طريق الحرير
طريــــــق الحضــارة البشريــة
كان طريق الحرير أهم شريان عالمي لتبادل السلع
وحركة القوافل والسفن والأفكار والتأثيرات الحضارية
كان طول طريق الحرير أكثر من 30,000 كلم
وكانت الخانات تؤمن الراحة والأمان للمسافرين
قبل سنوات أعلنت الصين التي باتت أكبر اقتصاد من حيث الناتج المحلي في العالم (وفق ما أعلنه البنك الدولي) عن مشروع ضخم أسمته “طريق الحرير الجديد” وهو يستهدف ربط دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشبكة متطورة من الطرق البرية والبحرية والموانئ والمطارات وشبكات الاتصالات والخدمات المالية والتجارية بهدف تعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية بين دول المجموعة، كما يتضمن المشروع إنشاء بنك تنمية صينياً سيتولى توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل مشاريع الربط والبنى الأساسية الضرورية لجعل هذا المشروع الطموح حقيقة واقعة.
ويستلهم مشروع “طريق الحرير” الجديد المثال الباهر الذي كان عليه طريق الحرير التاريخي الذي ازدهر واشتهر بصورة خاصة مع قيام الحضارة العربية الإسلامية وازدهار بلدان الشرق وتطورها الاقتصادي ونمو ثرواتها بصورة غير مسبوقة، الأمر الذي أعطى في حدّ ذاته دفعاً كبيراً للتجارة بين المنطقة العربية والقارة الآسيوية ولم يكن ما عرف في ما بعد بإسم “طريق الحرير” في الحقيقة سوى مجموعة متشابكة من الطرق والممرات والمحطات التجارية التي كانت تخدم تدفقات البضائع بين دول الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس والقرن الأفريقي وبين القارتين الصينية والهندية، وكان “طريق الحرير” أهم شريان عالمي لحركة الأشخاص والقوافل ولتبادل البضائع والسلع الأفكار والتأثيرات الثقافية من الشرق الأدنى وحتى الشرق الأقصى مروراً بآسيا الوسطى، في ما كانت أوروبا ما زالت تغرق في ظلمات التخلف، وهي لن تلحق بركب “طريق الحرير” إلا في وقت متأخر ابتداءً من القرون الوسطى.
فما الذي نعرفه عن “طريق الحرير” الذي كان رمزاً للإزدهار والتقارب بين الشعوب لآلاف السنين؟
كانت “طريق الحرير” شبكة من المسالك والممرات البرية والبحرية التي استخدمتها الأمم الغابرة لتحقيق شتى أنواع التبادل السلعي، وكانت طرق الملاحة البحرية تعتبر جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة وهي مثّلت بالتالي حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات إسمها الآخر الشائع “طرق التوابل” Spice Road.
هذه الشبكات الواسعة من طرق التجارة لم تستخدم فقط لتبادل السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل هذا التمازج الهائل بين قوافل التجار من مختلف الأمم والحضارات المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر في وقت لاحق تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية والآسيوية وحضاراته. ولم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول “طريق الحرير” وإنما التلاقح الفكري والثقافي الذي كان أيضاً سائداً في المدن الواقعة على تلك الطرق حتى إن العديد من هذه المدن تحوّل إلى مراكز للثقافة والتعلم والإكتشاف. وقد شهدت المجتمعات المستقرة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات والتقنيات، الأمر الذي أدى إلى تفاعل غني جداً للغات والأديان والثقافات..
ويُعتبر مصطلح “طريق الحرير” في الواقع مصطلحاً حديث العهد نسبياً إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق إسماً بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، إسم “دي سيدينستراس” (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات هذه ولا تزال هذه التسمية المستخدمة أيضاً بصيغة الجمع تلهب الخيال بما يلفها من غموض وإيحاءات رومنطيقية.
” بدأت طريق الحرير بعلاقات قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهـندوس قبل أن تتوســــع الشبكة نحو الصين ثم أوروبـا “


في البدء .. كان الحرير
عرفت الصين دودة الحرير قبل 6,000 عام وبعد 2,000 عام من ذلك التاريخ صنع الصينيون القدماء أول آلة لحلج الحرير وعندما برزت فرنسا في القرن السادس عشر بإعتبارها البلد الأول في تصنيع الحرير الفاخر فإنها تعلمت تقنيات تلك الصناعة من الصين والتي كانت يومها أكبر دولة متقدمة اقتصادياً وتقنياً في العالم.
يتكون الحرير من ألياف بروتينية تنتجها دودة القز عندما تقوم بغزل شرنقتها، وقد بدأت صناعة الحرير بحسب المصادر الصينية عام 2700 قبل الميلاد تقريباً. وكان الحرير يعدّ من المنتوجات النفيسة جداً، فانفرد بلاط الإمبراطورية الصينية باستخدامه لصنع الأقمشة والستائر والرايات وغيرها من المنسوجات القيّمة، وبقيت تفاصيل إنتاجه سراً حفظته الصين بشدة طيلة 3000 سنة تقريباً بفضل مراسيم إمبراطورية قضت بإعدام كل من يتجرأ على إفشاء سرّ إنتاج الحرير لشخص غريب. وتحوي قبور مقاطعة هوبي، العائدة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، نماذج فاتنة لهذه المنسوجات الحريرية ومن بينها الأقمشة المزخرفة والحرير المطرّز والألبسة الحريرية في جميع أشكالها.
إلا أن احتكار الصين لإنتاج الحرير لا يعني أنها لم تتاجر به وتبادل به سلعاً أخرى من العالم كانت تحتاجها. وقد استُخدم الحرير كهدايا قيمة في العلاقات الدبلوماسية وبلغت تجارته شأناً كبيراً بدءاً بالمناطق المتاخمة للصين مباشرة وصولاً إلى المناطق النائية، بحيث بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (استمر حكمها من سنة 206 ق.م وحتى سنة 220 ميلادية)، وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.
وفي وقت ما من القرن الأول قبل الميلاد، دخل الحرير إلى الإمبراطورية الرومانية حيث اعتُبر سلعة فاخرة تغري بغرابتها وعرف رواجاً هائلاً وصدرت مراسيم ملكية لضبط سعره، وبقي يلاقي إقبالاً شديداً طوال القرون الوسطى حتى إن قوانين بيزنطية سُنت لتحديد تفاصيل حياكة الألبسة الحريرية، وهذا خير دليل على أهميته إذ كان يعدّ نسيجاً ملكياً خالصاً ومصدراً هاماً للمداخيل بالنسبة إلى السلطة الملكية. وفضلاً عن ذلك، كانت الكنيسة البيزنطية تحتاج إلى كمّيات ضخمة من الملبوسات والستائر الحريرية. ومن هنا، مثّلت هذه السلعة الفاخرة أحد المحفزات الأولى لفتح المسالك التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى.
وكان الإلمام بطريقة إنتاج الحرير أمراً بالغ الأهمية وعلى الرغم من سعي الإمبراطور الصيني إلى الاحتفاظ جيداً بهذا السر تجاوزت صناعة الحرير في النهاية حدود الصين لتنتقل إلى الهند واليابان أولاً ثم الإمبراطورية الفارسية وأخيراً الغرب في القرن السادس ميلادي. وذكر المؤرخ بروكوبيوس أن بعض الكهنة الهنود جاءوا بيزنطا في نحو العام 550 م, وأقنعوا الإمبراطور جوستنيان أوغست بأنهم سيوفرون للرومان سبل إنتاج الحرير بأنفسهم بحيث يستغنون عن التعامل مع أعدائهم الفرس. وكشفت البعثة الهندية للإمبراطور عن طريقة تربية دودة القز مؤكدة له أن تربيتها عملية سهلة وقدمت البعثة معلومات عن طرق الحصول على بيوض دود القز وحفظها والتشجيع على تفقيسها وتحولها إلى ديدان القز ثم الفراشات. وبعد اقتناع الإمبراطور بالفكرة عاد الكهنة الهنود إلى بلادهم ثم عادوا إلى بيزنطا وهم يحملون بيوض ديدان القز إليها وكانت هذه بداية تاريخ إنتاج الحرير في الإمبراطوريةالبيزنطية وانتقاله منها في ما بعد إلى القارة الأوروبية.


دروب ومسالك ..وبضائع
مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لتطور واتساع الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، فإن الحرير في حدّ ذاته لم يشكل سوى واحد من المنتجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب، ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع ذات الدلالات الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. وازداد الإقبال على طريق الحرير وتوافد المسافرون عليها طوال القرون الوسطى، وبقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على مرونتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً، كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد – فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق المحيط الهندي وبحر العرب باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.
وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن، ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ حاول تجار الإمبراطورية الرومانية مثلاً تجنّب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين. وكذلك، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحياناً كانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناءً على ذلك.
وشكلت التجارة البحرية فرعاً آخر اكتسب أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً بإسم طريق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في اندونيسيا (المعروفة أيضاً بإسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من 15,000 كيلومتر، ابتداءً من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.
ويتصل تاريخ هذه الطرق البحرية بالعلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى، إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. وقد ارتبطت شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن الميلادي، وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار على غرار زنجبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون بإستمرار.
وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دي غاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيون بالطرق البحرية المارة من جنوب شرقي آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة. وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.
تميّزت طريق الحرير بتنوع هائل لأن كل منطقة أو شعب أو قوافل تجارية كانت تتخذ لنفسها طريقاً تلائم تجارتها وعوامل واعتبارات أخرى كثيرة وكان التجار يضعونها في حسابهم، وكان هؤلاء التجار يسافرون محملين بمختلف أصناف البضائع ويأتون براً أو بحراً من شتى بقاع الأرض. واعتادت القوافل التجارية في غالب الأحيان على قطع مسافة معينة من الطريق ثم التوقف لنيل قسط من الراحة والتزوّد بالمؤن أو حط الرحال وبيع حمولاتها في مواقع منتشرة على طول الطرق، وقد أفضى ذلك إلى نشأة مدن وموانئ تجارية ترشح بالحياة، واتسمت طرق الحرير بالحيوية وتخللتها المنافذ والمداخل فكانت البضائع تباع للسكان المحليين القاطنين على طول الطريق واعتاد التجار على إضافة المنتوجات المحلية إلى حمولاتهم إذ كان قسم من التجارة يتم عن طريق المقايضة، كما نشأ ما يمكن تسميته بالتجارة العابرة حيث يشتري التجار من مكان ما في طريق رحلتهم لكي يبيعوها في مكان آخر فكانت القافلة بالتالي تشتري وتبيع حمولتها أكثر من مرة خلال تنقلاتها، وكانت هذه وسيلة مهمة لتعظيم الأرباح وتمويل التكلفة العالية للرحلات الطويلة التي تقطع ألوف الأميال بين البلدان والممالك.


“كانت القافلة تشتري حمولتها وتبيعها أكثر من مرة على الطريق وكانت هذه وسيلة أساسية لتعظيم الأرباح وتمـــــويل التكلفة العالية للرحلة التجارية”
دروب الحوار
لعل الإرث الأهم الذي تركته طريق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها لكي يسهلوا على أنفسهم ويزيدوا حظوظهم في عقد الصفقات والصداقات، فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية، كما أقبل العديد من المسافرين على سلك هذه الطرق بهدف التبادل الفكري فازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.
وإحدى النتائج الاجتماعية المهمة التي نشأت على هذا التمازج كانت عملية التزاوج الواسعة بين الشعوب فكان الكثير من التجار يحلون في بلد وإذا طابت إقامتهم فيه أو إذا تكررت سفراتهم إليه لأغراض التجارة يتخذون زوجة لهم من ذلك البلد وكانت الزوجات غالباً ما يبقين في بلدهن في انتظار عودة الزوج التاجر من رحلته، وفي حالات قليلة اصطحب التجار زوجاتهم إلى بلدانهم ونشأ عن تلك الزيجات ثم عن موسم الحج السنوي إلى مكة المكرمة من التجار المسلمين من مختلف أنحاء العالم تمازج عرقي وثقافي ما زالت آثاره واضحة في أسماء العديد من العائلات البارزة في الجزيرة العربية أو في دول المشرق العربي. وكان الحج السنوي إلى مكة المكرمة غالباً ما يمتزج بالرحلات التجارية بعد أن أصبحت الجزيرة العربية في ظل الإسلام مركزاً زاهراً للتجارة ورحلاتها ولم يكن امتزاج أغراض تجارة القوافل بالحج إلى الجزيرة العربية أمراً غير عادي إذ علمنا قدر المشقة التي كانت تعترض المسافرين مما جعل مناسبة الحج تستغل أيضاً للتجارة الأمر الذي يساعد التاجر أو الحاج على تغطية نفقات سفره الطويل أحياناً من بلاد بعيدة. وربما كان ذلك هو أحد الأسباب في ازدهار أسواق تجارية تباع فيها كل أنواع السلع في موسم الحج في مختلف مدن الحجاز وفي طرق القوافل المارة عبر الجزيرة العربية.
ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طريق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة، كما تتصف أنظمة الري المنتشرة في آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل مسافري طريق الحرير.
وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة تتعلق بالعقيدة البوذية التي نشأت في الهند، ويمثل ما دوّنه الكهنة البوذيون من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات. وعلى سبيل المثال تتمتع مذكرات شوان زانغ (تغطي الفترة من 629 وحتى 654 ميلادية) بقيمة تاريخية هائلة. في المقابل قصد الكهنة الأوروبيون في القرون الوسطى الشرقَ في بعثات دبلوماسية وتبشيرية، وبخاصة جيوفاني دا بيان دل كاربيني المرسل من البابا إينوشنسيوس الرابع في بعثة إلى بلاد المغول من عام 1245 حتى عام 1247 ووليام أف روبروك وهو كاهن فلمنكي من الفرنسيسكان أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع للاتصال بقبائل المغول ما بين العامين 1253 و1255 ولعل المستكشف البندقي ماركو بولو هو أوسعهم شهرة وقد أمضى ما بين العامين 1271 و1292 أكثر من 20 سنة في الترحال وأضحى سرده للتجارب التي خاضها شهيراً جداً في أوروبا بعد وفاته.
وأدت طرق الحرير كذلك دوراً أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية والآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على الأديان التي ارتحلت على طريق الحرير، إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلامي والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها، فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى اندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذين ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.


“أدت رحـــلات طريـــق الحرير وموسم الحـــج السنـــوي إلى تمازج عرقــــي وثقافـــي ما زالـــت آثاره واضحــــــة في أسـماء العديـــد من العائلات العربيـــة”
السفر على طريق الحرير
تطوّر السفر عبر طريق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل، وهي عبارة عن مضافات و “فنادق” كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين، دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق. وكانت هذه الخانات المنتشرة على طرق الحرير من تركيا إلى الصين توفّر فرصة دائمة للتجار لكي يستمتعوا بالطعام وينالوا قسطاً من الراحة ويستعدوا بأمان لمواصلة رحلتهم، ولكي يتبادلوا البضائع ويتاجروا في الأسواق المحلية ويشتروا المنتجات المحلية ويلتقوا بغيرهم من التجار المسافرين أيضاً، مما يتيح لهم التفاعل مع ممثلي ثقافات وأديان وأفكار متنوعة. .
ومع مرور الوقت، تطورت الطرق التجارية وتنامت أرباحها لتزداد بذلك الحاجة إلى خانات القوافل، فتسارعت عملية تشييدها في شتى مناطق آسيا الوسطى بدءاً من القرن العاشر حتى مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت من الصين إلى شبه القارة الهندية وإيران والقوقاز وتركيا وحتى إلى شمال أفريقيا وروسيا وأوروبا الشرقية ولا يزال العديد من هذه الخانات قائماً حتى يومنا هذا.
وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن يضطر التجار (وحمولاتهم الثمينة على وجه التحديد) لأن يبيتوا في العراء عدة أيام أو ليال ويكونوا بذلك عرضة لمخاطر الطريق. وأدى ذلك في المتوسط إلى بناء خان كل 30 إلى 40 كيلومتراً في المناطق المخدومة بشكل جيد.
وكان التجار البحارة يواجهون تحديات متعددة أثناء رحلاتهم الطويلة. وعزّز تطور تقنية الملاحة ولا سيما المعارف المتعلقة ببناء البواخر من سلامة الرحلات البحرية خلال القرون الوسطى. وأنشئت الموانئ على السواحل التي تقطعها هذه المسالك التجارية البحرية، ما وفّر فرصاً حيوية للتجار لبيع حمولاتهم وتفريغها وللتزوّد بالمياه العذبة، علماً بأن إحدى المخاطر الكبرى التي واجهها البحارة في القرون الوسطى هو النقص في مياه الشرب. وكانت جميع البواخر التجارية التي تعبر طرق الحرير البحرية معرضة لخطر آخر هو هجوم القراصنة لأن حمولاتها الباهظة الثمن جعلتها أهدافاً مرغوبة من عصابات القرصنة البحرية.


إرث حضاري
في القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طريق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في عيش مغامراتهم الشخصية وتسجيل وقائعها. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان في غرب الصين، تحديداً في منطقة تُعرف الآن بإسم شينجيانغ، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.
وما زالت العديد من المباني والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانئ والمدن، إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة المترابطة رغم اختلافها التي نمت طوال آلاف السنين في موازاة تطور التجارة. فلم يولّد مرور التجار والمسافرين على اختلاف جنسياتهم تبادلاً تجارياً فحسب وإنما ولّد أيضاً على نطاق واسع عملية تفاعل ثقافي مستمر. وعليه، تطورت طريق الحرير بعد أولى رحلاتها الاستكشافية لتغدو قوة دافعة حفّزت على تكوين شتى المجتمعات القاطنة في المنطقة الأوروبية -الآسيوية وما يتعداهما.