الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

إنحرافُ الأحداث وممارسة العنف

إنّ إنحراف الأطفال أو الأحداث، بات من المشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيداً التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.

وهذا ما تؤكده الإحصاءات الرسمية حول التصاعد المستمر في نسبة جنوح الأحداث التي تزيد عن النسبة في زيادة عدد السكان، كما هو الحال في معظم بلدان العالم، ومنها لبنان.

سنتناول هذه الظاهرة في لبنان بعد التعريف بها وتناول أسبابها وأنواعها. ومن ثم نستعرض التشريعات الدولية واللبنانية المختصة بها.

تعريف الانحراف

تميل النظريات الاجتماعية إلى اعتبار الانحراف سيرورة سوسيو ثقافية ملازمة لكل مجتمع بشري كما يرى سيزرلاند…(١) ويرى جيفري أن سبب إنحراف السلوك لدى الفرد يعود إلى عدم تكيّفه اجتماعياً (٢). أما الفكرة الأساسية في الاتجاه النفسي فهي أن السلوك الاجتماعي لدى المنحرف ليس عارضاً، فلا بد أن يكون سمة واتجاهاً نفسياً واجتماعياً يميز شخصية الحدث، ويستند إليه في التفاعل مع أغلب المواقف، وإلا كان السلوك سطحياً عارضاً يزول بزوال أسبابه الناشئة عن عوامل إقتصادية أو صحية أو حضارية أو ثقافية (٣).

فالجانح ليس هو الطفل الذي اقترف حادثة سرقة واحدة، أو فعلاً لا-اجتماعياً عارضاً، لأن ذلك ليس دليلاً على توجه عام لدى الطفل نحو السلوك المنحرف. لذلك لا بد من دراسة حالة الطفل في ضوء تاريخ حياته، وسماته الشخصية حتى نستطيع تحديد مظاهر الجنوح (٤).

أسباب الانحراف أو أسباب تكوين الشخصية العنفية عند الأطفال

يظهر عادة سوء التكيف الاجتماعي للطفل مبكراً. فبعد سنوات معدودة من دراسة فاشلة إجمالاً، وفي حالة من إنعدام الدافع، يميل الحدث إلى الهروب من المدرسة بشكل عابر في البداية. ثم ينساق في ذلك لإغراءات متعددة لا تخلو منها حياة أي طفل. يذهب إلى البحر أو إلى المدينة أو إلى أحد أماكن عبث الأطفال المشردين، أو يهرب ويهيم على وجهه في أماكن اللهو. تتميز تجربته العائلية والمدرسية في كل الحالات بالمعاناة. تنتابه مشاعر غامضة بانعدام الارتياح ويحس بشيء من الغربة أو التباعد عن الأهل وعن المدرسة. وقد يجد نفسه مدفوعاً بقوى خفية نحو ترك المدرسة والبيت.

في نظر ديبويست هناك ثلاثة مسالك أساسية تؤدي إلى الانحراف (٥) وهي: الطفل المحروم، والطفل المدلل، والطفل المتماهي بمعايير جانحة. إلا أن النهاية واحدة في كل الحالات رغم أن المسالك إليها تختلف من حالة لأخرى.

الطفل المحروم:
يتجه نحو الانحراف على الشكل التالي:

  • حرمان لا مبرر له وغير عادل (إهمال، نبذ، قسوة، نقص في عاطفة الحب عند الأهل).
  • رد فعل دفاعي حيوي ضد القلق الناتج عن ذلك الحرمان.
  • صراع خطير ومتكرر مع المحيط يؤدي إلى مأساة داخلية وتذبذب ما بين الانسياق وراء الإشباع التعويضي من خلال اللذة الآنية وبين التكيف.
  • ينتهي الصراع في اتجاه المعارضة والعداء للمجتمع والتمرد عليه مع إنسياق وراء إشباع الشهوات بشكل مباشر.

الطفل المدلّل:
يأخذ منحى انحرافي وفق السياق التالي:

  • قصور في تعلم معنى الجهد، وشخصية لم تعرف سوى الإشباع المباشر لرغباتها.
  • الإصطدام بمتطلبات وقيود المجتمع يؤدي إلى قلق شديد وشعور بالغبن وعدم القدرة على التلاؤم مع هذه المتطلبات بالتخلي عن مبدأ اللذة.
  • صراعات خطيرة ومكررة مع المجتمع وسلطانه يؤدي إلى تكوين شخصية جانح يتوجه نحو النمط المنحرف.

في هذين النموذجين، يتعاطى المنحرف مع الآخرين بحذر، وكأنهم أعداء، فضلاً عن إحساسه بالمرارة تجاه غبن المجتمع المزعوم.

التماهي بمعايير جانحة:
لا يعطِ ديبويست لهذا النموذج وزناً كبيراً، إذ يعتبر ان التماهي الجانح لا يفسر لوحده التوجه نحو الانحراف بل لا بد من إدخال البعد النفسي. فالجانح من هؤلاء يمر بمرحلة صراع مع المجتمع الذي يتعارض سلوكه مع معاييره. واستمراره بانحرافه هو نتيجة تطور نفسي داخلي ترسّخ تماهيه بالقيم الجانحة.

تفهّم الأحداث أمرٌ ضرور

إن تفسير ظاهرة الانحراف في أسبابها ليست بالمهمة السهلة أو البديهية. فقد سعى علماء في اختصاصات عدة (علم الإجرام، علم الاجتماع وعلم النفس…) تفسير وتحديد هذه الظاهرة. تعود أولى الدراسات العلمية المتعلقة بشخص المجرم إلى القرن السابع عشر. ولكن النظرية العلمية الأولى لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر وعرفت بنظرية لومبروزو.

وقد نشر العالم الإيطالي سيزار لومبروزو، بروفسور في مجال الطب الشرعي في كلية توران، أبحاثاً عديدة حول شخص المجرم إذ اعتبره امتداداً للإنسان البدائي. ويتم التعرف إليه عبر ندب تشريحية وعلامات تشكلية وبيولوجية واضطرابات وظيفية. كما يمكن كشف المجرم من خلال ضيق جبينه وطول عظام فكه وبروز وجنتيه (٦). وفي أيامه الأخيرة، حاول لومبروزو أن يثبت الصلة بين داء النقطة والانحراف. أما تلميذه أنريكوفرّي، فقد إستوحى من تعاليمه لتصنيف المجرمين. وبهذه الطريقة، اعتبر أن المجرمين المتخلفين يتصرفون تحت تأثير مرض عقلي، في حين يتميز المجرمون بالولادة بخصائص نفسية خاصة (فقدان للحس الأخلاقي والغفلة والابتذال). ويصبح المجرمون الذين إعتادوا الإجرام إنتكاسيين محنًكين. ويصبح المجرمون بدافع الشغف أشخاصاً عصبيين يتصرفون خاصة نتيجة الحب والغيرة وعدم حصولهم على ما يبتغونه. وكما يمكننا الملاحظة، إن تصنيف فيًري يبقى خاضعاً لنظرية لومبروزو المستندة على الوراثة الجرمية.

إلّا أنّ علم الإجرام انتقل تدريجياً من نظرية «المجرم بالولادة»، إلى نظرية المنحرف بنيوياً أي إلى نظرية الشخصية السيكوباتية، وهذا بفضل الأطباء الذين شددّوا على الدور الذي يلعبه الطب النفسي في تفسير الجرم. وحصل ذلك، خلال مرحلة زمنية كان لفرويد تأثيراً كبيراً فيها.

وهذا ما ساهم في اعتماد القانون الجزائي على الطب النفسي من أجل تحديد ما إذا كان مرتكب الجرم قد تصرف تحت تأثير حالة من الجنون، وبالتالي قد يستطيع الاستفادة، عند صدور الحكم، من أسباب تخفيفية. إضافة إلى ذلك، نشأ مفهوم خطورة هؤلاء الأشخاص وضرورة إستحداث مصحّات خاصة بالمجرمين المختلّين.

لقد حاول أيضاً أنريكو فيرّي الجمع بين التيارات التي تعطي الأولوية في علم الإجرام للعناصر الاجتماعية والأخرى التي تجعل من الإجرام نتيجة لعناصر فيزيولوجية وسيكولوجية. ودون تجاهل أهمية العناصر الاجتماعية، فقد لفت فيرّي النظر إلى أن ليس كل الأشخاص الذين يخضعون لتأثيرات معينة يقدمون على تصرفات جانحة، وبالتالي فإن في كل عمل جانح تأثير للحتمية النفسية للإنسان والبيئة التي تطور فيها. ويعود الفضل للإيطالي بنينيودي تيليو في التأكيد أن الجريمة هي تعبير عن عدم تكيّف اجتماعي، مستبعداً نظرية الوراثة الجرمية، بل معترفاً بوجود ميول جرمية لدى بعض الأشخاص ذوي استعداد لارتكاب الجرائم. وتكمن الصعوبة في القدرة على الإحاطة بأصحاب القابلية الجرمية مع الإشارة إلى أن الاكتشاف المبكر لهم يجعل من الوقاية حجر الأساس في الأنظمة الردعية (٧).

وتجدر الاشارة الى أن نظرية لومبروزو وفيرّي الوضعية، التي هدفت إلى حماية المجتمع أكثر من الاهتمام بالمنحرف، تجاوزها الزمن اليوم. فلومروزو لم يتمكن من إقناع كثيرين على المدى البعيد بنظرية «المجرم منذ الولادة». ولقد لقيت نظريته إنتقادات لاذعة من عدة علماء في الجريمة وخبراء في علم الإنسان، منهم الفرنسي ليونس مانوفريه، عالم بالإجرام، الذي نقد المقاربات الفيزيولوجية للجريمة، كما أسقط كافة التحاليل المنطلقة من علم الأمراض، وخلص إلى أن السلوك غير المستقيم والمنافي للآداب، إنما هو نتيجة عوامل خارجية دافعة إلى الانحراف، كتربية معيبة وناقصة، وظروف مفسدة. واعتبر نظرية لومبروزو «نظرية متخلفة» غير مبرهنة علمياً ومن الصعب برهنتها (٨). وهكذا، تبقى العوصامل الاجتماعية من أهم العوامل الدافعة إلى الانحراف، علماً أن ليس هناك من سبب أوحد لانحراف الأحداث بل هو نتيجة لتشابك عدة عناصر اجتماعية عائلية ونفسية وربما شخصية من هذه العناصر (٩).

الأسرة هي العامل الأول في عملية الاندماج الاجتماعي، كما يمكن أن تكون العامل الأهم في دفع القاصر أو حتى حثه على سلوك طريق الانحراف. في هذا السياق لقد حدد West and Farrington خمسة عناصر تنبئ بالانحراف، غالبيتها متعلقة بأوضاع العائلة الاجتماعية:

  • كثرة عدد أفراد العائلة الواحدة.
  • انحراف أحد الوالدين أو الأخوة الكبار.
  • جهل للأساليب التربوية.
  • تدني دخل العائلة.
  • ضعف حاصل الذكاء لدى القاصر المقصود.
العوامل العائلية

إن المشاكل العائلية التي يعاني منها الأحداث المنحرفين، تدور بشكل خاص حول أربعة محاور:

الطريقة التي تمارس بها السلطة داخل العائلة:

  • بعد الوالدين عن أولادهم وضعفهم تجاههم، يؤدي إلى خضوعهم لنزوات هؤلاء الأولاد بغية تجنب المشادات والمشاكل معهم.
  • اعتماد الوالدين مبادئ أخلاقية مختلفة متضاربة مع تلك المعتمدة في المجتمع بصورة عامة.
  • قيام الوالدين بتحديد المبادئ والقوانين الأخلاقية بطريقة صحيحة وعدم تطبيقها في حياتهم اليومية مع أولادهم الذين يعيشون في ضياع، بسبب هذا التناقض بين القول والفعل.
  • تعسّف الوالدين في استعمال السلطة: سوء المعاملة والضغوط النفسية والجسدية على أولادهم.

طبيعة الحنان والعطف المؤمنان من قبل الوالدين:

تنبّه الوالدين وحنانهم تجاه أولادهم هما عنصران أساسيان في بناء الثقة والقدرة على المبادرة وكذلك الاستقلال الداخلي. إن القصور العاطفي قد يؤدي إلى خلل في شخصية القاصر وربما إلى انحرافه. وقد يكون لهذا القصور عدة أوجه: القصور العاطفي المتواصل في سن مبكرة، الرفض العاطفي الخطير تجاه الأولاد، والعلاقات العاطفية غير المرضية.

الرابطة الأسرية أو العائلية

إن تفكك الأسرة أو انفصال القاصر عنها يؤثران على توازنه. وهذا ما يحصل عند غياب أحد الوالدين بسبب الموت أو السفر أو الطلاق، أو تعدد الزيجات، أو تمزّق العائلة خاصة في مرحلة المراهقة.

الديناميكية العائلية وسياق التماثل

تكمن المشكلة هنا في تضارب الأدوار داخل العائلة (دور الولد، الوالدة، علاقة الزوجين، الأولاد، الأخوة والأخوات)، سيما إذا كانت طبيعة العلاقات َمَرضية. وهذا التضارب في الأدوار يتجلى عبر المشاكل التالية: غياب الصورة الإيجابية التي يمكن للقاصر التماثل بها، تماثل القاصر بصورة سلبية تجسد الانحراف، تماثل القاصر بصورة مرفوضة وغير محترمة من قبل أحد الوالدين. وقد تكون هذه الصورة تمثّل أحدهما، اعتماد القاصر تصرف من شأنه لفت الأنظار والتميز عن أشقائه. كما يمكن للقاصر أن يكون أيضاً كبش المحرقة، تعتبره العائلة مسؤولاً عن كل المشاكل التي تصادفها مع العلم أن المشكلة الأساسية هي وضع العائلة المَرَضي.

من الملاحظ أنه كل ما ازدادت تلك المشاكل ضمن العائلة، كلما دفعت بأفرادها نحو الانحراف. ومع التغيرات التي تمر بها العائلات التي أعيد تكوينها، تكثر التساؤلات حول مدى تأثير هذه العوامل الجديدة على العائلة وأفرادها، ناهيك عن الضائقة الاقتصادية التي تزيد من الضغوط وتبعد المسافات بين أفراد البيت الواحد.

ورغم ذلك، إن عدداً من الشبّان المنتمين إلى عائلات دافعة إلى الانحراف، استطاعوا التغلب على هذه الظاهرة، لا بل تمكنوا من أخذ العبر والاستفادة من الخبرات السيئة التي عاشوها، كونهم يتحلون بقدرة على التكيف، فأصبحوا كالحصن المنيع أمام تلك الصعوبات التي تكون عادة فتاكة.

ومن الأمثلة اللبنانية عن دور المشاكل داخل الأسرة، في دفع الأطفال أو الأحداث الى الانحراف نورد هنا تجربة أحد الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»:

المدرسة

تعتبر المدرسة العامل الثاني الأهم بعد الأسرة في عملية الاندماج الاجتماعي، فهي تلقن القاصر مجموعة من القواعد، وتقترح عليه نماذج ومثل من شأنها دفعه نحو حياة اجتماعية مستقرة ومنسجمة. كما أنها تساهم في تطور القاصر من الناحية الفكرية والعاطفية والاجتماعية وتحضره لمواجهة المستقبل.

كما أن العملية التربوية مبنية على التفاعل الدائم والمتبادل بين الطلاب ومدرسيهم. حيث أن سلوك الواحد يؤثر على الآخر (الطالب يتماثل عادة بالمدرس) وكلاهما يتأثران بالخلفية البيئية، أي الإطار العام للمجتمع والمدرسة. كما أن للأهل دورهم أيضاً، فالمشاكل المدرسية مرتبطة عامة بمشاكل عائلية.
إن العوامل التي قد تدفع بالقاصر خارج المدرسة والتي قد تحثه نحو طريق الانحراف تتوزع على ثلاث محاور:

الإطار العام للمدرسة: عدم احترام التلميذ، وعدم الاستجابة لحاجة الفهم والمعرفة والنقاش وإبداء الرأي في عدة أمور.

علاقة المدرّس بالتلميذ: إذا كانت مرتكزة على إحاطات وكبت وقمع التلميذ.

علاقة الأهل بالمدرسة: إن معظم ذوي الأحداث الذين يعانون من مشاكل مدرسية، يعترضون على أداء المدرسة من خلال انتقادهم لأنظمتها وبرامجها، أو عبر عدم مراقبة حضور أولادهم إلى المدرسة، أو حتى من خلال عدم مبالاتهم بما يجري في المدرسة عامة.

فإذا لم يكن هناك تناغم وتفاهم وحوار بين المدرسة والمدرس والأهل والتلميذ قد يواجه هذا الأخير عدة مشاكل منها:

  • عدم التكيف المدرسي: نعتبر أن القاصر يعاني من مشكلة عدم التكيف المدرسي عندما يتعرض لرسوب متكرر، أو عندما يكون غير مكترث لفروضه المدرسية.
  • التسرب المدرسي: أي عدم الالتحاق بالمدرسة يومياً. وهذا يعني بالطبع غياب الرقابة من قبل الأهل والمدرسة على السواء.
  • عدم الانضباط: وتترجم هذه المشكلة المسلكية المقلقة بتصرفات من قبل التلميذ كمضايقة الصف والمعلم عن قصد، وكثرة الحركة والميل إلى الشغب، واعتماد الغش في الامتحان، وإظهار نزعة إلى الهدم والتخريب.

وهذا النوع من السلوك لدى الطالب ينبئ بإمكانية سلوكه طريق الانحراف. وتلعب المدرسة دوراً كبيراً ومهماً في هذا الخيار عبر طريقة معالجتها لهذه المشاكل المسلكية التي يعاني منها التلميذ. ففي معظم الأحيان تعمل المدرسة على عزل هؤلاء التلامذة أو طردهم، مما يسرع في قرار تخليّهم عن الحياة المدرسية وما تمثله من علم وانضباط واندماج اجتماعي.

تعتبر المدرسة العامل الثاني الأهم بعد الأسرة في عملية الاندماج الاجتماعي
الرِّفقة

إن العيش ضمن مجموعات يمثل عاملا مهماً في التطور الطبيعي للمراهق. فمنذ دخول الطفل إلى المدرسة، يصبح للرفاق دور مهم في حياته. في البداية يبقى تأثير الأهل على ولدهم أقوى من تأثير الرفاق. ولكنه يخف تدريجياً عند بداية سن المراهقة حيث تنقلب المعايير ويصبح الأهل والمدرسون في الدرجة الثانية.

فبالنسبة إلى المراهق تمثل المجموعة حقل اختبارات بعيداً عن أنظار الراشدين يسعى من خلالها إلى بناء الهوية التي سيعتمدها في المستقبل. فمجموعة الرفاق تؤمن له الدعم العاطفي كما تسمح له ببناء علاقات مع الجنس الآخر، وتدعمه في حال جابه أي مشاكل مع السلطة الوالدية أو مع أي راشد آخر. فتصبح هذه المجموعة مكاناً يتعلم المراهق عبره قواعد الحياة في المجتمع الأوسع. وإذا كانت الرفقة من رفاق السوء، أو إذا تعدت كونها مجموعة من الرفاق وانتقلت لتصبح عصابة، تلعب دوراً مهماً في دفعه الى الانحراف. فللرفاق أهمية كبيرة بالنسبة إلى المراهق فعبرها تنقل قواعد الحياة في المجتمع الأوسع.

والعصابة هي مجموعة من المراهقين، يترأسها أحدهم وتقسم الأدوار على الباقين وفق شخصياتهم ويعتمدون طقوساً وعادات خاصة بهم قد تكون غامضة وتدعو للريبة. تنشأ العصابة في المدرسة أو في الشارع، وتنحصر أعمالها في معظم الأحيان بالإيذاء والسرقة والدعارة وتعاطي الممنوعات والمتاجرة بها. وتجدر الإشارة إلى أن المراهق الذي قرر الانتماء إلى عصابة ما، لم يكن بالضرورة مقيد القرار أو مسلوب الإرادة، بل فعل ذلك رغبة منه بالانتماء إلى المجموعة، فيقبل بها ويقوى بها.

إن هذه الظاهرة تبقى قليلة الانتشار في لبنان، مع العلم أنه واستناداً إلى إحصاءات مصلحة الأبحاث في وزارة العدل، عام 2001، نلاحظ تزايد السرقات ضمن مجموعات من المراهقين. ورغم أن تلك المجموعات تبدو غير منظمة، وبالتالي لا يمكن وصفها بعد بالعصابات، ولكن قد يكون من الضروري العمل على استيعابها والإحاطة بها قبل أن تتبلور أكثر، خاصة وأن ارتكاب أعمال السوء ضمن عصابة، يقدم للقاصر الدعم النفسي والتقنيات الأوسع والتخطيط، كما يسمح له بزيادة أرباحه المالية والتغلب على خوفه وشعوره بالذنب لمخالفة القوانين.

عمل الأطفال

إهتمت الاتفاقيات الدولية بقضية عمل الأطفال وتحديد القواعد التي تنظم هذا العمل لناحية العمر وفقاً لطبيعة وخطورة هذه الأعمال. كما اهتمت بالبعد الاجتماعي والتربوي للطفل. وظلت ظاهرة عمل الأطفال تحظى باهتمام كبير تضاعف في العقدين الأخيرين، نظراً لأبعادها الاجتماعية والإنسانية، التي بدأت تثير القلق، خاصة في البلدان النامية.

ظاهرة عمل الأطفال تحظى باهتمام كبير تضاعف في العقدين الأخيرين، نظراً لأبعادها الاجتماعية والإنسانية، التي بدأت تثير القلق، خاصة في البلدان النامية

أما لبنان الذي وقع على اتفاقية حقوق الطفل في 18 تشرين الثاني 1991، فقد سعى إلى التوفيق في تشريعاته ذات العلاقة بالأطفال مع أحكام تلك الاتفاقية، وما
سبقها من اتفاقيات عالمية ذات علاقة بالطفل، وخاصة في مجالات العمل. وبما أن تلك الاتفاقيات تفرض تعيين حدود دنيا لتشغيل الأطفال، عدل لبنان قانون العمل المتعلق بتشغيل الأطفال بتاريخ 24/7/1996، وذلك برفع سن التشغيل بوجه عام من ثماني سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، ومن اثنتي عشرة سنة إلى
خمسة عشر سنة عند ممارسة بعض الأعمال المرهقة.

كما حاول المشترع اللبناني حماية الطفل العامل، فحدد أنواع الأعمال التي يسمح له ممارستها، كما الزم أرباب العمل الذين يرغبون باستخدامه بشروط عدة متعلقة بظروف وساعات العمل، التي من المفترض ألا تتعدى الست ساعات يومياً، يتخللها ساعة للراحة على الأقل.

إن هذا القانون الذي حاول تأمين الحماية اللازمة للأطفال العاملين، بقي غير معمول به في معظم الأحيان، لعدم مراقبة تطبيقه. فلا زلنا حتى اليوم نصادف أطفالاً لا يتعدى سنهم التسع أو العشر سنوات يعملون لساعات طويلة. وتكمن الخطورة في أن عمل الأطفال المبكر يؤدي إلى حرمان الطفل من أحد الحقوق الأساسية وعلى وجه التحديد، حق الطفل في التعليم وحقه في مستوى معيشي ملائم. وكون عمل الأطفال يتسم عامة بعدم الاستقرار، فهم معرضون للتشرد والعيش في الشارع، وربما سلوك الطرق الملتوية كالانحراف وغيره.

العوامل الاقتصادية

يشكل الفقر دافعاً أساسياً الى الانحراف والإجرام، مع التذكير أن هذه الظاهرة ليست غائبة تماماً عن الأوساط الاجتماعية الميسورة. ومن العوامل الاقتصادية التي تساهم في نشؤ ظاهرة الانحراف:

إخفاض مستويات الدخل الفردي: ويُمكن أن ينعكس بصورة مباشرة على سلوك رب الأسرة وبصورة غير مباشرة على سلوك الأبناء ذاتهم. فقد يلجأون، في سن الطفولة والمراهقة، إلى تعويض ما يشعرون به من نقص في تلبية حاجاتهم، بطرق غير مشروعة.

إحساس الشباب بمستقبل مجهول: وحُجتهم في ذلك تدور حول ضآلة الدخل حتى بعد إتمام تعليمهم في أعلى مراحله. ومما لا شك فيه إن هذا الإحساس ينعكس على نفوس هؤلاء يأساً وإحباطاً، وربما يسهل لهم طريق الانحراف والجريمة كبديل مغر يوصلهم إلى ما يطمحون إليه بصورة أسرع.

البطالة: تلعب دوراً في دفع الإنسان نحو الانحراف سواء نتيجة للفراغ وللشعور وبالنقص الذي تولده عنده، ولعدم تمكنه من تأمين استقلاليته وحاجاته الأساسية، مما يؤدي إلى إمكانية انزلاقه في هاوية الإدمان على المسكرات، وكافة أنواع المخدرات، وربما يسعى إلى السرقة أو إلى جرائم أكبر لتأمين حاجاته من المخدرات أو حتى حاجاته الأساسية من مأكل وملبس وغير ذلك.

ومن الأمثلة اللبنانية حول دور العوامل الاقتصادية في دفع الأطفال الى الانحراف، نورد حادثتين أوردتهما الصحف اللبنانية، ولطالما قرأنا في الصحف والمجلات عن عصابات يقودها أحداث، وحتى فتيات صغيرات السن نسبياً، جرى رميهم منذ الصغر في الشارع. وهكذا إضطرت والدتي لإعالة أربع فتيات «كنت كبيرتهن» فكانت المسكينة تقضي نهارها في تنظيف المنازل والشركات. وخلال تلك الفترة العصيبة جاءتني إلى المنزل سيّدة تسكن في الحي. وعرضت على والدتي تأمين عمل لي لمساعدتها في إعالة العائلة وأخبرتها أن طبيعة العمل هي في منطقة… عند عائلة محترمة ومرموقة… تلك السيدة أدخلتني، بالحيلة والمسايرة وبالمال، إلى عالم الشرور وأنا في الرابعة عشرة من عمري… وتم القبض عليّ وأنا متلبسة بتهمة الانحراف الخلقي، إنني اليوم أعيش أتعس لحظات حياتي…»(١١).

وهكذا، تقع العوامل الفردية للإجرام، في ثلاثة أنواع(١٢): العوامل المرضية العقلية التي تتمثل بالتخلف العقلي (Les arriérations mentales)، الأمراض العقلية العضوية التي تتمثل بالجنون (La démence)، الأمراض العقلية الوظيفية التي تعود لأسباب نفسية منها: مرض الذهان أو اختلال الوظائف العقلية، والعصاب، والخلل السيكوباتي.

إن هذه الأسباب تساهم في تكوين شخصية عنيفة لدى الطفل. من خلال دراسة أجرتها مديرية قوى الأمن الداخلي، في معهد قوى الأمن الداخلي، حول العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة ـ مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة، نستخلص ملامح شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية في لبنان على الشكل التالي(١٣):

الخمول: كثيراً ما نلاحظ هذا السلوك عند الحدث المخالف للقوانين الجزائية، والذي يعيش في فراغ كبير، ويصعب عليه تنفيذ أي قرار يتخذه. فهو غير مبال وغير قادر على أخذ المبادرة أو القرار بل يخضع لما تفرضه عليه الظروف.

عدم الاستقرار: تتميز شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية، بعدم الاستقرار من كافة النواحي: فهو عامة مزاجي، يصعب عليه الالتزام بعمل أو بنشاط ما. ويطال عدم الاستقرار هذا قدرته على التركيز، مما يفسّر بعض الشيء رعونته في الأعمال اليدوية، حيث كثيراً ما يخطئ.

العدوانية: تأتي مظاهر العدوانية لدى الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية مختلفة تبعاً لاختلاف شخصيتهم لناحية النشاط والحيوية. مع العلم أن لديهم طاقة باطنية أو غير معلنة من العدوانية تتجلى حسب المواقف. ويعبر الأحداث المخالفون للقوانين الجزائية عن عدوانيتهم تلك بطرق مختلفة، إما تجاه بعضهم البعض خاصة عند حصول مشاجرة، أو تجاه الفتيات. وقد تترجم العدوانية أيضاً بارتكاب السرقات وأعمال العنف تجاه الأشخاص الراشدين.

الانحراف مع الغرائز: إن هذا النوع من الطباع يميز الكثير من المراهقين، ويبدو مسيطراً في مجموعات الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية. فهم غير قادرين على السيطرة على غرائزهم وأهوائهم كونه لم يلقنهم أحد هذا التصرف. والراشدون المحيطون بهم غالباً ما يكونون هم أيضاً غير قادرين على السيطرة على ذواتهم فنلاحظ مثلاً أن القسم الأكبر من السرقات أو الهروب من المنزل يكون متسماً بعدم قدرة الحدث على السيطرة على نزواته وعلى أهوائه، فيندفع إلى تلك الأعمال دون تفكير.

حاجة الإشباع الفوري للرغبات: تأتي هذه الحاجة لتعزيز ما ذكر آنفا. فالأحداث المخالفون للقوانين الجزائية، لا يقبلون أن ترجئ رغباتهم وهي كثيرة. فبالنسبة إليهم قيمة الشيء لا تكمن في قيمته المادية بل بالأحرى بقوة رغبتهم بالحصول عليه، لا يعرفون الانتظار حتى ولو لم تتوفر لديهم القدرة الشرائية للحصول على مرادهم. كما أنهم يحتاجون إلى بلوغ النجاح بسرعة، ويتملكهم الإحباط أمام أول فشل كونهم يرفضون الفشل، مع العلم أن فرص النجاح لديهم وإمكانية تحقيق طموحاتهم ضئيلة قياساً على قدراتهم. إن الحاجة إلى بلوغ النجاح سريعاً تفسر ولو جزئياً عدم اندفاعهم نحو العمل (العمل وفق ما حدده القانون اللبناني في مجال عمل الأطفال)، فمن الصعب عليهم انتظار نهاية الأسبوع أو الشهر حتى يتقاضوا أتعابهم، وحتى ولو قرروا الرضوخ إلى هذا الأمر، فراتبهم المتدني عامة (كونهم في معظم الأحيان غير متخصصين) لن يكون كافياً لتحقيق تطلعاتهم الكبيرة.

عدم الاكتراث: لا يهتم الحدث المخالف للقوانين الجزائية إلا للأمور التي تعنيه مباشرة، فالسياسة والاقتصاد وما يدور في العالم والأمور الروحية ليست محطاً لاهتمامه كونها أمور تتطلب منه جهداً للبقاء على إطلاع دائم عبر متابعة الأخبار. فهو يفضل التهرب من الواقع عبر الغوص في عالم السينما الذي يقدم له عالم الخيال الذي يبتغيه دون أن يقوم بأي جهد يذكر.

الحاجة إلى الهروب: ذلك، حتى يتخطى الحدث الواقع ويتملص منه، كونه يعتبر أنه من الصعب أن يتعايش معه، يلجأ إلى الهروب عبر التسكع واحتساء الكحول والإدمان على المخدر وعلى أفلام السينما والتلفزيون… أي إلى كل ما يقدم له الفرصة للتفلّت من الواقع. فنراه مثلاً مسحوراً بالألعاب الأوتوماتكية والإلكترونية كالفليبرز والبايبي فوت والعاب الكمبيوتر. وحتى إن لم يملك المال للمشاركة بهذه الألعاب، فقد يمضي ساعات في أماكن اللهو يتأمل اللاعبين غافلاً عما يدور من حوله.

القلق: إن القلق الذي يسيطر على الحدث رغم محاولة طمسه والتستر عليه، يشكل أساساً لكل ما سبق وتكلمنا عنه من الطباع التي تميز الحدث المخالف للقوانين الجزائية. إن هذا القلق هو نتيجة للحرب النفسية التي يشنّها القاصر على ذاته بهدف تجاهل مشاكله. وتترجم عامة بتصرفات عدوانية تخفي شعوراً بالذنب تم كبته منذ زمن. فيخاف الوحدة والهدوء، ويخشى من ذاته، ويشعر بعدم الأمان أمام الراشدين بشكل عام، وتجاه العمل الذي سيجّبر على التغيير من عاداته، وأمام قرار عند اتخاذه، وغيرها من المخاوف التي ليست سوى تعبيراً عن خوفه من الفشل، والتي من شأنها أن تؤدي به إلى الفشل الذي يخشاه بقوة.

وهكذا نجد انه لا يمكن تحديد سبب واحد للانحراف. فقد دلّت الدراسات والأبحاث أن رفض القيم وقواعد السلوك والتنكر لها قد ينتج من أسباب تتعلق بالمجتمع ككلّ، أو أسباب تتعلق بالناشئ ومحيطه. وفي جميع الأحوال فإن تفاعل مسببات عدّة، وتكرار بعضها باستمرار، يؤديان إلى إيجاد مناخات مؤاتيه للسلوك المنحرف. ويُعتبر المراهق والشاب من الفئات الأكثر عرضة لهذه المسببات. وغالبا ما تكون هذه الأسباب فردية، بما تشكله من مواصفات لشخصية، أو أوضاع يعيشها الفتى تساعد في وقوعه في الانحراف، كعدم الاستقرار في العلاقات داخل الأسرة أو في المدرسة، والعدوانية الزائدة في التصرف والكلام، والفشل المتكرر والانفلات السلوكي والإحباط. وجدير بالذكر أن مرحلة المراهقة التي غالباً ما تتسبب بحالات من القلق والشعور بالكآبة وعدم الاستقرار والميل إلى التصدي ومعارضة الكبار وتجاوز الممنوعات، قد تشكل مرحلة أكثر عرضة للانحراف من بقية المراحل، إذا لم ترافقها المواقف التربوية السليمة من قبل الأهل والمربّين والمحيط.

ويبقى حديث المعالجات، أو محاولات المعالجة، وهو أيضاً موضوع معقد ويحتاج إلى بحث مستقل.


المراجع:
  1.  Sutherland, (E), Principes de Criminologie, Paris Cujas, 1966.
  2. C.R, “An Integrated Theory of Crime and Criminal Behavior”, Journal of Criminal Law
  3. الشرقاوي. أنور محمد، انحراف الأحداث، القاهرة، دار الثقافة 1997، ص 95.
  4. Andry, (R.C), delinquency and Pathology, Mitchen Book, London. 1960,P. 120
  5. حجازي، مصطفى، ص 61 و 62.
  6. الجمهورية اللبنانية. وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، لبنان، المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، طبعة أولى، 2002، ص 48 و49.
  7. المرجع نفسه، ص 49.
  8. المرجع نفسه، ص 49.
  9. العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، المرجع السابق، ص 50، 54.
  10. مقابلة جرت مع أحد الشباب الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»، عام 2005.
  11. جريدة السفير 4 كانون الأول 1997.
  12. الجمهورية اللبنانية – وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، لبنان، مركز الامم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة، مكتب الامم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة ODCCP- 2002. «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، ص54.
  13. المرجع نفسه، ص 55 و56.

آفةُ الطلاق

سيّدتي المُواطنة… سيّدي المواطن، رسالتي إليكما
الطّلاقُ آفة!

الطّلاق – مساوِئُه ونتائجه الوخيمة يا أسفي، ويا لوعتي، على الوضع المأساوي الذي وصل إليه بلدنا حول موضوع الطّلاق، وأصبح في الآونة الأخيرة، ظاهرة عامّة في مجتمعنا تدعو إلى القلق والارتياب، وهو يزداد انتشاراً في وطننا الحبيب لبنان. الطّلاق هو أبغض الحلال، لما يترتّب عليه من آثار سلبيّة، تُفكّك الأسرة، وتزيد العداوة والبغضاء، وتؤثّر سلباً على الأطفال بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية والخلُقية والمساوئ التي قد تؤدي إلى الاضطرابات النفسيّة وصولاً إلى السلوك المُنحرف.

فاذا كان الطلاق له سلبيّات ومساوئ على الكبار فما بالُك على الصّغار والمراهقين الذين يحتاجون في كلِّ مراحل العمر إلى القدوة والتكاتف من أهلهم والسّهر والتّربية الخلُقية والقيم المثاليّة من الأب والأمّ، لمواجهة هذا الوقت العصيب، الذي كثُرت فيه الفتن والظواهر المُخِلّة بالآداب والمبادئ الشريفة والصّفات العالية؟! وفي جميع الحالات، فإنَّ الطَّلاق يمثّل تدميراً لحياة الوالدين والأبناء معاً، وبالنتيجة يمثّل تدميراً للمجتمع وللوطن بأكمله الذي يبدأ بالعائلة أوَّلاً. إنَّ تنظيم الأسرة والتكوين الجيد لهذه المؤسّسة، قد نال اهتمام المفكّرين ورجال الدّين وعلماء النفس والاجتماع، حيث نجد فصولاً واسعة تُعنى بتنظيم العلاقات الزوجيّة وسعادة العائلة ونجاحها، لكي يقدّموا ما يخدم استمراريّة الأسرة لتكون منطلقاً لمجتمع فاضل وناجح، فلا نجاح ولا فضائل إلّا بالترابط الأُسري الذي يكوّن نسيج المجتمع، فإذا تفكّك هذا النسيج، أصبح آفة خطرة مُقلقة على الأطفال، تؤدي بهم إلى اضطرابات خطيرة، منها عدم الثّقة بالوالدين، والانحلال السلوكي، والشعور بالكراهية تجاه الآخرين: العدوانية والتخلُّف الدّراسي وزيادة الأمراض النفسيّة، هذا بالإضافة إلى الانعكاس السلبي الذي يطرأ على الرّجل والمرأة؛ فالرّجل قد يصاب ببعض الآثار النفسيّة السيّئة بعد الطلاق: منها الاكتئاب والانعزال واليأس والإحباط، وفقدان التوازن الاجتماعي، نتيجة فقدان الاستقرار الأُسري، ويشعر بأنّه رجل غير مرغوب فيه، بل ومشكوك به، ويثبت هذا الأمر، عندما يقرّر الزواج بامرأة أُخرى.

أمّا المرأة، فالطلاق يسبّب لها مشكلات أكثر من الرجل، خاصّة إذا كانت صغيرة السّن ولديها الأولاد، فتعود إلى أهلها ذليلة مُحطّمة، شاردة، تعيسة، بشأن أبنائها وبحياتها الفارغة، كما أنَّ المجتمع يزيد من أحزان المرأة المُطَلّقة بالنظرة السيئة التي يفرضها عليها، خاصة في مجتمعنا الشرقي فتصبح مشكوكاً
في سلوكها وأخلاقها، ويصمونها بالعار والفشل لأنّنا نعيش في مجتمع، كثُرت فيه النّفوس السيّئة والنوايا الحقيرة، هذا بالإضافة إلى التّقصير الذي يطرأ على رعاية أولادها.

نداءٌ كبيرٌ تملَؤهُ الحسرة والألم، أتوجّه به إليكم أيها الأزواج، لِتَعَوا بأنَّ المؤسَّسة الزوجية مقدسة – الزواج مقدّس – يجب الحفاظ عليه بأمانة وإخلاص، فلا تدعوه يتحطم ويُدَمَّر على جدار الإغفال والتهرُّب من المسؤولية. قدَّسه اللّه وقدَّسه الأنبياء والرُّسل، وقدّسته الملائكة: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة…».

أتوجّه إليكم يا أبنائي ويا أولادي، وخاصّة أتوجّه إليكِ يا أُختي، المرأة بنصائحي لكِ ولكلّ الأزواج الذين يفكّرون بالطّلاق: أعطي لنفسك الفرصة للتفكير والمحاولات لإنقاذ زواجكِ من الفشل والانهيار، ومن أجل أطفالك ومن أجلكِ أيضاً، ولعلّ أكثر هذه النصائح: هي ضرورة تغيير الأسلوب في معالجة الخلافات الزوجية التي هي نتيجة تراكم العديد من الأسباب الاجتماعية والعاطفية التي يدفع ثمنها الأطفال.

“الأمُّ هي كلُّ شيء في هذه الحياة. “جبران خليل جبران

فيا أختي المرأة: أعطي الفرصة لنفسك لتسوية خلافاتكِ، فما من مشكلة إلّا ولها حلّ مُجْدٍ، أمّا الطلاق فهو حلٌّ مقيتٌ ومُميتٌ. عالجي مشاكلَك في ساعة صفاء وهدوء مع الشَّريك ولتكن عبر مناقشة هادئة مع الموسيقى الهادئة الناعمة، بعيداً عن الاتّهامات وإلقاء أسباب الخلافات على الطّرف الآخر وليكن الحوار مناقشة بنّاءة، بعيدة عن المجادلات العقيمة. مناقشة تستحضر الماضي والحاضر والمستقبل، تتجنّبان تكرار أخطاء الماضي، وليكن حديثكما من القلب إلى القلب، من الحبّ الذي جمعكما والذي يجب أن يبقى بين الأسرة الواحدة التي حَلُم بها الزّوجان، وليعترف كلّ شريك بأخطائه تجاه شريكه والالتزام بتفاديه، ممّا يعطي الأمل لحياة زوجية ناجحة سعيدة منتصرة وبالتالي لمجتمع منتصر، وبهذا فإنَّ الأطفال سيقطفون ثمار هذه السعادة، ويكتسبون من الوالدين الشجاعة لمواجهة المشاكل التي سيصادفونها في المستقبل، ويكتسبون في الوقت نفسه حبَّ الحياة.

فيا أختي المرأة: يا سرَّ استمراريّة الوجود، يا عهداً من اللّه لبني البشر، أطلَّيت على الدنيا، لتجسّدي الهُوِّيّة الإنسانية كاملة، يا زوجة ويا أُمّاً ويا رفيقة مثالية: فإنسانية الإنسان (امرأة + رجل) خلقك اللّه تعالى، لتؤدِّي الرسالة والغاية المثلى التي اؤتمنت عليهما، وحاشا اللّه تعالى أن يخلق إنساناً بدون غاية: أنتِ تصنعين الرجال وتعمّرين الأوطان، ومن أحضانك تولد النّساء الفاضلات والرجال الأفاضل… تجاوزي السلبيات إلى الجوهر المُطلَق، أنتِ ينبوع عذب من الثقافة والصّدق والتربية لأولادك، ليَسْموا في مُندرجات الرّقي الرّوحي: فإنسانيتك، شعاع شمس تختزنه ذاكرة الأجيال، تُرَبِّين الولد ليكون له الغد الواعد، والولد هاجسك الوحيد: «يتعلّم الطفل في السنوات الخمس الأولى من حياته أكثر ممّا يستطيع أن يتعلَّمه في كل حياته» ومن هو المسؤول يا تُرى عن هذه التّربية؟؟ أليست الأمُّ والأمُّ فقط!!

أُمٌّ شموليّة، أمٌّ مثاليّة. اشعري بالودِّ تجاه جميع الناس، خاصّة تجاه زوجك وأولادك. عليك بمعرفة اللّه، «بالإيمان باللّه، بالتوحيد فكماله» «خَلَقْتُ الوجودَ كُلَّه لأجلكم، وخلقتَكم لتعرفوني وتعبدوني» اندمجي في الحقيقة، استشعري نصائحها، استرشدي بمعارفها، فَتُقرِّبك إلى خالقك، حيث تجدين الراحة والطمأنينة في قلبك وعقلك ونفسك، والبُعد عن الموبقات والمعاصي، فتزيدك محبّةً ورقّة ورحمة وإنسانيّة ودِعةً ورضًا وصبراً وطمأنينة. عليكِ بالمحبّة لأنّ المحبّة شعورٌ مع الوحدة الكلّية ومع الحقيقة الكونيَّة ومع الواحد الأحد، في حين أنَّ البعض هو نتيجة الأنانية، ونتيجة «الأنا» الفرديّة التي تتحكَّم بالسلبيّات وتسير بصاحبها إلى أسفل الدرجات ولا فرق بين إنسان وإنسان، إلّا بذلك الخير الذي يمنحه للآخرين وبذلك النّفع للّذين صدق منهم اللِّسان، وابتعدوا عن الحرام، وأطاعوا من وجبت طاعته واهتدَوْا بهديه. السيّد المسيح الذي عانى الكثير من الآلام واستقبل الموت بالابتسامة والمحبّة قال: «هي هذه الهُويّة التي هي حقيقة الكون، ومعنى الوجود وغاية كلّ موجود». فيدرك الإنسان نفسه على حقيقتها ويسير على المسلك الشريف وبالمحبّة تتّحِدُ البشريّة لتصلَ إلى اللّه».

هو دور الأمومة: الأمُّ شعاعٌ من محبَّة، والمحبَّة نارٌ بإرادتك توقدينها وبإرادتك تطفئينها. المحبّة هي الصّلة المتينة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان وبالزّوج أيضاً. أحبّي اللّه عبر مخلوقاته، وهذا ما يوصلنا إلى السعادة التي هي جَنّة اللّه في خلقه، وبمحبّتنا نرتقي إلى ذات اللّه وروحه لأنَّنا جزء من اللّه. «ليس المهم أن نحبَّ، بل أن نتأكّد من أن محبّتنا قد أَودعت صداها في من نحبّ». رجوعٌ من المذمومات إلى المحمودات: بدل الجهل العلم، بدل النِّسيان الذِّكر، بدل المعصية الطّاعة، السّعي إلى الحقّ، إلى العدل، إلى المعاملة الصالحة، السبيل إلى الصدق، إلى صفاء القلب، إلى نقاء النيّة (وإنَّما الأعمالُ بالنيّات) السبيل إلى البعد عن الحقد والحسد والنميمة والضّغينة. المحبة ترفع عنَّا سلبَ الحياة وعذابها ومعاناتها. وكلّ أمٍّ هي نتيجة لصلاة المحبّة والوعي الذي أقامه اللّه في محرابه. وعليكِ أن تقتدي بالأولياء والمُرسلين: أليس الأجدر بكِ أن تسيري على خُطاهم؟؟ أتمنّى عليك يا أُختي المرأة أن تتضمّخ حياتك بالصّفاء، عبر المحبة الإلهية لتنعمي بالسّلام والاطمئنان «الدين عند اللّه المحبّة» لأنّكِ التزمتِ الصدق والأمانة، وحملت في شخصك كلَّ المثاليّات وسرتِ على بركة اللّه، «تأتمرين بأوامره وهو التوحيد، وتنهين عن المُنكر» توجِّهين أولادك نحو السبيل القويم، وتغرسين في قلوبهم ونفوسهم الأخلاق والمثل العليا. أنت مثال الأمِّ والزوجة الصالحة، أرادك اللّه مثالاً بالخلُق الكريم وأصبحت لزوجك خيرَ رفيق عمر، قدوة بالصّلاح والمعرفة والعلم، تمسّكت بالجوهر المُطلَق الكامن في أعماق أعماقِك، وسِرتِ بخطوات ثابتة في معارج الرقيّ الروحيّ والسعادة الدائمة، وانفتاح قلبك الكبير على كلّ جوانب الحياة.

ملكوت اللّه في داخلك، فلا تدعيه يُدَمَّرُ ويُحَطَّمُ في علاقتك السلبيّة مع مَن تحبِّين وخاصة مع أهل بيتك. وعليك بمعرفة نفسك: « فمن عرف نفسه عرف ربّه». عيشي المحبّة، وبالمحبّة تعمر البيوت والمجتمعات والأوطان. ارفعي وجهك إلى اللّه وعوذي به..، بتزكية قلبك من الموبقات والمعاصي، تستعينين بالواحد الحق، ليرزقك قوّة في بصيرتك، فتتسع بها نفسك، وتقوّي بها لسانك في اتّباع الخير والبعد عن الشر، ويستولي عليك شعور إلى معرفة الحق. «وما كان اللّه ليضيّعَ إيمانك. إنّ اللّه بالناس لرؤوفٌ رحيم»: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «من يعمل مثقال ذرة خيراً يرَه، ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يرَه» «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها» في هذا الجوّ السامي من الإيمان والتعقُّل، أصبحت تنمو على جنبات قدس الأقداس أزاهير المحبة الصافية ويفوح عبق البنفسج والياسمين والنرجس، في قلب ملؤه الطهارة والإخلاص ليهتدي بجوهر العقل السامي، الذي تسكنه نفسٌ فُضلى، تحقَّقت وتجوهرت بالمثاليّات التي بعثها لكِ اللّه. لتشكريه على نِعَمه وفضله عليكِ، بأن أعطاك الوعي وإشراقة العقل ونشوة النفس. تنظرين بعين العقل فترَين الكون مُفعَماً بالحياة فيستولي عليك شعور بالحبّ السامي الأكيد. وكلُّ ما تصبو إليه الأمُّ في حياتها من سعادة وفرح واطمئنان داخلي نحو عائلتها. فالحبُّ هو معرفة الحقّ، والحقّ إنّما هو الحب الحقيقيّ «نحن أقوياء بوجود اللّه لأنّك آمنت باللّه وبالروح وبالصلاة» (آينشتاين).

ويا أخي الرّجل: لن أطيل عليك الكلام، كما أطلته على أختي المرأة وباختصار كلِّي: باركَها اللّه والملائكة والرُّسل، وباركها الإنجيل والقرآن وباركها الصحابي عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» باركها الإمام السيّد عبد الله التنوخي(ق) ألم يأمر بفتح المدارس للفتيات قبل الفتيان؟ ألم يأمر بتعليمهنَّ وتهذيبهنَّ وتثقيفهنّ ولأنّه يعلم علم اليقين أنَّ الأمَّ هي الرُّكنُ الركين والأسُّ المتين في عملية بناء الأوطان المبنيّة على التقوى والفضيلة والأخلاق العالية والمثاليات، وعلى أكتافها تقوم العملية التربويّة التثقيفيّة؟

هذِّبــــــوا خُلُقَـــــها وزّكـــــــوا نُهــــاهــــــا
وارفــعــــــــوا قـدرَهـــــــا ولا تهملوهــــــا
هــــي بنـــــــتٌ لكــــــــــم وأُخـــــــتٌ وزوجٌ
وهــــــي أُمٌّ يطيـــــب فيـهــــــــا بنوهـــــــا
فمــــــا التأنيث لاســـــم الشمس عيبٌ
ولا التَّــــذكــــيــــــــرُ فــخــــــرٌ لـلــهـــــلال

وعندما رحل الإمام السيّد (ق) إلى دمشق لأسباب لا مجال لذكرها في هذا السياق، ومكث فيها اثنتي عشرة سنة، وعندما ألحّ عليه قومه بالعودة إلى موطنه عبيه كان جوابه: «سأعود ضمن شرطين اثنين هما «بناء المساجد والخلوات وتعليم الفتيات» وما القصد من هذه الشروط؟؟ هي لمعرفة اللّه سبحانه وتعالى والتقرُّب إليه، «وبالإيمان باللّه والتوحيد بكماله» وبالعبادة والصلاة وبتعليم الفتيات وقد ذكرت سابقاً. أعطني أُمًّا صالحة، أعطِكَ وطناً صالحاً.

أخي الرّجل: الأمُّ المثقَّفة، هي أمٌّ صالحة، وهي التي تسير بأولادها في مُندرجات الرّقي الرّوحي والثقافي والحضاري وتقوم بكلِّ واجباتها. قبل دخول الولد إلى المدرسة هي شريكتك حقّاً في الإنسانية، هي في الجهاد على قدم المساواة مع زوجها، بل في الطليعة، هي مظهر العفاف والعزّة والرفعة. أرادها اللّه لتكون الأمُّ المباركة والصالحة. فمسؤولية المرأة، ديمومة ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، ابتدعها اللّه نصف المجتمع وشريكة الحياة وأُنسها وبهجتها «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة» الأمُّ هي كلمة اللّه على الأرض «وجه أمي وجهُ أُمَّتي» كما يقول جبران، وعندما قال: «الأمُّ هي كلُّ شيء في هذه الحياة» فهي التّعزية في الحزن، والرَّجاء في اليأس والقوَّة في الضَّعف، فالذي يفقدُ أُمّاً، (يعني بالموت)، يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً «تباركه وعيناً تحرسه»، فالموت والولادة هما من صنع اللّه: «كذا حَكَمَ كذا قضى ولا مرّد لقضائه» الإمام التّنوخي(ق) ويا نعم المصير. فماذا لو كانت من صُنع البشر؟؟ ويا بئس المصير!! دور الأُم هو الاهتمام بالعائلة أوّلاً، والعائلة هي رمز الوطن، فإلى تعاون مع شريك العمر، وليعملا معاً، من أجل أمومة ناجحة مُنتصرة وبالتالي مجتمع منتصر، ليتكامل الدّور مع الرجل نضالاً ومحبّة وإنسانية. عليكَ أيّها الرجل بحمايتها من العنف الأُسَري والدفاع عنها وحمايتها من كلِّ أذى، لأنّها جزء من كيانك وشخصيّتك. حاجتنا إلى النهضة العربيّة من خلال العُنصرين معاً المرأة والرجل، قِيَم ثقافية، اجتماعية، تربويّة، أثبتت المرأة أنّها جديرة بالمساواة بنوابغ الرجال، هي شريكتك حقاً في الإنسانيّة، وقد شبّه أحد الفلاسفة المجتمع بـ «طائر ذي جناحين، أوّلهما المرأة وثانيهما الرَّجل، فإذا كان الجناحان قويين أمكن لهذا الطائر التَّحليق عالياً في أجواء الفضاء، وإذا كُسِر أحدهما شُلَّت حركة الطائر وبقي مكانه لا يقوى على الحراك. المرأة باستطاعتها أن تحكم وأن تفعل كلَّ شيء، فلديها قدراتها وكلمتها المُحِقّة، المرأة داعية من دعاة التقوى والشّرف الرّفيع. هذا العنصر الفعّال، هذا التراث الإنساني الكامل للمجتمع، بأبعاده، وبصيرورته وبمكانته، يؤكد أنَّ المرأة هي وراء هذا التَّخطيط والتنسيق والتنظيم، بالتواصل والتفاعل والتكامل، بين الماضي والحاضر والمستقبل، لهذا المجتمع القائم على العنصرين معاً، المُشبَع بروح العطاء والمحبة والسعادة الأبدية الدائمة والبعد عن الغضب والحِقد والنميمة، بل بسعادتكم الدائمة، لأنَّكما أصبحتما «أقوياء بوجود اللّه» تؤمنان به وبالروح وبالصلاة قرباناً له وتوسُّلاً إليه وعملاً بمشيئته.

وأخيراً، أتوجّه إليكما أيُّها الرجل والمرأة آملةً إدراك مخاطر الطّلاق وانعكاساتها على العائلة وعلى المجتمع بأسره والاهتمام الأكيد من الأب والأم في سبيل وحدتكما لتحصلا على عائلة متماسكة ملتزمة بقدسيّة الأمومة والأبوّة. بهذه الصفات يا أخي الرَّجل تكون قد وصلت إلى سعادة زوجيّة دائمة، وأخلاق وصفات نبيلة، كصاحب خلق رفيع، فلا غضب ولا ذنوب ولا آثام، ولا مجال للشرّ. لك البُشرى إذ تعلم وتعمل (وتقرّبوا إليه بالعلم والعمل) وتحصيلهما هو الكمال الحقيقي، وهما مطلبان يقرّبان إلى العناية الإلهية واللّه العليّ العظيم هو العون والمساعد «ولا يخَف أحدكم إلّا ذنبه ولا يرجُ إلّا ربّه»، بهذه الصِّفات أيضاً تتوصلان إلى الاستقرار الدائم الذي هو حاجة مُلحّة لحياتكما: إيماني الصادق باللّه جعلني أقترب من اطمئنان النفس وهو السبيل إلى البُعد عن السيِّئات والإتيان بالحسنات (القشيري) وتنقلب حياتكما «نبراساً منيراً وشعاعاً أصيلاً، تتسلَّمه الأجيال الصاعدة وثيقة قوميّة حيّة ودستوراً أكيداً وتراثاً إنسانيّاً وطابَعاً عصريّاً وثورة رائدة اجتماعية حضارية ثقافيّة، بلغت أشد الأثر وتركت بصماتها أصالة دينيّة تربوية وأصالة أخلاقية إلى يوم الدين.

وإني إذ أتوجَّه إلى رجال الدِّين الأجلَّاء، لأقول لهم: كثِّفوا محاضراتكم وندواتكم وتوجيهاتكم ولقاءاتكم مع هذا الجيل الجديد لعلّهم يتَّعِظون.

الشباب اللبناني، والعربي، على مفترق طرق خطير الآن!

سأجعل مقالتي في ثلاثة أجزاء:
واقع الشباب وازدياد أهميته في العالم العربي الراهن عموماً،
ثم، واقع الشباب ومشكلاته الأكثر إلحاحاً في مجتمعنا اللبناني المحلي الحالي،
وأخيراً، بعض الأفكار للخروج من المأزق الاجتماعي الضاغط بقوة منذ بضع سنوات.

[su_accordion]

[su_spoiler title=” أولاً – أهمية حضور الشباب ومشكلاته في المجتمعات العربية الراهنة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إذا صحّ أنه كان هناك قبل سنوات أو عقود من يعتقد أن بإمكانه أن يملي على الشباب إرادته بالقسر أو التجاهل، فقد أثبتت السنتان الأخيرتان أنه كان على خطأ مبين. فالشباب عاد إلى الواجهة الإعلامية والسياسية بقوة، بل هو قلب المعادلات والحسابات والخرائط، وقلب ظهر المجن لكل شيء تقريباً، فكان أمل التغيير السلمي الديموقراطي قبل أن تخطفه الأيديولوجيات الشيطانية من هنا وهناك، وتجهض أحلامه من جديد.
من هم الشباب، إذاً؟ ما هي أحوالهم واهتماماتهم في مجتمعات العالم العربي؟ وصولاً إلى مجتمعنا اللبناني المحلي الراهن؟
وفق التعريف العلمي الدقيق، الشباب هم الشبّان أو الشابات الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين من العمر، (15 – 24)، رغم أن البعض يمدّ الفترة لتصل إلى سنة التاسعة والعشرين أيضاً.
يشكّل الشباب، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، سدس البشرية (1/6)، إلا أن غالبيتهم العظمى هي في البلدان النامية، (حوالي 80%). ومجتمعات العالم العربي هي نسبياً بين الأكثر شباباً على مستوى العالم:
فثلث سكان العالم العربي هم تحت سن الخامسة عشرة. وثلث آخر هو بين الخامسة عشرة والتاسعة والعشرين.
وتعني هذه النسب أن هناك شريحة مؤلفة من أكثر من 100 مليون شاب تشكل نظرياً القوة الأكثر حيوية في المجتمعات العربية. ولكن مع الأسف، فنصف هذه الشريحة، هي من دون عمل ثابت، أي هم أسرى البطالة الصريحة أو المقنّعة، كما أن معظمها هم دون التجهيز العلمي والعملي الحديث الموازي لمتطلبات أسواق العمل الحديثة والمعاصرة.
ومن هنا تبدأ مشكلات الشباب العربي، فقد أظهرت آخر استطلاعات الرأي التي شملت المجتمعات العربية كافة، والتي نفّذت سنة 2012، (استفتاء لجنة بيرسون-مارشيلر)، أن في رأس اهتمامات غالبية الشباب العربي (82%) مطلبين بل هاجسين اثنين: “الحصول على عمل ذي مردود جيّد” و”امتلاك مسكن وتأسيس أسرة”. وقد تقدم هذان المطلبان على المطالب السياسية التي كانت هي الأعلى في سنتي 2010 و2011.
لقد كان لإهمال معظم الأنظمة العربية لمطالب الشباب الطبيعية والمحقة الدور الحاسم في انتفاضات الشباب التي رأيناها في السنوات الثلاث الأخيرة – يستثنى من ذلك مجتمعات الخليج العربي (عدا البحرين) التي نجحت من خلال تقديماتها السخية في امتصاص نقمة الشباب. ومطالب الشباب الأكثر أولوية كما تشير استطلاعات الرأي هي ثلاثة: العمل، المسكن، والحريات.
أوضاع الشباب في المجتمع اللبناني لا تختلف كثيراً عن أوضاع الشباب العربي عموماً التي عرضنا لها باختصار، مع تسجيل بعض الفروقات بالتأكيد نظراً للخصوصية الطائفية في لبنان التي تمزّق وحدة شريحة الشباب وتمنع تحوله إلى قوة تغيير ديمقراطية موحدة.
تشير الاحصاءات المتوفرة في لبنان إلى أن 19% من أفراد المجتمع اللبناني هم من الشباب، أي خمس السكان، (حوالي 700.000) شاب وشابة. وهم يشكلون ثلث القوى العاملة. أما نسبة البطالة وهي عدو الشباب الرئيسي، فقد كانت حتى قبل سنوات عالية جداً (21%) – أما اليوم فهي تزيد اليوم عن 30%.

نجحت بعض الأنظمة العربية في امتصاص نقمة الشباب من خلال تأمين مطالبهم الطبيعية والمحقة كالعمل، المسكن، والحريات.
نجحت بعض الأنظمة العربية في امتصاص نقمة الشباب من خلال تأمين مطالبهم الطبيعية والمحقة كالعمل، المسكن، والحريات.

هناك كما قلنا جوامع مشتركة مع سائر شرائح الشباب العربي، وربما سائر البلدان النامية أيضاً، إلا أن ما يميّز شريحة الشباب في المجتمع اللبناني، بالإضافة إلى ذلك، هو أنها كانت في السنوات العشرين أو الخمس والعشرين الأخيرة تحت تأثير مباشر وغير مباشر من عاملين اثنين متناقضين:
العامل الأول، الإيجابي، هو مجموع عناصر التقدم الثقافي والعمراني والحضاري التي امتلكها المجتمع اللبناني طوال عقود، وبخاصة منذ الخمسينيات، واستمرت قائمة في نسيج المجتمع اللبناني وإن على ضعف، بشكل أو بآخر. بين هذه العناصر الإيجابية: تنوع تركيبة المجتمع الدينية والطائفية والعرقية، الانفتاح على التجربتين الغربية والعربية في آن، صعوبة سيطرة الاستبداد أو الإرهاب بكل أنواعه على الشباب في لبنان بفعل التوازن القائم بين الأقليات، ارتفاع نسبة المتعلمين (96%)، ثم آثار أو مفاعيل الهجرة القديمة إلى أمريكا وإفريقيا وأستراليا وأوروبا وما جلبته من تنوع ثقافي وتجارب حضارية، ألخ.
العامل الثاني، السلبي، هو الأثر الفظ بل المدمّر الذي تركته الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة (1975-1990)، بكل مفاعيلها وتداعياتها، على أفراد شريحة الشباب اللبناني الذين ولدوا إما قبيل اندلاع الحرب بفترة قصيرة (في الستينيات) أو في خلال سنوات الحرب وما بعدها. وحتى لو وضعنا جانباً أو تناسينا حقيقة أن الشباب كانوا في الواقع الجزء الرئيسي من لائحة ضحايا الحرب المشؤومة، (100 ألف ضحية)، ومن الكتلة التي تركت البلاد، (والتي تقدّر بمليون مواطن) وما في ذلك من خسارة وطنية كبرى، إلا أن ما نستطيع ملاحظته هو أن غالب أفراد الشريحة الشبابية اللبنانية اليوم قد سقطت تحت التاثير المباشر للحراك الاجتماعي القسري الكثيف الذي تعرضت له أسرها في أثناء سنوات الحرب القاسية. فقد انتقل أكثر من مليون لبناني في هجرة داخلية من منطقة إلى أخرى، بل إن 20% منهم قد استوطنوا البيئات الجديدة التي انتقلوا إليها. وانتقل مثلهم، مليون لبناني آخر، قسراً أو طوعاً في هجرة إلى الخارج – هاجر 400.000 لبناني في سنة 1975 وحدها. كان معظم المهاجريم من فئة الشباب (بين 25 و29 سنة أولاً، ثم بين 20 و24). وكانت غالبيتهم الساحقة من الذكور (85%) ما أثّر مباشرة في التركيبة العمرية والجندرية للمجتمع اللبناني لعقود وإلى اليوم؟ وكأن الحرب لم تكفِ، فقد جاءت الأزمات الاقتصادية اللاحقة منذ سنة 1996 لتطلق موجات هجرة جديدة، ومعظمهم من الشباب، كل بضع سنوات.
إذا اكتفينا بهذين العاملين دون سواهما، لأمكننا رسم معالم شريحة شبابية لبنانية راهنة، بات معظمها متقوقع في مناطق سكنية ذات لون واحد، منقسمة طائفياً وسياسياً. ورغم الانقسامات تلك، فما يجمع فئات الشباب في كل المناطق ولدى كل الشرائح تقريباً سمات مشتركة كثيرة، وأهمها:
֍ مستوى تحصيل علمي متقدم، (96 %)
֍ ممارسة قدر عال نسبياً من الحرية الاجتماعية والشخصية بفعل الانفتاح من جهة وغياب السلطة عن المجتمع اللبناني لفترة طويلة، ثم الاستقلالية الاقتصادية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية المتكررة والتي جعلت فئات متزايدة من الشباب يستقلون اقتصادياً عن أهلهم، أو جعلت أهلهم عاجزين عن الإنفاق عليهم.
֍ انخراطهم الشامل تقريباً في مظاهر تقبل منتجات العولمة وتحولها هاجساً رئيسياً لهم، إذ باتت أبواب الانفاق الأولى لدى معظمهم “الثياب، نفقات الاتصال والتواصل المختلفة، والسهر والأكل خارج المنزل”.
֍ استخدامهم لأحدث تكنولوجيا التواصل (أكثر من ثلاثة ملايين لبناني يستخدمون الانترنت)، وكل ما لحقها من ابتكارات.
֍ انخراط واسع للمرأة اللبنانية في الحياة العامة على أصنافها (وربما أضعفها في الحياة السياسية والبرلمان رغم التحسن الطفيف الذي حدث في انتخابات ربيع 2018).
֍ نسبة البطالة العالية في صفوفهم، المباشرة منها أو المقنّعة (والتي تزيد عن الثلث في أحس الأحوال).
֍ نسبة الهجرة العالية، وبخاصة لدى أصحاب الكفاءات المهنية (أكثر من نصفهم نحو بلدان الخليج) ولأسباب متصل معظمها بالعمل (62%) ثم التعلم (21%) – ثلثا من هم بين 15 و29 تقدموا مرة واحدة على الأقل بطلب هجرة إلى إحدى السفارات أو القنصليات.
إذا اكتفينا بهذه السمات والظواهر فقط، إذ هناك غيرها أيضاً، بدت بوضوح النتائج والتداعيات النفسية والاجتماعية التي جلبها النظام السياسي اللبناني، والسياسات الرعناء التي ضربت المجتمع اللبناني منذ السبعينيات، فألقت بكامل ثقلها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على شريحة الشباب الطريّة والحساسة فتركت في مشاعرهم وأفكارهم وشخصيّاتهم وسلوكهم أبلغ التأثير – السلبي غالباً – والتداعيات التي حفرت فيهم عميقاً ولم يكن من السهولة إزالتها، بل هي ترسخت على مرّ السنين بفعل استمرار الأزمتين السياسية والاقتصادية، وغالباً ما يتداخل فيها الاقتصادي مع الاجتماعي مع السياسي ليضغط بقوة على تركيبة شخصية الشاب اللبناني الراهن وعلى أشكال سلوكه وردات فعله.
وباختصار، لقد دفع الشباب اللبناني ثمن إخفاق- بل الاخفاقات المتكررة – للقيّمين على السياسة والحياة العامة في المجتمع اللبناني الحديث.
لقد سقطت شخصية الشاب اللبناني تحت ضغوطات متناقضة من كل اتجاه، فلم تبق متماسكة، وظهرت فيها شقوق واختلالات معلنة، أي نراها، أو غير معلنة ولا نراها، وهي أخطر بكثير؛ ومن هذه الشقوق والاختلالات دخلت كل المشكلات الإضافية، وكل أنواع الانحرافات بل ربما دخلت منها الشياطين نفسها – وقد بات للشياطين في زمننا الراهن أكثر من اسم وشكل ولون.
هنا تكمن جذور معاناة الشاب نفسه – ونحن أحياناً بل غالباً ما نلقي عليه اللوم، فلا ننتبه إلى وجهات نظره، ومعاناته، بل لصراخه وحالات يأسه. من هنا يجب أن نبدأ.

أكثر من ثلاثة ملايين لبناني يستخدمون الانترنت
أكثر من ثلاثة ملايين لبناني يستخدمون الانترنت

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”ثانياً – المشكلات المنتشرة، والأكثر خطراً وإلحاحاً” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يجب الاعتراف أن هناك ملامح مجتمع شبابي متميز من سائر شرائح المجتمع الأخرى، وهناك بالتالي مشكلات اجتماعية تخص هذا المجتمع، بعضها قديم وبعضها الآخر مستجد ولم يسبق لنا معاينته. وهذا يعني أن هناك مصادر جديدة للمعرفة الاجتماعية، وبعضها يحتاج إلى تركيز شديد، وإلى مقاربة منهجية جديدة. وهي في انتظار البحث الاجتماعي الإضافي والمعمّق.
وعلى ذلك يجب الاعتراف أن لشباب اليوم حقوقه ومطالبه المشروعة الكثيرة، ولكن هناك أيضاً المشكلات، والتي لا يجوز تناسيها أو عدم الاعتراف بها أيضاً. وأي تناس أو إهمال لها إنما يزيد من خطورتها.
بعض أخطر المشكلات تلك، وهي موضوع هذه المحاضرة، هي أشكال الفساد والانحراف الأكثر انتشاراً، والتي باتت خطيرة في السنوات الماضية، وباتت مهددة لحاضر ومستقبل الشباب على المستوى الشخصي، كما باتت عوائق وقيوداً تحول دون إطلاق طاقات التغيير والتجديد والبناء فيهم ولدورهم الحاسم في مجتمعهم.
تتمثل أشكال الفساد والانحراف المنتشرة في ظاهرات سلوكية مختلفة، قد تبدأ بريئة تماماً، لكن المبالغة بها واتصالها بعادات سلبية معيّنة يحوّلها بالتدريج إلى ميول غير سوية، منحرفة، خارجة عن الإرادة، وإلى أشكال سلوك مرضي وفق توصيف علماء السلوك والاجتماع، ناهيك عن تناقضها الصارخ مع تقاليد أسرنا الشرقية ومجتمعنا العربي الإسلامي وقيمه.
وتقييمنا لها بالفاسدة أو المنحرفة ليس تجنياً، بل يستند إلى حقيقة أنها مؤذية للفرد نفسه، وتصل إلى حد تدمير وقتل هذا الفرد، بالإضافة إلى أنها مؤذية ومعطّلة للمجتمع ككل، ومضيّعة خصوصاً لطاقات الشباب التي لا يقوم مجتمع سليم أو قوي من دونها.
يتدرج السلوك الاجتماعي غير السويّ من مستوى التخبط والضياع الفرديين، إلى مستوى الفساد الاجتماعي، فإلى درجة الانحراف الأخلاقي والخطر الحقيقي على الفرد والمجتمع معاً، ويمكن أن تكون من وجهة نظري وبالتدريج كما يلي:
֍ الإفراط في السلوك الاستهلاكي المرضي، وما فيه من كره للعمل، وبخاصة العمل اليدوي، وانعدام الانتاجية، لكأننا بتنا كائنات طفيلية نعيش على جسد سوانا لا أكثر.
֍ الافراط في التقليد السطحي لعادات السهر في المقاهي والمطاعم والملاهي كل ليلة وحتى الصباح واعتبار ذلك معياراً لكونه(ها) شاباً أو شابة يعيش العصر والحداثة، ومن يتخلّف فهو خارج العصر.
֍ الإفراط في عادات غير صحية وشبه مرضية، وبخاصة التدخين والأركيلة والكحول، والتي تبدأ على سبيل التسلية ومجاراة الرفقة لكنها تنتهي عادات متمكنة وخطرة على صاحبها(تها) قبل سواه(ها).
֍ تعاطي المخدرات بأشكالها ودرجاتها المختلفة (من الحشيشة وصولاً إلى عقاقير الهلوسة) والتي تتحول سريعاً إلى وحش مفترس قاتل وأقوى بكثير من متعاطيها، فيستسلم لها أكثر فأكثر وتتمكن منه أكثر فأكثر، وينتهي لا محالة عليلاً في المصحّات، إن لم نقل إلى التدمير الشخصي فينتهي بالموت أو الانتحار، أي خسارة قصوى لا يمكن تعويضها.
֍ أشكال الانحراف الأخلاقي الصريح، وذروته الانحلال الخلقي من مثل انفلات الغرائز (كالانخراط في علاقات عابرة تكون قاتلة، أو في صداقات متسرعة نعرف لاحقاً خطورتها، أو في التحرشات والاعتداءات الجنسية الصريحة) يغذيها إعلام صوري سطحي متهتك وفالت من دون رادع عقلي أو ديني أو اجتماعي.
֍ أشكال الانحراف الاجتماعي الذي يتمثّل في التحلل من القيم المجتمعية السوية والانخراط في ممارسات وأنشطة مَرَضية خطيرة، مخالفة للعقل والدين والقانون كالاحتيال، وممارسة العنف، والانخراط في عصابات إجرامية، أو في عبادات مستوردة مشبوهة، أو في ممارسات أخرى غير مشروعة.

السهر في المقاهي والمطاعم والملاهي يعتبره الشباب معياراً للحداثة، ومن يتخلّف فهو خارج العصر.
السهر في المقاهي والمطاعم والملاهي يعتبره الشباب معياراً للحداثة، ومن يتخلّف فهو خارج العصر.

أماكن نشوء وتفاقم مظاهر الانحراف
سأختار بعض الأمكنة التي تنشأ فيها هذه المظاهر، أو تسمح، أو تدفع إلى تفاقمها، وقد اخترتها لننتبه لها، ولتكون في متناول أية مقاربة أو معالجة نسعى إليها، وهاكم بعض تلك الأمكنة:
֍ بعض الجامعات والصفوف العليا في مرحلة التعليم الثانوي، وحتى المرحلة المتوسطة، مع الأسف، وبخاصة تلك البعيدة عن المراقبة اللصيقة،
֍ بعض المقاهي والملاهي الليلية والمسابح والشاليهات وأمكنة اللهو غير الخاضعة للمراقبة، أو غير الشرعية أو القانونية في الأصل.
֍ بعض أماكن العمل، وبخاصة تلك الرخيصة، غير المراقبة، وحيث العمل فيها أقرب إلى الاستعباد الشخصي، حيث يحلو لصاحبه أن يستعبد العاملين والأصح العاملات عنده وكأنهن أملاك خاصة له.
֍ بعض أمكنة تلاقي الشباب: في بعض الملتقيات، في بعض المنازل، أو حتى في شلل الأحياء والقرى والزواريب، حيث يجري التعبير عن التمرد ضد التقاليد بطريقة سيئة، وحيث يجري التفلت من سلطة الوالد أو الوالدة ولكن مع تسليمها لرفقة السوء وأحياناً للشيطان نفسه.
֍ بعض الأمكنة الخاصة التي تزعم تعريف الشباب إلى تجارب بريئة جديدة وملذة إلى أن ينتهي الأمر بمريدها بعد جلستين أو ثلاث إلى ماخور لا يستطيع الشاب بسهولة التخلص منه، فيتمنى لو لم يدخله ولكن بعد فوات الآوان، لأن أساليب أصحاب هذه المواخير جهنمية ولا قبل للشباب البريء بمجاراتها.
֍ السجون والإصلاحيات التي تحوّلت، وبسبب من ظروفها غير الإنسانية، إلى مصنع لإنتاج وتخريج المرشحين ليكونوا منحرفين: يدخل الشاب هاوياً سيىء الحظ ليخرج بعد بضعة أشهر محترفاً.
֍ بعض المنازل أحياناً، مع الأسف، وبخاصة في حالات الوحدة أو العزلة الشديدة البعيدة عن حضور الأهل أو مراقبتهم. وهكذا يتحول منزل الأسرة الأقرب إلى الفرد مكاناً لتوليد المشكلات وتفاقمها والتغطية عليها، بدل أن يكون المكان الطبيعي والأول لحل مشكلات الشاب والشابة أو محاولة حلها على الأقل.
֍ وأخيراً أمكنة التلاقي الفرضي virtual meetings التي باتت تروّج على بعض مواقع الانترنت، بحيث يأتي الأمر من الانترنت أن إفعل كذا وكذا فيطيع المراهق من دون اعتراض، ولو بلغ الأمر حد تناوله المخدرات أو سواها! وبعضنا يعرف مباشرة حالات عدة حدث فيها مثل هذا الاستتباع الأعمى لمهووس مجهول يقيم لا ندري أين، لكننا نعرف تماماً أغراضه الإجرامية.

لعبة الحوت الأزرق ونظيرتها العربية مريم، يقال انها تسببت بالعديد من حالات الانتحار وسط المراهقين، حيث يأتي الأمر من الانترنت أن افعل كذا وكذا فيطيع المراهق من دون اعتراض، ولو بلغ الأمر حد تناوله المخدرات وصولاً الى قتل النفس.
لعبة الحوت الأزرق ونظيرتها العربية مريم، يقال انها تسببت بالعديد من حالات الانتحار وسط المراهقين، حيث يأتي الأمر من الانترنت أن افعل كذا وكذا فيطيع المراهق من دون اعتراض، ولو بلغ الأمر حد تناوله المخدرات وصولاً الى قتل النفس.

أسباب رئيسية مباشرة لحالات الانحراف المنتشرة
سأتحدث مباشرة ومن دون مقدمات عن الأسباب الاجتماعية الرئيسية التي تقف خلف معظم مظاهر الفساد والانحراف أعلاه، وهي برأيي كما يلي:
֍ عدم قيام معظم المؤسسات التعليمية (في الجامعات والثانويات تحديداً) بأي دور توجيهي، أو أخلاقي إيجابي، أو تربوي حقيقي. هي تكتفي بمجرد التعليم أو شكليات التعليم في الغالب من دون متابعة.
֍ الفلتان غير المسبوق في المواد الإباحية التي باتت تقدم في وسائل الإعلام، وبخاصة التلفزيون، في كل الأوقات ولكل الأعمار، ومع الباعة على الطرق، وعلى الهواتف، ناهيك بتجارها المحترفين.
֍ الفلتان الذي لا حد له في استقبال المواد الإباحية والتواصل السهل معها من دون أي رقيب عبر التقنيات الألكترونية والأقراص المدمجة والفيديوات المنتشرة في مقاهي الانترنت، أو حتى في المنازل وأماكن العمل.
֍ تلكؤ معظم الأسر عن القيام بأبسط واجباتها وحقوقها الشرعية والقانونية في متابعة سلوك أبنائها، وبخاصة ممن هم دون السن القانونية: من حيث السهر خارج المنزل لأوقات متأخرة، المبيت خارج البيت، ارتياد مقاهي الانترنت لفترات طويلة، نوع الصحبة أو الرفقة، نوع المواد التي يجري التواصل معها على أجهزة الكومبيوتر الخاصة، أو حتى المنزلية.
֍ استغلال بعض المجرمين المحترفين لواقع غياب أرباب أسر بعض المراهقين لفترة طويلة خارج المنزل، أو حتى خارج البلاد، بداعي العمل، وعجز ربّ الأسرة لسبب أو لآخر عن القيام بواجبات الرعاية والحماية الأسرية أو حتى تأمين ثمن الثياب التي يجب أن تتجدد باستمرار، ونفقات السهر في المطاعم والمقاهي، وصولاً إلى كلفة التغيير المستمر لأجهزة الخلوي وأنواع البرامج والكارتات المطلوبة لها، إلخ.
֍ استغلال بعض الفاسدين المجرمين لحاجة بعض الأفراد الواقعين تحت نفوذهم أو خدماتهم (وبخاصة من الإناث) المحتاجين أو المضطرين لخدماتهم، أو لحماية لقمة عيشهم، أو للنجاح في الامتحانات، وتحت زعم المساعدة في ديمومة العمل والنجاح والتقدم في هذا المجال أو ذاك، أو لتأمين متطلبات التواصل وسواها.
֍ فقدان التفاهم والتعقل والتوازن والتروي في العلاقة بين المراهق(ة) ووالديه(ا)، الأمر الذي يزيد من حدة كل المشكلات ويعقد من محاولات حلّها في الوقت المناسب وقبل أن تتفاقم وتصبح عصية على الحل.
֍ وأخيراً، مسؤولية عاداتنا التربوية البالية في المنزل والمدرسة، والتي تربّي المراهق على القبول المتسرع وغير النقدي لكل معرفة أو خبرة أو تجربة ترده، أو تقترح عليه، من دون التساؤل عن حقيقتها أو الغرض منها. وبعض السبب عائد مباشرة إلى عاداتنا وتقاليدنا الأبوية الاستبدادية التي تلغي في المراهق كل ثقة بالنفس أو استقلالية في الرأي فتجعله أو تجعلها لقمة سائغة سهلة في أول تجربة أو إغراء أو ضغط يتعرض أو تتعرض له.

انا اسمي مريم
انا اسمي مريم

أسباب أخرى غير مباشرة وبعضها:
֍ ضعف الصلة وأحياناً انقطاعها بين الشاب أو الشابة والوالدين (بسبب سوء الفهم كما أشرنا أعلاه، أو لأسباب متصلة بالسفر، أو الفقر أو الجهل أو المرض أو الإعاقة، أو لمشكلات أسرية، وما شابه).
֍ غياب مراكز التوجيه والنصح والرعاية المتخصصة عن المدارس والجامعات وأماكن العمل والأندية، بل وتحول بعض من يتوقع أنهم سيقومون بالنصح إلى عكس ما هو متوقع منهم.
֍ عجز التوجيه الديني الراهن، ولأسباب شتّى، عن أن يكون جاذباً للشباب والشابات، وهوتقصير يتحمل مسؤوليته رجال الدين قبل الشباب، إذ يتوجب أن يكون التبصّر والحُلُم واستيعاب الناشئة مهام مقدسة لهم.
֍ تراجع، بل غياب، التوعية السياسية أو الاجتماعية المسؤولة التي ترسخ ثقة الشاب في نفسه، وتهيئه لمسؤوليات القيادة في المجتمع، والتي كانت قوية في مجتمعاتنا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
֍ تراجع انخراط الشباب في التحركات الشبابية والنقابية والتي تعنى بالدفاع عن مصالحهم القطاعية أو الوطنية. كان الشباب في ما مضى وغالباً هم رافعة العمل النقابي والحزبي والسياسي والوطني، أما اليوم فهم لا يلعبون هذا الدور، ولا يملأ الفراغ عندهم غيرأنشطة هامشية، استهلاكية، وغالباً سلبية وضارة.
֍ تراجع دور الرياضة في حياة شبابنا عموماً، وعدم إنضمامهم إلى أندية رياضية وأنشطة رياضية جماعية ومنافسات بريئة محترمة، كالمسابقات، والمشي، والماراتون، ألخ. وهنا أسأل اين هي الدورات الرياضية التي كانت تجري أكثر من مرة في السنة الواحدة وفي كل منطقة؟
֍ تراجع مشاركة الشباب الاجتماعية في أنشطة مجتمعهم، وتزايد عزلتهم، وانكفائهم عن الانخراط أو حتى مجرد الحضور في مناسباته وأحداثه الحلوة، والمرّة، فيغدو المراهق شاباً وهو لا يحسن الدخول إلى مجتمع أو مخاطبة جماعة، أو حتى القدرة للجلوس ولو لبضع دقائق مع ضيوف أسرته.
֍ تراجع دور الثقافة في حياة شبابنا. فالشاب اليوم لا يقرأ كتاباً أو مجلة ثقافية (وبحجة الانترنت)، وإذا قرأ فمجلات ومواد لا تقدم له التحصين الثقافي والأخلاقي ضد الفساد، بل تزيد منه أحياناً.
֍ جهل القيّمين عموماً بحاجات الشباب المتغيّرة، وباهتماماتهم المستجدة، حتى في المدارس والجامعات ومراكز الخدمة الاجتماعية، وتطبيق مداخل معرفية قديمة ومستهلكة على واقع شبابي جديد بمطالب جديدة مختلفة حتى عن مطالب جيل آبائهم وأمهاتهم ناهيك عمن هم أكبر سنّاً.
֍ إنسداد أفق التقدم والترقي الشخصي والاجتماعي أمام الشاب أو الشابة في الجامعة أو مركز العمل أو الحياة عموماً، بفعل اصطفاف اجتماعي طبقي أو طائفي يجعل مجرد دخول الشاب إلى سوق العمل مرهونة بموافقة هذا الحزب أو ذلك الزعيم أو تلك الطائفة، أو بسلطة من يملكون المال والمؤسسات، وهذه جميعاً تشعر قطاع الشباب الشفاف بالقنوط حتى القيء.
֍ ظروف الاضطراب السياسي والأمني التي تمر بها البلاد، وتراخي تطبيق القانون، أمران تركا في الشباب انعكاسات ونتائج نفسية خطيرة، أهمها الإحباط، الضياع، القلق على الحاضر، والخوف من المستقبل، وأكثر من ذلك فقدان الثقة بـ “الكبار”، أكانوا في البيت أو الحي أو الدولة باعتبارهم في أحسن الحالات “فاشلين”، وفي أسوئها نموذجاً فاسداً لا يحق له إسداء النصح لأحد.
֍ سقوط الكثير منهم فرائس للتفكير المتطرف غير العقلاني، أكان في شكل دعوات دينية أو طائفية أو اجتماعية مشبوهة.
֍ الاهمال غير المفهوم وغير المبرر من قبل الأسرة والمجتمع لدور عامل الدين أو الوازع الديني في النهي عن الشر والانحرافات، والحث على أعمال الخير والسلوك الحسن – وبخاصة في فترة الفتوة أو المراهقة المبكرة.
֍ وأخيراً، وربما أولاً وقبل كل شيء آخر، البطالة الصريحة الكاملة التي تجعل رأس صاحبها مصنعاً للشيطان، ويغدو فرضياً بتصرف كل العروض أو الإغراءات الشريرة – لقد بيّنتُ في دراسة اجتماعية سابقة لي أن من أصل أكثر من 30 ألف شاب وشابة يدخلون سنوياً سن العمل لا يدخل منهم سوق العمل أكثر من 7000 شاب، فيما يقبع الباقون في البطالة الصريحة أو المقنعة، بينما يتاح لقلة منهم أن تجد رزقها في المهاجر وفي ظروف بالغة القسوة.
وبالنتيجة، ومع غياب أي وعي شخصي كافٍ، وأي وازع ديني أو عقلي أو سياسي أو قانوني، بات مجتمعنا الشبابي مع الأسف تحت هيمنة ثقافة قريبة من الفساد أو الانحراف، تقرّب وترغّب في ما هو فاسد وشرير وحرام؛ وبات معظم ما هو رائج من إعلام ومن أمثلة وقيم سطحية يعتبر الدعوة إلى الخير والأعمال الصالحة والحلال والاعتدال ضرباً من الماضي بل دليل تخلف عن مجاراة العصر. لقد بات في وسع (العملة الفاسدة) في مجتمعنا الشبابي الراهن أن تطرد (العملة الصالحة) مع الأسف، بدل أن يحدث العكس.

تعاطي المخدرات بأشكالها ودرجاتها المختلفة تتحول سريعاً إلى وحش مفترس قاتل
تعاطي المخدرات بأشكالها ودرجاتها المختلفة تتحول سريعاً إلى وحش مفترس قاتل

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” ثالثاً – ما العمل؟ ما الحلّ؟” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

إذا أردنا معالجة صحيحة للمشكلات أعلاه، فالمطلوب مقاربة منهجية جديدة في معالجة هذه الإشكاليات
من هنا يجب أن تبدأ المعالجات إذا شئنا ألاّ نفقد هذا الشاب، أي أن لا تفقده أسرته، ولا يفقده مجتمعه، وألاّ يفقدُ هو نفسَه أولاً وأخيراً.
فمن منّا، أو منْ من أهله، ومدرّسيه، ومسؤولي مجتمعه، يسمعُ حقاً شكوى هذا الشاب، بل صراخه؟
ومنْ من هؤلاء يتفهّم حقاً الظروف النفسية العاصفة التي يمرّ بها؟
ومنْ من هؤلاء، أخيراً، يبادرُ إلى البحث عن المعالجات الصحيحة، وبالوسائل الصحيحة، إذ لا قيمة ولا جدوى من أية معالجات إذا لم تكن الأدوات والوسائل التي نعالجُ بواسطتها أدوات ووسائل متكاملة، ثاقبة، متفهمة، صبورة، صديقة، ومُحِبة أولاً وأخيراً.
إذا كانت المحبة الصادقة هي التي تدفع معالجاتنا وتحرّكها وترشدها فالنتائج المرجوة هي في متناول اليد.
أما إذا كان الجهل، والضغينة، وروح الانتقام، والتشفّي، هي الدوافع الحقيقية لمعالجاتنا المزعومة، فبئس المعالجات تلك، وهي في النتيجة ليس فقط لن تنجح بل ستفاقم الأمور إلى ما هو أكثر سوءاً وفساداً.
يجب البحث، إذاً، عن المعالج الصحيح قبل الكلام على نوع المعالجة.
المهم إذاً، وقبل الحديث على النتائج، طريقة المعالجة أو العلاج.
هناك ما يكفي من الإشارات للاستنتاج أن أنواع المقاربات القديمة للموضوع قد فشلت، ويجب البحث بالتالي عن مقاربات جديدة بمواصفات واساليب جديدة.
ما يجب الإشارة إليه أولاً هو أن العلاج وإن بدا من نفس نوع المرض أي من المادة التي تتسبب بالمرض فقد بات من الصعب الحديث عن علاج “تخصصي” لمرض أو إشكال اجتماعي. وعلى ذلك فإذا كان المرض نفسياً، فالعلاج يجب أن يكون نفسياً/اجتماعياً، وإذا كان اجتماعياً، فالعلاج يكون اجتماعياً/اقتصادياً، وإذا كان اقتصادياً فالعلاج يكون اقتصادياً /سياسياً، وأحياناً أكثر من ذلك وذلك لتشعب وتعقيد المشكلات المعاصرة وتداخلها.
الأمر الثاني الذي نشير إليه هو أن الحلول التامة أمر شبه مستحيل في الحقلين النفسي والاجتماعي، وأقصى المتاح معالجات مركّبة، مرنة، نسبية، كمدخل لبناء أو استعادة ثقة الشاب بنفسه.
ذلك هو مربط الفرس والمدخل لكل علاج حقيقي ونهائي: استعادة ثقة الشاب بنفسه وتعزيزها. ومن دون ذلك لا قيمة لأية مقاربة أو معالجة.
باختصار، نلفت النظر إلى بعض مفاتيح المعالجات، التي يجب البدء بها، وهي:
أسرية، تتولاها الأسرة إذا كانت واعية ومدركة لمسؤولياتها،
تربوية، تجري في الإطار المدرسي والجامعي على أيدي مرشدين تربويين وأخصائيين تربويين،
مجتمعية، تجري في أو من خلال مراكز إرشاد وتوجيه اجتماعيين ويتولاها فريق متخصص من المعالجات والمعالجين الاجتماعيين المتخصصين في طرق التواصل مع الشباب، وفي تنظيم أنشطة لهم كالمخيمات الكشفية ومخيمات العمل الاجتماعي الطوعي، والانخراط في أعمال خير وإغاثة للمحتاجين.
اقتصادية، وهو جزء جوهري من كل معالجة وبدونه تستحيل المعالجات الأخرى، ويتضمن مصادر استقرار واستقلال اقتصاديين للشاب أو الشابة. هذا الموضوع حساس جداً، وهو مدخل ليشعر الشاب أو الشابة بالرضا عن الذات وعن المجتمع. وما دام الشاب أو الشابة مضطراً للاعتماد على أسرته لإعالته وتأمين نفقاته اليومية لفترة طويلة فسيظل ذلك موضع قلق وتوتر دائم. ونقترح في هذا المجال فتح اعتمادات مالية صغيرة للشباب تشعرهم بالاستقرار والاستقلالية وتساعدهم في التدرب على تدبّر العيش في مجتمع مكلف. ويجب أن يكفل هذه الحسابات والقروض وقفيات أو تبرعات أو تسهيلات من الدولة، بحيث لا تتحول كما هو الحال اليوم إلى وسيلة اصطياد للشاب ومن ثم ملاحقته حتى في القضاء.
سياسية، بحيث يجري استحداث تعديلات في النظام السياسي اللبناني المقفل، فلا يعود مقفلاً على مشاركات الشباب “الحقيقية”. يجب أن تعني ديمقراطية النظام، بين ما تعنيه، قابلية التعبير عن مواقف الشباب، بل وقدرتهم على التغيير (وأحد أدواته حق ابن أل 18 سنة بالاقتراع). الديمقراطية لها الآن تعريف أفضل وهي المشاركة، فإذا عجز النظام عن”جرّ” الشباب إلى المشاركة الحقيقية فكيف يكون ديمقراطياً؟ يجب أن يحضر الشباب في المؤسسات السياسية وعلى الأنظمة أن تشجع وتحمي هذا الحضور بل وتدرّب عليه. لكن شيئاً من ذلك غير موجود في النظام السياسي اللبناني الراهن الذي هو نظام زعاماتي/طائفي/طبقي في آن معاً طارد للمشاركة السياسية كما للعدالة الاجتماعية.

فلتان لا حد له في استقبال المواد الإباحية من دون أي رقيب
فلتان لا حد له في استقبال المواد الإباحية من دون أي رقيب

دينية/أخلاقية، نعم، فالديني الأخلاقي له دور بارز في التنشئة السويّة للطفل واليافع، في البيت والحي والمدرسة والمجتمع عموماً. ولا يبدو أن الذين شطبوا الديني من قاموس حياتهم باتوا أسعد حالاً ممن لا يزال الديني موجوداً في حساباتهم وفي حياتهم. يجب وضع الديني العقائدي الميتافيزيقي جانباً في التعامل مع الإشكاليات الاجتماعية والتركيز بدلاً من ذلك على المشترك الديني/الأخلاقي وهو هائل تتفق فيه كل الديانات ويمكن تحويله إلى زاد شخصي ونفسي وأخلاقي للشاب وهو يعبر المسالك الوعرة ويكون بأمس الحاجة إلى سراج بل إلى بصيص أمل. إن إعادة دمج الديني/الأخلاقي في سلة التربية المنزلية والمدرسية أمر ينتج عنه الكثير من الاستقرار النفسي والأمل والثقة بالنفس والمستقبل. وسبق للفيلسوف اللبناني كمال جنبلاط أن اقترح في الستينيات إدخال مادة التربية الدينية المشتركة في برامج المرحلتين المتوسطة والثانوية كمادة إلزامية موحدة لكل طلاب لبنان وفي المدارس الرسمية والخاصة معاً.
ولكن ما دور الديانات هنا؟ ولماذا لم تستطع جميعها ردع الإنسان، في كل الأمكنة والأزمنة، عن ارتكاب المفاسد والشرور؟ لماذا تبدو الديانات عاجزة ولا حول لها حيال مسألة الشر؟
الجواب البسيط هو أن الديانات لم تفشل كلياً، لكنها، ويجب أن يعترف ممثلوها، لم تستطع أن تحقق الكثير على صعيد اجتثاث الشر من قلب الإنسان وسلوكه، ومن المجتمعات، والعالم عموماً.
ونستنتج من ذلك أن الأديان، وهي لا تدعو إلا إلى الخير، عاجزة وحدها أن تحقق مطلب اجتثاث الشر ودفع الانسان والمجتمع نحو الطريق السوي أو الخير. وهي إذاً بحاجة أولاً إلى الأدوات الاجتماعية كطريقة في التعرف إلى مظاهر الفساد والانحراف، ثم في مقاربة هذه المظاهر، ومحاولة معالجتها بالتالي.
وعلى ذلك فالديانات، وبخاصة الكبرى منها، بحاجة لأن تعترف بأمرين متلازمين: الأول، أن المشكلات الاجتماعية هي اجتماعية في طبيعتها، في أسبابها، ومظاهرها، ويجب أن تكون كذلك في معالجاتها، أي إدخال الاجتماعي في قلب الديني أو إلى جانب الديني، وإلا فستبقى الديانات تتحدث عن السماء بينما المشكلات هي على الأرض. والثاني، الاعتراف بحرية الإنسان في اختياره لأعماله ولنوع حياته، فبدون الحرية لا تكون مسؤولية. وحين ننفي مسؤولية الإنسان فكأننا بذلك نعيد مسألة الشر إلى الله، وهذا ما يتنافى وطبيعة الله كخير مطلق.
هذه، باختصار، بعض المفاتيح أو المداخل لمعالجة متكاملة لمشكلات الشباب اللبناني الخطيرة. وتبقى طريقة المقاربة أو المنهجية المستخدمة. وهنا ألفت النظر إلى عدّة ملاحظات:
يجب أن تدعّم كل مقاربة أو معالجة بطرق علمية معروفة في جمع الوقائع والاحصائيات والبيانات والحالات موضوع البحث، وفي قراءتها وتحليلها بطريقة موضوعية.
بعد جمع المعطيات، يجب مقاربة مشكلات الشباب بروح التفهّم المتبادل لا التشفي، وبتبادل الأراء واقتراحها لا بفرضها، فما من رأي مقدس لا يناقش، وما من رأي صحيح سلفاً وقبل النقاش.
والطريقة الصحيحة أو المنهج العلمي في حل المشكلات إنما يقوم على التفاوض، لا على فرض الرأي بقوة السلطة التي أملكها. والتفاوض يعني الاحترام والمساواة بين الفريقين من دون فوقية أو استبداد أو تعسّف.
يجب أن يتدرب الشباب في المدارس وورش النقاش والمخيمات الكشفية والتطوعية والحلقات التثقيفية على كيفية طرح المشكلات، وبلورة الأراء المختلفة حيالها، ومناقشة كل الأراء على قدم المساواة، وعدم استبعاد أي رأي، أو رأي أي شخص. فالحقيقة لا تقيم في رأي واحد دون سواه، أو عند شخص معيّن مهما بلغت سلطته. الحقيقة تُكتشف وتُؤخذ وتبنى بالاستناد إلى كل الآراء والمواقف والمشتركين في البحث عن الحقيقة.
وتبقى كلمة أخيرة فيما خص النقد الذي يمارسه الشباب.
إن نقد شباب اليوم للسلطة الأبوية الاستبدادية نقد في محله تماماً. وكذا نقدهم للمعرفة الاجتماعية التقليدية التي لا تزال تقدّم لهم حتى الآن. من حق الشاب أن يمارس هذا النقد علناً ومن دون مواربة.
ولكن من واجبات هذا الشاب أيضاَ أن يمارس نقداً ذاتياً أيضاً لممارساته هو نفسه، ولردود أفعاله، ليتبيّن فيها الغث من السمين، ما الذي ينفع وما الذي لا ينفع.
كذلك من حق شباب اليوم الإقبال على الحياة، وأن يعيشوا العصر، وأن يطلبوا الفرح والسعادة. هذا أمر طبيعي ومتوقع. ولكن يجب أن يدرك الشباب أن الإفراط في أية متعة يقوّض المتعة نفسها، والمبالغة في أي مطلب تنتهي بخسارة المطلب نفسه.
البديل الصحيح هو الاعتدال، الاعتدال في كل شيء. الاعتدال هو الذي يجلب السعادة، ويحافظ عليها، ويضمن ديمومتها. الاعتدال أو “الوسط الذهبي” في كل شيء هو الذي يؤمن المتعة والسعادة والفرح لأطول مدة ممكنة. وكما قيل إن فضيلة الشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهور، والكرم هو الوسط بين البخل والتبذير، كذلك المتعة أو السعادة هي الوسط بين التفريط والإفراط، فالتفريط لا يتضمن مكاناً للمتعة والعادة كذلك الإفراط يقضي عليهما بالمبالغات غير الصحية وغير الضرورية.
معظم النقد الذي يرفعه الشباب في مواجهة المجتمع نقد محق، ولكن نقد الشباب يجب أن يكون موضوعياً، ويجب أن ينتقدوا أنفسهم أيضاً حين يكون ذلك ضرورياً. فالحقيقة لا تقوم على ضفة واحدة، أو في جهة واحدة، وإنما هي على الضفتين وفي الجهتين. ومن هذا المبدأ يجب الاعتراف بالتقصير الحاصل حيال شبابنا، ويجب الاعتراف أيضاً بالتقصير الحاصل من جهة الشباب أنفسهم – وبخاصة شباب الجيل هذا.

خاتمة
إن مقاومة الشباب المشروعة للأخطاء لا تكون بارتكابهم لأخطاء جديدة. والتمرد الحق على الاستبعاد والتهميش لا يكون من خلال ردود أفعال متسرعة هي أقرب إلى تدمير للذات وليس إغناء لها. وهي لا تكون كذلك من خلال ممارسات عبثية دخيلة على ثقافتنا ولا تقود إلا إلى الجنون والانتحار والموت. بهذه الممارسات نحن نضعف قضيتنا، ونخسر مشروعيتها، بل وندخِل الوهن والضعف إلى أنفسنا وندخل في طريق مسدود لا نكتشف خطورته إلا بعد فوات الآوان.
يجب أن يخرج الشباب من أنانيتهم الفردية الغالبة اليوم على معظم اشكال سلوكهم ومواقفهم، ويجب أن يشتركوا في أعمال غيرية إنسانية تطوعية من دون أجر، وهو ما يسمح لهم أن يكتشفوا لذة الإحسان وعمل الخير ومشاركة المحتاجين الآمهم واحتياجاتهم.
ويجب أن ينخرطوا في معركة القطاعات الواسعة من الشعب صاحب المصلحة في تغيير هذا النظام السياسي المتعفن. إن جزءاً كبيراً من أشكال الفساد والانحراف المتفاقمة التي نراها وننتقدها عند شباب وشابات اليوم إنما هي من صنع هذا النظام السياسي ومرجعياته الإعلامية والإعلانية والتجارية الاحتكارية الكبرى المقيمة في الخارج غالباً، والتي تروّج للفساد بين الشباب، تدعو إليه سرّاً وعلانية، وتموّله، والهدف واحد: تدمير شخصيتنا الوطنية، واعتزازنا بقيمنأ، والترويج لبضائعها الرديئة وثقافتها الخطرة وعلى حساب الإنسان وقيمه وتراثه. قد لا تكون العولمة التجارية الاستهلاكية المسيطرة على كل شيء في عالم اليوم شرّا بالكامل، فلها ربما إيجابياتها، لكنها بالتأكيد ليست كواراً من عسل. هي على العكس تدس السمّ في العسل. هي تقدم من التقنيات والمواد ما هو رخيص ومغرٍ وجذاب، ولكن على حساب شخصيتنا الوطنية وثقافتنا واعتزازنا بأنفسنا وتاريخنا وقيمنا. هي تفرض ثقافتها علينا بالقوة تحت زعم الانفتاح، من دون أن تبادلنا بالمقابل الاحترام لثقافتنا أو لخصوصياتنا. فهل نستسلم لما يخطط لنا ونقبل به صاغرين ومن دون نقد أو مساءلة؟
بعض ما يخطط لنا هو أن نكون مستهلكين فقط لفضلات الغرب والغربيين، من طعام ولباس وموسيقى وأفكار مجنونة، وأن لا نكون أبداً منتجين، علماً او صناعة أو أدباً أو فناً أو ثقافة! فهل نقبل ذلك على علاّته من دون التفكير في الهوة السحيقة التي يجري دفع شبابنا وشعبنا إليها؟
يجب أن لا يخسر الشباب قضيتهم ومعركتهم، وإذا خسروها، لا سمح الله، فمستقبل مجتمعنا هو الخاسر الأكبر. كيف لا وهم مادة المجتمع الأساسية (40% من السكان)، وهم روحه المتحفّز، وحاضره الحلو، وأمله في المستقبل.
وكي لا يخسر الشباب ويخسر المجتمع القضية الواحدة المحقة، على الشباب أن يدرك:
إن الانفتاح ضروري ولكن من دون أن نخسر هويتنا.
إن التواصل مع الآخر الغربي ضروري، ولكن التواصل يكون على خطين لا في خط واحد: أي نأخذ منه ويأخذ منا كذلك.
والمعاصرة مهمة ولكن الأصالة مهمة أيضاً. وجيل الشباب ينجح أعظم النجاح حين يتمكن من امتلاك الميزتين معاً: المعاصرة والأصالة في آن معاً!
ولعمري فالشباب اللبناني الراهن – مثله مثل الشباب العربي المعاصر الذي أذهل العالم – يمتلك من الذكاء والثقافة والإقدام ما يسمح له بتحقيق النقلة الكبرى بل الانتفاضة الكبرى التي ننتظرها، لا لمصلحة الشباب فقط وإنما لمصلحة المجتمع والوطن ككل.
والمدخل إلى ذلك كله هو ثقة شبابنا وشاباتنا بأنفسهم، فلا نضيّعنها مجّاناً، لإغراء من هنا نستسلم له، أو لظرف ضاغط من هناك نخضع له بتسرّع غير مبرر. فلنمتلك الحسّ النقدي الموضوعي للآخر، كما لأنفسنا، سواء بسواء.
باختصار، دعونا لا نقبل أي شيء يفرض علينا، أو حتى يقترح علينا، من دون تفكير وفحص ومساءلة. ولنمتلك في كل الظروف الثقة بأنفسنا، وبقدرتنا على مواجهة المشكلات والتحديات المعاصرة، وذلك من خلال:
1- امتلاك شرطي التعلّم والتدرّب المناسبين الضروريين للدخول إلى أسواق العمل الحديثة،
2- امتلاك روح التواصل الإيجابي مع الآخر، فذلك أفضل بكثير من المواقف السلبية،
3- وأخيراً، امتلاك التفكير العقلاني الهادئ والمنظّم، مع الشجاعة على نقد الذات والاعتراف بأخطائنا، تماماً كما ننتقد الآخرين ونحصي أخطاءهم أيضاً.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

شؤون وشجون الاغتراب في منطقة راشيا

عين على المعيشة وعين على مستقبل الأولاد

“الضحى” تحاور مغتربين ومقيمين حول الهجرة وآثارها

في منطقة راشيا التي صدرت ألوف الشباب نحو العالم وخصوصا المغتربات البعيدة في الأميركيتين الشمالية والجنوبية مشاعر مشتركة في ما يخص الغربة وآثارها. الهاجس الأول هو الأسرة والأولاد وخطر الذوبان في المجتمعات الجديدة وبالتالي انقطاع رابط “الحسب والنسب” مع الوطن الأم. السؤال الذي يردده الكثيرون ممن التقينا بهم: هل تستحق الهجرة وهدف جمع المال هذا الثمن الباهظ؟ الجواب مع ذلك ليس موحداً. بينما يعطي البعض الأولوية لإنجاز الثبات في الأرض وصون الهوية ويشكو ترك الأرض فإن البعض الآخر يعتبر الهجرة رافدا مهما لاقتصاديات القرى التي هاجر منها الشباب أو قل “شر لا بد منه” في غياب التنمية المستدامة وفرص العمل الكريم في الوطن.
هنا حصيلة جولة من الحوارات المفيدة التي أجراها مراسل الضحى عماد خير:

المغترب قاسم سلامة : لا ينفع جمع المال إذا خسرنا أولادنا

اغترب ما يقارب الـ 35 عاماً لكن الحنين إلى الوطن ومنادمة الأهل والأصدقاء وتربية الأولاد على عادات وتقاليد البلدة أثمن من جمع المال.

ما هي الظروف التي دفعتكم إلى السفر ؟ ولماذا كانت العودة والاستقرار في البلدة؟

أسباب الغربة تكاد تكون واحدة:

صعوبة الأوضاع الاقتصادية في لبنان، انعدام فرص العمل ثم الحرب الأهلية التي كانت كارثة على الوطن وعلى شبابه.
على الرغم من ذلك، فإن جمع المال في المغترب لا يكفي بل أقول ما الذي ينفع المرء إذا جمع الأموال الطائلة في الغربة وخسر أولاده؟ وأي ربح يمكن أن يعوض هذه الخسارة الفادحة. لهذا قررت أن تنشئة الأولاد في الوطن وعلى العادات والتقاليد المحلية وزواج الأولاد من أبناء ملتهم أثمن بكثير.

كيف تنظرون إلى العلاقات الاجتماعية بين لبنان وكندا؟
العلاقات الاجتماعية في كندا محدودة جداً وهي تقتصر على الأهل والمغتربين من ابناء البلدة أما العلاقة مع الآخرين فهي علاقة عمل. حاولنا الحؤول قدر الإمكان من دون اختلاط الأولاد بالأجانب ولا سيما خارج نطاق المدرسة

وذلك للتخفيف من احتمالات الاندماج بعادات وتقاليد الغرب. وكم كنت أتمنى أن يتوفّر لأولادي ظروف أفضل في هذا البلد لتجنيبهم خوض تلك التجربة مرة أخرى. ومما يثير القلق أن الكثير من أبناء الطائفة تزوجوا من نساء في كندا وهذا ما يؤدي الى قطع صلة الوصل بالوطن والأهل لأن أولادهم يشبون على عادات وتقاليد الغرب.

بماذا تنصحون أو هل لديكم اقتراح لتفعيل ارتباط الشباب بالبلدة؟
على القيمين على الشأن الدرزي شد أواصر الشباب من خلال ارسال كتيبات تشرح أهمية ارتباط الشباب بالوطن الأم.
المغترب أحمد الحلبي عدت وأعمل لعودة أبنائي أيضا

بعد 29 عاماً من الاغتراب كيف تنظرون إلى الغربة؟
الغربة عن الوطن هي مثل ليلة ظلماء من دون صباح، لأنها ليل يطول انتظار آخره وبزوغ الشمس والعودة الى الوطن وطن الآباء والأجداد. لكن ها أنا وبعد أعوام الغربة الطويلة عدت إلى الوطن داعيا أولادي أيضاً إلى العودة من خلال شراء الأراضي وتشييد الأبنية ومحاولة إقامة عمل في الوطن.

كيف بدأتم حياتكم في الغربة؟

بدأتها كتاجر متجول على العربة ثم اقتنيت سيارة وانتهيت بامتلاك محل للمفروشات كل ذلك كان بالمعاناة وعرق الجبين والسعي دوماً لإيجاد الأفضل.

هل أولادكم يحبّذون الغربة؟
أولادي متزوجون وعائلاتهم تسكن في البلدة. فهم مهاجرون من أجل العمل وهدفهم مثلي هو المحافظة على الأولاد ومنعهم من الانجراف خلف الثقافات الأخرى، وأنا عدت خصيصا لتزويج أولادي من البلد خوفاً عليهم من الارتباط بنساء أجانب.

السيد صدام ابو رافع: الهجرة نعمة ونقمة

صدام أبو رافع شاب عمد إلى تكوين ذاته في رحاب الوطن متسلحاً بالإرادة العليا، شعاره أن الوطن للجميع وأن الغنى ليس المال بل هو الاستقرار النفسي والهوية والحياة الأسرية السعيدة. سألناه:

كيف تنظرون إلى السفر؟
السفر هو مخرج أو متنفس للشباب عندما تأفل أمامهم السبل. والغربة على الرغم من المشقات والآلام التي تسببها باتت مكوناً أساسياً في اقتصاد الوطن. لكن لا يجب النظر إلى الهجرة على أنها نعمة فقط لأنها في الوقت

رئيس بلدية ينطا عن أثر الهجرة

الهجرة الواسعة أخرت سن الزواج والإنفاق أكثره على المنازل الفخمة

التقت مجلة “الضحى” رئيس بلدية ينطا نبيل الحلبي في حوار تناول تاريخ الهجرة في ينطا والآثار الاقتصادية والاجتماعية التي يرتها على البلدة وهنا نص الحوار:

ما هي دوافع الاغتراب في البلدة؟ضيق السبل المادية وصعوبة ايجاد فرص عمل والظروف الصعبة التي كان يعيشها أبناء هذه البلدة دفعتهم إلى الهجرة منذ القدم.

ما هو تأثير الحروب على الهجرة؟
الاوضاع المأسوية التي أرخت بظلالها على الوطن ككل خلال الحرب الأولى دفعت بالعديد من الشباب آنذاك إلى الهجرة، لكن صعوبة السفر في تلك الأيام أبقت على معدلات الهجرة منخفضة. لكن في مطلع 1950 أخذت معدلات الهجرة ترتفع نحو كندا وبلغت الذروة خلال الحرب الأهلية، حتى أصبح لدينا اليوم ما يقارب الـ 2000 مهاجر 90 في المئة منهم استقروا في كندا وتوزع الباقي على بلدان مختلفة.

كيف أثر الاغتراب على الروابط الأسرية؟
لا شك أن الغربة تؤثر على هذا الواقع حيث تأخر سن الزواج إلى ما بعد 30 عاما وارتفعت نسبة العزوبية لدى النساء وتزايدت حالات تزويج النساء إلى خارج البلدة.

ما هي طبيعة عمل المغتربين والمهن التي يأخذون بها؟
يعمل معظم مغتربي البلدة في التجارة وهناك آخرون استطاعوا اقتناء المطاعم لا سيما في ضواحي المدن والريف الكندي، كما برز العديد من أبناء البلدة على صعدٍ أخرى فهناك ثلاثة من ابناء البلدة كتّاب عدل على مستوى الجالية العربية والأستاذ صقر حسن العنيسي محامٍ لامع في الاستئناف.

هل هناك مساهمات من قبل المغتربين في الحياة الاقتصادية للبلدة؟
تلعب أموال المغتربين دوراً أساسياً وفعالاً في إنماء البلدة، وقد ساهمت تلك الأموال في تنفيذ مشاريع المياه والصرف الصحي وإقامة موقف في البلدة بالإضافة إلى إنشاء دار للمسنين.
كما تلعب أموال المغتربين دورا مهما في تحريك اقتصاد البلدة من خلال الأموال المرسلة إلى ذويهم. وخلال فصل الصيف يزداد عدد المغتربين في البلدة مما يخلق حركة اقتصادية جيدة . لكن مع الاسف لا توجد مشاريع تحد من البطالة في البلدة وإن كان هناك استثمار فهو غالبا ذو طابع فردي بينما ينفق الكثير من الأموال على تشييد المنازل الفخمة.

كيف ترون علاقة المغتربين بالبلدة؟
باختصار البلدة أصبحت مثل “الفندق” يأتي إليها المغتربون خلال فصل الصيف ويغادرونها في نهاية موسم العطلات، لكن يمكن القول أن المغتربين أصبحت لهم ثقافتهم وأجواءهم وإن كانوا يسعون جهدهم للحفاظ على علاقة عضوية بالوطن.

نفسه نقمة باعتبارها تفرغ الوطن من شبابه المتعلم والعامل بحيث أصبحت بعض القطاعات ولا سيما الزراعة تفتقر إلى العمال وتتأخر باستمرار

هل تعتبرون أن إنتاجكم اليوم جيد مقارنة مع ما يمكن أن تحققوه في الخارج؟
عرض علي العمل في الخارج وغادرت لبنان أشهراً عدة فوجدت أن الانسان عندما يطور عمله في وطنه ويكون مؤمناً به يستطيع أن يحقق نتائج افضل من النتائج التي يحققها في الخارج. أولاً المال ليس كل شيء وما النفع في أن تحصل على المال وتخسر عائلتك في ثقافةٍ مختلفة. وهل يستأهل ذلك المخاطرة بالنفس والعائلة وإن قست الظروف؟

هل يساهم المغتربون في اقتصاد البلدة؟
نعم، هناك مساهمات في الشأن العام وفي مد يد العون لمساعدة المحتاجين لكن لا يوجد مشروع يستطيع تخفيف البطالة أو ايجاد فرص عمل جديدة فكل الأعمال محض فردية.

رئيس بلدية ضهر الأحمر الاستاذ شوقي بحمد:

تعتبر ضهر الأحمر إحدى قرى راشيا المهمة والنابضة بالحياة. “الضحى” التقت رئيس البلدية الأستاذ شوقي بحمد في هذا الحوار:

كيف ساهم الاغتراب في هذه الحركة؟
يلعب المال الاغترابي دوراً مهماً في غياب الانتاج المحلي على الصعد الزراعي والصناعي، وغالباً ما تتجه تحويلات المغتربين نحو تشييد الأبنية وإنشاء المؤسسات التجارية أو الإنتاجية الفردية.

هل لهذه النشاطات دور في استيعاب البطالة؟
للأسف لا يوجد مؤسسات ضخمة قام بها المغتربون وتستوعب أعداداً من الموظفين بل بقي جل نشاطهم محصورا في مؤسسات فردية وبعض المصانع البسيطة.
وقد يكون الاستثناء المحلي هنا هو الاستثمار في قطاع التعليم الخاص، إذ نشأ عدد من المدارس الخاصة التي تساهم بشكل فعّال في توفير فرص العمل للشباب لكن معظم هذه المؤسسات استثمار محلي ولا تعود إلى مغتربين.

كيف أثّرت حركة الاغتراب في تنشيط سوق العقارات؟
المال الاغترابي لعب دورا مهما في تنشيط حركة العقار والبناء إذ تم استثمار جزء مهم من أموال المغتربين في شراء الأراضي وتشييد الأبنية التجارية والسكنية. لكن هذا الإقبال أدى من جهة ثانية إلى رفع أسعار العقارات بشكلٍ ملحوظ.

د. شوقي أبو لطيف عن الهجرة في عيحا

أصبحت قطاعاً اقتصادياً ولا حل من دون تنمية مستدامة

بلدة عيحا هي إحدى القرى الواقعة في سفوح جبل الشيخ، يقارب عدد سكانها الـ 3000 نسمة لكن ما يقارب الـ 30 في المئة منهم منتشرون في الاغتراب
يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن هجرة أهل ينطا بدأت نحو الأميركيتين الشمالية والجنوبية في مطلع القرن الماضي لكنها بلغت حدا في ما بعد قبل أن تشهد البلدة موجة جديدة من الهجرة بعد العام 1950، ثم خلال الحرب الأهلية التي اندلعت العام 1975. في تلك الفترة الصعبة سافر ما يقارب الـ 200 شاب إلى المملكة العربية السعودية لينتقلوا في ما بعد نحو كولومبيا والبرازيل وفنزويلا.وما زالت الهجرة في ينطا هجرة شبابية بالدرجة الأولى، وعلى الرغم من أن العديد منهم يعتقد أنه يهاجر للعمل ولكنه سرعان ما يركز أعماله في البلد ويكتشف أنه من الصعب عليه ترك أعماله والعودة، كما أن البعض الآخر يرى أولاده يتزوجون في تلك البلاد ويقيمون فيها وهؤلاء يرغبون عادة البقاء إلى جانب أولادهم

شرح الدكتور أبو لطيف مخاطر الاغتراب على العلاقة طويلة الأمد بالوطن بالقول أن هناك بعض المغتربين الذين يحرصون على العودة بأولادهم إلى رحاب الوطن من خلال إرسالهم للتعلم في الجامعات اللبنانية، وهم يعملون بصورة مستمرة على توثيق عرى التواصل مع الوطن وذلك عبر إرسال الأولاد بشكل مستمر إلى البلدة ليقضوا عطلة الصيف مثلا. لكن الاستمرار في الاغتراب وترك الأولاد ينهلون من ثقافة الغربة يعقدان مهمة الأهل الذين غالباً ما يخسرون الرهان ويعجزون عن تحقيق حلم العودة والاندماج مجدداً بالوطن
ويضيف أن الآثار السلبية للهجرة لم تقتصر على خسارة الرابط بالأهل والوطن بل تعدتها مع الأسف إلى الاقتصاد الزراعي الذي شكل أساس نمط عيش أهلنا والسبب الأهم لتمسكهم بالأرض. وقد ساهمت الهجرة إضافة إلى سعي الشباب للعمل الوظيفي إلى تدهور حالة الأراضي الزراعية وإهمال الكثير منها كما أدت إلى تراجع حجم الإنتاج الزراعي في القرية ومحيطها
على الرغم من ذلك يقول الدكتور شوقي أبو لطيف أن الهجرة باتت واقعاً أساسياً وجزءاً من مجتمعنا، بل هي أصبحت قطاعاً اقتصادياً أساسياً لا يقل في أهميته عن القطاعات الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة أو الصناعة أو الخدمات، لأن هذا القطاع يدعم الاقتصاد المحلي من خلال التحويلات المالية الكبيرة التي ترد من عالم الاغتراب، وهو يرى أن التخفيف من الهجرة وآثارها يكون عبر التنظير عن بعد بل يجب البحث في أسس التنمية المستدامة والبحث عن البديل وتأمين فرص حقيقية وأمل بالمستقبل للشباب في لبنان

الشيخ هائل القاضي: مناجل الغربة تحصد أولادنا

أحد قدامى مغتربي عين عطا حدثنا وقال أن الهجرة في البلدة شأنها شأن معظم الهجرات المماثلة. سفر وحلم بالعودة ثم غلبة المهجر ومتطلباته على آمال العودة. ويشير إلى أن معظم هجرة عين عطا بدأت في مطلع القرن الماضي إلى الأرجنتين والولايات المتحدة. وبالنظر لأن تلك البلاد بعيدة فإن تواصل المهاجرين الثقافي والعائلي يصبح صعباً، وهم لذلك يسلّمون بالأمر الواقع والقليل منهم عاد أدراجه نحو الوطن. ويضيف القول أن الهجرة عادت مجدداً في مطلع خمسينات القرن الماضي ولا سيما نحو البرازيل حيث كان من أوائل هؤلاء المغتربين محمد حسن خضر ومحمد سعيد القاضي.
ألفت هنا إلى أنه وفي مطلع العام 1960 هاجر من البلدة 60 شاباً في وقت كان عدد المنازل فيها ستين منزلاً أي أننا شهدنا هجرة شاب واحد على الأقل من كل منزل.

كيف كان واقع الهجرة خلال الحرب الأهلية؟
أثرت الحرب الأهلية كثيراً فتضاعف عدد المهاجرين بشكل ملحوظ ولاسيما نحو أوستراليا، حيث برز عدد من المهاجرين وفي طليعتهم أبناء الشيخ علي ريدان.
أحد مغتربي عين عطا قال الهجرة أصبحت مصيدة الشباب الناجح عندما يغترب الشباب ويؤسس عمل يقع فريسة اللاعودة فهو لا يستطيع التخلي عنه بل يصبح جزءاً منه فينقله إلى أولاده ليصبحوا ملزمين به.
وآخرون يفشلون فلا يحبذون العودة فتحصد مناجل الغربة أولادهم.

من هم أبرز مغتربي البلدة الذين ساهموا بشكل فعّال في إنمائها؟
لا نستطيع أن نحصر المساعدات باشخاصٍ محدودين لكن نستطيع القول بأن السيدين محمد حسن خضر وسليمان علي ريدان من اصحاب الأيادي البيضاء الذين ساهموا مساهمة فعّالة في انماء الشأن العام للبلدة من خلال ما أسدوه من خدمات إلى أبناء بلدتهم.

المغترب أياد أبو لطيف : الاغتراب سلاح ذو حدين

هل أثّر الاغتراب على العلاقة الأسرية؟
تزوجت ولم أرغب أن تغادر زوجتي فكونت أسرة في لبنان وكنت أزور البلد بشكل سنوي كي لا يشرب أولادي أجواء الغربة، والرغبة في المحافظة عليهم. واليوم قررت أن أبقى بشكل نهائي إلى جانب أسرتي كي لا أكسب المال وأخسر أسرتي.

كيف يساهم المغتربون في البلدة؟
يلعب المغتربون دوراً مهماً في تنشيط الحركة الاقتصادية من خلال الأموال التي يتم صرفها

لا سيما خلال فصل الصيف أو الأموال المرسلة إلى ذويهم.

المغترب فوزي كمال الحاج: إقبال على العقار

أولادي لا يحبذون العودة لغياب الإستقرارين الأمني والسياسي في البلد وعدم قدرتهم على التكيف مع هذا الواقع المرير لا سيما المحسوبية.
المشكلة مع ذلك ليست في الهجرة وحدها بل في تحول الشباب نحو الوظائف الحكومية والخاصة أو العمل التجاري وتراجع المساحات المستثمرة زراعياً وكذلك تربية المواشي التي ضعفت بشكل كبير ولاسيما في السنوات العشر الأخيرة.
في المقابل نرى أن المال الاغترابي اتجه نحو سوق العقارات في منطقة راشيا بشكل ملحوظ سواء على سبيل الاستثمار أو بهدف بناء المنازل الخاصة أو إنشاء الأبنية المعدة للتأجير والاستثمار التجاري.

صوت مواطن رفض الاغتراب
سامر سيف الدين: الثبات إنجاز أهم من الهجرة

الأستاذ سامر سيف الدين مدرس شق طريقه منفرداً بعيداً عن الغربة على الرغم من العروض التي قدمت له للعمل في الخارج فكان أن ارتضى العمل براتب في البلد وعدم الإغتراب براتبٍ يعادل 3 أضعاف راتبه. سألناه:

ما الدافع وراء بقائكم في ينطا على الرغم من هذا العدد الهائل من الذين هاجروا؟
دفعني أولا حب الوطن والإيمان بأن من الممكن لأي شخص يجتهد أن يجد فرصة عمل في بلده. كنت كلما راودتني فكرة السفر أسترجع أيام صباي وصور البيوت ورائحة الصعتر والزيتون وجمال جبل حرمون فأعدل وأقرر الثبات في الأرض.

ما هو واقعكم اليوم وماذا حققتم؟
أستطيع القول إنني حققت في بلدي ما عجز الكثيرون عن تحقيقه في الخارج وبثمن الغرفة وشقاء الانسلاخ عن الجذور. لقد حقق البقاء ومقومة فكرة الهجرة جزءاً من طموحي بالإضافة إلى اكتسابي مهنة التعليم الممتعة وهي مهنة تمكنك فعلا من تخريج الرجال التي تعتبر مصنع الأجيال وخزان الوطن، كما أنني أصبحت مدرباً في المركز الثقافي البريطاني.

ما الذي تعتبرونه أبرز انجازاتكم ؟
الانجاز الأكبر في نظري كان البقاء في الوطن وتدبر شؤوني في وطني، فضلاً عن ذلك فإنني حزت على عدد من الجوائز في العالم العربي بما في ذلك الحصول على المركز الثالث في سلطنة عمان أمام ما يزيد على 200 أستاذ من 18 دولة عربية.

بماذا تنصحون الشباب؟
أنصح الشباب بأن يتحلوا بالصبر والنفس الطويل وأؤكد لهم أن الوطن قادر على حضن الجميع ولكن لا بدّ من بعض التضحيات وعدم استعجال النتيجة.

حمــايــة الأطفال في أثناء الحروب والنـزاعـات

حمــايــة الأطفال
في أثناء الحروب والنـزاعـات

في حالات الصّراع المسلّح، يتعرّض الأطفال بالآلاف للقتل والتّشويه والاغتصاب والتّعذيب. كما يتعرض مئات الآلاف من الأطفال الذين يتم تجنيدهم لمخاطر الإصابات والعاهات والوفاة أثناء القتال، بالإضافة إلى الانتهاك البدني والجنسي من جانب رفاقهم من الجنود أو قادتهم. أمّا الأطفال الذين يفرّون من مناطق الحروب ليصبحوا في عداد اللّاجئين، فيصبحون مهمّشين ويواجهون المخاطر بدورهم، لأنّهم يظلون معرّضين للانتهاكات البدنيّة والعنف الجنسيّ، والهجمات التي تتمّ عبر الحدود.
وظاهرة استهداف الأطفال في الحروب ليست ظاهرة جديدة على مستوى العالم العربي، فأطفال فلسطين كانوا وما يزالون ضحايا حرب مزمنة، ومع توسّع دائرة الحروب يسجّل الضحايا من الأطفال أرقاماً مُفجعة في مناطق الصّراع، وتزداد المأساة الإنسانية حين يودّع الأطفال الطفولة ويرتدون الزِّي العسكري في الجبهات، وتتزايد معدّلات تجنيد الأطفال في العديد من الدّول العربية بتصاعد حدة الصّراعات، ورغم عدم وجود احصائيّات دقيقة وشاملة إلّا أنّ تقارير أصدرتها منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسيف) تؤكد على أن كافة أطراف النزاع في دول الصراعات، تقوم بتجنيد الأطفال من الإناث – لخدمة الجُناة سواء في الأعمال المنزليّة أو في المعاشرة الجنسية – والذّكور – إذ يُستخدمون حمّالين وجواسيس أو يستخدمون “لمرة واحدة” كدروع بشريّة وفي العمليّات الانتحارية – بالإضافة إلى تحويلهم جنوداً في حروبها، بشكل عام، وبصرف النّظر عن اختلاف الظروف، ودرجة انتشار الظّاهرة في البلدان موضع الصراعات، وعن الكيفيّة التي يتمّ فيها تجنيد الأطفال، تؤدي مشاركة الأطفال في المعارك إلى آثار مدمّرة على صحّتهم النفسيّة وتعرّضهم لمخاطر جسدية، مما ينتج عنه صعوبات بالغة التعقيد في عملية إعادة دمجهم مجتمعيّاً.
تجنيد الأطفال الى قائمة العار التي يصدرها الأمين العام سنويــاً
لقد حدّدت القوانين والأعراف الدوليّة “سن الثامنةَ عَشْرَةَ بوصفها الحدّ القانوني الأدنى للعمر بالنسبة للتجنيد ولاستخدام الأطفال في الأعمال الحربية، وتضاف أطراف النزاع التي تجنِّد وتستخدِم الأطفال بواسطة الأمين العام في قائمة العار التي يصدرها سنويّاً..”، لكن غالبيّة الأطراف المنخرطة في النّزاعات المسلّحة لا تراعي القوانين والأعراف. وتعدّ عمليات اختطاف الأطفال جريمة حرب، وكذلك سبيِ الفتيات القاصرات اللاتي يتمّ إجبارهن على العمل كـ “إماء للأغراض الجنسيّة”، وواحدة من المشاكل الكبيرة التي ستعترض طريق تلك المجتمعات، الغارقة في نزاعات مسلّحة، تتمثّل في وضع خطط مجتمعيّة لتقديم الدعم للأطفال الضّعفاء الذين تضرّروا بشدّة جرّاء الصراع. لتعزيز المصالحة وتجنب التمييز، ووفقاً لما تؤكد منظّمة “اليونيسيف” “تتطلّب هذه الإجراءات منظوراً والتزاماً طويل الأمد تجاه الأطفال والمجتمعات المحلية المتضرّرة من النزاعات التي يعودون إليها”.
وقد احتلّت تونس المرتبة الأولى عربيّا والعاشرة عالميّاً في مؤشر حقوق الأطفال لعام 2016 الذي أصدرته منظّمة حقوق الأطفال، وشمل 163 دولة، من بينها 17 دولة عربيّة، وجاء العراق في آخر القائمة بالمرتبة الـ 17 عربيّا والمرتبة 149 عالميا؛ نظراً لما يعانيه أطفال العراق من ويلات الحروب، ونالت مصر المرتبة الـ 34 عالميّاً، فيما احتلّت سلطنة عُمان المرتبة الـ 40، ولبنان في المرتبة الـ 42 عالميّاً، ثمّ الأردنّ في المرتبة الـ 46، كما احتلت الإمارات المرتبة الـ 78 عالمياً في مؤشر حقوق الأطفال، ثم السعودية في المرتبة الـ 80 ، وليبيا في المرتبة الـ 82، وجاءت سوريا في المرتبة الـ 105 عالميا، تلتها البحرين في المرتبة الـ 106، ثم موريتانيا في المرتبة الـ 120 واليمن بدورها حلّت في المراتب الأخيرة للمؤشّر، وورد اسمها في المرتبة الـ 131، أمّا إريتريا فقد سبقت العراق بنقطة واحدة وجاءت في المرتبة الـ 148.
في هذه الحالات كيف نستطيع حماية أطفالنا من العنف الذي يواجههم؟
قبل دراسة كيفية حماية الأطفال أثناء الحروب، سنبدأ بتعريف الطفل في الاتفاقيات الدولية. ثم سنعرض لبعض الإحصاءات الدولية واللبنانية التي تشير إلى مدى تأثير الحروب على الأطفال، ومدى خطورتها!

طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة
طفل يمني يحمل السلاح في ظاهرة تجنيد الأطفال المنتشرة

عريف الطفل في الاتفاقيات
الدولية لحقوق الطفل
الطفل في إعلان حقوق الطفل هو إنسان ينقصه النضوج البدني والعقلي. وقد جاء في الديباجة «أنّ الطفل، بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة، قبل الولادة وبعدها».
وتعرّف المادة الأولى من اتفاقية حقوق الطفل «الطّفل كلّ إنسان، لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ما لم يبلغ سن الرّشد قبل ذلك بموجب القانون المنطبق عليه». وتعتبر المادة المذكورة أنّ الطفل سواء أكان ذكراً أم أنثى هو فرد أو عضو في أسرة وفي مجتمع في آن معاً، وله مجموعة حقوق مع الإشارة إلى أنّ غالبية البلدان والمجتمعات كانت قد اعتمدت قبل ظهور الاتفاقيّة بزمن سنَّ الثامنة عشرةَ كحد أقصى لمرحلة الطفولة، في حين أنّ غيرها من البلدان والمجتمعات اعتمدت ولا تزال سنّاً أصغر لأنّها تعتبر أن الطفل يكتمل نموّه البيولوجي قبل ذلك بفعل عوامل المناخ.
ولا بدّ من أن نشير بأنّ البلوغ المبكر لسن الرّشد يتأتى عنه مسؤولية أكبر للطفل الراشد، لأنّه يتحرر باكراً من الولاية والوصاية، ممّا يجعله مسؤولاً كاملاً أيضاً أمام القانون والمجتمع.

حماية الأطفال أثناء الحروب
والنزاعات المسلحة.
جاء في تقرير اليونيسيف “وضع الأطفال في العالم 2005” أنّ الأطفال الذين يعيشون في ظروف النّزاعات المسلحة، فحتّى وإن لم يُقتلوا أو يصابوا فمن المحتمل أن يُيَتَّموا أو يُخطفوا أو يُترَكوا وهم يعانون آثار الأسى والألم النفسي والاجتماعي جرّاء التعرض المباشر للعنف أو التشرد، والأطفال الذين يَبْقَوْن على قيد الحياة غالباً ما يجدون أنفسهم محاطين بمعركة من نوع آخر في مواجهة المرض والمأوى غير الملائم والافتقار إلى الخدمات الأساسية وسوء التغذية.
ويمكن أن تتورّط المدارس أيضاً في العنف المصحوب في أغلب الأحيان بنتائج مأساوية وربما يجبر الأطفال على التجنيد لغايات القتال والاستعباد ومواجهة العنف الجنسي أو الاستغلال أو التعرض لبقايا الأعتدة الحربية التي لم تنفجر أثناء الحرب والتي تقتل أو تُقعِد أو تشوّه الآلاف، وتكون الفتيات بصورة خاصّة عرضة للاستضعاف والتعرّض للعنف الجنسي والإساءة والوصم الاجتماعي أثناء أوضاع النّزاعات المُسلّحة وبعدها.
وتظهر إحدى الدّراسات المسحيّة التي أجرتها منظمة اليونيسيف على45 طفلا تعرضوا للغزو أن:‏
֎ 62٪ من الأطفال تعرضوا لصدمات نفسية، كأن شاهدوا جُثَثاً ملقاةً
على جانبي الشارع لأشخاص لا يعرفونهم وأحيانا لأشخاص يعرفونهم.
֎ 20 ٪ من أطفال العينة العشوائية فقدوا أقرباء لهم بواسطة القتل أو
الأسر.‏
֎ 50٪ تعرضوا لاضطرابات نفسية من جرّاء الغزو كالأحلام المزعجة
والكوابيس والخوف المستمر من كل شيء.‏
واتضّح أنّ جميع الأطفال الذين خضعوا للدراسة خاصة في المرحلة العمرية (6 سنوات) يخافون الخروج من المنزل وكانت رسوماتهم تعبّر عن الألم المكبوت كأن يقوموا برسم صور الجثث – الدم – الطائرات وكل ما له علاقة بالغزو.‏
إن معاناة الأطفال من الحروب لا تتوقّف بتوقّف المدافع، بل ترافقهم إلى مراحل متقدمة من أعمارهم وهذا ما أكّده بحث أجرته منظمة “اليونيسيف” بالتعاون مع وزارة التعليم العالي في لبنان على 500 طفل لبناني ممن عايشوا أو شاهدوا مذبحة قانا أثناء الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان عام 2006، حيث تبين أنّ 30% من هؤلاء الأطفال لا يزالون يعانون من اضطرابات النوم، و14% يعانون من الاكتئاب، و40% منهم فكّروا في الانتحار.
إنّ النتائج السلبية التي يمكن أن تتركها الحرب على شخصية الأطفال قد لا تظهر مباشرة في سلوكهم، ولكنّها سوف تنعكس على مستقبلهم، وعلى الأخص عندما يصبحون مراهقين فالطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل والدمار من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية، وإذا رجحت كفّة التجارب السلبية على التجارب الإيجابيّة، فإنّ السلوك عند الطفل سيكون له النصيب الأوفر في حياته المستقبليّة.
وتشير بعض الدراسات إلى أنّ الأطفال الذين يتعرّضون في طفولتهم لمأساة إنسانية، كالتعذيب، أو العنف الجسدي الحاد، أو التوقيف الاعتباطي، أو الاغتصاب وغيرها من المآسي كالتهجير القسري والمجازر، تنشأ لديهم رغبة قوية في أن يصبحوا جنوداً، فهذا يُشعرهم بأنّهم يكملون المسيرة التي بدأها أقرباؤهم الذين قُتلوا، بالإضافة إلى أنّ نمط الحياة العسكرية يخوّلهم أن يحلموا بالانتقام ويعطيهم انطباعاً بأنهم يتحكّمون بزمام الأمور، ولكن بالعكس يتعرّض الأطفال الجنود إلى أشكال عنيفة شتّى.
ومن آثار التجنيد على الأطفال، الكوابيس الليلية كالأرق والتبول اللّاإرادي واضطرابات في الأكل، وعدم القدرة على التركيز… كما يُرافق الطفل ضغط نفسي ومشاهد سابقة لحوادث مؤذية حدثت أمامه أو شارك فيها، وهذا ما يدفعهم إلى الإدمان على الكحول والمخدِّرات.

وفي إطار مكافحة هذا النوع من العنف، نصّت المادة 38 من اتفاقية حقوق الطفل على ما يلي:
أ‌) تتعهّد الدّول الأطراف بأن تحترم قواعد القانون الإنساني الدّولي
المنطبقة عليها في المنازعات المسلّحة وذات الصلة بالطفل وأن تضمن احترام هذه القواعد.
ب‌) تتّخذ الدّول الأطراف جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن
ألّا يشترك الأشخاص الذين لم تبلغ سنّهم خمس عشرة سنة اشتراكاً مباشراً في الحرب.
ت‌) تمتنع الدول الأطراف عن تجنيد أيّ شخص لم تبلغ سنّه خمس عشرة سنة في قواتها المسلحة، وعند التجنيد من بين الأشخاص الذين بلغت سنّهم خمس عشرة سنة ولكنّها لم تبلغ ثماني عشرة سنة، يجب على الدّول الأطراف أن تسعى لإعطاء الأولويّة لمن هم أكبر سناً.
ث‌) تتخذ الدّول الأطراف، وفقاً لالتزاماتها بمقتضى القانون
الإنساني الدَّولي بحماية السكّان المدنيين في المنازعات المسلّحة، جميع التدابير الممكنة عملياً لكي تضمن حماية ورعاية الأطفال المتأثّرين بنزاع مسلّح.
كما جاء في المادة 39 من الاتفاقية ذاتها: تتّخذ الدول الأطراف كلّ التدابير المناسبة لتشجيع التأهيل البدني والنفسي وإعادة الاندماج الاجتماعي للطفل الذي يقع ضحية أي شكل من أشكال الإهمال أو الاستغلال أو الإساءة، أو التعذيب أو أي شكل آخر من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، أو المنازعات المسلّحة. ويجري هذا التأهيل وإعادة الاندماج هذه في بيئة تعزز صحّة الطفل، واحترامه لذاته، وكرامته.
وتجدر الإشارة إلى البند 25 من الإعلان العالمي لبقاء الطفل وحمايته ونمائه الصادر في 30 أيلول/ سبتمبر عام 1990، الذي أكّد على ضرورة ضمان حقوق الطفل في ظل النزاعات المسلحة.

قانون العمل الدّولي.
إنّ الاتفاقية الأهم في قانون العمل الدولي لناحية حماية الأطفال في النزاعات المسلحة هي اتفاقية حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال.
حدّدت الاتفاقية 182، وللمرّة الأولى منذ قيام منظمة العمل، مفهوم “أسوأ أشكال عمل الأطفال”، فنصّت المادة الثالثة على التالي:
“يشمل تعبير “أسوأ أشكال عمل الأطفال” في مفهوم هذه الاتفاقية ما يلي:
֎ كافّة أشكال الرقّ أو الممارسات الشبيهة بالرِّق، كبيع الأطفال
والاتجار بهم وعبودية الدّين والقنانة والعمل القسري أو الإجباري، بما في ذلك التجنيد القسري أو الإجباري للأطفال لاستخدامهم في صراعات مسلحة.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لأغراض الدّعارة، أو لإنتاج
أعمال إباحية أو أداء عروض إباحية.
֎ استخدام طفل أو تشغيله أو عرضه لمزاولة أنشطة غير مشروعة، ولا
سيّما إنتاج المخدِّرات بالشّكل الذي حُدِّدت فيه في المعاهدات الدّولية ذات الصّلة والاتجار بها.
֎ الأعمال التي يُرَجّح أن تؤدي، بفعل طبيعتها أو بفعل الظّروف التي
تزاوَل فيها، إلى الإضرار بصحة الأطفال أو سلامتهم أو سلوكهم الأخلاقي”.
إضافة إلى الحماية القانونية، لا بد من الحماية الاجتماعية، وهنا يأتي دور الدّولة والمؤسّسات الأهلية والمجتمع المدني ووسائل الإعلام في:
֎ الالتفات للأطفال في زمن الحرب.
֎ توفير مساكن آمنة ومجهّزة للأطفال أثناء الحرب.
֎ إنشاء مراكز متخصّصة لتقديم برامج علاجية – نفسيّة خلال فترة الحرب وبعدها للأطفال.
֎ تأمين الغذاء اللازم والمساعدات الصحية.
֎ تأمين دورة إسعافات أولية لأهالي المناطق المعرضة للحرب.
وتلعب وسائل الإعلام دوراً مهمّاً في نقل الصّورة والوقائع بحذافيرها للمسؤولين في محاولة ما يمكن إنقاذه من أهالي وأطفال.
֎ يجب على الآباء والأمّهات الانتباه إلى ملاحظة الآثار النفسيّة السلبيّة التي سببتها الحرب لدى أبنائهم مثل الخوف والقلق والعُصاب والكوابيس والبكاء والتبول اللاإرادي، والمُسارعة إلى تقديم العلاج النّفسي اللازم لأبنائهم.‏
֎ تعزيز روح المواطنيّة وتعزيز روح التعاون.
يواجه الأهل تحدِّيات جمّة في التعامل مع أطفالهم أثناء الحروب ليس في البلدان التي تدور فيها الحرب فحسب بل في البلدان التي تتابعها على شاشات التلفاز، ففي كل الأحوال يحتاج الأطفال إل معاملة خاصّة من ذويهم سواء كانوا ضحايا للحرب أو مجرد متابعين لها، بعض البلدان أدركت خطورة هذه المسألة فعمدت إلى مساعدة الآباء والأمّهات من خلال برامج توعية في المدارس تهيّئ الأطفال للتفاعل مع الحرب دون صدمات.

الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017
الطفلة الفلسطينية عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً نضاليّاً، في مواجهة جندي إسرائيلي، وعهد مُعْتَقلة مع والدتها منذ كانون أول 2017

ودور الأيتام، وسمات الشيخوخة على وجوه أطفال أنهكهم الجوع وسوء التغذية في الدول الأكثر فقراً في العالم، حيث أنّ طفلاً من بين ستة أطفال حول العالم يموتون قبل سن الخامسة، ولا يزال آلاف الأطفال يشكّلون الحلقة الأضعف في بُنية المجتمع، فيفرض عليهم الحد الأقصى من الواجبات والعقوبات، مقابل الحد الأدنى من الحقوق والضمانات، ولا يزال الطّفل فيه عرضة لشتّى أنواع الضّغوطات والتوتّرات والانتهاكات النّاجمة عن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتمييز الجنسي والعرقي وأحياناً الطائفي.

وكعيّنة لا أكثر من الإحصاءات الدّولية التي توضح أو تشرح الوضع المأساوي للأطفال نورد ما يلي:

إحصاءات دولية
֎ يعيش نحو 1.5 مليون طفل من ضحايا الحرب في رعاية الدولة في وسط أوروبا وشرقيها وحدهما.
֎ إنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة في المئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ لقد زادت في العقود الأخيرة نسبة الضحايا المدنيين في النزاعات المسلحة بصورة مثيرة، وأصبحت تُقدّر الآن بأكثر من 90 في المائة، ويمثّل الأطفال ما يقرب من نصف الضحايا.
֎ ويتعرض من ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف طفل كل عام للقتل بسبب الحروب والنزاعات.
֎ أُجبر ما يقدّر بنحو 20 مليون طفل على الفرار من ديارهم بسبب النّزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان، ويعيشون كلاجئين في بلدان مجاورة أو نزحوا داخليّاً، أي داخل حدودهم الوطنية، وإنّ ما يُقدّر باثنين إلى خمسة بالمئة من عدد اللاجئين أطفال غير مصحوبين بذويهم.
֎ أكثر من مليون طفل أصبحوا يتامى أو منفصلين عن ذويهم، وتعرّض ما لا يقل عن 6 ملايين طفل، للإعاقة الدائمة، أو لتقطيع الأطراف، بين عامي 1990و2000.
֎ ويُقَدّر عدد الأطفال الجنود بنحو 300 ألف، من البنين والبنات الأقل من 18 سنة، وهم متورّطون في أكثر من 50 نزاعا مسلّحاً على مستوى العالم ويستخدم الأطفال الجنود كمحاربين وكمراسلين وحمّالين وطباخين ولتقديم خدمات جنسية، ويتعرّض البعض منهم للتجنيد القسري أو الخطف، وآخرون يدفعهم الفقر وإساءة المعاملة والتمييز إلى الانضمام، أو السّعي للثأر بسبب العنف الذي تسلّط عليهم وعلى أسرهم.
֎ وتتعرّض الفتيات والنّساء إبّان النّزاعات المسلّحة لمخاطر الاغتصاب، والعنف المحلّي، والاستغلال الجنسي، والاتجار، والإذلال والتشويه الجنسي، وقد أصبح استخدام الاغتصاب وغيره من أشكال العنف ضدّ النساء استراتيجية في الحروب تستخدمها كل الأطراف.
֎ كشف عن استخدام الأطفال في التفجيرات من قبل منظّمات مسلّحة، وذلك للقيام بعمليات انتحارية على مراكز عسكرية محددة.
֎ كما تؤدّي النزاعات إلى تشتيت الأسر، الأمر الذي يضع مزيدا من الأعباء الاقتصادية والعاطفية على المرأة.
֎ يعيش أكثر من مليون طفل في الاحتجاز حيث تنتظر الأغلبيّة العظمى منهم محاكمات على جرائم صغرى، ويعاني العديد منهم الإهمال والعنف والأذى.
֎ وهناك مواقع أميركية، تقدم عرضاً لبيع أطفال الشوارع بمبلغ 27440 يورو للطفل الواحد

إحصاءات عربيّة
مع تصاعد وتيرة العنف ضدّ الأطفال في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، بات لا ينقضي يوم واحد دون أن نسمع عن مقتل أو استهداف طفل! بات الأطفال هم الهدف وهم الضّحية في الحروب البشعة، والمجازر الظالمة! وإن لم يُصَب هؤلاء الأطفال بأي مكروه جسدي، تصيبهم التداعيات النّفسية، وتؤثّر عليهم وعلى مستقبلهم وحياتهم على المدى الطويل.
حسب إحصائيات منظمة الأمم المتحدة، هناك نحو 1 مليار طفل يعيشون في مناطق يتواجد فيها صراعات، ومنهم ما يقارب الـ 300 مليون طفل دون الخامسة من العمر!، وأوضحت منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلوم والثقافة اليونيسكو -UNESCO أنه في عام 2013، كان هناك نحو 28.5 مليون طفل خارج المدارس بسبب الصراعات الموجودة.
وقد أعلنت الممثّلة الخاصّة للأمين العام للأمم المتحدة المعنيّة بالأطفال والصراعات المسلحة بحسب إحصائية سابقة أنّ عدد الأطفال اللاجئين أو المشردين داخل سوريا وصل إلى (خمسة ملايين طفل)، وفي مصر يموت يوميًا (125) طفل بسبب التلوث وعدم الرّعاية الصحيّة، كما يوجد (5) مليون طفل عراقي محرومين من حقوقهم الأساسية ومعرّضين للانتهاكات الخطيرة لحقوق الطفل، كما أنّ نصيب الدّول العربية من عمالة الأطفال هو (10) مليون طفل، منهم (3 مليون) طفل في مصر وحدها، ويوجد في الدول العربية نحو (5 مليون) طفل غير ملتحقين بالتعليم الابتدائي, و(4 ملايين) مراهق تقريبًا غير ملتحقين بالتعليم الثانوي.
وفيما يلي تستعرض مُنظّمة “هيومن رايتس مونيتور” أوضاع الأطفال على مستوى العالم العربي كالآتي:

3- أطفال فلسطين
قالت القائمة بالأعمال بالإنابة لبعثة المراقبة الدائمة لدولة فلسطين لدى الأمم المتحدة، نادية رشيد، إنّ أطفال فلسطين يتعرّضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال مع الإفلات التام من العقاب، ومنذ تشرين أول/ أكتوبر 2015، قتل أكثر من 40 طفلاً، قضى العديد منهم بعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، وذكرت أن الشعب الفلسطيني، بما في ذلك الأطفال، في الأرض الفلسطينية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقيّة يعانون لما يقرب من نصف قرن تحت الاحتلال الإسرائيلي من انتهاك حقوقهم من قبل السلطة الإسرائيلية، القائمة بالاحتلال، مشدّدة على أنّه رغم من وجود أحكام لتوفير الحماية للمدنيين تحت الاحتلال الأجنبي وفقاً للقانون الدّولي، لا يزال الأطفال الفلسطينيون يتعرضون للقتل والجرح والإرهاب من قبل السلطة القائمة بالاحتلال.

1- أطفال سوريا.
حسب بيان لليونيسف قال “مارتن” الذي زار لبنان للقاء الأطفال اللاجئين الذين فرّوا من الحرب في سورية: «نحن في السنة السادسة من أزمة أثّرت على حياة الملايين من الأطفال وأسرهم. إنّ ما يقارب 2.8 مليون طفل سوري خارج مقاعد الدراسة في المنطقة، وقد التقيت أطفالاً باتوا المعيلين الوحيدين لعائلات بأكملها، يعملون لمدة 12 ساعة يوميّاً» مشدّداً على ضرورة أن يفعل العالم المزيد لحماية هؤلاء الأطفال من الاستغلال وتوفير الوصول إلى بيئة آمنة حيث يمكن لهم التعليم والتمكين.
ويتعرّض الأطفال النازحون لمخاطر الاستغلال وإساءة المعاملة، ولم يعد أمام أعداد كبيرة من الأطفال سوى خيار العمل بدلاً من الذهاب إلى المدرسة، ويشار إلى أنّ نحو 1.1 مليون سوري لجأوا إلى لبنان منذ بداية الأزمة عام 2011، أكثر من نصفهم من الأطفال، كما فاقمت الحالة الاقتصادية المتدهورة للنازحين السوريّين بدرجة كبيرة من مشكلة عمالة الأطفال في لبنان، وبالإضافة إلى المعاناة النفسية التي تؤثر على عدد لا يستهان به من الأطفال الذين فرّوا من الحرب، هناك تحدٍّ مرتبط ببعض أسوأ أشكال عمالة الأطفال، مثل العمل في مواقع البناء التي يُمْكن أن تلحق بالأطفال أضرار نفسية وجسديّة طويلة الأمد.

2-أطفال اليمن
أفادت منظمة رعاية الأطفال السويديّة، بأنّ ما لا يقل عن ثلاثة أطفال يلقَوْن مصرعهم كلّ يوم في اليمن، كنتيجة مباشرة لاستخدام أشكال مختلفة من مخلّفات الحرب في القرى والبلدات والمدن.
فالحرب في اليمن لم تقتصر على المتصارعين السياسيين أو المحاربين فقط، بل كان للطفل اليمني النّصيب الوافر من مرارة هذه الحرب، حيث قُتل وجرح أكثر من “4005” أطفال في الوقت الذي اتُّهمت أغلب المنظمات الدولية والمحلّية الأطراف المشتركة في الحرب، بشن غارات جوية، على مواقع مدنيّة راح ضحيتَها غالبية قتلى الأطفال في اليمن.
في حين أظهرت التقارير أنَّ نحو 21988 طفل يُرْعَبون يوميًّا بسبب القصف، إلى جانب حرمان قرابة 3،4 مليون طفل من الذهاب إلى المدارس، و6،5 مليون طفل حُرِموا من التعليم لمدة ثمانية أشهر عام 2015، وقرابة نحو 10،5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية العاجلة، ومنذ العام 2016 ازدادت على نحو خطير تطوّرات الحرب اليمنيّة وازدادت حالات المرض والعوز والتهجير، وكان آخرها تعرض مئات آلاف اليمنيين لحالات الكوليرا، وكان الأطفال كالعادة الضحيّة الأولى.

طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب
طفل يحمل إحدى مخلفات الحرب

ولفتت رشيد إلى ما ذكره تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول الأطفال والنزاعات المسلحة، مع العديد من تقارير المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، بما في ذلك المنظّمات الإسرائيلية، إن قوّات الاحتلال الإسرائيلي لجأت إلى الاستخدام المفرط للقوة والقتل غير القانوني، رغم أنّه لا توجد مؤشّرات على أن الأطفال الذين قُتلوا شكّلوا خطراً أو تهديداً لقوّات الاحتلال، كما أصيب أكثر من 2600 طفل، جرّاء استخدام إسرائيل للذخيرة الحية ضد الأطفال العزل، وأضافت أنه خلال الفترة المشمولة بالتقرير تمّ اعتقال واحتجاز عدد كبير من الأطفال من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، وفي القدس الشرقية المحتلة وحدها، اعتُقل 860 طفلاً فلسطينيّاً، بينهم 136 تتراوح أعمارهم بين 7 و 11 عاما، دون سنّ المسؤوليّة الجنائية ويتعرّض معظم الأطفال المحتجزين في السجون أو مراكز الاعتقال الإسرائيلية لأشكال مختلفة من التّعذيب النفسي والجسدي، إضافة إلى مواصلة المستوطنين أعمال العنف والإرهاب ضد الفلسطينيين، بمن فيهم الأطفال تحت حماية ومرأى من قوات الاحتلال الإسرائيلي، وذكرت رشيد أنّه إضافة إلى الانتهاكات المذكورة، فإنّ إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، تواصل تدابير العقاب الجماعي ضد المدنيين في الأرض الفلسطينيّة المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية، والتي أثّرت بشكل خطير على أطفالنا، وأبرزها ممارسة السلطة القائمة بالاحتلال عمليات هدم المنازل التي تركت مئات الأطفال وأسرهم بلا مأوى، والاعتداءات على المدارس والمستشفيات، رغم الحماية الخاصة المتوفّرة لها بموجب القانون الإنساني الدولي.
كما تطرقت إلى أوضاع الأطفال في قطاع غزّة والانتهاكات المستمرة للقانون الدولي ضدهم على يد السلطة القائمة بالاحتلال، ومعاناتهم خلال ثلاثة حروب على غزّة في فترة ست سنوات مع آثارها النفسية الشديدة والمدمّرة عليهم، مشيرة إلى أنّ أكثر من 44 ألف طفل فلسطيني لا يزالون مشرّدين نتيجة تدمير السلطة القائمة بالاحتلال لمنازلهم في عدوانها على غزة عام 2014، كما تواصل إسرائيل حصارها غير القانوني لمدّة عشر سنوات والذي يشكل عقاباً جماعياً يصل إلى جريمة حرب، ومصدر انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان، وأكّدت رشيد ضرورة أن تتوقف كل هذه الانتهاكات، ويجب ارغام إسرائيل على احترام القانون الدّولي ووقف جرائمها بحق أطفالنا، والشعب الفلسطيني بما في ذلك الأطفال، لا يمكن أن يبقوا الاستثناء من المسؤولية لحماية المدنيين من الفظائع والانتهاكات الصارخة للقانون فهم ليسوا مجرّد إحصاءات لكنّهم بشر يجري تحطيم حياتهم باستمرار من قبل المحتل، ويجب على المجتمع الدولي، بما في ذلك مجلس الأمن، تحمّل مسؤولياته وتقديم المساعدة والحماية اللازمة للأطفال الفلسطينيين ومحاسبة منتهكي القانون الدولي، لا سيّما القوانين التي تهدف إلى حماية حقوق الطفل.
وفي بيان له قال نادي الأسير الفلسطيني بتاريخ السبت 19 نوفمبر/ تشرين ثان 2016، إنّ نحو 350 طفلاً ما زالت إسرائيل تحتجزهم في سجونها، بين محكومين وموقوفين تقلّ أعمارهم عن 18 عاماً، بينهم 12 فتاة قاصراً، جاء ذلك في تقرير للنادي بمناسبة اليوم العالمي للطفل الذي أقرّته الجمعية العامّة للأمم المتحدة والذي تحتفي به العديد من الدول 20 نوفمبر/تشرين ثان 2016، وذكر النادي أنّه وثّق أكثر من 2000 حالة اعتقال للأطفال منذ تاريخ “الهبّة الشعبية” في مطلع أكتوبر/تشرين أوّل 2015 كان أعلاها في القدس (لم يذكر العدد) ، قبل إطلاق سراحهم في وقت لاحق.

الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.
الطفل الذي وُلِد وترعرع في جوّ العنف والقتل من المحتمل أن تتشبّع ذاكرته بالتجارب والصّور السلبية.

4- أطفال العراق
أمّا في العراق، فيقدّر أن 2,7 مليون طفل تأثَّروا بالصِّراع؛ حيث تعرّض أكثرُ من 700 طفل للإصابة والقتل وحتى الإعدام، وحذَّرَت منظمة الأمم المتّحدة لرعاية الطفولة (يونيسيف) من خطورة الأوضاع التي يَعيشها أطفال العراق؛ حيث يُعانون الحرمان من أبسط الحقوق التي يتمتَّع بها أقرانهم في الدول الأخرى، وذكرت المنظمة في تقرير لها أن أكثر من 360 ألف طفل يعانون من أمراض نفسية، وأن 50% من طلبة المدارس الابتدائية لا يرتادون مدارسهم، و40% منهم فقط يحصلون على مياه شرب نظيفة.
وفي جريمة سابقة – ولا تزال مستمرّة – ضد الأطفال ظهرَت فيها بشاعة المليشيات الطائفية ضدهم، أظهَر تحقيق صحفي نُشِر على 6 صفحات في كُبرَيات الصحف السويديَّة ووكالة الأخبار العالمية إكسبريس، وعرَضه التلفاز السويدي والذي تُرجم إلى أكثر من 12 لغة عالمية، قامت به الصحفيَّة السويدية (تيريس كرستينسون) وزميلها (توربيورن انديرسون) اللَّذين تخفَّيا ورَصَدا وجود سوق في وسط بغدادَ لبيع الأطفال الرضَّع والكبار، وعرَضا فيه بالصوت والصورة مَشاهد غاية في الفزع لأطفال عراقيين يُعرضون للبيع بمبالغَ لا تزيد عن 500 دولار، ويؤمّل أنْ يؤدي انتهاء الأعمال العسكرية في العراق إلى البدء بتصميم وتنفيذ خطة شاملة لإزالة آثار الحرب الطويلة عن أطفال العراق وإعادة دمجهم في النظام التعليمي العراقي.

طفلة سورية تنتظر العلاج
طفلة سورية تنتظر العلاج

5- أطفال السودان
تبذل منظمات المجتمع الأهلي في السودان، بالتعاون مع المنظمات الدولة المختصة، جهوداً كبيرة لوقف جريمة تجنيد الأطفال، والعمل على تسريح المجندين منهم، وإعادة دمجهم وتأهيلهم، والإفراج عن الأطفال المختطفين في مناطق النزاع، حيث ارتفع عددهم في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان إلى مئات الأطفال في السنوات الأربعة الماضية، وأبدى المجلس القومي لرعاية الطفولة بالسودان، قلقه من تجدد وتزايد ظاهرة اختطاف وتجنيد الأطفال من قبل الحركات المتمردة، بالمناطق الشرقية بولاية جنوب كردفان، وازداد معاناة الأطفال سوءاً بعد انفصال جنوب السودان واندلاع الحرب الأهلية داخل الإقليم الجنوبي حيث جرى على نطاق واسع خطف الأطفال وتجنيدهم في الأعمال القتالية أو الرديفة لها.
ولا تقلّ عمليات تشغيل الأطفال في أعمال تتّصل بدعم العمليات العسكرية خطورة عن المشاركة المباشرة في المعارك، مثل الحراسة في المواقع الخلفية أو نقل العتاد أو التجسّس، ولم تسلم الفتيات القاصرات من أفعال تنظيم (داعش وما يشبهه) في العراق وسورية وليبيا أخيراً، حيث قام التنظيم بسبيهن واستغلالهن جنسياً، وبالتالي هنّ يواجهن أيضاً مخاطر ربّما في بعض الحالات أشد من تلك التي يواجهها الذكور القاصرون.

6-أطفال تونس
في ظلّ تواصل ظاهرة تشغيل الأطفال دون عمر الـ14 سنة وتفاقمها في تونس، هذه الظاهرة التي تعدّ انتهاكاً لحقّ الطفل في الحماية وفي نمو طبيعي سواء على المستوى البدني أو الذهني كما تحرمه الحق في تربية سليمة ومتوازنة خاصّة في سنّ ما قبل المدرسة ممّا يؤثر سلباً على مستقبله، وتبعاً لتحقيق متعدّد المؤشّرات تمّ القيام به سنة 2011/2012 وشمل 9600 منزلاً في مختلف الجهات الكبرى في البلاد وتناولت الشريحة العمرية بين 5 و 14 سنة من ذكور وإناث، تبيّن أنّ النسبة الاجمالية للأطفال المعنيين بظاهرة التشغيل بلغت 3% تتوزع على 5% في المناطق الريفية و2% في مناطق العمران علماً أنّ هذه الظاهرة تشمل خاصّة الشريحة العمرية بين 5 و11 سنة كما تهمّ الفتيات باعتبار العمل كمعينات منزليّات.
يشار إلى أن برنامج مقاومة عمل الأطفال بدعم من مكتب العمل الدولي عمل على إنجاز دراسة حول المنظومة القانونية والمؤسساتية لمقاومة تشغيل الأطفال في تونس. بالإضافة إلى إنجاز دراسة ميدانية حول واقع استغلال الأطفال في العمل بالمنازل في محافظتي جندوبة وبنزرت، وإعداد دليل حول تشغيل الأطفال في تونس، كما ركّز على أوضاع الأسر والأطفال والمتدخّلين على المستوى المحلّي بمخاطر تشغيل الأطفال دون السنّ القانونيّة عن طريق نوادي الأطفال المتنقلة وذلك من خلال إنجاز برنامج مصغّر مع وزارة شؤون المرأة والأسرة لتحديد مناطق التدخّل وعدد النوادي المتنقّلة وعدد الأطفال المُهدّدين باستغلالهم في العمل وتفيد دراسات سابقة أنّ فتيات يتراوح سنّهن بين 12 و13 سنة يشتغلن معينات منزليّات تتهدّدهن أحكام سجنيّة لارتكابهنّ جنح وجرائم تصل حد القتل، كردّ فعل على تعرضهن لمعاملات سيئة حيث يعملن، وأكّد مندوبو حماية الطفولة بتونس على أنّ عدد الأطفال الذين تتكفّل بهم مندوبات حماية الطفولة لا يعكس حقيقة الأوضاع باعتبار أنّ الأرقام الصحيحة أكبر من المعلنة بكثير بسبب غياب المعطيات الخاصة بذلك، كما نبّهوا إلى أنّ غياب أرقام ودراسات معمقة وحقيقية حول تشغيل الأطفال في تونس ساعد على استفحال هذه الظاهرة وتنامي انتهاك حقوق الطفل. وشددوا على أهمية الدّور الموكول إلى المؤسسات التربوية وضرورة مراجعة الزمن المدرسي واحترام حقوق الطّفل التي نصّ عليها الدستور التونسي الجديد، ودعَوْا بالخصوص إلى إحداث هيئة دستورية مستقلة تتكفّل بمتابعة تطبيق حقوق الطفل في تونس.

من ضحايا المعارك
من ضحايا المعارك

7- أطفال مصر
إنّ عدد الأطفال المعتقلين منذ أحداث 30 يونيو 2013 وحتى نهاية أيار/ مايو 2015، ممّن هم تحت سن 18عاماً؛ وصل إلى 3200، ما زال 800 منهم معتقلين “، مؤكّداً “تعرّض معظمهم للتّعذيب، والضّرب المبرح، والحرمان من أبسط الحقوق”، وذلك بحسب مسؤول الملف المصري بمؤسّسة الكرامة لحقوق الإنسان – ومقرّها جنيف بسويسرا- أحمد مفرح، والذي أضاف أنّ “وزارة الداخلية هي المسؤولة عن أماكن احتجاز الأطفال في مصر”، مشيراً إلى أنّ ذلك يُعدّ “مخالفة لقانون الطفل، الذي يجعل وزارة التضامن الاجتماعي هي المنوط بها تسيير وإدارة شؤون الأطفال المحتَجزين في أماكن خاصة بهم.
وأشار مفرح إلى الانتهاكات التي تحدث في معسكر الأمن المركزي في مدينة بَنْها، جنوب القاهرة “الذي يتمّ التعامل فيه باعتباره مكاناً لاحتجاز الأطفال” مقدّراً عدد الأطفال المحتجزين فيه “بأكثر من 300 طفل، يتمّ منع الزيارة عنهم، ومعاملتهم معاملة سيئة؛ تصل إلى حدّ التعذيب البدني، والعنف الجنسي”، في حين أكّد المحامي في المؤسّسة المصرية لأوضاع الطفولة، والائتلاف المصري لحقوق الطفل، “فادي وجدي”، أنّ الاتّهامات الموجّهة للأطفال المعتقلين “هي مجموعة من الاتّهامات الكيدية، فهي تتلخص في قطع الطرق، والانضمام إلى جماعة محظورة، والتعدّي على قوّات الأمن، واستخدام القوة والعنف، وهي بالقطع لا تتناسب مع بنية الأطفال الذين هم تحت سن 18 سنة”.
وقد كشف تقرير تحليلي للمضمون الصحفي خلال شهر يوليو 2016، والذي أصدرته المؤسّسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة حول انتهاكات حقوق الطفل، عن ارتفاع معدلات انتهاك حقوق الطفل بمصر لأقصى معدل لها خلال 2016 حيث وصلت إلى 496 حالة تم انتهاك حقوقها، بلغ عدد الأطفال المُنتَهكين في شهر يوليو من عام 2016 إلى 496 طفلا في 267 قضية تم تداولها إعلامياً من خلال الصحف والجرائد الحكومية وغير الحكومية، وتتراوح تلك الانتهاكات بين القتل والاختطاف والاغتصاب والغرق وغيرها الكثير، وكانت نسبة الإناث من تلك الانتهاكات 31% بينما نسبة الذكور 58% و11 % للأطفال لم يتم ذكر نوعهم.

خاتمة
لا تزال نتائج وتداعيات الحرب الأهليّة اللبنانيّة السابقة، والاعتداءات الاسرائيلية، ماثلة وأحياناً تتفاعل، ومن دون معالجات جديّة للتّداعيات تلك ومنها:
فبحسب إحدى الدوريات اللبنانية، يوجد في أوروبا وأميركا، ما بين ثلاثة وأربعة آلاف طفل لبناني متبنّى (وبعضها الآخر يذهب إلى أنّهم أكثر من ذلك بكثير) كبروا وترعرعوا هناك، حتّى أنّه تمّ تأليف رابطة سُمّيت “لبنانيون متبنّون”، هدفها أنّ يبحث هؤلاء الأطفال عن أهلهم الأصليين في لبنان وتشير بعض الصّحف إلى أنّ معظمهم أطفال غير شرعيين.
عشرات الأطفال قتلوا أثناء حرب تموز عام 2006، بينهم 27 جثة انتُشلت من مبنى واحد في مجزرة قانا الثانية، و1183 شهيداً منهم 30% أطفال دون 12 سنة، و4055 جريحاً، و913000 مهاجر، بالإضافة إلى هدم عدد كبير من المدارس والجسور.
كما خلّفت إسرائيل عشرات ألاف الألغام في الجنوب والتي أودت بحياة عشرات الأطفال، فضلاً عن حالات التشويه والإعاقة. (95% من المدنيين ماتوا في الحرب بسبب القنابل العنقودية بينهم 40% أطفال دون الثامنة عشرة من العمر) وذلك حسب إحصاءات الصليب الأحمر والأمم المتحدة.
إنّ ظاهرة تهميش الأطفال أو حتى استعبادهم أصبحت ظاهرة اجتماعية، وتتفاقم يوماً بعد يوم، وتزيد وتيرتها أثناء الحروب والنّزاعات، وهي تشكّل خطراً على مستقبل المجتمعات لذا، يجب دراستها بعمق، وإحصاء أعداد الأطفال المهمّشين والمعرضين للتهميش بدقة، ومعالجة الأسباب التي جعلت هؤلاء الأطفال مهمّشين، ووضع الحلول المناسبة لكل عينة ولكل حالة على حدة.

من عاشر القوم

 يطرح الاغتراب خصوصاً في البلدان الصناعية المتقدمة تحديات كبيرة أمام الأسر الدرزية التي ما أن تطأ تلك الأرض حتى تجد نفسها فجأة في دوامة أوضاع غريبة لم تعهدها من قبل، وليست مجهزة بالتالي للتعامل معها. هذه الحالة التي تسمى عادة بـ “الصدمة الثقافية” سببها الأساسي أن المغترب الذي يقرر الاستقرار في تلك البلدان ليست له فكرة حقيقية عن البون الشاسع القائم في العقائد والعادات وأسلوب العيش، وفي الحياة والقوانين وغير ذلك بين الوطن الذي تركه وبين البلد الذي وصل إليه.

 

في الغالب هذا المهاجر أو المغترب قد تكون لديه فكرة عامة عن تلك الفروقات، لكنه في عجلة من أمره ولا يفكر في البدء إلا في “الجائزة” التي سيحصل عليها بمجرد وصوله: فرصة للعمل وأجر جيد وإمكانية تملك بيت وتعليم للأولاد ورعاية صحية وسهولة في العيش، كما أنه وهو الذي يملأه الحنق على بلده، وعلى ما يشكو منه من فساد وتعسف وانتقاص للحقوق يتطلع إلى البلد المضيف باعتباره بلد قانون سيوفر له كل ما كان يفتقده في بلده الأم من عدالة في المعاملة واحترام للفرد ولحقوقه الأساسية للمستقبل.

 

ذلك هو وعد الهجرة الذي يحرك العديد من الشباب لركوب الطائرة وترك البلد، لكن لفرط تركيزهم على ما ينتظرهم من فرص لتحسين الحياة المادية لا يفطن معظم هؤلاء إلى الحقيقة التي يلخصها المثل القائل “ما كل ما يلمع ذهباً”. لا ينتبهون إلى أن الاغتراب صفقة شاملة لا يمكنك بسهولة أن تشتري منه الشق الاقتصادي، أي العمل والرخاء النسبي والتعليم وغيرها، وأن تتهرب في الوقت نفسه من الموجبات التي يفرضها نظام المجتمع المضيف من نظام قيم وسلوك ومفاهيم يبدأ الأطفال في تشربها من رفاقهم وجيرانهم، ثم تتبلور لديهم أكثر في سنوات الدراسة وعبر التفاعل مع أهل البلد ومشاهدة سلوكهم، ثم عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي تملأ فضاء فكرهم ووجدانهم بقيمها. وحسب المثل المعروف، فإن من يعاشر القوم أربعين يوماً إما يصبح منهم أو يرحل عنهم. وهذا المثل فيه حكمة كبيرة ويشير إلى قانون إنساني بديهي وهو قانون التماهي الاجتماعي والسلوكي لأن الفرد يتجه بالغريزة للقبول بعادات القوم ويصبح جزءاً منهم، فإن لم يرغب في ذلك أو أدرك عمق الاختلاف فإن خياره الوحيد هو الرحيل عنهم لأنه في غير مقدور الفرد تبديل سلوك الجماعة، بل الجماعة هي التي تفرض تبديل سلوك الفرد حتى يصبح مثلها ويستحق أن تقبله في صفوفها.

 

بالطبع هناك أقليات عديدة تمكنت من الحفاظ على قدر معين من (وليس كل) هويتها الثقافية مثل الصينيين أو الهنود أو بعض المسلمين المهاجرين من باكستان أو بنغلادش، وقد حصل ذلك عندما تجمعت أعداد كبيرة من هؤلاء وخلفت لنفسها “ثقافة فرعية” تكافح يومياً للاستمرار في ظل الثقافة المهيمنة. لكن هذه الحالات لا يعتد بها بالنسبة للدروز لأنهم قليلي العدد، الأمرالذي يفرض عليهم التفرق والعيش وحدهم أحياناً فلا يتوافر لهم البيئة التي يمكن أن يصل بها ابناؤهم على الأقل للحفاظ على لغتهم العربية أو توعيتهم على تاريخهم. وهذا ما يعقّد مهمة المهاجرين الدروز أكثر بحيث ينتهي الأمر غالباً بخسارة الصلة الحقيقية بالجذور خصوصاً بالنسبة للجيل الثاني الذي يولد في بلد الاغتراب.

يجب القول إن فقدان الهوية والانحلال التدريجي في البيئة الاجتماعية والقيمية الجديدة ليس الخسارة الوحيدة وإن كان الخسارة الأهم في كثير من الحالات، إذ إن هناك خسارة مضافة هي خسارة فرصة العودة إلى الوطن إما بسبب الاولاد الذين يصبح هدفهم البقاء في ما يعتبرونه “بلدهم”، وإما بسبب تراجع قيمة العملة المحلية (كما في الكثير من بلدان أميركا اللاتينية)، وبالتالي صعوبة بيع الأعمال والمؤسسات التي يملكها المغترب بما يكفي لتأمين العودة الكريمة إلى الوطن أو غير ذلك من العوائق المادية أو النفسية. بالطبع خسارة الموحدين لأبنائهم بصورة نهائية أمر محزن ويطرح إشكالات عديدة لكن ما هو الحل؟

 

لا يوجد حل شامل لأن الأشخاص يتفاوتون في الفهم وقدرة التعلم لكن النصيحة البسيطة للموحدين الدروز هي أن يتفكروا ملياً قبل السفر إلى البلدان الغربية البعيدة، لأن تلك البلدان مصممة لاستقطاب الناس وإذابتهم وأسرهم بكل معنى الكلمة بسلاسل الاستهلاك ومستوى المعيشة المرتفع الممول بالدين من المصارف أو عبر بطاقات الائتمان. ونحن نقول إذا كان لا بدّ من الهجرة فادفعوا أبناءكم باتجاه الخليج أو أفريقيا ولا تدفعوهم باتجاه المغتربات البعيدة التي يصعب العودة منها إلا بشق الأنفس. وفكروا قبل أن ترسلوا أبناءكم للتعلم في المجتمعات المتقدمة خاصة وأن لبنان يعتبر أفضل مركز للتعليم وتخريج القيادات في المنطقة. فكروا أولاً في شخصيتهم ومدى قدرتهم على مقاومة الإغراءات ومدى تعلقهم بالوطن، لأن الاحتمال قوي بأن تسارع تلك البلدان إلى تقديم الإغراءات لاستبقائهم فيها وعندها لا ينفع التفاخر ولا التباهي بالمراكز المرموقة التي حصلوا عليها.

أكثر ما يساعد المرء أن تكون طموحاته عاقلة ولا يجمح في غمرة شعور التزاحم والركض خلف مظاهر الحياة المادية إلى خيارات يعود فيصبح أسيرها.

المدرسة الرسمية هي الحل!

المدرسة الرسمية هي الحل!

تفتح باب “مشكلات اجتماعية”، إيماناً منها أن هناك مشكلات اجتماعية بالفعل، ولا يحتاج الأمر إلى أكثر من ملاحظة مظاهر القلق والاضطراب وعدم الاستقرار التي تسود حياة العائلات اللبنانية، كما المجتمع عموماً. ولأنّ هي مجلة ثقافية ملتزمة أخلاقياً تُلاقي طموحات الناس فهي لا تستطيع تجاهل مظاهر القلق والاضطراب وعدم الاستقرار الاجتماعي.

في الحلقة الأولى من هذا الباب رأينا أن نفي عدداً من المسؤولين التربويين الذين عملوا طويلاً في خدمة المدرسة الرسمية وتلامذتها ومجتمعها ثم أحيلوا إلى التقاعد، بعض ما لهم من حق معنوي على المجتمع. ما نقدّمه من شهادات رمزية من بعض الرسميين السابقين هؤلاء يهدف أيضاً إلى الإفادة من خبراتهم وملاحظاتهم ليتوقف عندها المسؤولون الرسميون اليوم، كما الأهالي، إذ من دون تعاون المسؤولين الرسميين والمجتمع الأهلي لن تستعيد المدرسة الرسمية، وبخاصة في مستواها الابتدائي والمتوسط، السمعة الطيبة التي كانت لها. أما قناعتنا التي نعبّر عنها صراحة فهو أن تغييب المدرسة الرسمية هو في أصل الأزمة الاجتماعية في لبنان، وربما خارج لبنان أيضاً، وأن الحل للكثير من مشاكلنا ربما يبدأ بالمدرسة الواحدة، والمنهاج الواحد، والكتاب المدرسي الواحد.

تجدد تحيتها لهؤلاء الروّاد، وهي ستستكمل الملف بلقاء تربويين آخرين تركوا الخدمة الفعلية أو يزالون في موقع المسؤولية.

[su_accordion]

[su_spoiler title=”مشكلات المدرسة الحالية  رياض اللحام
مسؤول دائرة التربية
في عاليه سابقاً
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يسعدني أن أقدّم لمجلة ، التي أحترم جداً، توضيحاً لبعض الأفكار حول التعليم بصورة عامة والرسمي منه بصورة خاصة، وهو نتاج فترة طويلة قضيتها في التعليم وفي المسؤولية. منها ما يتصل ببعض الممارسات الخاطئة، ومنها ما يتصل بتربية الأهل لأولادهم تربية صالحة تساعد المدرسة إلى حد بعيد. كل ذلك أحدث تراجعاً وتقهقراً في المدارس وكأننا في مرحلة استرخاء أو ترهل، سمّها ما شئت وهذا القول سيزعج البعض إن لم يكن الكثيرين من العاملين في قطاع التربية هذه الأيام خاصة في التعليم الرسمي. وأنا ما كنت ولن أكون يوماً لأزعج أحداً ولكن طالما سأكتب لابد أن أبدا بالاعتذار ممّن يعنيهم الأمر ولا أعني أحداً منهم بالتحديد بل هي بعض الأفكار والاستنتاجات فقط .

لم يعد المعلم معلماً تقع على عاتقه مهمة تربية الأجيال وتثقيفهم وتوجيهمم وتوعيتهم وزرع روح المحبة فيهم وروح الوطنية الصادقة إضافة إلى أن بعض المعلمين يريدون أن تكون المدرسة على مسافة قريبة من سكنهم أو تكاد تكون ملاصقة له، أنا لا أقول بإبعاد المعلم عن مكان إقامته كثيراً وهذا ما يوفر له وقتاً لانتقاله وكلفة مادية لذلك، بل أريد القول إنّ وجود المعلمين في مناطق بعيدة لحد ما يخلق جواً من الألفة والمحبة والأخوة والوطنية الصادقة بصورة خاصة وحسن التعاطي مع الآخرين، وهذا ما ينطبق أيضاً على توزيع وإلحاق عناصر قوى الأمن سابقاً أيضاً حيث لا تنقطع العلاقة بين المتحابين بل تدوم على مدى الحياة عند أكثرهم (لانزال حتى اليوم نذهب لزيارات زملاء لنا سابقين في مناطق كسروان وبشري وطرابلس وبعض قرى الجنوب وسواها والعكس صحيح بالنسبة إليهم).
ونسي البعض أن المعلم هو المثل الأعلى لتلامذته، أناقة وتربية وحسن تصرف ومرونة مع قسوة ضمن الحدود عند الحاجة .

وهذا الأمر وسواه يجب أن يلقى على عاتق مدير المدرسة حيث هو بالنسبة للمعلمين الأخ الأكبر والمسؤول الأول عن كل ما يحدث في المدرسة بمساعدة ومعاونة ومراقبة التفتيش التربوي، أللهم إذا كان المدير على المستوى المطلوب بمسلكه وشخصيته ونظافة كفّه وأناته وصبره وحُسن تعاونه مع المعلمين والتلامذة والأهل والمجتمع وقدرته على حل جميع المشاكل التي تواجهه مهما كانت.

فالإدارة فن وعلم لا يستغني الواحد منهما عن الآخر، والفن في الإدارة هو اتقان فن التعامل وعدم اللجوء إلى استدعاء التفتيش التربوي لكل شاردة وواردة، فالمدير سيد مدرسته والأعلم بحالها وواقعها ومحيطها (أعطه كل ما تحتاج المدرسة واتركه يعمل وراقبه) والمهم أيضاً أن لا يكون تكليف المدير لأسباب غير تربوية. ثم أن لا ينقل أو يكلف أو يعين أي مسؤول تربوي في الإدارة مديراً لمرحلة معينة أو رئيساً لمنطفة تربوية أو رئيساً لدائرة تربوية دون دراسة ملفه الشخصي ومستواه العلمي واختصاصه الجامعي الذي يتلاءم مع عمله التربوي وإجراء مقابلة شخصية معه من قبل هيئة تربوية متخصّصة ومسؤولة وإخضاعه لدورات تدريبية في معهد الإدارة في مجلس الخدمة المدنية.

وأقترح أن لا تكون مدة تكليف مدير المدرسة لأكثر من خمس سنوات ثم ينقل إلى إدارة مدرسة أخرى كي لا يحرم حقه وكي لا يعتقد أن المدرسة أصبحت ملكاً له وكي يستفاد منه في أكثر من مدرسة بسبب خبرته ونجاحه. وأودّ أن أشير إلى مسألة هامة، كانت مناقلات أفراد الهيئة التعليمية تجري على أسس و قواعد مدروسة حيث كانت لجنة من العاملين الناجحين في مديرية التعليم الابتدائي تجتمع خلال العطلة الصيفية في مدرسة قريبة من مستشفى رزق في الأشرفية لأيام تتجاوز الشهر أحياناً، تدرس خلالها أوضاع كل مدرسة رسمية في لبنان وكل صف من الصفوف في كل مرحلة من المراحل ووضع كل معلم من طالبي النقل واختصاصه والمادة التي يدرس، ثم تتم المناقلات بحسب حاجة كل مدرسة ووضع كل مدرس.

أما عن الدوام وحصص التدريس فالفرق شاسع جداً بين اليوم والأمس، حيث إنّ ساعة الحضور إلى المدرسة كانت تمام السابعة والدقيقة الخمسين تماماً للمعلمين، وبالنسبة للمسؤولين، إدارة ونظار، قبل ذلك بثلاثين دقيقة. وكانت حصة التدريس لا تقل عن خمس وخمسين دقيقة، واستراحة صباحية لمدة عشرين دقيقة بين الحصص الأربعة الأولى ثم استراحة طويلة لمدة ساعتين نعود بعدها للتدريس لحصتين، ولا نترك المدرسة قبل الرابعة عصراً، وكان البعض منا يعود مساءً لمدة لا تقل عن الساعة غالباً لتدريس صفوف الشهادات أو التلامذة غير الناجحين (وذلك دون مقابل مادي طبعاً). أما اليوم فحصص التدريس هي سلفاً، وفي بعض المدارس ذات الدوامين لا تزيد الحصة عن الثلاثين دقيقة وفي ذلك خطأ كبير. هذا وكان المدرس لا يخرج من صفه إلا بعد أن يُنهي واجبه ولو أدى ذلك إلى إزعاج زميله الذي سيدخل بعده إلى الصف، بينما نرى اليوم بعض المدرسين يقف الواحد منهم على باب غرفة التدريس ينتظر قرع الجرس كي يخرج.

إضافة إلى ذلك، هناك نقص في بعص التجهيزات ووسائل الإيضاح والمكتبات وغرف المطالعة والمسرح وقاعة المحاضرات والندوات والمباريات في الإلقاء وما إلى ذلك. والأهم الأهم هو أن بعض المدارس الخاصة كانت تقوم على أكتاف بعض المعلمين الرسميين خاصة في مواد معنية كالرياضيات والعلوم واللغات حيث يسمح للمعلم أن يدرس بعد (أذن مسبق من المراجع المختصة).

أما عن هيئة تقييم أداء المعلم التي كنا وسوانا نقترحها دائماً في كل لقاءاتنا التربوية مع المسؤولين، وبخاصة مع الدكتور ريمون معلوف والأستاذ أميل الرامي، فأين هي كي تسجل هذه الهيئة في ملف المعلم مستواها ومدى إنتاجيته ونسبة نجاحة، فتقترح له ثواباً كمنحه وسام المعلم مثلاً (حيث أننا شهدنا في بعض المراحل السابقة) أوسمة تغدق من هنا وهناك لغير مستحقيها، مما ترك امتعاضاً لدى البعض. وأكتفي هنا بهذا القدر كي لا يفسر كل قارئ هذا الكلام على هواه، مع العلم أن البعض لم يطلب الوسام بل رفضه بغياب هيئة تقييم الأداء حيث يتساوى الناجح مع سواه.

وهنا اسمحوا لي أن أورد مثلاً أعتبره هاماً، مع أني أكره العودة إلى أيام الحرب الأهلية المشؤومة، فلسد غياب الدولة يومها لأسباب معروفة لدى الجميع عملت بعض المؤسسات المهمة في عدة مناطق على استمرار المدراس الرسمية وتقويتها وتأمين جميع مستلزماتها إدارة ومعلمين وتلامذة معتمدة على تغطية النقص في عدد المعلمين والحاجة إلى المواد الأساسية، فنجحت جداً لأسباب أولها وأهمها عدم التدخل سياسياً بأمر المدراس ثم تأمين الكادر الإداري والتفتيشي والمتخصصين في شؤون الإمتحانات، فنجحت وكان لها الفضل الأكبر في استمرار المدراس. ولأنه طُلب مني الاختصار، أكتفي بما كتبت وأعتذر من كلّ مَن لا يوافقني الرأي، فأنا الذي عاش التربية والتعليم والإدارة بكلّ جوراحه وأحاسيسه وقناعاته. أبديت وجهة نظري وأفصحت عن معاناتي، مع أنني أحلت على التقاعد منذ سبعة عشر عاماً.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” واقع المدرسة الرسمية من ماضٍ مزهرٍ الى حاضرٍ مخيف سلمان نصر مسؤول مكتب المنطقة التربية في الشوف (سابقاً)” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يُروَّجُ حاليًا في المنتديات الدولية، واجتماعات الخبراء والمختصين، بأن نشر التعليم على نطاقٍ واسع، يشكّل المدخل الأساسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد والسكان؛ ولا بدَّ من إشاعة دعوة الحكومات الى إيلاء التعليم اهتمامها، وجعله من بين أهدافها المباشرة. وعُقدت في إطار ذلك قممٌ دوليةٌ كثيرة، من بين أهم أهدافها، تعميم التعليم الابتدائي والمتوسط.
أما نحن في لبنان، يجب الاعتراف أننا لم نولِ موضوع التربية الاهتمام اللازم، بعد الأحداث الأليمة، والحرب الأهلية العبثية، التي انفجر قدرها بين اللبنانيين، فكانت البوَّابة السوداء الفاحمة التي دخل الوطن منها الى أزمةٍ دامت مع تردُّداتها أكثر من ثلاثين سنة، طاولت بحريقها كلَّ شيءٍ، وفي مقدِّمها التربية والمدرسة بشكلٍ عام، والرسمية منها بشكلٍ خاص، مع ما رافق هذه الأخيرة من فوضى وخللٍ في النظام، وخروج معظم المعلمين عن احترامهم لقانون المدرسة، والانتظام العام فيها، وانتقال المعلمين قسرياً من مراكز عملهم بالحجة الأمنية، إلى حيث أمنهم وأمانهم وفق الطوائف والمذاهب والمناطق؛ مما رتَّب خللاً كبيراً في المدارس، تأتَّى من فائضً خرَّبَ المدارس التي حلَّ فيها ومن نقصٍ خرَّبها هو الآخر.
رُدَّ على ذلك بحلولٍ استثنائية، وسياسة ترميم لما هُدِّم. فاعتمد المسؤولون التعاقد بالساعة، والتعاقد الداخلي، والإتيان بمعلمين، هم بحاجة إلى تأهيل، وتدريب. زِدْ على ذلك، فوضى الإمتحانات الرسمية والنجاح الوهمي الكاذب، والوصول إلى مراتب علمية ووظيفية وهمية كاذبة، بنيل شهادات الحرب، ثم فوضى الانضباط المسلكي ضمن المدرسة الواحدة، وعمل كل شيء على حساب المدرسة والطالب فيها، كيف فالمدرسة بنت الدولة، وللمعلم الحق بقبض راتبه بعمل وبلا عمل…!! كأن المدرسة شركة ضمان ضد البطالة.
كل هذه الأمور مجتمعةً، بالإضافة إلى أسبابٍ تقنية وفنية، أدَّت إلى فقدان الثقة بالمدرسة الرسمية ومن فيها. والأخطر، أن هذه الثقة، لا زالت شبه مفقودة، أو بالأحرى، بين مدٍ وجزر. مع ثقتي بما أقول، أنه لولا الطلاب السوريين في المدارس الرسمية، لأقفل العدد الكبير منها.
التعليم الرسمي في لبنان، لم يأخذ شكل المؤسسات، وهو متخلِّفٌ زمنياً عن التعليم الخاص، وهو فوق ذلك مُثقلٌ بمشاكل الإدارة، ومصالحِ الطبقة السياسية والحاكمة في الدولة، وتدخُّلها المباشر الذي كان ولا يزال، السبب في عدم استقرار المدرسة الرسمية، كما أنه كان مثقلاً بقضايا مطلبية للمعلمين، بسبب حرمانهم من قبل الدولة.
علينا الاعتراف أن التعليم الرسمي قبل سنة 1975، استقطب 65% من تلامذة لبنان، وكان بمستوًى يضارع فيه التعليم الخاص، لا سيَّما المرحلة الثانوية.
بعد هذا التاريخ، تهاوى التعليم الرسمي، للأسف، لا سيَّما الأساسي منه، وهو لا يزال في ضعفه وتراجعه وهزاله، برغم كل محاولات التصدي لذلك.
ولكن يجب ألا ينتابنا اليأس، بل ضرورة الاستمرار باجتراح الحلول التي تعيد المدرسة إلى بريقها وازدهارها، في ظل ارتفاع كلفة التعليم، والظروف الاقتصادية الاجتماعية الصعبة.
ولذلك، نعود ونؤكد الحلول التي تقاطعت حولها الأفكار التربوية النظرية والعملية من أكثر من جهة؛ والتي توصل المدرسة الرسمية إلى المبتغى وهي باختصارٍ شديد:
1. في ظل سياسة تربوية جدية للدولة، يجب إعادة النظر بهيكلية
وزارة التربية، والإدارات التابعة لها بتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة؛ وإعطاء مدير المدرسة الصلاحيات اللازمة، ومراقبته ومحاسبته عند اللزوم، بعد تأمين حاجيات المدرسة.
2. إعادة النظر جذرياً بقضايا المديرين والمعلمين، إعداداً وتأهيلأ
وصلاحيات وأنظمة ثواب وعقاب، ووضع معايير دقيقة لاختيار المعلمين، وتحديث النظام الداخلي للمدارس بما يتناسب وروح عصر الإنترنت ومشتقاتها.
3. إعطاء المعلم حقوقه كاملة، ومعاملته كما يُعامَل في اليابان
(راتب وزير وحصانة دبلوماسي وجلالة إمبراطور…!!) ومن ثم منعه بقانون ترك مركز عمله، والبقاء إلى جانب تلامذته، لكسب صداقتهم وتبادل المحبة والثقة في ما بينهم.
4. إيلاء موضوع الإنترنت وعالمها من أطفال وتلامذة وشباب من
الجنسين الأهمية الكبرى لإنقاذ الجيل من الوجوه السلبية لهذه الثورة الخطيرة والعظيمة.
5. إحياء مشروع تجمُّع المدارس لأنه تجميعٌ للطاقات التي تسدُّ الحاجات.
6. الحؤول دون تدخُّل السياسيين بقانون في شؤون المدرسة للحفاظ
على استقرارها.
7. خلق جهاز تربوي من حكماء تربويين، ــ وهذا المهم ــ يمثل
بأعضائه كل اللبنانيين، يكون برئاسة وزير التربية، يمنح صلاحيات استثنائية، لتنفيذ خطة تربوية خمسية مبنية على سياسة وطنية، يقرها مجلس الوزراء، ويشرعها مجلس النواب. يتحمل الجهاز المسؤولية كاملة ولا يكون أعضاؤه عُرضةً للتغيير أو الاستبدال لأسبابٍ طائفية وسياسية ومناطقية.
فهذا مع ما سبقه، يعيد الثِّقة للمدرسة الرسمية، ويمكن أن يعيدها إلى سابق عهدها، أي تتقدم، وذلك، برجوعها إلى الزمن الجميل.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المدرسة الرسمية هي الحل شفيق يحيى مفتش تربوي متقاعد ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يكثر الحديث هذه الأيام عن أزمة الأقساط المدرسية وارتفاع كلفة التعليم في لبنان. وتتوالى الاتهامات المتبادلة، فمنهم من يتهم المدارس أو بعضها بالجشع والسعي وراء الربح المادي، ومنهم من يتهم السلطة التربوية بإهمال التعليم الرسمي، وعجزها عن مراقبة المدارس الخاصة ودراسة أقساطها. وبين تطاير الاتهامات والاتهامات المضادة. يتيه المواطن ولا يدري من الحقائق إلا القليل، ولا يعرف كيف ينقذ دخله من استهلاكه في نفقات التعليم، وبالتالي لا يعرف كيف ينقذ أولاده من تعرضهم لعدم الالتحاق بالمدرسة، أو كيف يتخلص من عبء الديون.
إزاء هذا الواقع لا يستطيع المراقب للوضع التربوي أن يتهم فريقاً واحداً بالتقصير أو الإهمال أو اللامبالاة، ولكننا نستطيع أن نعترف بأن المواطن اللبناني مضلل إلى حد ما تربوياً، فلا يؤمن بالمدرسة الرسمية، ولا يستطيع أن يتحمل أقساط المدرسة الخاصة. وإذا نصحه أحد المقربين المطلعين على الشأن التربوي بتعليم أولاده في المدرسة الرسمية، اعتبر هذا المواطن التائه أنّ قريبه أو صديقه غير مخلص في نصيحته وأنه “يحط من قدره”.
وما هذا الاعتبار أو الظن إلا الجهل بحقيقة المدرسة الرسمية والتعليم الرسمي الذي يتجاهله البعض أو يجهل واقعه السليم في مدارس كثيرة ويشير إلى ثغراته بدلاً من أن يشير إلى حسناته ويعمّمها خدمة للحقيقة ولمصلحة المواطن.
فما هو سبب هذا الضياع؟
لا شك أنّ التعليم في المدارس الخاصة أكثر جاذبية للمواطن اللبناني لأكثر من سبب قد يكون اعتقاده أنّ التعليم فيها أكثر تنويعاً وتطبيقاً ونشاطاً وتنظيماً. وقد يكون جهله لحسنات المدرسة الرسمية، وكفاءة مدرّسيها وأساتذتها، ونجاح تلاميذها في الامتحانات الرسمية، وتفوُّق بعضهم فيها وفي امتحانات الدخول إلى الجامعات واستمرار تفوّقهم فيها، ونجاحهم أيضاً في مباريات اختيار موظفين لإدارات الدولة.
ولأننا لا نهدف من موضوعنا هذا إلى تجاهل المدرسة الخاصة واتّهام بعضها بالطمع المادي أو بعدم الأفضلية عن زميلتها في التعليم الرسمي.
وبما أننا نريد أن نشارك في النصح والإرشاد إلى ما يخدم المواطن دون الإساءة إلى أي من الفرقاء يهمنا أن نلفت النظر إلى ما يلي:

أولاً. في حقيقة المدرسة الرسمية
لقد بلغ التعليم الرسمي أوجاً مرتفعاً في السنوات التي سبقت الأحداث الأهلية في الربع الأخير من القرن العشرين، ثم أخذ وضعها يتدهور أسوة بسائر مؤسسات الدولة التي تأثرت سلباً بالحرب الداخلية والاعتداءات الإسرائيلية. لكن تعافي الدولة والوطن عموماً ابتداءً من العقد الأخير من القرن الماضي، شمل المدرسة الرسمية في النواحي التالية:
1- ترميم معظم الأبنية المدرسية التي تهدمت في الحرب وتشييد
أبنية حديثه للمدارس الرسمية.
2- تخرُّج عدد من المدرّسين والمدرّسات من دُور المعلمين، والأساتذة
من كلية التربية.
3- تزويد المدارس الرسمية، بما فيها الثانويات، بالكثير من
المختبرات ووسائل الإيضاح والتكنولوجيا.
4- تكثيف الدورات التدريبية لأفراد الهيئة التعليمية ولمديري
المدارس الرسمية، واتّباع منهج التدريب المستمر.
5- تحقيق الكثير من إنصاف المعلمين والمعلمات بإعطائهم درجات
استثنائية، وتعويض إدارة للمديرين.
6- تحديث برامج التعليم وفق المناهج الجديدة التي أقرت رسمياً
بالمرسوم رقم 10227 تاريخ 8/5/1997، وتنظيم دورات تدريبية لمعرفة تطبيقها بالتعاون بين وزارة التربية والتعليم العالي، والمركز التربوي للبحوث والإنماء والتفتيش التربوي المركزي.
7- إعطاء تعويض نقل لموظفين التعليم، أسوة بسائر الموظفين ممّا
يُخفّف من أعباء الانتقال من قرية إلى قرية أو من المدينة إلى القرية، وبالتالي يسهّل على وزارة التربية إلحاق مدرّسين وأساتذة بمدارس خارج محيط إقامة المدرس والأستاذ.

ثانياً: عدم اكتمال جاذبية التعليم الرسمي
إذاً، طرأت في السنوات الأخيرة، إيجابيات كثيرة في التعليم الرسمي، ولكن هل استعاد هذا التعليم زخمه السابق، أو واكب الإيجابيات الجديدة التي طرأت عليه؟
لا نعتقد أنّ الجواب سيكون كلّه إيجابياً لأنّ سمعة المدرسة الرسمية ما زالت غير جذابة للأسباب التالية:
1- التوجُّه إلى التعاقد بدلاً من تخريج مدرّسين جدد من دور
المعلمين، وأساتذة جدد من كلية التربية.
2- استمرار التأخّر في إجراء المناقلات بين أفراد الهيئة التعليمية،
والتأخّر في إلحاقهم وإلحاق المتعاقدين بالمدارس حيث الحاجة.
3- تراجع دور الرقابة التربوية من قِبل التفتيش التربوي بسبب
ضآلة عدد المفتشين وانشغالهم بالرقابة الإدارية والمالية
4- تقصير الإعلام الخاص والرسمي المسموع والمقروء والمرئي في
تسليط الضوء على المدرسة الرسمية الناجحة واكتفائه بالإشارة إلى ثغرات المدرسة الرسمية المتعثّرة أو تسليط الضوء عليها وتجاهل ما فيها من إيجابيات.
5- عدم مبالاة وزارة التربية والتعليم العالي بدراسة أسباب
تقهقر أي مدرسة رسمية ومعالجتها بدلاً من اللجوء إلى إقفالها أو نقل مديرها ومعلميها إلى مدارس أخرى أو إلى الإدارة دون مساءلة ومحاسبة.
6- عدم التنويه إعلامياً بالمدارس الرسمية بكلّ مراحلها الثلاث
الناجحة والمتفوقة في الإمتحانات الرسمية.
7- التدخل السياسي أو المصلحي أحياناً لصالح مدير غير كفوء أو
لنقل معلم تحتاجه مدرسته إلى مدرسة أخرى ليست بحاجة إليه، خدمة له لا للمدرسة.
8- إبقاء بعض المدارس في أبنية، غير مؤهلة تربوياً علماً أن عدد
الأبنية المهملة قد تقلص في السنوات الأخيرة
9- الإضرابات التي توالت سنوات وسنوات مما أخاف الأهلين من
إلحاق أولادهم بالمدرسة الرسمية، وكلنا أمل في أنّ الإضرابات قد انتهت في المدارس الرسمية، ونأمل أن لا تنتقل إلى المدارس الخاصة.
10- ترهل بعض أفراد الهيئة التعليمية أو مرضهم، دون أن يكون
للمدير ورؤسائه القدرة على حل هذه المشكلة وفقدان الإيمان بالرسالة التربوية التي آمنتا بها الأجيال السابقة من المعلمين.

ثالثاً: في الاقتراح
مما تقدّم، ورغبة في الإصلاح والإنقاذ وليس رغبة في الانتقاد نقترح ما يلي:
1- قيام وسائل الإعلام بتسليط الضوء على المدرسة الرسمية
الناجحة كتابة وتصويراً وعرضاً تلفزيونياً
2- تعميم جميع الإيجابيات التي طرأت على المدرسة الرسمية لا
عادة الثقة بها، وبالتالي إنقاذ الأهل من أعباء المدرسة الخاصة.
3- إعادة افتتاح دور المعلمين وكلية التربية لتخريج معلمين وأساتذة
جدد، وثبيت المتعاقدين والتخلص من بدعة التعاقد تدريجياً إلا في الحالات الضرورية.
4- زيادة عدد المفتشين التربويين ليستطيعوا القيام بدورهم
في الإرشاد التربوي بالإضافة إلى دورهم في الرقابة الإدارية والتحقيقات.
5- مكافأة المديرين والمعلمين والأساتذة المجلين في عملهم معنوياً
ومادياً، وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب.
6- تعزيز النشاط اللاصفي الثقافي والفني وإصدار المجلات التي
يحرّرها الطلاب بالتعاون مع معلميهم، علماً أنّ بعض المدارس قد خطت خطوات في هذا المجال.
7- عدم التأخر في دفع مستحقات المدارس الرسمية من وزارة
التربية لتستطيع هذه المدرسة تأمين حاجاتها المتعددة.
8- العمل على جعل تدخل السياسة والسياسيين في شؤون المدرسة
الرسمية لصالح المدرسة وليس لصالح أفراد فيها. والافضل بالطبع إبعاد السياسة عن معالجة شؤون المدرسة وترك ذلك للمراجع المختصة.
9- تزويد المدارس الرسمية بما يلزمها من وسائل التكنولوجيا
الحديثة علماً أنّ معظم هذه المدارس قد توافرت فيها هذه الوسائل.
10- تزويد المدارس الرسمية بالعدد اللازم من مدرّسي الفنون
والرياضة البدنية، ولا يتحقق ذلك إلّا بإعادة تخريج مدرّسين للمواد كافة من دور المعلمين والمعلمات.
11- إقامة لقاءات تربوية بين مديري المدارس ومعلميها لتبادل
الخبرات، وتنشيط العمل التربوي. ولقاءات أخرى دورية وطارئة بين مديري المدارس ومعلميها والأهلين للتعاون على معالجة مشاكل الطلاب وتقويم سلوكهم واجتهادهم الدراسي.
12- الاستمرار في إقامة حفلات التخرّج التي بدأت تتوسّع منذ
سنوات في الثانويات الرسمية والعمل على تعميمها وتعزيزها فنياً وتربوياً لأنّ ذلك يُعزّز جاذبية المدرسة الرسمية ويعمّم على الأهلين أخبار نجاحها ونشاطها.

رابعاً: في الخلاصة
نستنتج مما تقدم أنّ المصلحة التربوية والاقتصادية للمواطن تقضي بوجوب الانصراف إلى الاهتمام بالمدرسة الرسمية لتكون هي الحل بدلاً من التلهي بإلقاء اللوم على المدرسة الخاصة والتذمُّر من الأقساط الرسمية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المدرسة الرسمية بين الواقع والمرتجى سلطان أبو الحسن مسؤول مكتب التربية في المتن الأعلى سابقاً” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

بالرغم من الجهود المبذولة، لم تزل المدرسة الرسمية، وخصوصاً المدرسة الرسمية الابتدائية والمتوسطة، تواجه صعوبات ومعوقات، لأنها جزء من النظام التعليمي العام، أي النظام الطائفي، خلافاً لِما نص عليه الدستور. وأكبر مثال على إعاقة الطائفية أي تقدم هو عدم الاتفاق التربوي والسياسي على إصدار كتاب موحد لمادة التاريخ، والأسباب معروفة. الوطن يحتاج الوقوف إلى جانب المدرسة الرسمية لأنها الجامع الوطني غير الطائفي التي تعد مواطنين للوطن وليس لطوائفهم، ولأن هناك على الأقل مراقبة لتطبيق المناهج، لا كما هو الحال في معظم المدارس الخاصة حيث رقابة وزارة التربية تبدو شكلية خصوصاً على المناهج التعليمية التي يجري تنفيذها.

أما بعض المرتجى أو الحل فهو أولاً تطبيق وثيقة الوفاق الوطني، وتطبيق الثوابت الدستورية في المدارس الخاصة لا الاجتهاد في تصميم وتنفيذ مناهج تربوية خاصة بالقطاع الخاص أو بكل مدرسة على حدة. وهذا يقود إلى موضوع التنشئة الوطنية والأخلاقية، فلا تكون مهنة التعليم عرضة للارتزاق، كما يحصل اليوم في التعاقد النفعي لتعليم التلامذة السوريين، وما يرافق هذا الملف من اتهامات بالفساد المالي، فضلاً عن أنه غير ذي معنى تربوياً وعلمياً.

إذا أريد النهوض بالمدرسة الرسمية فالمطلوب كثير، ولكن أوله اعتبار الأهداف الوطنية والإنسانية هي غاية التعليم، وليس الاصطفاف الطائفي أو المنفعة المادية، وكلاهما يكون على حساب الهوية العلمية والوطنية للتعليم.

نحن نرى أن الرقابة التربوية على المدارس الرسمية يجب أن تكون رقابة ميدانية وليست صورية، ودون محسوبيات. في ماضي الأيام كانت المدرسة الرسمية نقية ناصعة لا شوائب بسلوكها المادي، أما الآن فقد نخر السوس المفاصل في معظم المجالات وخصوصاً في التعاقد والمراقبة والمنح والتلزيمات وغيرها. وتلعب المحسوبيات دوراً مسيئاً في تعيينات المديرين، فلا يؤخذ بنتائج المقابلات أحياناً بسبب من ضغط من هنا أو من هناك. كذلك يجب إلغاء المدارس الخاصة المجانية إذ لا لزوم لها تربوياً واجتماعياً بوجود المدرسة الرسمية، إلا إذا كان الهدف التنفيعات أي الفساد. ويجب تحويل الأموال المهدورة في المجاني على المدرسة الرسمية الابتدائية والمتوسطة لتعطي أفضل النتائج، والثانويات الرسمية خير دليل على ما تستطيع المدرسة الرسمية أن تحققه إذا تأمن لها الجهاز التعليمي الجيد والتجهيز المطلوب والتعاون الضروري.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”بالتربية نبني محمود خضر مدير ثانوية حاصبيا السابق ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لإيماني المطلق بأننا بالتربية نبني،
فهل ننقذ هذا المجتمع ونصل به إلى أرقى ما نريد دون أن تنصب كل جهود الدولة في العمل التربوي؟

فالاستثمار في التربية هو أنفع وأفضل الاستثمارات
كيف لا وكل الوطن يعتمد على خريجي التربية.
كيف نبني مجتمعاً دون تحديث في التربية؟

أبناؤنا في حالة ضياع لعدم وضوح منهجية تربوية تماشي العصر والتطور بسبب التخبط الحاصل في تعديل المناهج.

حان الوقت أن ننطلق جميعاً لنجعل التربية تبني، وبحق.
عسى أن تتكاتف كل القوى الحكومية والتربوية لإصلاح منشود في التخطيط والتوجيه والتنفيذ كي لا تسبقنا إلى ذلك بعض الدول التي كانت تعتبر متخلّفة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خطوة على طريق الإصلاح التربوي في لبنان د. منصور العنز
باحث تربوي ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لقد أُطلِقت المناهج التربوية الحديثة في لبنان، تحت عنوان برّاق ومُفرح ألا وهو “بالتربية نبني” فلاقت ارتياحاً وترحيباً في الأوساط التربوية لم يسبق لهما مثيل. ولكن سرعان ما تبيّن أن النتائج ليست على المستوى المتوقّع. وعادت التربية إلى الدوران في برامج المسكنات التي تبقى على المستوى العلاجي دون أن ترتقي إلى مستوى التخطيط الوقائي. لذا أصبح لزاماً علينا تحديد أي تلميذٍ نريد، وإلى أيةِ وظائف نعدّه، وما هي مجالات عمله المستقبلية، ودور المؤسسة التربوية في إعداده وبناء شخصيته، ومستوى المعلم الذي سيعدّه لمهام حياتية جديدة بواسطة منظومة تربوية قديمة بظل واقع اجتماعي متغيّر وتطوّر علمي تقني متسارع مستخدماً مناهج تربوية مأزومة الأهداف بين التربية على القِيم الموروثة أو الإعداد لجيلٍ عنوانه التغير ومماشاة العصرنة بتدريب المعلم وتمكينه من استخدام تقنيات الحاسوب والتواصل الإلكتروني في التعليم لجهة تركيز مؤسسات الإعداد والتدريب على تطوير وتنمية قدرات المعلم التربوية والتقنية، وإلى أي مدى يتم الاعتماد على الكفاءة والجدارة كمعيار أولي في تكليف أو تعيين أو ترقية المدراء والأساتذة والمعلمين الرسميين؟!
وهل ينبغي إعادة النظر بآليات تعيين وإعداد المعلمين بظل الاستعمال الواسع للتقنيات المستجدّة في العملية التربوية، لاسيما الحاسوب وفوائد الإنترنت من خلال توظيفها في الإنتاج التربوي، بواسطة موارد بشرية متمكّنة ومواكبة للتكنولوجيا والتطور التقني المتسارع، من أجل ضمان الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة؟ وهذا ما يفترض إجراء تغييرات هامة على مستوى إدارة هذه المؤسسات وتحديثها، وتطبيق التقنيات الجديدة والأساليب المتطورة، وتأمين الموارد المادية والحوافز المعنوية، للنهوض بالمدرسة الرسمية والمجتمع اللبناني.
ولا يمكن أن نتحدّث عن دور التقنيات التكنولوجية، دون أن نتطرّق لدور الجهاز التربوي المتمكّن من استخدامها على مستوى الإدارة والتعليم في المؤسّسات التربوية الرسمية التي تتحمّل على عاتقها مسؤؤلية نجاح أو فشل العملية التربوية برمتها، إلى جانب الأنظمة والقوانين التي ترعاها، متمثلةً بالسلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية التي تنتجها وتتابع تطبيقها، وصولاً إلى مؤهلات أفراد الجهاز التعليمي وآليات تعيينهم وتطويرهم وتحفيزهم، لأن الجهاز التعليمي يمثل القلب النابض والعقل المدبر للمدرسة الرسمية.

فاذا كان جهاز التعليم في المدارس الرسمية يمتلك الكفاءة العالية لجهة المعلومات والمؤهلات، وإذا كانت الآليات المعتمدة في تعيين أفراده مضبوطةً على إيقاع الجدارة والكفاءة العلمية فقط،، وإذا كانت خطوات التطوير والتدريب والإعداد هائلة وجبارة! وإذا كانت أجهزة الرقابة والمتابعة من إرشاد وتوجيه وتفتيش ناشطة وتقوم بدورها بشكلٍ صحيح! وإذا كان المعلم نفسه قادراً على المزيد من العطاء والإنتاجية في المدارس الخاصة مقارنةً بما هوالحال عليه في المدارس الرسمية! فكيف يمكن أن نفهم تلك المفارقة؟! وكيف إذاً يمكن تفسير التراجع شبه المستمر في أداء المدرسة الرسمية؟! ويبقى السؤال المركزي يدور حول مدى تلبية جهازها التعليمي والإداري لمتطلبات التعليم الحديثة المعاصرة؟ ومدى قدرة مشروع التدريب المستمر على تطوير أداء المعلمين ومدى انعكاسه على العملية التربوية؛ لجهة تأهيلهم وإعدادهم بطرق وأساليب تعليم بحثية ناشطة محولةً بذلك المعلم إلى باحثٍ مشرفِ موجهٍ بما يتناسب مع تقنيات التعلم والتعليم المتطوّرة المضبوطة على إيقاع سلّم تقييمي دقيق المعايير شفّاف التطبيق لمبدأي الثواب والعقاب بظل منظومة تشريعات تربوية رشيدة منبثقة من آليات تخطيط تربوية واعية ترصد المشاكل وتضع لها الحلول راسمةً سياسات تربوية استراتيجية واضحة الرؤية والأهداف متجاوزةً كافة الاعتبارات.
ولعلّ أول ما يستوقفنا في واقع التعليم الرسمي في لبنان هو مدى مواكبة أفراده ومناهجه للتطوّرات التقنية المتسارعة إلى جانب متطلبات سوق العمل الذي ينتظر طلابه في المستقبل القريب.

بناءً عليه، لا بد من الإبحار وسبر الأعماق لالتماس بعض الحقائق والأسباب المؤثرة على إنتاجية التعليم الرسمي لا سيما الأساسي في لبنان مقترحين جرعاتٍ علاجية تلامس شؤون وشجون التربية والتعليم الرسمي لجهة آليات تكوينه وإعداد جسمه التعليمي وآليات عمل مؤسساته الناظمة ومدى تأدية دورها الأساسي المسؤولة عنه بظل نظام التدخلات والمحاصصة السياسية القائم في لبنان، وهي المؤتمنة عليه أمام ماضي وحاضر ومستقبل الأجيال وصيرورة بناء الوطن ومواطنيه وفق مناهج تربوية سليمة تُدرّس على أيدي معلّمين يُفترض أنهم أكفّاء منخرطين بمؤسسات تربوية تعليمية تعي جيداً أهدافها وأي مواطن تريد ولأية وظائفٍ تعدّه ليكون المدماك الأول التي تسترشد به الأجيال القادمة لتشيّد على أسسه ورؤاه صروح الوطن المستقبلية.

فكانت البداية بالعودة إلى المستندات والوثائق والمطبوعات والتشريعات التي واكبت منظومة التربية والتعليم في لبنان منذ العهد العثماني حتى كتابة هذه السطور، محدّدين بواسطتها العثرات واصفين بعض الجرعات العلاجية آملين أن تجيب على بعض تساؤلات القلقين على مستقبل التعليم الرسمي في لبنان.

من هنا فإنّ التربية تبدأ بوزارة التربية والمؤسّسات المنضوية تحت لوائها على كافة الأصعدة بدءاً من رأس الهرم مروراً بكافة مؤسساتها المتفرّعة عنها كلٍ بدوره وصولاً للمجتمع المحلي الذي يمثل البيئة الحاضنة والمساندة للمدرسة الرسمية مصوبين على جودة المناهج التربوية والأجهزة التعليمية والإدارية والرقابية التي تتحمّل مسؤولية نجاح أو فشل التربية برمتها.
وبهدف الكشف عن بعض الأسباب الكامنة وراء تراجع التعليم الرسمي في لبنان، نُقدّم بعض الاقتراحات التي قد تُضيء شمعةً على طريق الإصلاح التربوي بدلاً من لعنة الظلام، منطلقين من إشكالية يمكن تلخيصها بالسؤال التالي: كيف يمكن تفسير التراجع شبه المستمر في أداء المدرسة الرسمية؟! وهو سؤال البحث المركزي الذي يدور حول مدى تلبية الجهاز التعليمي والإداري في لبنان لمتطلبات التعليم الحديثة المعاصرة، لجهة تأهيل واعداد المعلمين بطرق وأساليب تعليم بحثية ناشطة بعيدة كل البُعد عن أساليب التلقين التقليدية من أجل تحويل المعلم إلى باحثٍ مشرفِ موجهٍ بما يتناسب مع تقنيات التعلم والتعليم المتطورة المضبوطة على إيقاع سلّم تقييمي دقيق المعايير شفاف التطبيق لمبدأي الثواب والعقاب بظل منظومة تشريعات تربوية رشيدة منبثقة من آليات تخطيط تربوية واعية ترصد المشاكل وتضع لها الحلول راسمةً سياسات تربوية استراتيجية واضحة الرؤية والأهداف متجاوزةً كافة الاعتبارات.
وبناءً عليه يمكن اقتراح بعض الإصلاحات التربوية على الشكل التالي:
1- على الجهاز التعليمي والإداري الرسمي الحالي الهَرِم في
لبنان العمل على تحقيق الأهداف التربوية الكبرى المعاصرة للمدرسة الرسمية من خلال إعادة تاهيل وإعداد وتطوير أفراده بما يتناسب مع مسيرة التسارع التقني التعليمي التعلُّمي المتحكّمة بمفاصل التربية والتعليم الشامل المتكامل بمواصفات كونية عالمية تتخطى حدود التاريخ والجغرافيا وتسمو فوق التقوقع المناطقي والعقائدي والعِرقي والمذهبي.

2- على القيّمين على التعليم الرسمي في لبنان إغنائه بعنصر
التعليم الشاب الفتي القادر على استخدام تقنيات التربية الحديثة والمتمكّن من الاندماج عالمياً مع متغيرات الحداثة والعصرنة التربوية بصفة الفاعل والمؤثر فيها وليس بصفة المتلقي المتأثر بها فقط.

3- على المعلم أن ينزع عن نفسه صفة الملقّن ويستبدلها بصفة
المشرف المنشط الباحث المتمكّن من دفع المتعلم لاكتشاف المعلومة بنفسه بدلاً من تلقيها، وهو ما يعيق عملية اعتبار التلميذ محور عملية التعلم والتعليم مع كل ما ينسحب على ذلك من عدم الانخراط باكتشاف المعلومات بواسطة البحث عنها عبر الإنترنت وبالتالي عدم إنتاج الأبحاث العلمية المرسِّخة للمعلومة وهو ما يُفسَّر تربوياً بتحوّل المتعلّم إلى باحث.

4- على وزارة التربية إجراء عملية إعادة تموضع وتوزيع أفراد
ملاكاتها بحسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم لأنّ غالبية المعلمين الرسميين المعيَّنين قبل اعتماد أساليب التعليم الناشط المتطورة هم بحاجة لإعادة إعداد وتأهيل بما يتناسب مع طرق الإدارة ووسائل التعليم الحديثة.

5- على الدولة ردم الهوّة الناتجة عن عملية إسقاط المناهج
التربوية الحديثة والمتطورة على المدارس الرسمية في لبنان دون أن تكون أبنيتها معدّة ومجهزة لاستقبالها ودون أن تمتلك جهازاً بشرياً قادراً على التعامل معها فبقيت المناهج بوادٍ وإمكانية تطبيقها تطبيقاً سليماً بوادٍ آخر فكان للجهاز الإداري والتعليمي شرفيّة امتلاكها دون استعمالها، لأنه أمام تقنيات يتعرّف إليها دون أن يفقه أسرارها وطرق استخدامها تربوياً.

6- إحداث نقلة نوعية بآليات التعيين المعتمدة في اختيار مدراء
المدارس ومتعاقديها من الكفاءات والمؤهلات التقليدية غير المفيدة للتربية الحديثة المعاصرة، ورفض ما كانت تتم عليه من قواعد المحاصصة والطائفية والاستزلام السياسي من خلال اعتماد الكفاءة وجدارة المؤهلات فقط كأولوية للتعيين.

7- وجوب تفعيل آليات الثواب والعقاب في المدارس الرسمية
بظل غياب المكافأة المستندة إلى جودة المؤهلات والكفاءة وحُسن الأداء، وبالمقابل وجوب تفعيل المحاسبة عن تدنّي المؤهلات وضعف الكفاءة وسوء الأداء فاصلين القرار التربوي عن القرار السياسي بشكلٍ نهائي.

8- إعفاء التربية من فوضى التشريعات المسيسة والتجاوزات
والتمريرات وارتجال القرارات المضبوطة على إيقاع المحاصصة السياسية والتوزيع الطائفي واستبدالها بالتخطيط التربوي الاستراتيجي المنتج على الصعيد الوطني العام متجاوزةً بذلك جميع أثاره السلبية بوجه انتظام العمل التربوي الرسمي في لبنان.
لقد هالنا ما رأينا وسمعنا وقرأنا من الاجتهادات والقرارات التربوية، التي تملأ رفوف الخزائن في المدارس الرسمية، وغالبها يناقض بعضه بعضاً، أو لزوم ما لا يلزم وكأننا نخوض الورش التربوية ونرفع التوصيات ونصوغ القرارات ونسنُّ التشريعات المتتالية، لتبقى حبراً على ورق أو لنتذاكرها في جلسات سمرنا التربوية حيث أصبحت القرارات هي غايةً التربية بذاتها، وليست وسيلةً للنهوض بها. هذا إضافةً إلى التدخلات والمحاصصات السياسية التي اجتاحت المحرمات التربوية المقدسة لدرجة أصبح معها يكاد يُسأل التربوي عن انتمائه قبل أن يُسأل عن كفاءته!
بناءً على ما تقدّم تبيّن لنا أنّ واقع منظومة التعليم الرسمي في لبنان والتي كانت ولا تزال تصيب حيناً وتخيب أحيأناً، بظل فلسفة تربوية لا تخدم كثيراً التربية على المواطنة الصحيحة في بلدٍ أحوج ما يكون إلى التفاف أبنائه حول فلسفة تربوىة وطنية تسمو فوق كل الاعتبارات الفئوية الضيقة، معتبرين معاناة المدرسة الرسمية قضيتنا المحورية، محاولين إخراج بعض الثغرات التربوية إلى حيّز النور والعمل على الحدّ من التجاوزات قدر الإمكان عسى أن تجد خلاصات بحثنا هذا الصدى الإيجابي لدى المَعنيين بالشأن التربوي في لبنان!

مبنى وزارة التربية والتعليم العالي
مبنى وزارة التربية والتعليم العالي

على المعلم أن ينزع عن نفسه صفة الملقّن ويستبدلها بصفة
المشرف المنشط الباحث

تأمين البناء المدرسي الملائم من أهم شروط النهوض بالقطاع التعليمي
تأمين البناء المدرسي الملائم من أهم شروط النهوض بالقطاع التعليمي

التربية تبدأ بوزارة التربية والمؤسّسات المنضوية تحت لوائها على كافة الأصعدة بدءاً من رأس الهرم مروراً بكافة مؤسساتها المتفرّعة عنها

وأخيراً لا بدّ من الشروع بتنفيذ بعض الإجراءات الإصلاحية العملية دون انتظار خطط نهوض تربوي شامل قد لا تأتي أبداً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- استحداث وزارة تخطيط والشروع بتنظيم حديث لوزارة
التربية والتعليم العالي لتواكب خطوات التطور السريع في هذا الحقل الوطني المهم في بناء المجتمعات.
2- إجراء عملية إصلاح تشمل معظم مديري المدارس واختيار
المديرين على أساس الأهلية والكفاءة وإعدادهم إعدادا “تربوياً” وإدارياً” دونما الأخذ بالاعتبارات الأخرى.

3- إعداد المعلمين وتنقية الجسم التعليمي من الذين لا يحملون
رسالة التعليم في قلوبهم وعقولهم. والعمل على اختيار المعلمين من النخبة وتعزيزهم مادياً ومعنوياً وتأهيلهم بصورة مستمرة، وتفعيل تطبيق مبدأي الثواب والعقاب.

4- تطوير مناهج التعليم وفق الحاجات الجديدة والتأكد من
مطابقتها لأوضاعنا الاجتماعية وحاجاتنا الاقتصادية والقيام بعملية إحصاء وأبحاث لمعرفة هذه الحاجات. وتوجيه الطلاب إلى الحقل الأكاديمي أوالمِهَني الذي يبدعون فيه ويتخرّجون منه إلى سوق العمل الذي يحتاجهم.

5- تطوير عملية التقويم وبناؤها على معايير سليمة قابلة للقياس
والتصويب للحد من الرسوب في الإمتحانات والقيام بتوجيه التلامذة وإرشادهم وفق قدراتهم لتجنيبهم الشعور بالإحباط وبالتالي لحمايتهم من آفة التسرب المدرسي.

6- تأمين البناء المدرسي الملائم وتجهيزه بأحدث الوسائل، بعد
تحديد المناطق المتخلفة تربوياً، فتُعطى الأولوية للتجهيز وتكثيف الجهود فيها إن لجهة الأساتذة الكفوئين أو لجهة الإدارة والتجهيز. شرط أن يُوازى بين كافة المناطق والقطاعات لا أن تنمو منطقة أو قطاع على حساب الآخر.

7- تطبيق سياسية تربوية واحدة على جميع المؤسسات في لبنان
بعيداً عن التعصب الديني بحيث يأتي التوجيه وطنياً سليماً لا يتنافى مع حرية الرأي والمعتقد.

8- تعزيز دور الإعلام التربوي والثقافي للتمكين من مجاراة
التكنولوجيا الحديثة التي أصبحت وسيلة هامة للتعليم ولنقل المعرفة.

9- إخضاع مَنْ اجتاز بنجاح مباراة التثبيت في التعليم لاختبار
نفسي ومقابلة شفهية قبل تثبيته معلماً أو أستاذاً بملاك وزارة التربية نظراً لأهمية الشخصية والنفسية على نجاح أو فشل المعلم في تأدية وظيفته الرسالية.
10- استبدال تسمية التعليم الرسمي بالتعليم الوطني لأن رسالة
المدرسة الرسمية رسالة جامعة بحكم كونها تجمع تحت عنوانها وبين جدرانها مختلف الطوائف والطبقات الاجتماعية، ونحن وإياكم نُدرك أنّ أهم مصاعب لبنان وأخطر هواجسه تكمن في تعدد الانتماءات الطائفية على حساب الانتماء الوطني. فعلى القيّمين على المدرسة الرسمية أن يُنمّوا الروح الوطنية إلى حد تجاوز الروح الطائفية وأن نتمكّن بفضلها من العيش كشعبٍ واحد لا كشعوب متصارعة على أرض الوطن، ليصبح إيماننا بدور المدرسة الرسمية على الصعيد الوطني أقوى من إيماننا بدورها في تأمين العلم والمعرفة. وإذا كان الإصلاح بحاجة إلى الإيمان فأننا نؤمن أنّ التربية الوطنية قادرة على تحويل لبنان إلى مجتمع متطور مُبدع وسبّاق في المجالات العلمية والثقافية والوطنية.

ولا نذيع سرّاً عندما نتكلم عن نهم مسؤولي المدارس للحصول على نسبة نجاح مئة في المئة في امتحانات الشهادات الرسمية، ويجاريهم في ذلك الأهل والمسؤولون على مستوى المناطق التربوية والإدارة المركزية. إنّ التربويين يتحمّلون المسؤولية الكبرى عن إفراغ التعليم من جوهره بسبب إغداق الأوسمة وإعطاء الأهمية الكبرى لحصول المدارس على نسب نجاح 100 في المئة.

وهنا تكمن المشكلة الكبرى، حيث يصبح شغل المدرسة الشاغل وهدفها الأسمى هو الحصول على هذه النسبة، على حساب باقي الصفوف المدرسية، فتبدأ عملية تصفية الحساب مع التلامذة الذين ينجحون بمعدّل الوسط، حيث يصدر بحقهم قرارٌ دكتاتوريٌ ينصُّ على إبقائهم في الصف الثامن، وذلك تحت طائلة فقدان النسبة المئوية المقدسة! ثم يبدأ العمل على حشوِّ رؤوس التلامذة بالمعلومات التي تؤمّن لهم العلامات في الإمتحانات الرسمية متعهّدين بنسيانها فور الحصول على النتيجة! بالإضافة إلى أنّ بعض المدارس تبدأ بتدريس مواد السنة المنهجية التاسعة في صفي الثامن والسابع! ضاربةً بعرض الحائط مبدأ التراكم العلمي الذي يجعل معلومات التلميذ تتراكم حلزونياً، حيث تضاف معلومات الصف السابق إلى معلومات الصف الحالي وهكذا دواليك حتى نهاية التعليم!. فاصبحنا نعلّم على مبدأ: “احصل على نتيجة 100 في المئة وخُذ ما يُدهِش العالم”! ناهيك عن التوصيات التي يتوسّلها بعض مدراء المدارس من مراقبي ومصحّحي الإمتحانات الرسمية بتلامذتهم! متناسين أنّ الأوسمة تستحق لمَنْ يُربّي ضعيفاً

ويُنشئه تنشئةً صالحة ليوصله إلى درجة النجّاح، وليس لمَن يرشُّح للإمتحانات الرسمية التلامذة المتفوقين أصلاً ليفتخر بنتائجهم! ولمَنْ يجعل التلميذ محلّلاً مستخلصاً مبدعاً وقادراًعلى تخزين المعلومات وترسيخها واسترجاعها عند الحاجة! هذا التلميذ الذي نريد، ولا قيمة للنسب المئوية المفبركة بذاكرة مؤقتة سرعان ما تزول فور صدور النتائج!.

لذا نُحذِّر من خطورة اللّهاث وراء تلك النسب البرّاقة! فنحن بحاجة لتلميذٍ محلّلٍ ولسنا بحاجة لآلة تسجيلٍ بذاكرة مؤقتة!.
واستكمالاً لمبدأ “بالتربية نبني”، نقول: “على مقاعد الدراسة تُبنَى الأوطان”.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

واقع الكهرباء في لبنان

أزمة الكهرباء المستمرة في لبنان
«تكهرب» الحياة الاقتصادية والسياسية

التقنين الجائر للكهرباء يضاعف تكلفة الطاقة للمؤسسات
ويعرقل الإنتاج ويضعف تنافسية المنتجات والخدمات اللبنانية

45% من طاقتنا الكهربائية مهدورة أو مسروقة
ولبنان البلد العربي الأول في هدر الكهرباء

20 مليار دولار خسائر قطاع الكهرباء في 20 عاماً
والخسارة السنوية قفزت إلى ملياري دولار سنة 2012

الوزير الراحل جورج فرام سعى الى وقف المهزلة
فاضطرته مافيا الكهرباء لترك الحكومة

ظلمة-ترهق-الاقتصاد
ظلمة-ترهق-الاقتصاد

تتعاظم العوامل المؤثرة على الحركة الاقتصادية في لبنان، وتأخذ معظمها مندرجات سلبية تشدُّ العربة الى الوراء، رغم أن الطرقات التي تسلكها هذه الحركة بإتجاه تحقيق غايتها وعِرة بالأساس، وهي ليست مفروشة بالورود والياسمين.
فالمسالك التشريعية التي تحكم النشاط الاقتصادي صعبة، وفيها الكثير من القساوة من جرّاء التركيبة المُعقَّدة للبرلمان اللبناني المُشكَّل من خليط سياسي وطائفي متنوع، على الرغم من اعتماد لبنان نظام الاقتصاد الحر، أو ما يُعرف بـ “إقتصاد السوق” المُكرَّس بالدستور في البند(و) من مقدمته، كما أن المتاعب المُتأتية من الصعوبات الجغرافية والديمغرافية واسعة جداً، خصوصاً لناحية وجود معظم الحركة الاقتصادية في مناطق محددة، لاسيما في المُدن الكبرى، وفي المنطقة الساحلية، ناهيك عن التمرّكز الذي يغلب عليه الطابع الطائفي لبعض هذه الحركة. والجغرافيا الداخلية اللبنانية، والمحيطة بلبنان، تفرض أيضاً عوامل مؤثرة على الاقتصاد، وتنعكس عليه ايضاً وايضاً تقلبات المناخ الذي يختلف كثيراً بين الساحل والجبل والداخل في سهل البقاع.
وإذا كان الامن هو المُعضلة الاقوى التي تواجه حركة نمو الاقتصاد اللبناني، إلاَّ أن موضوع الاخفاق الكهربائي الذي يفرض التقنين لساعاتٍ طويلة، أصبح عاملاً سلبياً واسع التأثير على الاقتصاد، يُكبِّل حركته على الرغم من المقومات الموضوعية الايجابية التي تنبسط امام النشاط الانتاجي جرّاء المهارة الشخصية العالية للبنانيين، ولتوافر بعض القيِم المضافة التي تتوافر كمحفزات للاقتصاد، ومنها خصوصاً البيئة العلمية الكفوءة، والقدرات الادارية، والحاضنة التشريعية المقبولة.

اولاً: واقع الكهرباء في لبنان
تعرَّف لبنان على الطاقة الكهربائية من خلال نشاط القطاع الخاص، وتولَّت الشركات الخاصة الانتاج، حيث بدأت العمل بالطرق البدائية في سنة 1925 في بيروت، ثم في طرابلس، ومن بعدهما انتقلت الى المدن اللبنانية الأخرى، بعد حصولها على الإذن من السلطات الرسمية المختصَّة، وفقاً لنطاق جغرافي حددته الدولة، يتضمَّن الانتاج والتوزيع.
في سنة 1954، استردَّت الدولة اللبنانية الامتيازات الممنوحة من الشركات بالتراضي، ولاسيما امتياز “التوزيع العام للطاقة في مدينة بيروت وضواحيها”، وامتياز “انشاء واستثمار شبكة توزيع الطاقة الكهربائية تحت التوتر العالي”، وامتياز “انشاء واستثمار مصنع كهربائي في نبع الصفا” . 1
في 10/7/1964، أُنشئت مؤسسة كهرباء لبنان، وحُددت مهامها
بـ “انتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية على كافة الاراضي اللبنانية”، وقد منحت هذه المؤسسة امتيازات لإدارة القطاع في بعض المناطق، منها كهرباء زحلة، وكهرباء قاديشا، وكهرباء عاليه.
تملك المؤسسة حصرية الانتاج من سبعة معامل حرارية تعمل على الفيول والديزل والغاز، في الذوق والجية وصور وبعلبك والزهراني ودير عمار والحريشة. الطاقة الانتاجية المفترضة لهذه المعامل هي 2038 ميغاواط، ولكنها فعلياً تنتج 1685 ميغاواط كحدٍ أقصى . 2
كما تملك المؤسسة ثلاثة معامل انتاج على الطاقة المائية، وهي معامل الليطاني، ومعامل شركة نهر البارد، ومعامل نبع الصفا، والقدرة الانتاجية الدفترية لهذه المعامل 220,6 ميغاواط، ولكنها فعلياً لا تنتج تلك الكمية.
وتدير المؤسسة شبكة واسعة من خطوط النقل الرئيسية، تبلغ أطوالها نحو 1615 كلم، منها 1336 كلم هوائي، و279 كلم تحت الأرض، ولكنها في الوقت ذاته تحتاج الى وصلات اضافية، خصوصاً وصلة المنصورية الهامة، التي مازالت متوقفة نظراً للخلاف حولها، والذي أخذت طابع المزايدة السياسية، رغم أن الرئيس رفيق الحريري اقترح تمديدها تحت الارض منذ سنة 2004.
تقدّر حاجة لبنان للطاقة حالياً بـ 2250 ميغاواط، مع معدل نمو سنوي في الاستهلاك يقدَّر بنحو 3 في المئة، مما يوصِل حاجة لبنان الى 2500 ميغاواط في حدود سنة 2020، علماً أن الخطة التي أقرّتها الحكومة في ايلول 2011، وصادق عليها مجلس النواب، لحظت توسيع الانتاج الى 700 ميغاواط اضافية، بكلفة 1200 مليون دولار، ولم يُنفذ من هذه الخطة أي شيء حتى اليوم، بإستثناء استئجار باخرتين تركيتين تُنتجان اقل من 200 ميغاواط.

” ما هو سرّ الفشل المستمر منذ 20 عاماً
في وقف النزف المستمر وإصلاح القطاع “

ثانياً: مشاكل قطاع الكهرباء
من المفيد الإشارة الى أنه ومنذ سنة 1992، أي بُعيد انتهاء الحرب الاهلية، كان وزير الطاقة – المسؤول فعلياً عن ملف الكهرباء- ينتمي الى فريق سياسي معين، وعند تشكيل كل حكومة جديدة كان لافتاً تمسُّك هذا الفريق بطلب تولي هذه الوزارة، وقد أُقصي الوزير الراحل جورج افرام عنها سنة 1993 لأنه لا ينتمي الى هذا الفريق، وبسبب رفضه شراء معامل انتاج قديمة، أُثيرت حولها الشبهات، ولاسيما في بعلبك ودير عمار.

وبموجب تقنين التيار الكهربائي تحصل معظم المناطق اللبنانية على 16 ساعة يومياً، ما عدا بيروت التي لحظ لها مجلس الوزراء تغذية على مدى 21 ساعة في اليوم، إلا أن برنامج التقنين الذي توزعه مؤسسة كهرباء لبنان لا يلتزم هذه المدة، جرّاء المشاكل الناتجة عن الاعطال المُتكررة، وعدم قدرة الشبكة على تحمّل زيادة الاستهلاك في مناطق عديدة من جرّاء تزايد عمليات السرقة. كل ذلك يؤدي الى فوضى عارمة في برنامج التغذية، ويسبب ارباكاً كبيراً لدى المواطنين، ولدى القوى الانتاجية في القطاعات الصناعية والسياحية والزراعية والتجارية والخدماتية.
ينتج لبنان حوالي 72 في المئة من حاجته (تقديرات 2012)، ورغم هذا النقص الكارثي بالمقاييس العالمية للتنمية، تخسر مؤسسة كهرباء لبنان 45 في المئة من هذه الطاقة المُنتجة عن طريق الهدر. ولبنان هو الاول بين الدول العربية في هدر الطاقة الكهربائية يليه اليمن بنسبة هدر 28,3 في المئة، بينما لا يتعدى الهدر في المملكة العربية السعودية الـ 16 في المئة 3، رغم المسافات الطويلة لخطوط النقل الهوائية فيها، والتي تعتبر المُسبب الرئيسي للهدر الفني للطاقة. ولكن لبنان لا يعاني من الهدر الفني للطاقة التي تقدر بـ 15 في المئة فقط، بل من الهدر الناتج عن سرقة 25 في المئة من الطاقة المُنتجة، وعدم تحصيل 5 في المئة من الفواتير الصادرة، رغم تلزيم الصيانة والجباية التي قامت بها مؤسسة كهرباء لبنان لشركات خاصة ابتداءً من سنة 2010.
إن النسبة المرتفعة من الهدر للطاقة في لبنان، تكلّف الدولة مبالغ طائلة، لأنها تتحمل تكاليف العجز في مؤسسة كهرباء لبنان، لكونها قطاعاً عاماً، وبالتالي فإنها دفعت اكثر من 20 مليار دولار خسائر منذ سنة 1993 حتى نهاية سنة 2012، وقد بلغت قيمة ما دفعته الدولة ثمن محروقات وضرائب واستئجار بواخر وخدمة دين لصالح كهرباء لبنان في سنة 2012 ، 3408 مليارات ليرة لبنانية، أي ما يوازي 5,5 في المئة من الناتج الوطني الاجمالي، ويشكِّلُ هذا الأمر ارهاقاً كبيراً للإقتصاد الوطني الذي يعاني من إنكماش مخيف من جرّاء ارتدادات الأزمة السورية.
إضافة الى مشاكل العجز في موازنة مؤسسة كهرباء لبنان، وتدني مستوى الانتاجية، فهناك رُزمة من التحديات تُفرض على الدولة، منها موضوع العاملين “المياومين”، ويبلغ عددهم اكثر من 1800 عامل، فلم تحلّ مشاكلهم الوظيفية حتى الآن، وهي عالقة بين الشركات المتعهِّدة للصيانة والجباية، وبين دوائر لجنة المال والموازنة النيابية، التي لم تُقِر تفاصيل مستقبلهم وحقوقهم حتى اليوم، على الرغم من القرار الذي صدر بمعالجة وضعهم القانوني وتثبيتهم.
ويبرز الأداء السيئ للسلطات المولجة معالجة الخلل في ملف الكهرباء من خلال الاضطراب الواسع الذي يسود مقاربات الاستفادة من الطاقة البديلة، لاسيما موضوع انتاج الطاقة من الشمس والهواء، حيث لبنان لديه فُرص مثالية يمكن الإستفادة منها، ولكن لا توجد خطة جدية من قبل وزارة الطاقة في هذا المجال، الا أن الوزارة قامت بعمل توفيري متواضع، حيث اشترت كميات كبيرة من المصابيح(اللمبات) التي توفّر الطاقة، ووزَّعتها مجاناً على المنازل، وفقاً لبرنامج تبديل، رافقه العديد من الملاحظات والتساؤلات.

روح-الطرافة-اللبنانية--يافطة-مضاءة-ترحب-بعودة-التيار
روح-الطرافة-اللبنانية–يافطة-مضاءة-ترحب-بعودة-التيار

ثالثاً: آثار اقتصادية فادحة
إنعكس عدم توفّر الطاقة الكهربائية بشكلٍ كافٍ ويلات كبيرة جداً على الاقتصاد اللبناني، وخسائر ميزان المدفوعات والميزان التجاري اللبناني، من جرّاء هذا الخلل. ففاتورة شراء المولدات زادت العجز، كما أن كلفة الفاتورة النفطية الناتجة عن توسع استخدام المولدات الكهربائية الخاصة زادت بوتيرة عالية، ويُقدَّر ما يصرفه اللبنانيون على استخدام كهرباء المولدات الخاصة بما تصرفه الدولة على القطاع، أي ما يوازي ملياري دولار سنوياً، ويشكلُ الامر عبئاً ثقيلاً على اقتصاد لا يتعدى ناتجه الاجمالي الـ 40 مليار دولار أميركي.
1. آثار الأزمة على القطاع الصناعي
كان شعار ثورة اكتوبر العظمى التي حصلت في روسيا في سنة 1917: “السلام وتأمين الكهرباء لعموم البلاد”. فالكهرباء ضرورة لكافة نواحي الحياة، وخصوصاً للقطاع الصناعي. والصناعة الحديثة تحتاج في كل مفاصلها الى الطاقة الكهربائية لتشغيل الآلات، وللنقل والانارة، وتوليد الحرارة المرتفعة التي تحتاجها الصناعات المعدنية الثقيلة، وبقدر ما تتوافر الكهرباء بكميات وافية وبأسعار رخيصة، بقدر ما يكون الامر ملائماً لتحفيز الصناعة الحديثة، وتحقيق انتاجية عالية، وطرح سِلع تنافسية في الاسواق.
إن عدم توافر الكهرباء بشكل دائم في لبنان ينعكس سلباً على الصناعة اللبنانية، ويقدّر البنك الدولي الخسائر السنوية للصناعة اللبنانية بسبب انقطاع الكهرباء بنحو 400 مليون دولار، والقيمة المضافة التي تتكبّدها عملية الانتاج الصناعي من جرّاء هذا الانقطاع بـ 23 في المئة من كلفة الانتاج 4، لأن تأمين الطاقة عن طريق المولدات غالٍ بسبب غلاء المواد الاولية النفطية لعدم توافرها في لبنان، وهي تأتي عن طريق الاستيراد المُكلف. وهذا الامر ينعكس زيادة على كلفة إنتاج السلع اللبنانية، وبالتالي خفض قدرتها التنافسية في الاسواق المحلية والخارجية. وتُقدَّر خسارة القطاع الصناعي من اليد العاملة بـ 30 ألف وظيفة من اصل 140 ألفاً يعملون في هذا القطاع 5.
وتراجعت حصة الصادرات الصناعية من مجمل الصادرات اللبنانية، علماً أن الميزان التجاري لسنة 2012 سجّل إرتفاع أرقام الصادرات الصناعية من لبنان، ولكن الأمر حصل من جرّاء احتساب قيمة صادرات المازوت من لبنان الى سوريا في سلة الصادرات الصناعية، علماً أن بعض الصناعات الخفيفة
– ولاسيما الغذائية منها – استفادت من الاوضاع الناشئة من جراء زيادة الاستهلاك بسبب تواجد اعداد كبيرة من النازحين السوريين على الاراضي اللبنانية، وكذلك زيادة التصدير الى سوريا بسبب تعطُّل الانتاج الصناعي السوري، وهذا لا يعتبر مؤشراً مهماً، لأنه موضوع استثنائي، ولأن تضرر القطاع في جوانب أخرى من جراء الاحداث السورية، كان اكبر من الفوائد التي تحققت.
2. إنعكاسات الأزمة على الزراعة
على الرغم من الإهمال الذي يلاقيه القطاع الزراعي اللبناني من الجهات الحكومية، فإن حوالي 40 في المئة من اللبنانيين، يعتمدون كلياً، أو جزئياً، على ايرادات القطاع وما يتفرَّع عنه من صناعات غذائية، علماً أن الزراعة لا تستحوذ على اكثر من 6 في المئة من الناتج الوطني الاجمالي، وإن دلَّ الامر على شيء، فإنما يدلُ على الخلل الواسع في توزُّع الثروة في لبنان.
انخفضت الصادرات الزراعية اللبنانية بنسبة 37 في المئة من جراء الازمة السورية، لأن هذه الصادرات كانت تعتمد بشكلٍ رئيسي على الاراضي السورية للعبور الى الاسواق الخارجية، وهو ما سبب بعض الكساد في انواع من المُنتجات اللبنانية، رغم زيادة الاستهلاك المحلي. ومع ذلك، وبسبب الإهمال المزمن الذي تعاني منه الزراعة، ومنه أزمة الكهرباء، فإن لبنان الغني بموارده الطبيعية والمائية والبشرية يستورد من المنتوجات الزراعية والغذائية المُتفرعة منها، عشرة اضعاف ما يُصدِّر من تلك السلع.
تجدر الإشارة إلى أن تكلفة انتاج الكهرباء من المولدات الخاصة زادت خلال السنوات القليلة الماضية بنسبة 100 في المئة، وذلك بسبب ارتفاع كلفة المحروقات التي تحتاجها المولدات، وباتت تكلفة المحروقات تشكل 60 الى 70 في المئة 6 من كلفة الانتاج، خصوصاً في زراعة الخضروات التي تحتاج الى كميات كبيرة من مياه الري، التي بدورها تحتاج الى الكهرباء لإستخراجها من الطبقات الجوفية أو من الانهر، لاسيما في البقاع، الذي يُعد المنتج الأهم للزراعة اللبنانية.
لقد افقدت كلفة الكهرباء المرتفعة القطاع الزراعي اللبناني قدرته التنافسية بين المنتوجات الزراعية في الدول المجاورة. فبالإضافةً الى حاجة المزارع الى الكهرباء لتأمين مياه الري، فإنه يحتاج الطاقة الكهربائية لتأمين النقل وللتبريد والتوضيب، والتدفئة، والتخزين، ولتحويل المنتجات الى منتجات غذائية صالحة للإستهلاك، وفي كل ذلك يعتبر الشح الكهربائي في لبنان عاملاً مُهبِّطاً لنمو الزراعة، وسبباً أساسياً لتخلفها، وعدم مواكبتها للمتطلبات العصرية للتنمية.

” رغم التكلفة الهائلة للأزمة لا توجد لدى لبنان خطة للإستثمار في مصادر الطاقة المتجددة “

لبنان-يمكنه-استثمار-طاقة-الرياح-لإنتاج-الطقة-الكهربائية
لبنان-يمكنه-استثمار-طاقة-الرياح-لإنتاج-الطقة-الكهربائية

3. تراجع القطاع السياحي
واجه النشاط السياحي هبوطاً كبيراً في السنتين 2012 و 2013، واضطرَّت أكثر من 500 مؤسسة سياحية الى الاقفال، وسجّل لبنان اكبر نسبة تراجع للعائدات السياحية – اذا استثنينا الدول التي تشهد حروباً – بحيث بلغ التراجع 17,5 في المئة في سنة 2012، وفقاً لتقديرات منظمة السياحة العالمية. 7
كان السبب الأهم في سنة 2013 ، اضافة الى استمرار انقطاع التيار الكهربائي، عدم قدوم المغتربين اللبنانيين بأعداد كبيرة الى لبنان جرّاء اهتزاز الوضع الأمني، والانقطاع شبه الشامل الذي حصل مع السيّاح العرب – وخصوصاً الخليجيين – بسبب تحذيرات دولهم من خطر القدوم الى لبنان، اضافة الى انقطاع طريق سوريا أمام السيّاح الذين يأتون بسياراتهم عن طريق البر، ومنهم الأردنيون بشكل خاص.
امَّا الانعكاسات السلبية على قطاع السياحة، المُتأتية من انقطاع التيار الكهربائي، وكلفة التيار العالية، فهي كبيرةٌ وتشمل أكثر من مجال.
تدفع المؤسسات السياحية، ولاسيما الفنادق والمطاعم، فاتورتي كهرباء، الأولى لمؤسسة كهرباء لبنان، والثانية لأصحاب المولدات الخاصة، أو كمصاريف للمولدات التابعة لهذه المؤسسات، مما يُشكلُ عبئاً ثقيلاً عليها ويتسبب في ارتفاع اسعار السلع السياحية، من طعام وايواء وترفيه، ويُقلّص من فرص اقامة الأعراس والمناسبات الفنية الأخرى. وتقدّر الأوساط المتابعة الكلفة الاضافية لفاتورة الكهرباء في المرافق السياحية، بما لا يقلّ عن 23 في المئة من الكلفة الاجمالية للتشغيل.
أضف إلى ذلك تأثير انقطاع الكهرباء على قرى الاصطياف الجبلية، من خلال العتمة الموحشة في الليل، وعدم انتظام وسائل التكييف في حرّ الصيف، وهو ما يؤثر على جودة المنتج السياحي ويضعف الحركة الليلية للسيّاح.
4. أزمة حياة يومية وخدمات
مما لا شك فيه بأن الحياة العادية للمواطن اللبناني ترزح تحت كابوس من المشقات المُتعبة والمربكة والمُقلقة، من جراء التقنين القاسي للتيار الكهربائي، ويتحمّل المواطنون فاتورة باهظة من جرّاء اقتناء وتشغيل المولدات، أو الاشتراك في شبكة المولدات الخاصة التي انشأها بعض المُستثمرين في كافة المناطق اللبنانية، وهؤلاء يفرضون رسوماً شهرية باهظة على المشتركين، وهذا على الرغم من التدخل المتواضع الذي تمارسه وزارة الطاقة في عملية تحديد قيمة الاشتراكات، التي غالباً ما لا يتقيّد بها اصحاب المولدات، لأسباب واهية.
تُقدَّر فاتورة الكهرباء التي يدفعها رب المنزل العادي لأصحاب المولدات فقط، ما بين 165 و 175 ألف ليرة لبنانية شهرياً 8، وكمية هذه الطاقة من المولدات لا تُمكنه من القيام بالأعمال المنزلية الكاملة، بل عادةً ما تقتصر على الإضاءة، وتشغيل التلفاز والأجهزة الالكترونية فقط.
وتتأثر الحياة العامة وقطاع الخدمات الى حدٍ كبير بإنقطاع الكهرباء، على الرغم من وجود جزء كبير من قطاع الخدمات في مدينة بيروت التي تعيش ما يشبه الجنة الكهربائية. فتأمين المياه العامة يحتاج الى الكهرباء، وتضطر المؤسسات العامة والبلديات لتأمين مولدات خاصة لهذه الغاية، مما يرفع الكلفة على المواطنين، وعلى قطاع الخدمات والقطاع التجاري.
أخيراً: لعلّ من المفيد التذكير بما قد يعرفه الجميع، وهو أنه لا يمكن للإقتصاد اللبناني أن يتعافى في قطاعاته المتنوعة – الصناعية والزراعية والسياحية – من دون توفير الطاقة الكهربائية بكميات كافية، وبأسعار مدروسة ومُلائمة.
إن الاحتجاج بالظروف الأمنية والسياسية لتبرير الاخفاقات المستمرة لإدارة قطاع الكهرباء هو تهرُّب من المسؤولية، إذ أن هناك أخطاءً ونواحي تقصير يجب على الدولة تحديدها والعمل على معالجتها بكل جدية، ولا بدّ بصورة خاصة من الإسراع في تنفيذ خطة الحكومة بشأن إصلاح وإعادة تنظيم قطاع الكهرباء التي أقرتها في صيف 2011، ولم ينفذ منها شيء رغم مرور اكثر من سنتين على إقرارها.
إن الظروف الامنية والسياسية المُعقدة، لم تَحُل دون قيام القطاع الخاص بتأمين النقص في كمية الطاقة المطلوبة من خلال المولدات.
إن أمام لبنان فرصاً حقيقية لتجاوز أزمة الكهرباء، ولاسيما من خلال الهبات والقروض المُيسَّرة، أو من خلال خطة مدروسة لإقامة شراكة بين القطاعين العام والخاص، من خلال فتح المجال أمام هذا الأخير للإستثمار في انتاج وتوزيع الطاقة، من دون أن يكون الأمر خصخصة كاملة قد لا تتحملها ظروف لبنان. في غضون ذلك سيبقى انقطاع الكهرباء العامل الأهم في “كهربة” الحياة الاقتصادية والمعيشية، وحتى السياسية في لبنان.

مقدمة موضوع الزواج المختلط

الزواج المختـلط والمدني
شؤونه وشجونه

الزواج المختلط أو العسل المر

انــدماج بالآخــر أم انســلاخ عــن الــذات

الزواج المختلط يخلق شخصية حائرة وهوية ملتبسة لدى الأولاد كونهم ينتمون بالدم والنسب والثقافة والبيئة الاجتماعية إلى عالمين مختلفين وأحياناً متناقضين

هل الزواج المختلط خطوة متقدمة باتجاه الاندماج بالآخر أم انسلاخ عن الجماعة دون التحام وطني بـ “الآخر”؟ هل هو ممارسة لحرية الفرد أم عقوق وسلب لحقوق الوالدين وقهر لهم في خريف عمرهم؟ هل الزواج يخص الشريكين فقط أم هو عقد يدخل فيه الأهل أيضاً والعشيرة والقرية والجماعة الثقافية؟ وكيف يعيش الزواج المختلط من دون القبول الاجتماعي ودعم الأهل وترحيبهم؟ وما هو مستقبل الأولاد وكيف تحل مشكلة الهوية الملتبسة والنسب الملتبس والعلاقة الملتبسة ببيئتين متعارضتين أو على الأقل لا يربط بينهما الودّ الكثير؟ وما هي حظوظ الزواج المختلط بالنجاح والاستمرار وسط الرفض أو التجاهل من البيئة التي يفترض أن تحضنه وتحتفل به؟ هل يمكن للحب أن يستمر؟ وعندما يغيب الحب وتبقى المشكلات الحياتية والعملية والنفسية من يهب إلى معونة الزوجين وإلى أي سند يمكنهم أن يستندوا؟
ذلك بعض من الأسئلة الكثيرة التي أثارتها “الضحى الشبابية” في مسعى لجلاء الواقع والآراء العديدة بشأن هذا الموضوع الحساس والمطروح عملياً على شبابنا إن لم يكن بسبب الرغبة في دخول زواج مختلط، فعلى الأقل بسبب تعاملهم مع من قد لا يتردّد في دخول التجربة بغض النظر عن تبعاتها. وبسبب أهمية الموضوع فقد وجدنا من الضروري التعامل معه بجدية واحتراف. فكان الاستفتاء أولاً ثم الندوة التي انعقدت حول الموضوع في دار الطائفة الدرزية في فردان. وتأسيساًعلى هاتين الخطوتين وما ظهر خلالهما من نتائج قمنا بإعداد هذا الملخص الذي يعرض للمسألة بصورة موضوعية وشاملة وقد تألف من الاستفتاء والندوة وهذه المقدمة ملف متكامل نأمل أن يوفي بالغرض ويوفّر القاعدة المنطقية والعقلانية للتحاور في موضوع الزواج المختلط بحيث تبنى المواقف على بينة ووضوح.

الدوافع والأسباب
يثير الزواج المختلط قدراً كبيراً من الانفعالات وردود الفعل في المجتمع اللبناني بالنظر للنزاعات التاريخية الطويلة التي نشأت بين الأقليات المختلفة المكونة له وما خلفته من تباعد وشكوك. وعلى الرغم من قدرة اللبنانيين على تناسي الصراعات والأقليات والسعي للعيش في وطن واحد فإن كلاً من تلك الأقليات يحرص في الوقت نفسه على الاحتفاظ بخصوصيته وإقامة “علاقات مشروطة” بباقي فئات الوطن وهذا يعني أن الفروقات أعمق مما قد يظهر في علاقات السوق والتجارة والتعامل المصلحي. ولهذا السبب ربما وبالنظر لأهمية التضامن العشائري واستمرار الأقليات فإن الزواج المختلط غالباً ما يستفز بيئة الشريكين باعتباره يضعف العصبية التي تنظر إليه كنوع من “الاستقالة” من الجماعة واجتياز لحدودها المرسومة. وحتى في حالات الزواج المدني الذي يُبقي على الرجل وأولاده على عقيدتهم الدينية فإن الخطوة في حد ذاتها تخلق توتراً صريحاً أو مضمراً بين الشخص وبين محيطه لأن الزواج من خارج الطائفة يعني في نظر الجماعة أن من يقدم عليه لا يقيم اعتباراً لشعورها ولا لقوانينها غير المعلنة، ناهيك عن اعتباره تعدّياً على شعور الوالدين والأقارب وحقوقهم.

بعض الشباب لم يعد يكتفي باعتبار الزواج رابطة تخص الشريكين بل بات يزيد عليها أنها رابطة لا تخص الأهل ولا دور لهم في قبولها

كن ما هي الأسباب التي تدفع باتجاه الزواج المختلط؟ ولماذا يقدم بعض الشباب والفتيات عليه على الرغم مما يكتنف تلك الخطوة من صعاب ويعترضها من نتائج اجتماعية؟
واقع الأمر هو أن أكثر حالات الزواج المختلط يحصل بسبب عاملين رئيسيين الأول هو اقتناع الشباب بأن الزواج يجب أن يكون نتيجة حب واختبار مباشر وإن بعيداً عن رقابة الأسرة والوالدين، أما العامل الثاني فهو غالباً نشوء علاقات عاطفية قبل الزواج تتحول مع الوقت إلى أمر واقع يفرض نفسه.

من هم أطراف الزواج ؟
أظهر الاستفتاء المنشور في هذا الملف أن نسبة ليست قليلة من الشباب لا تعتبر رضا الوالدين ضرورياً أو لا تفصح عن موقفها بشأن هذا الأمر المهم، فالنظرة اليوم هي أن الزواج هو علاقة بين شخصين، وهو كذلك بالطبع لكن الجديد عند بعض الأشخاص هو التشديد على أن أمر هذه العلاقة يخص الشخصين وحدهما وأن على الأهل أن يتقبلوا خيار الأولاد دون أن يكون لهما رأي في الأمر. وهذه النظرة التي تُعلي من شأن الفرد على حساب العائلة الموسّعة والبيئة جاءتنا من الغرب وبات البعض يقبلها على عواهنها دون التأمل في النتائج التي أوصلت إليها في بلدانها. لقد انحلّ المجتمع الأوروبي إلى أفراد معزولين ولم يعدّ هناك مجموعات ومتحدات اجتماعية ثقافية أو دينية متماسكة كتلك التي لا زالت قائمة في بلدان الشرق وخصوصاً في بلدان الإسلام. وقد ساد الفرد في الدول الغربية بصورة تامة لأن الدساتير والقوانين كلها سودت الفرد وبات المواطن في الغرب حراً لا يدين بأي التزام تجاه والديه أو عائلته أو دينه، بل أن الغالبية الساحقة من الناس باتت تعلن صراحة أنها لا تؤمن بأي دين وقد تراجع دور الكنيسة في الغرب ولم يعدّ لها أي تأثير حقيقي على الشباب والأجيال الجديدة. لكن العقيدة الليبرالية – الإلحادية (وقد أصبحت بالفعل عقيدة وديناً) أدت إلى كوارث اجتماعية إذ انحلت مؤسسة الزواج نفسها بسبب انحلال البيئة الحاضنة لها وهي العائلة الموسعة أو المؤسسة الدينية وحلت المساكنة غير التعاقدية محل الزواج في كثير من الأحيان وولدت نسبة كبيرة من الأولاد خارج الزواج الشرعي، وفي هذا المناخ بدأت أوروبا تشيخ كما بدأ عدد السكان في العديد من الدول الأوروبية بالتناقص بسبب عدم الإنجاب واهتمام الشباب بالعلاقات العابرة ورفض تحمل مسؤولية بناء الأسرة.

فخ العلاقات قبل الزواج
تشير الكثير من الدلائل إلى أن حالات الزواج المختلط غالباً ما يكون منطلقها العلاقات الجنسية قبل الزواج، وقد تبدأ الصداقة كاختبار أو كاستكشاف لآفاق جديدة وقد تبدو العلاقة أمراً ممتعاً ويشعر الفرد الدرزي أنه يمارس حرية ثمينة لم تكن متاحة له في بيئته الأصلية، لكن هذا النوع من الاختبار قد يخلق مع مضي بعض الوقت، ودون أن ينتبه الشخص، أمراً واقعاً ورابطاً يصعب الانفكاك منه بحيث يتحتم بالتالي تكريسه والإعلان عنه بواسطة الزواج. عندها ربما يجدّ الشريكان أن البيئات التي ينتمون إليها ليست جاهزة للإقرار بالواقع الذي تمّ بعيدا عن أعينها فتحصل الصدمة ويتضّح مدى تعقيد الخيار والنتائج التي ستترتب عليه في حال أصرّ الشريكان على خيارها. كما يتضح أن الزواج الذي اعتقد الشريكان أنه رابطة بين شخصين فقط ليس كذلك وأن الأهل يعتبرون أنهم معنيون بأن “يفرحوا” بإبنهم أو ابنتهم كما أنهم معنيون بـ “الصهر” الذي سيدخل بيتهم ويصبح مثل ولدهم وجزءاً منهم أو بـ “الكنة”التي ستدخل بيتهم وتصبح شريكتهم وسلواهم. وهم معنيون أيضاً بالعائلة التي سيصاهرونها ويفرحون بالتقرّب منها وقد قيل دوماً “الصهر سند الظهر” بمعنى أن المصاهرة تقوي أسرة كل من الزوجين وتقربهما وتزيد في مكانتهما. أخيراً فإن أعز ما ينتظره الوالدان والأهل الأقربون من الزواج هو أحفاد من صلبهم يكونون استمرارا للعائلة وتراثها واسمها ويكونون أيضاً سنداً لهم في مرحلة الكهولة.
وبالطبع كل هذه الأمور يفقدها الأهل في حال الزواج من خارج الطائفة لأن الضغط الاجتماعي والعصبية سيجعلان الشريكان غريبين في بيئتيهما وقد يضطر الأهل إلى إنكار الزواج نفسه واتخاذ موقف سلبي منه وعندها يكون الزواج قد تحوّل من فرح إلى ترح وأحزان. وغالباً ما يشعر الوالدان بالمهانة بسبب عقوق الولد واستخفافه بشعورهما أو بما قد يجلبه تصرفه لهما من إحراج وكسر خاطر أمام الجماعة التي ينتمون إليها. وحتى عندما يكون الأهل على شيء من الانفتاح فإن القبول بالأمر الواقع قد يحصل فقط على مضض وستبقى العلاقة ملتبسة و”مؤدبة” بالشريك الآتي من خارج الطائفة لكنها من الصعب أن تكون طبيعية. أو أن يحل الرضى الحقيقي لدى الأهل إزاء ما صنع الولد الذي أنفقوا حياتهم وضحوا بالنفيس من أجل تنشئته وتأمين مستقبله فإذا به عند أول سانحة يكافئهم بكسر خاطرهم في أمر جسيم غير عابئ بما سيعانونه. وقد جاء في الشعر المأثور في وصف العقوق:
أعلمــه الرمايــــــــة كـــــــــل يــــــــوم فلمـــا اشتد ساعـــــــده رمانـــــــــي
وكــــــــــم علمتـــــه نظم القوافـــــي فلمـــــا قـــــال قافـــيـــــة هــجانـــي

أهمية العائلة الموسعة
في لبنان مثل مختلف الدول التي ما زال الدين يلعب فيها دوراً مهماً لا زالت العائلة الموسّعة تلعب دوراً مهماً في رعاية الزواج والزوجين، وبهذا المعنى فإن الزواج يبدأ مع شخصين لكنه لا ينتهي عندهما بل يتّسع أثره وتعم بركته وثماره لتطال نفراً كبيراً من الناس، ولهذا تراهم يستبشرون به ويسمون الزواج “فرح” لما يحمله من سعادة للمشاركين فيه وهم يحتفلون به ويكرمون العريسين ويثنون على فعلهما (مبارك ما عملتم) باعتباره سبباً في تقارب المجتمع وتنمية الجماعة وتكثيرها ولهذا كان من أهم أوامر الأمير السيد (ق) إشهار الزواج، إذ اعتبره المحك الحقيقي لشرعية العلاقة وتناسبها مع ما ينتظر المجتمع ويحبه. بل أن للزواج هنا جانبه الروحي، لأن مشاركة الوالدين والأهل تنسجم مع ما يحبه الله تعالى من بر الوالدين والذي جعله في أعلى الواجبات بعد التوحيد نفسه وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (الإسراء 23) وكذلك إعطاء الحقوق لأصحابهما كما أنه سبب للبركة والتوفيق والنسل الصالح. أما في حالة الزواج المختلط فإن العمل يتحول إلى قرار شخصين غالباً ما ينتهي عندهما ولا تتسع آثاره الإيجابية إلى الآخرين ولهذا فإن المجتمع الموسّع يقاوم بالغريزة الزواج المختلط لأنه يرى فيه نقضاً للميثاق الاجتماعي الذي يجعل منه إضافة مباركة على الجماعة وإقرارا بحقوقها.

جو المدينة والجامعة
الزواج المختلط مغامرة فردية غالبا ما تزينها في عيني الشخص أجواء المدينة التي نزل إليها الكثير من العائلات من الجبل عبر السنين كما تتقوّى تلك النزعة أيضاً في الجامعات الحديثة وأجوائها.
فمن جهة، تعطي المدينة إحساساً قوياً بالحرية لكنها حرية موهومة لأنها ناتجة، ليس عن خروج الجماعة من المعادلة، بل عن الابتعاد المؤقت للفرد نفسه عن البيئة التي ينتمي إليها. وغالباً ما تنمي المدينة الوهم بأنه من الممكن للفرد أن يسلك على هواه أو أن يختار لنفسه ما يشاء دون مساءلة لأن الرقابة التي تفرضها القرية تغيب في جو المدينة المفكك بطبيعته.
وتقوي الجامعات عادة الروح الفردية لدى الشباب القادم من القرى أو البيئات المحافظة لأنها في حد ذاتها تشكل “مجتمعاً” يعيش فيه الطالب قسماً مهماً من حياته، ولهذا المجتمع قيمه أيضاً التي تقوم على إعلاء شأن الطموح والاستقلالية وتحقيق الذات، ولا ننسى أن برامج الجامعات مصدرها الغرب وهذه البرامج تقوم على تنميط ثقافي يتجاهل خصوصيات المجتمعات الشرقية والإسلامية التي لا زالت تقوم على فكرة الجماعة والأمة ويعكس بالدرجة الأولى “التطور” الاجتماعي الغربي الذي يقوم على انحلال الجماعة وتقديس الفرد. بهذا المعنى فإن التعليم الذي يتلقاه الطالب في الجامعة لا يقتصر على العلوم أو المادة التي يتخصص فيها بل يتجاوزه إلى التشرب الخفي لقيم جديدة تعكس مجتمعات لا تمت بصلة إلى المجتمع الذي يعيش فيه. ولا يحمل هذا الكلام حكما على البيئة الغربية. فالغربيون أدرى بشؤونهم لكنه يشير إلى أهمية أن نعي أننا نعيش في بيئة مغايرة، وهذه البيئة لا نقول عنها إنها متقدمة ولا نقول عنها إنها رجعية أو متخلفة بل هي ببساطة بيئة حية لها خصوصياتها التي حمتها وحافظت عليها عبر السنين، ولها متطلبات معينة لكي تستمر وهي مربوطة بقوانين سلوك وتصرف معينة. وفي المجتمع الشرقي والإسلامي تكامل وتعاضد بين الفرد والبيئة المحيطة ولا يوجد صراع مفتعل أو تناقض، فالبيئة (بيئة العائلة أو العشيرة) تحمي الفرد من نوائب الزمان. ولهذا، فإن الفرد يعتبر من أولى واجباته أيضاً حماية تلك البيئة والدفاع عنها في وجه الافتئات والعدوان.

الطائفة البديلة
بالطبع بعض الأفراد يعتبرون أن في إمكانهم أن يخرجوا وهذا قرارهم. وغالباً ما يكون لهذا القرار خلفيات فكرية أو سياسية مثل الانتماء لأحزاب علمانية تصبح هي بالنسبة للشخص العائلة أو “الطائفة البديلة”، كما أن البعض الآخر قد لا يجدّ صعوبة في الخروج بسبب الاغتراب والسكن بعيداً عن الوطن أو أي أسباب أخرى. لكن المهم لمن يهم بالإقدام على هذا القرار أن يعي بصورة عقلانية تبعاته الاجتماعية. وليس الهدف في هذا السياق سوى الدعوة للتفكير العاقل والتأمل بمختلف جوانب قرار حياتي ومصيري مثل الزواج قبل الإقدام عليه.

غالباً ما يشعر الوالدان بالمهانة بسبب عقوق الولد وما قد يجلبه تصرفه لهما من إحراج وكسر خاطر أمام الجماعة التي ينتمون إليها

إشكالية الأولاد
أظهر استفتاء “الضحى الشبابية” إدراكاً واضحاً من الذين أجابوا على أسئلتنا لخطورة موضوع الأولاد وموضوع النسب والهوية وهو إشكال كبير لا يفكر فيه الشريكان وسط انغماسهما في التجربة الشخصية لكنه يتحول غالباً إلى عبء كبير للأولاد ومصدر حيرة وضياع بالنسبة لهم لأنهم عاطفياً منقسمون ومن الصعب عليهم أن يكون لهم خيار واضح بسبب كونهم ينتمون بالدم والثقافة والبيئة الاجتماعية إلى عالمين مختلفين وأحيانا متناقضين أو قد يقع بينهما تناقض. هذا الوضع ينطبق عليه فعلاً المثل القائل بأن “الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون” أو قول أبو العلاء في سياق آخر “هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد”. بمعنى أن الأولاد لم يختاروا أن يولدوا في وضع ملتبس وهوية ملتبسة وهم بالطبع لم يستشاروا. وهؤلاء سيجدون أنفسهم عند أول تفاقم للخلافات في وضع حرج يتعلق بتحديد موقفهم العاطفي وكذلك تحديد انتمائهم وهو أمر صعب لأن تحديد الانتماء يحتاج ليس فقط لقرار الأولاد بل لقبول البيئة التي يعيشون فيها لأن الانتماء في مجتمع الشرق أساسه النسب ورابطة الدم وليس اختيار الشخص. لا يوجد حل وسط بين البيئتين وهذا على فرض أن العلاقات إيجابية أما في حال الخلاف فإنهم سيحصدون الآلام. وهذا الجانب الخطير لا يهم الشريكين وهو ربما أحد أبرز الأمثلة على ما يكتنف بعض العلاقات المعزولة عن المجتمع من عدم تبصر وأنانية.

تاريخ الاغتراب الدرزي وواقعه وقضاياه

الموحدون الدروز هاجروا وانتشروا ونجحوا

تروي الأجيال المتعاقبة من أبناء طائفة الموحدين الدروز في الارجنتين، أن أوائل المهاجرين الى ذاك البلد بلغوا حدود العشرة آلاف حطوا رحالهم في العام 1860. وفي أوستراليا، يتشكل نسيج مجتمع الموحدين الدروز من أربعة أجيال ولاسيما في مدينة ادلايد، حيث أوائل المهاجرين كانوا قد استوطنوا هناك قبل مئة وخمسة وعشرين عام

ولأنه ليس من بحث رسمي يؤرخ بشكل دقيق، فإن تلك الواقعتين تلخصان تقريباً مسيرة اغتراب الموحدين الدروز، التي تعود إلى أكثر من مئة وخمسين سنة خلت. وهي فترة شهدت موجات هجرة متعاقبة أدت إلى خلق انتشار عالمي للموحدين الدروز يتوزع على أكثر من 35 بلداً في مختلف القارات وإن كان معظمه يتركز في الأميركيتين لأسباب تاريخية واجتماعية. (راجع خريطة الانتشار)
وكما أن التاريخ الموثوق غائب أو جزئي لهذه الظاهرة المهمة، فإن الإحصاء الرسمي لعدد المغتربين الدروز ما زال غائباً ما عدا بعض المحاولات التي

تبذلها لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي الدرزي منذ انتخابها في العام 2007. وقد تمكّنت اللجنة عبر تواصلها مع دول الاغتراب من إعداد إحصاء تقريبي رأينا استخدامه لوضع خريطة تقريبية لانتشار الموحدين الدروز في العالم.
إلى جانب هذا الإحصاء التقريبي جداً تمّ أيضاً التعرف على عدد لا يستهان به من الجمعيات والبيوت الدرزية الموزعة في بلدان الاغتراب. ولعل الأقوى تأثيراً على المغتربين يتمركز في الولايات المتحدة الاميركية، تليها كندا، ثم البرازيل والأرجنتين وفنزويلا، فأوستراليا. إلا أنه وإلى جانب الجمعيات والمنظمات التي تمّ حصرها، هناك عدد لا بأس به من الجمعيات والمنظمات التي هي في طور التأسيس وتغطي بصورة خاصة بلداناً عدة في أفريقيا وأوروبا وآسيا.

أسباب الهجرة

هاجرت العائلات الدرزية في نهاية القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20 من لبنان إلى دول العالم، إما بحثاً عن تحسين أوضاعها الاقتصادية أو هرباً

لجنة شؤون الاغتراب تنظّم في 19 تموز 2010
أوسع مؤتمر للموحدين الدروز في بلاد المهجر

من الظلم والتمييز الذي خلّفه النظام الاستعماري وتوالت الهجرات ونشأت عنها الوقائع والمؤسسات التي نعرض لبعضها في ما يلي:
أوستراليا : في أوستراليا أقام الدروز هناك الجمعية الدرزية المعروفة باسم البيت الدرزي، وهم يصدرون مجلة درزية علمية شهرية تسمى دروز بوليتن، ويعمل معظمهم في التجارة والمهن الحرة.
كندا: في كندا أنشأ نحو 800 درزي جمعية الدروز الكندية في تورنتو، ومؤخراً تمّ تعيين وزير درزي في الحكومة الكندية لمعالجة شؤون الدروز هناك، وهو د. فؤاد الشامي.
المكسيك: أنشأ دروز المكسيك الجمعية الدرزية والجمعية العربية في العام 1952.
البرازيل: أول من قام بنشاطات وتوعية درزية هناك هو المرحوم الشيخ نجيب العسراوي، الذي أصدر جريدة الإصلاح، وأنشأ خلوة للصلاة، ومدفناً للجالية الدرزية، كما أنشأ الرابطة الخيرية الدرزية التي قدمت المساعدات المالية لأبناء جبل الدروز أثناء ثورتهم ضد فرنسا في العام 1925، وكذلك أنشأ بيت اليتيم الدرزي، وعيّن معتمداً لمشيخة العقل في البرازيل، ووزيراً روحياً في البرازيل، وتوفي في العام1987.
كما انشأ دروز البرازيل جمعية دروز البرازيل في العام 1969، والبيت الدرزي البرازيلي، وفرقة فخر الدين للرقص والفلكلور الشعبي.
الأرجنتين: أنشأ دروز الأرجنتين، الجمعية الخيرية الدرزية الارجنتينية في مدينة بوينس آيريس.
الولايات المتحدة الأميركية: تمّ هناك إنشاء جمعية «الباكورة الدرزية» في العام 1911، وفي العام 1964 الجمعية الدرزية الاميركية A.D.S. وهناك أيضا نوادٍ درزية في كل ولاية وتصدر عنها: مجلة صوت الدروز، مجلة البيان، مجلة نهضة العرب، مجلة تراثنا، والعديد من المؤلفات التي تبحث في شؤون وحياة الدروز وتاريخهم.

لجنة شؤون الاغتراب

أناط قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز، الصادر بتاريخ 9/6/2006 بلجنة شؤون الاغتراب، الاهتمام بكافة الأمور المتعلقة بأبناء الطائفة في الخارج، حيث نص على وجوب «الاشراف على جميع الشؤون الاغترابية» بصورة عامة، أورد القانون على سبيل المثال والتعداد أهم السُبل الآيلة الى تحقيق هذه المهام وأبرزها وجوب وضع خطة عمل مبدئية تتضمن الأهداف والغايات وآليات تطبيقها بالتنسيق مع كافة اللجان المعنية، وصولاً إلى تأمين التواصل وتحقيق الإفادة المتبادلة عبر التوفيق بين التقديمات والعطاءات وبين الحاجات والمستلزمات لدى أبناء الطائفة في لبنان والخارج.
ومن أهم بنود الخطة التي وضعت، الآتي:
– الاتصال مع أبناء الجاليات الدرزية في الخارج، إضافة الى فعاليات المجتمع المدني والجمعيات والمؤسسات الدولية والحكومية وغير الحكومية.
– إنشاء موقع الكتروني على شبكة الانترنت تحت اسم «أهلنا»، من ضمن موقع المجلس المذهبي الدرزي.
– العمل على حضور الندوات والمحاضرات والمؤتمرات المقامة من قبل

الجاليات الدرزية في بلاد الاغتراب، إضافة الى العمل على عقد ندوات ومحاضرات تدعى اليها فعاليات ورؤساء وأبناء الجاليات الدرزية من الخارج الى لبنان
– العمل على تشكيل مجموعة محركة فاعلة، تحقق الاتصال والتنسيق والتعاون مع أبناء الجاليات الدرزية الفاعلين في القطاعات العامة والخاصة في دول الاغتراب
– المتابعة الحثيثة بغية التأكيد على أبناء الطائفة وجوب وإلزامية تدوين كافة التعديلات الطارئة على قيودهم في دوائر الاحوال الشخصية، ولهذه الغاية يقتضي تخصيص دائرة ضمن ملاك المجلس المذهبي لملاحقة هذا الامر بالتنسيق مع المخاتير والدوائر المختصة
– إنشاء ما يعرف بخريطة اغترابية لأبناء طائفة الموحدين الدروز في العالم، بهدف التواصل لتحديد الاولويات الواجب اتباعها
– اقتراح إنشاء جمعيات ومؤسسات في لبنان تستوفي الشروط والمواصفات المطلوبة، للاستفادة من تقديمات وعطاءات المنظمات الدولية والحكومية والخاصة التي تعنى بهذه الشؤون، إضافة الى العمل على دعم وتأمين المساعدات والمستلزمات لتلك المؤسسات القائمة حالياً، كمراكز الرعاية الاجتماعية أو مراكز إعادة التأهيل وخلافها بالتنسيق مع اللجان ذات الصلة
– استحداث هيئات في دول الاغتراب تكون مهامها العمل، بالتنسيق مع اللجنة، على القيام بالاعمال التحضيرية والتنظيمية والاحصائية وما شابه، والآيلة جميعها الى تحقيق أهداف لجنة شؤون الاغتراب
– تحقيق التواصل الإعلامي مع المغتربات

المؤتمـــر العالمـــي لمندوبـــي الجاليـــة الدرزية
المنعقـــد فـــي بيـــروت في العام 1980

من أبرز توصياته:
1. عقد هذا المؤتمر سنوياً.
2. يستطيع كل درزي المشاركة في هذا المؤتمر وأن تكون الدعوة
مفتوحة.
3. تبني ورقة عمل المجلس الدرزي للبحوث والانماء الذي يقوم
بجمع وطبع ونشر وترجمة كتب درزية وإعداد أشرطة وأفلام
وثائقية عن الدروز توجّه بصورة خاصة لدروز المهجر.
4. إقامة معهد عالمي للدراسات التوحيدية.
5. إقامة معرض للتراث الدرزي يضم كل ما يتعلق بالأعمال
اليدوية الفنية الدرزية.
6. إقامة مكتبة درزية تحوي كل المؤلفات الدرزية التي أُصدرت
عن الدروز.
7. إقامة أندية للشباب والشابات الدروز في بلاد الاغتراب
للتعارف.

تحقيق التواصل الإعلامي مع المغتربات

– عقد اللقاءات والحلقات الدينية الآيلة الى نشر التعاليم والاعراف والتقاليد التوحيدية، والاعتناء بتبادل الكتب والمؤلفات والمنشورات الدينية والاجتماعية والثقافية، بغية ترسيخ التراث الديني والثقافي لدى ابناء طائفة الموحدين الدروز في الخارج، وكل ذلك بالتنسيق مع اللجان ذات الصلة.
– العمل على تنظيم مؤتمر اغترابي درزي في لبنان.

المؤتمر الاغترابي

بحسب رئيس لجنة شؤون الاغتراب في المجلس المذهبي الدرزي السيد كميل سري الدين، فإن الكثير من بنود خطة العمل هذه أنجز أو بدأ العمل به، لتتوّج الخطة، بتحديد التاسع عشر من شهر تموز في العام 2010 موعداً لعقد مؤتمر اغترابي درزي في لبنان، على أن يشكّل الإطلالة التنظيمية الرسمية الأولى على الاغتراب الدرزي، ويكرّس الحصرية الرسمية لمرجعية المجلس المذهبي لهذا الاغتراب، فضلاً عن أهداف مكملة يبتغيها المؤتمر، أبرزها تأمين آليات التواصل بين المغترب تعزيزاً للروابط، التي توفر مجالات عدة لتبادل الخبرات من جهة والمساعدات من جهة أخرى.

المشاكل والتحديات

 حددت لجنة شؤون الاغتراب، من خلال عملها في السنوات الثلاث الماضية الأسباب الموجبة لعقد هذا المؤتمر كما يرى أمين السر العام للجنة الأستاذ سامر أبو مجاهد. ويرد في رأس قائمة المشاكل، فقدان التواصل مع المغتربين. وقد أمكن للجنة في هذا المجال البدء بمعالجة هذه الثغرة في الولايات المتحدة الأميركية من خلال الاتصال بنحو عشرة آلاف مهاجر درزي. وكذلك في كندا، حيث تأمن الاتصال بعشرة آلاف أيضاً. أما الرقم المعبّر ففي البرازيل، حيث أكثر من مئة ألف مغترب درزي، تم التواصل مع ألفين منهم. والحال ذاتها في الأرجنتين، حيث يوجد أكثر من ستين ألف مغترب درزي وتمكّنت اللجنة من الاتصال بأربعمائة منهم حتى الآن
الى ذلك، تكمن أبرز التحديات في النجاح في توحيد الرؤى والتوجهات على مختلف مشاربها بين الجمعيات داخل المغتربات، ومع المرجعية الرسمية الوحيدة للدروز في العالم أي المجلس المذهبي الدرزي
ارتكازا على ما تقدم، لا يقف طموح اللجنة عند حدود المؤتمر الاغترابي الذي سيكون البداية في مسيرة تنظيم التواصل مع الاغتراب الدرزي، بل سيتعداه الى ترجمة هذه المسيرة التنظيمية واقعاً، عبر إنشاء بيت المغترب الدرزي في لبنان، يؤمّن دورات لتعليم اللغة العربية، وحلقات للتوعية الدينية، بالاضافة الى تنظيم زيارات دورية الى الوطن الام. وعلى خطٍ مواز، يجري التحضير لتأسيس جمعية موحدة على نطاق اوروبا، كما بدأ البحث في ورشة تنظيمية للجمعيات الاغترابية في كندا

رعاية وحضور رئاسي

المؤتمر الاغترابي يفتتح في 19 تموز 2010 في مركز المعارض في البيال وسط

   بعــــض أبــــرز المنظمــــات الــــدرزيــــة فــــي المهجــــــــر
 الدولة  الجمعية  الإسم الأجنبي
 أوستراليا  منظمة دروز أوستراليا  AUSTRALIAN DRUZE ORGANIZATION
 الأرجنتين  جمعية دروز الأرجنتين  ARGENTINEAN DRUZE SOCIETY
 البرازيل  منظمة دروز البرازيل  LAR DRUZE BRASILEIRO
 كندا  الجمعية الاتحادية لدروز كندا  CANADIAN FEDERAL DRUZE SOCIETY (CFDS)
 فرنسا  جمعية الدروز اللبنانيين في فرنسا  ASSOCIATION DES DRUZES LIBANAIS EN FRANCE
 السويد  منظمة دروز السويد  SWEDEN DRUZE ORGANIZATION
 الولايات المتحدةالأميركية الجمعية الدرزية الأميركية  1- AMERICAN DRUZE SOCIETY (ADS)
المؤسسة الدرزية الأميركية  2-AMERICAN DRUZE FOUNDATION (ADF)
Sheikh El-Akl Representatives organization
 بريطانيا  الجمعية الدرزية البريطانية  BRITISH DRUZE SOCIETY (BDS)
فنزويلا منظمة دروز فنزويلا VENEZUELAN DRUZE ORGANIZATION

عن الاغتراب والعلاقة بالوطن

يستعدّ لبنان لحدث مهم يتمثل بانعقاد أول مؤتمر عالمي للمغتربين من طائفة الموحدين الدروز، وذلك بهدف التداول في الشؤون التي تهمّ مجتمع الاغتراب والعلاقة التي يجب أن تقوم بينه وبين الوطن الأم. في هذا المجال لا بدّ لنا من إبداء ملاحظات يرجى أن تساهم في تطوير الحوار والتفهم الإيجابي بين المغتربين وبين أهلهم ومرجعيتهم في الوطن.

أولاً:

أي حوار بين عالم الاغتراب وبين الوطن يجب أن ينطلق من تفهم الطرفين لواقع أن عالم الاغتراب يختلف عن وطن الأجداد. وأنه وعلى الرغم من التقارب المستمر بين المجتمعات فإن الفروقات تبقى كبيرة بين البيئة الجماعية والثقافية والدينية التي يعيش فيها الموحدون الدروز في الأوطان المشرقية وبين مجتمعات المهجر التي يقع معظمها في البلدان الغربية. فإن أصل الفروقات قائم في اختلاف المجتمعات وتباعد المسافات والتأقلم، بل في الاندماج بثقافة البلد المضيف في غياب الصلة اليومية والمنتظمة ببيئة التوحيد وممارساته اليومية على الأرض.

ثانياً:

إن هيمنة النظرة الليبرالية للأديان وتفشي عادات الترخيص والاستسهال في الدول الغربية خصوصاً، تجعل بعض الإخوان في المغترب يرون في تمسك موحدي الوطن بالأسس وحذرهم من فوضى الأفكار نوعاً من الجمود أو التقصير في مجاراة الزمن. والعديد من المغتربين يعتقدون مثلاً أن مصلحتهم من أجل تحصيل القبول في مجتمعهم الغربي أن يجاروا تلك المجتمعات أو ما يسمونه التطور وغير ذلك. وقد رأينا بعض الكنائس الأميركية تعاني الأمرين من ضغوط أهل الترخيص والبدع إلى حد فرض سيامة الكهنة النساء أو الشاذين، بل الذين يباهون بشذوذهم. والمشهد الديني في معظم بلاد الغرب محزن لأنه يتسم بالفوضى وبإحلال اجتهادات بعض الأدعياء محل الأوامر السماوية وأسس المعتقد، وعلى إخواننا المغتربين أن يدركوا أنهم يعيشون في مجتمع متأزم لم يعد فيه ثوابت تذكر ولم يعد صالحاً للاقتداء به خصوصاً في أمور العبادة. وفي هذه الحال، فإن قبلتهم ومحط ثقتهم وطمأنينة قلوبهم لا بد وأن تكون مرجعية أهل الحق الذين حفظوا قيم التوحيد وصانوها من كل تشويه على مرّ القرون.

ثالثاً:

إن أساس المرجعية الروحية في الوطن قائم في كون هذا الوطن موطن التوحيد وموئل أهله عبر القرون والدهور، ولا يمكن في الحقيقة الفصل بين عقيدة التوحيد وبين مجتمع التوحيد لأنه لا توحيد من دون أهل التوحيد الذين يحفظون أمانته وينقلونها من جيل إلى جيل. ومن أراد النظر إلى عقيدة التوحيد فليدع الكتب ولينظر إلى مجتمع التوحيد ومن أراد الاستزادة في مسلك التوحيد ومعرفة أصوله فليعد في ذلك إلى الأصل وليهمل ما عداه.(فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ( سورة الأنبياء:43). على العكس من ذلك، فإن بعض الأديان العريقة تراجع تأثيرها في الغرب واندثر الكثير من حقيقتها الأصلية لسبب أساسي هو اندثار الجماعات المؤمنة التي تتمسك بالدين وتتناقل وصاياه ومقتضياته من جيل إلى جيل. وهذا مثال آخر على أن الدين يبقى ما بقي أهل الدين والمتبعون لوصاياه وتعليمه، حتى إذا تفرق شمل جماعة المؤمنين وضعف شأنها واجتاحتها الأهواء والتأثيرات الدخيلة انحل الدين من تلقاء نفسه وجرى عليه التحريف والتغيير حتى لا يبقى منه في النهاية إلا الاسم من دون المسمى.

رابعاً:

مغزى هذا القول إن على إخواننا المغتربين توخي الحيطة في اتّباع ما قد يظهر من أفكار واجتهادات. ويعتقد البعض أن فيها تسهيلاً ومراعاة لظروف الاغتراب وبعده عن الوطن، مما قد يبرر للبعض الميل نحو إنشاء كيانات أو مرجعيات تعنى بشؤون المغتربين وتساعد على توثيق عرى الأخوة ورابطة العصبية بينهم. هذا الدور مرغوب ولا شك في أمور الدنيا وفي بعض الأمور الحيوية مثل الأحوال الشخصية، لكنه في أمور العقيدة ليس مطلوباً ولا مرغوباً ولا ممكناً أصلاً لأن المعتقد لدى أهل التوحيد ينبع من اتفاق العقال وأهل الحل والربط ولم يكن في أي وقت مناطاً باجتهادات أفراد مهما علا شأنهم. وهل سمع أحدكم بأن أهل التوحيد ظهر بينهم مجتهد أو صاحب تقليد أو مذهب؟ وهل كانت العقيدة في أي وقت رهناً بمرجعية شخص أو علمه أو اجتهاده. بالطبع لا، ولهذا السبب فإن الموحدين الدروز يفصلون في أمورهم الدقيقة في اجتماعات شاملة تمثّل عموم العقال وأهل الرأي الراجح بينهم، كما يتناقلون أسس المسلك ويرتقون في منازله في إطار جماعة الإخوان وبمساعدتها وليس بالاجتهاد الشخصي فقط. ولهذا لم يشجع الموحدون الدروز قيام «العلماء» وأهل الكلام والبيان على نسق ما حصل لدى بعض المذاهب كما أنهم لم يجيزوا قيام كهنوت من أي نوع، كل ذلك بسبب تركيزهم على السلوك أكثر من اهتمامهم بالجانب النظري، لهذا يردد المشايخ دوماً «أدب الدين قبل الدين».

 

اجتماعيات