ربيع جابر في روايته الأخيرة «دروز بلــغراد»
استحضار روائي من عــتمة التاريخ
غسلوا رأسه ورقبته ويديه وما استطاعوا من بدنه بقميص مبلولة. اصطفّوا واقفين كأنّهم في جنازةٍ فوق الأرض وأدّوا الواجب. عزّوا قريبَه وشدّوا على يده واحدًا واحدًا
“دروز بلغراد” هي رواية العام 2011 في سجلّ الرّوائي ربيع جابر، الذي أصدر في عشرين عاماً سبع عشرة رواية وفقاً للائحة مؤلّفاته الأخيرة. روايته الأولى “سيِّد العتمة” نالت في عام 1992 جائزة مجلَّة “الناقد” للرواية، حيث رأت فيها لجنةُ التّحكيم “جنساً أدبيّاً يسعى لتعزيز شخصيّته الخاصَّة”، حكى فيها أجواء قرية لبنانيَّة في العهد العثماني، وما تبقّى في الذاكرة من آثار “الجوع المذِلّ والعاطفة المتأجِّجة والتّصدّي للقهر”.
الروايات الست التي تلت باكورته المنشورة، بدَت كأنّها إيغالٌ في وضع النّزعة الطبيعيَّة للسّرد لديه فوقَ سكَّة نهجٍ حكائيّ ليغذّي “شخصيّته الخاصَّة” عبر استِبار الإمكان الرّوائيّ لوقائع لافتة ومغريَة ومثيرة لشهيَّة الكتابة القصصيَّة التي ينجذبُ نحو اكتمالها كفراشةِ النار. هكذا، هامَت في رواق الرّوائيّ الشاب أطياف شتّى. الشاب السّارب وسط رماد المدينة (شاي أسود، 1995)، المخرج مارون بغدادي الذي هوى في حجرة مصعد مظلم (البيت الأخير، 1996)، الأستاذ الجامعي المنتحر صاحب التحليل النفسي لعاشوراء (رالف رزق الله في المرآة، 1997) وفراشات وأمير وسحَرة وذرائع للخروج من فجوةِ اصطراع بين يقين التصديق بوهميَّة العالم، وشغف ابتداع النّص كأنّه هوَ عين الواقع.
بدايات
وُلد جابر عام 1972 في “مستشفى صغير محتهُ سنوات الحرب عن وجه الأرض”، إذ كان في جوار المتحف الوطني، أي على خطّ التماس منذ عام 1975 واندلاع حروب لبنان. أمضى سنوات اليفاع في الجبل “بين المدارس والملاجئ، وبين الملاعب والحقول وأخبار الاقتحامات والنّزهة إلى خطّ الجبهة حيث المتاريس ومرابض المدفعيَّة”. وفي عام 1989 قصد بيروت لدراسة الفيزياء، لكنّ مساراً آخـر كان في انتظار روحِه في الجامعة الأميركيَّة بعد “اكتشافه”، كما يقول، لـ”كنوز مكتبة يافث”، حيث دلفَ الطالبُ المسكون بهوس القراءة إلى “قبو تحت الأرض غائصاً في أرشيف الجرايد العثمانيَّة”. ويعبِّرُ جابر عن حالته آنذاك قائلاً: “من عام 1992 إلى 1995 عشتُ في القرن التاسع عشر… كنتُ أخرجُ من غرفة الميكروفيلم المظلمة إلى شوارع القرن العشرين المضاءة بالكهرباء فقط كي آخذ حاجتي اليوميَّة من الماء والهواء النقي والطعام”. كان لأثر تلك القراءات، وما واكبها من تكوين الرؤى التاريخيّة للحكايات، نتائج حاسمة في مقاربة ربيع جابر لعمله الروائي الذي تراكم بوتيرةٍ لافتة: “تحوّلتُ إلى شخصٍ آخَـر. أعتقـدُ أن تلكَ كانت البداية الحقيقيّة”.
استحضار التاريخ
تبدّى ذلك التحوّل بشكلٍ جليّ في روايته “يوسف الانجليزي، 1999” التي سردَ فيها حكاية أسرة الشيخ ابراهيم خاطر جابر وأبنائه على خلفيّة تاريخيّة لجبل لبنان في القرنين السابع عشر والثامن عشر، برزت فيها عبر نسيج السرد آثار رؤية شبه أنثروبولوجيّة لعائلة درزيّة، ومحمول ذاكرةِ تعلُّق ثيوصوفي بالأرض ومعناها والدّفاع عنها. ثمّ التحوّلات المعبَّر عنها بالنتيجة التي آل إليها مصيرُ يوسف بن إبراهيم وركوبه البحر مغادراً إلى أوروبا.
تشبَّعَ الإيقاعُ السّرديّ، المتأصِّل عند ربيع جابر، بحسٍّ تاريخيّ دفعهُ الخيالُ دفعاً نحو التماهي الملتبس بين الماضي والحاضر. لذلك، كان قدرُ هذا الرّوائي الانخراط في عمق الخيال لقراءةِ واقعٍ تتطابقُ فيه صورُ القرون الماضيَة بواقع المدينةِ المعاصِر. وعبّر جابر بذاته عن “ماهيّة” ذلك “السّروب الكبير” قائلاً: “لا أسمع صوت بيروت القرن الحادي والعشرين. أحاول أن أضيع في متاهة الوقت. أن أسلك تلك الدروب غير المرئية التي تردّنا إلى الزمن البائد الذي لم نعرفه، ولكنّه حاضر موجود في أعماق الحجارة الباقية في مادة الخيال، في طبقات الطلاء المتراكمة على هذا الحائط، في المجلدات القديمة وفي الصكوك والحكايات.”
ذلك “الإصغاء العميق إلى مجرى الزمن” ولَّد ثلاثيَّة روائيّة عـن المدينة (بيروت مدينة العالم، 2003، 2005، 2007)، حيث تلقّـت مئات الصفحات مثل اندلاقٍ عارمٍ لمخزون هائل من الرؤى التي راكمها الهوَسُ المحموم في إعادة تكوين التاريخ “الخلفي” للمكان وأزمنته بقوّة الإمكان الروائيّ الزّاخر في ذات الكاتب الذي “لا يجيد فعل شيءٍ في حياته سوى كتابة الرّوايات لكي يتأكّد من هذه الحقيقة.”
جاءت روايةُ (الاعترافات، 2008) بعد ذلك كأنّها لتستكمل لوحة بانوراميَّة عن بيروت التي تجد خواتيمها في الزمن الراهن بمأساة الحروب المتناسلة بلا انقطاع. والذاكرة هنا مستباحَة لأطياف المتقاتلين الناهبين فرصة السقوط في الفجوة الهائلة التي تهاوى فيها البلد بعد أن “صيَّره الصّراعُ الدوليّ ما يُشبه قعر العالم”.
(أميركا، 2009) كانت رواية المهاجرين السوريّين إلى العالم الجديد عبر سرد حكاية “مرتا حداد” التي غادرت قرية بتاتر في جبل لبنان لتعبر المحيط وصولاً إلى “إليس آيلاند” بحثاً عن زوجها. لكنّ المسألة تمضي لتروي جانباً ممّا سمِّي “ملحمة الاغتراب” عبر الدخول إلى عالم الحيّ السوري المجاور لوول ستريت في بدايات القرن العشرين، والبدايات المتمثّلة ببيع السّلع بواسطة حمل “الكشّة” والتجوال الحثيث بحثًا عن مقوّمات العيش، والثراء المرتقَب.
دروز بلغراد
يُبنى النصّ الروائي في (دروز بلغراد – حكاية حنّا يعقوب، 2011) استناداً إلى حدَثٍ تاريخيّ وقع إثر “حركة الستّين” (القرن التاسع عشر) التي اجتاحَت بأحداثِها الدامية الأليمة جبل لبنان ووادي التيم ومناطق أخرى مجاورة، حيث سارعت الدول الكبرى آنذاك إلى تشكيل لجنة دوليّة مهمّتها السفر إلى بيروت وإعادة السلام إلى لبنان ودمشق. وقد حدّد “المجلس الدولي” في أولى جلساته التي عقدها يوم الجمعة 5 تشرين الأوّل 1860 في مقرّ المندوب الفرنسي في بيروت أهدافاً لتحقيقها، أوّلها: تقصّي مصدر وأسباب الحوادث التي كانت سوريا مسرحاً لها، وتحديد درجة مسؤوليّة قادة الفتنة ورجال السلطة، والعمل على إنزال العقاب بالمذنبين. أدّى هذا السّياق إلى إلقاء القبض على ألف ومئة وخمسين درزيّاً، تمّ إيداع القسم الأكبر منهُم في سجن المختارة، والباقي في “القشلة البيروتيّة”.
عُقدت الجلسة السادسة والعشرون في 21 آذار 1861، واختُــتم محضرُها بإشارة قيام مندوب السلطان بتسليم اللجنة الدولية لائحة بأسماء الدروز الذين نُـقلوا بناء على أوامره إلى طرابلس الغرب، حيث سيمضون في القلعة عقوبات السجن الصادرة بحقّ كلّ منهم، وقد تضمّنت اللائحة 247 اسماً. ويشير حسين غضبان أبو شقرا (الحركات في لبنان، وهو أحد مصادر ربيع جابر التي يدرجُها في نهاية روايته) إلى نفي هؤلاء “المحبوسين المتبقّين” إلى المنفى المعدّ لهم، موضحاً بأنه كان قد تمّ نفي عدد كبير من الدروز إلى بلغراد “وأكثرهم ممّن كانوا أودِعوا حبس بيروت” دون أن يغفل عن ذكر العديد من أسمائهم.
يشرح جابر في مقالةٍ له عنوانها “اختراع التاريخ… أو تأليفه” رؤيته الخاصّة للصلات المحبوكة بين التاريخ والخيال، يقول: “إنّ قراءة مدوّنات أبكاريوس الأرمني عن تلك الحقبة تطرح أمامنا مشهداً للعالم (لبيروت والجبل اللبناني بين عامي 1840 و1860) ليس هو ذاته المشهد الذي تصنعه مدوّنات أخرى، رسائل المبشّرين البروتستانت مثلاً، أو بعض المخطوطات الدّرزيّة. كلّ أثر من هذه الآثار يصنع صوَره الخاصة للعالم الواقعي، والقارئ يقرأ هذه الصوَر ويستخرج منها صورة تخصّه. هذه الصورة الأخيرة “المؤلَّفة” ليست الواقع. نستطيع أن نفترض أنها الواقع. إنها الحقيقة التي بلغناها بعد طول تنقيب. لكن هل هذه “الحقيقة” واقعيّة فعلاً؟ وهل نسمّيها تاريخًا؟”
الجواب عند ربيع جابر معروف: بل نسمّيها رواية. هكذا، يدخل الروائي مشهد ترحيل المنفيّـين الدروز من ميناء بيروت على متن البواخر العثمانيّة في ذلك الزمان، حاملاً معه فكرة إدخال عنصر ليعزِّز به أجواء السّرد، بل ليجعل منه العصب الروائيّ الذي يضفي على الحدَث التاريخيّ الواقعيّ بُعداً متعدِّد الدلالات.
بائع البيض حنا يعقوب، زوجته هيلانة وابنته بربارة التي لا تتجاوز السادسة، هو ذلك العنصر. خرج صباح ذلك اليوم من كنّه العائلي إلى عمله. كان العسكر العثماني يحصي المنفيّـين الذين نقصوا واحداً هو ابن الشيخ غفّار زين الدّين. وكان والده قد قصد الوالي متشفّعاً في أبنائه الخمسة المعتقلين والمحكوم عليهم بالنفي إلى بلغراد. أجابه الباشا بعد لقاء عصيب: “من أجل مكانتــك عند قومك، ومن أجل منزلتــك بين أقرانك المشايخ، ومن أجل أعوامك وشيبة شعرك سأعطيك ما أعطي… انتقِ واحداً من أولادك الخمسة وخذه معك من الزندان…”
هكذا، تمّ اقتياد حنّا المسيحي ليكون واحداً من المحكومين الدروز، منتحلاً غصباً عنه اسم سليمان غفّار عزّ الدّين.
مدخل السّرد هو سجن في “الجبل الأسود” (البلقان)، قيود الحديد، خبطات مرعبة من الخارج، خوار فظيع، تسلّل الموت، ظلام كامل ورطوبة ناخرة، صرير الأسنان وصليل السلاسل، إنه قبو عميق جدّاً، منسيّ، أسوأ من زريبة. حنّا وحيد بعد مرور السنوات الطّوال في هذا المنفى الرّاعب. يستعيد الراوي الحكاية من أوّلها عبر تقنية الفصول الإخباريّة التي كأنّها محطات الذّاكرة التي تُستحضر عبر عين مشهديّة مثل كاميرا دائرة في الزمن (flash-back). حنّا وسط “إخوته” المفتَرَضين في سجن “قلعة بلغراد” في أوّل سنوات النفي. لا يتردّد جابر أمام الإيغال في وصفِ اللحظات القاتمة التي ينوء تحت وطأتها المساجين المنفيّين بعيداً عن عوائلهِم وحقولهم وبلادهم التي باتت مثل حلم مستحيل. لكنّه يرصِّع هذه العتمة بحركةِ علاقاتٍ إنسانيّة دائرةٍ بين القوم أنفسهم (الدروز) في جانب، وبين الأخوة عزّ الدّين وحنّا المُسمّى سليمان في جانبٍ آخَر.
هذا التلازم بين القسوة الرّاعبة لظروفٍ عصيبة (جحيميّة)، وبين التماعات الموقف الإنساني الذي لا يزحزحه الألم الهائل قيد أنملة عن طبائعه الرّاسخة، هو ميزة روائيّة راسخة في “دروز بلغراد”. حنّا الممدّد بين “الأجسام الراقدة التي تغطي الأرض” في ظلام حالك لا يتبدّى فيه النور إلا بشكل “سراب شعاع من قنديل أو شمعة في طرف الدهليز”، يستيقظُ على طرقاتٍ غريبة، قبل أن يدركَ أنّ أحدهُم يقرعُ الحائط بجمجمته بعد أن سمع صرخات وأنيناً، “تسلّق رفاقه الظلام” محاولين الوصول إليه. كان واحداً منهُم: “أريد أن أموت. اتركوني”. لم يتركه أحد. أصغوا إلى أنينه حتّى لفظ أنفاسه. لكنّ السّرد، يلتقطُ هذِه اللحظة الحزينة، ليصوِّر تقليداً راسخاً عند الدروز: “غسلوا رأسه ورقبته ويديه وما استطاعوا من بدنه بقميص مبلولة. اصطفّوا واقفين كأنّهم في جنازةٍ فوق الأرض وأدّوا الواجب. عزّوا قريبَه وشدّوا على يده واحداً واحداً. كانت الحركة صعبة واستغرق العزاء زمناً لكنّهم فعلوا ذلك بطيبة خاطر… كانت الإيماءات ضائعة في الظلام ومع هذا كرّروا الطقوس كاملة كأنّهم في دار فسيحة عذبة الهواء تحت شمس الجبل وراء البحر.”
تتخلَّلُ هذا المدى الإنساني الحبيس مناسبات يخرجُ فيها السجناء إلى فسحةِ الطبيعة لإنجاز أعمال السّخرة، أوّلها قطاف الثمار من بساتين نازلي هانم بأوامر الباشا، وحفر أقنية ريّ، إصلاح حيطان جلول متهدّمة. هكذا، أتيح لهم الخروج يوميّاً من قبور الظلام إلى “جنّة على الدانوب”. بقوا رجالاً كأنّ شقاء المحنة لم يفعل إلاَّ أن يصهرَ أفئدتَهُم في معادنها الأصيلة. “قطفوا الكرمَ كأنّه كرم أبيهم… تجنّبوا النّظر إلى القاطفات الموزّعات في الكروم المجاورة… لم يُرَ واحد منهُم يأكل بالسّرقة ولو حبّة تين.” ويشير جابر مراراً إلى أصحاب “الطاقيات البيضاء القطن” الذين هم على الدّوام “العمود الفقري” لكلّ ورشة.
يتشابك في نسيج الرّواية تطوّر خفيّ، ولكن عميق وحقيقي، لعلاقةٍ ملتبسة غامضة بين أبناء الشيخ غفّار وحنّا يعقوب. في كلّ المراحل الخطرة من ذلك النّفي الرّهيب، كان الأخوة يحيطون حنّا بعين رعايتهم. من الشكّ والخوف إلى شعور الأمان، بل إلى الألفة الإنسانيّة التي تلمعُ كالضوء الشافي في ليل الظلم الدامس. قاسم، الذي بدا منذ البداية ممتعضاً من حنّا، بل ومتباعداً عنه على نفور، انتهى به الأمرُ، في رحلةِ سيرٍ طويلة شاقّة للانتقال إلى سجنٍ آخر بعد قصف الحدود، أن “حمله كالخروف على كتفه” مسافات طويلة لينقذه من موتٍ محقَّق.
لا يتكلَّف ربيع جابر في شيءٍ من إيقاع سردِه المتواصل أبداً، لكي يستثمرَ حركة هذه العلاقة ليفصحَ عن مثــلِ دروس في التعايش وعبثيّة الحروب. لكنّ الأسئلة تمثـل تلقائياً أمام القارئ من دون تدخّل في نصّ الرواية، إذ أنّ الحقيقة تتبدّى ساطعةً فوق أجواء هذا العذاب المذهل والقدَر الطاحِن: العلاقة الإنسانيّة سامية وراسخة وجوهــريَّة، أنقى من كلِّ الأحقاد، وأبقى للمرء من كلّ صراعٍ عقيم.
ربيع جابر روائي يقيم الصّلة بين الحياة عينها، بأبعادها الثلاثة، وبين إدمانه الكاسح للسرد الروائي. رواياته كلّها مثل مجرى نهر ضابطٍ إيقاعه في حاضره، وفي أصداء تاريخه المتراكم. الضفافُ بلا نهاية حدودُه. والزّمنُ لا يستحمّ في دفقات مائه مرّتين.