“الأمير حسين الأطرش أحد أركان الوجاهة والقضاء العشائري في الجبل
كان الفرنسيّون يعتبرونه “لِصّاً فظّاً قاطع طريق” لأنّه كان مع سورية حرّة مستقلّة، وكان أحد قادة الثّورة العربيّة من بني معروف ضدّ العثمانيّين، فاوضَ وقاتل من أجل دولة عربيّة كبرى؛ غدر الإنكليز والفرنسيّون بمشروعها، وتخاذل العرب وملوكهم وحكّامهم دون ذلك الحلم العربيّ، ومن الجدير ذكره أنّ الأمير حسين الأطرش كان كريماً ــ طعّام عيش ــ وقاضياً يأتي النّاس إليه ليفضّ مابينهم من خلافات دون اللّجوء إلى المحاكم، وهو من مواليد 1880م وتوفّي عام 1962.
فيما يلي توثيق لبعض من حياة ذلك الرجل ولنموذجين من قضاء بني معروف العشائري قبل نحو قرن من الزّمان، ذلك القضاء الذي رغم صرامته وقسوته ساعد على تثبيت الأمن والاستقرار في منطقة لم تكن لتعرف العمران والأمن؛ لو لم يتّخذها الدّروز موطناً قَسْريّاً لهم، بديلاً عن مواطنهم السابقة في لبنان وشمال سورية وشمال فلسطين…
الرّحّالة الأميركي ويليام ب. سيبروك وزوجته كاتي William Buehler Seabrook, زارا جبل العرب عام 1925(1)، توجّه سيبروك وكاتي إلى عَنْز ليقصدا على حدّ تعبيره: “زعيماً كبيراً من زعماء الحرب الدّروز من العائلة ذاتها (آل الأطرش)، وهو حسين باشا الأطرش، زعيم قرية عَنْز، يقول: “كان علينا أن نتخلّى عن الكاديلاك ونلجأ إلى الجِمال، كانت دار حسين باشا التي وصلناها بعد الغروب مَعْقِلاً حصيناً ضخماً على سفح تلّ، وقد تراكمت تحتها على المُنْحدر مئات المنازل ذات السّقوف المُسْتوية والجُدران الحجريّة السّميكة.
ضِيافة مُترَفة
استقبَلَنا الخدم عند مدخل الدّار، وتبعونا قائدِيْنَ جِمالنا إلى الباحة حيث الزّرائب ومخازن الحبوب. كانت درجات ضيّقة ومُنحدِرة ومُستقيمة طولها أكثر من مئة قدم تؤدّي إلى مصطبة مُعَمّدة ( أي ذات أعمدة) تشرف على الوادي، دخلنا من المصطبة إلى غرفة الاستقبال وكانت غرفة عالية السّقف ومُتْرَفة الفرش على النّمط الشّرقيّ إضافة إلى أثاث أوروبي مُنَجّد ومُزخْرف جُلِب خِصّيصاً على ظهور الجمال من دِمشق، ففي إحدى زوايا الغرفة وُضِعَ سرير أوروبيّ كبير فخم عالي القوائم تعلوه ظُلّةٌ مُتْقَنة الصّنع.
دخل حسين باشا إلى غرفة الاستقبال بعد لحظة من وصولنا. انحنى لنا معيداً لكلّ واحد منّا: “أهلاً وسهلاً، شرّفْتم بيتنا”. كان رجلاً بديناً وقصيراً في منتصف العمر، ووجهه ينمّ عن قوّة عظيمة، وكان يلبس على رأسه لباس أمير عربيّ: كوفِيَّة حريريّة بيضاء ثبّتها في موضعها عصابة مُزْدوجة مذهّبة، وعباءة سوداء مُطرّزة بالخيوط الذّهبيّة والفضّيّة وعلى كلّ حال اتّضح لنا فيما بعد أنّه قد ارتدى هذه الحُلّة الفاخرة كرامةً لنا ليس غير، إذْ إنّه لبس في الأيّام التّالية لباس العربيّ العاديّ.
خرجنا بعد غروب الشّمس وجلسنا على المصطبة الأكثر اعتدالاً، في حين كانت المصابيح والقناديل تُعَلّق، وما لبث أنْ أتى أولاد حسين باشا مُضطَرِبِيْن من الحَياء لاستقبال الضّيوف الغرباء، كان الابن الأكبر ــ في السابعة عشرة ــ مضفور الشّعر، ولباسه مثل لباسه ( أي مثل لباس الأب الأمير)، والابن الثاني صَبيّاً في الثّانية عشرة شعره مُنْسَدل على كتفيه مثل شَعر غُلام الفارس في العصر الوسيط وكان لابساً ثياباً مُخملة حمراء، والثّالث في الخامسة، وكان يرتدي زِيَّ الجيش البَرِيطانيّ، وقد فُصِّل على قَدِّه في القُدس، والرّابع كانت طفلة في الثّانية أُحضرت للجلوس على ركبة حسين باشا قبل العشاء، وكانت مثل دُمْيَة- أو أميرة في حكاية من حكايات الجِنّ ثمّ إنّ عينيها كانتا مُكَحَّلتين ووجهها مصبوغاً صبغاً دقيقاً، وفنّياً وشعرها مجدولاً مع قِطَع ذهبيّة، وجواهر لامعة، وأطراف أصابعها مُخَضّبة بحنّاء أكسبتها لون الفجر الورديّ وبالأصابع تلك كانت تشدّ شاربيّ والدها العاتي التي كانت تعبده.
الأمير على حقيقته
قدّم لنا العشاء على المصطبة خادمان كأنّهما قد خرجا من كتاب “ألف ليلة وليلة” بثوبيهما الواسِعَين، وخِنْجرَيهما المُرصّعين بالجواهر. ولكن مع أنّهما شكّلا خلفيّة تاريخيّة ترجِع إلى عصر هارون الرّشيد، فإنّ الوجبة كانت “حديثة” حتى اللّمسة الأخيرة. كان على المائدة الطويلة غِطاء نظيف وكثير من الأواني الفضّيّة وأكواب طويلة السّوق وخَزَف سيفر Sevres.
أخذ حسين باشا يعيد مرّة بعد أُخرى بالإنكليزيّة والفرنسيّة معاً من أجل مساعدة كاتي على فهم حكاية مهذّبة كان قد حكاها بالعربيّة حول يهودي واثنتي عشرة بذرة بطيخ، قاطع الحكاية مؤقّتاً طبق حجل. وبما أنّ حسين باشا من أهل الدّار، فقد قبض وهو شارد الذّهن أحد الطّيور بيد المُحارب القويّة. وقضم قطعة ملكيّة منه بكلّ لحمها وعظمها وغضاريفها.
لقد أحببته من تلك اللحظة، فبعد الارتباك الذي انتابه، وفكّاه يمضغان تلك القضمة الكبيرة أخذ يبتسم معتذراً، وقال: ” مُلتفتاً إلى كاتي: “أرجو ألّا تلوميني ياسيّدتي، لقد تعوّدت ذلك من طول مرافقتي للإنكليز الذي يأكلون الطّيور بالأيدي”.
إنّ الأيّام التي قضيناها في عَنز هي من أجمل ذكرياتنا عن بلاد العرب لقد أُتيحت لنا الفرصة خلالها أن نحتكّ أكثر بالحياة التي لم يطرأ عليها أيُّ تغيير في قرى الجبل النائية.
نموذجان من القضاء الدّرزيّ
وفي عصر أحد الأيّام صَحِبني حسين باشا إلى اللّجاة لأحضر محكمة قرويّة يُقام فيها العدل الدّرزيّ، جرى ذلك في مقعد شيخ القرية الذي كان هو نفسه القاضي، جلس معه شيوخ ووجهاء آخرون، والمدّعي الذي كان فلاّحاً مسيحيّاً من حوران وقف أمامه يندب حمولة أربعة جمال من الحبوب كانت قد سُلبت منه في اللّيلة السّابقة، سُمِح له بأن يقدّم شهوداً من الدّروز ليدعمَ أقواله، وبعد التّباحث، أصدر الشّيخ الكبير الحكم: “حتى لو لم يكن الذي سلبك قمحك دُرْزيّاً وحتى لو كان الجاني بَدويّاً أو أيّ رجل غريب آخر، فإنّ العيبَ يُنْسَب لنا، والمسؤوليّة تقع علينا، بما أنّك كنت ضيفاً في قريتنا. فمن مخازن القرية العامّة سيُعاد إليك قدر ما فقدت من الحبوب في الحال ونحن الآن نطلب منك رسميّاً أن تقبل اعتذارنا”.
وفيما بعد حاول الشّيوخ أن يعثروا على اللّص، وكان واضحاً أنّ ذلك تفصيل لا أهميّة له.
سألت حسين باشا عن العقوبات التي تُنزَل بالجناة في آخر الأمر.
قال: ” يوجد في السّويداء سجون تخضع للقانون الفرنسيّ أمّا نحن فليس عندنا سجون، فإذا كان الجاني غريباً يُغَرّم ويُمْنّع من الدّخول إلى جبل الدّروز مرّةً أُخرى، وإذا كان درزيّاً يُغَرّم أيضاً ويُعفى عنه إذا كان ذنبه بسيطاً. أمّا إذا كان الذّنب يتعلّق بالشّرف، فإنّ الخِزي والعار الدّائمين هما عقوبته الأشدّ.
قلت له: “ولكن هناك بالتّأكيد جرائم لا يشكّل العار عقوبة كافية عليها”.
فأجاب: “عقوبة ذلك هي الموت طبعاً”.
وفي طريق العودة روى لي هذه القصّة.
قال: “نحن الدّروز لانُحْسِنُ التّجارة. إنّ أكثرَنا لايُحْسِن إلّا القتال، ومن أجل بناء منازلنا نستقدم بنّائين من لبنان. منذ عامين قدم من الشّوير بنّاء مسيحيّ إلى قرية الشّيخ عامر ليبني منزلاً جديداً لأحد الأغنياء. أحضر هذا البنّاء معه زوجته الشابّة الجميلة التي لاتلبس الحجاب، شأن النّساء المسيحيّات جميعاً، ولمّا أوشك بناء المنزل أن ينتهي، ذهب شقيق الشّيخ عامر الأصغر ذات يوم إلى بيت البنّاء واغتصب زوجته.
أخبرت المرأة زوجها في الحال فخاف الرّجل، وحزم أمتعته كلّها وحمّلها على حمارين، ورحل مع زوجته ليلاً. وفي صباح اليوم التّالي لحقه صاحب المنزل على حصانه، وسأله عمّا دعاه إلى الرّحيل قبل إنجاز العمل. فأجاب المسيحيّ: لقد خسرت شرفي، وإذا قلت لك السّبب خسرت حياتي أيضاً، والرّجل الذي أساء لي درزيّ يخشاه حتى الدّروز فما الذي في وسعي أنا المسيحيّ أن أفعله ردّاً على ذلك؟ فأرغم صاحب المنزل المسيحيَّ على إخباره بما حدث، ثمَّ عادا معاً إلى القرية.
مضى رأساً إلى الشّيخ عامر وقال: أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا، ولايمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم. وأعقب ذلك اجتماع كبير للزّعماء والمحاربين، وحضر الاجتماع الشّقيق المذنب نفسه، وكان شاكي السّلاح مثل الآخرين. وقف الفرسان مشكّلين حلقة كبيرة. في حين جلس في حلقة أصغر نحو أربعين شيخاً وزعيماً. قدّم لهم القهوة خدم الشّيخ عامر الذي كان المُضيف. كان الاجتماع عُقِد خارج القرية.
وقف بعد ذلك الدّرزيّ الغنيّ الذي لم يُنْجَز بناءُ منزله، وقال: “ياشيخ عامر! افترض أنّك فقير، وقصدت قريةً أنت وزوجتك للعمل بين الغرباء، وافترض أنّ رجلاً من القرية دخل، وأنت تعمل إلى مسكنك، واغتصب زوجتك!”.
هبّ الشّيخ عامر واقفاً واستلّ سيفه بغية قتل المتكلّم ــ لا لأنّه ظنّ أنّ الأمر يخصّ شقيقه، بل لأنّ الإشارة إلى زوجته في سياق قبيح أغضبه. غير أنّ الشّيوخ الآخرين انقضّوا عليه، وأوقفوه، وقد فَهِموا معنىً خَفِيّاً في كلمات صاحب المنزل.
استأنف صاحب المنزل كلامه: “اقتلني فيما بعد إذا شئت. ولكن أجب الآن عن سؤالي: إذا وقعت هذه الكارثة، فما العقوبة التي يجب أن تنزل بالجاني؟”.
أجاب الشّيخ عامر: “يجب أن يموت بلا رَيب”.
ــ افترض أنّ دُرزيّاً فعل فعلة مُماثلة؟
ــ يجب أن يموت حتّى لو كان ابني.
ــ هل تؤيّد هذا الحُكم؟
ــ أعيد: يجب أن يموت حتى لو كان من لحمي ودمي.
صاح المتكلّم: هل هذا هو حكم الجميع؟
فأجاب الشيوخ: أجل إنّه حُكْمُنا.
أُحْضِرَ المسيحيُّ وقد أُرتِج عليه من الخوف. فقال صا حب المنزل بعد أن روى الحكاية نيابة عنه: آمرُك أن تُشير إلى الفاعل”.
فأشار إليه البنّاء وهو يرتجف. وانجلت الحقيقة. وبحسب التقاليد، فإنّ أسرة الجاني هي التي تُنزل به عقوبة الموت. لذلك قَتَل الشيخ عامر شقيقه هناك، وبذلك تحقّق العدل.
الأمير الحضاري
هذا الرّجل الذي روى لي هذه الحكاية الدّامية عن عدالتهم الفظّة، جلس بعد ساعة في بستانه، وعلى ركبتيه طفلان يتجاذبان عباءته. كان أحد الخدم قد تسلّق شجرة توت، وملأ بثمارها وعاء فِضّيّاً، وكان حسين باشا يلقّم الطفلين قوتاً من ذلك الوعاء، كان على إحدى ركبتيه ابنته الصغيرة، وعلى الأخرى طفل زنجيّ، هو ابن خادمه.
لقد ملأ فَمَيهما المُتَلهّفَين من غير تمييز، ومَسَح وجهيْهما المُلَطّخين بطرف ردائه. ولمّا رجَعنا من البستان بعد غروب الشّمس، كانت الطّفلة نائمة على ذراعيّ كاتي، والطّفل الأسود جاثماً على كتف حسين باشا.