يقاتلون من أجلها وهي المال والقليل منه وبين قضيتنا التي نذرنا لها أنفسنا وهي قضية اليونان. إن جيشنا الذي يضم أقوى وأصلب المحاربين في أوروبا سيجد في مواجهته جيوشاً هشة ضعيفة العزيمة،كما أن جيشكم هو بقيادة الاسكندر أما جيشهم فقائده داريوس!!»
لأنني اخترت أن يكون هدفي دمج ما هو أجنبي بما هو يوناني وأن أفتح القارات وأنقل إليها روح الحضارة وأن استكشف أقاصي الأرض والبحار وأن أوسع حدود مقدونيا باتجاه المحيطات البعيدة وأن أنشر وأعمم بركات الحضارة اليونانية وعدالتها على جميع الأمم، فإنني لم أقبل الجلوس الهانئ في نعم السلطة والثروات بل اخترت أن اتشبه بتقشف ديوجينوس الحكيم وقوة وصلابة هرقل وأن اتبع خطى برسيوس وديونيسيوس وهو الأب الروحي لعائلتي. وكلي أمل بأن أرى اليونانيين المنتصرين يحتفلون في بقاع الهند ويحيون تقاليدنا الرائعة بين قبائل وشعوب القوقاز وما وراءها.
مر بتمثال لمؤسس الإمبراطورية الفارسية قورش الكبير سقط أرضاً فخاطبه بالقول: هل أخلفك ورائي وأتركك ملقياً على الأرض بسبب الحملة التي جردتها على اليونان أم هل أرفعك وأعيدك إلى مكانك بسبب عدلك وما اشتهرت به من فضائل؟
اقترح عليه أحد المعماريين إنشاء مدينة بإسم الاسكندر في مكان اعتبره غير مناسب لأنه يقضي على بقعة خضراء وجميلة قال:
إنني أقدر عالياً تصميمك وقد سررت فعلاً به لكنني أخشى أن من سيجد مدينتك هذه في المكان المبين سيحكم عليَّ بالشطط و بسوء التقدير. إذ أنه كما أن الطفل الرضيع لا يمكنه العيش من دون حليب الأم أو أن ينمو ليبلغ المراحل التالية من الحياة، كذلك فإنه لا يمكن لمدينة أن تزدهر وتحيا من دون الحقول الخضراء والبساتين التي تدفع الثمار إلى داخل أسوارها.

هنا-جلس-الإسكندر-للدرس-مع-أرسطو
هنا-جلس-الإسكندر-للدرس-مع-أرسطو
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا--االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا–االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها

أكبر معرض

من لم يستكشفها فهو محروم

أكبر معرض على الطبيعة
للتنوع الهائل في بيئة الجبل

تتمتع محمية أرز الشوف بامتداد شاسع يجعلها تغطي مناطق جغرافية وبيئات طبيعية شديدة التنوع، لكن أهم ميزات المحمية هو مساحتها الكبيرة ووعورة المناطق الجبلية والغابات، وهو ما يوفّر الحد الأدنى من العمق الجغرافي ويتيح تطور الأنواع التي تعيش فيها، ويساعد على حمايتها كما يساعد على خلق حياة برية لا اختلاط فيها مع المدنية المعاصرة وملوثاتها الكثيرة. وبسبب توافر هذه الشروط فقد أعلنت منظمة اليونيسكو سنة 2005 محمية أرز الشوف محمية المحيط الحيوي Biosphere reserve وأدخلتها بذلك ضمن شبكة المحميات التي تحظى بحماية دولية بإعتبارها مناطق ذات أهمية كبيرة لتطوير نهج متكامل للتعايش المتناغم بين الإنسان والطبيعة المحيطة.
إن هذه الخصائص تجعل من استكشاف المحمية والسير في طرقها الجبلية متعة واكتساباً علمياً وثقافياً في الوقت نفسه.
ماذا في محمية أرز الشوف، وما هي الاكتشافات والمشاهد الفريدة التي يمكن أن يراها الزائر المراقب في حال قرر يوماً استكشافها؟
تقدّم المحمية بيئة غنية متكاملة من الغطاء النباتي ومن أجناس الطيور والحيوانات البرية، كما تنمو فيها كمية كبيرة من النباتات الطبية أو العطرية أو الصالحة للأكل، فضلاً عن مئات الأنواع الزهرية التي يقصدها النحل من القرى المجاورة ليصنع منها بعض أفضل أنواع العسل الطبي في العالم. وهنا عرض موجز لأهم مكونات المحمية:

الغابــات
تشتمل المحمية على سبع غابات أرز، ثلاث منها رئيسية وهي غابة أرز عين زحلتا والقرى المجاورة لها، وغابة أرز الباروك، وغابة أرز المعاصر. وتتميز هذه الغابات بتنوع بيولوجي غني جداً وتكاثر طبيعي قل ّمثيله.
في غابة أرز عين زحلتا (110 هكتارات) توجد بحيرة جبلية أنشأتها جمعية أرز الشوف بتمويل من السفارة اليابانية، بهدف المحافظة على استقرار الحياة البرية وإخماد الحرائق في حال نشوبها. وهناك ممرات للمشي وموقع لمراقبة الطيور والحيوانات قرب البحيرة.
أما غابة أرز الباروك (400 هكتار ) فهي أكبر غابات الأرز في لبنان، وتحتوي على ممرات جبلية عدة لهواة المشي لكافة الأعمار، ويمكن للزوار دخولها بواسطة حافلة أو سيراً على الاقدام. أما غابة أرز المعاصر (7 هكتارات) فتضم اكثر أشجار الأرز المعمرة. وفيها ممرات لزيارات متنوعة بحسب الوقت والمسافة.
وقد أحصت الدراسات تنوعاً بيولوجياً غنياً جداً في المحمية. فعلى صعيد النباتات، تمّ تسجيل ما يزيد على 500 نوع، منها 30 نوعاً يحمل اسم لبنان، مثل البربريس اللبناني وغرنوقي لبنان والقرنفل السحاري اللبناني. وهناك 25 نوعاً مهدداً بالإنقراض على الصعيدين العالمي والوطني، بالإضافة الى 50 نوعاً تنفرد به المنطقة و12 نوعاً نادراً مثل جُلبان لبنان وباذنجان الغول، و30 نوعاً من النباتات الطبية مثل الورد البرِّي والبيلسان، وما يزيد على 50 نوعاً من النباتات الغذائية مثل العكّوب والهندباء. هذا بالإضافة الى عدد كبير من النباتات العطرية. وفي المحمية أيضاً 24 نوعاً من الأشجار، بالإضافة الى الأرز اللبناني، وأهمها الغبيراء والعفص والملّول والسنديان والقيقب والقطلب وخوخ الدب والزعرور والإجاص واللوز والتفاح البريّ.

الحياة البرية
تعتبر محمية أرز الشوف أيضاً، منطقة هامة للطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا، وقد تم إحصاء نحو 250 نوعاً من الطيور فيها، بينها أربعة أنواع مهدّدة على الصعيد العالمي كالدرسة الرمادية والعويسق، و10 أنواع مهددة على الصعيد الإقليمي كالنسر وعقاب سقعاء الصغرى، وهناك أكثر من 30 نوعاً معششاً كالبيدق والنسر والحجل والهدهد، بالإضافة الى 10 أنواع محتملة التعشيش مثل ملك العقبان والبومة الاذناء.
وتمّ التعرف على 32 نوعاً من اللبونات البرية، منها 12 نوعاً مهدداً بالانقراض على الصعيد العالمي كالذئب والغرير، وثلاثة أنواع مهدّدة على الصعيد المحلي هي الهر البري والهر النمر والذئب، وتسعة أنواع نادرة منها الخفاش القديم والوطواط العمري.
على صعيد الزواحف والبرمائيات، تمّ إحصاء نحو 27 نوعاً، منها الحرباء المهدّدة بالانقراض على الصعيد العالمي، والنقّاق ذو القيمة الاقتصادية، ونوعان متفردان هما السقاية الجبلية والقاروت، بالإضافة إلى نوعين نادرين هما السقاية الجبلية وحنش الباروك، الذي تمّ تسجيله من قبل فريق المحمية بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت كنوع جديد على لائحة الزواحف العالمية.

من مروءات التآزر الدرزي المسيحي

الأمير شكيب أرسلان في استنبول
الأمير شكيب أرسلان في استنبول
معلوم أن أحداث الثورة السورية الكبرى سنة 1925 امتدت بتأثيراتها إلى لبنان وخصوصاً جنوبه، وذلك نتيجة لجملة أسباب منها قرب الجنوب من جبل العرب وتأثر أبنائه بما كان يحدث هناك. كما أن الوجود الفرنسي في قرى الجنوب وخصوصاً حاصبيا وراشيا خاف من امتداد الثورة إلى لبنان فبدأ بتحريك العصبيات الطائفية وإثارة مخاوف المسيحيين بهدف اجتذابهم للتعاون مع الدولة الفرنسية ضد الوطنيين، وذلك باعتبار فرنسا الحامية الوحيدة للوجود المسيحي في لبنان وسوريا. نتيجة لهذا الاستقطاب حصلت مواجهات محدودة وفتن مدبرة سقط فيها مصابون وضحايا من الطرفين. وقد بلغ الامر أمير البيان شكيب أرسلان في منفاه الاختياري في أوروبا فاعتراه قلق شديد وسارع إلى إعداد رسالة بعث بها إلى الموحدين الدروز والمسيحيين في الشوف ومناطق التعايش المشترك بينهم من ضمنها حث الفريقين على الحفاظ على أواصر المودة، كما نوّه في رسالته برجالات المسيحيين والموحدين الدروز ملقياً على عاتقهم أمانة الحفاظ على التعايش وأواصر المحبة والصلات التاريخية بين الطائفتين العريقتين. ومما قاله الأمير شكيب أرسلان في رسالته ما يلي:
“وأنا وإن كنت بعيداً عن الوطن، غير أنني أعلم بكل ما يحدث فيه، ومن هو المصلح وغير المصلح، وذلك لأن الناس تكتب لي؛ ونظراً لخبرتي بأحوال الوطن إذا جاءني القليل فهمت منه الكثير، وأخص بالذكر مآثر سيادة المطران أغسطين بستاني (مطران الطائفة المارونية في بيت الدين) ، هذا الرئيس الروحي والذي ينبغي أن يوجد في مثل تلك الأوقات العصيبة.
وهنا نحمد الله على أن مياه الصفاء بين الطائفتين رجعت إلى مجاريها بحسن مساعي سيادته ومساعي العقلاء والأفاضل. وإنني وإن كنت غائباً أو حاضراً ليس لي من وصية عند أبناء وطني سوى الإتحاد والتّحاب، لأن الطوائف المتنوعة في الوطن الواحد ينبغي أن تكون بعضها لبعض ركناً، وكل واحد من هذه الفئة أو تلك يُسدي معروفاً إلى أبناء الفئة الأخرى. ويجب أن يعلم أنه يخدم جماعته بذلك قبل الجماعة الذين أسدى إليهم المعروف.
وأثناء الحرب الكبرى، معلوم أنني كنت أعظ الجميع بالوئام والإنضمام ولاسيما الدروز الذين كانوا يسمعون مني أولاً لاعتقادهم بإخلاصي لهم، وثانياً لنفوذي يومئذ عند الدولة فكنت أقول لهم من كان منكم له صديق مسيحي يزوره في الشهر مرة صار يلزمه في هذه الظروف أن يشاهده في كل جمعة، وأي إنسانية تقدرون عليها نحو أبناء وطنكم النصارى فهذا وقتها، لأن الإتحاد على كل الأحوال هو العماد والراحة، ولأن القبيح يُقابل بمثله، وأنتم تعرفون المستقبل. فالأجدر أن يأتي المستقبل وصحيفتكم بيضاء عند هؤلاء الجماعة ولا يقدرون أن يمسكوا عليكم ممسكاً.
ثم يختم وصيته بلفتة تقدير واحترام لوجهاء دير القمر والشوف معاً إذ يقول:
”اسألوا لي عن خاطر سيادة المطران أوغسطين بستاني جزيل الإحترام في بيت الدين. وإن زرتم دير القمر قبّلوا لي عوارض الأخ عبدالله أفندي أفرام، والأخ نمر أفندي شمعون الذي كنت قديماً مغتاظاً منه ولكنني نسيت ذلك وعادت إلى قلبي محبته المتينة، ثم أهدوا سلامي وأشواقي إلى جناب الوجيه سليمان أفندي شمعون، وإن كان الأستاذ العلامة جرجس أفندي صفا في الدير فاسألوا لي خاطره واهدوه مزيداً من أشواقي لأنه صديق قديم ورجل كبير بعلمه وعقله”.
هذا، واسألوا لنا خاطر سيادة شيخنا الشيخ حسين طليع (شيخ عقل الدروز في حينه)، والتمسوا لنا دعاءه، وقبلوا لنا عوارض الأخ أمين بك طليع، واهدوا وافر التحيات إلى حضرات الأجلاء المشايخ أبي محمد قاسم أبو شقرا، ومحمود أفندي نجم أبو شقرا، ومحمود أفندي رافع ومحفوظ أفندي حميه، وإلى أنس المجالس الشيخ أبي علي الفطايري، وسلامي وأشواقي إلى حضرة أخيكم محمد أفندي طليع”. 1

المخلص شكيب أرسلان

 

كيس ذهب من دير القمر
ينقذ حياة زعيم آل أبو شقرا

مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام
مقام-أبا-يزيد-البسطامي-في-بسطام

كان أجدادنا يتناقلون لعشرات العقود من الزمن حادثة مؤثرة حصلت قبل نحو 200 عام وحملت الكثير من العبر عن أهمية التآزر الدرزي المسيحي، وعن الفوائد العظيمة التي يجنيها الطرفان من جراء علاقات الوئام الدائم بينهما. موجز تلك الحادثة أنه وعلى أثر شر السمقانية سنة 1825 بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط أخذ الأمير بعد انتصاره على خصمه الشيخ الجنبلاطي بالإنتقام من أنصاره وأتباعه ومنهم الشيخ بشير حسن أبو شقرا، والذي توارى عن بلدته عماطور إلى إقليم الشومر في الجنوب واختبأ في قرية تخص وجيهاً من بيت علي الصغير اسمه أحمد بك. وعبثاً فتش عنه رجال الأمير في مختلف أنحاء الجبل فلم يقفوا له على أثر. واتفق ذات يوم وهو يتجول في صيدا أن عرفه أحد جواسيس الأمير بشير ووشى به فقُبض عليه واقتيد مكبلاً إلى بيت الدين.
كان لهذا الحادث الوقع الأليم في نفوس أقاربه آل أبو شقرا، وخوفاً على حياته من بطش الأمير وتعسّفه استنجدوا بالشيخين النبيلين ناصيف وحمود النكديين أنصار الأمير. وتقول الرواية إن النكديـِّـيْن دخلا على الحاكم الرهيب في الساعة التي كانت الشرطة تستعد لتنفيذ حكم الإعدام بالشيخ أبو شقرا، فلاحظ الأمير على وجهيهما علامات الإضطراب والحاجة فسألهما:
-”خيراً إن شاء الله ، هذه الزيارة في هذا الوقت مش بلا ؟”
أجاباه : رجاء نعرضه على سعادتك.
دهاؤه حدثه برغبتهما، فقال: كل شيء إلا العفو عن بشير أبو شقرا.
أجاباه: العهد بيننا أننا حلفاؤك حتى الموت، وأنك لا تخيبنا ولا تكسر خاطرنا.
تأثر الأمير وأجاب: لكم ما تريدون فاطلبوا..
-العفو من شيم الكرام، ونحن نرجو أن تعفوَ عن ابن أبو شقرا.
قال الراوي: أسقط في يد الطاغية، ولبى رجاء الشيخين النكديين على مضض وكره، ولكنه اشترط أن لا يطلق سراحه إلا إذا أدّى خمسة وثلاثين كيساً وكان المبلغ باهظاً وعظيماً في ذلك الزمان، فسعى بنو أبوشقرا إلى تدبيره بشق النفس، وباعوا حُلي ومصاغ نسائهم والعديد من أرضهم، ثم ساعدهم أصدقاؤهم من عائلة أبو حسن في بعذران، وعائلة جودية في حارة جندل حتى تجمّع لديهم، بعد العناء الشديد، أربعة وثلاثين كيساً، وبقي عليهم كيس واحد، ولكن الأبواب سدّت في وجوههم فحرّكت المروءة الشيخ نادر بو عكر كبير أسرة آل نعمة في دير القمر، وهي أسرة صديقة لآل أبو شقرا منذ القدم وتربط بينهما أواصر المحبة ووحدة الفرضية، فجمع هذا الشهم الكيس من عائلته الكريمة وقدمها إلى أبو شقرا وأنقذ بعمله هذا حياة كبيرهم من الموت المحتم.
ومما يرويه المؤرخ حسين غضبان في كتابه “ الحركات في لبنان، ص 22 “ أن الشيخ قاسم معضاد أبو شقرا، شيخ قرية عماطور في حينه، نزل إلى بيروت سنة 1880 لشؤون خاصة، وعندما همّ بالعودة شعر أنه متوعك المزاج، فمرّ بالشويفات ليبيت عند صديقه فارس محمود أبو حسن، ولم تمضِ بضع ساعات على وصوله حتى حضرته الوفاة.
في الصباح حُمّل الفقيد بموكب نحو بلدته عماطور، وقبل أن يبلغ الموكب دير القمر، كان النعي قد وصل إليها فتداعى رجال آل نعمة لملاقاة الموكب في ظاهر البلدة، ومن هناك انضموا إلى الموكب وساروا إلى جانب آل أبي شقرا يساهمون في حمل الجثمان حتى وصلوا عماطور، فوقفوا يستقبلون المعزين مع آل أبوشقرا وكأنه فقيدهم.

جميل ردّ الجميل لكن البادىء أفضل

الرجال سيفها ليس للعدوان
الرجال سيفها ليس للعدوان
مخطىء من خالج فكره يوماً أن الشعب المسالم في قراه ومدنه، كان السبب في تغيير مجرى الثورات من وطنية إلى فتن طائفية، فقد كان العامل الأهم هو الأيادي الخفية لعملاء السلطة المحتلة أو لعناصر الشر والمكائد من مخابرات محلية أو خارجية وجميعهم ممن ينطبق عليهم القول:”يفسدون في الأرض ولا يصلحون”.
هذا ما حدث يوم فتنة بلدة كوكبا في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1925، بعد أن تناهى لسمع زوجة الشيخ أبو محمد أسعد الزغير، أزيز الرصاص وضجيج الغوغاء وارتفاع الأصوات والعياط، قرب بلدة كوكبا، وكانت لم تزل تصطاف مع عائلتها في بستانها القريب من البلدة المذكورة، صرخت قائلة: “يا أبا محمد ولدنا مهنا ذهب للصيد هناك، إذهب وابحث عنه وعسى أن لا يكون قد أصابه مكروه”.
اعتلى أبو محمد ظهر دابته وانطلق نحو العين غير آبهٍ بالخطر المحدق به، كونه لا علم له بما حدث أو لم يزل يحدث. لدى وصوله إلى مبتغاه، وجد مهنا يبحث عن طرائده رغم أن طرائد غيره كانت من الأبرياء الضعفاء. عند اقترابه من العين المذكورة، إذ بنسوة مع أولادهن وأطفالهن ويربو عددهن على الثلاثين، يركضن نحوه صارخات مولولات يلتمسن النجدة والخلاص.
تحركت النخوة والعزة والكرامة التي انفطر عليها هذا الشيخ وأمثاله، خصوصاً وأن العديد من أؤلئك النسوة كنَّ ممن يعرفهن أو يعرف أزواجهن. ورغم استغرابه لهذا المشهد انتفض قائلاً: “ويحكن، ماذا يحدث هنا، ولماذا هذا الهلع؟ فأنتن بإذنه تعالى سالمات ولن يصيبكن أي مكروه وأنا حيٌّ ولي عرق ينبض”.
إنطلق أمامهن عائداً من حيث أتى بعد أن أودع العديد من الحوائج المهمة كالمصاغات وسواها في خرج دابته ووضع أمامه وخلفه أربعة أطفال وسار أمام النسوة وابنه مهنا يرافقهن.
مع وصوله إلى بستان الحرفاني القريب من بستانه، وجد العديد من الثوار وبينهم من يمتّ إليه بصلة فاستوضحهم عن السبب، ثم طلب من بعض أصحابه وأقاربه أن يعودوا معه لمساعدته وحماية مرافقيه حتى وصوله إلى بيته في حاصبيا، وذلك تحسباً لأي إنتقام ممن فقدوا أولادهم أو أحد أقاربهم.
في منزله، رحّب أبو محمد بالنسوة ثم دعاهن إلى الدخول آمنات مطمئنات غير أنه فوجىء بإحداهن والدموع تملأ مقلتيها وهي تولول وتلطم خديها وتقول: “ولدي حبيب لم يزل في السرير”.
ذُهل واستغرب من هذا الكلام، ثم سألها: لماذا لم تقولي قبل مجيئنا؟  وقبل أن تستجمع قواها للجواب سارع إلى طمأنتها بالقول:لا تقلقي سأعود وأجلبه فأين بيتك، وزوجة من تكونين؟
-صحيح يا عمي أبو محمد؟ صحيح؟ وهل باستطاعتك أن تعود؟ فأنا زوجة شكري أبونقول وبيتنا في الجهة الشرقية من الكنيسة.
وصل إلى البلدة والنيران لم تزل تلتهم ما تبقى من المنازل وما يحيط بها لكن المنزل المقصود كان لم يزل سالماً. فاندس إلى داخله وأخرج الطفل من سريره ثم عاد به إلى والدته.
هنا مشهد يرويه حفيد الشيخ عن لسان والده فارس قائلاً: “ بقي ذلك المشهد طيلة حياته لا يبرح فكره، كيف أن الوالدة تلقفت الطفل، وكيف ركضت ثم ركعت أمام والده شكراً وامتناناً، لكن الجد استغفر الله وأجاب: “هذا واجبنا تجاه ضميرنا وتجاه الجميع وكيف وأنتم جيراننا وأحباؤنا”.
بقيت النسوة في المنزل مكرّمات فترة من الزمن، غير أن خوف مضيفهن من الأيام المقبلة وعاقبتها جعله يذهب إلى الشيخ حسين قيس قاضي المذهب الدرزي آنذاك، طالباً منه النصيحة في ما يجب أن يكون موقفه تجاه النسوة.
أيقن الشيخ خطورة الأمر، لذا أشار إليه أن يوصلهن إلى سهل إبل السقي على أن يكملن طريقهن من هناك إلى مرجعيون، حيث أن البلدة عادت إلى يد السلطة المستعمرة ولربما أزواجهن وأولادهن يتواجدون هناك.
هذا ما حدث بالفعل، إذ قام بإيصالهن مع بعض أقاربه إلى السهل المقصود، ومن هناك توجهن إلى مرجعيون، وكان اللقاء المؤثر بين الفاقد والمفقود.
رد الجميل لم يطل كثيراً لأبي محمد أسعد الزغير، من قبل آل أبو نقول، إذ بعد اندحار الثوار وتركهم لبلدتهم حاصبيا ودخولها وحرقها من قبل الجيش الفرنسي وبعض المتعاونين معه، كان أن سلم بيت الشيخ أبو محمد من الحريق وذلك بإيعاز وحضور من والد ذلك الطفل، وكان من جرّاء ذلك أن تعمّقت الصداقة وتجذّرت بين آل الزغير وآل أبونقول حتى اليوم الراهن. ويكمل الراوي فيقول إن السيدين شكري وميشال أبونقول بقيا يناديان والده فارس حتى وفاتهما بأخي فارس.
هذه المأثرة حدت بي إلى إعادة ما رواه أمامي الطيب الذكر الأديب سلام الراسي عن مأساة بلدة كوكبا فقال: “أقسم اليمين عما سأرويه حيث كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أتى إلى بلدتنا إبل السقي، وفد حكومة حاصبيا برئاسة نسيب أفندي غبريل، وعضوية كل من السادة نزيه مؤيد العظم، وشكيب وهاب وفي جعبتهم المنشور الموقع من القائد زيد الأطرش وفحواه: “إن قدوم الثوار الدروز إلى هذه البلاد هو لإنقاذها من السيطرة الأجنبية، وإن ثورتهم هذه باسم الوطن لا بإسم الطائفية، وإن جميع أبناء الوطن، إخواننا في النفس والمال والحرية الشخصية. وعلى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، راجين التفّهم والتعاون والله من وراء القصد”. ثم أخبروهم أن الثوار سيمرون غداً قرب بلدتهم متلمسين منهم عدم التحرش أو إطلاق النار عليهم.
أثناء تواجد الوفد في منزل الوجيه يوسف أبو سمرا علمت المخابرات الفرنسية المتواجدة في مرجعيون بقدومهم، لذا أرسلت ثلاثة من عملائها لاعتقال الوفد المذكور، لكن حالما عرف أبو سمرا بالأمر حتى أرسل رجاله لمقابلتهم وأمرهم بالعودة من حيث أتوا.
في اليوم التالي، قَدِم الثوار من حاصبيا إلى مرجعيون وقصدهم طرد الحامية الفرنسية المتواجدة فيها سلماً، كما حصل في بلدة حاصبيا ذاتها، حيث طردت الحامية من موقعها في تلة زغلة من دون سفك أي نقطة دم وتمّ إيصال الجنود الفرنسيين إلى مصنع الحمّر، مع تزويدهم بالطعام والماء، كما سُمح لهم بنقل جميع معداتهم وأسلحتهم”، غير أن المخابرات المذكورة سابقاً ما كان منها إلا أن أرسلت العملاء الثلاثة ذاتهم إلى زيتون المغاريق المتواجدة أمام بلدة كوكبا، وحيال وصول الثوار إلى هناك فاجأوهم بإطلاق النار عليهم فقتل منهم على الفور ثلاثة هم: أسعد شرف وقاسم ومحمود أبودهن.
صادف أن حصل هذا الاعتداء الغادر على الثوار بينما كان قائد الحملة حمزة درويش يشرب القهوة عند خوري البلدة، ونظراً إلى أن القائد المحنط لم يكن موجوداً في الوقت المناسب فقد عمت الفوضة بين الثوار و”فلت الملقّ”، كما يقال بعد أن اعتقد الثوار أن أهالي كوكبا هم الذين هاجموهم لذا توجهوا نحو البلدة وحدث ما حدث، وقتل نحو ثلاثين من الذين قاوموا وكانوا يحملون السلاح.

ليردد بعد ذلك الأمير عادل أرسلان، أحد قادة تلك الثورة، جملته الشهيرة: “هكذا أرادتها فرنسا: من ثورة وطنية إلى فتنة طائفية”.

يا محترم حياتكم غالية جداً علينا

حدّثني الأديب سلام الراسي عن أريحية ومروءة الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين، فقال: “بعد اندحار الجيش الفرنسي التابع لحكومة فيشي سنة 1940، أمام الجيش الفرنسي التابع لحكومة الجنرال ديغول في الجزائر في منطقتي مرجعيون وحاصبيا حدث فراغ أمني في بلدة حاصبيا من جرّاء ذلك.
القسيس إبراهيم داغر، راعي الكنيسة الإنجيلية، ومدير المدرسة التابعة لها في تلك البلدة، وكان لم يزل يقطن فيها.
إحدى الليالي، نظر من نافذته، فوجد ثلاثة مسلحين يتجوّلون قرب منزله، لكنهم لم يطرقوا الباب، ومع هذا بقي طوال الليل يترقب حدوث عمل مشين.
بعد طلوع الفجر بقليل، أسرع القسيس إلى صديقه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين وحادثه قائلاً :
“شيخنا الكريم، إذا كان وجودي في بلدتكم غير مرغوب فيه، فأرجو من حضرتكم إعلامي بذلك، وإنني على استعداد للرحيل ساعة تشاؤون، والسبب أن ثلاثة مسلحين بقوا طوال الليل أمام منزلي”.
تبسّم الشيخ بعد أن استراحت تقاسيم وجهه، وأدار بيده فوق لحيته وقال:
“يا محترم، لا يغرُب عن بالكم أن حياتكم غالية جداً علينا، وأن وجودكم بيننا لا يقدّر بثمن. فأنتم المرشد الروحي والفكري لأولادنا وللجميع، وخوفاً من حدوث مكروه لحياتكم في هذه الأوقات العصيبة، قمنا بإرسال الشباب لحراستكم، والسهر على راحتكم”.
تبسّم القسيس بعد أن سمع ذلك، وبعد أن استراح فكره، نظر نحو الشيخ من جديد وقال: “حييتم وبييّتم أيها النبيل الشريف، وحقيقة أنكم خلقتم للمعروف يا بني معروف”.

 

 

ابو جبر

قصّة واقعية لكنها أغرب من الخيال

الشّيخ أبو جبر سلامة الحمّود الأطرش و اغاثة الملهوف قي نراث الموحّدين الدّروز

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار

كان الأهل في مضافات جبل العرب يردّدون لقبه “سمّ الموت”، بإعجاب تمازجه الدهشة كلّما ذُكر اسمه، وذلك للدلالة على بطولته وكونه موتاً نازلاً على أعدائه.
يذكره الشاعر أحمد العلَيّان، وهو أحد أبرز الشعراء الشعبيين في القرن التاسع عشر فيقول فيه:
تلفي عا منـــزول مَلْفى لَلاِجْـواد لَلْغَضنــفرْ والنّمـــر،ْ إيضا الفــــــهدْ
تلقى (سَمّ الموت) مامِثْلَهْ أحَـــدْ عِزْ مَنْ ركب الفرس إيضا وْلَـــــــكَدْ
ولد سلامة (سم الموت) نحو أواخر القرن الثامن عشر، وبذا فقد عاش حياة حافلة استغرقت القرن التاسع عشر بطولِهِ، إذ ناف بعمره عن مئة عام، لكن حياة أبو جبر لم تكن إنفاقاً للسنين الرتيبة بل كانت سِجلاً من البطولات وإغاثة الملهوف لكنّه سجل امتزج في الوقت نفسه بمآسٍ موجعة قلّما تجد بطلاً سَلِم من معاناتها وامتحانها.
يتعرّض الأمير متعب الأطرش في مذكّراته لدور(أبو جبر) سلامة ــ وأبو جبر هو جد الأمير متعب لأمّه ــ، فيذكر بأنّه كان له الفضل الأوّل في تدعيم حكم إسماعيل الأطرش في الجبل، ذلك لأنّ أبا جبر كان من الفرسان الأشدّاء الذين تضافرت جهودهم في مجالات اجتماعية متعدّدة “لتوطيد الأسس الجديدة”، ولا بدّ أنه يقصد بالأسس الجديدة، إحلال الزعامة الفتيّة والفعّالة لإسماعيل الأطرش، والتي كانت تلبّي مصالح الموحّدين الدروز، محل الزعامة التي لم تستطع أن تتكيّف مع التغيّرات الاجتماعية في الجبل، من جهة أولى، وذلك بعد أن تزايدت أعداد المهجّرين من الموحّدين الدروز من جبل لبنان ووادي التيم وشمال فلسطين وديار حلب، وبعد أن تزايدت أطماع الولاة العثمانيين في خيرات المجتمع الجديد من جهة ثانية.

مؤامرة لقتل إسماعيل الأطرش
يستشهد الأمير متعب بحادثة جرت نحو سنة 1870م، تدلّ على حذر جدّه سلامة ــ ابن عم إسماعيل ــ وتوجّسه من العثمانيين، فيروي بأن الوالي العثماني في دمشق، تلقّى رشوة ثلاثة آلاف ليرة ذهبية من الشيخ واكد الحمدان، شيخ جبل الدروز آنذاك، مقابل التخلّص من إسماعيل الأطرش، عدوّه الّلدود ومنافسه على زعامة الجبل، والذي كان يقود معارضة الدروز لزعامة الحمدان الإقطاعية المستبدّة.
كان الشيخ الحمداني قد صوّر للوالي أن لا مصلحة للدولة في بقاء نفوذ إسماعيل الأطرش المتعاظم في أوساط الدروز، وسائر لواء حوران الذي كان يشتمل على جنوب سوريا وشمال الأردن، كان إسماعيل قد نجح في عقد سلسلة من المصالحات والاتفاقيات بين فريقه من دروز الجبل وبين جماعات من عشائر حوران والبادية، وقد جعلت هذه المساعي منه الرجل الأقوى في جنوب سوريا حينذاك ــ وكان المستشرق البريطاني القس بورتر قد زار إسماعيل في قريته، القرَيّا، فأعجب بشجاعته، وباهتمامه بمن حوله، ونعته بـ” أشجع رجل في شعب شجاع”.
استدعى الوالي إسماعيل لمقابلته في دمشق، وكان سلامة بين أبرز من رافقه في تلك الزيارة المشؤومة، ولمّا قابله الوالي أعجب بما تنطوي عليه شخصيّته من مزايا، فلم تُسَوّغ له نفسه قتله، لذا كتب كتاباً ضمن مُغَلّف موجه إلى قائمّقام بُصرى يطلب إليه في ذلك الكتاب بأن يسقي إسماعيل السّمّ، وأعطى المغلّف إلى إسماعيل نفسه، وفي الطريق إلى بصرى قال سلامة لابن عمّه إسماعيل:”افتح الكتاب لنتعرّف ما به”، فأجابه إسماعيل:”كيف نفعل ذلك والرجل وثق بنا على كتاب نوصله لعامله على بصرى؟ هذا لا يجوز، والأمانة لا تسمح لنا به”، فقال له سلامة:” أنا أرى بأن الوالي قد أرسل هذا الكتاب معك لتطّلع على ما به، ولتتجنّب خطره، وأنت يا إسماعيل أصابنا بك مثل الذي حمل كتاباً على قطع رأسه”.
لم يقبل إسماعيل أن يفتح المغلّف، وحاول سلامة أخذه والاطّلاع عليه، فلم يرضَ إسماعيل، بل أصرّ على قراره بعدم فتحه، وفي بُصرى دخل الرجلان على القائمّقام الذي اضطرب لدى قراءته الكتاب ــ كما روى سلامة في ما بعدــ لكن القائمّقام لم يكن أمامه إلّا أن ينفّذ الأمر، فقُدّمَت القهوة المسمومة لهما، سكب سلامة فنجان القهوة ضمن لثامه تحت شفته السفلى، أما إسماعيل فقد شرب القهوة التركيّة، وما أن استقرّت تلك القهوة في جوفه حتّى نظر إلى سلامة قائلاً: “قم نعجّل بالعودة إلى ديارنا”.
أدرك سلامة أنّ ما توقَّعه قد حدث، فركبا جواديهما عائدين، وعندما صارا قرب قرية جْمَرّين ــ شمال شرق بصرى ببضعة كيلومترات ــ ظهرت أعراض السم على الشيخ إسماعيل، فأرسلا “ المفَزِّع إلى المجيمر وهي أولى قرى الجبل ممّا يلي سهل حوران، وشيخها من آل الحمّود الأطرش، نزلا بها للاستراحة، ثمّ انتقل إسماعيل إلى قريته عرى، ولم ينفع معه طبٌّ ولا دواء، فوافته المنيّة بعد سبعة أيّام من الزيارة المشؤومة للموظّفين العثمانيين، وسَلِمَ سلامة بحذره.

قصة أغرب من الخيال
في وقتٍ ما من سبعينات القرن التاسع عشر، وبحسب المرويّات الشفهيّة للأهل، أنّ تاجر أبقار شركسيًّا من قرية “الجويزة” في ديار الجولان، جنوب غرب دمشق بنحو خمسين كيلومتراً، قد اعتاد القدوم إلى جبل الدروز، ليبيع أبقاره الجولانية المشهورة بإدرارها للحليب، وبقوّة بُنْيَتها، وبُنْيَة ما تُنْجبه من عجول، تصير ثيراناً قويّة تجرّ المحاريث في أرض الجبل، وفي مثل هذه الحال، كان لابدّ لذلك التاجر وأمثاله من مرتادي جبل الدروز، من أن يعبروا قرى حوران التي تفصل بين الجولان وبين الجبل، وكذلك لا بدّ له من أن يحلّ ضيفاً على أحدهم في إحدى القرى الحورانية، لعلّه يبيع بعض ما يتجر به، ثمّ إنّ المسافة بين الجولان وجبل الدروز يصعب قطعها في يوم واحد على شخص في مثل حاله.

إسماعيل الأطرش “أشجع رجل في شعب شجاع” وطّد نفوذه على جنوب سوريا لكن الوالي العثماني اغتاله بقهوة مسمومة بناء على تحريض واكد الحمدان

القصة الغريبة لتاجر شركسي وقاتله وغاصب ابنته وكيف أدى تدخل سلامة الأطرش إلى معاقبة المجرم وجمع شمل أسرة فرقتها الأقدار.
حلّ الرجل في رحلته تلك ضيفاً على أحدهم في بلدة بصرى. دارٌ رحبةٌ مسوّرة، تتصدّرها بوّابة عالية، وفي تلك الدار أرزاق موفورة، ونسوة وأبناء ومرابعون.
رحّب صاحب الدار بالتاجر، ولمّا علم وجهةَ رحلته حذّره من أنّ الدروز قد يغدرون به، ونصحه بعدم متابعة طريقه إلى جبل أولئك القوم، لكنّ التاجر كان واثقاً من سلامة طريقه، فهو قد خَبِر الدروز في أكثر من مرّة، وجرّب معاملتهم، واستنتج أنّ رأي مضيفه يستند إلى حزازات سببها أخطاء بعض الأشخاص من حوارنة أو دروز من الجانبين، ويستغلّها العثمانيون من جانب آخر، وبهذا يسهل على هؤلاء التحكّم في الفريقين الضّحيّتين، الدروز والحوارنة.
لم يأخذ الشركسي بنصيحة مضيفه، وفي صبيحة اليوم التالي انطلق بتجارته مبكّراً نحو الشرق من بصرى، حيث قرى الجبل التي تتناثر على السفوح الوعرة. قال له المضيف:”إذا رجعت سالماً فلا تنسَ أن تمُرّ بي”.

غدر في هزيع الليل
بعد أيّام من الاتِّجار في الجبل وُفِّق الشركسي في بيع أبقاره، وملأ جيوب كَمَرِه ليرات ذهبية من ثمنها، عند ذاك قرر العودة إلى قريته في الجولان، ولكنه أحبّ أن يلبّي دعوة مضيفه السابق في بصرى، وكان الغروب قد أدركه قربها، وهو يعلم حق العلم أنّ السفر ليلاً لأمثاله ممّن يحمل ذهباً في ذلك الزمن غير آمن، والطرق مُخوِّفَة حتى في وضح النهار.
نزل الشّركسيّ ضيفاً عند البصراوي، فرحّب به واستضافه، وبُعَيْد هزيع من الليل تأكّد المُضيف أنّ ضيفه قد استغرق في نومه، فعمد إلى بلطة مسنونة أهوى بها على رقبة الضيف الغافي ففصل رأسه عن جسده، وكان قد أعدّ حفرة في جانب من باحة داره، رمى جثة القتيل بها، وأهال عليها التراب ورشّ التبن والقش فوقه، فبدت الأرض متماهية مع ما حولها، ونظّف مكان الجريمة فكأنّ شيئاً لم يكن.
هي الأيّام تمضي، وانقطعت أخبار الشركسي عن قريته في الجولان، وشُغِل أبناؤه وبناته، وذووه بأمره، وأيقنوا بعد متابعة وتقصٍّ أن فقيدهم ضاع أثره وفُقِدَ في جبل الدروز، ولطالما عزّز الحاقدون على الجبل مثل هذه الأقاويل.

ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب
ألقاه-في-حفرة-في-الحديقة-وسوى-فوقه-التراب

حكمة الأقدار
وفي يوم من أيّام بؤس أسرة ذلك الشركسي المفقود، مرت بقرية “الجويزة” جماعة من غَجَر ذلك الزمان، كانت تتجوّل في قرى وأرياف الجولان، فاختطفت صغرى بناته، الطفلة “زينب “، وعلى عجل، فرّت بها تلك الجماعة إلى الأردن.
كانت زينب في السابعة من عمرها يومذاك، وقد بقيت عند خاطفيها نحو ثلاثة عشر عاماً، أصبحت فتاة في العشرين من عمرها، صبية شقراء رائعة الحسن، خضراء العينين ممشوقة القد. ولما كان التّجوال سمة ثابتة في حياة الغجر، فقد شاء القدر لزينب أن تمرّ بها جماعتها في بصرى. هناك اشتراها أحد الرجال بأربع ليرات ذهبية ليتبنّاها، وصدف أن رآها الرجل قاتل ذلك الشركسي العاثر، سُحِر بجمالها، فغَصَب متبنّيها على بيعها له، وأخذها معه إلى بيته. أرادها زوجة رابعة له، بالإضافة إلى زوجاته الثلاث، فأبت زينب ذلك. وتمادت مع الأيّام في رفضها الزواج به، خصوصاً بعد أن علمت من كبرى زوجاته بمقتل تاجر شركسي كان عائداً من قرى جبل الدروز إلى دياره البعيدة.
أدركت زينب أنّ ذلك الرجل القتيل هو أبوها. كانت تلك المرأة قد حذّرتها بأنّه إذا استمرّت في عنادها له، سيقتلها كما قتل الرجل المطمور في تلك الحفرة من زاوية باحة الدّار، وحيث لا يعلم بسرّها غيرها بعد اثنين، هما: الله، وزوجها القاتل، كانت قد راقبته خِفْية عندما قتله وسلب ماله، وواراه التراب، ورشّ على وجه التراب التبن للتمويه، وكذلك أرشدتها إلى موضع حفرة المقتول.
تجاهلت زينب علمها بسرّ مقتل أبيها، وظلّت على رفضها الزواج بقاتله. تحمّلت صنوفاً من العذاب والإكراه، كان يذكّرها بأنّها ستظلّ خادمة في حريمه إلى أن تقبل به زوجاً لها، وعندها ستعيش حياة سعيدة، لكنّها لم تَلِنْ له، وقُدّرَ لها أن تتعرّف على امرأة بدويّة اعتادت المجيء إلى حريم ذلك الرجل، مالكها. أعْلَمَتها بأمرها، وباحت لها بسرّها، وبأنّها عرضة للإغتصاب من مجرم هو قاتل أبيها، فوعدتها البدوية بسبيل خلاص من محنتها.
كانت البدوية زوجة لراعٍ يرعى بأغنام وماعز لدروز قرية بكّا المجاورة، وتقع إلى الشرق من بصرى، على مسافة نحو سبعة كيلومترات منها، وشيخها سلامة الحمّود الأطرش.

زينب الحسناء الأسيرة اكتشفت أن سجّانها هو قاتل والدها فكشفت سرها لبدوية وطلبت منها تدبير نجدة تنقذها من أسر المجرم

استغاثة البدوية بالشيخ سلامة
خرجت تلك المرأة البدوية من دارة مُضيفاتها، فكّت رباط أتانها المربوطة في حوش الدواب، وانطلقت مسرعة إلى بكّا، وقد عزمت على أمر جَلَل، لقد عرفت تلك البدويّة كيف تبدأ به، أمّا خواتيمه فقد تجاوزت قدرات كل الأشخاص الذين مثّلوا أحداث هذه القصة الملحميّة.
ما إن أطلّت البدوية من على مشارف قرية بكّا حتى أخذت تصيح مستغيثة ــ وتلك من عادات الأعراب القديمة ، “آ..آ..آ سلامة، وين سمّ الموت؟” واستمرّت تكرّرها وهي تتّجه إلى بيت الشيخ سلامة، فما أن سمعها حتّى أسرع إليها، إلى باب دياره الواسعة ملبّياً: “أبشري يا بنت، لَكِ ما تريدين”. عند ذاك أخبرته بقصة الشركسية ومأساتها وأنّها تطلب نجدته، قال لها:” غداً صباحاً اذهبي إليها، أبلغيها أن تحضّر نفسها لأخلّصها، وعندما ينتصف الليل عليها أن تكون جاهزة لترفع لي رتاج بوّابة الدار، بحيث تكون قريبة منها، لتدلّني أين يكون الرجل، فأخلّصها وليكن بعدها ما يريده الله”.
الشيخ سلامة يعرف بصرى جيّداً، ويعرف الرجل وداره. انتظر حلول الظلام وانطلق إلى غايته على ظهر فرسه، سلاحه سيفه وبارودته المارتيني، وعبده يتبعه على فرسه، وله مثل سلاحه، كان قد اتّفق معه مُسْبَقاً، أن ينتظره جانباً قرب البوّابة، وما أن وصل حتّى ترجّل، ثمّ ناول العبد مقود فرسه، وتقدّم من البوّابة غير المُرْتَجة كما اتُّفِق. قليلاً قليلاً فتح ضلفة منها، وزينب شبح أسود يلطي قربها، كانت قد أطعمت كلاب الدار فأمنت منها بحيث لا تنبح، همست له:
ــ سلامة؟
ـــ هسّسّ
ـــ أينه؟
مشت أمامه إلى عِلّية في الدار بابها مغلق، أشارت له أن يتنحّى جانباً بحيث لا يظهر، رشّت نفسها بقليل من العطر، ثم طرقت الباب برقّة، لم يلبث أن فتح لها، كان شبحاً ضخماً متين البنيان.

المجرم ينال عقابه
ما إن رآها، عرفها، خَطَتْ أمامه خطوات فتبعها بلا سؤال. عندها تقدّم منه سلامة: “تخون الضيف وتسلب ماله وتغتصب ابنته؟، خذها…” كانت ضربة صاعقة بحيث بقيت صرخة القتيل محبوسة في حنجرته، وتدحرج الرأس إلى الأرض، أمّا الجسد فتمايل قليلاً وسقط أرضاً.
أشار سلامة لزينب فتبعته، ومضيا مسرعين، عَبَرا البوابة إلى الخارج، إلى حيث العبد والفرس ينتظران، تناول مِقْوَد الفرس من عبده ووثب على ظهرها، وكالبرق تناول بيمناه يد زينب اليمنى، ومدّ بقدمه اليمنى عَبْر الركاب بحيث تكون درجة، وضعت زينب قدمها اليمنى عليها وقفزت فكانت خلفه على ظهر الفرس، وانطلقا شرقاً إلى بكّا يتبعهما العبد.
شاع خبر إنقاذ زينب في البلاد، وأخذت السلطة العثمانية تلاحق الشيخ سلامة كقاتل، وأخذ الجنود العثمانيون من مركزهم في بصرى يلاحقونه ويقتفون أثره، أمّا زينب، فإنها صمّمت أن تظلّ إلى جانب عمّها سلامة، الذي أنقذها وحمى شرفها، فلبست لباس الرجال، وحملت سلاحاً وامتطت فرساً ولازمته كظلّه، كانا يتنقّلان بعيداً عن أنظار العثمانيين وجواسيسهم من مكان الى آخر ومن قرية الى أُخرى، ويعودان إلى بكّا في بعض الأيّام والليالي، إذْ لا بدّ للشيخ سلامة من أن يكون على بيّنة من شؤون قريته.

أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة
أخذ الفرس وانطلق ليلاً وفقاً للخطة

زينب تعثر على شقيقيها
وحلّ يوم نَكِد عليهما، إذ أحاط بهما الجند العثماني في خرائب قرية قديمة مهجورة، تقع إلى الشرق من مدينة القرَيّا الحاليّة ببضعة كيلومترات تُدعى”دَفْن”، كما تبعد شمالاً بشرق من بكّا ببضعة عشرة كيلومتراً. هناك قُبِضَ على الفارسين وسيقا مُكَبّلَيْن بسلاسل الحديد، وفي بعض الطريق إلى بصرى أخذ اثنان من الجنود يتكلّمان في ما بينهما باللغة الشركسية، وكان العثمانيون يتّخذون من الشركس وسواهم من غير العرب جنوداً في مخافرهم، ومواقع قوّاتهم على أطراف البوادي لقمع الحركات المناوئة لهم. فهمت زينب أن الشركسيين يريدان قتلهما قبل أن يصلا بهما إلى مخفر بصرى، وعندها نزعت لثام الفارس عن وجهها، وباللغة الشركسية ذاتها أفهمتهما قصّتها، وبأن هذا الرجل الذي معها هو مَنْ حرّرها، نخوةً وشهامةً منه، ولم يمسّها بسوء، وهو من أنقذ شرفها من قاتل أبيها التاجر الشركسي الذي انقطعت أخباره، واتّهم الدروز بقتله.
عندما سمع الشركسيّان كلام زينب، ترجّلا عن فرسيهما، وتعرّفا على شقيقتهما المفقودة، تعانقا بعد فراق، وفكّا القيود عن الأسيرين، وقبّلا يديّ الشيخ سلامة الذي ثأر لهما من قاتل أبيهما، وأنقذ شقيقتهما ممّا كانت تعانيه من محنة، وحين وصلا إلى قائدهما، عرضا عليه قصّتهما وقصّة شقيقتهما، زينب، ومن ثمّ تمّ الكشف عن الهيكل العظمي المدفون في دارة القاتل الذي استحق الجزاء العادل من سيف الشيخ سلامة.

مأساة الشيخ سلامة
كان مسعى البدوية لإنقاذ زينب الشركسية مسعًى فردياً، لكنّه ترك جرحاً عميقاً عند ذوي المقتول، قاتل الشركسي في بُصرى، صاروا يتحيّنون الفرص ليغدروا بالشيخ سلامة، فيُعتبرون أنهم أخذوا بثأرهم منه، وعلى الرغم من وجود مصالحة تمّت بين الدروز والحوارنة سنة 1896، فإن السلطات العثمانية جرّدت على جبل الدروز ماعُرِف بحملة ممدوح باشا ــ أو حرب عُرْمان ــ في أواخر ذلك العام، بدواعي فرض التجنيد على الشبّان الدروز، وتحصيل الضرائب، وبسط هيمنة الدولة. وبما أن تلك الحملة هُزمت هزيمة ساحقة أمام مقاتلي الدروز، إذ خسر العثمانيون أكثر من ألف قتيل، كما خسر الدروز أبطالاً بارزين منهم: عقاب البربور ومحمّد أبو خير، ومحمود غزالي ومنصور الشّوفي، وجبر الحَجَلي وحسين أبو خير ويوسف ياغي، وسليمان طربيه وحمد الصغير وعبّاس المتني، لذا فقد عمدوا سنة 1897 إلى إرسال حملة أخرى بلغ تعداد عناصرها نحو ثلاثين ألف جندي، وتمكّنت تلك القوات من احتلال السويداء، وفرض شروط قاسية على الدروز أقلّها نزع جميع الأسلحة، وتسليم عدد من الزعماء والوجهاء المطلوبين، ونفيهم وتهجيرهم مع أسرهم إلى الأناضول وجزائر البحر المتوسّط، ودفع غرامة قدرها خمسة آلاف ليرة ذهبية كتعويض عن الجنود القتلى من العثمانيين في المعارك، يضاف إلى ذلك تجنيد ثلاثة آلاف درزي لمدة خمس سنوات، للمشاركة في معارك العثمانيين في بلاد البلقان. وكانت سياسة التجنيد العثمانية تعني إفراغ الجبل من رجاله، وتركه هدفاً للغزوات البدويّة، ولأطماع الطامعين.
ومع ذلك لم تنجح الحملات العثمانية في القضاء على المقاومة الدرزية،” حاربوا بضراوة لا مثيل لها”، على حد ما جاء في أحد التقارير الدبلوماسية، وباعتراف الأتراك العثمانيين أنفسهم، إلى درجة أنه في إحدى المعارك بالقرب من بلدة قنوات، إلى الشمال من مدينة السويداء، مركز الجبل، كان بين شهداء الدروز أكثر من ثلاثين امرأة ــ يذكر ذلك عبّاس أبو صالح وسامي مكارم في كتابهما” تاريخ الموحدين الدروز السياسي في المشرق العربي”.(ص 302)
في ذلك الظرف الحرج أخذ العثمانيون يستغلّون التباين المذهبي بين الحوارنة السنّة، وبين الدروز، فيوقظون العداوات النائمة، ومن بينها ثأر ذلك المُضيف من بصرى، الذي غدر بضيفه التاجر الشركسي، ثم شاء له الهوى أن يغتصب ابنته، وكان أبو جبر سلامة ( سمّ الموت)، على إيغاله في العمر، ومع ولديه جبر ونايف وحفيده، ابن ابنته، رشراش، من بين أولئك الفرسان من بني معروف الذين أفلتوا من النفي والقتل، فاستمرّوا في مقاتلة العثمانيين حيثما وُجدوا، فيهاجمونهم في مواقع قواتهم التي انتشرت في العديد من قرى الجبل، ثم هم يؤوبون في بعض الليالي إلى قراهم وبيوتهم خفية عن أنظار الجواسيس لتدبير أمور أُسَرِهم، وتسيير شؤونها، وفي اليوم التالي يلتحقون بسواهم من المجاهدين لشن الغارات على القوات العثمانية ومباغتتها. أمّا ابنه فارس فكان قد سيق إلى المنفى في جزيرة كريت التي كانت آنذاك من ضمن الممتلكات التي أضاعها العثمانيون في ما بعد.

ثأر قديم وتحريض من الولاة العثمانيين مهَّدا الطريق لعملية انتقام غادرة من البطل سلامة الأطرش وأفراد أسرته

نكبة الأسرة
في ذلك الزمن المظلم من الليل العثماني المخيّم على جبل الدروز، من سنة 1897، وفي ليلة ظلماء، قدم جماعة من أهل بصرى في زِي ضيوف إلى دار الشيخ أبي جبر سلامة في بكّا، كانوا يشكون إليه سنين القحط والجوع، ويطلبون منه المعونة والمونة لأُسَرِهِم، وهو المعروف بسعة رزقه وكرمه وجوده، فرحّب الشيخ بضيوف الليل، وكَرّمَهم وأطعمهم من زاده، وسقاهم من قهوته، وواعدهم أن يأتوا مع صباح اليوم التالي بجمالهم ودوابهم، فيعطيهم ما يطلبون من قمح وطحين وسمن ودبس ومونة.
ومع فجر الغد جاء ضيوف الأمس بنيّة الغدر، وخلعوا زيّ الضيوف هذه المرّة، قدموا مع مهاجمين آخرين بأسلحتهم، وفاجأوا أهل الدار الآمنين الذين هبوا على جَلَبَة المهاجمين، المفاجأة الغادرة أفقدتهم تنظيم المواجهة، قُتل نايف برصاصة مزّقت صدره قبل أن تمكّنه صولة الغادرين من أن يتناول بندقيته، وهو الفارس المغوار الذي طالما أقلق الأعداء في غاراته عليهم مع والده سلامة، ومع أخيه الأكبر جبر، وابن أخته رشراش، ولم يلبث أن قتل جبر ثم ألحق المعتدون بهما أبن أُختهما رشراش، دقائق صاعقة مرّت كالعاصفة، قتل جميع من في الدار من رجال، ما عدا الوالد سلامة، الذي أُصيب برصاصة في فخذه عطّلت قدرته على المقاومة، وحِيْد به إلى زاوية خَفيّة من الدار فنجا.
على عَجَل نهب القَتَلَة ما استطاعوا نهبه من مؤونة وُعِدوا بها في الأمس، ولم يَعِفّوا عن نهب الأثاث والمقتنيات، ثمّ فرّوا إلى بلدتهم بصرى تحت حماية السلطة العثمانية وأمام أنظارها.
سَلِم من القتل في ذلك الصباح المشؤوم جنين ذكر كان في بطن أمّه ــ ذلك هو صيّاح، الذي سيصبح أحد أهم رجال الثورة السوريّة الكبرى إلى جانب سلطان ــ، أمّا “ بكّا”، القرية المغدورة، فرجالها وشبّانها مُوَزّعون بين منافي الأناضول، أو المُساقين إلى الخدمة القسريّة في جبهات البلقان، أو من هم خارج القرية في مهمّات ليلية لمناوأة معسكرات القوات العثمانية التي احتلّت معظم قرى الجبل، والقلّة الآخرون نأت بهم الغفلة عن صدّ المعتدين.
سريعاً انتشر خبر وقعة بكّا بين أهل الجبل، انتشر كنارٍ في هشيم جاف، لكنّهم في ذلك الظرف العصيب كانوا محاصرين في جبلهم المُدَمّى بين مدافع ورصاص الجيوش العثمانية، وبين سندان الحوارنة والبدو والشركس والأكراد الذين تمكّن العثمانيون من تأليب معظمهم ضدهم، وذلك بهدف إخماد مقاومتهم وكسر شوكتهم.

كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق
كان-التاجر-يغط-في-نوم-عميق

حزن شبلي الأطرش
شاع خبر نكبة الحمّود الأطارشة في الحواضر والبوادي، وتناقلته الركبان بعيداً، وعبر أسلاك التلغراف وصل إلى المنفيين من الدروز في الأناضول، وفي جزائر البحر العثمانية، كان شبلي الأطرش زعيم الدروز الأسطوري ــ كما تصفه المؤرّخة الألمانية بريجيت شبلر ــ منفيّاً آنذاك في جزيرة سيناب، إحدى جزر البحر المتوسّط. وصله نبأ نكبة أبناء عمّه، وكان شاعراً شعبيّاً، عُرِف برقّة شعره وشفافيّته، وتوثيقه لأحداث عصره في قصائده التي تنبض عاطفة وحنيناً وألماً وصدقاً. بعث شبلي بقصيدة عُرِفت بـ “ قصيدة الحمّود “ إلى عمّه سلامة يستنكر فيها المأساة التي قُتِل على إثرها إبناه وحفيده، ومنها:
إن جيــــــــت “بَكّا” ريــــح يــــا طارش الفـــــــــــلا
ما غيـــــــر هـــــــــذي يــــــــا فتــــــــــــى ما عـــــــــــــــــادْ
نــــــــــوّخْ ذَلولك وانســــــــف الكــــــــور جانِبُــــــــهْ
وانطــــــــي المسَطّــــــــــــر فــــي حـــــــــروف مــــــــدادْ
لَيَدْ “ أبــــــو جبــــر “ الشّجيـــــــــــــع المسمــــــــــــّى
وْفــــارس تَمــــــــام أمّــــــــا زمانــــــــــــو بـــــــــــــــــــــاد
اَلشّـــــــــــيبْ عيّا عــــا ذياب ابــــن غانــــــــــــــــم
لا يـــــا خَســــــــارهْ شــــــــــــاخْ نمـــــــــر الــــــــــــــــــــواد
أمّـــــــــا (سلامــــــــه) ماضيــــــــاتٍ مضاربـــــُهْ
لــــــــولا الكَبَــــــــــــرْ زيــــــــــــــر الحــــروب وْكـــــــــــاد
علــــــــى فَقــــدْ (جَبــــْرْ) انْهَدْ حِيْلــــيْ وقوّْتــــي
وعلــــــــى (نايــــــــف) الفــــرسان بالمِــــــــطــــــــــراد
تــــــــرى فقـدهــــم يا عـم خلخل عزايمــــــــــــي
وإدعــــــــــــا همومــــــــــي عَ الفهــــــــود اطْــــــــــــــــواد
تــــرى فقدهـــم يا عم ضعضــــع جوانبــــــــــــي
كأنّـــــــــي من البلــــــــــــوى بغـيــــــــــــر رشـــــــــــــــــــاد
يـــــا حيف عــــا تلك السبــــــــاع البواســــــــــــــل
مــــــــــــع مقطــــــــــــــــعٍ أقســـــى مــــن البـــــــــــــــولاد
فرســــــــان باللّقــــــــا، كَريمــــــــين بالعــــــــــــطا
وِنســــــــــــــــــين بالمحــــــــيا عيــــــــــــــــــال طــــــــــراد
هذا كلامي يــــا “ سلامــــــــــــه “ وبلوتــــــــــــــــي
عَ البُعــــــــْد أعــــــزّيكـــــــــــــم بغيــــــــــــــــر مــــــــــراد
بعد ذلك الاعتداء الغادر بفترة وجيزة، لم يلبث الجدّ، أبو جبر سلامة أن توفّي بعد عمر مديد نَيَّف على المائة عام، أمضى معظمها في ميادين البطولة والكفاح، لكنّها انتهت بمقتل ولديه جبر ونايف، وحفيده رشراش، توفّي قبل أن يرى أو يعرف جنسَ، أو اسم المولود الذي ستنجبه زوجة ابنه الشهيد نايف.

الانتقام المخيف
أمّا فارس، الابن الذي أسلمه المنفى في جزيرة كريت من مذبحة الأسرة في قرية”بكّا”، فقد بقي على قيد الحياة، وعندما علم بنبأ ما حلّ بذويه من شؤم، صمّم على الفرار من منفاه، وبعد جهد، ومعاناة مريرة استطاع الهروب من الجزيرة، عبَرَ البحر، وقطع الفيافي والقفار متجنّباً رقابة العثمانيين، متحمّلاً الأهوال والصعاب، ومتحدّياً الأخطار، إلى أن وصل إلى قريته في نهاية الأمر، ومنها مضى مع ابن أخته قبَلان بن عبدي الأطرش يلاحقان المعتدين بثأر ذويهما للاقتصاص منهم، فكالا الصاع صاعين، وأصبحا شبحين مرعبين تتذرع بهما الأمّهات لتخويف الصغار، وتهديد الكبار، وبقيا على هذه الحال فترة من الزمن، إلى أن أدرك المعتدون أنّ شؤم ما فعلوه من غدر سيبقى عارُهُ يلاحقهم ما لم يطلبوا من أولياء الدم الصلح وحقن الدماء، وهنا تدخّل المصلحون بعد أن أصبحت صولات فارس وقبلان على الجناة حديثاً يتداوله أهل الحضر والبوادي، وعبرة يعتبر منها كلّ غادرٍ معتدٍ، فتوقّفت الملاحقات.

رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة-5
رحلة-للتجارة-انتهت-بمأساة

وصية فارس الأطرش
كان فارس قد حمل التركة الثقيلة من بعد وفاة أبيه سلامة، لكنّه لم ينجب أولاداً، كما أنّ القدر لم يمهله ليرعى تنشئة ابن أخيه، توفّي بعد أن وُلد صيّاح، وهو يحمل جرحاً لم يندمل من أثر العدوان على الأسرة ذات التاريخ العريق، لكنه ترك قصيدة يوصي فيها الأهل والأصدقاء والأصحاب برعاية الطفل اليتيم، ويأمل فيها أن تظل المضافة مفتوحة الأبواب للضيوف والمحتاجين، ويتمنّى أن يكبر الطفل ( صيّاح) ليملأ الفراغ الذي تركه الرّاحلون، وليجدّد الأمل المرتجى، يقول فارس في ما يقول من وصيّته:
أوّل وَصيــــّة يا هَلــــــــي وداعتـي لا تنسوهــــــــــــا
(بصيــــّاح) يــــا اللي ضاويــــــــاً فـي نواحيهـــــــــــــا
ثاني وَصيّة يا هلـــــــــــي المضافــــة لا تِخْلوهــــــــا
بالضّــــيف حَيــــــــّوا وبالترحيــــــب زيدوهــــــــــــــــــا
بَلْكي الزمـــــــان بْصَيّـــاح بيــعــــــــــــود ليــــــــــــها
وبلكـي يقــولوا بـــعــــــــد أصحابهــــــــا فيـــــــــــــــــــها

صياح الأطرش يعفو عن المعتدين
ولكن الجرح الذي خلّفه المعتدون لم يندمل، وظلّ جمراً تحت الرّماد إلى أن كبر حفيد سلامة ”صيّاح” إبن الشهيد نايف، وأصبح قائداً مشهوراً في معارك الثورة السوريّة الكبرى على الاحتلال الفرنسي لسوريا، في ذلك الوقت قدم إليه وفد من ذوي أولئك الذين غدروا بِجدّه وأبيه وعمّه وابن عمّته، وطلبوا منه أن يأخذ بثأره منهم دون سؤال أو جواب، فعفى عنهم قائلاً:” معاذ الله أن أقوم بعمل مشين، فالعفو عند المقدرة”، وأكرمهم، وهكذا عادوا سالمين إلى بُصرى.
كانت المعركة على أشدّها ضدّ الفرنسيين، ولم يكن الزمن زمن إحياء الثارات بين الدروز والحوارنة، وهم الجيران، وأهل الوطن، والظروف تتطلّب أن يكونوا في خندق واحد ضدّ المحتلّين، لكنّ ذكرى سلامة الحمّود الأطرش بقيت عنواناً للبطولات والنجدة في تاريخ بني معروف.

هذا العدد

التوحيد مسيرة لم تنقطع

في هذا العدد السابع تتابع “الضحى“ المسيرة التي وضعتها لنفسها منذ العدد الأول، وهي مسيرة لخصتها تحت شعار للأرض للتراث للمعرفة. هذا الثالوث هو الذي يأتي بالحياة السعيدة والكريمة لأي شعب وليس الاستهلاك التبذيري ولا الحياة الماجنة أو الجاه الفارغ أو التقاتل الجاهل.
مما يؤسف له أننا إذا بحثنا عن أي من الأهداف التي اختطتها الضحى لنفسها نجده فعلاً مهدداً بشتى المخاطر. فإن تحدثنا عن الأرض وجدنا الإهمال وهجر النشاط الزراعي المنتج وحياة الاكتفاء، وإذا نظرنا إلى التراث وجدنا أيضاً مظاهر الفساد والتقليد الأعمى للغرب تعمل فيه هدماً وتخريباً، وإذا نظرنا أخيراً إلى المعرفة نجدها في أيامنا هذه في آخر اهتمامات الناس الذين لم يعد يهمهم إلا اللهو وتمضية الوقت على شاشات التلفزيون أو في التخاطب النصي عبر الهواتف الحديثة أو أي نشاط عقيم ومفسد، بينما لا تهتم إلا قلة نادرة بتربية النفوس واكتساب المعارف والتقرب من الله تعالى بالعبادة والذكر.
هذا الواقع المؤسف لا ندّعي أن في إمكاننا تبديله لأن لله في هذا الكون حكمته، لكننا منذ أن بدأنا العمل تمكنّا من أن نوفر للفئة المهتمة بعض ما تحتاجه من غذاء للفكر والروح، وهذا الغذاء الذي توفره “ الضحى “ لا يمكن العثور عليه في وسائل الإعلام التي تكاثرت، كما يتكاثر الفطر لكنها لا تحمل للناس فائدة أو مغنماً فكرياً.
نلفت في هذا العدد إلى الحلقة الثانية التي ننشرها حول حياة الاسكندر الأكبر والأثر الكبير الذي تركه على مسار البشرية. وهذا الموضوع في حد ذاته مثال على تفرّد المجلة في الإضاءة على جوانب في تاريخ الثقافة والحضارة يغلفها النسيان أو الكثير من الالتباس. والاسكندر الأكبر رجل عظيم ومدرسة في البطولة والشجاعة، كما هو في الوقت نفسه عارف دلت حياته كلها على أنه نهل من منابع الحكمة والعلوم على يد الفيلسوف أرسطو قبل أن يكون لنفسه فلسفة عظيمة في الوحدة الإنسانية والعدل والمدنية.
لماذا يغرق الإرث المضيء للاسكندر أو فيثاغوراس أو سقراط في عتمة التجاهل أو النسيان؟ لأن العقائد التي سادت بعد العصر الهيليني ركزت كل اهتمامها على الشرائع الجديدة التوحيدية التي اعتبرتها الناموس الأمثل والشرعة التي يمكنها أن تنظم حياة الناس في كل زمان على أسس العبادة الحق والعدل والفضيلة. وفي خضم ذلك الاهتمام، تولّد انطباع خاطئ هو أن كل ما ظهر من افكار وفلسفات خارج الرسالات السماوية يمكن تصنيفه كله تحت عنوان الوثنية أو العقائد الشركية. وهذا التبسيط مفيد من الناحية التاريخية لكنه أدى إلى ضعف الاهتمام بالتراث الكبير للحكمة القديمة ولعقائد التوحيد التي كانت حيّة وموجودة في أوساط النخب وبعض المدارس الفكرية على الدوام، وإن كانت لم تأخذ شكل العقيدة بسبب اقتصارها على سلوك التأمل والبحث الفلسفي الذي لا يلبي حاجة العامة لمعتقد مبسط يلائم ظروفها ومستوى فهمها. رغم ذلك لا ننسى التأثير الكبير لهذه الفلسفات في المسيحية والمدارس الفكرية الإسلامية في العصور الوسطى.
إن اهتمام “الضحى“منذ البدء بالتراث العظيم لمنابع الحكمة القديمة يعكس نظرتنا الإنسانية الشاملة للتوحيد باعتباره حلقة في سلسلة طويلة من الكشوفات الحكمية والمسلك الزهدي، وقد كان لهذا التراث على الدوام ممثلون وأنبياء وحكماء يعلِّمونه لمن هم أهل له ويحافظون على شعلته المضيئة في جميع الأدوار والأزمان.
وهذا الانفتاح الإنساني لا يتعارض أبداً مع الرسالات السماوية بل يكملها ويساهم في إعلاء شأنها وفهم مغازيها. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف:”اطلب العلم ولو في الصين”، وهذا الطلب هو من قبيل الوصية أو التوجيه من قبل سيد الرسل إلى أمته وهو يعني أن الرسول (ص) يعلي من شأن العلم، ومن شأن طالب العلم الذي لا يعبأ بالصعوبات والمسافات في سعيه لأن يزداد علماً.
إن قِدَم التوحيد والحكمة الإنسانية أمر ذكره الله تعالى في كتابه العزيز عندما قال مخاطباً الرسول (ص) }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر:78) أي أن المولى جل وعلا يخبر عن وجود أنبياء ورسل كثيرين بعثهم مبشرين بالحكمة وبالتوحيد وبعض هؤلاء الأنبياء لم يذكرهم بالاسم أو يأتي على قصتهم مع شعوبهم، كما أتى على قصص خمسة وعشرين نبياً في القرآن الكريم، وهو ذكر لم يرد على سبيل الحصر.
تلك هي رسالة “الضحى“. رسالة الاستزادة من العلم والانفتاح على الحقيقة أينما كانت. إنها رسالة التنوع وطلب المعرفة من مختلف مصادرها وهي مصادر لا نهاية لها ولا حصر. والله تعالى هو القائل:
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (الكهف: 109) وما هي كلمات ربي؟ إنها كلمات الحق والنبوة والعرفان والحكمة التي جرت وتجري على لسان الأنبياء والأولياء منذ مطلع الزمان مثل نهر عظيم لا يتوقف لأن الله لم يترك عبّاده في أي وقت دون مبشر أو نذير.

محمية

محمية أرز الشوف الطبيعية
واحة في صحراء التآكل البيئي

نجـــــــاح أكبـر محميّة طبيعيـة في لبنان
حفّز على إنشاء المحميات في بقية المناطق

محمية أرز الشوف تشغل 5 في المئة من مساحة لبنان
وتحتضن مئات السلالات النباتية والبرية والطيور

مقصد عالمي للسياحة البيئية ورياضة الجبال
وعامل أساسي للتنمية في القرى المحيطة

أهمل لبنان لوقت طويل بيئته الطبيعية، فتركها نهباً للحرائق أو القطع الجائر أو زحف العمران ومطامع أهل النفوذ. وأكبر تهديد تعرّضت له المناطق الطبيعية الفريدة في لبنان كان ولا شك تهديد الزحف المخيف للإسمنت في كل الاتجاهات وسط انفلات المعايير البيئية للتطوير العقاري، وقد استهلك هذا الزحف حتى الآن العديد من الواحات الطبيعية النادرة في لبنان. ويكفي لأي كان أن يقود سيارته باتجاه الشمال أو الجنوب من لبنان ليرى بعينيه كيف تنهار الغابات وينحسر الغطاء الأخضر، (وما يحتويه من نظام حياة معقد)، بقعة بعد بقعة أمام جنازير الحفارات ومشاريع البناء.
لكن التقصير الرسمي الطويل أطلق العنان منذ عقدين من الزمن لحركة المحميات الطبيعية وحفّز العديد من هيئات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية والبلدية على إنشاء تحالف وطني قوي جعل بين أهدافه مراقبة وضع الغابات والمناطق الطبيعية والضغط بقوة على النواب والمسؤولين لإصدار التشريعات التي تفرض حماية من التطوير العقاري أو مشاريع الزراعة الكثيفة الضارة بالبيئة أو الصناعات الملوثة أو نشاطات الصيد العشوائي.
وفي سياق الصحوة البيئية، لعبت محمية أرز الشوف دور السبق والريادة، الأمر الذي جعل منها النموذج العملي الذي جذب مناطق لبنانية عدة إلى فكرة العمل على حماية مناطقها الطبيعية والتراثية النادرة.
فما هي محمية أرز الشوف، ما هي أبرز سماتها الطبيعية، وما الذي يمكن للزائر أن يجده فيها، وأي دور تمكّنت هذه المحمية الأكبر في لبنان من أن تلعبه على صعيد تطوير السياسة البيئية العامة؟

شهد لبنان سنة 1996 حدثاً مهماً بل تاريخياً تمثّل في إعلان منطقة واسعة من لبنان محمية طبيعية تحت إسم محمية أرز الشوف. وأتبع القانون بهذه المحمية مناطق واسعة من بينها عين زحلتا وبمهريه والباروك والمعاصر وعين دارة والسفح الشرقي من السلسلة الجبلية للمحمية.
وشكّل قيام المحمية سابقة مهمة، لأن فكرة حماية المناطق الطبيعية أو الإدارة العقلانية لمواردها لم تكن معروفة لدى اللبنانيين، علماً أن القيادة السياسية في الجبل منذ أيام الشهيد كمال جنبلاط ثم مع وليد بك جنبلاط فرضت نوعاً من الحماية الواقعية على منطقة الأرز ومحيطها قبل سنوات طويلة من إعلان المنطقة محمية بقوة القانون.

5.3 في المئة من مساحة لبنان
تبلغ مساحة هذه المحميّة نحو 50 ألف هكتار أو 500 كلم2، أي ما يعادل 5.3 في المئة من مساحة لبنان الإجمالية، وهي تشمل مستنقعاً عميقاً يقع في وادي البقاع شرق الشوف، وهو أحد آخر المستنقعات الموجودة في الشرق الأوسط، كما يضم نطاق المحمية أربع وعشرين قرية تقع على الجانبين الشرقي والغربي لجبلي الباروك ونيحا.
نموذج أطلق حركة المحميات
يعتبر الأثر الأكبر للمحمية أنها نجحت في وقت قليل في تعميم فكرة حماية البيئة، وكان لها أثر أكبر بكثير من تأثير الدولة أو وزارة البيئة نفسها المفتقدة إلى الموارد، وإلى الصلاحيات اللازمة، كما لعبت المحمية دور النموذج العملي الناجح الذي اطلع عليه الرأي العام، وبات الكثيرون بالتالي يودون نقله إلى مناطقهم.
على هذا النحو، وبفعل الشعبية الكبيرة لفكرة خلق محميات طبيعية قبل ابتلاعها من زحف الإسمنت والعقار، قرّرت الدولة إعلان عدد من المناطق الرائعة الجمال في لبنان محميات طبيعية أو بيئية، بدءاً بمحمية أرز الشوف (محميّة الشوف المحيط الحيوي)، ثم محميّة تنورين، ومحميّة إهدن، ومحميّة جزر النخيل، ومحميّة بنتاعل، ومحميّة جبل موسى المحيط الحيوي، ومحميّة جبل الريحان المحيط الحيوي، ومحميّة كرم شباط، ومحميّة شننعير، ومحميّة اليموّنة، ومحميّة شاطىء صور، هذا بالإضافة الى حمى كفرزبد.
إلا أن محميّة أرز الشوف تعدّ أكبر محميّة طبيعية في لبنان، وهي تمتد من ضهر البيدر شمالاً حتى جبل نيحا جنوباً وتغطي غابات البلوط منحدراتها الشمالية الشرقية، فيما تنتشر غابات العرعر والبلوط في المنحدرات الجنوبية الشرقية منها، إلا أن أشهر ما يميّز المحمية، غابات الأرز الموجودة في معاصر الشوف والباروك وعين زحلتا – بمهريه، والتي تشكّل عامل الجذب الأساسي للزوار، فغابات الأرز هذه تقدّر بربع غابات الأرز المتبقية في لبنان، وبعض الاشجار فيها يقدّر عمرها بألفي عام. وقد بدأت المحميّة عبر مدخل واحد هو مدخل المعاصر ومن ثم أخذت تتوسّع حتى أصبح فيها 4 مداخل من عين زحلتا شمالاً حتى نيحا جنوباً.
وفي سنة 2009 اشترت إدارة المحميّة بيتاً تراثياً في معاصر الشوف، تمّ تأهيله سنة 2010 ونقلت إليه مكاتب فريق العمل سنة 2011، وخصص الطابق الأول منه ليكون قاعة اجتماعات ومركز استعلامات، والطابق الثاني للمكاتب الإدارية.
يتمحور عمل فريق المحميّة على خمسة برامج هي: الأبحاث والمراقبة، السياحة البيئية، التنمية الريفية، التوعية البيئية، وبناء القدرات. ويتركز العمل على مراقبة التنوع البيولوجي والإرث الحضاري والثقافي في المحميّة ومحيطها الحيوي.

أرز-المحمية-تحت-الثلج--2
أرز-المحمية-تحت-الثلج

 

تكريم عربي لمحميّة أرز الشوف
كرّمت مبادرة “تكريم” للإنجازات العربية للسنة الثالثة على التوالي، نخبة من أبرز المبدعين العرب تقديراً لانجازاتهم الاستثنائية، برعاية قرينة ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، الأميرة سبيكة بنت ابراهيم آل خليفة، وبالتعاون مع وزارة الثقافة في البحرين. وحصلت محميّة أرز الشوف على جائزة “تكريم” للتنمية البيئية المستدامة، في حفل أقيم على مسرح “الصالة الثقافية” في المنامة – مملكة البحرين، وتميّز في حضور أكثر من 500 شخصية عربية وعالمية ونخبة من الصحافيين ووسائل الإعلام من مختلف دول العالم. وضمت لجنة التحكيم التي منحت الجائزة لمحمية أرز الشوف كلاً من: سمو الملكة نور الحسين، الشيخة مي الخليفة، نهى الحجيلان، مستشار ملك المغرب أندريه أزولاي، محمد البرادعي، الأخضر الابراهيمي، كارلوس غصن، الروائي مارك ليفي، الروائي أمين معلوف، ليلى شرف، ورجل الأعمال اللبناني رجا صيداوي.

70 الفاً يعيشون في نطاقها
تغطي محميّة أرز الشوف 5.3 في المئة من مساحة لبنان الاجمالية ما يجعلها إحدى أكبر المناطق المحميّة الجبلية في الشرق الأوسط، وهي موطن لأكثر من 70 ألف شخص يعيشون داخل المحيط الحيوي للمحمية وينتمون الى 24 بلدية موزّعة على أكثر من محافظة. وتحتوي المحمية على 620 هكتاراً من غابات الأرز اللبناني، وهو أكبر امتداد لهذا النوع من الغابات في لبنان ويمثّل نحو 25 في المئة من كل ما تبقى من غابات الأرز في لبنان.

مشروع الاحتياط ضد الحرائق
كما عملت إدارة المحميّة، ولا تزال، على إنشاء البرك الجبلية في أرجاء المحميّة وذلك بهدف: تخزين المياه والإفادة منها واستخدامها في نشاطات التحريج ومكافحة الحرائق. وتوفّر البرك فضلاً عن ذلك مصدر مياه أساسياً للحيوانات البرية والطيور المقيمة أو المهاجرة التي تعبر لبنان ذهاباً واياباً في موسمي الربيع والخريف. ويعتبر لبنان ثاني أهم بلد في العالم للطيور المهاجرة. الى ذلك أصبحت المحميّة تضم أربع محطات لرصد الطقس، تؤخذ منها البيانات ويتم تحليلها لمعرفة نسب احتمال اندلاع الحرائق في الغابات، وتتواصل ادارة المحميّة مع البلديات وتُرسل الرسائل القصيرة للتنبيه من إشعال النار. يتم هذا البرنامج بالتعاون مع مركز الدفاع المدني، وذلك عبر برنامج Risico الذي يطبّق في ايطاليا وبدأ تطبيقه في محميّة أرز الشوف، ومن ثم أصبح يطبّق في كل لبنان، حيث وزّعت 44 محطة للإنذار المبكر في مختلف المناطق الحساسة في لبنان.
وتقام في المحمية نشاطات متنوعة بمشاركة السكان المحليين والجمعيات الأهلية والبلديات والمدارس وجهات أخرى معنية، كما يتم تحفيز الوعي البيئي من خلال السياحة البيئية، وتنظيم رحلات ميدانية ومجانية الى المحمية لسكان القرى المحيطة.

برامج التنمية الريفية
تقوم جمعية أرز الشوف منذ سنة 1999 وبدعم كندي بتنفيذ مشروع للتنمية الريفية يستهدف المحافظة على الحرف التقليدية وتطويرها، وكذلك الحفاظ على أسلوب العيش الريفي، وذلك بالتواصل مع المجتمع المحلي الذي يساهم في إنتاج ما يزيد على 70 نوعاً من المأكولات الريفية التقليدية (عسل، مربيات، أعشاب، مقطرات، منتجات حرفية) ويتم تدريب السيدات على الطرق الصحيحة والحديثة لتصنيع وحفظ المنتجات.
وتقوم محمية أرز الشوف بتعريف الزائر على تراث وتقاليد المجتمع الريفي اللبناني من خلال تقديم تراثه الغذائي من مربيات وأعشاب وشراب ومقطرات، والتي يتم ترويجها على مداخل المحمية حيث يتم بيعها. ومنذ سنة تقريباً بدأت الجمعية بالعمل مع سيدات القرى المحيطة بالمحمية بمفهوم جديد، وذلك باستعمال مشاغل مجهّزة بكافة المعدات من طناجر، كركات، منصات عمل وأرفف وطاولات وكلها من مادة الستانليس ستيل، وذلك للحصول على منتج بأفضل المعايير الصحية، كما تمّ وضع قواعد لصنع منتجات بمعايير موحّدة وذلك من خلال تدريب السيدات على استخدام المواد الأولية نفسها وبمكاييل موحّدة في عملية التحويل. وأنشأت الجمعية بتمويل من البنك الدولي وتنفيذ مجلس الإنماء والإعمار مشغلاً مجهزاً بكافة المعدات اللازمة في بلدة مرستي، وهي تتولى الآن تأهيل وتجهيز ثلاثة مشاغل، إثنان منها في منطقة الشوف الأعلى وبالتحديد في بلدتي جباع وبعذران، والثالث يقع في منطقة المناصف في بلدة كفرفاقود، وذلك ضمن مشروع السيمي الزراعي الذي يموّله البنك الدولي.
وفي سنة 2010 وبالشراكة مع آل سكاف تمّ انشاء مبنى جديد ذي مواصفات بيئية عالية في قرية عميق من جهة البقاع الغربي، وتمّ افتتاحه سنة 2012 حيث تسلّم “سوق الطيب” إدارته وأطلق عليه إسم طاولة عميق. يعتبر هذا المشروع مدخل المحميّة الرئيسي من الجهة الشرقية ويتميز بقربه من مستنقع عميق الذي يعتبر من أهم المناطق الرطبة في لبنان خصوصاً للطيور المهاجرة، وهو يهدف الى تنمية المجتمع المحلي عبر تأمين الوجبات التقليدية الصحية، ويشهد اقبالاً خصوصاً في نهاية الأسبوع.

برنامج التحريج

من النشاطات المهمة التي تقوم بها إدارة المحميّة، تشجيع القطاع الخاص على التحريج عبر برامج متنوعة، منها برنامج “الأرز الخالد”، والذي يتيح لكل شخص تبني أرزة تسمى بإسمه في سجلات المحميّة.
وقد أثمر هذا البرنامج حتى الآن تبني نحو 300 ألف شجرة، وهناك برنامج آخر للتحريج خاص بالمؤسسات والشركات الخاصة الداعمة للبيئة، وذلك من خلال مشاريع صغيرة يزرع فيها برعاية المؤسسة أو الشركة من ألف الى 10 آلاف شجرة في المحميّة. ومن الجهات المساهمة في هذا البرنامج بنك HSBC، فندق الـ 4 Seasons، وشركة Nike، وجمعية الـ AFDC ، حيث زرع كل منهم 1000 شجرة.
كما تحرص ادارة المحميّة على المحافظة على التكاثر الطبيعي للغابات داخل المحميّة من خلال بذور الأرز.

زيارة-طلابية-للمحمية-خلال-الخريف-
زيارة-طلابية-للمحمية-خلال-الخريف-

السياحة البيئية
إحتلت محميّة أرز الشوف موقعاً مرموقاً على خارطة السياحة البيئية وأصبحت في السنوات الأخيرة مقصداً لمحبي الطبيعة ولهواة رياضة المشي في الجبال. وسجل عدد الزوار الوافدين إلى المحمية نمواً مطرداً سنة بعد سنة، إلا أن الأحداث والهزات السياسية الجارية في المنطقة أثرت على الإقبال الأجنبي والعربي. وعلى الرغم من أن عدد زوار المحميّة سنة 2012 لم ينخفض عن سنة 2011 إلا أن غالبية الزوار سنة 2012 كانوا لبنانيين ولم يأتِ الكثير من الاجانب، نظراً إلى الوضع السياسي المتوتر في لبنان، والذي أثّر على السياحة بشكل عام.
ولتسهيل التمتع بميزات المحميّة أقيمت فيها مواقع مخصصة لمراقبة الطيور وهي عبارة عن غرف صغيرة مجهّزة لهذه الغاية، خصوصاً في الباروك وعين زحلتا (التي يوجد فيها ثلاث غرف). ويمكن لزوّار المحمية المبيت في بيوت الضيافة التي أصبح عددها سبعة بيوت سنة 2012 (كانت 5 سنة 2011)، أو البيوت المصنوعة من الخشب في بعض القرى، كما يمكنهم استئجار الدراجات الهوائية، وكذلك تمّ تأهيل بعض بيوت الضيافة لاستقبال ذوي الاحتياجات الخاصة. وتدعم ادارة المحميّة كافة النشاطات والمهرجانات في القرى لخلق الترابط بين الناس والبيئة وتشجيعهم على الحس البيئي.
وبهدف تأمين سلامة الزوّار وعدم تعرضهم لحوادث الانزلاق أثناء التجول، عمل المسؤولون في المحمية على تأهيل طرقاتها فأقاموا ممرات تناسب كل الاعمار والقدرات الجسدية، فمنها السهل المخصص للصغار والمتقدمين في السن، ومنها ما يزداد صعوبة وهو مخصص لهواة رياضة المشي في الطرق الوعرة، كما استحدثت أيضاً “ممرات تثقيفية” مخصصة لتلامذة المدارس وطلاب الجامعات، تتوزّع فيها لوحات تعطي معلومات عن الطيور والنباتات والمعالم الأثرية وبعض أشجار الأرز المعمرة.

السوق-السنوي
السوق-السنوي

مبادرات مبتكرة للتوعية البيئية “السباق من أجل الطبيعة”

تعتمد الهيئة القيّمة على محمية أرز الشوف رؤية تشدّد على أهمية التوعية البيئية وتعريف أكبر عدد ممكن من العامة على ضرورة المحافظة على الطبيعة والتوازن البيئي وأهمها المناطق المحمية. ويعمل القيمون على المحمية لتحقيق هذه الرؤية من خلال نشاطات ومبادرات عديدة بعضها يمكن تنفيذه في القرى المحيطة بالمحمية، وهو يشتمل على لقاءات ومحاضرات في المدارس المحيطة بالمحمية ومدارس أخرى في لبنان وتنظيم ورش عمل في السياحة والتوعية البيئية لمجموعة من الشباب والشابات من القرى المحيطة بالمحمية، وكذلك تنظيم زيارات للآلاف من طلاب المدارس إلى المحمية، وهؤلاء تقدّم لهم كافة المعلومات من خلال الشرح المبسط، والعروضات المرئية والمسموعة وغيرها من الوسائط.
إلى هذه الوسائل، أضافت لجنة المحمية وسيلة مشوقة لتطوير الوعي الشبابي بأهمية المحمية، وذلك عبر إدخال “الألعاب البيئية” كوسيلة لتوعية الطلاب، لكن بأسلوب مشوق وفيه الكثير من المنافسة والتسلية. ومن هذه الألعاب البيئية مبادرة “سباق من أجل الطبيعة” (Rally for Nature) ضمن النشاطات الخارجية لطلاب المدارس.
تنظّم جمعية أرز الشوف هذا السباق سنوياً ويشارك فيه حوالي 1000 طالب وطالبة من مدارس مختلفة في لبنان من عمر 12 – 14 سنة (10 الى 20 طالباً أو طالبة من كل مدرسة)، ويهدف السباق إلى رفع الوعي بواقع ودور المحمية لدى الطلاب، فضلاً عن دفعهم لاكتشاف طبيعتها ومسالكها وتبادل الخبرات والمعلومات بين الطلاب المشاركين.

قوانين السباق
بموجب السباق يلعب الطلاب ضمن مجموعات يتألف كل منها من 10 طلاب، وتحمل كل مجموعة اسماً معيناً ويتم توزيع إشارات خاصة تميّز كل منها. وعلى كل مجموعة أن تمرّ على 15 محطة مختلفة موزّعة على المسار المخصص للسباق داخل المحمية. وفي كل محطة تُسأل المجموعة سؤالاً واحداً أو يطلب منها تنفيذ نشاط معين يفترض إلمامه بواقع المحمية، وإذا كانت الإجابة صحيحة تتابع المجموعة مسيرتها الى المحطة التالية، أما اذا كانت الإجابة خاطئة فيجب على طالب واحد من المجموعة أن يخرج من السباق وعادة ما تقوم المجموعة باختيار الطالب الأضعف فيها.
عند وصول كل مجموعة إلى نقطة النهاية، يتم تسجيل عدد المشاركين الذين وصلوا، بالإضافة إلى الوقت الذي استهلكته المجموعة للوصول. والمجموعة الفائزة هي المجموعة التي تسجّل أقل وقت وأكبر عدد من الطلاب الذين يصلون الى نقطة النهاية. وتتنافس المجموعات الأربع الفائزة في الجولات الأربع الأولى للسباق على المركز الأول خلال الحفل النهائي، والذي يتم خلاله إعلان نتائج المسابقة البيئية لذلك العام.

من مروءات التآزر الدرزي المسيحي

[su_accordion]

[su_spoiler title=” من مروءات التآزر الدرزي المسيحي وصية عاجلة من الأمير شكيب أرسلان” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الأمير شكيب أرسلان في استنبول
الأمير شكيب أرسلان في استنبول

معلوم أن أحداث الثورة السورية الكبرى سنة 1925 امتدت بتأثيراتها إلى لبنان وخصوصاً جنوبه، وذلك نتيجة لجملة أسباب منها قرب الجنوب من جبل العرب وتأثر أبنائه بما كان يحدث هناك. كما أن الوجود الفرنسي في قرى الجنوب وخصوصاً حاصبيا وراشيا خاف من امتداد الثورة إلى لبنان فبدأ بتحريك العصبيات الطائفية وإثارة مخاوف المسيحيين بهدف اجتذابهم للتعاون مع الدولة الفرنسية ضد الوطنيين، وذلك باعتبار فرنسا الحامية الوحيدة للوجود المسيحي في لبنان وسوريا. نتيجة لهذا الاستقطاب حصلت مواجهات محدودة وفتن مدبرة سقط فيها مصابون وضحايا من الطرفين. وقد بلغ الامر أمير البيان شكيب أرسلان في منفاه الاختياري في أوروبا فاعتراه قلق شديد وسارع إلى إعداد رسالة بعث بها إلى الموحدين الدروز والمسيحيين في الشوف ومناطق التعايش المشترك بينهم من ضمنها حث الفريقين على الحفاظ على أواصر المودة، كما نوّه في رسالته برجالات المسيحيين والموحدين الدروز ملقياً على عاتقهم أمانة الحفاظ على التعايش وأواصر المحبة والصلات التاريخية بين الطائفتين العريقتين. ومما قاله الأمير شكيب أرسلان في رسالته ما يلي:
“وأنا وإن كنت بعيداً عن الوطن، غير أنني أعلم بكل ما يحدث فيه، ومن هو المصلح وغير المصلح، وذلك لأن الناس تكتب لي؛ ونظراً لخبرتي بأحوال الوطن إذا جاءني القليل فهمت منه الكثير، وأخص بالذكر مآثر سيادة المطران أغسطين بستاني (مطران الطائفة المارونية في بيت الدين) ، هذا الرئيس الروحي والذي ينبغي أن يوجد في مثل تلك الأوقات العصيبة.
وهنا نحمد الله على أن مياه الصفاء بين الطائفتين رجعت إلى مجاريها بحسن مساعي سيادته ومساعي العقلاء والأفاضل. وإنني وإن كنت غائباً أو حاضراً ليس لي من وصية عند أبناء وطني سوى الإتحاد والتّحاب، لأن الطوائف المتنوعة في الوطن الواحد ينبغي أن تكون بعضها لبعض ركناً، وكل واحد من هذه الفئة أو تلك يُسدي معروفاً إلى أبناء الفئة الأخرى. ويجب أن يعلم أنه يخدم جماعته بذلك قبل الجماعة الذين أسدى إليهم المعروف.
وأثناء الحرب الكبرى، معلوم أنني كنت أعظ الجميع بالوئام والإنضمام ولاسيما الدروز الذين كانوا يسمعون مني أولاً لاعتقادهم بإخلاصي لهم، وثانياً لنفوذي يومئذ عند الدولة فكنت أقول لهم من كان منكم له صديق مسيحي يزوره في الشهر مرة صار يلزمه في هذه الظروف أن يشاهده في كل جمعة، وأي إنسانية تقدرون عليها نحو أبناء وطنكم النصارى فهذا وقتها، لأن الإتحاد على كل الأحوال هو العماد والراحة، ولأن القبيح يُقابل بمثله، وأنتم تعرفون المستقبل. فالأجدر أن يأتي المستقبل وصحيفتكم بيضاء عند هؤلاء الجماعة ولا يقدرون أن يمسكوا عليكم ممسكاً.
ثم يختم وصيته بلفتة تقدير واحترام لوجهاء دير القمر والشوف معاً إذ يقول:
”اسألوا لي عن خاطر سيادة المطران أوغسطين بستاني جزيل الإحترام في بيت الدين. وإن زرتم دير القمر قبّلوا لي عوارض الأخ عبدالله أفندي أفرام، والأخ نمر أفندي شمعون الذي كنت قديماً مغتاظاً منه ولكنني نسيت ذلك وعادت إلى قلبي محبته المتينة، ثم أهدوا سلامي وأشواقي إلى جناب الوجيه سليمان أفندي شمعون، وإن كان الأستاذ العلامة جرجس أفندي صفا في الدير فاسألوا لي خاطره واهدوه مزيداً من أشواقي لأنه صديق قديم ورجل كبير بعلمه وعقله”.
هذا، واسألوا لنا خاطر سيادة شيخنا الشيخ حسين طليع (شيخ عقل الدروز في حينه)، والتمسوا لنا دعاءه، وقبلوا لنا عوارض الأخ أمين بك طليع، واهدوا وافر التحيات إلى حضرات الأجلاء المشايخ أبي محمد قاسم أبو شقرا، ومحمود أفندي نجم أبو شقرا، ومحمود أفندي رافع ومحفوظ أفندي حميه، وإلى أنس المجالس الشيخ أبي علي الفطايري، وسلامي وأشواقي إلى حضرة أخيكم محمد أفندي طليع”. 1

المخلص شكيب أرسلان

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”كيس ذهب من دير القمر ينقذ حياة زعيم آل أبو شقرا ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

دير-القمر-في-سبعينات-القرن-التاسع-عشر
دير-القمر-في-سبعينات-القرن-التاسع-عشر

كان أجدادنا يتناقلون لعشرات العقود من الزمن حادثة مؤثرة حصلت قبل نحو 200 عام وحملت الكثير من العبر عن أهمية التآزر الدرزي المسيحي، وعن الفوائد العظيمة التي يجنيها الطرفان من جراء علاقات الوئام الدائم بينهما. موجز تلك الحادثة أنه وعلى أثر شر السمقانية سنة 1825 بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط أخذ الأمير بعد انتصاره على خصمه الشيخ الجنبلاطي بالإنتقام من أنصاره وأتباعه ومنهم الشيخ بشير حسن أبو شقرا، والذي توارى عن بلدته عماطور إلى إقليم الشومر في الجنوب واختبأ في قرية تخص وجيهاً من بيت علي الصغير اسمه أحمد بك. وعبثاً فتش عنه رجال الأمير في مختلف أنحاء الجبل فلم يقفوا له على أثر. واتفق ذات يوم وهو يتجول في صيدا أن عرفه أحد جواسيس الأمير بشير ووشى به فقُبض عليه واقتيد مكبلاً إلى بيت الدين.
كان لهذا الحادث الوقع الأليم في نفوس أقاربه آل أبو شقرا، وخوفاً على حياته من بطش الأمير وتعسّفه استنجدوا بالشيخين النبيلين ناصيف وحمود النكديين أنصار الأمير. وتقول الرواية إن النكديـِّـيْن دخلا على الحاكم الرهيب في الساعة التي كانت الشرطة تستعد لتنفيذ حكم الإعدام بالشيخ أبو شقرا، فلاحظ الأمير على وجهيهما علامات الإضطراب والحاجة فسألهما:
-”خيراً إن شاء الله ، هذه الزيارة في هذا الوقت مش بلا ؟”
أجاباه : رجاء نعرضه على سعادتك.
دهاؤه حدثه برغبتهما، فقال: كل شيء إلا العفو عن بشير أبو شقرا.
أجاباه: العهد بيننا أننا حلفاؤك حتى الموت، وأنك لا تخيبنا ولا تكسر خاطرنا.
تأثر الأمير وأجاب: لكم ما تريدون فاطلبوا..
-العفو من شيم الكرام، ونحن نرجو أن تعفوَ عن ابن أبو شقرا.
قال الراوي: أسقط في يد الطاغية، ولبى رجاء الشيخين النكديين على مضض وكره، ولكنه اشترط أن لا يطلق سراحه إلا إذا أدّى خمسة وثلاثين كيساً وكان المبلغ باهظاً وعظيماً في ذلك الزمان، فسعى بنو أبوشقرا إلى تدبيره بشق النفس، وباعوا حُلي ومصاغ نسائهم والعديد من أرضهم، ثم ساعدهم أصدقاؤهم من عائلة أبو حسن في بعذران، وعائلة جودية في حارة جندل حتى تجمّع لديهم، بعد العناء الشديد، أربعة وثلاثين كيساً، وبقي عليهم كيس واحد، ولكن الأبواب سدّت في وجوههم فحرّكت المروءة الشيخ نادر بو عكر كبير أسرة آل نعمة في دير القمر، وهي أسرة صديقة لآل أبو شقرا منذ القدم وتربط بينهما أواصر المحبة ووحدة الفرضية، فجمع هذا الشهم الكيس من عائلته الكريمة وقدمها إلى أبو شقرا وأنقذ بعمله هذا حياة كبيرهم من الموت المحتم.
ومما يرويه المؤرخ حسين غضبان في كتابه “ الحركات في لبنان، ص 22 “ أن الشيخ قاسم معضاد أبو شقرا، شيخ قرية عماطور في حينه، نزل إلى بيروت سنة 1880 لشؤون خاصة، وعندما همّ بالعودة شعر أنه متوعك المزاج، فمرّ بالشويفات ليبيت عند صديقه فارس محمود أبو حسن، ولم تمضِ بضع ساعات على وصوله حتى حضرته الوفاة.
في الصباح حُمّل الفقيد بموكب نحو بلدته عماطور، وقبل أن يبلغ الموكب دير القمر، كان النعي قد وصل إليها فتداعى رجال آل نعمة لملاقاة الموكب في ظاهر البلدة، ومن هناك انضموا إلى الموكب وساروا إلى جانب آل أبي شقرا يساهمون في حمل الجثمان حتى وصلوا عماطور، فوقفوا يستقبلون المعزين مع آل أبوشقرا وكأنه فقيدهم.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” جميل ردّ الجميل لكن البادىء أفضل” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الرجال سيفها ليس للعدوان
الرجال سيفها ليس للعدوان

مخطىء من خالج فكره يوماً أن الشعب المسالم في قراه ومدنه، كان السبب في تغيير مجرى الثورات من وطنية إلى فتن طائفية، فقد كان العامل الأهم هو الأيادي الخفية لعملاء السلطة المحتلة أو لعناصر الشر والمكائد من مخابرات محلية أو خارجية وجميعهم ممن ينطبق عليهم القول:”يفسدون في الأرض ولا يصلحون”.
هذا ما حدث يوم فتنة بلدة كوكبا في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1925، بعد أن تناهى لسمع زوجة الشيخ أبو محمد أسعد الزغير، أزيز الرصاص وضجيج الغوغاء وارتفاع الأصوات والعياط، قرب بلدة كوكبا، وكانت لم تزل تصطاف مع عائلتها في بستانها القريب من البلدة المذكورة، صرخت قائلة: “يا أبا محمد ولدنا مهنا ذهب للصيد هناك، إذهب وابحث عنه وعسى أن لا يكون قد أصابه مكروه”.
اعتلى أبو محمد ظهر دابته وانطلق نحو العين غير آبهٍ بالخطر المحدق به، كونه لا علم له بما حدث أو لم يزل يحدث. لدى وصوله إلى مبتغاه، وجد مهنا يبحث عن طرائده رغم أن طرائد غيره كانت من الأبرياء الضعفاء. عند اقترابه من العين المذكورة، إذ بنسوة مع أولادهن وأطفالهن ويربو عددهن على الثلاثين، يركضن نحوه صارخات مولولات يلتمسن النجدة والخلاص.
تحركت النخوة والعزة والكرامة التي انفطر عليها هذا الشيخ وأمثاله، خصوصاً وأن العديد من أؤلئك النسوة كنَّ ممن يعرفهن أو يعرف أزواجهن. ورغم استغرابه لهذا المشهد انتفض قائلاً: “ويحكن، ماذا يحدث هنا، ولماذا هذا الهلع؟ فأنتن بإذنه تعالى سالمات ولن يصيبكن أي مكروه وأنا حيٌّ ولي عرق ينبض”.
إنطلق أمامهن عائداً من حيث أتى بعد أن أودع العديد من الحوائج المهمة كالمصاغات وسواها في خرج دابته ووضع أمامه وخلفه أربعة أطفال وسار أمام النسوة وابنه مهنا يرافقهن.
مع وصوله إلى بستان الحرفاني القريب من بستانه، وجد العديد من الثوار وبينهم من يمتّ إليه بصلة فاستوضحهم عن السبب، ثم طلب من بعض أصحابه وأقاربه أن يعودوا معه لمساعدته وحماية مرافقيه حتى وصوله إلى بيته في حاصبيا، وذلك تحسباً لأي إنتقام ممن فقدوا أولادهم أو أحد أقاربهم.
في منزله، رحّب أبو محمد بالنسوة ثم دعاهن إلى الدخول آمنات مطمئنات غير أنه فوجىء بإحداهن والدموع تملأ مقلتيها وهي تولول وتلطم خديها وتقول: “ولدي حبيب لم يزل في السرير”.
ذُهل واستغرب من هذا الكلام، ثم سألها: لماذا لم تقولي قبل مجيئنا؟ وقبل أن تستجمع قواها للجواب سارع إلى طمأنتها بالقول:لا تقلقي سأعود وأجلبه فأين بيتك، وزوجة من تكونين؟
-صحيح يا عمي أبو محمد؟ صحيح؟ وهل باستطاعتك أن تعود؟ فأنا زوجة شكري أبونقول وبيتنا في الجهة الشرقية من الكنيسة.
وصل إلى البلدة والنيران لم تزل تلتهم ما تبقى من المنازل وما يحيط بها لكن المنزل المقصود كان لم يزل سالماً. فاندس إلى داخله وأخرج الطفل من سريره ثم عاد به إلى والدته.
هنا مشهد يرويه حفيد الشيخ عن لسان والده فارس قائلاً: “ بقي ذلك المشهد طيلة حياته لا يبرح فكره، كيف أن الوالدة تلقفت الطفل، وكيف ركضت ثم ركعت أمام والده شكراً وامتناناً، لكن الجد استغفر الله وأجاب: “هذا واجبنا تجاه ضميرنا وتجاه الجميع وكيف وأنتم جيراننا وأحباؤنا”.
بقيت النسوة في المنزل مكرّمات فترة من الزمن، غير أن خوف مضيفهن من الأيام المقبلة وعاقبتها جعله يذهب إلى الشيخ حسين قيس قاضي المذهب الدرزي آنذاك، طالباً منه النصيحة في ما يجب أن يكون موقفه تجاه النسوة.
أيقن الشيخ خطورة الأمر، لذا أشار إليه أن يوصلهن إلى سهل إبل السقي على أن يكملن طريقهن من هناك إلى مرجعيون، حيث أن البلدة عادت إلى يد السلطة المستعمرة ولربما أزواجهن وأولادهن يتواجدون هناك.
هذا ما حدث بالفعل، إذ قام بإيصالهن مع بعض أقاربه إلى السهل المقصود، ومن هناك توجهن إلى مرجعيون، وكان اللقاء المؤثر بين الفاقد والمفقود.
رد الجميل لم يطل كثيراً لأبي محمد أسعد الزغير، من قبل آل أبو نقول، إذ بعد اندحار الثوار وتركهم لبلدتهم حاصبيا ودخولها وحرقها من قبل الجيش الفرنسي وبعض المتعاونين معه، كان أن سلم بيت الشيخ أبو محمد من الحريق وذلك بإيعاز وحضور من والد ذلك الطفل، وكان من جرّاء ذلك أن تعمّقت الصداقة وتجذّرت بين آل الزغير وآل أبونقول حتى اليوم الراهن. ويكمل الراوي فيقول إن السيدين شكري وميشال أبونقول بقيا يناديان والده فارس حتى وفاتهما بأخي فارس.
هذه المأثرة حدت بي إلى إعادة ما رواه أمامي الطيب الذكر الأديب سلام الراسي عن مأساة بلدة كوكبا فقال: “أقسم اليمين عما سأرويه حيث كنت في الرابعة عشرة من عمري عندما أتى إلى بلدتنا إبل السقي، وفد حكومة حاصبيا برئاسة نسيب أفندي غبريل، وعضوية كل من السادة نزيه مؤيد العظم، وشكيب وهاب وفي جعبتهم المنشور الموقع من القائد زيد الأطرش وفحواه: “إن قدوم الثوار الدروز إلى هذه البلاد هو لإنقاذها من السيطرة الأجنبية، وإن ثورتهم هذه باسم الوطن لا بإسم الطائفية، وإن جميع أبناء الوطن، إخواننا في النفس والمال والحرية الشخصية. وعلى مبدأ “الدين لله والوطن للجميع”، راجين التفّهم والتعاون والله من وراء القصد”. ثم أخبروهم أن الثوار سيمرون غداً قرب بلدتهم متلمسين منهم عدم التحرش أو إطلاق النار عليهم.
أثناء تواجد الوفد في منزل الوجيه يوسف أبو سمرا علمت المخابرات الفرنسية المتواجدة في مرجعيون بقدومهم، لذا أرسلت ثلاثة من عملائها لاعتقال الوفد المذكور، لكن حالما عرف أبو سمرا بالأمر حتى أرسل رجاله لمقابلتهم وأمرهم بالعودة من حيث أتوا.
في اليوم التالي، قَدِم الثوار من حاصبيا إلى مرجعيون وقصدهم طرد الحامية الفرنسية المتواجدة فيها سلماً، كما حصل في بلدة حاصبيا ذاتها، حيث طردت الحامية من موقعها في تلة زغلة من دون سفك أي نقطة دم وتمّ إيصال الجنود الفرنسيين إلى مصنع الحمّر، مع تزويدهم بالطعام والماء، كما سُمح لهم بنقل جميع معداتهم وأسلحتهم”، غير أن المخابرات المذكورة سابقاً ما كان منها إلا أن أرسلت العملاء الثلاثة ذاتهم إلى زيتون المغاريق المتواجدة أمام بلدة كوكبا، وحيال وصول الثوار إلى هناك فاجأوهم بإطلاق النار عليهم فقتل منهم على الفور ثلاثة هم: أسعد شرف وقاسم ومحمود أبودهن.
صادف أن حصل هذا الاعتداء الغادر على الثوار بينما كان قائد الحملة حمزة درويش يشرب القهوة عند خوري البلدة، ونظراً إلى أن القائد المحنط لم يكن موجوداً في الوقت المناسب فقد عمت الفوضة بين الثوار و”فلت الملقّ”، كما يقال بعد أن اعتقد الثوار أن أهالي كوكبا هم الذين هاجموهم لذا توجهوا نحو البلدة وحدث ما حدث، وقتل نحو ثلاثين من الذين قاوموا وكانوا يحملون السلاح.
ليردد بعد ذلك الأمير عادل أرسلان، أحد قادة تلك الثورة، جملته الشهيرة: “هكذا أرادتها فرنسا: من ثورة وطنية إلى فتنة طائفية”.

 

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”يا محترم حياتكم غالية جداً علينا” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

حدّثني الأديب سلام الراسي عن أريحية ومروءة الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين، فقال: “بعد اندحار الجيش الفرنسي التابع لحكومة فيشي سنة 1940، أمام الجيش الفرنسي التابع لحكومة الجنرال ديغول في الجزائر في منطقتي مرجعيون وحاصبيا حدث فراغ أمني في بلدة حاصبيا من جرّاء ذلك.
القسيس إبراهيم داغر، راعي الكنيسة الإنجيلية، ومدير المدرسة التابعة لها في تلك البلدة، وكان لم يزل يقطن فيها.
إحدى الليالي، نظر من نافذته، فوجد ثلاثة مسلحين يتجوّلون قرب منزله، لكنهم لم يطرقوا الباب، ومع هذا بقي طوال الليل يترقب حدوث عمل مشين.
بعد طلوع الفجر بقليل، أسرع القسيس إلى صديقه الشيخ أبو اسماعيل خير الدين وحادثه قائلاً :
“شيخنا الكريم، إذا كان وجودي في بلدتكم غير مرغوب فيه، فأرجو من حضرتكم إعلامي بذلك، وإنني على استعداد للرحيل ساعة تشاؤون، والسبب أن ثلاثة مسلحين بقوا طوال الليل أمام منزلي”.
تبسّم الشيخ بعد أن استراحت تقاسيم وجهه، وأدار بيده فوق لحيته وقال:
“يا محترم، لا يغرُب عن بالكم أن حياتكم غالية جداً علينا، وأن وجودكم بيننا لا يقدّر بثمن. فأنتم المرشد الروحي والفكري لأولادنا وللجميع، وخوفاً من حدوث مكروه لحياتكم في هذه الأوقات العصيبة، قمنا بإرسال الشباب لحراستكم، والسهر على راحتكم”.
تبسّم القسيس بعد أن سمع ذلك، وبعد أن استراح فكره، نظر نحو الشيخ من جديد وقال: “حييتم وبييّتم أيها النبيل الشريف، وحقيقة أنكم خلقتم للمعروف يا بني معروف”.

[/su_spoiler]
[/su_accordion]

قلعة نيحا

من أبـــرز معالــم محميــة أرز الشــوف

قلعــة شقيــف فــي نيحــــا
حصــن منيــع لــه تاريــــخ

حـــررها صــلاح الــدين مــن الصليبييــــن
واحتفــــظ بهــا العثمانيــــون 400 سنــــة

تتميز المحمية بوجود كبير من المعالم التاريخية في نطاقها وهو ما يزيد جاذبيتها السياحية وقيمتها الثقافية، ومن هذه المعالم مقام النبي أيوب في نيحا، ومقام الست شعوانه في منطقة البقاع، وآثار قلعة قب الياس، لكن أهم المعالم التاريخية هي ولاشك قلعة شقيف تيرون التي تقع في بلدة نيحا على بعد 33 كلم من بيروت، وهي محفورة في قلب جرف صخري يطل على وادي بسري، وهذه القلعة المذكورة في بعض النصوص “مغارة شقيف تيرون” وردت في كتابات الصليبيين منذ القرن الثاني عشر ميلادي، ويدعوها سكان القرى المجاورة قلعة نيحا لأنها تقع في منطقة جبل نيحا، وبحكم موقعها الاستراتيجي المسيطر على الطريق الممتد بين صيدا والبقاع والشوف، أصبحت حصناً عسكرياً يتيح لحاميته المقاومة والصمود لأشهر طويلة.
ونظراً لأهمية الموقع الكبيرة، تعرضت القلعة للعديد من الاحتلالات والكرّ والفرّ وإعادة السيطرة، كونها شكلت هدفاً دائماً للحكام والجيوش المتعاقبة، فانتزعها اتابك دمشق السلجوقي شمس الملوك اسماعيل بن تاج الملوك بوري في سنة 1134م. من الضحّاك بن جندل، وسيطر عليها الصليبيون بعد ذلك قبل تحريرها من قبل السلطان صلاح الدين الأيوبي في سنة 1165م.. وقد هيمن عليها الصليبيون مجدداً (1182م.). لكن الملك صالح اسماعيل (ملك دمشق) استعادها سنة 1238م، وبعد أعوام عدة عادت إلى عهدة الصليبيين بموجب معاهدة والي صيدا سعد الدين بن نزار
(1251 م) وبقيت القلعة موضوعاً لكر وفرّ إلى أن احتلها شهاب الدين بن بحتر سنة 1260م. واحرقها قبل ترميمها وتحصينها من قبل السلطان المملوكي الظاهر بيبرس سنة 1270م.
ومنذ سنة 1516م وحتى أوائل القرن العشرين ظلّت القلعة تحت سيطرة أمراء الجبل والسلطة العثمانية، وفي سنة 1585م لجأ إليها حاكم الشوف آنذاك الأمير قرقماز (والد فخر الدين الثاني) بعد أن طارده العثمانيون بتهمة السطو على خزينة السلطنة في جون عكار، وتوفي بعد ذلك بقليل بعد انتقاله إلى مغارة قرب جزين.
عرفت القلعة في تاريخ لبنان الحديث بـ “قلعة فخر الدين” عندما اتخذ منها الأمير المعني فخر الدين الثاني ملجأ في سنة 1633م بصحبة عائلته وبعض المقربين، على أثر هزيمته أمام الجيوش العثمانية في عهد أحمد باشا كجك، وبعد حصاره لفترة طويلة وصموده قام أحمد باشا بتلويث المياه الجارية إلى القلعة بالدماء وكروش البهائم، بعد اكتشاف المجاري الجوفية من نبع الحلقوم القريب، عندها هرب الأمير واختبأ في مغارة جزين، حيث القي القبض عليه. وتزعم إحدى الروايات الشعبية أن ابنة الأمير انتحرت مع حصانها بعد أن عصبت عينيه وقفزت من أعالي القلعة خوف الوقوع في أسر الدولة العثمانية. أما الأمير الأسير فاقتيد إلى اسطنبول وأعدم هناك سنة 1635م.

صوت من التراث

قلعة حلب في خمسينيات القرن الماضي

سامي مكارم

ســامي مكـارم

ركن المعرفة الذي خسرناه

غاب المفكر والأكاديمي والمؤرخ الدكتور سامي نسيب مكارم ولم يغب. غاب في الجسد وهو كما يعلم الموحدون الدروز سنة الله في خلقه وآية قهره وعزته وهو الخالق الموجد للأشياء من العدم. لكنّه لم يغب ولن يغيب في ما حفلت به حياته من أعمال وإنجازات سيبقى أثرها في الزمن شاهداً على ثراء فكري ومعارف وسبق في التفكير، كان يفاجئ في جرأته على التجديد وعلى استكشاف الحقائق في مسالك غير مطروقة دونما أفكار مسبقة أو جمود.
رغم مقاربته للتوحيد والمجتمع التوحيدي من موقع المفكر المنفتح والواسع الأفق، فإن سامي مكارم كان مشاركاً فعالاً في بيئة التوحيد، تواقاً للتفاعل مع قضايا الموحدين الدروز وتاريخهم. من أبرز عناوين مسيرته الطويلة اهتمامه الشديد بالأجيال الشابة التي نهلت من معين التوحيد على يديه ولا سيّما خلال السنوات العشرين الأخيرة في الندوات والمحاضرات وحلقات المذاكرة والجلسات التي لم تُحرَم منها منطقة في لبنان.
رغم مسؤولياته الأكاديمية في الجامعة الأميركية كمدير لمركز أبحاث الشرق الأوسط، فقد ركّز سامي مكارم إسهامه الفكري ونشاط التأليف على فكر التوحيد والثّقافة التوحيديَّة، وكذلك في ميادين الشعر والفنِّ والأدب والتاريخ والأبحاث اللغوية، وجعلت منه كتبه ومؤلفاته مرجعيَّة أكاديميَّة في الإسلاميات والتصوُّف والفِرَق الباطنيّة واللغة العربيّة والأدب العرفانيّ، والشّعر، والنثر الشعريّ، وآداب الرجال، وفنّ تشكيل الحرف، والـتَّـأريخ، والقصَّة، والفلسفة، وأدب السّيرة. وهو لعب دوراً فاعلاً في مواكبة مسيرة “مؤسَّسة العرفان التوحيدية” منذ تأسيسها في السبعينات من القرن العشرين، وكذلك في تأسيس “المجلس الدرزي للبحوث والإنماء”، ثم في مؤسسة “التراث الدرزي”، وهذا إضافة إلى كونه عضواً مؤسِّساً في جمعيّات فكريّة وأدبيّة وإنسانيّة عدّة في لبنان والعالم الاسلامي.

في هذا الملف، عرض لسيرة حياة الفقيد الغنية وإسهاماته العديدة والمتنوعة في الإرث الثقافي العام، وفي إرث الموحدين الدروز الفكري، كما يتضمن الملف شهادات في المفكر الراحل وبعض أعماله المهمة أعدّها كل من الأستاذ حسان زين الدين والشيخ غسان الحلبي والدكتور أنطوان سيف والسيد محمد السماك.

[su_accordion]

[su_spoiler title=” سامي مكارم الإنسان البحث الدؤوب في قلب المعنى حسّان زين الدين” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الكنف العائليّ
“كان والدي، الشيخ نسيب مكارم، يحتفل بعيد مولد أخي سعيد وعيد مولدي بدعوته عدداً من رجال الدِّين إلى بيتنا لإحياء سهرة ذِكر ومذاكرة، الأمر الذي رسّخ فينا منذ الصغر المعنى ‏بأنَّ‏ ‏مناسبة‏ ‏كهذه،‏ هي مناسبة لتجدِّدَ في النفوس المعنى الإنسانيّ العميق في الأساس، مثلها مثل عيد الأضحى والأعياد الأخرى المباركة التي يرى فيها الصغار مناسبات لارتداء الجديد من الثياب، وهكذا فهمنا أنَّ للأمور الظاهرة معاني عميقة لا يدركها المرءُ بسهولة”. بهذه الكلمات علّق المرحوم الدكتور سامي مكارم على دعوة وجَّهها إليه حبيبٌ من أحبَّائه الشبّان الصغار لحضور عيد مولده، مذكِّراً بما كان عليه أمر بداياته ومستعيداً واحدة من أعزّ ذكريات قلبه المفترشة خبايا دفاتر الطفولة، حيث نشأ في حضرة شيخه ووالده الشيخ نسيب، خطَّاط الملوك والرؤساء الذائع الصيت؛ ومستذكراً أمامنا، روحيَّة التربية الأسرية التي ترعرع في أحضانها وتشكلتْ معها مداركه الأولى لتصقل شخصيَّته لاحقاً، خلال سنوات اليفاع، على يد أحد الشيوخ الذي عهد إليه الشيخ نسيب تعليم ولديه أصول التدبّر وفق كتاب الله وكيفية تفهّمه واستشفاف لطائفه.

كانت والدتُه وسيلة سليمان فرج من بلدة عبيه من النّساء المؤمنات المتَّصلات بلطائف الذِّكر، وكانت على درجةٍ من الثقافة، إذ حصلت في عشرينيّات القرن الماضي على شهادةٍ علمية، وكانت من هواة إنجاز أعمال فنِّـيَّة تشكيليَّة في التَّطريز، وهي تركت أثراً بارزاً في الطِّفل سامي المولود سنة1931؛ فكان من مكوِّنات شخصيَّته أثر حنان الأمّ وميولها الراقية من جهة، وحضور الأب بعقله وفؤاده وتهيُّبه الجمال في فنه وسلكه الروحي الهادف إلى تعبُد الحق من جهة أخرى.
إذًا، كانت والدته باباً من الرَّحمة كما أحسَّ بها الطفل سامي، وكانت سبيل التأديب والتقويم لطفليه، كما أرادها الشيخ نسيب. هذا نزرٌ يسير مما ذكره أمامنا الفقيد غير مرة، وكان قد ضمَّنهُ كتاب سيرة حياته الذي انتهى من تدوينه قبل أشهر من وفاته، وسوف يُنشر لاحقاً بإذنه تعالى. كان الدكتور سامي يذكرُ والديه كثيراً، وكان ممَّا يقوله في هذا الصَّدد: عرف والدي كيف يربينا بالكلمة الطيبة والمرافقة، وكيف يقيم القصاص بالتلويح بـ “قشة المكنسة”، وكيف يشذّب شخصيتي بمساعدتي على بناء الموقف ودفعي إلى التفاعل مع ما أتعرّض له ويعترض دربي عوضاً من الانفعال، وعرف كيف يوازن بين الأبوَّة وبين الصداقة والأخوَّة لي ولأخي سعيد، إلَّا في الحالات التي تخرج عن الحدّ، كتلك التي “تشاجرنا فيها سعيد وأنا، ووصل شجارُنا إلى مسامع أبي، فأقبل علينا وقال بحدَّة: “اثنان مش مناح بيختلفوا، وإذا واحد من الاثنين مش منيح بيختلفوا، وإذا الاثنين من أهل الخير ما بيختلفوا”، فانصعنا إلى صوت الحق في كلامه، وانتهى ما كان بيننا من شجار”.

محاضراً في فرنسا
محاضراً في فرنسا

دراستُه
تلقَّى الفتى دراسته في الليسيه الفرنسية في بيروت، ثمَّ في الكلِّـــيَّة اللبنانيَّة في سوق الغرب، وتنامت شهرةُ والده الذي كان قد بدأ حياته نجاراً، وسرعان ما اكتشف ما حباهُ اللهُ له من موهبةٍ في تدبيج الخطّ العربيّ، فراح يخدمها بما يرضي المولى عزَّ وجلّ، وأحسن في ذلك إحساناً بلغت معه شهرته الأقطار والجهات. وبقي إلى أن توفَّاهُ الله مطلع السبعينات خادماً أميناً لتلك الموهبة، معترفاً بالافتقار إلى الله حيالها، وحيال ما ترتب له عليها من منجزات غير مسبوقة في الخط العربي جعلته متربعاً على عرش فنه. لكنَّه واظب على النَّظر إلى نفسه بعين التقصير من حيث عدم بلوغه كمال فنِّه. وقال يوماً لولده رحمة الله عليهما: “لقد منّ عليَّ المولى بعظيم فضله وكرمه، وباتت أعمالي تنافس أعمالي، لكنَّني لستُ براضٍ عنها كلّ الرِّضى. أعني بذلك أنّ الفنَّ كما العِلم هو إرتقاء بعد إرتقاء”. ولا شك في أنّ فقيدنا تأثَّر بشخص والده وشخصيته اللامعة والجامعة للتفوق والتقوى في آن، وبحكمته القادرة على ضبط طغيان الأنا بالإنكباب على معرفة الله والشكر لنعمه، وبالتبرؤ من عين الشهرة بالتفاني في خدمة الجمال.
بعد حصول الشاب سامي على شهادة البكالوريا، إلتحق بالجامعة الاميركية في بيروت ليحصل على إجازة في الادب العربي والفلسفة سنة 1954، وعلى الماجيستر في الآداب سنة 1957. ترافق ذلك مع استمرار التنشئة الدينيَّة في رعاية والده وشيخه، وبين أصدقاء الوالد من الإخوان الأفاضل، وتعرّفه على شيوخ البلدان والشخصيات السياسية الدرزية والوطنية. ومن الطبيعيّ أن يتقاطع هذا كلّه مع احتكاكه بالأنتليجانسيا اللبنانيَّة عموماً، والدرزية خصوصاً، منها في الحياة الجامعية والصالونات الثقافية، واطّلاعه على ما راكمته من نتاج أدبي وفكري، وما تخلَّل ذلك النتاج من اجتهادات بعض الدّروز خارج السياق المألوف لأدبيات التَّوحيد خلال النصف الأول من القرن الفائت وبعده، أي في مرحلةٍ سبقت انتظام المؤسٍسات المذهبيَّة، ولا سيّما منها مشيخة العقل في سياق تنظيميّ عام. هذا الأمر، حفّز الشاب سامي مكارم آنذاك، على التفكير في اكتساب تخصُّص متعمِّق في شؤون الحضارة الإسلاميَّة. ونقل إلى والده رغبته في الانتقال إلى الخارج للإستزادة من العلوم في هذا الحقل. فما كان من الشيخ نسيب إلا أن قال لولده، “إنَّ العلمَ من لدُن الله تعالى، والتعلُّم واحدة من نعمه. فإذا مَنَّ اللهُ عليك بالعِلم، فاستخدِمه لغاية وجهه الكريم، وليكن الخيرُ زادَك والحقُّ مطلبَك. وقال له أحدُ أصدقاء والده من الموحِّدين الشيوخ: إذا كانت نيَّتك من التعلُّم خدمة أمَّتك وخدمة الحق، فأنا أدعو الله لك بالتوفيق، وإذا كانت غايتك استخدام عِلمك في غير ذلك فإني لا أدعو لك بالتَّوفيق”.

زيارة إلى الشيخ الفاضل أبي محمد جواد ولي الدين
زيارة إلى الشيخ الفاضل أبي محمد جواد ولي الدين

.

في الولايات المتَّحدة الأميركية
أمضى سامي مكارم سنوات التَّخصُّص في جامعة ميشيغن آن أربر في الولايات المتَّحدة الأميركيَّة دون أن تبرحَ قلبه وفكره تلك الوصيَّتان اللتَّان مثّــلتا له، إلى جانب ما اكتنزه من معارف روحيَّة، الحافز الأهمّ للإنكباب على ماهيَّات العلوم، وأمَّهات الفلسفات والأفكار الدينيَّة، وعلى التعمق في الأصول الإسلامية وتفرُّعاتها من مذاهب وفِـرَق. وتوسَّعت مداركُه، أيّ توسّع ودرس على يد مفكِّرين عالميين كبار. وكان أن زار لبنان في تلك الفترة غير مرَّة، فألقى محاضرته الأولى بدعوةٍ من رابطة العمل الاجتماعي في بيروت سنة 1959ـ وهو الذي كان من مؤسّسيها في حضور أركان من الطائفة روحيِّين وزمنيِّين، بينهم سماحة شيخ العقل محمَّد أبو شقرا، والزَّعيم المفكِّر كمال جنبلاط، والمربِّي شكيب النكدي. وعبَّرت تلك المحاضرة عن المسار العام لحراكه الفكريّ والمعرفيّ الذي انتهجه لاحقاً، عاملًا على تحقيقه خلال العقود اللاحقة. وكان كما ذكرنا، قد بذل جهوده لنيل الدكتوراه في الفلسفة والعلوم الإسلاميَّة، محدِّداً الفرَق الباطنية موضوعاً لأطروحته التي انجزها في سنة 1963. وفي الوقت نفسه كان قد باشر تدريس اللغة العربية في الجامعة التي درس فيها قبل أن يعود إلى لبنان ليبدأ مسيرةً استغرقت نحو نصف قرن من الزَّمان، مجاهداً ومحاولاً المواءمة والتوفيق والتوحيد بين نظرتين: نظرتنا إلى ذواتنا وإلى أمَّتنا بأعيننا نحن، ونظرة الآخرين إلينا وإلى أمَّتـنا عبر رؤية الآخَر في العالم الواسع لنا. واستمرَّ عاملاً في سبيل تصحيح الخلل الذي يشوب العلاقة الحضارية بين الشرق والغرب، وهو الخلل الَّذي يشوِّه الصُّورة السَّمحاء للإسلام الحق، ودوره الريادي في مسارنا الحضاري.

العودة إلى لبنان
عاد إلى لبنان سنة 1963 ليدرّس الفكر الاسلامي في الجامعة اللبنانية، ثمَّ جرى تعيينه سنة 1964 أستاذاً مساعداً في الأدب العربي والفكر الاسلامي في الجامعة الاميركية في بيروت، وترفّع لاحقاً ليصبح أستاذاً أصيلاً. وسرعان ما اندمج في الحياة الفكرية والأدبية مجَنِّداً مخزونه المعرفي وبراعة قلمه وموضوعية نقده وأكاديمية أسلوبه وحداثة لغته في خدمة قضيته الأساسية وهي المعرفة المتعمِّقة خاصَّةً في التوحيد، هذا الحقل القائم في جوهره على الثوابت، الحقل الشاق والشيِّق في آن معاً، كما وصفه ذات مرّة. ولم تمضِ سنتان على عودته إلى لبنان إلا وعهدت المرجعيَّات الروحية والسياسية في طائفة الموحدين الدروز إليه مسؤولية توضيح الالتباسات المترتِّبة عن الأزمة الناشبة من جرَّاء صدور كتاب “مذهب الدروز والتوحيد” لـ عبدالله نجار، الَّذي أثار جدلاً حول دقَّة المسائل المطروحة ومنهجيَّة تناولها. ووُفِّقَ الدكتور سامي مكارم، من خلال لغته الحازمة ومنطقه المحبوك وتبيانه للحقائق والقرائن الوافية والمبيّنة إسلامية المذهب، في وضع نقاط الحقيقة التي يمكن أن تعالج المسألة بكلِّيتها، وليس اجتزاءً مشوِّهاً لأساس الموضوع، وصدرت تلك التّوضيحات العِلميَّة في كتاب “أضواء على مسلك التوحيد” الَّذي كتب له الزعيم والمفكِّر كمال جنبلاط مقدّمةً بالغة الأهمِّيّة، فأعطى بُعداً فكريّاً آخر موازياً للبُعد المعرفيّ الروحانيّ الذي عبّر من خلاله الدكتور مكارم عن النظرة التوحيدية للمسائل التي طرحها النجّار، وعالج أيضاً جوانب أخرى مكمّلة.

وسام-المؤرخ-العربي-من-«اتحاد-المؤرخين-العرب»-تقديراً-لإنجازاته
وسام-المؤرخ-العربي-من-«اتحاد-المؤرخين-العرب»-تقديراً-لإنجازاته

آفاق همَّته ونشاطاته
تعزَّزت علاقتُه بأركان الطائفة الرّوحيِّين بعفوية خالصة، وتنامت مع الثِّــقاة والعلماء وتكاملت، في الوقت الذي اتَّسعت فيه آفاقه مع ما ترتَّب عليه تباعاً من مسؤوليات، سواء في حقل التعليم حيث شغل رئاسة دائرة الادب العربي ولغات الشرق الادنى في الجامعة الأميركية مرَّتين، كما كان أستاذاً غير متفرغ في برنامج الدّراسات العليا في الجامعة اللبنانية. وعُيِّنَ لاحقاً مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في الجامعة الأميركية في بيروت؛ أو في اشتغاله في الفكر والثّقافة التوحيديَّة بحثاً وتأليفاً، وفي مسلك التوحيد بشكل ميداني إرشاداً وتوجيهاً، وبينه وبين خالقه عملاً وتحقيقاً؛ أو من حيث مواهبه التي تفتَّقت تباعاً في الشعر والفنِّ والأدب والأبحاث اللغوية وظهرتْ في أعمال قام بنشرها بدايةً في الصُّحف والمجلَّات والدَّوريات الأدبيَّة والعلميَّة، وأصدرها خلال العقود اللاحقة في كتب ومؤلَّفات جعلت منه مرجعيَّة أكاديميَّة في الإسلاميات والتصوُّف والفِرَق الباطنيّة واللغة العربيّة والأدب؛ فأمسى “حركة تنوير” في حدّ ذاتها، اشتملت على مدى عشرات السنين صنوف الأدب العرفانيّ، والشّعر، والنثر الشعريّ، وآداب الرجال، وفنّ تشكيل الحرف، والـتَّـأريخ، والقصَّة، والفلسفة، وأدب السّيرة، إلى جانب لعبه دوراً فاعلاً في مواكبة مسيرة “مؤسَّسة العرفان التوحيدية” منذ تأسيسها في السبعينات من القرن العشرين، ودوره المركزي عند تأسيس “المجلس الدرزي للبحوث والإنماء” في الثمانينات، وريادته أعمال البحث فيه، ومشاركته ككبير الباحثين في مؤسسة “التراث الدرزي” منذ تأسيسها سنة 1999. وبالإضافة إلى كونه عضواً مؤسِّساً في جمعيّات فكريّة وأدبيّة وإنسانيّة عدّة في لبنان والعالم الاسلامي، رعَى جمعيّات أهليّة وخيريّة، وشارك في عشرات المؤتمرات ومئات الندوات والمحاضرات. كما أقيمت للوحاته التشكيليَّة الحروفيَّة عشرات المعارض في لبنان والخارج، وتميّز خطُّه الفنيّ بمساحات من اللون والحركة أخرجت هذا الفن من قيد الكلاسيكيّة، وأسهمت في إثرائه بقواعد الجمال، ما جعله خطّاً مبتكراً في مجال هذا الفنّ له طابعه المكارميّ الخاصّ.

 

 

“كان أصيلاً في تمسُّكه بثوابت التّوحيد المعرفيَّة ومؤمناً بأنَّ المعارفَ والعلوم جميعَها سائرة إلى بلوغ غايتها في الوحدة بالعِلم الحقيقي”

رثهُ الغنيّ
فهمَ سامي مكارم الحرية على أنَّها العبودية للحق بكمالها وإتّباع إرادة الله وأمره بالكليَّة، فكان حرّاً بمقدار استطاعته، وكان داعيةً لحرّيَّةٍ معتمِدةٍ على التَّوحيد ومنبثقة منه، والحرّيَّة كما يقول هي المسؤوليَّة بكمالِها. وجسَّد بنفسه أنموذجاً في تحمُّل جسام المسؤوليات مع من حوله وفي ما حوله، وفي حرصه على إرث الأسلاف الأعراف والمحافظة عليه باعتباره إرثاً لا يورَّث توريثاً، ولا يُنقل نقلاً، وإنَّما يُعاش بالتَّفاعل، ويحياهُ المرءُ بالمؤالفة بين صدرٍ حرٍّ وبين صدر حرّ آخَر. فحاول صياغة هذا الإرث بلغةٍ معاصرة وأمانةٍ عالية ودقَّة متناهية وفق المستطاع، ليتركه ذخيرةً حيَّة فينا ويرحل عن 82 عاماً.
وخلّفَ الدكتور مكارم في الوقت عينه نتاجاً فكريّاً وفنيّاً كبيراً، وتاريخاً أكاديميّاً في الجامعة الاميركية في بيروت التي شهدت دأبه على عمله الفكريّ حتَّى الرَّمق الأخير، وسجِلًّا حافلًا في تجواله على المغتربات الدّرزيَّة كافّة لنشر كلمة التوحيد والدِّفاع عن مفاهيمها الصَّحيحة. كما أثرى المكتبة العربيَّة والإسلاميَّة بنحو ثلاثين كتاباً تنوَّعت مواضيعُها وفق ما سبق ذكره، وبقي بعضها مخطوطًا أو في طوْر الطباعة.

المؤلّفات
كَتَبَ في الفكر الدينيّ والعرفان وأدب السيرة والنثر الشعريّ، وأكثرها شهرة في البداية كتاب “أضواء على مسلك التوحيد” في الستينات، وThe Doctrine of the Ismailis, وThe Druze Faith في السبعينات، وكانت له إسهامات مهمة مختلفة بتكليف من مشيخة العقل صاحب السّماحة المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا، وشارك صديق عقله وقلبه الراحل الدكتور عباس ابو صالح في تأليف كتاب “تاريخ الموحِّدين الدّروز في المشرق العربي”، الصادر عن المجلس الدّرزي للبحوث والإنماء في وقت عصيب من تاريخنا تعرَّضَ فيه الدّروزُ الموحِّدون لهجمةٍ شرسة شكَّلت خطراً على وجودِهم وصورة هويَّتهم الاسلاميَّة، فكانوا فيها عرضة لسهام الفتنة والتشكيك خلال حرب الجبل في الثمانينات.
كما تناول الدكتور مكارم في أحد كتبه شخصيَّة المتصوِّف الكبير الحلاج، وبيّن في “الدراسة التوحيديَّة” التي تضمَّنها الكتاب ملامح وسِمات “حلَّاجيَّة” لم يسبق لباحث أن أظهرها من قبل. وأنجز بحثاً روحيّاً لطيفاً تناول فيه سيرة حياة المرحوم الشَّيخ التَّقيّ المتشوِّق علي فارس من فلسطين، فتعمّق في سبر أغوار تجربته التوحيديَّة، ودقائق مسلكه الدّينيّ. وتناول والده الشيخ نسيب مكارم في كتاب أيضاً، جامعاً آثاره الفنّيّة وخفايا سيرته. وكَتَبَ عن أكثـر المتصوِّفات في الإسلام رِفعةً بعد أن جمعَ تراثهنّ في كتاب “عاشقات الله”. وأبحر في خفايا تجربته الخاصّة، ومعارجها الروحيَّة عبر نصِّه الوجداني “مرآة على جبل قاف” الذي اعتبره بعض النقَّاد أثراً عرفانيّاً في أدب السِّيرة الروحانيَّة قلَّ نظيرهُ في أدبيَّات العصر. وحاول مطلع الألفية الجديدة أن يصوّب حركة التأريخ من خلال وضعه لكتاب “لبنان في عهد الأمراء التنوخيين” (راجع في هذا الملفّ مقالة خاصَّة عنه)، الذي تمكّن فيه من تبيان حقيقة أنَّ أمراء الغرب وبيروت التنوخيِّين هم المؤسِّسون الأوائل للكيان اللبناني قبل الأسرة المعنيَّة.
كما تناول الدكتور مكارم بمنهجيَّة مدقِّقة مفهوم “التقيَّة في الاسلام”، فكتب بحثاً مسهباً نشرته “مؤسَّسة التراث الدّرزي” سنة 2005، أكَّد فيه ثبوت استخدام التقيَّة من قِبل الفِرق الاسلامية المختلفة خلافاً للإعتقاد السائد أنَّها مختصَّة بالفِرَق الباطنيَّة دون سواها. وكان له تراجم عدَّة عملاً وتحقيقاً. وفي السَّنوات الأخيرة من حياته ازداد ميلًا إلى الغوص المعمَّق في الذائقة العرفانيَّة فكتب “العرفان في مسلك التوحيد”، مبيِّــناً البنية العرفانيَّة الإسلاميَّة لعقيدة التَّوحيد. وترك عشرات القصائد والنثريَّات الموزعَّة في متون “قصائد حبّ على شاطىء مرآة”، و”ضوء في مدينة الضباب”، وكتب أُخرى تمَّ نشرها، وأُخرى غيرها هي قيد النشر الآن، بينها كتابا شعر هما: “نون والقلم” و”زهرة الليلك”. وقبل أشهر قليلة من رحيله، أنهى نصّاً تضمَّن ما أمكن من سِيرة حياته، وبعض أعمال لم تمهله الأيَّام وقتاً لإنجازها.

حراك حضاريّ
كان سامي مكارم “حِراكاً حضارياً” في بيئة “مطمئنَّة” لم تألف هذه الوتيرة المتصاعدة من مثل هذا الحِراك في بابه. ولا نُغالي إذا قلنا إنَّ عمقَ الأثر الإنسانيّ الَّذي ولَّده لم يُكتشف بعد بكليَّته حقّ الاكتشاف. فهو كان “أصيلاً” في تمسُّكه بثوابت التّوحيد المعرفيَّة، ومتشدِّداً بوجوب التَّعبير عنها عرفاناً في التجربة الذاتيَّة والجماعيَّة. ومؤمناً بأنَّ المعارفَ والعلوم جميعَها سائرة إلى بلوغ غايتها في الوحدة بالعِلم الحقيقي. وكان إلى ذلك صاحبَ نظرةٍ تجديديَّة في الأدب العرفانيّ، والشِّعر المنثور، وفي الحروفيَّة التشكيليَّة، جاعلاً للجمال غايةً متحرِّرة من قيد الحرف واللون والقالب. كما جاهد هو بنفسه أن تكون عليه “هويَّته” من النَّفاذ إلى الأفق الفسيح، حيث استمرَّ من خلال تعدُّد مواهبه، وتنوُّع اهتماماته، توَّاقاً إلى بلوغ إنسانيَّته كمالها الأنسيّ في هذه الوحدة الكونيَّة. لذا تراه اعتبر “الأنا” مصدر كلّ سُوء وتفرقة، وعدّها “سلاح الدمار الشامل”، ومسؤولة عن كلِّ تضارُب في هذا الكون، بدءاً من نزاع الخير والشَّرِّ في النَّفس، وصولاً إلى صراع الأضداد في عالم المعنى. واستمرّ يحذِّر من سطوة الأنا على الأفراد والجماعات والأنظمة والمجتمعات.
إنَّ الحياةَ المكافِحةَ في المعرفةِ التي عاشها الدكتور سامي مكارم هي تجربة فريدة فوَّتها الكثيرون من الباحثين عن كيفيَّات الالتزام بالأدب الروحيّ في الحياة المعاصرة، والإرادة والمشيئة لله عز وجل في كلِّ حال. لكنَّ الغايةَ الَّتي جاهد في سبيل نقلها إلى الأجيال اللاحقة ترسَّخت في مضامين الإرث الَّذي خلَّفه من حيث هو إرثٌ متأصِّلٌ في الجذور. ونحن بدورنا علينا خدمة هذا الإرث لكي نُحسنَ الانتفاع به واستخدامه في مواصلة خدمة غايات التربية التّوحيديَّة الراقية، وهو أمسى “حالة معرفيَّة متعدِّدة الأبعاد”، ولَّدتْ حالة الوعي، واستقرَّت “هنا” في صميم الذاكرة الجماعيَّة للموحِّدين أينما وُجدوا، وفي قلوب عارفيه ومحبِّيه في مختلف الأقطار والأرجاء إلى أيِّ طائفة أو دين أو فكر انتموا.
كان سامي مكارم داعية “الانخراط في الواقع”، وهو ترك فيه “بصمته الإنسانيَّة حتى لحظات حياته الأخيرة. فهو انتهج التَّوحيد منهجَ حياة معاصرة في التفكُّر والمحبَّة، وفي القول والفعل، وفي الذِّكر والمذاكرة، وفي البحث والاستشعار، وفي الإلقاء والسَّماع، وفي التدريس والتأريخ، وفي الفنِّ وتذوُّق الجمال، وفي الشَّغف بالتُّراث وشوقاً إلى التّجدّد، وفي النّظرة المسؤولة إلى الذّات ونظرة الشّفيق الرفيق إلى الآخر، وفي احترافه “النّـقد الناعم”، والتأديب بـ”قشّة المكنسة”، وفي عدم سكوته عن الظُّلم ومعونته للظالم حتى يعود عن ظلمه، وفي نبذ الخلاف واحترام الاختلاف، وفي انجباله بالصَّبر وحرصه على وحدة الكلمة، وفي براعته في فنّ التَّواصُل، ومراعاته خصوصيَّات الوعي عند كلّ الناس، وفي التَّعامل معهم بالتي هي أحسن من موجبات حاضرهم وممّا يفقهون، وفي تقديسه لأصول “العِلم” وأصحابه العِظام آباء المعرفة، وفي النَّهل من أوتاد الأرض الشيوخ الثّقاة، وفي تفانيه في خدمة كلّ ما حوله وكل من حوله. وفي الخلاصة: حاول سامي مكارم اكتشاف حقائق الأشياء بحقائقها ذاتها، فكان من الأوائل في حقله في وقـتـنا هذا، كما لكلِّ زمن أوائل.

 أجيال متعاقبة من الشباب نهلت من معين التوحيد على يديه ولا سيّما خلال السنوات العشرين الأخيرة في النّدوات والمحاضرات وحلقات المذاكرة
أجيال متعاقبة من الشباب نهلت من معين التوحيد على يديه ولا سيّما خلال السنوات العشرين الأخيرة في النّدوات والمحاضرات وحلقات المذاكرة

تعليم أجيال
أجيال تعاقبت على “مائدة” سامي مكارم ونهلت من معين التوحيد على يديه ولا سيّما خلال السنوات العشرين الأخيرة في النّدوات والمحاضرات وحلقات المذاكرة والجلسات التي لم تُحرَم منها منطقة في لبنان. كذلك شملت الدول العربية والمغتربات الدرزية في الأميركيّتين واستراليا وأوروبا وأفريقيا. وتحلَّقت تباعاً حوله كوكبةٌ من الشَّباب تتلمذت عليه وتنادوا في ما بينهم بـ “المجموعة”. وكان يردِّد أمامهم مُنبِّهاً قبل سنوات: ” لستُ قبطان الطائرة، لكنَّني واحدٌ من المسافرين”. حضر إلى منزله ذات صيف قبل ستّ سنوات شاب يدعى دانيال آتياً من الأرجنتين برفقة ولديه اليافعين، وقال: هاجر والد جدي إلى الأرجنتين ووُلِدَ جدي ووالدي ووُلِدتُ أنا هناك، وهذه رحلتي الأولى أحقِّــق فيها حلم حياتي في التعرُّف على جذوري في لبنان، لكنك يا د. سامي كنت معلّمي وشيخي خلال ثلاث عشرة سنة، مذ قرأت أحد كتبك تعرَّفت عليك، وكنت أقيم المحاورات معك، أسألك وأنت تجيب من صفحات الكتاب… وعاد دانيال “عن” غربتهِ مُفعماً بالأنس، مكتنزاً للحقائق خلال أسابيع قضاها في رحاب الوطن وأهل المعتقد، فكم من “دانيال” عاش غربته في الوطن وكانت لسامي مكارم يدٌ في انتشاله إلى حقيقة هويَّته في النور؟
ومع ذلك، فلا يمكننا إغفال حقيقة أن الراحل، الذي كان سبّاقاً بين بني زمنه، ومتَّبعاً أصالة الإحسان وروحيَّته، كان عاملاً فاعلاً على نهضة مرتجاة تمنّاها لأمَّـته، وهو ما لم يحدث بالكلّية خلال سنوات حياته الـ82. لكن غيابه وواقع الحال يحمِّلان جميعنا المسؤولية في أخذ المبادرة، وتسليمها الى الأجيال اللاحقة كما نهج الأسلاف الأعراف على ذلك ونَهَجَ سامي مكارم نهجهم، حيث تجاوزوا بقاماتهم المعرفية حواجز وصعاباً كثيرة على مرّ السنين. وأملنا يقينيّ في البيئة التوحيدية التي تفاعل فيها الراحل خادماً أميناً للحقيقة ومناضلاً من أجلها ومن أجل مستقبل أبنائها، البيئة التي تكتنز أصالةً معرفيةً، حضارية في العمق، أن تستمرَّ بيئة راعية وحاضنة لحركة الوعي التي عمل الراحل على توليدها في عقول وقلوب “الناس”، ومن بينهم أولئك الذين تتلمذوا عليه، إخوانه الشَّاهدون على البركات التي حاز عليها من الأعيان الثقاة الكبار، وكيف كانوا يشدُّون أزره، وشهدوا على الإجلال والإكبار والتفاني الذي أبداه الفقيدُ لأولئك الشيوخ الاطهار المنسجمين مع ذواتهم في الزهد والنقاء والورع والتقوى خلال عقود، ونهلوا (التلاميذ) مع شيخهم من عقول وقلوب أولئك الكبار “عيون العرفان”، المكتنزين لوعي عظيم تلحّفوا به، ولا يُصرف في معظمه في غير الابتهال ومناجاة الحق تعالى، في طلب نعمةٍ ربَّانيَّة آتية بالربيع الحقيقي إلى الكون وإليهم. ويذكرُ “الشّباب” مقولة الكتاب، وما كان يردِّده شيخُهم أنَّ ربيع العدالة والحقّ والخير آتٍ، وآمنوا بما آمن به وأمَّنَهُمْ عليه من أن الحساسين يمكنها أن تصنع ربيعها إذا ما حافظت على وحدة الكلمة، وإذا ما نجح “الشباب” في صيانة حلمهم الذي صاغه معهم شيخهم؛ وذلك يكون بتناغم معشرهم وبصونه من نظرة الفرق ومن الأهواء، وبالاستمرار في اعتبار الحق غاية قصدهم .

منزله في عيتات الذي كان منتدى للذكر
منزله في عيتات الذي كان منتدى للذكر

عاشق الكلمة
بذل الدكتور مكارم عمره كلّه في ما يحبّ، وساعات قليلة من النوم كانت تكفيه. هاتفتُ منزله يوماً في التاسعة إلا خمس دقائق صباحاً لألفت إنتباهه إلى صدور مقال افتتاحي في جريدة النهار كان قد تناول فيه كاتبُه كتابَ “العرفان في مسلك التَّوحيد”، أجابت زوجته السيدة ليلى على الهاتف، فنقلتُ لها غايتي من المكالمة وانتظرت أن أسمع صوته وأسلّم عليه، كما جرت العادة، لكنَّها اعتذرت منِّي قائلة: “سامي من شوي نام.بس يوعى بقلو يحكيك”! كان لم ينم طوال الليل، وسهر الفجر لكون الكتاب أنيسه، فكم أنِس بمن عشقوا الكتاب وعاشوا الحكمة عيشاً بالكلّية لا بالتكلُّف؟
هو نديم الكلمة والقلم، وقرين الباحث والقارىء والشّاعر والمؤلِّف. وهو من ناغمَ الحروف تغزّلاً قبل أن تنداح مرفرفة على لون المئات من لوحاته، وفيها صبْو لفرح عينيه ولتغريدة قلبه، كما صبْو كلّ من عرفه في كل مرّة يغادر فيها محضره. “الفَرِحُ” على الدوام، وفرحُه الداخليّ ينصبُّ فيك انصباباً مُطهِّراً إيَّاك من “حطام” دنياك، ويرتقي بك إلى حيثُ شفاف الإنسانية النبيلة المخبوءة فيك. كان “مدرسةً ومنهجاً ولغة ومعلّماً” في مخاطبة الناس بالتي هي أحسن، أحسَنَ فيهم وأحسَنَ إليهم، وكان يوحي لكلِّ من إلتقاه يوماً من عارفيه ومن أجيالٍ تعاقبت وكان مواكباً لوعيها أفراداً وجماعات، أن المعرفة كامنة في النَّفس، وما عليك إلَّا اكتشافها فيك، داعياً إياك إلى أمر واحد: “كن إنساناً”
منّا من آخاهُ على درب الحقيقة، ومنّا من تتلمذ عليه، ومنّا من واكبه، ومنّا من عاصَـرَهُ، ومنّا من صادقه، ومنّا من غادره قافلاً إلى حيثُ كان، ومنَّا من غادره إلى مكان أكثـر أمناً. وهو كان الأخ الناصح، والأب الشفيق، والمربي الرفيق، والمعلِّم “السقراطي السِّمات” لنا جميعاً، والمفيد المستفيد، والباحث دائماً عن كلِّ ما هو حق وخير وجميل فيه وفينا وفي هذا الوجود الأنيق.
تعامل مع الطفل ببراءته، ومع الزعامة من هيبتها، ومع الكريم بكرمه، ومع الفقير بمشاركته، ومع المرأة من أنوثتها، ومع الجاهل من حدِّ وعيه، ومع المتفكِّر من مضامين أفكاره، ومع الشَّاعر من أخيلتِه الشِّعرية، ومع المتواضع بالتذلُّل إليه. وخاطب كلّ ذي شأن من شأنه، إلَّا صاحب “الأنا” كان يدعوه بوسائل غير مباشرة وبأمثلة مختلفة إلى التبصُّر في حاله، ويتمنَّى عليه أن يستقيل من هوى نفسه ليرتبط بالسَّعادة مغتبطاً، وما السَّعادة غير عظمة التوحيد، “كفّ عن النظر بعين العظمة، تصل إلى مقام العظمة”، كما ذكر في أحد كتبهِ.

 

المعراج الأخير
ظلّ يحذِّر من الأنا، واستمرّ يحذّر منها إلى آخر يوم قبل توعُّكه، حيث كانت جلسة الوداع في أوَّل أيَّام عيد الفطر المبارك الواقع فيه 19 آب 2012، مع أطفال وشبّان وشابات، بلغ الصغير بينهم سنّ الـحادية عشرة، يومها قال لهم: أنتم أمل هذه الأمَّة ومحور التفاعل فيها. أنتم على تماسّ مباشر مع أبناء جيلكم. إذا ما وضعتم انتباهكم على الحقيقة لا على الشخص أو الأشخاص تنجحون. فالطبيعة يحكمها النّظام المتوازن وهي لا تقبل الفراغ، والفراغ هو فوضى التوازن. ضعوا النظام نصب أعينكم، واعلموا أنَّه من خلال الأنس بهذا النظام وحبّه يتطهَّر الإنسانُ من أناه. “. وعندما استأذن بعض الشبّان للمغادرة قال: ” لوين، بعد بكّير!” وأضاف: تكادُ عيني تدمع عند رؤيتكم، لكنَّني الآن بتّ مطمئناً أنَّ المستقبل واعد إنشاء الله”. لم نأخذ كلامه على محمل “الغياب”، لكنَّه أودع أمانته في أولئك الحاضرين، وكان عددُهم سبعة وأربعين.
أحبَّ الدكتور مكارم قصَّة الطّيور كما سردها فريد الدِّين العطّار في “منطق الطَّير”، وأيّ فرح كان يغمره لدى ذكرها على مسامعنا. وفي ذلك النَّص، الذي مثل ترنيمة روحيَّة لرحلةٍ نورانيَّة، ينزع الهدهد الرّيش عن أجنحة الطيور الثلاثين في رحلتها إلى الملك السيمرغي، فكان قدرُه، خلال ثلاثين ساعة أخيرة في حياته، قضاها في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، أن أُصيب بمثل نزع الرِّيش عن جناحيه قبل أن يلج فقيدنا وحبيبنا وشيخنا سامي مكارم المعراج الخير في رحلته.
سألناه في ساعاته الأخيرة: ماذا قال الحلاج حين قُطِّعت أوصالُه؟ فلم يُجِب، من فائق أدبه وحسن تواضعه. حينذاك، قلنا له: “حَسب الواجد … ” تابع عندها قائلاً: “…إفراد الواحد له”. لم يرَ إلى نفسه أنَّه “واجد”، أي أنَّه صاحب وجدٍ يؤهّله إفراد الحق له، وكان في ذلك سائراً على خطى الشيوخ الأعراف، وأحد كبارهم الشيخ الفاضل محمد أبي هلال رضي الله عنه الذي استمر معترفاً بعجزه وافتقاره للتوبة حتَّى الرَّمَق الأخير.
استمرَّ جسد سامي مكارم مَطرحاً لاختبار الألم وما كان يتلفَّظ بغير: “الحمد لله على كل شيء”، إلى أن بلغ التطهُّر بـ “الحبّ” تمامه في كينونته، فأمسى دمه نقياً من كل ماء شركيّ، وقلبه بريئاً من سلطان إبليس، عندها هبط ضغط القلب ليستقر على “واحد”، ونبض الجسد توقَّف عند “واحد”، وتمتمات الفؤاد سكنت في “واحد”. ولمّا لم يكن في الدار غير الواحد، راح جناحا العجز والعشق يطيران بالقلب، من على شجرة الجمّيز، بغير ريش، يحلّقان خلف هدهد الزمان المبحر بلا كلل نحو هذا الحبيب السيمرغي، الذي قال فيه فقيدنا، فقيد الأنس في كتابه “مرآة على جبل قاف: ” لكأنَّ طائر السيمرغ، إذ يبدو للطير وقد بسط جناحيه، وحملني، وطار بي، وغيَّبني في ملكوته، لقد صيَّرني منه وما صيّرني، وصلني به وما وصلني، فصلني عنه وما فصلني غير أنّه ما إن حلّق بي حتى حطّ بي من جديد. ما أوجدني إلا لأعود إليه. وما كوّنني إلا لأكون في كونه شاهداً لوجوده، ذاكراً لآلائه.” وتابع شعراً:
“واليوم عُدتُ إلى ما كنت أحذره ذكرى من الطيب في حِقّ من الطّين!”
استمر هذا الحبيب شاغل شغل سامي مكارم منذ اليفاع، وتدرَّج في اقتفاء أثره تماشياً مع اختمار تجربته الرّوحيَّة، إذ يقول في الكتاب عينه:
“حيــــــث ذاتي تعتلي شيئاً فشيّئًـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
جبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل “القــــــــــــــــــــــــــــــــــاف” السَّحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــق
فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأرى ذاك المحيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّا
حيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــث “سيمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرغ” الهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوى
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَّى لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي مـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرآة
أرى فيهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا العوالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم
كلّ ما في الكون من ماضٍ ومن آنٍ وقادم
(مرآة على جبل قاف ـ ص79).

وفي خلال الشهر الأخير من حياته، صرف اهتمامه بالكلّيّة في البحث عن خفايا جبل “القاف”، وعن ملاحقة أخبار ذاك الأعجمي الذي وطىء القاهرة يوماً وبدّل طعم ماء النيل.
سقط جواد سامي مكارم. نعم. وكم نفتقد “اعتزالنا” حضوره بيننا، وهو من كان لنا “أحلى هدايا العمر”، وإن عَمِلنا على معالجة مصاب انتقاله بالرِّضى، فنحن على يقين أنَّ فارس الحقيقة سوف يتابع مسار خروجنا إلى النور.
لقد توفّى المولى الدكتور سامي مكارم برحمته حيّـاً، وهو الذي كان “برحمانيته أوجدني في حدّ الإنسانية. ومن خلَل هذه الإنسانية قدّرني على الارتقاء من مقام إلى مقام، وعلى المسافرة في درجات تعاليم هذا الحدّ الأعلى العاقل للإنسانية الذي به أستطيع أن أتبيَّن ما تهيّأ لناسوتيَّتي أن تتبيّنه من الألوهة (مرآة على جبل قاف ـ ص141).
لقد توفّاك المولى برحمته وكنت حياً، وبقينا نحن (أو كاتب هذه السطور على الأقل) في الغمض مثلنا مثل جنين في الرحم يتلهف إلى لحظة “طلق”. مثلنا مثل نور اكتنزهُ السحَر علّنا نخرج إلى الحياة الحقّ ونقتديك ونقتدي أمثالك من الشيوخ الأطهار قدوة، ومعك ومعهم خلف قبطان السفر نحلِّق في رحلة الحقّ.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”سامي مكارم <مرآة >المقابلة والمفارقة د. أنطوان سيف” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يفاجئكَ سامي مكارم برغبة عارمة في الغزْل المستجدّ على نوْلٍ قديم استهلكَ كامل دلالاته ورموزه، بكفاءةِ عناصر أسلوبيَّة ثلاثة تبدو جدَّتها بتلازمها معاً في كتابه، وهي: الشِّعر الصّوفيّ، ومُضارعُه النّثري (لا من باب حلّ المعقود المنظوم)، واللوحة الحروفيَّة التي أحيا فيها الحرفَ الَّذي يُميت، وحوَّله – كما يقول أفلاطون – إلى صورة.
سعى مكارم إلى “إحياء الأدب الصّوفي وتحديثه، من دون أن ينزع عن مواصفاته وخصائصه، ومن غير أن يمنحه أشكالاً مبتدعة ومبتَكرة وغير مألوفة” لم يخرج عن المضامين الدينيَّة والفلسفيَّة التي باتت تقليداً في التصوُّف الإسلامي المعتدل: كتماهي صفات الله بذات الله، وأن “لا موجود إلا الله”، وأنَّ “الكتابَ يدخُل في المصحف” (وحدة الأديان) والوصُول إلى الله بالحُبِّ لا بالعقل، وأنَّ الحبَّ الحقّ حبُّ الحقّ، وكينونة الإنسان التي تغدو، عند الوصول، الكون كلَّه…
إلا أنَّ هذه المطابقة لم تطمس عنده ملامح مخصوصة، لا بل نافرة، تجافي المناخ العام للكتاب بمضمونه ولهجته. فصل “الثورة” الذي أبرز فيه الأحداث المعاصرة ومسالك رجال السياسة والدِّين فيها: “هارون الرّشيد وسلالته”، رمز الحاكم الماجن، سبب الانحطاط المعاصِر العربي والاسلامي. “رؤيا أبوكاليبس” لدينونة أخلاقيَّة تفشي عن انطباع بأنَّ مكارم يقوم هنا بضربة وقائيَّة يراها ضروريَّة، استباقاً لهجوم محتمَل، ومألوف، ضدّ أهل التصوُّف والعرفان، أو هو ردٌّ مسبَق على اتِّهام محتمَل بأنَّ التصوُّفَ هروبٌ من مشاغل النّاس وما يتهدَّدُ حياتهم في الدّاخل، وأوطانهم من الخارج.
باستثناء هذا الفصل فإنَّ الكتابَ، بباقي فصوله، يبدو وكأنَّه بلا تاريخ؛ صدر في أيِّ زمان، وأيِّ مكان من ديار العرب المسلمين.
إلا أنَّ جدَّته الأظهر هي في عنوان كتابه وموضوعاته المركَّبة: فقد أسكنَ مكارم “سيمرغ” فريد الدّين العطّار، ملكَ الطيور المحتجَب، على قمَّة جبل قاف، وجعلهُ مرآةً للعارفين يرونه، بعد طول سفر وشوق، ويرون فيه ذواتهم كاملةً.

غلاف-كتاب-مرآة-على-جبل-قاف
غلاف-كتاب-مرآة-على-جبل-قاف

*****
كي لا تهتزّ صورتُه في صفحةِ الماء، اخترعَ الإنسانُ المرآةَ المعدنيَّة والزجاجيَّة الصقيلة. وجعلها بمتناوَل الكلّ، مذّاكَ ازدادَ الوعيُ الأنويّ، وازدهرَ أدبُ السّيرة الذاتيَّة، كما لاحظ لويس ممفورد
(L. Mumford) وأصبحنا نعيشُ على الحقيقةِ في “حضارة المرآة” التي هي امتداد “لمرحلة المرآة” السيكولوجيَّة الطفليَّة.
مرآةُ سامي مكارم سابقة لهذا التاريخ، وخارجة عليه وعلى كلِّ التّواريخ. مرآة مضنون بها على غير أهلها وهُم قلَّة صافية نادرة. من مرآة الماء التي لا تبوح بصُورتها إلا بطأطأة الرأس باتّجاه العالَم السّفلي، إلى مرآة جبل قاف العالي، آثَر مكارم السّموّ والرِّفعة على التَّعمُّق والغَوص، حيثُ تتعالى النّاسوتيَّةُ صوبَ اللاهوتيَّة. لقد ماهى انتماءَهُ الأهلي الطبيعي إلى أهل الحكمة والتَّوحيد، بانتمائه الطَوعي الإرادي إلى أهل العرفان والحقّ، إذ هُم جميعاً موحِّدون. وهكذا غدا جبل قاف، جبل الموحِّدين، جبل الدّروز الَّذي هوَ الاسم الناسوتيّ لقاف اللاهوتي، قافُ الرؤية والمرآة، ولكن أيضاً قاف السّمع، قاف الدّروز. لقد أدرج ياقوت الحموي الرّومي جبل قاف في “معجم البلدان”، على الرّغم من وصفه له أيضاً بـأن “ما وراءه معدود من الآخِرة ومن حُكمها … وأنَّ وراءه عوالم وخلائق لا يعرفُها إلا الله تعالى”. “جبل قاف” جبل العارفين والموحِّدين، ومن غير واو العطف. وينبغي أن نتقبَّل هنا انحياز سامي مكارم في جعل المرآة على جبل قاف، جبله، وليست ما وراء الجبل كما ذكرها المصدر.
لقد انحدر الإنسانُ بالثّمرة المحرَّمة، وسمَا عندما صوَّب وجهته نحو مرآة قاف، يمحو بها ذاكرته، ينقِّيها، ويتسامى بها على سقوطِه التاريخي. “إنَّ ذكرى الثَّمرة المحرَّمة – قال برغسون – هي أقدم ما في الذّاكرة الإنسانيَّة، الفرديَّة والعامَّة على حدٍّ سواء”.
سامي مكارم العرفاني، فيلسوف الوجد، فنَّان الكلمة – اللوحة – الآية، شاعر الكلمة التي تماهى بها الله منذ البدء وإلى الأبد، عاشق الحقّ الأوحد، الجبليّ الرّيفيّ الَّذي حمل قرويّته معه إلى المدينة التي يمكنُ أن تراها مختبئة بخفر وراء مظهره الدائم ال، وفي ثنايا كلامه الَّذي لم يهجر مرَّة نبرته الهادئة والمهذّبة التي تحسب، وأنت تسمعها، بأنَّها تهمسُ باتّجاه شخص متوحِّد بنفسه في هدأة الليل “على جبل قاف”…
سامي مكارم لم يقل على مدى كتابه، وعلى مدى حياته، سوى هذه الحقيقة الانسانيَّة والوطنيّة الكبرى التي تعكسها المرآةُ المجلوَّة التي لا تُرى فيها الأنا ولا الأنوات ولا النّفس الأمّارة بالسُّوء ولا الرّهبة من الموت، إنَّما صفاء الحقّ يقولُه بوسائل وأساليب هو سيِّد من أسيادها.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

رسالة شيخ العقل

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

تعزيز المؤسسات وروح الفريــق ونبـــذ الفرديـــة طريقنـــــا إلى الفـلاح

تشكّلَ المجلس المذهبي في دورته الحاليّة وفقاً لأحكام قانون تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدّروز الصّادر سنة 2006. وهو قانون تضمّن في شق منه وضع آليّات شفافة لانتخاب المجلس المذهبي بمشاركة من مختلف فئات المجتمع وشرائحه المهنيّة والاجتماعيّة والثقافية والدينيَّة، وجاء القانون بذلك ليستكمل آليات التمثيل السياسي والشعبي التي ينظمها قانون الانتخابات النيابيَّة.

استهدف التطور التشريعيّ في أحكام القانون المذكور توفير الأطر اللازمة لاحتواء الطاقات المتوثبة لنخبة الطائفة، وتوجيه تلك الطاقات باتجاه النهوض بالمجتمع من المراوحةِ العـقيمة في مستنقع المصالح الأنانيّة النفعيّة التسلّطيَّة إلى المفهوم الفسيح الراقي للمصلحة العامَّة العليا، وهذه المصلحة الجماعية لا يمكن تحقيقها إلا بنتيجة تضافر الجهود، وتعزيز مؤسسات وأطر العمل الاجتماعيّ والتـنمويّ والفكريّ، وإرساء حسّ المشاركة والتحرك المتناغم بروح الفريق العامل بدل النزوع الفرديّ نحو الارتجال والاستئثار والتمسّك بواقع الفوضى تحقيقاً لمآرب صغيرة لم تؤتِ في يوم من الأيّام ثمراً خيِّراً للجماعة بقدر ما أضعفت صفوفها وأدت إلى تأخّرها اقتصادياً وسياسياً.

إنَّ شؤون طائفة الموحّدين شاملة لمختلف وجوه الحياة، وهي تمسّ المجتمع بكافَّة أفراده وشرائحه. لكنّ المجلسَ ليس بديلاً عن أيّ فعاليَّة سياسيَّة عامَّة أو مهنيَّة أو (خصوصاً) دينيَّة. إنَّه واسطة من وسائط التنظيم الفاعل للواقع الذي نعيشه بكلّ ما يكتنف هذا الواقع وما يخالطه من أزمات ومشاكل وصعوبات وتحدّيات، بل ومحن في بعض الأوقات العصيبة. أتطرَّقُ إلى هذا التَّوضيح لشعوري بضرورة تعميم هذا المفهوم الشامل على دور المجلس وغاياته، وتصحيح النظرة الضيّقة المحدودة بل والعصبيَّة التي تحكم عقول البعض هنا وهناك من الّذين يرون في هذا الصَّرح الكبير والأساسي لنهضتنا مضرباً من مضارب العشائر، وحاشا لنا ولغيرنا أن يرضى بهذا، لأنَّ النوايا من دون شكّ متوجِّهة، وهكذا يُفترضُ أن يكون، نحو خير المجتمع بكليّته ومصالحه العليا ونهضته المتوخّاة.

بهذه الرؤية الموضوعيَّة الدقيقة قبلنا شرف العمل والخدمة في هذين الصرحيْن اللذين يتمتّعان بتمثيل مجتمع الموحّدين الدّروز: مشيخة العقل والمجلس المذهبيّ. هذا المجتمع الذي يحمل في ذاكرته التاريخيّة ووعيه الحاضر، العنفوان المعنويّ لهذه الطائفة بما فيه من إمكانات ومؤهّلات وصفات مثالية اكتسبها عبر تاريخ الموحدين السياسي المجيد وإرثهم الروحي الكبير وتقاليدهم الحميدة.

إنَّ من أول أهدافنا، مع ثقتنا بالقيادة السياسية الحكيمة، أن يبقى المجتمع عزيز الجانب، موفور الكرامة، عامراً بالإيمان، مستبشراً بالخير في كلّ وجهٍ ومعنى. تتآزر فيه القوى لوحدة الصَّف، واجتماع الشمل، بمشاركة جميع أبنائه وفقاً لإمكانياتهم، وعلى اختلاف مشاربهم في تبنّي رسالة مشتركة تكون الهدف الّذي يُسعى إليه بالتكاتف والتضامن والتعاضد لأجل مستقبلٍ زاهر يتجاوز مرحلة القلق والتجاذب والمخاطر الكبرى التي تتهدَّده في هذه المرحلة.
والمشايخ الأجلاء هم بمكانة القدوة الصالحة لمجتمع كريم أمام وجه الحقّ، بذلوا ويبذلون في الله مهجهم، وتعمّ في البرايا بركتُهم، وتعلو بالحق كلمتُهم، ولذلك، فإنّنا نربأ بقدْرِهم أن تمتدَّ في أوساطهم يدُ التفرقة البغيضة، أو يتسرَّب إلى صفوفهم ذوو الأغراض المضلِّلة، فتتسرَّب إلى صفاء القلب غرضيّات وعصبيّات ليس لها في صفحة الحقّ مكان، بل هي مشوِّشة لمرآة البصيرة، وملوِّثة لفسحة القلب والجنان.

اليوم، وفي هذا العصر الذي تُــشرّع فيه أبوابُ العِلم والمعرفة على مصاريعها، نرى أنفسنا بحاجة ماسّة إلى فئة من أهل الثقافة الصَّحيحة، والمنهجيَّة الدقيقة الصّادقة، من الّذين حباهم الله نعمة العقل ونعمة التواضع الروحيّ الأثيل، ليتولوا مهمّة الارشاد والتوجيه في وجه أوبئة الانحلال الخلُـــقيّ وتفشّي العادات الرديئة في المجتمع، وأشدّها خطراً الإباحة وإدمان المخدِّر على أنواعه المقيتة، وغيرهما من الآفات الخطيرة التي تفتـك بأبنائنا وبالكثير من مواطني بلدنا عموماً.

كذلك، فإنّ روّاد الخير العام، هم في الواقع مسؤولون عن التوجيه الممكن في محيطهم الاجتماعي، وحمايته من الانقياد وراء دعوات الباطل والتخريب التي يقف وراءها نفعيُّون يحاولون تكريس واقع خرب من أجل إثبات مصالحهم الذاتيَّة بإسم المصلحة العامة، كما يحاولون تضليل بعض المواطنين بالشعارات الزائفة في سبيل منافعهم الضيّقة. إنّ من واجبات الفرد الصالح نحو المجتمع أن يتبنَّى مصلحة الجماعة التي تنتظم فيها المصلحة الخاصّة وفقاً لمكوِّنات الحقّ. ومن تتوفّر فيه هذه المزايا والارادات الطيبة فلا بدّ حتماً من أن يتخلى عن الأنانية الجامحة العمياء. إنّ تـنمية أوقاف طائفة الموحدين الدروز اليوم ومستقبلاً تدخل في صلب الرسالة المشتركة للموحِّدين بعد أن تمَّ إحصاء هذه الأوقاف، فتوضَّحت معالمُها توثيقــاً، حيث تبيَّن واقعيّاً أنَّ معظم ملفَّاتها رازحة تحت وطأة تركة ثقيلة وقديمة (عقود ووقائع) تجعلها شحيحة الإيرادات، ضئيلة المنافع. وبعيداً عن الغوغائيّة، وبمنأى عن الاستنقاع في مياه آسنة، تعمل لجنة الأوقاف على ترسيخ أسُس خطّة متكاملة لوضع اقتراحات المشاريع للنهوض بها من مرحلة العوائق والإشكاليات، إلى مرحلة جديدة من التطوّر والنّهوض نحو ما يجب أن يكون خدمة للصالح العام، كما تتبنّى مديرية الاوقاف اتّباع أساليب المحاسبة والتدقيق الحديثة.

إنّنا في هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة، وحتى تتمكن الاوقاف من زيادة وارداتها، ومن مواقع مسؤوليّاتنا جميعاً تجاه أسَر الشهداء والمعوّقين والمنقطعين من الأرامل والأيتام وذوي الحاجات الخاصة، لا بدَّ من أن نتوجَّه الى الموسرين والمحسنين من أهلنا لدعم اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي التي تتحمَّل أعباء مواجهة كافَّة المشاكل الطارئة التي يواجهُها الكثيرُ من أفراد مجتمعنا وعوائله صحّياً وتعليميّاً واجتماعيّاً. وإنّنا، من موقع الاحترام للكثير منهم، خصوصاً من الّذين نجحوا وتمكّنوا بفضل الله من تحقيق الكثير بكدِّهم وسعيهم ومثابرتهم، نهيب بهم بأن يكون لهم زكاة في ما حباهم الله تعالى لهم من نِعم، لتكون تلك الزّكاة برَكة لهُم في محلّ الرِّضا والمحبَّة كما جاء في المأثور: “إنَّ الله يحبّ أن يرى آثار نعمه على عبيده”، طالبين لهم ولنا أن يأخذ الله سبحانه وتعالى بنواصينا إلى الحقّ، وإلى ما فيه نعيم رضاه، برحمته وعفوه.

العدد 7