الجمعة, نيسان 11, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 11, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

القريا

آثارها الغنية شاهد على تاريخ وحضارات متعاقبة
“القريّــا” بلـدة الثـورة وسلطان
هـــذه أعمالنـــا تـــــدلّ علينـــــا

«القريـّا» شهدت عصرها الذهبـي في الفتــرة الإسلامية
في عهد الحاكم الأيوبي عز الدين أيبك (1216 – 1247)

مناخها المعتدل أغرى البشر منذ القدم بالتوطن فيها
فقامت حضارات وازدهرت الزراعة وتربية المواشي

سلطان باشا الأطرش أعاد كتابة تاريخ الجبل
وجعل إسم “القريّا” رمزاً للجهاد ضد الفرنسيين

آل شقير أول النازحين إليها من أرصون اللبنانية
بسبب اعتداءات الشهابيين وأحلافهم والفرنسيين

شارع-في-البلدة-القديمة
شارع-في-البلدة-القديمة

تعتبر بلدة “القريّا” من البلدات الكبيرة في محافظة السويداء وتعدّ رابع مركز مديني بعد صلخد وشهبا والسويداء وهي تستند إلى تاريخ عريق يعود إلى العصور المغرقة في القدم، كما تشهد عليها الآثار التي تمّ الكشف عنها عبر السنين وتعود إلى مختلف الحضارات التي توالت على المنطقة، لكن رغم أهميتها التاريخية فإن “القريّا” اكتسبت شهرة واسعة بسبب كونها مسقط رأس قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وأصبحت أهميتها اليوم أنها تضم صرح الثورة السورية الكبرى ومتحفها وضريح سلطان باشا كما تضم مضافته الشهيرة التي شهدت قسماً مهماً من الأحداث التاريخية التي مرّت بها سورية.
تقع مدينة “القريّا” جنوب مدينة السويداء مركز المحافظة على مسافة 18 كيلومتراً، وعلى ارتفاع 1050 متراً فوق سطح البحر، يحدّ أراضيها من الشرق الأراضي الزراعية التابعة لقريتي حبران والمنيذرة، ومن الغرب أراضي مدينة بصرى التابعة لمحافظة درعا، وأراضي قرية المجيمر التابعة لمحافظة السويداء، ومن الشمال أراضي قرية العفينة وحبران ومن الجنوب أراضي قريتي حوط وبكّا. مناخياً تقع “القريّا” ضمن المنطقة نصف الجافة نصف البحرية ذات المناخ المتوسطي المعتدل وذي الأربعة فصول.
يبلغ عدد سكان القريّا نحو 17 الف نسمة وهي تعدّ من البلدات الكبيرة في المحافظة ورابع مركز بعد السويداء وشهبا وصلخد، وتضم المدينة سوقاً تجارية كبيرة تمتد عبر شارع يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات وعدداً كبيراً من المحلات التجارية لمختلف التخصصات والمهن يزيد على 350 محلاً تجارياً، إضافة إلى توفر كافة الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية ومراكز حكومية.
لعبت بلدة “القريّا” (التي تعني في اللغة جمع أقرية وهو مسيل الماء من الربوة إلى الروضة) دوراً هاماً منذ عصور ما قبل التاريخ وعصور البرونز وحتى العصر العربي الإسلامي وكانت مرتبطة بمدينة بصرى عاصمة الولاية العربية منذ بدايات القرن الثاني الميلادي بدليل وجود الكنائس التي مازالت معالمها باقية حتى يومنا هذا، كما تبوأت مكانة هامة في العصر الإسلامي لقربها أيضاً من مدينتي بصرى و صلخد.

“القريّا” في التاريخ
تعدّ آثار بلدة “القريّا” شواهد تاريخية حية على تعاقب الحضارات في منطقة جنوب سورية بدءاً من العصر الحجري الأول وصولاً إلى الحضارات النبطية واليونانية والرومانية والبيزنطية والغسانية والأيوبية الإسلامية.
وقد سكنت هذه الحضارات “القريّا” منذ أقدم الأزمنة مثلها مثل باقي قرى وبلدات المحافظة، إلا أن الفترة البشرية الأهم كانت في الفترة النبطية الرومانية ومن ثم البيزنطية، فالفترة الأيوبية وذلك نظراً لطبيعة المنطقة السهلية المنبسطة وجوّها المعتدل ومناخها شبه الرطب الذي أغرى البشر منذ فجر التاريخ بالتوطن فيها حيث ازدهرت في “القريّا” منذ القدم الزراعة وتربية المواشي.
ويقول حسين زين الدين رئيس دائرة آثار السويداء إن أهم المعالم الأثرية في بلدة “القريّا” التي مازالت باقية حتى اليوم أجزاء من قناة مياه بطول 50 كلم تعود إلى الفترتين الرومانية والإسلامية كانت تنقل مياه الشرب من نبع تل قليب في جبل العرب والواقع إلى الشرق من بلدة الكفر وصولاً إلى مدينة بصرى الشام في درعا حيث تمت الإستفادة من مياه القناة في مكان يبعد 15 كيلومتراً عن بصرى وأنشئت هناك بركة ماء تعود إلى الفترة الأموية. ويشير زين الدين إلى أن جملة الآثار والكتابات والنقوش التي تمّ اكتشافها في “القريّا” تشير بوضوح إلى ترابط ازدهار منطقة جنوب سورية بالعرب والأنباط حيث كانت بصرى مركز الأنباط الرئيسي في سورية، مشيراً إلى أن بركة جميلة ومسورة كانت موجودة في البلدة وتعود فترة بنائها إلى عام 295 ميلادية إلا أنها تعرضت للردم وطمست معالمها.
ويضيف زين الدين القول إن “القريّا” عرفت الازدهار الأهم في الفترة الإسلامية في زمن حاكم صلخد الأيوبي عز الدين أيبك ما بين العامين 1216-1247 ميلادية وقد تم العثور على العديد من اللقى الهامة التي تضم نقوداً وسرجاً وصحوناً فخارية وعدداً من قطع الخرز والفخار والزجاج العائدة إلى تلك الفترة، لكن هذا التاريخ الغني إنقطع كما يبدو وانقع معه التوطن الحضري في البلدة التي أقفرت من العمران ولم يتم التوطن فيها مجدداً إلا في بدايات القرن التاسع عشر.
ويذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه” جبل العرب”، صفحات من تاريخ الموحّدين الدروز (1685ــ 1927) أن المستشرق السويسري جان لويس بيركهاردت، وكان مكلّفاً من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب قد زار “القريّا” عام 1810، ووجد فيها أربعة بيوت مسكونة فقط من أصل خمسمائة، كان هذا في عهد شبلي الحمدان شيخ قرية عرى الذكي الذي أُعجب بيركهاردت بمؤهّلاته الشخصية، لكن لم يكن للقريا دور مميّز في تاريخ بني معروف في جبل العرب قبل أن ينزل فيها اسماعيل الأطرش وعشيرته في الفترة الواقعة بين نهاية العشرينيات من القرن التاسع عشر ومطلع الثلاثينيات منه.
واستناداً إلى ما يرويه المعمرون ومنهم المرحوم الأستاذ عطالله الزاقوت وما ذكره الكاتب سعيد الصغير في كتابه “ بنو معروف في التاريخ”، أن اسماعيل الأطرش نزل “القريّا” مع عشيرته بعد الإتفاق مع وكيل الشيخ الحمداني خطار عسقول على استيطانها وشيخها ابن زين الدين (ولعلّ الأصح ابن زين العابدين، المنتمي لأسرة سنية من سهل حوران)، مقابل دفع مائة تيس ماعز إلى الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف في الجبل آنذاك.
وحسب رواية الأستاذ الزاقوت فإن الشيخ اسماعيل الأطرش وَفَدَ مع رجال من عشيرته إلى الشيخ واكد الحمدان، وكان لدى الشيخ واكد ريبة وتوجس من سعة طموحات اسماعيل الأطرش وتطلّعاته، ولكنه كان يحذر من مواجهته، ويودّ إبعاده إلى قرية بعيدة عن السويداء، بحيث يكون في مواجهة الغزوات البدوية التي لا تنفك تهدد الزراعة والعمران في جبل حوران وسهلها فيستريح من مضايقاته له.
قال اسماعيل للشيخ الحمداني: أريد قرية مناسبة لي ولجماعتي، وأنا شيخ أباً عن جد.
قال الحمداني:” روح وشيخ آخر ماعمّر الله”.
ـ أين؟
ـ “القريّا”.
قَبِلَ اسماعيل بـ”القريّا” المَخوفة التي كانت آنذاك آخر القرى التي يصل إليها عمران الجبل من جهة الجنوب، وتتهددها الغزوات البدوية بإستمرار. ويُروى أن اسماعيل الأطرش دفع مائة تيس من الماعز إلى الشيخ خطار عسقول الذي كان وكيلاً للحمدان على “القريّا”، وهو الذي سمح لإسماعيل الأطرش وعشيرته بالسكن في “القريّا” بتفويض من موكّله الحمداني مقابل ذلك.

” بيرق “القريّا” بقي في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة وانتقل إلى

يد الشيخ صالح طربيه خال ذوقـــــان الأطرش قبل أن يســـــــتقر بيد آل شقيــــــر “

كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا
كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا

آل الأطرش وبداية التغيير في الجبل
كان اسماعيل الأطرش يتمتع بشخصية قوية، وهو الذي وصفه البريطاني بورتر عندما زار “القريّا” في أواسط القرن التاسع عشر بأنه أشجع رجل في شعب شجاع، وكان إسماعيل بدوره يستند إلى عشيرة قوية من أبناء العم والأقارب تلتف حوله وتثق بصواب رأيه وسلامة سياسته، وأصالة إنتمائه لقومه بني معروف، كان الرجل يعتبر نفسه شريكاً في همّ أي فرد منهم، إذ يهبّ لنجدته مع سائر بني عمه وأفراد عشيرته إذا أصيب بمكروه مهما كان بعيد الديار.
ويذكر الباحث جميل شقير أن ابراهيم شقير وأخاً له هما أول من سكن “القريّا” من بني معروف الموحّدين، وآل شقير قدموا أصلاً من جبل لبنان من أرصون نحو عام 1810، بسبب مضايقات واعتداءات من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين في فرنسا. وهكذا ارتحل فريق من آل شقير إلى حاصبيا، وارتحل فريق آخر في ما بعد إلى جبل حوران وتفرقوا في “القريّا” وعدة قرى أُخرى من الجبل. وعندما نزلوا في “القريّا” لم يكن فيها من السكان حينها غير آل الراشد المسيحيين، (والمسيحيون من قدامى السكان الأصليين في سهل حوران قبل الفتح العربي الإسلامي)، وآل زين العابدين السنّة. ولعلّ قدوم آل شقير إلى “القريّا” كان بُعَيْدَ زيارة بيركهاردت إليها عام 1810، وفي آل شقير متديّنون لم تزل إمامة مجلس الموحّدين متوارثة فيهم منذ العام 1890، ومن أشهرهم الشيخ المرحوم أبو علي سلّوم شقير المتوفّى عام 1976م وهو الذي تسلّم إمامة مجلس الموحّدين مدة خمسين عاماً.

عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
قنطرة-غسانية
قنطرة-غسانية

تنامي قوة آل الاطرش
تنامى عدد سكان “القريّا” منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، إذ استقدم إليها اسماعيل الأطرش كل من وجد فيه فروسية من بني معروف وكان ذلك ضد مصلحة شيخ مشايخ الجبل في السويداء آنذاك، واكد الحمدان الذي كانت زعامته تؤول إلى الشيخوخة والضعف. ومن “القريّا” أدار الشيخ اسماعيل الأطرش سياسة جمعت بين اللين والحنكة السياسية، والقوة العاقلة التي أدت في نهاية الأمر إلى إعلاء شأن الموحّدين الدروز في جبل حوران الذي شاعت تسميته في تلك الفترة من القرن التاسع عشر
بـ “ جبل الدروز”، ومن ثمّ تمكن اسماعيل من إسقاط مشيخة آل الحمدان وإحلال آل الأطرش الذين يعتبرون أنفسهم من أصول معنية محلّهم.
ومن أبرز الذين استقدمهم اسماعيل الأطرش إلى “القريّا” آل الحجلي الذين يرتبط بهم بعلاقة نسب ومصاهرة، وآل الحناوي الذين أصهر إليهم في ما بعد، وأحمد البربور الذي كان أحد أبرز فرسان الشيخ الحمداني، وآل أبو هدير الذين منحهم أرضاً يزرعونها حسب رواية مختار “القريّا” الحالي السيد رياض أبو هدير، الذي يقول بأن جدّه محفوظ أبو هدير حمل بيرق “القريّا” بعد موقعة محجّة على أطراف اللجاة في موقعة دامية ضد قبيلة “ولد علي” التي كانت تعتدي على الزراعة وتنهب المواشي في سهل حوران والجبل، وكانت تتأرجح بتحالفاتها ضد الموحّدين في جبل حوران من العثمانيين إلى بشير الشهابي في زمن الشيخ اسماعيل.
وقد ظل بيرق “القريّا” في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة، وبعد أن استشهد اثنان من الأسرة وخُشي عليها من الإنقراض انتقل البيرق إلى يد الشيخ صالح طربيه، وهو خال ذوقان الأطرش والد سلطان، البيرق ذاته الذي كان الشيخ صالح من بين الذين رفعوه على سرايا دمشق في سماء ساحة المرجة عام 1918 يوم خرج العثمانيون من الشام، وفي ما بعد انتقل ذلك البيرق إلى آل شقير.

معروف-شقير-في-غابة-منحوتاته

تنوع سكاني وديني
تنامى عدد سكان “القريّا” من نحو 6,700 نسمة في عام 1981 إلى نحو 17,000 نسمة حسب دفتر النفوس تقريباً ويمثل الموحدون الدروز 75 % من الإجمالي في مقابل 20 % للمسيحيين الأورثوذكس والكاثوليك ونحو 5 % يمثلون السكان من البدو المستقرين الذين تركوا حياة الترحّل. وتبلغ نسبة النمو السكاني في “القريّا” نحو 3 بالألف وهذا الرقم يقارب رقم النمو السكاني في محافظة السويداء وهو مرتفع نسبياً.
وفي ما يلي تعداد لأسماء العائلات المعروفية من أهالي “القريّا”، ومن هذا العرض نلاحظ أن معظم هذه العائلات تتحدّر جذورها من العائلات المعروفية في لبنان وهم: آل شقير ومطر وشلهوب (وشلهوب أصلاً آل الأحمدية ) والزاقوت(أصلاً أبو الحسن) وقرموشة (أصلاً آل الداود) وغبرة والبصّار(أصلاً آل شمس) والبلعوس والدبس وصربوخ، وأبو طي والصفدي والحمّود وأبو زهرة وأبو صعب (أصلاً آل صعب) وآل عامر ومفرّج وأبوصلاح والصالح، والشمعة، والنمر ومنذر والجغامي (أصلاً آل منذر) وقطيش وطربيه والملحم وعريج والأباظة والمرعي وعز الدين والقجّي
ومجموعة آل الأطرش والمعاز والنجم وأبو دقّة (وهم أصلاً معنيون) وحرب ومليح وشمس والحجلي (أصلاً آل صعب) ونصر وعلم الدين ونحلة والخطيب والعوّام ومعالي وشرّوف والعبد الله والحمدان وحديفة وغيرهم…

المسيحيون في “القريّا”
ينقسم المسيحيون في “القريّا” إلى مذهبين هما: الأورثوذكس الشرقيون، والكاثوليك الغربيون، ومن العائلات الأورثوذكسية:
آل العوابدة والحانوت والجبرائيل والسمّور، واليوسف. أما المسيحيون الغربيون فهم آل الرمحين، وآل شحيّد. وآل شحيّد وهم فرع من آل السهوي الذين نسبوا إلى بلدة سهوة الخضر التي كانوا يقطنونها، وهي بلدة قديمة في أعالي الجبل ولكن ظروف انعدام الأمان وتسلّط البداوة على الحياة الزراعية هجّرهم إلى قرى بصير وتبنى على أطراف سهل حوران الشمالية الشرقية، ولكنهم مع قدوم الموحّدين من بني معروف إلى الجبل عادوا من جديد ليستقرّوا في “القريّا”.
ويقول الأب عبدالله الشحيِّد كاهن الكنيسة الكاثوليكية في “القريّا” وهو الكاهن السوري الوحيد الذي شارك في مؤتمرات الحركة الكهنوتية المريمية في العامين 2005 و2006 ، بأن الروم الملكيين الكاثوليك يبلغ تعدادهم في “القريّا” حسب السجلاّت نحو 2000 نسمة، ولكن المقيمين فعلاً لا يزيد عددهم على 300.
أما آل الرمحين وكنيتهم أصلاً آل الراشد وكانوا يسكنون مع آل الريشان والكيال وهريرة في قرية عيون شمال شرقي مدينة صلخد وللأسباب نفسها التي كانت وراء تهجير السهاونة من سهوة الخضر فقد هُجّرت تلك العائلات المسيحية من عيون، واستقر آل الراشد في “القريّا” في حماية شيخ السويداء الحمداني، ويعتبر المسيحيون في بلاد حوران وهي البلاد التي تمتد جغرافياً من غباغب جنوب دمشق وحتى معان في الأردن ــ لكن “سايكس بيكو“ شطراها مابين سوريا وشرق الأردن ــ من السكان الأصليين الذين يقطنون البلاد منذ ما قبل الفتح العربي الإسلامي، وهم ينتمون إلى العرب الغساسنة الذين ناصروا الفتح آنذاك وقالوا “نقاتل مع أبناء عمومتنا العرب، ولا نقاتل إلى جانب البيزنطيين”، ويقول سعيد الصغير في ص 402 من كتابه “بنو معروف في التاريخ”: “وكان سكان حوران من مسلمين ومسيحيين يستثمرون السفح الغربي للجبل حينما يأمنون غزو العربان الذين كانوا يقيضون فيه صيفاً بمواشيهم فيهدمون قراه ويتلفون أشجاره ومنهم قبائل عنزة في الجنوب وقبيلة الفواعرة في المقرن الغربي وقبيلة الحسن في المقرن الشمالي وقبيلة الجوابرة في اللجاة إلى أن بدأ الدروز بالإستيلاء على المساكن العامرة ( لكنها خالية من السكان)، وترميم القرى واستثمار الأراضي الزراعية والمراعي والأشجار”.
لكن المسيحيين لم يستطيعوا التوطن والاستقرار بشكل دائم في حواضر الجبل قبل قدوم بني معروف إليه، وذلك بسبب غزوات البدو على المناطق الحضرية، وغياب هيبة الدولة وعجزها عن تثبيت الأمن في المناطق البعيدة عن عاصمة الولاية، وقلة عددهم يضاف إلى ذلك ما أشار إليه الرحّالة الذين زاروا البلاد منذ سنوات الجفاف والجراد الذي كان يجتاح المنطقة بين فترة وأخرى…
إلى أن لحق بهما، منهماً، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما

ولكن اعتباراً من أواخر القرن السابع عشر (1685)، وأوائل القرن الثامن عشر، ومع تكاثر أعداد بني معروف الذين قدموا بأغلبيتهم إلى البلاد من لبنان في بادئ الأمر، وفي ما بعد من شمال فلسطين وديار حلب (جبل السمّاق)، أخذ المسيحيون يلتحقون بالقرى الجبلية التي يعيد الموحّدون إعمارها، وأصبح وضعهم في الجبل أكثر ثباتاً.

مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-هدير
مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة--شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة–شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا
الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا

“ا لفارس المسيحي سلامة الراشد طارد خاطفي الفتاة الدرزية على فرسه فضرب على شعرها بسيفه وخلّصها وقتلهما وغنم رمحيهما فأصبح اسم عائلة الراشد عائلة “أبو رمحين””

كيف اكتسب آل الراشد كنية “أبو رمحين”؟
آل الراشد من عائلات “القريّا” القديمة التي كانت تعيش في ظل حماية مشيخة آل الحمدان التي كان مركزها في السويداء قبل قدوم اسماعيل الأطرش وآله إليها، وفي عام 1842 استغل محمد الدوخي بن سمير شيخ قبيلة “ولد علي” غياب اسماعيل وغالبية فرسان “القريّا” في مهمة خارج الجبل بعيداً عن حماهم، لنجدة أبناء عمومتهم في جبل لبنان إذ كانوا يتعرضون آنذاك إلى فتنة تستهدف وجودهم من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين من فرنسا، فباغت “القريّا” بخمسمائة خيّال من فرسان قبيلته بدون نذير، وفي ذلك غدر وإخلال بتقاليد القبائل العربية التي اعتادت الغزو، وقتل من أهالي “القريّا” 72شهيداً، وقد طمع اثنان من فرسان البدو بفتاة سحباها من شعرها الطويل وانطلقا بها وهما على فرسيهما، إلاّ أنّ الفارس المسيحي سلامة الراشد طاردهما على فرسه إلى أن لحق بهما، فضرب على شعر الفتاة بسيفه وخلّصها منهما، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما، وعاد بالفتاة إلى “القريّا”. ولما رجع اسماعيل من بعد غيابه مع فرسانه من مهمته أكبر بطولة سلامة الراشد، ولقبّه بـ “ أبو رمحين “، وهكذا اكتسب آل الراشد كنية جديدة تدل على بطولة جدّهم وفروسيّته التي سارت بها الركبان، وأحاديث المضافات والدواوين إلى يومنا هذا، أمّا ثأر اسماعيل و”القريّا” من غدر محمد الدوخي بن سمير وقبيلة ولد علي فلم يمت، وسنذكر قصته في وقت لاحق.

البدو في “القريّا”
البدو في “القريّا” بل وفي معظم ديار الجبل هم في الأصل من عشائر الشنابلة والمساعيد والجوابرة، الذين لم يعرفوا طيلة تاريخ وجودهم في الجبل حياة الاستقرار والزراعة بل كانوا يرعون بمواشيهم العشب والخصاب، أي: العشب اليابس، في أيام الربيع الجبلي المتأخر عن ربيع بادية الحماد ويمضون الصيف في الجبل، وفي الشتاء كانوا يفيضون ــ أي ينطلقون ــ إلى بادية الحماد هرباً من برد الجبل وثلوجه بحيث يستمرون إلى أن يرعوا بمواشيهم ربيع البادية ومن ثم ينتقلون إلى الجبل وهلمّ جرّاً… وكانوا من الضعف قبل مجيء بني معروف الموحّدين إلى الجبل أن كانت القبائل البدوية القوية القادمة من شبه الجزيرة العربية مثل قبيلة عنزة بفروعها من ولد علي والرّوّالة وغيرهما من القبائل كبني صخر والسردية من القبائل التي كانت تترحل بين شرق الأردن ونجد، تعتدي عليهم وعلى مواشيهم وأرزاقهم… كانت تلك القبائل الصحراوية تأتي في فصل الصيف إلى حوران لترعى بمواشيها من جمال وأغنام مخلّفات الحصاد، ومع قدوم طلائع الموحّدين إلى الجبل توطّدت علاقات طيبة في غالبية المواقف بين تلك العشائر البدوية وبينهم، ما أدى إلى تحييد منطقة الجبل من اجتياحات الغزو البدوية التي تأتي في أواخر الربيع وخلال فصل الصيف وباتجاه سهل حوران، والأدب الشعبي الموروث غني بالمساجلات التي كانت تدور بين الأطراف المتنازعة في تلك الأيام الخوالي.
كما شهدت العلاقات بين الموحدين وبين تلك العشائر المحلّية أحياناً علاقات تحالف في مواجهة جيوش العثمانيين وقوات محمد علي باشا عندما كان هؤلاء يفرضون الضرائب الباهظة والمطالب التعسّفية عليهم. ويقيم البدو في موقع من الجانب الغربي من “القريّا”، وغالبيتهم من عشيرة الشنابلة، بنسبة نحو 90 % ، ومنهم عائلات البريك والشلوح والدغيم، ومن عشيرة الجبور السعيد والمغيّر.

مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده
مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهدهمضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده

النشاط الاقتصادي في “القريّا”
يبلغ متوسّط الأمطار في “القريّا” 285 ملم سنوياً، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تدنّياً عن هذا المعدّل بسبب الجفاف العام الذي تتأثر به منطقة الشرق الأوسط. أما إجمالي مساحة الأراضي التابعة لمدينة “القريّا” فيبلغ 68000 دونم، من ضمنها المخطط التنظيمي السكني للمدينة البالغة مساحته 6300 دونم. ولما كانت الزراعة في هذه المدينة تعتمد على مياه الأمطار فإنها بعمومها زراعة بعلية، وتبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة في مجال هذه المدينة 48,758 دونم، المستثمر منها 33,465 دونم، أمّا غير المستثمر وهو في الوقت نفسه قابل للزراعة فتبلغ مساحته 15,293 دونم. وتبلغ مساحة الأحراج نحو 2450 دونماً تقع إلى الشرق والشمال الشرقي من المدينة وقد أُطلق عليها اسم غابة سلطان باشا الأطرش.
الزراعة وإنتاجها
تعتبر زراعة الحبوب من المحاصيل الغذائية الاستراتيجية في الظروف التي تواجهها سوريا منذ استقلالها وإلى يومنا هذا. واستناداً إلى أرقام عام 2013 فإن المساحات المزروعة حبوباً كانت في حدود 10,500 دونم بعلي بلغ إنتاجها 210 أطنان من القمح و70 طناً من الحمص و30 طناً من الشعير، وهذه الكميات تعتبر متواضعة بالنسبة لقرية تتمتع بأراض قابلة للزراعة مساحتها نحو 48,758 دونم. لكن في المقابل فإن “القريّا” تحتوي على 4,354 دونم من الكرمة أنتجت في العام 2013 نحو 877 طناً من العنب ونحو 3,569 دونم من الزيتون وهي تزرع مساحات واسعة بالتفاح والفستق الحلبي والتين والجوز واللوز والرمان.
وقد تراجعت زراعة الحبوب في “القريّا” بقوة منذ عدة عقود مع توجه مزارعي “القريّا” إلى زراعة الأشجار المثمرة التي تدرّ محاصيل غذائية ونقدية مجزية نسبياً.
وتعتمد الزراعة في “القريّا” على المكننة إلى حدّ كبير كما يشهد على ذلك العدد الكبير من الجرارات الزراعية التي يبلغ عددها نحو 131 جراراً من مختلف القدرات والحصادات والدراسات الآلية وغيرها من المعدات.
تمثل التربية الحيوانية مصدراً أساسياً من مصادر النشاط الاقتصادي في القريا وتتمثل بوجود مزارع الأبقار والمشاريع الصغيرة وكذلك تربية الأغنام والماعز والجمال والدواجن ويتفرع من التربية الحيوانية قطاع مهم للألبان والأجبان واللحوم.

نحو تحويل القريّا إلى مركز قضاء
تتمتع مدينة “القريّا” بحكم موقعها المتوسط بين القرى التابعة لها وكونها مركز ناحية بجملة من الخدمات الحضرية تديرها مجموعة من الدوائر الحكومية منها: محكمة الصلح، والمركز الثقافي ومديرية الناحية والبلدية والمختارين والجمعية التعاونية الزراعية والجمعية التعاونية الاستهلاكية (صالة البيع بالتجزئة) والمركز الصحّي ومركز الهلال الأحمر، ووحدة مياه “القريّا”، وفرع المصرف الزراعي ومصرف توفير البريد ومصلحة كهرباء “القريّا”، والنادي الرياضي. وبسبب ثقلها السكاني واتصالها بعدد من القرى التابعة، فإن مدينة “القريّا” مرشّحة لأن تصبح مركز قضاء (قائمّقامية) بحسب التقسيمات الإدارية لمحافظة السويداء.

صرح سلطان باشا الأطرش في “القريا”
خزانة تاريخ مجيد ومنارة للثقافة

ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش
واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش

أُنشئ صرح سلطان باشا الأطرش ومتحف الثورة السورية في وسط “القريا” بمساحة 2,000 م2 من البناء الفني المتقن، في وسط عقار مساحته 20,000 م2، ويحتوي البناء على ضريح المرحوم سلطان باشا الأطرش والمقتنيات الحربية للمتبرعين من المجاهدين أو أحفادهم، ويضم المبنى قاعة مركزية في وسطها ضريح القائد العام بالإضافة إلى أسماء المعارك والشهداء الذين شاركوا في الثورة. وتعلو هذه القاعة بانوراما تجسّد معارك الثورة منفّذة بالفسيفساء، مساحتها 130 م2 وهي عبارة عن عدة لوحات تمثل أحداث الثورة العربية الكبرى عام 1916 ورفع العلم العربي فوق سراي الحكومة في دمشق في ساحة المرجة من قبل مجاهدي بني معروف، ومعركة ميسلون في 24/7/1920 واستشهاد البطل يوسف العظمة. وهناك لوحتان تظهران الجواد العربي ولوحة ثلاثية الأبعاد تمثل معركة في المنطقة الجنوبية وأخرى تظهر أجزاء من معركة “الكفر” ومشاهد أخرى من معركة السويداء، وهناك لوحة ثلاثية الأبعاد تمثل المعارك التي جرت في مدينة دمشق واخرى تمثل معارك حماة، ونشاهد على الجهة اليسرى تمثيلاً لفترة المنفى التي استمرت عشر سنوات، سبع منها في وادي السرحان على أطراف نجد من أراضي المملكة العربية السعودية وثلاث في جنوب الأردن، وكذلك نشاهد الهرم الأبيض الذي يرفع في قمته العلم الوطني وما يشير إلى معاهدة عام 1936 التي أدت إلى استقلال سوريا.
يحتوي الصرح على المتحف الخاص بالمغفور له سلطان باشا الأطرش وعلى المتحف العام للثورة السورية الكبرى المحتوي على أسلحة استعملها الثوار في المعارك بالإضافة إلى بيارق الثورة التي حملها المقاتلون في الثورة ومدفع فرنسي كسبه الثوار في معركة الكفر …
كذلك يحتوي المتحف على الأسلحة والعتاد التي غنمها الثوار في المعارك من بنادق ومسدسات وسيوف وحراب ومدفع وأجزاء من طائرة كان الثوار قد أسقطوها وقنابل والعديد من الوثائق كالحوالات المالية والمراسلات التي كانت تتم بين الثوار، وبيارق الثورة… ومن بين الموجودات في هذا المتحف سيف القائد الفرنسي نورمان الذي غنمه أحد الثوار بعد قتله في معركة الكفر…ويضم المجمع مسرحاً وقاعة محاضرات تتسع
لـ 310 أشخاص، وقاعة شرف للإستقبالات الرسمية.

المناضل فؤاد جبور

المناضل فؤاد جبور يتذكَّر

استفزتني سياسة الحرتقات فقررت تحدي مختار البلدة

اعتقلت في السويداء بسبب بيان عنيف ضد الفرنسيين
طالبهم بحماية بلادهم من الألمان بدل استعمار الآخرين

قلت للمعلم بأن مشروع مياه البلدة متعثر بسبب الحرب
فأجابني : بدك تترك الناس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟!

“الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضّعفاء وأنت من الأقوياء، وعربون تقدير ووفاء أقدّم لك ميدالية المعلّم كمال جنبلاط”. بهذه الكلمات القليلة، المعبّرة، اختصر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط مسيرة المناضل الشّيخ أبو كمال فؤاد ملحم جبور خطّار (92 عاما) في الحفل التّكريمي الذي أُقيم له برعايته في بلدته باتر بحضور أهالي البلدة وفعاليّات شوفيّة، وأصدقاء المُكرّم وحشد من المدعوّين، بوصفه الصّديق الصّدوق لـِ “دار المختارة” منذ عهد السّتّ نظيرة جنبلاط، مرورًا بالمعلّم الشّهيد كمال جنبلاط، وصولًا إلى وليد بك جنبلاط، ونجله تيمور بك جنبلاط.
حفل التّكريم هذا دلَّ بالدّرجة الأولى على وفاء الزّعامة الجنبلاطية للمناضلين وتقديرها للرّجال الرّجال، وقد حرص وليد بك على أن يحضر بنفسه حفل التّكريم ويقدم الميداليّة، على سبيل إعطاء المثال للجميع بضرورة تقدير النّضال والتّضحيات وتكريم المبادئ والشّجاعة والصّدق والأمانة في الخدمة، وكلّ تلك الصّفات اجتمعَت في شخص هذا المناضل الصّادق والمتواضع أبو كمال فؤاد جبور خطّار.
لكنّ حفل التّكريم كان أيضًا عنوانًا لمسيرة عمر كامل من العمل والخدمة الصّادقة أنفق فؤاد جبور فيها حياته وشبابه ووقته وقدّم خلالها مثالاً على الثّبات في الالتزام والقدرة على تحمّل المسؤوليّات والاضطلاع بالمهمّات الدّقيقة فكان بذلك موضع ثقة المعلّم وكذلك ثقة الزّعيم وليد جنبلاط ونجله تيمور بك.
وفي هذا الحوار اللّطيف والحافل بالذّكريات والعِبَر وخصوصًا الحافل بشهادات ثمينة عن حياة المعلّم الشّهيد وحكمته وخصاله الرّفيعة تقوم مجلّة “الضّحى” بواجب الوفاء للمناضل أبو كمال فتعرِّف بالمحطّات الرّئيسة في حياته ونضاله
وهنا الحوار:

> أبو كمال فؤاد جبور، أين بدأت مسيرتك؟
كنت في التّاسعة من عمري، يوم أبلغنا والدي العائد من السّفر، نِيّته الانتقال إلى السّويداء للعيش هناك. أمّي لم تتقبّل الفكرة بادىء الأمر، لكنّها ونزولًا عند إصراره قبلت على مضض. وفي اليوم المحدّد للسّفر، انتقلنا من البلدة بسيّارة خاصّة لمحمود سلمان زين الدِّين إلى بيروت، ومن هناك توجّهنا إلى السّويداء حيث التحقت بإحدى المدارس. في تلك الفترة كان الجبل يعيش مخاض الاستقلال في ظلّ الحكم الفرنسي بعد تقسيم سورية إلى أربع دويلات هي: دويلة جبل الدّروز ودويلة الشام ودويلة حلب ودويلة العلويين. كان معظم سكّان الجبل وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش ورفاقه يرفضون فكرة الدّويلة الطّائفيّة، ويدافعون عن فكرة الوحدة السّورية وهم الذين خاضوا ثورة عارمة تكلّلت بالانتصارات في عدة مواقع ضدّ الفرنسيّين من أجل تحرير سوريا ووحدتها في العام 1925.
في العام 1936 ازداد عديد المطالبين بالوحدة، وعمّت التّظاهرات كلّ السّويداء للمطالبة بسورية موحدة. في ذلك الوقت كنت قد بلغت الثّانية عشرة من عمري، فشاركت لأوّل مرّة مع رفاق لي في تلك التّظاهرات. وأذكر أنّني عندما ذهبت لأقفل أبواب المحالّ التّجارية التي يملكها أبي لبيع موادّ البناء، صرخَ بي أحد الرّفاق بصوت عالٍ، قائلًا: هيّا أسرع، ولشدّة تأثّري ارتطم وجهي بباب المحلّ فجُرحت شَفَتي، وتحطّم زجاج الواجهة. هذه الحادثة استعيدها بفخر لأنّني اعتبرتها بداية مسيرة جهاد طويلة أعتزّ بها.

> كيف تعرّفت إلى الشّيخة أمّ كمال؟
كان ذلك في العام 1942، وكنت قد بلغت الثّامنة عشرة من عمري. في تلك السّنة أصرّ والدي أن يزوّجني، كي أرزق بالأولاد في حياته، وكأنّه كان يدرك أنّ أجله يقترب. كيف لا وأنا ابنه الوحيد، فلا أشقّاء لي ولا شقيقات، ولقد أوكل إلى عمّي مهمّة تدبير الأمر. أمّا أنا فلم أكن أعرف من أمور الزّواج شيئًا. بعد فترة طلب عمّي منّي مرافقته إلى قرية عِرى في الجبل من أجل التعرّف الى إحدى الصّبايا التي تمّ إرشاده إليها، قلت له أذهب معك لكن بشرط عدم الموافقة على أيّة فتاة قبل أن يتسنّى لي رؤيتها، فقال: اتّفقنا، فتوجّهنا إلى عِرى ولمّا رأيتها، قلت لعمّي الآن بإمكانك أن تفاتح أهلها رسميًّا بموضوع الزّواج. وهكذا كان وقد تزوّجت في تلك السّنة، بناءً لرغبة والدي، والحمد لله، رُزِقنا شبابًا وصبايا “بيفتحوا العَين”، وحسب نواياكم تُرزقون. وما زلنا حتى السّاعة نعيش أسعد أيّامنا، نحن وأولادنا وأحفادنا أنا والسّت أم كمال.

فؤاد-جبور
فؤاد-جبور

“أمضيت في سجن المزة أربعة أشهر بأمر الفرنسيين وكان سجنا مخيفا ثمأخلي سبيلنا واستقبلنا في جبل العرب استقبال الأبطال”

العودة الى باتر
> متى عدت إلى باتر؟ ولماذا ترشّحت لمنصب المُختار ضدّ آل حمدان؟
عدت مع أسرتي إلى باتر في أوائل العام 1947، وبسبب تربيتي في جبل العرب حيث لا يوجد أيّ تفريق أو حتى اهتمام بطائفة الشّخص (بل فقط بمبادئه ومواقفه) لم أكن أعرف يومها بوجود تفريق طائفي: هذا درزي وهذا مسيحي وذاك سنّي… وقد أخذ الأمر منّي بالفعل بعض الوقت في لبنان حتى أصبحت أُميِّز طائفة هذا أو ذاك.
في العام 1948، توفّي والدي، وكان وقْع المُصاب صادمًا بالنّسبة لي باعتباري ابنه الوحيد. وقد نشأت في كنَفه فأحسن تربيتي وغمرني بعطفه وحنانه، ولم ننسلخ عن بعضنا أبدًا ولم يفرّق بيننا إلّا الموت الحقّ، رحمه الله. وكانت تلك الفترة وتلك الرّفقة كافية كي أستكشف حياة قريتي بكلّ متطلّباتها ومتاعبها، وأدركت يومها ما يعانيه أهالي بلدتي من العوَز والإهمال، بسبب تسلّط إحدى الأسر الإقطاعية عليهم. وبحلول العام 1949 حدّدت الدّولة موعدًا لإجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة، فانشغل النّاس بهذا الاستحقاق، وراح البعض يروّج للمختار وهو الشيخ عارف حمدان داعيًا منحه ولاية جديدة. حيال ذلك الواقع رحت أسأل نفسي، لماذا تستمرّ الأمور على هذا النّحو؟ وما الذي يمنع تداول المسؤوليات وبالتّالي تغيير الواقع؟ وقرّرت بالفعل أن أقدّم ترشيحي منافسًا للمختار رغم أنّهُ كان قويًّا بعلاقاته وسطوته في القرية. وكان من أسباب قراري الترشّح ضدّه كونه لعب دورًا مباشرًا في إعاقة إيصال الهاتف إلى القرية. كان والدي قد سعى جاهدًا من أجل تأمين وصوله قبل وفاته مستفيدًا من صداقة وثيقة كانت تربطه بالشّيخين بهيج ومنير تقيّ الدّين. وقد استفزّني من المختار ذلك الموقف الذي يرفض الخير للبلدة لكونه سيتم عن غير طريقه، ورأيت في موقفه ذاك قمّة التّصرّف غير المناسب لروح العصر إذ تدخّل الشيخ عادل حمدان قريبه وصديق الرّئيس كميل شمعون من جانب آخر لعرقلة المشروع وتمكّن بالفعل من إيقافه.
أبلغت عمّي بنيّتي منافسة المختار فأجابني بالقول: “شو بدّك بـها الشّغلة” أمّا خالي، فقال مُعلّقاً: من أين أتى ابن شقيقتي بكل هذه الثّقة بالنفس؟ وعلى ماذا يعتمد؟ لكنّني تابعت ترشيحي وخضت الانتخابات ونلت سبعة أصوات زيادة عن المختار السّابق رغم التدخّل الشّخصي من قبل عادل حمدان ضدّي.

“ذهبت بعد فوزي مختارا لأخذ بركة الست نظيرة فتأملتني مليا (وكنت في سن الـ 25) ثم قـــــالت:»مْبَكِّر يا بعدي!”

> كيف نظرت إلى تلك النتيجة؟
كانت مفاجأة إيجابية لأنّها كسرت قيودًا وحرّرت نفوسًا وأظهرت للنّاس أنّ بإمكانهم أن يغيّروا، لكن عليهم أن يتضامنوا، كما أظهرَت أنّك إن كنت مؤمنًا بشيء ما فإنّ من الممكن أن تحقّقه، لكن عليك أوّلًا أن تثق بنفسك. وأودّ الإشارة هنا إلى أنّ أجواء البلد بعد الاستقلال كانت قد بدأت تتغيّر وكانت هناك أفكار تحرّرية بدأت تنتشر.
كان الزّعيم كمال جنبلاط في تلك السّنة يُعدُّ لإطلاق الحزب التقدّمي الاشتراكي وكان قد اشتُهر أصلًا كزعيم يمتلك من صفات التّواضع ومناصرة الفقراء ما جعل النّاس تفكّر فعلًا في التّغيير. وقد حصل ذلك… ولوعلى نطاق قرية من خلال مثال باتر.
> كيف توطدت علاقتك مع الست نظيرة جنبلاط، ومع كمال بك، وماذا كان موقفهم منك بعدانتخابك مختاراٌ؟
في الحقيقة، لم أشعر بأنّ “المختارة” وقفت ضدّي في الانتخابات. ولكن في أوّل زيارة قمنا بها إلى “الدّار” أنا والأعضاء الذين نجحوا معي، وفي لقائنا بالسّتّ (نظيرة) نظرت إليّ نظرة تأمّل، وتساؤل، وقالت: (مبكِّر يا بَعدي)، قلت لها: المعركة فُرضت عليّ، ونحن هنا لأخذ البرَكة. هذه الزّيارة كانت فاتحة لزيارات عديدة فيما بعد. ساعدتني في بناء علاقة وطيدة جدًّا مع كمال بك. وبالمناسبة أعترف أن أفضاله كثيرة عليّ، لا يمكن أن أنساها، وقد ساعدني على تنفيذ العديد من المشاريع التي كانت بلدتي في حاجة لها.
لقد وضعت نصب عينيَّ منذ لحظة انتخابي مختارًا، حاجة البلدة لمشاريع إنمائية مُلحّة كان أوّلها تجميع مياه الشّفَة وتوزيعها على الأهالي، بعد ما كانت مصادرة من قبل بعضهم. وكنت عرضت الأمر على كمال بك، فقال لي: ابدأ بالعمل وأنا معك.
في البداية حدّدنا قيمة المساهمة لكلّ بيت بـ 50 ليرة، ثمّ ضاعفنا المبلغ ليصبح مئة ليرة. لكنّنا لم نتمكّن من إنجاز المشروع بإمكاناتنا المحدودة. وكنت في كلّ مرّة ألتقي فيها المعلّم، يسألني: أين أصبح “مشروع المَيّ”؟ في ذلك الوقت كانت رياح الثّورة الشّعبيّة في العام 1958 قد بدأت تهبّ على لبنان، وبالأخصّ منطقة الجبل، فقلت له: يا بيك، كيف يمكننا العمل والبلاد بحالة حرب، فأجابني: بدّك تترك النّاس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟. بعد مدّة سألني عن المشروع، فأخبرته باستناف العمل، فانفرجت أساريره وقال لي: سأرسل لك جوزف سركيس، فهو صاحب خبرة في هذا المجال. حينذاك كنّا قد انتهينا من بناء الخزّان، ولم يعد ينقصنا إلّا مولِّد يعمل على البنزين أو الدّيزل لضغط المياه صعودًا حتى تصل إلى الخزّان الموجود في أعلى البلدة ، فتبرّع سركيس بتقديمه لنا بناءً على توجيهات الـمعلِّم. وهذا واحد من عدّة مشاريع نفّذناها بمساعدته.
بعد نهاية الثّورة وانتخاب قائد الجيش اللّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريّة. تقرّر إجراء الانتخابات النّيابية، فاتّفقنا على مقاطعتها، وتقدّمنا بعريضة علّلنا فيها سبب المقاطعة، باعتبار أنّنا لم نتلقَّ أيّة مساعدة من الدّولة، لا بموضوع المياه، ولا بخصوص الهاتف. وعلى الأثر تمّ استدعاؤنا بطلب من العقيد غابي لحّود، فذهبت إليه مع اثنين من الأعضاء هما: الياس سبع الحدّاد، والشّيخ أبو حسن سليمان عوده. وقبل الاجتماع به اقترحت على رفيقيّ استشارة الشّيخ منير تقيّ الدّين بالأمر، وكان يومها مديرًا للدّفاع فطمأننا بأنّ ما فعلناه هو عين الصّواب، ولن يحصل ما يكدّر خاطرنا لأنّنا أصحاب حقّ. ولما اجتمعنا به، سألنا عن الدّوافع التي تجعلنا نقاطع الانتخابات. فشرحنا له مانعانيه من حرمان وإهمال، فتفهّم موقفنا ووعدنا بأنّه سينقل ملاحظاتنا إلى الرّئيس شهاب.

المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958
المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958

“المعلم كمال جنبلاط هب إلى نجدة منكوبي زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثم في ترميم البيوت المهـــدّمة”

> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلديّة؟
كان قرار إنشاء البلدية في باتر قد صدر أثناء تولّي كمال بيك وزارة الدّاخلية، وأنا كنت حينها مختارًا، فانتُخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيسًا للبلدية. لكنّه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق في البلدة تمّ بموجبه انتخابي رئيسًا للبلديّة، والشّيخ أبو حسن سليمان عودة مختارًا. ربّما كان ذلك وفاءً لنا على الإنجازات التي حقّقناها في تلك الفترة بمجهود فرديّ وشخصيّ في غالب الأحيان.
> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلدية؟
قرار إنشاء البلدية قي باتر، صدر أثناء تولي كمال بيك وزارة الداخلية، وأنا كنت لا زلت مختاراً فانتخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيساً للبلدية. لكنه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق قي البلدة تم بموجبه إنتخابي رئيساً للبلدية، والشيخ أبو حسن سليمان عودة مختاراً. ربما كان ذلك وفاء لنا على الإنجازات التي حققناها في تلك الفترة بمجهود فردي وشخصي في غالب الأحيان.

> ماذا عن زلزال 1956 ودوركم في مساعدة المنكوبين؟
الزّلزال الذي ضرب لبنان سنة 1956، لم تسلم منه باتر، وأدّى ذلك إلى تهدّم عدد من المنازل وتشرُّد أصحابها. وأوّل عمل قمت به بصفتي مختارًا كان تشكيل لجنة لإحصاء الأضرار وتنظيم المساعدات، وتأمين السّكن العاجل للعائلات التي تشرّدت، حتى لايتحكّم بنا بعض المتنفّذين. فاضطررنا لإيوائهم عند أقاربهم في بداية الأمر حتى وصلتنا مساعدة ماليّة من الأستاذ أسعد النجار، أمَّنّا بموجبها بعض الخِيَم التي استعملناها لإيواء المنكوبين إلى أن تتم إزالة الأنقاض والبيوت المهدّمة.
المعلم كمال جنبلاط هبّ إلى نجدة منكوبيّ زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثمّ في ترميم البيوت المهـــدّمة، وكان أوّل الذين مدّوا لنا يد المساعدة، ولم يكتفِ بإرسال المساعدات بل حضر شخصيًّا لتفقُّد المنكوبين وتقديم ما يلزم من احتياجات، وعمل معنا في بناء البيوت المهدّمة، وكان ذلك تواضعًا منه، كما كان يتابع ما كنّا نقوم به خطوة خطوة.
ذات مرّة، كنا قد وُعدنا بمساعدة هي عبارة عن موادَّ للبناء، لكنّهم تأخّروا بإرسالها وأرسلوا بدلًا منها سيارة بيك آب محمّلّةً بالطّحين فرفضنا استلام الشّحنة، وأمرنا السّائق أن يعيدها من حيث أتى بها لأنّنا بحاجة إلى موادّ بناء لإعادة إعمار ما تهدّم، ولسنا جائعين حتى يرسلوا لنا طحينًا. هذه الحادثة تركت أثرًا إيجابيًا لدى الـمعلِّم فقال لبعض من طالبوه أن يساعدهم في أمرٍ لم يكن مقتنعًا به: “إذهبوا وتعلّموا عزّة النّفس من أهالي باتر”!.

“أعتز بأن المعلِّم منحني ثقة لم يمنحها إلا لقليل من الناس، حتى أنه عرض عليّ التواجد الدائم في القصر أثناء غيابه لمدة شــــهر في أميركا”

> كيف توجز لنا علاقتك الشخصية مع المعلم
ايمكنني بكلمات قليلة أن أصف علاقتي بزعيم كبير بقامة المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط. كما ذكرت في بداية هذا الحوار، فمنذ لحظة انتخابي مختارًا ذهبت بزيارة تعارُف إلى “المُختارة”، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع لقاءاتي به إلى حين استشهاده. مرّة في الأسبوع أو كلّ أسبوعين على أبعد تقدير، وقد استمرّت تلك العلاقة من بعده مع وليد بك، ولولا التقدّم بالسّن لما تردّدت في زيارة “المختارة” على الدّوام. وهنا لابدّ لي من الاعتراف أن أفضال المعلّم عليّ لا عَدّ لها ولا حَصْر.
وأهمّ ما في هذه العلاقة كانت الثّقة الكبيرة التي منحني إيّاها، وأعتقد أنّه لم يمحضها إلّا لقلّة من النّاس. وأذكر على سبيل المثال أنّه في العام 1955 أوفد سائقه سامي نمور بطلبي، يومها لم يكن عندي سيّارة فاستمهلته بعض الوقت حتى أجهّز نفسي ثم ذهبت برفقته إلى “المختارة”، وعندما أبلغوا المعلم بقدومي أمر بدخولي إليه في الحال، ولمّا رآني قال لي: أرسلت بطلبك لأنّني مضطرّ للسفر إلى أميركا وقد يستغرق غيابي نحو شهر. أريد منك التّواجد في القصر طوال فترة سفري. شكرتُه على هذه الثّقة واعتذرت منه لعدم تمكّني من تلبية رغبته لأسباب خاصّة. فتفهّم عُذري، وقال لي: ما رأيك لو نذهب سويًّا إلى بيت الدّين لنبلغ القائمّقام بموضوع السّفر، وأنت تأتي إلى المختارة مرّةً كلّ أسبوع وإذا احتجت لأيّ شيء يكون لديه عِلم على الأقلّ، ثمّ أردف: “أتعرف يا فؤاد أنّ بلاط هذا القصر فيه سرّ كبير، والمشي كتير عليه بينزع الإنسان”.
أيضًا، مرّة أُخرى، طلب مِنّي مرافقته “لمعايدة” الإخوان المسيحيين في المختارة، وكان كلّما قدّموا له الضّيافة يناولني إياها ويقول لي: لاتنزعج منّي فأنا لا أحبّذ هذه الأمور. أمّا المشوار الأهمّ فكان لحاقنا به، أنا وفؤاد أبو شقرا وشخص آخر من بيت رسلان إلى منتجع (الحِمّة) في منطقة الجولان السّورية، و قد كان سابقًا تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ( ملاحظة من المدقّق: لم يكن حينها احتلال في الجولان يرجى التأكّد من المعلومة أخي أبا هاني) وينخفض ذلك المنتَجع عن سطح البحر نحو 300 متر. كان برفقته يومها الزّعيم شوكت شقير، وكنّا لانعرف مكان الحمّة بالتّحديد، ولما بلغنا القنيطرة أخبرت رفاقي بأنّ لي ضابط صديق يدعى جادو عزّ الدين، وهو سيرشدنا إلى ذلك المكان، لكنّنا للأسف لم نجده، ولمّا بلغنا (الحِمّة) حاولنا الدّخول فمُنعنا من قبل الجنود المكلّفين حراسة المنتجع. قلنا لهم إنّنا من رفاق المعلّم، وفي تلك اللّحظات رأينا المعلّم يهم بالخروج وإلى جانبه مزيد عزّالدّين يقوم بوداعه، فعندما رآني صرخ بي أهلًا فؤاد عندها قال المعلّم: “شو يا عمي واصل نفوذك إلى هَوْن”.
من الميّزات المهمّة عنده أيضًا أنّه كان يرفض أيَّ شكوى ضدّي، ولكن يبدو أنّ أحدهم قد شكاني عنده لأمر يخصّه، وعلى أثر الشكوى تلك قال المعلّم لي: “معليش ها الجماعة ركّبلن لمبة ولو كانوا ضدّنا بالسياسة خليهن يقشعوا مثل غَيْرُن”.

> ما هي أبرز المهام التي كلفت بها من قبل المعلم؟
عندما اندلعت الثّورة في العام 1958، كنّا مجموعة أشخاص قريبين جدًّا من “المختارة”، وكنّا على استعداد لتنفيذ كلّ ما يطلب منّا. كانت المهام كثيرة ومتشعّبة، ولم نكن نتوانى عن أيِّ عمل. وأذكر أنني رافقت المعلّم للقاء العميد جميل لَحُّود في محلّة “ساقية فلقة” الكائنة تحت قلعة نيحا، على طريق باتر- جِزّين. ومن شدّة البرد القارس أصبت منذ ذلك التّاريخ بألم في المعدة، وما زال يلازمني حتى اليوم. وغالباً ما كنت أُكلَّف من قبله بمهامّ سياسيّة ذات طابع عسكري، وبالأخصّ في الحرب الأهليّة عام 1975. كان عليّ المحافظة على علاقة حسن الجوار مع أهالي جِزّين وجوارها. وفي العام 1976 كنت مسؤولاً عن القاطع 20 الممتدّ من مزرعة الشّوف إلى باتر.
في الانتخابات النّيابية التي كانت تُجرى في السّتّينيات والسبعينيّات كان المعلّم يطلب منّي الذّهاب إلى جبل العرب لاستنهاض الهمم والطّلب من الأهالي الذين لايزالون مسجّلين في لبنان ضرورة المشاركة بالانتخابات والتّعبير عن آرائهم، وكانوا مجموعة لا بأس بها. كذلك رافقته في زيارات لكبار الشّخصيّات، من بينهم شيخ العقل محمّد أبو شقرا في دارته في بعذران. يومها اشتكى سماحته للمعلّم من شدة الأرق الذي يصيبه بسبب ظروف البلد، فضحك المعلّم وقال له: “أنا من هذه النّاحية مختلف عنك، إذ لو كنت أحمل هموم الدّنيا كلَّها فإنني أضعها جانباً وأخلد إلى النّوم”

“كلفني وليد بك مع توفيق بركات بحماية متروكات المسيحيين وإحدى المهمات التي أعتز بها كانت تنظيم العلاقة مع أهالي «جزين»”

مع وليد بك جنبلاط
مع وليد بك جنبلاط

“اشتكى الشيخ محمد أبو شقرا من شدة الأرق بسبب الأحداث فضحك المعلم وقال له لو أنني كنت أحمل هموم الدنيــا كلها فإنني أضعها جانبا وأخلد إلى النوم”

> كيف تصف علاقتك مع وليد بك؟
كان وليد بك يعرف عمق العلاقة التي كانت تربطني بوالده، وهو يعرف كلّ أصدقاء الدّار، ولقد كلَّفني بمهامّ عدّة منها التّواصل مع عدد من المرجعيّات في القرى والبلدات، وإجراء المصالحات وحلحلة المشاكل. وكان يرافقني في هذه المهمّة مختار عمّاطور السّابق المرحوم نجيب أبو شقرا، والمرحوم فوزي عابد، والسّيد فوزي زين الدّين، وشخص من آل خضر. ومن المهام التي وكَّلني بها وليد بك: ترتيب العلاقة مع أهالي جِزّين، والمحافظة على متروكات الأخوة المسيحيّين وقمت بذلك أنا والمرحوم توفيق بركات، واستمرّينا في هذه المهمّة حتى تأسيس الإدارة المدنية. ولما احتدم الخلاف مع الشّيخ بهجت غيث أوفدني إلى جبل العرب لشرح موقفه من مشيخة العقل.

> كلمة أخيرة ؟
أثّرت فيّ كثيرًا بادرة الزّعيم وليد بك جنبلاط وهي ليست غريبة أبدًا عن هذه الأسرة النّبيلة التي خدمت الموحّدين والطّوائف اللّبنانية كلّها دون تمييز، وحافظت على الوطن وعلى القِيَم النّضالية في أحلك الظّروف بل ودفع الكثير من رجالاتها حياتهم ثمنًا لمواقفهم ولنضالاتهم، وها نحن سنحتفل بعد أيام بذكرى استشهاد المعلّم كمال جنبلاط وهي ذكرى لها رمزيّتها الكبرى بالنّسبة لجميع المناضلين الشّرفاء. وأهمّ شيءٍ أنّ الله أعانني على أن أمضي حياتي منسجمًا مع مبادئي، وأنا فخور بأنّ لي رفاقًا كثيرين من المناضلين والشّهداء عملت وإيّاهم في سبيل تلك المبادئ. وأنا مرتاح الضّمير لما قمت به والحمد لله.

محمد خليل

محمّد حسين الخَليل

من بائع كشّة في ماريدا المكسيكيّة
إلى امبراطوريّة أعمال في نيجيريا

تعطّلت باخِرَة العَوْدَة إلى لُبنان في مرسيليا
وبدأت بذلك رحلةٌ مثيرةٌ في بناء الثّروات

بفضل دعم محمد الخليل لأبناء عشيرته ووطنه
أصبح 85% من شركات النقل في نيجيريا ملكاً للّبنانييّن.

شركة ببسي كولا نيجيريا
توزع لـ 180 مليون مستهلك وتملك ثمانية مصانع
ويعمل فيها 140,000 موظّف في جميع أنحاء نيجيريا

صَدق من قال: “إنّ الرّجولة ليست فقط في ميادين القتال، بل هي صفة تضيء على هامات الرّجال في كلّ مجالات الحياة وما إليها يؤوب. كذلك أمر الشّجاعة فهي قد تُرى على خطوط المواجهات ويوم التقاء الجموع وتطاحن الإرادات لكنّ من الشّجاعة ما يَظهر دون ضوضاءَ في مجالات الحياة وخصوصاً مجال الأعمال لكنّها شجاعة مقترنة بالحِنكة وبُعد النّظر وهي شجاعةُ العمل الدّؤوب والصّبر وأخذ المخاطر واغتنام الفرص.
نُقدّم بهذا الكلام لقصّة من قصص الرّيادة في الأعمال وقِصّة نجاح اقتصادي من أبرز ما أنجزه المهاجرون اللّبنانيون في المُغتربات، وهي قِصّة المهاجر أبو كمال محمد الخليل، والد النائب والوزير السّابق الأستاذ أنور الخليل، والذي تطوّر من مهاجر بسيطٍ يحمل “الكشّة” في شوارع مدينة “ماريدا” المكسيكيـة إلى مؤسس لامبراطورية صناعيّة وتجاريّة وماليّة مترامية الأطراف عبرَ القارّات وإلى قوّة اقتصاديّة يُحسب حسابُها في نيجيريا التي هي من أكبر بلدان أفريقيا سكاناً، وأغناها بالثّروات النّفطيّة والطّبيعيّة، ويُقدّر عدد عمّال وموظّفي هذه الامبراطورية بمئات الألوف فُمَن هو رائد الأعمال وبِناء المؤسسات الكبرى في نيجيريا وفي العديد غيرها من البلدان محمد الخليل؟ وما هي قصّة كفاحه وحياته الحافلة التي عاشها بين عاميّ 1891 و1992 والتي امتدت لمائة سنة وسنة واحدة؟

وُلِدَ محمّد الخليل عام 1891 في بلدة عُرمان من جبل العرب لوالدين هما حسين يوسف الخليل وقرينته، وقد هاجر الزوجان من بلدتهما الفرديس حاصبيّا إلى جبل العرب منتصف القرن التاسع عشر، ورافقهما الجدّ الشّيخ يوسف حسين الخليل الأوّل (والد حسين) ليستقرّ الجميع في تلك الدّيار. وبسبب تعشُّـقُـه الحرّية والكرامة فقد التحق الشّيخ يوسف (الجدّ) بالزّعيم اسماعيل الأطرش في ثورته ضد الإقطاع الحمداني المتسّلط على رقاب العباد والتي انتهت كما هو معروف بزوال سلطة آل الحمدان وتكريس آل الأطرش في زعامة الجبل.
في هذه البيئة الحميدة من الرّجولة والكرامة نشأ الفتى محمد الخليل، لكنّه ما إن شبّ عن الطّوق وتحرّك فيه الطّموح وبدأ يطرق أبواب الحياة حتى صُدم بضيق الفُرَص في بيئة الجبل، وعَرف بحدسه أنّ مستقبله لن يكون في تلك البقاع. لذلك ترك موطن هجرة أهله وعاد إلى موطنه الأول حاصبيّا، ومنها إلى ديار الاغتراب عام 1910 ليصل إلى منطقة “ماريدا” في المكسيك حيث التقى بالأخوين مسعود من بلدته حاصبيّا ونزل بضيافتهما.
هنا، وكما رواها أمامنا يوماً، فإنّه لم يجد عندهم مكاناً للنّوم حيث كانا يقطنان في غرفة واحدة، لهذا أقام لنفسه أرجوحةً أو “سريراً مُعَلّـــقاً” من الحبال شدّه إلى اثنتين من أشجار الحديقة فكان ينام فيه ليلاً ويستريح نهاراً. وكم هي الأعمال المضنية والقاسية التي صادفها أثناء عمله وهو يحمل الكشّة (وهي حقيبة محشوّة ببضائع متنوعة للمنازل)على ظهره ويتنقّل بها من منزل إلى منزل ومن شارع إلى شارع. ومن فضائل تواضعه واعتزازه بعِصاميَّتِــه أنّه لم يكن ليخجلَ أنْ يُخبــِـر عن الشّقاء الذي كان رفيق بداياته في المغترب المكسيكي، ومن ذلك أنّه صادف في يوم عائلة كانت تهم بتناول طعام الغداء، فأشاح بنفسه احتشاماً، لكنّ ربّ العائلة الذي انتبه إلى وجوده ناداه قائلاً : يا توركو Turko (وهــذا اللّقب كان يُطلق على المغتربين العرب لكونهم من رعايا الدولة العثمانيّة آنذاك)، هل تنتفُ لنا هذه العصافير وتأخذ غداءك منها؟ وهذا ما حصل!..
أكملَ الشيخ أبو كمال قائلاً :”لقد نتفتُ تسعين عُصفوراً لآخذ ستّة عصافيرَ تناولتها كغداء” وكان يضيف قائلاً: إنّ الحرمان والتشرّد والبُعد عن الأهل يزيد من عزيمة الإنسان على العمل والكفاح، ربّما بسبب حنينه إلى الوطن ورغبته في أن يعود إليه عزيزاً ومُعتبراً. لذلك فإنّه أخذ يسابق طلوع الصّباح للذّهاب إلى عمله وبقي على هذا المنوال ستّة عشْرة سنةً في تلك الدّيار. وحيث أنّ المكسيك في ذلك الزّمان كانت بلداً عديم الاستقرار حكومةً ونقداً، لهذا قرّر تركَها والعودة، فباع جميع ما يملك بقيمة زهيدة لا تتجاوز العشرين ليرةً ذهبيةً، دفع القسم الأكبرَ منها ثمناً لتذكرة السّفر، ليستقلّ الباخرة عائداً إلى بلاده.
لكنّ الباخرة المذكورة أصابها عطل أساسي اضطرها للتوقف في مرفأ مرسيليا جنوب فرنسا وكان إصلاح العطل سيأخذ وقتاً. نزل المهاجر محمد الخليل إلى البرّ وجال في المدينة فإذا به يلتقي أحد المهاجرين اللّبنانيين المسَافرين إلى إفريقيا الغربيّة فعرَض عليه الأخير فكرة مرافقته بدل الانتظار هناك، وهكذا عَدَلَ عن العودة إلى بيروت وانتقل إلى نيجيريا وكان ذلك في العام 1926 ليبدأ عمله في الأرض الواعدة.

محمد الخليل وعائلته 1960
محمد الخليل وعائلته 1960

 «على المهاجر أنْ يسعى إلى لُقمة عيشه ولو في لُبْدَة الأسد والكسل والخمول وقلّة التّدبير من أكبر الآفـات»

لفرصة الأولى
مَثَلُه في الحياة، وكما كان يردّد أمام زوّاره، أنّه ما من أمرٍ صعبٍ أمام إرادة الإنسان، وعلى المهاجر أنْ يسعى خلف لُقمته ولو كانت في لُبدة الأسد أو في أقصى أصقاع الأرض، لأنّ الحياة للأقوياء وليست للضّعفاء، وما الكسل والخمول وقلّة التّدبير إلاّ من أكبر الآفات.
ما إن وطأت قدماه أرض الاغتراب الجديد، نيجيريا، حتى أيقن بِحسّه التّجاري الفذّ أنّ مجالات العمل واسعة ووفيرة هناك، وهذا على الرّغم من صعوبة الحياة وقسوتها في تلك البلاد من حيث اختلاف الثّقافة وتخلّف المجتمع وشدّة الحرّ والحشرات المؤذية والمسبّبة للمرض أو الأوبئة. لكن خفف كثيرا من وطأة هذه الصّعوبات تعرّفه على عدد من المغامرين اللّبنانيين الذين كانوا قد سبقوه إلى ذلك البلد، وباتت لهم بالتّالي خبرة في كيفيّة التّعامل معه ومع ظروفه، وقد هوّن ذلك الكثير على المغترب الشاب فضلاً عن أنّه وبشخصيته الذّكية والمحبّبة تمكّن في وقت قصير من أن يقيم علاقات الصّداقة مع العديد منهم.
خاض الشّاب المهاجر محمد الخليل أولاً غِمـــار التّجارة فأقدم على العمل في مدينة لاغوس بما تبقّى لَديه من اللّيرات الذّهبية العشرين التي كانت في حَوْزته، وفي المهنة ذاتها التي ألِفها في هجرته الأولى أيْ تجارة الأقمشة الإنكليزية المُستوردة من مدينة مانشستر. لكنّه بعد سنة على تلك التّجارة تركها واتّجه نحو قطاع جديد هو قطاع النّقل لاستشعاره بأنّ السّوق النّيجيرية التي كانت في صعود ونموّ ستكون في أمَسّ الحاجة إلى خدمات النقل في وقت كان السّوق يعاني من نقص كبير في ذلك القطاع، خاصة في وسائل النّقل المتوافرة لشحن البضائع من المرفأ إلى العاصمة. وبدأ محمّد الخليل مؤسسة النّقل التي أنشأها بشاحنة واحدة لتكبر هذه المؤسّسة خلال خمس سنوات وتصبح من أكبر شركات نقل البضائع في نيجيريا. وحصل الخليل بعد ذلك على عقد من الدّولة لنقل جميع ما يلزمها من بضائع ومعدّات ومفروشات وسوى ذلك. وساهم العقد مع الحكومة في تنمية أعمال المؤسّسة التي ارتفع عدد شاحناتها فيما بعد إلى أكثرَ من ثلاثمائة شاحنة وباتت مؤسّسة الخليل تُعرف بعلامة تجارية ممّيزة في نيجيريا هي:
M-E-L- Kahalil- transport- Ltd..

” حول جزيرة مهملة في البحر إلى أكبر مشروع عقاري وبنى أكبر شركة للنقــــل ضمت أكثر من 300 شاحــــنة  “

دار البلدة في حاصبيا التي تبرع ببنائها أبناء الشيخ محمد الخليل
دار البلدة في حاصبيا التي تبرع ببنائها أبناء الشيخ محمد الخليل

زواجُه وعائلتُه
بعد أن ضَحكت الأيّام للمُغترب محمد الخليل عاد إلى وطنه عام 1932، ليقترن من الفاضلة بتلا الأطرش كريمة فضل الله بيك الأطرش من بلدة مَلَح لتكونَ إلى جانبه في معركة الحياة ولْتلعب دور الزّوجة والمُدبّرة والمرشدة والوالدة لأسرة كبيرة كريمة. وبعد ستّة أشهر من زواجه عاد إلى عمله في نيجيريا لينصرفَ بكلّ جدّ إلى إدارة تلك الشّركة والعمل على رفع شأنها وازدهارها ممّا جعلها إحدى أكبر شركتين تجاريتين للنقل في تلك الديار حيث انتشرت شهرتها ومصداقيتّها في التّعامل من حيث نقل البضائع سواء أكانت للدّولة أو للتّجار أو للمزارعين الرّاغبين بنقل محاصيلهم الزراعية للتصدير أو للاستهلاك المحلّي.
بعدها في عام 1938 أسّس محمد الخليل شركة عقاريّة تُعنى بتشييد المباني وتأجيرها، ثم أقدم على استصلاح جزيرة “أبابا” في مشروع احتوى على الكثير من عناصر الإبداع والمخاطرة في آن، وقد استخفّ البعض بمشروع تطوير الجزيرة واعتبروه مثل من “يرمي ماله في البحر”. والحقيقة هي أنّ الجزيرة لم تكن توحي بأيّ قيمة عقاريّة وكانت مُهْمَلة لسنين لا يهتم بها أحد لأنّها كانت شبه مغمورة بمياه البحر، لكنّ محمد الخليل لجأ إلى أحدث معدات الطّمر واستخراج الرّمول البحريّة لكي يقوم بردم الجزيرة ورفع مستواها عن سطح البحر وحمايتها من الأمواج، ممّا حوّلها فجأة إلى أحد أهم الثّروات العقاريّة السياحيّة. وقام الخليل بعد ذلك بتطوير الجزيرة وأقام الأبنية عليها وذلك كلّه أمام دهشة واستغراب المجتمع النّيجيري الذي لم يكن يتوقّع تلك النّتيجة الباهرة.
ومن نجاح إلى نجاح كانت أعمال العائلة تكبر وتكبر وقد أكرمه المولى بأن رزقه أولاً بنجله كمال ثم شقيقه أنور وكرّت السُّبحة: حسام، هدى، فريد، فيصل، فاروق، وفريال. وهذه الأسرة الكريمة لمعَ جميع أفرادها في حياتهم العمليّة والاجتماعيّة وكان كلّ منهم نواة لعائلة صالحة مصونة من والدين صالحين مع تعليمهم في أرقى الجامعات والتّركيز في الوقت نفسه على ترسيخ ارتباطهم ببيئتهم وثقافتهم المعروفيّة.

حفل افتتاح معمل سفن أب في نيجيريا - 1960
حفل افتتاح معمل سفن أب في نيجيريا – 1960

“مَدَحَه أحد الشّعراء منادياً إياه بـ محمد بيك الخليل فقاطعه بالقول: «يا بُنَـــــيّ والدي كان فلاّحـــاً وليس بَيـْــــكاً”

امتياز الببسي كولا
إضافة إلى توسّعه في مختلف مجالات النّقل والعقار أتيحت لمحمد الخليل وأسرته في ما بعد فرصة ذهبيّة هي فرصة الحصول على امتياز تصنيع وتوزيع منتجات شركة سفن أب في كامل الأراضي النّيجيرية وكان أحد أنجال محمد الخليل وهو الشاب أنور قد تخرّج حديثاً من جامعة لندن بشهادة الحقوق الدّولية فاستدعاه لمساعدته في إدارة أعمال العائلة في نيجيريا وتعاون الوالد مع الشاب الذي شغل لاحقاً منصب وزير في الحكومة اللّبنانية على تأسيس شركة “سفن أب – نيجيريا” في العام 1960، ثم أضيف إليها لاحقاً شركة “ببسي كولا” لتصبح الشّركة المذكورة أكبر شركة لتصنيع وتوزيع المشروبات الغازيّة في نيجيريا وربّما في كامل القارّة الإفريقية. وعلى سبيل المثال فإنّ الشّركة تقوم بتوزيع منتجاتها في سوق يضمّ حاليّا نحو مائة وثمانين مليون نسمة، وهي تدير ثمانية مصانع ضخمة يعمل فيها نحو مائة وأربعين ألف موظفٍ وموزّعٍ في جميع أنحاء نيجيريا. وهذه الامبراطوريّة الاقتصادية المترامية الأطراف بين المَهاجر والوطن باتت قيمة أصولها تقدّر بمليارات الدّولارات وفوق ذلك فقد غدا منزل محمد الخليل وأنجاله في لاغوس مرجعاً لأبناء جلدته من اللّبنانيين وسواهم، وقد كان يحثّهم ويرشدهم ويقدّم يد لهم العون لتركيز أعمالهم، وأحد أهمّ إنجازاته التي تذكر أنّه وبسبب دعمه وتشجيعه فقد أصبح 85% من شركات النقل في نيجيريا ملكاً للّبنانييّن.

الاستثمارات في الوطن
بعد توطيد دعائم الامبراطورية الاقتصادية عاد محمد الخليل إلى عرينه حاصبيّا واشترى من أمراء آل شهاب تلّة جميلة كانت مصيفاً لهم في الماضي وهي تقع قبالة البلدة من الجهة الشّمالية وتُعرف بتلّة “زغله”. وهناك بنى محمد الخليل قصراً منيفاً إلى جانب بناء قديم أصبح مَعْلَما معمارياً في المنطقة. وهذا المَعْلَم قصفه العدوّ الإسرائيلي ودمّره كيْداً وحقداً في العام 1982 لكنّ إرادة الأبناء الشّباب أعادت إعمار القصر من جديد ليعود مَعلّمــاً لافتا. ومما يزيد من جماله شجرة سنديان أثريّة يفوق عمرها مئات السنين،
هذا في بلدته. أمّا في العاصمة بيروت فكان الخليل بِبُعد نظره من أوائل الذين استثمروا في شراء الأراضي في منطقة الحمراء يوم كانت لا تزال بساتين للصّبار وأشجار العنب والتّين واستمرّ الخليل في بناء العمائر والأبنية الحديثة وهذه لم يزل قسمٌ منها قائماً إلى اليوم.
أنشأ محمد الخليل أيضا برّاداً ضخماً في شارع الأرز قرب المرفأ لتبريد الفاكهة اللّبنانية وسواها من المنتجات الزّراعيّة المُعَدّة للتّصدير أو المستوردة للاستهلاك المحلي. أمّا إنجازه الأكبر في الوطن فكان تأسيسه مصرفاً تجارياً عُرف يومها باسم بنك بيروت والرّياض مع الاقتصادي الكبير حسين منصور.

مدينة لاغوس في نيجيريا تظهر مدى التطور في البلاد
مدينة لاغوس في نيجيريا تظهر مدى التطور في البلاد

العَوْدَة إلى الجذور
أواسط السّبعينيّات عاد المغترب الكبير محمّد الخليل إلى وطنه ليتقاعد من عمله، بعد أنْ استراح بالُه بتسليم الأمانة إلى الجيل التالي من الأنجال الذين تابعوا رسالته في إدارة تلك الامبراطوريّة التجاريّة في الوطن والمهجر وليتفرّغ إلى واجباته الاجتماعية مؤازراً ومواسياً ومشاركاً في شتّى المناسبات سواء أكانت في بلدته حاصبيا أمْ في قضائها أو عند أقاربه وأقارب قرينته في جبل العرب. وذلك بكلّ محبّة وتواضع وتفانٍ دون أيّ أبّهة أو اعتزاز بالنّفس أو بالمال.
ذات يومٍ أقرضه أحد الشّعراء في إحدى المناسبات شعراً بمناداته ـ محمد بيك الخليل، فما كان منه إلا أنْ اعترضه وأجابَه مُصَحّحاً :” يا إبني والدي كان فلاحاً وليس بيكاً”.
في أواخر أيامه أتمّ واجباتِه الدّينية ولبس زِيّ الأجاويد وانصرف بأكثرَ وقته إلى زيارة المشايخ الأفاضل وأعضاء الهيئة الرّوحية والانتفاع من علمهم وبرَكتهم وكان يزور المشايخ في خلواتهم أو في مجالس العبادة، متّعظاً وصاغياً وخاشعاً لإرشاداتهم ومواعظهم، وطالباً شفاعاتهم وتبريكاتهم، وفي النّهاية كانت الشّهادة يوم وافته المنيّة يوم 11 نيسان 1992 وقد واكبه حشْدٌ من المشيعين والسّادة المشايخ والهيئات الرّوحية مُشيدين بأعماله الخيريّة وحسناته الاجتماعيّة الكثيرة، ثمّ ليُدفن قرب منزله في عاليه أولاً بسبب الأوضاع الأمنية السّائدة آنذاك، وبعدها لينقلَ جثمانه، وحسب وصيته، إلى أغلى الأماكن على قلبه، بلدته حاصبيا، وإلى تلّة زغلة بالذّات والمقابلة لأشرف وأجلّ التّلال، البيّاضة الزّاهرة، ليستريح هناك.
بعد وفاته بقليل عمد أنجاله معالي الوزير الأستاذ أنور وأشقاؤه السيّدان فريد وفيصل والعائلة إلى إنشاء “مؤسّسة الخليل الاجتماعية” تخليداً لذكراه وكان من عطاءاتها إقامة صرحٍ كبير عند مدخل حاصبيا عُرف باسم “دار حاصبيّا” والذي صمِّم ليتّسع لأكثر من ألفي شخص وقد بات هذا المقرّ العامر الإطار المفضّل لإقامة المناسبات الاجتماعية والحفلات سواء لأهل حاصبيا أو لسائر أبناء المنطقة.

يوسف بك حسن في يوميات يمنية

حبُّه للطبيعة
والعمل في الحديقة

تُظهر يوميّات يوسف بك حسن في اليمن حبّه الشديد للطبيعة وهو يصف بتفصيل شاعري أحيانا أسفاره الطويلة، والمضنية على ظهر حصان أو بغلة في شعابها الوعرة، ووهادها ووديانها، ويتوقف أمام جداول المياه التي كان يصادفها، وإن كان يشدّد على طبيعتّها الجافة وعلى فّقرها، وقد أورد في إحدى يومياته أنّ 80% من اليمنيين يقتاتون بأوراق الأشجار، وبعض ما تجود به الطبيعة، لكنّ الموضوع الذي يحتلّ اهتمامّه الأول كان الحديقة التي كان يُنشِئُها في أي مكان يحلّ فيه ويتخذه مقراً إدارياً، وكان يأتي بالتربة الصالحة من مسافات أحياناَ لإثراء البستان، ويعتني بالزرع والأشجار معتبرا ذلك النشاط “سلواه الوحيدة” في تلك البلاد الموحشة والصعبة. في ما يلي على لسانه ما أورده في يومياته عن ذلك الجانب:
يقول في إحداها: “ولكثرة شَغَفي بالطبيعة، ومحبتي للخُضْرة والزهور، أصبحت كثير الاهتمام ببستاني الكائن في باحة الدار، ولذا ازداد نموا وقد ابتدأت بجني ثماره”.
وفي ما سجّله أيضا قوله: “بالرّغم من ضغط العمل الرّسمي فإنّني كثير الاشتغال في الجنينة التي في دار الحكومة، وقد أتقنتها، ووزّعت بها زراعات وأشياء كثيرة من زهور وخضار. وضعت سُرادِقاً للعريشة التي بها، وقد كانت مُهْملة، ففي كلّ صباح أنزل إليها، أريِّض النفس بها قليلا قبل افتتاح العمل. وهذه سلواي الوحيدة في هذه الأيام.

” عن قبائل اليمن
إذا رأوْا ميلا نحوهم ازداد غُنْجُهم،وإن رأوا خِرقة تهرب قلوبهم
وعقول القبائل في أعينهم، ما رأوه فقنعوا به  “

” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة  “

“عن هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب
صِرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة المُلك والرُّبّان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.”

يوسف بك حسن في يومياته اليمنية

رجل إقدام ونزاهة ورحمـة
في غابة من الفَقر والجهل والفساد

لــولا ضـــرورة استــدراك إعاشــة العسكـــــر
لوجدت تحصيل المال من النـــاس حرامـــاً..

الشِّدّة هي الدواء لمن عقله في عينه!

القراءة في يوميّات يوسف بك حسن في اليمن عمل يجلب ولاشكّ المتعة للنّفس، لكنّها قد تكون أحد أفضل السّبل لفهم يَمن بدايات القرن العشرين من الداخل، والذين يتابعون بذهول الحروب العبثيّة والمدمّرة التي يغرق فيها اليمن منذ سنوات ربما يجدون في يوميات هذا الرجل الفذّ ما يعينهم على فهم جذور المعضلة اليمنية السياسية والاجتماعية، وهذه المختارات من مدوّنته الطويلة التي استغرقت نحو 12 عاماً تسلّط الضوء أيضاً على شخصيّة الكاتب، ورؤيته الأخلاقية وشجاعته وإيمانه العميق، وتظهر اليوميات أيضاً رجل دولة مُحنّك، وعلى قدر من الدهاء السياسي (وهو ما سمح له بترويض الطبيعة المتخلّفة الصّعبة المراس لليمنيين) ويظهر صاحب اليوميّات لنا من خلال ما سجّله رجلاً ذا فطرة إنسانية عميقة، وعنفوان وشاعرية مرهفة، وحدب كبير على الفقراء والمظلومين. لكنّ يومياته تُظهر أيضاً عدم تردّده في البطش والمواجهة الشّجاعة؛ سواء في الحرب أم في حملات تأديب وإخضاع المتمرّدين والعُصاة.
وقد اخترنا من حديقة يومياته الوفيرة بعض اللّمعات المُلفته في تصويرها لشخصيته الغنية، أو في تسجيلها لمشاعره تجاه بعض أهم الأحداث التي مرّ بها في تلك الفترة الانتقالية الخطيرة، فترة انهيار الدولة العَلِيّة (والخلافة الإسلاميّة ) تحت ضربات الغرب والمتآمرين من كل نوع. ونحن ننصح كلّ قارئ مهتمّ باقتناء هذا الكتاب النفيس الذي لا نشهد في هذه الأيام صدور ما يوازيه أهمية وجِدَّة وإمتاعا إلاّ لماما.
رئيس التحرير

باللباس-اليمني
باللباس-اليمني

مختارات من اليوميات

منشور ألقته الطائرات البريطانية لإقناع الحامية العثمانية في اليمن بتسليم أسلحتها وقد رفض يوسف بك حسن العمل به
منشور ألقته الطائرات البريطانية لإقناع الحامية العثمانية في اليمن بتسليم أسلحتها وقد رفض يوسف بك حسن العمل به

الخميس 24 أيلول 1914:
بدأ الناس يقطفون السنابل الحاصلة لأجل سد الرّمق حيث لم يعد في يمكنهم الانتظار إلى وقت الحصاد، فالله يبعد عن خلقه الجوع والبلاء.

4 تشرين الأول 1914:
ازداد قلقنا من الإشاعات بأن الدولة العليّة (يقصد العثمانية)دخلت في مواقع القتال السائدة الآن، وإنها في حالة حرب مع الإنكليز، وهي تجهّز الجنود في جهة “المُخا” و”المندب” على حدود الإنكليز. فأشعرت بعض الأصدقاء طالبا تحويلي إلى “المُخا” ،أو تلك الجهات لأجل الاشتراك في الحروب المحتمل حصولها؛ لأنني أوَدّ أن يكون لي نصيب في الجهاد ضدّ الإنكليز كما جاهدت ضدّ إيطاليا.

الأربعاء 14 تشرين الأول 2014:
خرجنا هذا اليوم إلى أطراف القرية، وأجرينا تمرين الرماية بإلصاق ورقة بيضاء صغيرة على حجر، وقد توفقت لرميها برمية واحدة، وقد أُعجِبَت بذلك القبائل ولاسيّما الشيخ “حسين هوّاش”، ولسان حالي يقول “رِمَية من غير رامٍ”.

الجمعة 16 تشرين الأول 2014:
محلّ إقامتي في حيّ اليهود الذين يربو عددهم عن السّتين، والكنيس قريب منهم، فلا نسمع ليلا ونهارا إلاّ أصوات عبادتهم سيّما يوم السبت. وفي الحقيقة ترى اليهود في بيوتهم ولباسهم أكثر نظاما ولطافة؛ مع أنهم أفقر من المسلمين، وهذا من شدّة تعلّقهم ومواظبتهم على العبادة، ومع كثرة التحقير الذي ينالهم من الأهالي، والتّنظير عليهم في أمر اللّبس، وعدم اقتدارهم على ركوب الخيل في القرى، والتزيّي بزي المسلمين. تراهم صابرين مُتوكّلين. ونسبة لسواهم تراهم مُرفّهين، وكافة الصنائع في أيديهم.

السبت 5 كانون الأول 2014:
اجتمعنا عند العصر بمدير المال مع البينباشي والطبيب وكثير من المأمورين، وعملنا مجلساً للقات الذي أنا منه بَراء، براءة الذئب من دم يوسف الصّدّيق.

الثلاثاء 8 كانون الأول:
الأمور بغاية الرَّداءة والتحصيلات خاربة (أي معطّلة)بسبب مَلْعَنَة الحاكم، وقلّة ناموس مدير المال، فكم أتوسّل الله تعالى أن ينقذني من هذه الحالة.
الجمعة 11 كانون الأول 1914:
لقد وفيت كثيرا من الديون التي عليّ بسبب تراكم معاشاتي، إذ مضى خمسة أشهر لم تُدفع لي، وقد أصبحت في ضيق شديد بسبب عدم وجود نقود لاستبقاء معاشي.

الجمعة 18 كانون الأول 1914:
صمّمت النيّة على العزم إلى “نجرة” لأجل التّحصيلات، وتدارك شيء من المعاش للتّمكن من العزم، وقد خاطرت بنفسي بسبب كثرة حماس القبائل المشارقة ضد الحكومة من تأخير معاشاتهم، وقد بلغنا أنهم يريدون شرّاً. وقد حصلت مناوشة شديدة بين رؤسائهم وبين “الإمام” والوالي، قاتل الله الجهل لأنه لا يُقدِّر هؤلاء ما هي الدولة وما تعانيه من الأهوال.

الثلاثاء 7 نيسان 1915:
تناقشت كثيرا مع بعض المشايخ بشأن مباحث دينية، وقد تمكّنت من إقناعهم، وإزالة ما رسخ بأذهانهم من الخرافات. وإني لا أفَوِّت فرصة بهذا الشأن، لأنّ أعظم شيء يهمّني هو الخدمة لأبناء جنسي وتنويرهم.
الاثنين 13 نيسان 1915:
أصدرت إعلانات للأهالي بكفّ يد المشايخ المذكورين عنهم، ورفع كلّ تعدٍّ وكسر الحجاب الذي يمنع ضعفاء الخَلق عن أبواب الحكومة.

مطلع رسالة من الأمير شكيب أرسلان
مطلع رسالة من الأمير شكيب أرسلان

الجمعة 17 نيسان 1915:
تهافت عليّ الأهالي يطلبون النِّصفة (العدل) من ظلم “محمد بن علي باشا”، فأعطيتهم آيات النجاة.
وكان اجتماعي مع خَلق كثير تحت أشجار التّمر الهندي، وأحضِر لي كرسي طويلة، وهي تخت من حبال ورق النخيل، يُنام عليه في تهامة وجوارها، فأشبهت في تلك الوضعية كأنني مَلِك الجِنّ.

الجمعة 24 نيسان 1915:
الأمور تُساق بأسلوب حَسَن، فقد رفعت يد كلّ متجبِّر. إنّما شاهدت في الأهالي جوعاً عظيماً. ولولا ضرورة الحال الحاضرة، وضرورة تدارك إعاشة العسكر العثمانية المنقطعة عن سائر الجهات؛ لكنتُ أرى تحصيل أموال من الأهالي حراماً بسبب عدم استحقاق هذا.

الجمعة 29 أيار 1915:
قرأت خطبة الجمعة في جماعة عظيمة، خطبة تليق بالزمن الحاضر، حثثت بها القوم على الاتفاق والبدار إلى الجهاد، وأوضحت لهم الحال التي هي عليها الأمّة الإسلامية، فكان تأثيرها شديدا، حتى أنني رأيت القوم في شهيق ونحيب، وقد صمّموا العزم إلى الجهاد والتفاني في حفظ الدين والبلاد.

الاثنين 7 تموز 1915:
وردتني برقيّة من الوالي يظهر تشكُّرَه وتقديره من الخدمات والشجاعة التي أظهرتها في الزّحف على “لحج”. ومع هذا لا أنتظر مثل هذا التقدير، بل خدمتي لِلّه ولوطني ولشرفي، وكلٌّ يعمل على شاكلته.
السبت 15 آب 1915:
ولم نَكَدْ نصل مع القوّة (الجيش)ونحن نجول مع القومندان والقائمقام قدري بك، إلاّ والعدوّ الإنكليزي قد أقبل بقوّة عظيمة وثمانية مدافع، فاستَعَرَتْ نيران الحرب أطراف “الوهط” وقد ثبت الإنكليز ثباتا حسَناً، ولكن استحضارنا للموت، وشدّة هجومنا هدّ عزمهم ففرّوا منهزمين. أمّا أنا “العاجز”، فاستصبحت قليلاً من المجاهدين وتوغّلت بهم بين العدوّ، فاستوليت على مدفع ومربط لهم يبعد ساعة من “الوهط”، فأشغلت العدوّ الذي هُزِم شرّ هزيمة.

الأحد 16 آب 1915:
حين وصولنا “الدّرب” تحقق أنّ العدو كانت قوّته من المشاة أربعة آلاف، وثمانية مدافع وأربعمائة فارس . وفي الحقيقة كانت هذه الحرب (حرب لحج) من الخوارق؛ لأنّ العدد المقاتل منّا لا يبلغ الخمسمائة. والمجاهدين أكثرهم أبْلَوْا بلاءً حسناً.

الاثنين 23 تشرين الثاني 1915:
مدير “حبيش” هو ضيفي، والبيت مملوء من الخدامين، لذلك فالمصروف زائد لكن الله الستّار، وأنا لا أخشى من فَقْد المال أو الرّزق مادام البيت مفتوحاً، والبَرَكة تقع في المال الذي يأكل منه الضيف، والقناعة بالمال الحلال هي السعادة بعينها.

خلاصة سنة 1915:
كنت في هذا السنة كثير الأسفار والأتعاب، وحائزا على شُهرة لم تتيسّر إلاّ للقليل، حيث من أوّلها إلى آخرها ونحن نخوض في غَمَرات الوقائع الشهيرة من حرب الجبلين، إلى تأديب كافة أنحاء القضاء، والانتقال من ذلك إلى ساحة الجهاد والحَوْزَة (أي السيطرة) على “لحج”.
والحمد لله الذي عصمني من التنزُّل إلى أخذ شيء من الغنائم، كما فعل سواي من الرؤساء، إلاّ بعض كتب نفيسة وآلة غناء، وبعض عاديّات لا يعرف قدرها إلاّ ذووها. وإنني أشكر الله الذي طوى عاما من عمري بمثل هذه الغوائل، ونزّهني عن الوقوع في شُبُهات الحرام، ومع ما حصل بيدي من أموال، وخصوصاً حاصلات الأراضي في “لَحْج”.

الثلاثاء 11 كانون الثاني 1916:
الحمد لله على التوفيق لإلقاء الرّهبة في القلوب، وهذا لِشدّة اهتمامي بالضّعفاء من الأهلين.

السبت 19 شباط 1916:
خرجنا من “الرميد” الساعة الثالثة مع السيد “أحمد باشا” ومعه سائر المرافقين، قاصدين عزلة “السارة”، أرادوا منعنا من المرور فلم نحفل لهم، كانوا هم على مرتفع حيث أطلقوا عليّ رصاصتين أصابت إحداهما فخذ البغلة التي أمتطيها، والثانية خرقت طرف الصمّاتة وأصابت حجرا طارت شظاياه عَليّ. فحمدت الله على النجاة من هذا القضاء، فوالله ما عدت أخشى الموت ما دام في الأجل مهلة.
جاء بعض المشايخ يعتذرون عن جهالة الفاعلين.

الاثنين 13 آذار 1916:
كانت ليلة أمس ليلة طَرَب لا تُحدّ ولا توصف، وكان الجميع سُكارى ما عداي، فلم أمسَّ شيئا رغماَ عن إصرار الجمهور.

الجمعة 31 آذار 1916:
خُلاصة آذار أسفار وأخطار وزيارات كبار وصغار، وطيُّ البراري والقفار والمُنجّي العليّ الجبّار.

السبت 8 نيسان 1916:
أطالع كتاب “ثمرة الحقيقة في التصوّف” للشيخ أحمد الزّيلعي المدفون في “اللُّحَيّة” (مدينة على البحر الأحمر شمال ميناء الحُدَيدة) والمعروف وهو كتاب عميم النّفع.

الجمعة 5 أيار 1916
في “اللُّحَيّة”، تاجر مُهمّ اسمه “يوركي” يوناني الأصل وهو هنا منذ اثنتي عشرة سنة، كان فارّاً من الحُدَيدة، فلما سمع عن حُسن معاملتنا ومحافظتنا على التجّار رجع وحانوته تحت بيتنا، وهو مملوء بالبضائع.

الجمعة 19 أيار 1916:
تفكّرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خِضَمّ الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أقارع الأهوال، ولقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركةً استعملت بها المدافع، أربعاً منها في “المُخا” مع السفن الإيطالية سنة 1327،وأربعاً في “بيت الفقيه”، ( مدينة على الساحل الغربي لليمن على البحر البحر الأحمر) مع “ قبيلة الزَّرانيق” المشهورين بالتمرّد، وثلاثة منها مع القبائل، وأربعاً منها في سفر “لحج” مع الإنكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً مع سفن الإنكليز في “اللّحَيّة”، أما الوقائع التي لم تستعمل فيها المدافع فهي كثيرة والمسلِّم الله.

الثلاثاء 23 أيار 2016:
عندما كنت مُخْتَلياً في مقصورتي العليا، تأمّلت الكوارث التي تحيط بي وما استولاني من الحنين إلى الوطن. عزمت فجأة على تبديل مسلك الإناءة بالانتباه الشديد، والتصلّب في تلقّي الحوادث والحروب ليلاَ نهاراً إلى مراقي العلا. إنّ الإنسان رهين الأعمال لا الآمال، وقد عَوّلت على طرد كلّ حادثة من شأنها الهزيمة، وأبدَلْتُها بعزيمة توجِب الكفاح، وعلى الله الاتّكال، وأحمده على هذا الإلهام.

” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة.  “

السلطان عبد الكريم بن فضل العبدلي سلطان سلطنة لحج عام 1922
السلطان عبد الكريم بن فضل العبدلي سلطان سلطنة لحج عام 1922

الجمعة 26 أيار 1916:
أشعر بصلابة في نفسي على كبح جِماحِها، لذلك أرى نفسي بغاية الانشراح، لا همّ إلاّ الوظيفة، ولا مسرح لأفكاري إلا فضاء التعالي، واكتساب المَحمَدة التي هي من فطرة كل إنسان.

الاثنين 5 حزيران 2016
أصبح كثير من النساء والأطفال يتضوّرون جوعاً وفي حالة مُريعة من الجوع والحرارة والغلاء. فرأيت من الديانة الإنسانية النّظر لحالهم. فدعوت كبار البلد والمأمورين واقترحت مأوى للفقراء لجمعهم في مكان خاص يُنفق عليهم من مال الجمعية الذي يُحصَّل من بعض رسوم على الواردات من أموال التجّار ومن التبرعات التي تجود بها أيدي أهل الإحسان ودَعَوْنا الجمعية “جمعية إعانة الفقراء”.
فتشكلت الجمعية برئاستي وقد هيّأت برنامجا لأعمالها وابتدأنا بجمع التبرعات وعلى أن يسلِّم كلٌّ مِنّا قدرا معيّناً كلّ أسبوع… وتداركنا بناءً للإيواء.

الجمعة 9 حزيران 2018
افتتحنا اليوم ملجأ الفقراء وبلغ عددهم ستين شخصا، وحضر الاجتماع المأمورون والأعيان. تَلَوْت الدّعوات وألقيت خطابا مُذَكِّرا بالواجب تجاه المعوزين والفقراء وإيثار الصّدَقات، مُسْتنداً على أوامر الشريعة الغرّاء، فكان لذلك تأثير كبير. وهنالك تناولنا الإعانات وتناثرت الصدقات وقد شعرت بالارتياح.
أخذت كتاباً مسهباً من سعادة الأمير شكيب أرسلان، ويعرب عن امتنانه مع أحمد جمال باشا من خدماتي.

الاثنين 19 حزيران 1916:
ومن هذه التجربة وغيرها؛ علمت أنّ الكثير من أعيان اليمن لا يهمّهم إلا مصالحهم الخاصة، وذلك للجهل المتفشّي بينهم.

الاثنين 31 تموز 1916: (عيد الفطر)

خلاصة شهر تموز:
1. عَزَمْت أن أعمل كلّ ما يؤول إلى تمجيد ربّي؛ ليعود عليّ بالفائدة والنفع طول إقامتي في هذا الوجود، دون إعارة والتفات إلى تقوّل الناس وعرقلتهم
2. عَزمت أنْ أقوم بكلّ ما أراه واجباً، عليَّ إتمام خدمة الوطن ونفع أبنائه.
3. عَزمت أنْ لا أعمل شيئا كنت أَمنع عنه، ولو كنت في آخر لحظة من العمر

الاثنين 14 آب 1916:
عند كل فرصة أتمتّع بقراءة كتاب “الجامع الصغير للأسيوطي المتضمّن أحَدَ عشرَ ألف حديث عن النبي العربي، وإني لأُدهَش كما لا شكّ يُدهش كل مُفكِّر من ما حواه النبي من بعد النظر، والقدرة السياسية والعمرانية، فإنّه بمثابة قانون مشروح ومُفسَّر، لأنَّه لم يترك أمراً من أمور الدين ومسائل الدنيا إلا طرق بابه، فأوصى به، فلو عمل أبناء مِلَّته الكسالى بموجبه؛ لأصبحوا نبراس المدنيّة الحاضرة كما كان أسلافهم في الغابر.

صفحة من يومياته اليمنية بخط يده
صفحة من يومياته اليمنية بخط يده

السبت 7 تشرين الأول 1916
الأربعاء 8 تشرين الثاني 1916:
أكرّر درس العَروض والقَريض في وقت الفراغ، فأرى نفسي وقد سَهُلَ عليّ النظم وسَبْك المعاني التي أتصوّرها في قالب الوزن، ومهما تعسَّر المعنى وكان دقيقاً لا يُعجزني. أتابع المطالعة حتى يكون الشِّعر لي سليقة، والنثر بيدي مملوك والله على كلّ شيء قدير.

الخميس 8 كانون الأول 1916:
اجتهدت في إنجاز ما بقي من ضروب بالشِّدّة حتى نحصل على القسم الوافر من التحصيلات ثم حبست المشايخ وهكذا يُرى أن الشدة هي الدواء لمن عقله في عينه1

الأحد 21 كانون الثاني 1917:
حالة القبائل أشبه بحالة الأطفال الّذين لا يعرفون الغثّ من السّمين، فإذا رَأَوْا مَيْلاً نحوهم من زعمائهم ازداد غُنْجُهُم،وإن رَأوْا خِرْقَة فلا بد أن تهرب قلوبهم وعقول القبائل في أعينهم، ما رَأوْه فقنعوا به، فمن الأمور مشكلة إدارة هؤلاء في هذا الوقت، الحكومة مشغولة والعدوّ يهددنا برّاً وبحراً وبإفساد القبائل بالرشوة.
وقد جمعت مشايخ وعقال “بني عديّة” وتَلَوتُ عليهم درساً يتعلّق بلزوم الاتحاد مع “بني جامع” قبيلتهم الأصليّة فرأيت منهم آذانا صاغية.

الأربعاء 21 آذار 1917:
في هذا اليوم يتساوى فيه الليل والنهار، وقد تجلّت به الغزالة في برج الحَمَل ولمّا أعدت الفكر للماضي ولمّا كان تجربة الخلفاء العباسيين في هذا اليوم من أسباب التّرَف والزينة ونفيس الهدايا لأرباب دولتها، وهذه عادة أُخِذَت من الأعجام ويُسّمونه “النّيْروز”ولا يخفى أنّ أهمّ رجال العباسيين من الأعجام الذين انتصروا لهم ليس حُبّاً بل انتقاماً من العرب والإسلام إذْ قوّض دينهم القديم وهدم شوامخ عزهم الذي كانوا يظهرون به على العرب.
الجمعة 13 نيسان 1917
أصبحنا كالعائم في اليم على خشبة لا يدري ما هو جارٍ بأحوال العالم لسبب تناقض الأخبار التي تردنا وإننا لا نعوِّل على ما يُحدق بنا من المهالك لأننا قررنا الوصول إلى هذه الدرجة فهي منتظرة لدينا؛ لا تأخذنا الدهشة لأن المأمول من تسامح الحكومة وعدم اعتدادها للطوارئ الوصول إلى مثل هذه الحالة,

الجمعة 27 نيسان 1917:
بعد المعايدات الرّسمية بدار الحكومة توجّهت ومعي الجَمّ الحاضر في المعايدة إلى حيث تُحفر الآبار، وكان منها ثلاث آبار صار قابل استعمالها، فَوَصَلنا إلى إحداها التي تمّ بناؤها، فبعد أن تكلّمت بكلام مناسب استخرجت بيدي أول دلو شرب منه جميع من كان حاضراً، وكان الماء عذباً، فحمدنا الله على إنعامه الذي لم تَنَلْهُ “اللّحَيّة” منذ بنائها. رجعنا وعموم الأوجه تَتهَلّل بشرا والأهلون يضاعفون الدّعاء.

الاثنين 30 نيسان 1917:
انصرفنا أمس ليلاً من “العَطَن” ونحن في انشراح وقد أثبتنا للأهالي وخصوصاً القبائل أَنّنا لسنا كالذين سبقوا. نحن لا نعبأ إلاّ براحة ضمائرنا وأنّ السّعي يوجِدُ في الرمال القاحلة جِناناً خضرة ورياضاً نضرة. وقد وصل رجل حَضرَميّ اسمه “سعيد سالم” وقد ذكر أنّ أهل “لَحْج” عموماً في حنين نَظراً لما رَأوْه أثناء إقامتي هناك من حسن المعاملة ويرون فرقاً بيِّناً عمَّن خلفني، وكذلك عموم أعيان اللواء التَّعِزي، فالحمد لله على حُسْن الذِّكْر وهذا ما ينسيني الامتحان الذي أراه من غير العارفين.

الاثنين 21 أيار 1917:
هنيئاً لِمن اقتفى أَثرَ أبي العلاء الذي أقول بأنه قد أجال طَرْفَ العقل في سوح الكائنات وما ترك من مَهامِهِ الدّنيا مفازة إلاّ سَبَر غَوْرَها، فرجع وهو ظافر بالحقيقة التي تختبئ غالباً في أحْفَر الزوايا، ولذلك أراني مضطرّاً، ولأجل تخفيف جشع النفس، إلى تتبّع آثاره والاستضاءة بمنارِه رحمه الله من عالمٍ بالله.

الجمعة 25 أيار 1917:
اعتدت صباحاً وفي غالب الأحيان أن أمُرّ على دائرة الجُمرك لأجل مشارفة أحوال الإعانة الجهادية فأتذاكر مع “أحمد عاكف أفندي” مدير الجمرك، وهو أضاع سنوات في اليمن استعمل في حياته ضروب الخلاعة، إلا أنه لم يبقِ من جسده إلاّ الحثالة ومن ماء الحياة إلاّ الوَشَل.

ميناء عدن الاستراتيجي في العام 1910 كان محطة لتزويد الأسطور البريطاني بالوقود
ميناء عدن الاستراتيجي في العام 1910 كان محطة لتزويد الأسطور البريطاني بالوقود

الأحد 3 حزيران 1917:
ما زالت أشغالي مُنْحَصِرَة في تَرِكَة “محمّد ياسين” وإظهار لصوصية المحكمة الشرعية وأبت الاستقامة إلاّ القيام بما يوجِبُه الوجدان الحيّ الذي تجرّد منه قاضي “اللّحَيّة” “أبو طالب” الرّشوة لقاء دُرَيْهمات، ولابدّ أن أُرْجِع جميع السرقات إلى حيِّز الإشهار وسيرى (القاضي) ما يجعله يقول:”هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون”!

الأحد 10 حزيران 1917:
ولقد حَميَ الوطيس بيني وبين الحكومة لسبب ارتشاء في تركة “محمد ياسين” وقد أكدت إشعار المُتَصَرّفيّة والولاية بشأن ذلك، ولم تزل التحريات جارية لإخراج المكتوم من التركة، وإثبات سوء استعمال القاضي مع الكاتب اللذين ظهرا أنهما لِصَّان كبيران لا يخشيان الله، فسأتغلب عليهما بإذن الله ما دمت على حقّ وأذيقهما صابّ عملهما.

الجمعة 16 تشرين الثاني: 1918
مضى شهر على تاريخ عقد الهدنة بين الدول ولم نقف على شيء جديد وما علمنا على ماذا أسفرت مخابرة الإمام مع الإنكليز في عدم تسليم القوة العسكرية للإنكليز حسب أمر الباب العالي، فصرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة الملك والرُّبان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.

فاتحة سنة 1919
ربّنا عليك توكّلت وإليك أنبنا؛ ربنا الأعلى أنر أبصارنا للسير على طريقتك المثلى، ربّنا أيِّدنا بالحقيقة، واجعل الشهامة في كل أعمالنا لنا رفيقة. أهدنا إلى الحق، وصبِّرنا على مرارة الصِّدق. ربّنا يسِّر لنا اتصال القول بالفعل ومحبّتنا للفضيلة راسخة. ربّنا أبعد عنا أهل الخَنا، والإفك ومعرّة قول أنا. وإِشر الغنى وأوصلنا لرحمتك بعد الفَنا، على طريق مستقيم دون انحناء ولا عنا، واجعل يمن هذه السنة لنا.

يوسف بك حسن

قائدٌ عثمانيّ في بلد منقسم وعصيّ على الجميع

يوسف بك حسن فرض النظام في اليمـــن وصالـــح القبائـــل وكسـب محبـة اليمنييـــن

أمــرَ العثمانيــون جنودهــم بتسليــم السّــــلاح
لكــن المتصــرّف الأبــيّ رفــض الاستســــلام!!

كان حاكما وقاضيــاً وحَكَمــاً وقائــدا عسكــرياً
خاض غمار المعارك وتعرّض مراراً لخطر الموت

تمكن دون مساعدة من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة
وإخضاع المتمردين و تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى الجبهات

وصل الموظف يوسف حسن إلى قضاء “إب” في اليمن لاستلام وظيفة قائمّقام في 20 كانون الثاني/ يناير عام 1910. وكان شاباً لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً، لكنّ مواهبه واستعداداته كانت كافية لتسنّمه هذا المنصب في ذلك الموقع البعيد عن اسطنبول عاصمة السلطنة، موقع لم يكن يحظَ بأيّ اهتمام حقيقيّ من جانب الدولة العليّة طيلة فترة الوجود العثماني في اليمن.
كان الشاب” يوسف” قد تخرّج من الكلّية الشاهانية التي تخرّج منها كبار الموظّفين في اسطنبول، وأجرى التدريب اللازم في ولاية بيروت.. كانت عاصمة الخلافة في العقد الأول من القرن العشرين تحبل بمشاريع وحركات وأفكار متنوعة؛ مثل اللامركزية والعروبة والعثمنة والتتريك، وكانت الخلافة ذاتها قد أصابها الوهن وجفاف العروق، فلم تعد فاعليتها لتصل إلى الأطراف.
التقى الموظف الشاب في اسطنبول بعدد من المفكرين الإسلاميين والعروبيين؛ الذين انضمّ بعضهم إلى جمعيات سرّية، فتأثر بأفكارهم، وحاول أن يوثّق علاقاته هو ورفاقه بهم، لكنّ عيون الرقابة والاستخبارات كانت لهم بالمرصاد، سواءً في السكن أو في التنقل.
هكذا قَدِم الموظف العثماني إلى اليمن، تلك الولاية البعيدة المترامية الأطراف؛ مسلّحاً بخمس لغات؛ لم تكن اللغة العربية أجودها، ولكنّه كان قد بدأ ينظم الشعر بها، كما كان ينظمه باللغة التركية أو هو يترجم عن الفارسية.
كان قدومه من متصرّفية جبل لبنان، حيث لمعت فيها أسماء أثّرت في فكره وخياله، وأوقدت جذوة العروبة في نفسه منذ مطلع شبابه، ومن هذه الأسماء الأمير شكيب أرسلان؛ الذي كان آنذاك في عزّ عطائه للسلطنة العثمانية، وفي عز دفاعه عنها لاحقاً.. وما الرسالة الوثيقة الموجهة من الأمير إلى القائمّقام يوسف بك حسن يهنئه فيها بإنجازاته في اليمن؛ سوى دليل على عمق العلاقة بينهما، لقد كان الأمير شكيب أرسلان الأب الروحي لعدد غير قليل من المناضلين الشباب في بلاد الشام ومصر، أولئك الذين كانوا يرون إمكانية إصلاح السلطنة العثمانية، وإبقاء الولايات العربية تحت راية الخلافة، حيث كانوا يرَوْن في ذلك مصلحة للطرفين.
وقد يكون اختياره العمل في ولاية اليمن عنواناَ لطموحاته المتوقدة وأفكاره العروبية، إذ يقول في تقديم قصيدته في رثاء الأمير شكيب: “إنه أستاذي السياسي، ودافعي إلى اليمن في مهمات سياسية”، لكن رغم وجود مسافة زمنية توازي أربعة عقود، بين قدومه إلى اليمن ووفاة الأمير شكيب، فإننا لا نلاحظ في اليوميات، أو في الوثائق ما يقدم فكرة ما عن نوع تلك المهام السياسية سوى الرسالة المذكورة سابقاً.
لم يكن وجود السلطنة العثمانية في اليمن فاعلاً في أي وقت من الأوقات، وكان موظفوها يحكمون الألوية الثلاثة (صنعاء وتعز والحديدة) بالتراضي، أو بالتنازل أو بالتواطؤ مع القوى المحلية المتعددة المشارب والمذاهب، وهذه الولايات الثلاث – والتي كان يقطنها نحو خمسة ملايين شخص كما يقول يوسف بك حسن- كانت متباعدة متناثرة تفصلها موانع جغرافية كأداء، مثل الجبال الوعرة والأودية والبيد، والمسالك الخطرة والهضاب، ممّا يجعل التحكّم بها أمراً صعباً على دولة قوية فاعلة، فكيف إذا كانت هذه الدولة تحتضر، وينتظرها الطامعون في عقر دارها وعلى أطرافها، ويحفرون لها قبر النهاية!.
أمّا على حدود ولايات اليمن، وفي منطقة البحر الأحمر بالذات، فقد كانت الإمبرياليات الغربية تتنافس وتتناهش لسلب ما تستطيع سلبه من تركة هذه السلطنة العجوز. فالايطاليون كانوا ينطلقون من مستعمراتهم من الضفة المقابلة لليمن، ليحاولوا وضع أيديهم على بعض الموانئ والانطلاق منها إلى الداخل. وكان ميناء “المُخا” مطمعهم الأكبر، خاصة بعد الحرب الايطالية – العثمانية، واحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب عام 1912م. وقد جرب الطليان احتلال أجزاء من الساحل، وقصفوا مدنه غير مرة، وكان يوسف بك حسن والمجاهدون من العسكر والقبائل لهم بالمرصاد، فردوهم خائبين دون أن تتوقف مطامعهم.

قصور-سلطنة-لحج-في-العام-1915--في-تاريخ-قريب--من-قيام-يوسف-بك-حسن-مع-الجند--الثماني-بانتزاعها-من-الإنكليز
قصور-سلطنة-لحج-في-العام-1915–في-تاريخ-قريب–من-قيام-يوسف-بك-حسن-مع-الجند–الثماني-بانتزاعها-من-الإنكليز

مطامع الانكليز
منذ أن وطأ الانكليز أرض عدن عام 1839، جمعوا السلطنات والمشيخات كمحميات تحت سلطتهم، لكنهم لم يكفُّوا عن التطلّع نحو الداخل، أو نحو السواحل امتداداً إلى الحديدة إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فالبحر الأحمر طريق ضرورية، وحاجة استراتيجية لإبقاء التواصل بين قناة السويس من جهة، ومستعمرات الهند من جهة أخرى.
وكان الفرنسيون غير بعيدين عن اليمن بسبب وجودهم الاحتلالي في جيبوتي، حيث كانت لهم قنصلياتهم وممثلوهم في الحديدة وعدن وفي مدن أخرى.
أما ألمانيا فقد تعرضت لنكسة معنوية عندما قامت القبائل ولأسباب غامضة بقتل قنصلها في ولاية الحديدة؛ قُبيل وصول يوسف حسن إلى اليمن.
ومع اشتعال الحرب العالمية الأولى تسابقت الإمبرياليات الغربية لتنال ما تستطيعه من كيان السلطنة المترامي الأطراف، ودخلت إنكلترا وفرنسا وايطاليا في حلف معادٍ للسلطنة ولألمانيا؛ في تلك الظروف العصيبة، رأى القائمّقام الشاب الذي كان يعمل كحاكم إداري، أن يركب حصانه ويعمل كقائد حربي، وأن يحارب جميع من كانوا يتربصون شرّاً باليمن من بوابة مدينة الحُدَيدة الساحلية، التي يطل عليها من متصرّفيته في “إب”.
لقد طُلب منه أن يشتت القوى المعادية للسلطنة، خاصة الإنكليز؛ حتى لا يوجّهوا قوّاتهم إلى مِصر! كما كان عليه كذلك أن يقمع القبائل المتمرّدة التي لا تدفع الإتاوات لتمويل الجنود، ويبعد قبائل أخرى عن التعامل مع الإنكليز، خاصةً وأن هؤلاء كانوا يغدقون الأموال والسلاح على الجماعات اليمنية المختلفة، ويحاولون استمالتها. كما طُلِب من الحاكم الإداري الشاب في غير مناسبة أن ينتقل بين مناطق ومدن متباعدة خارج مُتصرّفيته، كـ “حَجَّة” و”العُدَيْن” أو إلى “زَبيد” أو “الحُدَيْدة” لإخماد فتن، أو لإخضاع تمرد، كلّ ذلك لتوطيد سلطة الدولة العليّة.
وبالفعل وفيما يشبه معجزة إنجاز، قام على عمله بكفاءة وإصرار، ونجح بفضل شخصيته الفعّالة والمحبوبة. لقد أفلح لغاية منتصف فترة الحرب العالمية الأولى بوقف تدهور الأحوال وانفلاتها في مناطق عمله التي لم تعد تقتصر على متصرّفية “إب” فقط في اليمن، وبذلك مَنَعَ تقدّم الأعداء الطامعين نحو الداخل اليمني، أو النزول إلى الشواطئ الغربيّة على البحر الأحمر. لكن أخبار الشؤم ما لبثت أن بدأت تَرِدُه مع دخول الحرب العالمية الأولى مرحلة صعبة بالنسبة للدولة العثمانية، وارتسام معالم انتصار الحلفاء، من تلك الأنباء تحالف سيف الإسلام الإدريسي أمير عسير مع الانكليز، ثم تغرير هؤلاء بالشريف حسين الهاشمي لإعلان الثورة العربية ضد السلطنة، ثم أنباء تقاسُم الحلفاء لبلاد الشام، إلى أن جاءته الصدمة الكبرى بإعلان استسلام السلطنة للحلفاء عام 1918، وطَلب تسليم قواتها وجيوشها وأسلحتها لهم، وللإنكليز في اليمن بخاصة.
لكنّ المتصرّف لم يصدِّق خبرَ الاستسلام معتقدا أنه خدعة بريطانية، غير أنّه ما لبث أن واجه الحقيقة المرة برباطة جأش؛ عندما وصله منشور بريطاني من نائب الملك في عدن للتسليم، وحتى مع وصول ذلك المنشور الرّسمي، انتظر يوسف بك حسن حتى أتاه ضابط عثماني ليؤكّد له مضمونه.. ورغم كلّ تلك الدلائل عن انهيار الدفاعات العثمانية، وهزيمة السلطنة، فإن المتصرّف الشاب الممتلئ عنفوانا عربيا وعثمانياً لم يستطع أن يبتلع تلك الخاتمة المذلّة، فرفض أن يستسلم، وبقي معه مجموعة من المجاهدين، ورجال القبائل الذين ابتعدوا عن الحديدة -التي دخلها الانكليز- وتراجعوا الى باجل.
السؤال البديهي هنا هو: لماذا لم ينفّذ متصرف الحديدة آنذاك الأوامر التي طلبت منه التسليم؟ وعلى ماذا كان يُعوِّل؟ ولماذا لم يرحل في أواخر عام 1918، وانتظر حتى أواخر العام 1921 عندما ركب باخرة إنكليزية نقلته من عدن مع قدر كبير من التكريم؟ هل كان ينتظر سقوطاً رسمياً للسلطنة، وهي التي سقطت عسكريّاً بالفعل، أو هل كان ينتظر المفاوضات الجارية بينها وبين الحلفاء قبل اتخاذ القرار الأخير؟ أم أنها “المهام السياسية” التي كلّفه بها الأمير شكيب أرسلان، التي جاء ذكرها سابقاً؟

السلطان محمد رشاد الخليفة العثماني إبان عمل يوسف بك حسن في اليمين
السلطان محمد رشاد الخليفة العثماني إبان عمل يوسف بك حسن في اليمين

تأثير الأمير شكيب أرسلان
يُنقَل عن الصحافي المجاهد عجاج نويهض، الذي رافق الأمير شكيب سنين طويلة في نضاله السياسي والفكري، أنّ يوسف بك حسن كان مبعوثاً سرّياً للأمير شكيب، ولشيخ العروبة أحمد زكي باشا، الذي رافقه الموظف الشاب في اسطنبول قبل قدومه إلى صنعاء، وكانت المهمة التي أوكلت إلى يوسف بك حسن هي العمل على تحقيق الاستقلال الذاتي لليمن عن الدولة العثمانية، مع الولاء المطلق للخلافة في اسطنبول.
وبعيداً عن تلك الأسئلة النظرية، وكيف جرت الأمور على أرض الواقع في أثناء السنوات الثلاث التي فصلت بين نهاية الحرب، وسقوط الدولة العثمانية، وبين مغادرة المتصرّف اليمن أخيراً متوجّهاً إلى لبنان؟ فإنّ يوميات يوسف بك حسن الذي بقي يسطّرها حتى آخر يوم له في اليمن، وكذلك الوثائق الباقية منه، وخاصة ترجمة الوثائق العثمانية؛ تُظهر أنّه نجح في الحفاظ على قدر كبير من الاستمرارية والشرعية التي كانت سائدة في منطقة عمله الإداري من قبل.
صحيح أنّ الإنكليز تقدّموا نحو الحُديدة، لكنّ المتصرّف الشاب بقي تحت إمرته عدد من الجنود والمجاهدين ورجال القبائل. كما أنه بقي مستحوذاً على ثقة الأهالي بفضل “إدارته الفذّة” حسب قول للوالي العثماني محمود نديم. بل إنّ يوسف بك تابع تحصيل بعض الإتاوات ليموّل بها الجنود، كما أن التواصل مع الوالي الموجود في صنعاء استمر بشكل قانوني، إذ ما معنى أن يحرّر الوالي أمر تعيين يوسف بك متصرّفاً على الحديدة بناءً على مناشدة الأخير غير مرّة، وذلك في 2 تشرين الأول عام 1919، ويحوّل ذلك الأمر إلى قائمّقام الرّقمدار في صنعاء لإجراء القيود؟ وهذه الواقعة قام يوسف بك بتدوينها في يومياته في ذلك التاريخ.

إنجاز فريد
حقيقة الأمر أن يوسف بك حسن لم ينجح فقط في اكتساب ثقة الأهالي التامة، بل هو فرض نفسه على الفرقاء الأساسيين الثلاثة في ذلك المحور الاستراتيجي وهم: الانكليز في الجنوب، والإدريسي في تهامة، والإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في صنعاء؛ الذي بدا أنه في تناغم مع الوالي، ويودّ بسط حكم إمامته على تهامة غير الزيدية. وبالطبع اكتسب يوسف حسن أيضا ثقة وصداقة الوالي العثماني في صنعاء؛ الذي كما يتبين من وثيقة باللغة التركية، طالب في كتاب إلى وزارة الداخلية بدفع كافة المستحقات المتراكمة للمتصرّف حتى نهاية وجوده في اليمن.
ويبدو أنّ الاتفاق الذي تمّ لاحقاً بين السلطة التركية الجديدة، وبين الإمام نتج عن بعض بنوده بقاء الأتراك كمسؤولين وجنود في اليمن، يساعد على فهم المرحلة السابقة. وتأتي حادثة احتجاز وعرقلة مهمة الوفد الانكليزي المُحمّل بالهدايا، والمتوجه إلى صنعاء لزيارة الإمام يحيى لكسب ودّه إلى جانب الإنكليز ضد العثمانيين، من قبل قبائل تهامة لتزيد من شهرة ذلك المجاهد، يوسف بك حسن ورفاقه، وهم الذين دارت الشكوك حول كونهم خلف قيام القبائل بتلك العملية الجريئة، وهذا رغم أن يوسف بك حسن نفى أيّ علاقة له بتلك الحادثة، بل ظهر لاحقاً كـ “وسيط” يعمل للإفراج عن المحتجزين. وقد اضطرّ الوفد الإنكليزي أن يعود خائباً مع هداياه، بعد احتجازه لفترة تزيد عن الشهرين في مدينة “باجل” بعيداً عن الساحل، رغم غضب الإمام وحقده وغيظه.
ورغم كثرة السفر والتنقل في اليمن، لم يصل متصرّف الحُديدة إلى صنعاء إلاّ عبر التواصل بالرسائل والتوجيهات مع والي اليمن، ولم يكن للإمام عنده مودّة، ولم يذكره بالخير في يومياته أو في رسائله. وبعد أحد عشر عاماً من الوصول حزم المجاهد حقائبه، ورحل من عدن مكرّماً كما يقول ليصل إلى لبنان عبر مصر، ويلتقي بعروسه التي انتظرته طوال تلك المدة كما يدون في مذكراته. كما ترك اليمن في بحر هائج من الصراعات بين قوى جديدة محلّية وخارجية، فلم تستقرّ الأمور إلاّ بعد حين لتتغيّر معها الخارطة السياسية في المنطقة كذلك.
لم يَطُلْ به المقام حتى زار اسطنبول بناءً على نصيحة رئيسه والي اليمن السابق، وحصل على ترقياته ومستحقاته وأوسمته، وغادر إلى سوريا بعد عام 1925 لعدم انسجامه مع تحوّل لبنان من متصرفية إلى “دولة لبنان الكبير” تحت الانتداب الفرنسي.
وعمل في سوريا محامياً، ثم قاضياً في مدينة السويداء حتى عام 1955، ليعود بعد ذلك إلى قريته الشوفية بتلون، ويمضي فيها تقاعده حتى تاريخ وفاته في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1969.

آثار يوسف بك حسن
لم يتوقّف يوسف بك عن الكتابة والتأليف ونظم الشعر في اليمن، ومتابعة شؤون السياسة العربية والدولية والتعليق عليها، شعراً ومقالات. ولعلّ الحقبة اليمنية هي أغنى ما في هذه التركة الثقافية، لأنّها كانت باكورة المغامرات، وأصدق التجارب وأوسع تعبير عن بلاد لم تكن تمتلك الصحافة أو المطابع، أو حتى المدارس، فجاءت كتاباته المتنوعة من عام 1910 ولغاية 1921 سجلاً حافلاً عن مجريات الأحداث آنذاك، وقد تكون ذخراً للدارسين والباحثين في تاريخ اليمن لتلك الحقبة.

موظفان عثمانيان في صنعاء في مطلع القرن الشرين
موظفان عثمانيان في صنعاء في مطلع القرن الشرين

الوثائق العربية
ترك يوسف بك ما يزيد عن مائة وثيقة مكتوبة، معظمها ذات أهمية تاريخية فريدة، وهي تتناول مراسلات مع والي اليمن محمود نديم، ومع السيد الإدريسي وقائد جيوشه، ومع شيوخ قبائل ورجال دين وموظفين، كما تتضمن أجوبة منه على بعض الطلبات، وتدخّلات لدى بعض الأعيان ومعايدات وتهانٍ، ولم تتوقف المراسلات مع خروجه من اليمن، بل تابع التوسّط لدى بعض سلاطين المحميات، والإجابة على رسائل لأصدقاء له، وهناك بعض الوثائق التي حملها في مجموعته، مثل منشور نائب الملك البريطاني بإعلان انتهاء الحرب، وطلب الاستسلام، ومنشور رجال دين ومشايخ يمانيين في مصر يحذّرون فيها من الخروج عن طاعة دولة الخلافة العليّة. وتتميز الوثائق التي كتبها يوسف بك بالترتيب، وحسن الخط وندرة الأخطاء اللغوية، وقد أرّخ معظمها بالسنة الهجرية أو بالسنة المالية العثمانية، في حين أنّ الرسائل التي كان يتلقاها متنوعة الخطوط، والترتيب وهي كثيرة الأخطاء أحياناً وتحمل عدداً من التعابير المحلّية.

الوثائق العثمانية
تشكل الوثائق العثمانية في مجموعة المتصرّف ذخراً مستوراً يحتاج إلى دراسة متأنّية من المهتمين والمتخصصين، وهي على الأرجح عبارة عن مراسلات إدارية مع الوالي ومع مسؤولين إداريين في اسطنبول، ومع قواد عسكريين محليين، أو ترجمة لبعض التقارير الصّحفية التي تعوّد يوسف بك أن يقدمها للوالي، كما أنّ الأرقام الواردة في بعضها قد تدل على الجبايات والمصاريف والمعاشات، وكيفية إدارة القائمقاميات ثم المتصرفية التي تسلّمها.
وفي ترجمة لبعض هذه الوثائق تحدثت إحداها عن راتب متصرّف الحديدة، وعن تنقّلات قضائية في المتصرفية، ومذكّرة تتحدث عن إرسال تقارير متعلّقة بالولاية إلى اسطنبول بواسطة متصرّف الحُديدة، ودفع أجور من الأموال العامة المحصّلة. كما تتضمن إحداها مراسلة بين القائد سعيد باشا، وقائمقام “اللُّحَيّة” آنذاك، يطلب منه الاستعداد للنزول إلى لحج وعدن لمواجهة الإنكليز.
وتعرض وثيقة موجّهة إلى وزارة الداخلية جهود يوسف بك حسن في اليمن في خدمة الدولة العثمانية، ونجاحه بالتعامل مع الأهالي، ومع الإنكليز ومع الادريسي في عسير بعد أن صدرت الأوامر الدولية بالتسليم، وكيف استحوذ على ثقة الأهالي، ممّا جعلهم يدفعون الأموال المستحقّة للدولة، والتي استطاع بواسطتها أن يوفّر احتياجات الجيش وغيرها من المصروفات حتى بعد هزيمة السلطنة عسكرياً، وتطالب هذه الوثيقة الوزارة بمنح المتصرّف مُرَتّبَه المتراكم من سنوات سابقة، ممّا يجعلنا نعتقد أن للمتصرّف دوراً في تشجيع موقّعي هذه العريضة.
وممّا يلفت النظر في ترجمة لكتاب آخر مرفوع من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يشرح فيه أحوال البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، ومن المعروف أنّ الوالي بقي في اليمن بعد انتهاء الحرب كما بقي يوسف بك، أو قد يكون هذا هو سبب بقاء المتصرّف كذلك.
وفي هذا الكتاب يطلب الوالي من الوزارة سرعة إرسال متصرّف الحديدة يوسف حسن بك الموجود في دار السعادة إلى محل عمله في الحديدة!
فهل غادر المتصرف الحديدة على أمل العودة؟ وماذا كانت نِيّة والي اليمن آنذاك؟
أمّا الوثيقة الأخيرة المهمّة، والتي سننقل ترجمتها في باب الوثائق، والتي تعود لآخر مهمة للمتصرّف، فهي رسالة مرفوعة من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يستعرض فيها حياة يوسف حسن بك في اليمن منذ وصوله، ويتكلّم فيها عن قدراته الإدارية الفذّة، وقدراته العسكرية، ومشاركته في الحروب ضد أعداء الدولة. ويختم الوالي رسالته بتذكير الدولة العليّة بأن المستحقّات المتراكمة للمتصرّف من خزينة الدولة لم يتم دفعها، ويطلب صرفها له تقديراً لخدماته وجهوده الكثيرة.
وأخيراً هناك قصيدة ليوسف بك حسن باللغة العثمانية، خصّ بها متصرّف جبل لبنان يوسف باشا بمناسبة حلول سنة جديدة.

جنود-عثمانيون-في-اليمن-مطلع-الحرب-العالمية-الأولى
جنود-عثمانيون-في-اليمن-مطلع-الحرب-العالمية-الأولى

اليوميات
حين وصل القائمّقام الشاب إلى لواء تعز، وتابع سيره إلى “إب”، أدرك أنّه بدأ مرحلة مهمّة في حياته، ميزاتها المغامرة والخصوصية والتجارب، ولم تعد الشهادات التي أوصلته إلى ذلك المكان تشكّل سوى جواز مرور شرعي فقط، ليصبح مقبولاً في المنطقة المتمرّدة، والتي لم تتعود على موظفين عثمانيين يهمهم بسط نفوذ السلطنة، وكان يوسف بك حسن قد تعوّد تدوين مذكّراته قبل قدومه إلى اليمن.
وقد واظب المتصرّف المُجدّ، والشديد الانضباط على تدوين يوميّاته لمدّة إحدى عشرة سنة متتالية، وتجمّع من ذلك التدوين المنتظم ما يزيد عن ثلاثة آلاف “يوميّة” من المذكرات، لم تتوقف إلاّ مع مغادرته لتلك البلاد! وتتراوح اليوميّة الواحدة بين عدة أسطر، وصفحة مدوّنة باليوم وبالشهر الميلادي الشمسي المعتمد في بلاد الشام. وكانت ملفتة فعلا تلك العادة في تدوين كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياته اليومية، أم بمهماته العامة ومغامراته الخطرة أحيانا في مجاهل اليمن الجغرافية والسياسية، وفي الحقيقة، وحسب علمنا فإنه قلّما حصلت تلك المواظبة على تدوين اليوميات في تاريخ الحكام العثمانيين، ولاسيّما الذين منهم تحمّلوا مسؤوليات عامة واسعة كتلك التي اضطلع بها يوسف بك حسن لأكثر من 11 عاما في بلد صعب، وفي أحلك الظروف التي كانت تمرّ بها الدولة العثمانية.

ماذا في اليوميات؟
إنّها سجلّ حافل بتاريخ المقاطعات التي كانت تابعة للسلطنة، أو للمناطق التي تنقّل بها القائمّقام ثم المتصرّف، وهي مرآة تصور الحياة السياسية والاجتماعية والمناخية، والاقتصادية والإدارية وأحوال الناس والقبائل. ويزيد في أهمية تلك اليوميات أنها تجمّعت في فترة كانت ولاية اليمن فيها مسرحاً لحوادث داخلية، وتمرُّدات ومشكلات لا تتوقف، وهذه الأحداث والحروب كان المتصرف الشاب يتابعها بإصرار، وغالبا ما كان يحقّق النّجاح في التصدّي لها، أو استيعابها، وتمكن يوسف بك حسن دونما مساعدة حقيقية من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة، وإخضاع المتمردين كما حقّق نجاحاً كبيراً في تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى جبهات المواجهة مع الأخطار الخارجية، كما في “المُخا” و”لَحْج” وغيرهما. والملفت أنّ يوسف بك حسن استمر حتى في فترات الحرب، والضائقة الاقتصادية في جمع “العشور” والضرائب، أو الحكم بين الناس، أو ترتيب المصالحات والتحكيم بين القبائل المتخاصمة!، لقد كان قائمّقاماً وقاضياً، وضابطاً عسكرياً اقتحم غمار المعارك غير مرة وتعرض للموت مراراً.
وها هو يقول في يوميات 20 أيار 1916 “تفكرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خضم الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أعاني الأهوال، وقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركة استعمِلت بها المدافع، أربعاً منها في المُخا في مواجهة السفن الإيطالية سنة 1327، وأربعاً في بيت الفقيه مع الزرانيق المشهورين بالتمرد” قبيلة بدوية شديدة البأس على ساحل تهامة اليمن”، وثلاثاً منها مع قبائل أخرى، وأربعاً منها في لحج مع الانكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً في مواجهة سفن الإنكليز في الحُديدة.
أما الوقائع التي لم تستعمل بها المدافع فهي كثيرة، والمسلّم الله. هذا حتى منتصف عام 1916، فكم معركة خاض لغاية 1921؟!
يذكر في مذكرات عام 1919، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد لقائه مع قلّة من المجاهدين ورجال القبائل في “باجل” في منطقة بين الإنكليز في “الحُديدة”، وسيف الإسلام الإدريسي في تهامة عسير، والإمام يحيى الطامع في تمديد سلطته نحو السواحل، يذكر أنّ “باجل” أصبحت مركزاً للسياسة، ومحوراً لعمل دوائر القبائل والحكومة.
فالوفد الانكليزي المؤلّف من ثمانين فرداً، والذي كان متوجّهاً إلى منطقة الإمام مع كميّة من الهدايا احتُجز في “باجل” ما يزيد عن الشهرين، وبدأت القبائل تضع الشروط للإفراج عنه، وحاول المتصرّف أن يقف وسيطاً بين الطرفين – كما يقول- لكنّه في الحقيقة لم يكن يريد للوفد أن يتابع سيره لملاقاة الإمام، كما أنه لم يكن يريد للقبائل أن تهاجم الوفد في دار الحكومة.
وهو يذكر كيف قامت طائرة إنكليزية بالتحليق فوق “باجل”، وفوق الجزيرة القريبة منها في البحر، وكيف كانت ردة فعل الأهالي على هذا السلاح الذي لم يعرفوه سابقاً، إذ هددت القبائل باقتحام دار الحكومة إذا أعادت الطائرة تحليقها، وأطلقوا عليها النار من بنادقهم.
ويذكر في عام 1920 مقابلاته مع سيف الإسلام مصطفى الإدريسي، ومحاولات التوسّط بينه وبين الإمام يحيى بطلب من والي اليمن محمود نديم. وفي يوميات عام 1921 يذكر بداية التنازع على تهامه بين الإدريسي والوهّابين الذين فرضوا شروطاً فقهية وسلوكية غير مسبوقة.
وفي كل مرة يذكر فيها الإمام يحيى كان يكيل له الأوصاف السلبية، كالجشع والتسلّط والتزمّت، ويذكر جازماً صعوبة تمدّد سلطته نحو تهامة نظراً للفوارق بين الزيدية والشوافع..
وإلى جانب المواضيع السياسية والعسكرية؛ اكتست اليوميات بالقلق والأسى، والشعور بالهزيمة بعد ورود أخبار احتلال بلاد الشام من قبل الانكليز والفرنسيين، ونكث الانكليز بوعودهم للشريف حسين وثورته العربية. وكم كان يأسى عندما يتلقّى الأنباء المحزنة التي تخبر بوفيّات بين الأهل والأقارب؛ تلك الأنباء التي كانت تحملها الرسائل جرّاء الحرب والمجاعة في موطنه.
ولأنّه كان يسجل صادقاً ولنفسه، فكم من مرّة سجل المعاناة والقلق، وتلك الهواجس، وكم انفرد بنفسه في أمسيات الحُدَيدة وباجل، ليذرف دمعاً غزيراً على غياب الأحبّة في موطنه البعيد، وكم أفاق في الأصبحة، وقد تبلّلت وسادته بالدموع!. وكم منّى نفسه بالعودة إلى الوطن، وقد أتته وعود مفرحة أحياناً. إنها الغربة حقاً، إنها المكابرة غير المجدية أحياناً، لقد بدت المعاناة الإنسانية في أصدق صورها لدى ذلك المجاهد الصابر.

الإمام يحي حميد الدين كان في نظر يوسف حسن رمزا للفساد والتخلف السياسي
الإمام يحي حميد الدين كان في نظر يوسف حسن رمزا للفساد والتخلف السياسي

ديوان الشعر
إلى جانب العمل الإداري والعسكري، والأحداث المتلاحقة، وجد يوسف بك فسحة ليمارس ميوله الأدبية، وقراءة الدواوين المتوافرة وقرض الشعر، وقد كانت له تجربة وثقافة أدبيتان بخمس لغات، وحتى كان يذكر في اليوميات أنّه لولا المطالعة وتحرير الرسائل لضاقت به الدنيا. وقد ترك المتصرف باقة غضّة من الأشعار؛ جمعها ولده عاصم في كتاب اسمه “لبناني وسيف يماني” (الدار التقدمية – لبنان 2007)، وتشمل المجموعة مواضيع متنوعة، أكثرها من الشعر السياسي الذي كان يُنفّس به عن كربته، ويعبّر عن مبادئه وتوقه لتحرّر الشعوب ومناهضة الاستعمار، وكان يرى في كلّ حركة تحرّر أو استقلال عيداً، ومناسبة لكتابة قصيدة شعرية، وظل يوسف بك يمارس الشعر حتى وفاته.
حقّاً لقد كانت فترة اليمن فترة حافلة غنيّة في تراثه، وأفرد لها في الديوان باباً خاصّاً نظم فيه أشعاراً عن طبيعة اليمن، وجمال بعض المناظر، وطباع الناس وبعض السجالات مع الأصحاب، فأطرى البعض وهَزَأ بالبعض الآخر، وقد نالت قرية “الدفدف” في العدين نصيبها من هجائه بسبب طباع سكانها، كما ترك قريحته لتعبّر عن مفاخر اليمن وماضيه، وعن لواعج غربته، ولم يتوانَ عن أن يتغزّل باستحياء ببعض الوجوه أو ما بدا منها!.
كما حاول أن يكتب قصائده بأوزان شعرية متنوّعة، ونترك للعروضيين تقييمها، مع الملاحظة أنّ القائمقام الشاب، ثم المتصرّف، كان يواكب حركة شعرية ناشطة في مصر وبلاد الشام، وكانت أصداؤها تصل إلى بلاد اليمن ولو متأخّرة.

الإرث النثري
لم يترك يوسف بك نتاجاً نثرياً أثناء عمله في اليمن، سوى كتابات إدارية كانت عبارة عن تقارير صحافية يضعها بيد الوالي، أو مذكّرات متعلّقة بسير العمل، وأهم ما تركه عن تلك الفترة تقرير عن أوضاع تهامة، قد يكون أعدّه حين عُيّن متصرّفاً للواء الحديدة، يعرض فيه أحوال اللواء، وطرق تطويره المتمثلة بالأمن والمعارف والمواصلات، وهو يقترح مَدّ خط سكة الحديد من الحجاز إلى الحديدة، لكنّ المتصرّف عاد إلى الكتابات السياسية بعد انتقاله للعمل كمحام في سوريا، وشارك في السّجالات القومية والنضالية التي لم يتخلّ عنها طيلة حياته.

يمن-يوسف-بك-حسن---طبيعة-وعرة-ومجتمع-صعب-المراس
يمن-يوسف-بك-حسن—طبيعة-وعرة-ومجتمع-صعب-المراس

خاتمة
ينتمي يوسف بك حسن إلى جيل من المجاهدين الذين انخرطوا في صفوف الثورة العربية، وناضلوا من أجل التحرر والاستقلال في وقت كانت فيه السياسات الدّولية، وشهوات الاستعمار والمؤامرات تعمل في اتجاهات مغايرة وأكثر تعقيداً، فجاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتحبط نِضالات هذا الجيل، ولتُقيِّد البلاد العربية بأشرطة من الشوك تحرسها الإمبرياليات الجديدة. ثم جاء وعد بلفور ليصبح كسرطان تجذّرت أورامه في فلسطين.ثم إلى ما حولها. وحين ذهب المجاهدون العرب لنصرة أشقائهم في فلسطين في عام 1948 كان من بينهم ابنه الشاب ناصر يوسف حسن، وقد اندفع للجهاد هناك بتشجيع من والده، لكن هؤلاء المجاهدين أيضا عادوا خائبين لتضاف نكبة فلسطين إلى باقي الهزائم التي باتت عنوان جيلهم، وأكبرها بالطبع هزيمة العرب في حرب حزيران 1967
بعد سنتين من الهزيمة توفّي المجاهد يوسف بك حسن في بلدته بتلون، لكنه كان قبل وفاته طلب أن يُنقَشَ هذان البيتان من الشعر على ضريحه وقد جاء فيهما:
فإذا قضيتُ ولم أُشاهـــِد أمَّتي بلغتْ بسُؤدُدِها السِّمــــــــاكَ الأعــزَلا
فليُكْتَبَنّ علــــــــــى ضريِحــــــــــيَ إنَّ ذا قبرَ امرئٍ قد خابَ فــــــــــي مَــــــــــا أمَّـــــــــــلا

 

تاريخ آل علم الدين

تاريخُ أمراءِ آلِ علمِ الدِّين

من نشأتهم في عْبَيْه إلى نهايتِهم في عَيْن دارَةَ

مع انتصار الأمير حيدر الشهابي على رأس الحزب القيسي في عين دارة سنة 1711 فإنّه لم يتمّ فقط حسمُ مسألة حكم الجبل بعد زوال المعنيّين لصالح الأمراء الشّهابيّين، بل حُسِمت أيضاً معركة لا تقلّ أهميّة هي محاولة آل علم الدّين الدّروز وحلفائهم إعادة لبنان مجدّداً إمارةً يحكمها الدّروز كما كان عليه الأمر لمدّة تقارب الـسّبعة قرون. وكان فشل آل علم الدّين في تحقيق طموحهم إيذاناً بزوال حكم الأسر الدّرزية للجبل الذين كانوا مالكيه الفعليّين من زاوية الملكيّات الزّراعية والعدد والنّفوذ لقرون طويلة، لكن تفرّق زعمائهم وانقسامهم الحادّ بين الغَرَضِيّتَين القيسيّة واليمنيّة جعلهم ينتصرون مجدّداً لأمير سنِّي من آل شَهاب ويقاتلون “إخوانهم” اليمنيّين بشراسة حتى القضاء عليهم. ولقد حدث الأمر نفسه قبل ذلك في اجتماع السّمقانيّة الذي دعت إليه الأسر الإقطاعيّة الدّرزيّة لانتخاب خَلَفٍ لآل مَعن فلم يَسْتَطِيعوا الاتّفاق على أمير منهم وفضّلوا إعطاء البلاد لأمير شهابيّ استُقْدم من وادي التَّيم وأعطي إمارة لم تكن لتؤول إليه عن أي طريق لولا عجز زعماء الدروز عن الاتفاق على واحد منهم. لكنّ هزيمة آل علم الدّين كانت أيضا من صُنع أيديهم لأنّهم لم يتصرّفوا كعنصر جامع للدّروز (وللّبنانييّن)، كما فعل فخرالدين المعني الثاني، بل قاتلوا، انطلاقا من حزبيّتهم اليمنيّة، الأمير فخر الدين (القيسِيّ الغرضيّة) باستمرار وعملوا على إضعاف إمارته الدّرزية حتى آخر يوم من أيام عهده المَجيد. وبينما كان مشروع فخر الدين توحيديّاً بكلِّ معنى الكلمة ومؤسَّساتياً يقوم على بناء دولة حديثة جامعة، فإنَّ مشروع آل علم الدين كان تقليدياً وصراعياً وكان لا بد وأن ينتهي بانتصار فريق من فريقيّ النّزاع الأهلي وهزيمة الفريق الآخر. وقد كانت الهزيمة في عين دارة موجعةً ودامية لكنَّ الذي هُزِم فيها لم يكونوا آل علم الدين اليمنيّين وحدَهم بل مشروع استرداد الدّروز لإمارة الجبل ولو بإمارة منقوصة.
فمن هم آل علم الدين الذين كادوا أن يبدّلوا مسار الإمارة في جبل لبنان؟ ماذا نعرف عن أصولهم وتاريخهم وما الذي آل إليه أمرهم بعد هزيمتهم في عيندراة والقضاء على معظم أمرائهم ووجودهم السياسي ؟
في المقال التالي يقدم المؤرخ الدكتور حسن أمين البعيني عرضا وافيا لتاريخ هذه الأسرة العريقة ولأبرز زعمائها وللأدوار التي لعبتها في تاريخ لبنان خصوصا في العهد الوسيط وحتى انتهاء أمرهم في معركة عين دارة على يد الحزب القيسي بزعامة الشهابيين.
(الضحى)

ُرِف آل علم الدين في تاريخ لبنان باسم”آل علم الدين الرّمطونيين”، و باسم”آل علم الدين العنداريين”، وعُرِفوا في أواخر عهدهم بـ”أمراء آل علم الدين اليمنيين”. بعض فصول تاريخهم معلوم، وبعضه الآخر غامض، أو المعلومات عنه قليلة. وليس هناك اليوم أيّة أسرة من أسر الموحِّدين الدروز تحمل اسم “آل علم الدين” ولا اسم آل عبد الله الذين تفرّع آل علم الدين منهم، ويعود غموض تاريخ أجداد آل علم الدين وأجداد الفروع الأخرى من آل عبد الله، إلى أنَّه لم يُقيّض لآل عبد الله وبني فوارس من يكتب عنهم ويؤرّخ لهم كما قيِّض لآل أرسلان الذين أضاء السّجلّ الأرسلانيّ عليهم، وكذلك البُحْتريّين التَّنوخيّين الذين أرّخ لهم أحد أمرائهم صالح بن يحيى ثم أكمل ابن سباط تاريخهم إلى سنة 1520 وهي السّنة التي توقف فيها عن الكتابة. وبالعودة إلى تاريخ آل علم الدين، فهو يبدأ عند صالح بن يحيى بعلم الدين معن، وأبنائه، وحفيده الذي يحمل اسم”علم الدين سليمان”.
سنحاول فيما يلي الإضاءة عليهم حتى انتهاء نفوذهم في سنة 1711 جرّاء هزيمتهم في عَيْن دارة، والإضاءة على إشكالية انقراضهم.

أصل آل علم الدين
آل علم الدين فرع من آل عبد الله، وهؤلاء فرع من المناذرة اللّخميين الذين استقدمهم الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من معرّة النعمان في شمال سورية إلى جبل لبنان الجنوبي، ليدافعوا عن بيروت وساحلها ضدّ هجمات الرّوم البيزنطيّين، وليؤمّنوا حماية الطّرق بينها وبين دمشق ضد اعتداءات حلفاء البيزنطيين، والمتعاونين معهم من أبناء البلاد.
وآل عبد الله هم أبناء عم آل أرسلان وآل تنوخ وبني فوارس، ويعودون جميعهم في النّسب إلى الملوك المناذرة الذين حكموا في الحيرة لمدة 364 سنة. وقد جانب العديد من المؤرّخين الحقيقة عندما نسبوا هذه الأسر الأربع إلى قبيلة تنوخ، أو إلى حلف تنوخ، فيما هم لا علاقة لهم بهذا ولا بتلك. أمّا من حملوا منهم اسم التّنوخيين، فهم فرع واحد يعود في النّسب إلى أمير مُنذري لَخمي،هو تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طيّ بن تميم بن الملك النعمان أبي قابوس الذي هو الجدّ الأعلى لآل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس(1).
نزل المناذرة اللّخميون سنة 759م في الأقسام الغربيّة من قضاء عاليه، وقضاء المتن الجنوبي (بعبدا حاليا) فدعَوْها “الغرب”، ودُعِيَت الإمارة التي أسّسوها هناك إمارة الغرب، وقد تسلّمها أولاً آل أرسلان، ثم تسلّمها أمير واحد من بني فوارس هو أبو الفوارس مِعْضاد، وتسلّمها أمير واحد من آل عبد الله هو الأمير مجد الدولة، وآلت بعده إلى الأمراء البحتريّين التّنوخيين، نسبة إلى جَدّهم بحتر بن علي بن الحسين بن ابراهيم بن محمّد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جُمَيْهِر بن تَنوخ. لذا عُرفوا باسم البُحتريّين التَّنوخيِّين نسبةً إلى الأمير بُحتر وجدّه الأمير تنوخ، الذي وردت الاشارة إليه.

إلى أي “علم الدين” ينتسب “آل علم الدين” ؟
المألوف في الكثير من التّسميات هو الأسماء المركّبة من اسمين، ثانيهما اسم المرء، وأوّلهما صفة أو كنية تُعطى له، هي على العموم، اسم مركّب أيضاً تدخل فيه غالباً لفظة الجلالة (الله)، مثل عبد الله، أو لفظة “الدين” مثل جمال الدين. وأسماء معظم أمراء آل علم الدين مركّبة من اسم، وكنية أو صفة فيها لفظة “الدين”، هي علم الدين معن، علم الدين سليمان، ركن الدين محمّد، عز الدين جواد، بهاء الدين داود، ظهير الدين علي، ناصر الدين محمّد، سيف الدين غَلاّب، وهذا الاسم الأخير حمله ثلاثة أمراء، هم سيف الدين غَلاّب بن علم الدين معن، وسيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان، وسيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي.
هناك فقط أميران في اسميهما كنية أو صفة علم الدين، هما علم الدين معن، وحفيده علم الدين سليمان. فإلى أيّ علم الدين منهما ينتسب آل علم الدين؟ إنهم ينتسبون إلى الأمير علم الدين سليمان، لأنّ علم الدين معن لا يُعرف عنه سوى اسمه، فيما حفيده علم الدين سليمان اشتُهر بقوّة الشّخصيّة، وميزة القيادة، وجليل المزايا والمناقب، وكان أوّل من تأمَّر من أسرته على جزء من بلاد “الغرب” في العهد المملوكي.

تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين
بدأ تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين مع المؤرِّخ صالح بن يحيى. فهو، بالرّغم من اتّصافه بالموضوعيّة، وبالكتابة اعتماداً على المناشير الرسميّة والوثائق، كان محابياً لقومه البحتريّين التّنوخيِّين، يكره من خاصموهم كبني أبي جيش الأرسلانيِّين، ويُظهر الرّضى والارتياح لمن ناصروهم وتقرَّبوا منهم، كآل علم الدين الذين نسَّبهم إلى البيت البحتريّ التّنوخي، فأرَّخ لأمرائهم مع من أرَّخ للأمراء من هذا البيت. وهذا جعل من نقلوا عنه يُنسِّبونهم إلى البحتريّين التّنوخيين، دون أن ينتبهوا إلى ما ذكره عنهم حين قال عن علم الدين سليمان، الذي ينتسب آل علم الدين إليه: “إنه ابن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن بن مُعْتِب بن أبي المكارم بن عبد الله بن عبد الوهّاب بن هِرماس بن طريف”. وأضاف قائلا: “ورأيت من خطوط بعض المتقدِّمين في الهجرة أن هرماس هو أبو طارق الذي تنسب إليه الطوارقة وهم فخذ من آل عبد الله”(2). وهذا يعني أن الطوارقة وآل علم الدين فخذان من آل عبد الله. كما أنه جاء في السّجلّ الأرسلاني أنَّ هرماس هو ابن طريف بن طارق بن عبد الله(3). وعبد الله هو من ينتسب إليه آل عبد الله.
نقل ابن سباط عن صالح بن يحيى تاريخ البحتريين التنوخيين، وأوضح سبب تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيين، فقال: “إن أمير “الغرب” ناصر الدين الحسين جوَّز [زوَّج] علم الدين سليمان ولم يكن في سلف علم الدين أحد تجوَّز[تزوَّج] منهم، وكان جليل القدر، مُهاباً بين أهله وكلمته فيهم نافذة وأمره مُطاع. ومن علم الدين اتَّصل بيت آل تنوخ وصاروا صفة بيت واحد بالزواج وصاروا أولاد علم الدين يُنسبوا من أمراء الغرب”(4).
وفي حين أوضح ابن سباط أن المُصاهرة هي سبب تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين، فإنه جانب الحقيقة حين ذكر أنَّ أحدًا من سلف علم الدين سليمان لم يتزوّج من البحتريين التنوخيين، ذلك أن والده سيف الدين غلاّب تزوَّج من هؤلاء(5) وأخذ ــ أي تَزَوّج ــ ابنة الأمير نجم الدين محمّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر.
وإضافة إلى زواج الأمير سيف الدين غلاّب وابنه الأمير علم الدين سليمان وسيف الدين غلاّب الثالث من البحتريين التنوخيين، هناك خمس زيجات لهؤلاء من آل علم الدين، ذكرها صالح بن يحيى، وهي:
• زواج الأمير شمس الدين عبد الله بن جمال الدين حجى من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن.
• زواج الأمير شهاب الدين بن زين الدين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير جمال الدين محمّد بن زين الدين صالح من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير علاء الدين علي بن زين الدين صالح بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير ناصر الدين الحسين بن تقيّ الدين إبراهيم بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير ظهير الدين علي بن جواد بن علم الدين سليمان(6).
هذه الزيجات الثماني بين البحتريين التنوخيين وآل علم الدين أظهرتهم كأنَّهم أسرة واحدة، وحملت صالح بن يحيى على تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين الذين هم أكثر شهرة منهم.
وكما أنّ آل علم الدين ليسوا أصلاً من البحتريين التّنوخيين، وإنما نسِّبوا إليهم بالمصاهرة، فإنهم هم أيضا ليسوا أصل الأمراء المعنيين كما رأى بعض المؤلِّفين، وذلك اعتمادا منهم على كلمة “معن” التي يتضمّنها اسم علم الدين معن، والتي هي نفسها اسم “معن” جدّ الأمراء المعنيين. إلاّ أنّ هذا التشابه في الاسم لا يفيد على الإطلاق عن الأصل الواحد، لأنّ أبناء وأحفاد علم الدين معن معروفون، وليس بينهم أي اسم لأمير معنيّ منذ قدوم المعنيِّين إلى لبنان سنة 1120م، كما أنّ آل علم الدين يمنيُّون وأنّ المعنيِّين قيسيُّون، ممّا يؤكّد أيضا الاختلاف في النَّسب(7).

محيط مدينة السويداء في جبل العرب- نكبة اليمنيين كانت بداية إعمار الجبل وتحوله إلى قوة بشرية وسياسية
محيط مدينة السويداء في جبل العرب- نكبة اليمنيين كانت بداية إعمار الجبل وتحوله إلى قوة بشرية وسياسية

ُرِف آل علم الدين في تاريخ لبنان باسم”آل علم الدين الرّمطونيين”، و باسم”آل علم الدين العنداريين”، وعُرِفوا في أواخر عهدهم بـ”أمراء آل علم الدين اليمنيين”. بعض فصول تاريخهم معلوم، وبعضه الآخر غامض، أو المعلومات عنه قليلة. وليس هناك اليوم أيّة أسرة من أسر الموحِّدين الدروز تحمل اسم “آل علم الدين” ولا اسم آل عبد الله الذين تفرّع آل علم الدين منهم، ويعود غموض تاريخ أجداد آل علم الدين وأجداد الفروع الأخرى من آل عبد الله، إلى أنَّه لم يُقيّض لآل عبد الله وبني فوارس من يكتب عنهم ويؤرّخ لهم كما قيِّض لآل أرسلان الذين أضاء السّجلّ الأرسلانيّ عليهم، وكذلك البُحْتريّين التَّنوخيّين الذين أرّخ لهم أحد أمرائهم صالح بن يحيى ثم أكمل ابن سباط تاريخهم إلى سنة 1520 وهي السّنة التي توقف فيها عن الكتابة. وبالعودة إلى تاريخ آل علم الدين، فهو يبدأ عند صالح بن يحيى بعلم الدين معن، وأبنائه، وحفيده الذي يحمل اسم”علم الدين سليمان”.
سنحاول فيما يلي الإضاءة عليهم حتى انتهاء نفوذهم في سنة 1711 جرّاء هزيمتهم في عَيْن دارة، والإضاءة على إشكالية انقراضهم.

أصل آل علم الدين
آل علم الدين فرع من آل عبد الله، وهؤلاء فرع من المناذرة اللّخميين الذين استقدمهم الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من معرّة النعمان في شمال سورية إلى جبل لبنان الجنوبي، ليدافعوا عن بيروت وساحلها ضدّ هجمات الرّوم البيزنطيّين، وليؤمّنوا حماية الطّرق بينها وبين دمشق ضد اعتداءات حلفاء البيزنطيين، والمتعاونين معهم من أبناء البلاد.
وآل عبد الله هم أبناء عم آل أرسلان وآل تنوخ وبني فوارس، ويعودون جميعهم في النّسب إلى الملوك المناذرة الذين حكموا في الحيرة لمدة 364 سنة. وقد جانب العديد من المؤرّخين الحقيقة عندما نسبوا هذه الأسر الأربع إلى قبيلة تنوخ، أو إلى حلف تنوخ، فيما هم لا علاقة لهم بهذا ولا بتلك. أمّا من حملوا منهم اسم التّنوخيين، فهم فرع واحد يعود في النّسب إلى أمير مُنذري لَخمي،هو تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طيّ بن تميم بن الملك النعمان أبي قابوس الذي هو الجدّ الأعلى لآل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس(1).
نزل المناذرة اللّخميون سنة 759م في الأقسام الغربيّة من قضاء عاليه، وقضاء المتن الجنوبي (بعبدا حاليا) فدعَوْها “الغرب”، ودُعِيَت الإمارة التي أسّسوها هناك إمارة الغرب، وقد تسلّمها أولاً آل أرسلان، ثم تسلّمها أمير واحد من بني فوارس هو أبو الفوارس مِعْضاد، وتسلّمها أمير واحد من آل عبد الله هو الأمير مجد الدولة، وآلت بعده إلى الأمراء البحتريّين التّنوخيين، نسبة إلى جَدّهم بحتر بن علي بن الحسين بن ابراهيم بن محمّد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جُمَيْهِر بن تَنوخ. لذا عُرفوا باسم البُحتريّين التَّنوخيِّين نسبةً إلى الأمير بُحتر وجدّه الأمير تنوخ، الذي وردت الاشارة إليه.

إلى أي “علم الدين” ينتسب “آل علم الدين” ؟
المألوف في الكثير من التّسميات هو الأسماء المركّبة من اسمين، ثانيهما اسم المرء، وأوّلهما صفة أو كنية تُعطى له، هي على العموم، اسم مركّب أيضاً تدخل فيه غالباً لفظة الجلالة (الله)، مثل عبد الله، أو لفظة “الدين” مثل جمال الدين. وأسماء معظم أمراء آل علم الدين مركّبة من اسم، وكنية أو صفة فيها لفظة “الدين”، هي علم الدين معن، علم الدين سليمان، ركن الدين محمّد، عز الدين جواد، بهاء الدين داود، ظهير الدين علي، ناصر الدين محمّد، سيف الدين غَلاّب، وهذا الاسم الأخير حمله ثلاثة أمراء، هم سيف الدين غَلاّب بن علم الدين معن، وسيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان، وسيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي.
هناك فقط أميران في اسميهما كنية أو صفة علم الدين، هما علم الدين معن، وحفيده علم الدين سليمان. فإلى أيّ علم الدين منهما ينتسب آل علم الدين؟ إنهم ينتسبون إلى الأمير علم الدين سليمان، لأنّ علم الدين معن لا يُعرف عنه سوى اسمه، فيما حفيده علم الدين سليمان اشتُهر بقوّة الشّخصيّة، وميزة القيادة، وجليل المزايا والمناقب، وكان أوّل من تأمَّر من أسرته على جزء من بلاد “الغرب” في العهد المملوكي.

تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين
بدأ تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين مع المؤرِّخ صالح بن يحيى. فهو، بالرّغم من اتّصافه بالموضوعيّة، وبالكتابة اعتماداً على المناشير الرسميّة والوثائق، كان محابياً لقومه البحتريّين التّنوخيِّين، يكره من خاصموهم كبني أبي جيش الأرسلانيِّين، ويُظهر الرّضى والارتياح لمن ناصروهم وتقرَّبوا منهم، كآل علم الدين الذين نسَّبهم إلى البيت البحتريّ التّنوخي، فأرَّخ لأمرائهم مع من أرَّخ للأمراء من هذا البيت. وهذا جعل من نقلوا عنه يُنسِّبونهم إلى البحتريّين التّنوخيين، دون أن ينتبهوا إلى ما ذكره عنهم حين قال عن علم الدين سليمان، الذي ينتسب آل علم الدين إليه: “إنه ابن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن بن مُعْتِب بن أبي المكارم بن عبد الله بن عبد الوهّاب بن هِرماس بن طريف”. وأضاف قائلا: “ورأيت من خطوط بعض المتقدِّمين في الهجرة أن هرماس هو أبو طارق الذي تنسب إليه الطوارقة وهم فخذ من آل عبد الله”(2). وهذا يعني أن الطوارقة وآل علم الدين فخذان من آل عبد الله. كما أنه جاء في السّجلّ الأرسلاني أنَّ هرماس هو ابن طريف بن طارق بن عبد الله(3). وعبد الله هو من ينتسب إليه آل عبد الله.
نقل ابن سباط عن صالح بن يحيى تاريخ البحتريين التنوخيين، وأوضح سبب تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيين، فقال: “إن أمير “الغرب” ناصر الدين الحسين جوَّز [زوَّج] علم الدين سليمان ولم يكن في سلف علم الدين أحد تجوَّز[تزوَّج] منهم، وكان جليل القدر، مُهاباً بين أهله وكلمته فيهم نافذة وأمره مُطاع. ومن علم الدين اتَّصل بيت آل تنوخ وصاروا صفة بيت واحد بالزواج وصاروا أولاد علم الدين يُنسبوا من أمراء الغرب”(4).
وفي حين أوضح ابن سباط أن المُصاهرة هي سبب تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين، فإنه جانب الحقيقة حين ذكر أنَّ أحدًا من سلف علم الدين سليمان لم يتزوّج من البحتريين التنوخيين، ذلك أن والده سيف الدين غلاّب تزوَّج من هؤلاء(5) وأخذ ــ أي تَزَوّج ــ ابنة الأمير نجم الدين محمّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر.
وإضافة إلى زواج الأمير سيف الدين غلاّب وابنه الأمير علم الدين سليمان وسيف الدين غلاّب الثالث من البحتريين التنوخيين، هناك خمس زيجات لهؤلاء من آل علم الدين، ذكرها صالح بن يحيى، وهي:
• زواج الأمير شمس الدين عبد الله بن جمال الدين حجى من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن.
• زواج الأمير شهاب الدين بن زين الدين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير جمال الدين محمّد بن زين الدين صالح من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير علاء الدين علي بن زين الدين صالح بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير ناصر الدين الحسين بن تقيّ الدين إبراهيم بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير ظهير الدين علي بن جواد بن علم الدين سليمان(6).
هذه الزيجات الثماني بين البحتريين التنوخيين وآل علم الدين أظهرتهم كأنَّهم أسرة واحدة، وحملت صالح بن يحيى على تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين الذين هم أكثر شهرة منهم.
وكما أنّ آل علم الدين ليسوا أصلاً من البحتريين التّنوخيين، وإنما نسِّبوا إليهم بالمصاهرة، فإنهم هم أيضا ليسوا أصل الأمراء المعنيين كما رأى بعض المؤلِّفين، وذلك اعتمادا منهم على كلمة “معن” التي يتضمّنها اسم علم الدين معن، والتي هي نفسها اسم “معن” جدّ الأمراء المعنيين. إلاّ أنّ هذا التشابه في الاسم لا يفيد على الإطلاق عن الأصل الواحد، لأنّ أبناء وأحفاد علم الدين معن معروفون، وليس بينهم أي اسم لأمير معنيّ منذ قدوم المعنيِّين إلى لبنان سنة 1120م، كما أنّ آل علم الدين يمنيُّون وأنّ المعنيِّين قيسيُّون، ممّا يؤكّد أيضا الاختلاف في النَّسب(7).

بلدة عين دارة التي شهدىت نهاية الحكم القصير لآل علم الدين على يد حيدر الشهابي
بلدة عين دارة التي شهدىت نهاية الحكم القصير لآل علم الدين على يد حيدر الشهابي

آل علم الدين العنداريون
إنّ آخر أمراء آل علم الدين، الذين ذكرهم المؤرِّخان صالح بن يحيى وابن سباط، هم سيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي، وأبناء أخيه عزّ الدين حسن: يوسف، وأحمد وناصر الدين محمّد.
وبعد سنة 1406م لا نعرف عن آل علم الدين شيئاً إلى أن برز في القرن السابع عشر عَلَمان منهم في عين داره، هما الشيخ مظفّر العنداري وابن أخيه الأمير علي العنداري، مع أنّهما كانا خلال تلك الفترة مُقدَّمَيّ الجُرد، ويقيمان في قاعدته عين داره التي عُرفا بها. فإنّه لم يَرِد ذكرُ أيٍّ منهما في أخبار حملة الوالي العثماني إبراهيم باشا على الجبل سنة 1585، وهو الذي جعل مخيَّمَه في عين صوفر قريباً من عين داره، والذي أحرق العديد من قرى الجرد والمتن والغرب والشوف ومنها قرية عين داره التي ورد الحديث عنها في الوثائق العثمانية أنّها تمنَّعت قبل سنة 1585 عن دفع الضّرائب المترتِّبة عليها للدولة العثمانية، وأنَّ أهلها بقيادة أبي عَرام [ربما أبي عرم]، ويوسف بن هرموش هاجموا منزل السّباهي المكلّف بجمع الضّرائب، محمّد بن الحَنَش(17).
اللّافت هو حمل مظفّر لقب “الشيخ”، وحمل علي ابن أخيه لقب”الأمير”. إلّا أنّ لقب “الشيخ” يماثل في العديد من العشائر والبلدان لقب “الأمير”. فشيخ القبيلة هو بمثابة أمير لها، وشيوخ بعض الدول والإمارات العربيّة هم أمراؤها وملوكها. وحمل مظفّر لقب “الشيخ” عائد، في رأينا، إلى صفة دينيّة متأتِّية من انضمامه إلى سلك رجال الدين، وهو بهذا يشبه أميراً تنوخيًّا معاصراً له هو الشّيخ أحمد العينابي المعروف باسم بلدته عيناب، كما يشبه أميراً آخر معاصراً له كذلك هو الشّيخ بدر الدين حسن العنداري.

تزعُّم آل علم الدين الغرضيّة اليمنيّة
حملت القبائل والعشائر العربيّة النازحة من الجزيرة العربيّة نزعاتها القبليّة والعشائريّة، وتعصَّبت كلٌّ منها للطّبقة التي تنتمي إليها من الطبقات التالية: الفخذ المعروف حاليًّا بالجبّ، والبطن، والعمارة، والعشيرة، والقبيلة، والشَّعب (بفتح حرف الشين) (18). كما تعصَّبت لأصولها الأولى الرّئيسة، وتأطَّرت تحت مجموعتين كبيرتَين هما عرب الشمال، أي القيسيّة أو العدنانيّة، وعرب الجنوب، أيّ اليمنيّة أو القحطانيّة. وحملت القبائل والعشائر العربيّة هذين الانتماءين، اللَّذَين سُمِّيا الحزبيَّتَين (القيسيّة واليمنيّة) إلى كل المناطق التي انتقلت إليها، وحتى إلى إسبانيا (الأندلس). إلاّ أنّ هاتين الحزبيَّتَين لم تظهرا عامل تفرقة ونزاعات وحروب في المقاطعات اللبنانية إلا في عهد الأتراك العثمانيين الذين شاؤوا خلق الصراعات بين زعماء العشائر وتفريقهم فيما تكتَّل هؤلاء تحت لواءي القيسيّة واليمنيّة في صراعهم من أجل المحافظة على النفوذ وزيادته.
كان المناذرة اللّخميون بفروعهم الأربعة: آل أرسلان وآل تنوخ وآل عبد الله وبني فوارس، يمنيِّين، فيما كان المعنيُّون والشّهابيُّون قيسيِّين. وكان هناك إلى جانب هذه الأسر الحاكمة للمقاطعات اللّبنانيّة أُسَرٌ يمنيّة وقيسيّة عِدّة. إلاّ أنّ الولاء للقيسيّة واليمنيّة لم يكن ثابتًا ومستمرًّا في كل الأحوال وجميع الأزمان، بل كان يتغيّر تبعاً للواقع السياسيّ والظروف والمصالح. ومن وجوه ذلك أنّ آل أبي اللمع المتحدّرين من أصل بني فوارس اليمنيين كانوا في مطلع العهد الشهابي قيسيِّي الولاء، وأن البحتريين التنوخيين اليمنيين ناصروا المعنيين القيسيين.
سعى الأمير فخر الدين المعني الثاني لتوحيد أبناء المقاطعات اللبنانية على مختلف أديانهم ومذاهبهم وغرضيّاتهم، وحاول الجمع بين القيسيّة واليمنيّة، مضمِّنا عَلَمه شعار القيسيين الأحمر وشعار اليمنيين الأبيض. لكن النّزعة الحزبيّة ظلّت كامنة في النفوس تستيقظ أو يوقظها الولاة العثمانيون، وظلّت تشكّل عامل تفرقة وعدم استقرار بين أمراء المقاطعات اللبنانية.
انضوى آل علم الدين اليمنيّون تحت شعار اليمنيّة المتّخذ في المقاطعات الللبنانية، عند الموحِّدين الدروز، وهو اللون الأبيض وزهرة الخشخاش، وهتفوا تحيّةَ اليمنيِّين المعتمدة أثناء التجمُّعات وأثناء السّير إلى القتال، وهي”يا آل المعروف”. والمعروف ضد المنكر، ومن معانيه الجود والكرم، وهو لقب جميع الموحِّدين الدروز المحبَّب إليهم، ثم صار اسما للموحِّدين الدّروز في سورية. أمَّا شعار القيسيين فكان اللون الأحمر وزهرة السّوسن، وتحيّتهم هي”هوبر”، وأصلها “هو البار”، أي هو الله تعالى.
ظهرَ آل علم الدين في عهد الأمير فخر الدين الثاني من قادة اليمنيين الذين وقفوا ضدّه أثناء حملة أحمد حافظ باشا عليه سنة 1613، وأثناء حملة أحمد الكجك باشا عليه سنة 1633. ثم ظهروا رأس الحربة اليمنيّة في مواجهة ورثته بين سنتَي 1633 و1697، وبعد ذلك في مواجهة الأمراء الشهابيّين في بداية تسلُّمهم لإمارة الجبل بعد المعنيِّين.

الشيخ مظفّر علم الدين العنداري
برز دور الشيخ مظفّر العنداري عند قدوم حملة أحمد حافظ باشا على فخر الدين، وذلك حين توجّه إليه ووضع نفسه في خدمته، فأعطاه الحافظ “الغرب” والجرد والمتن، وأمره أن يجمع رجال هذه المناطق ويسير بهم إلى رأس الشّوف ثم إلى الشويفات. لقد كان لآل علم الدين مقاطعة الجرد، وأحيانا المتن، لكنَّ حافظ باشا أعطى للشيخ مظفّر زيادة عليها “الغرب” مكافأة له على انضمامه إليه، وقتاله مع عسكره ضد فخر الدين.
خاض الشيخ مظفّر برجال “الغرب” والجُرد والمتن غِمار القتال ضدّ أهالي عين زحلتا والباروك وسائر قرى رأس الشوف، واستمرَّ القتال طوال نهار كامل، “وكان الحرب بينهما سجالاً تارة لهؤلاء وتارةً لهؤلاء لأنّ الجميع أولاد البلاد يعرفون مظنّات بعضهم بعضاً”، ما اضطرّ حافظ باشا إلى إرسال نجدة للشيخ مظفّر الذي كان مهزوماً، فعاود الهجوم على أهل الشوف، فارتدّ هؤلاء إلى نبع الباروك حيث ثبتوا هناك، ثم ما لبثوا أن انسحبوا عند قدوم عسكر الحافظ وأنصاره لنجدة الشيخ مظفّر(19).
تابع الشيخ مظفّر العنداري اشتراكه في القتال ضد الأمير فخر الدين، فحضر برجاله مع أحد قادة الحافظ (حسين آغا) إلى عْبَيه حيث كبسوا الأمير ناصر الدين التّنوخي، وحاصروه وأحرقوا عْبَيه. ثم عاد وساهم مع ابن سيفا في حرق بعض قرى الشّوف(20).
استطاع الأمير علي بن فخر الدين، وعمّه الأمير يونس، إعادة جمع أنصار المعنيّين، وقدِم إليهم حليفهم علي الشهابي من وادي التّيم، وهاجموا رجال الشيخ مظفّر وحليفه ابن سيفا عند عين الناعمة. وهناك وقعت كبرى المواقع الأربع التي دارت في يوم واحد وانتصر فيها الأمير علي المعني وحلفاؤه. وقد هُزم الشيخ مظفّر في الناعمة وقُتلت فرسُه، وانسحب مع ابن سيفا إلى عكّار حيث أقام في قرية شدره، وظلّ فيها إلى ما بعد عودة فخر الدين من أوروبّا سنة 1618. ثم إنه لجأ إلى قلعة الحصن ليشترك مع ابن سيفا في الدّفاع عنها عندما ذهب فخر الدين إلى عكّار للانتقام من آل سيفا. لكنّ الأمير فخر الدين راسل الشيخ مظفّر بعد انتصاره على ابن سيفا، وأعطاه الأمان، واستقدمه “وأعطاه حكم بلاد الجرد لأنّ أصله منها وأجداده من قديمٍ حكّام بها”(21). وفي هذا الكلام الذي أورده الخالدي في تاريخ فخر الدين دلالة على توطّن آل علم الدين لعين داره بعد انتقالهم مباشرة من رمطون.

الأمير فخر الدين
الأمير فخر الدين

الأمير علي علم الدين العنداري
عُرف الأمير علي علم الدين بلقب”العنداري”. وعُرف أيضا بلقب اشتهر به أكثر من اللقب الأوّل هو”اليمنيّ” لترؤُّسِه الحزب اليمني في صراعه ضد المعنيين زعماء الحزب القيسي.
وكما انضمّ الشيخ مظفّر علم الدين العنداري إلى أحمد الحافظ باشا عند قدومه سنة 1613 لمحاربة الأمير فخر الدين، كذلك انضمّ ابن أخيه (الأمير علي) إلى أحمد الكجك باشا عند قدومه سنة 1633 لمحاربة فخر الدين. فأعطاه الكجك ولاية الشوف إضافة إلى إقطاعه. وبهذا دخل في صراع مع ابن أخي الأمير فخر الدين (ملحم يونس) على إمارة الشوف، إذ إنّ الأمير ملحم ترك مخبأه وحضر إلى الشوف، وهاجم سنة 1635 الأمير علي في المقيرط(22) حيث انتصر عليه، وقتل مدبّر الكجك، فوصل هذا مع أخبار الاضطرابات التي أثارها الأمير ملحم في الشوف إلى السلطان مراد الرابع العثماني، فأمر بإعدام الأمير فخر الدين الذي كان سجينا في الآستانة منذ سنة 1633.
بعد ذلك بقي الأمير علي علم الدين ينازع الأمير ملحم المعني على الإمارة لسنوات، مستقوِيًا بوالي دمشق. ومن المواقع التي خاضها الاثنان، بالإضافة إلى موقعة المقيرط التي ورد ذكرها، ما يلي:
• موقعة قب الياس سنة 1633 التي انتصر فيها الأمير علي وعسكر الشام على القيسيّة، وكانت نكبة لآل العماد(23).
• موقعة أنصار سنة 1638 التي تغلّب فيها الأمير ملحم على الأمير علي، وأولاد علي الصغير، وأصحاب الأغراض من اليمنيّة(24).
• موقعة وادي القرن سنة 1650 التي انتصر فيها الأمير ملحم والشهابيون على الأمير علي وعسكر الشام الذي يساعده(25).
كان الأمير علي علم الدين مثالاً في الرّجولة والشجاعة، ومثالاً في الوقت نفسه في البطش والإجرام. ومن الشواهد على رجولته وشجاعته البطولات التي أبداها في حرب السلطان العثماني مراد الرابع في العراق ضدّ شاه العجم، ما رفع منزلته عند السلطان وجعله من المقرَّبين إليه. ومنها أنه حين كان في السّرادق أمام السلطان، من جملة القوَّاد الماثلين أمامه، حصل اضطراب في الجيش سببه اقتحام أسدٍ ضارٍ لصفوفه وبطشه بمن لقيهم. وحين علم الأمير علي بذلك انتضى سيفه وكرّ على الأسد وصرعه بضربة واحدة، وعاد إلى السّرادق وكأنّ شيئا لم يحدث، فأثنى السلطان عليه.
ومن وجوه بطش الأمير علي علم الدين، وإفراطه فيه، فتكه بأقاربه الأمراء التنوخيِّين كبارا وصغارا سنة 1633 بعد تسلُّمه حكم الشوف، أثناء حملة أحمد الكجك باشا على الأمير فخر الدين الثاني. وسبب ذلك هو حقده عليهم لمناصرتهم خصومه المعنيِّين.
وقد اعتقد الكثير من المؤلِّفين أنّ التنوخيين أُبيدوا وانقرضوا سنة 1633. وفي الحقيقة أنه بقي منهم أُسَرٌ عديدة، هي بأسماء الأجداد المتأخِّرين لا باسم البحتريين التنوخيين، وهذه الأُسر معلومة وموجودة حتى اليوم في بعض قرى الشحّار(26).

الأميران موسى ومنصور علم الدين
من الطبيعي أن يطمح آل علم الدين إلى توسيع إقطاعهم في الجرد ليشمل المتن والغرب والشوف، وليخلفوا المعنيِّين في إمارة الجبل، تشجّعهم على ذلك الدولة العثمانية التي أصدرت الحكم بإعدام الإمارة المعنيّة سياسيًّا يوم أَعدم السلطان مراد الرابع فخر الدين الثاني في الآستانة، وحين أنشأت الدولة العثمانية ولاية صيدا سنة 1660 لمراقبة الإمارة المعنيّة التي أتعبتها فأعدّ واليها محمّد باشا كمينًا لولدَي الأمير ملحم المعنيّ: أحمد وقرقماس، في عين مزبود سنة 1662، فقُتل الأمير قرقماس ونجا الأمير أحمد بأعجوبة.
كان الأمير علي علم الدين البديل عن الأمير ملحم المعنيّ في كل مرة تغضب عليه الدولة العثمانية، وتعزله بسبب عجزه أو تعجيزه عن ضبط الأمن وجمع الضرائب. وبعد وفاته سنة 1660 صار ولداه موسى ومنصور البديل عن الأمير أحمد بن الأمير ملحم المتوفَّى في سنة 1658، كما أنّ والي دمشق ولاّهما على حاصبيّا وراشيّا بدلاً من أصحابهما الأمراء الشهابيِّين، وكانت التّوجيهات والأوامر تصدر عبر الرسائل المتلاحقة إلى والي طرابلس، ووالي صيدا وبيروت، ووالي دمشق، ومُتسلِّم حلب، ومُتصرّف سنجق غزّة، وجميع القضاة والأعيان وذوي الشأن، أن يتعاونوا لتسليم الحكم إلى الأمير موسى علم الدين، وعزل الأمير أحمد المعني وملاحقته والقضاء عليه وإنهاء الاضطرابات التي يثيرها، ومصادرة جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة(27).
تسلَّم الأمير موسى الإمارة بدلاً من الأمير أحمد المعني، بمساعدة الدولة العثمانية، لكنه تنحَّى عنها سنة 1695 بسبب عجزه عن تحصيل الضرائب، وبسبب المعارضة التي لقيَها من الأهالي جرّاء تحريض الأمير أحمد المعني وابن شهاب لهم. وبما أنّ الدولة العثمانية كانت غاضبة على الأمير أحمد وتتّهمه بمساعدة الثائرين عليها في شمال جبل لبنان، أَصدرت الأوامر إلى والي طرابلس لإعادة الأمير موسى(28)، لكنّ الأمير أحمد استمرّ في الحكم حتى وفاته سنة 1697.
ورد اسم الأمير موسى مع اسم أمير آخر من آل علم الدين، هو الأمير نعمان كشاهدين في صك بيع “السّت الكبيرة أم الأمير نعمان الشهير نسبه الكريم” غرسة جوز مثمرة “إلى الشيخ أبي حرب ابن الشيخ محمّد علاء الدين الشهير بابن عطا الله، من قرية عين داره من بلاد الجرد عمل بيروت المحروسة” وذلك بتاريخ ربيع أوّل سنة1102هـ (كانون أوّل 1690م). وقد ورد ختماهما على ظهر الصّك مقابل إِمضاءَيْهِما ضمن دائرة: بنده نعمان مظفّر- بنده موسى آل مظفّر(29).

آل علم الدين واسترداد الإمارة الدرزيّة
توفِّي الأمير أحمد المعني بدون عقب، وانتهت بموته سلالة الأسرة المعنية الموجودة في الشوف. لكن المعنيِّين لم ينقرضوا إذ كان هناك أسرتان منهم، متخفِّيتان عن غضب الدّولة العثمانية، أولاهما في قرية إبل السّقي في الجنوب اللبناني، وثانيتهما في قرية عُرنة السُّورية الواقعة في السّفح الشّرقي لجبل حرمون، هي من سلالة الأمير علي بن فخر الدين الثاني(30).
اجتمع أعيان القيسيّة في السّمقانية لاختيار أمير عليهم يخلف الأمير أحمد المعني في حكم الجبل. ولما كان لا يوجد في الجبل أمراء قيسيُّون يختارون منهم أميراً، ولما كانوا لا يرضون بأمير يمني من آل أرسلان، ولا بأمير يمني من آل علم الدين، فقد شكَّل الأمراء الشهابيون القيسيُّون، حكام حاصبيّا وراشيّا في وادي التّيم، مخرجاً لهم سواء اتَّفقُوا على ابن أخت الأمير أحمد: الأمير بشير حسين أمير راشيّا، أو ابن ابنة الأمير أحمد: الأمير الصغير حيدر موسى، أمير حاصبيّا. ومن الطبيعي أن يكون قرار الدولة العثمانية هو الأساس أولا وأخيراً. وهكذا كان، إذ تفيد الوثائق العثمانية عن قبول السلطان بتولية أميرٍ شهابي على”جبل الشوف” هو أوّلاً الأمير بشير حسين، وبعده الأمير حيدر موسى حين يبلغ سن الرشد.
فضّل القيسيُّون الدروز أميراً شهابيًّا قيسيًّا من غير مذهبهم وغير منطقتهم على أمير يمني من مذهبهم ومنطقتهم، مغلِّبين عامل الانتماء الحزبي على عامل الانتماء المذهبي، إذ إن مذهب الشهابيِّين هو المذهب السُّنِّيّ، فخسر الموحِّدون الدروز الإمارة التي كانت لأُسَرِهم منذ الإعلان عن مذهب التوحيد سنة1017م، وكانت لأسلافهم منذ أن قدموا إلى جبل لبنان سنة759م.
كانت الموافقة العثمانية على الأمير بشير الشهابي الأوّل مشروطة بتأدية الأموال المترتِّبة عليه، والأموال المتأخِّرة على الأمير أحمد المعني. وقد تكفّل الأعيان الذين اجتمعوا في السمقانيّة بتسديد الأموال المتأخِّرة، وهذا أمَّن موافقة الدولة العثمانيّة. ثم جاءت مقدرة الأمير بشير الأوّل على جمع الضّرائب في منطقة التزامه من كسروان إلى صفد، وفرض هيبته، وتغلُّبِه على خصومه، لتؤمِّن استمراريّته في الحكم حتى سنة 1706 حين دسّ له أنصار الأمير حيدر موسى الشهابي السّمّ في الحلوى ومات. فانتقلت الإمارة إلى الأمير حيدر بموافقة الدولة العثمانية، المشروطة بتأديَة الضرائب المطلوبة منه والمتأخّرة على الأمير بشير.
لم يَرْضَ اليمنيُّون وعلى رأسهم آل علم الدين، بتوليَة الأمير بشير الشهابي الأوّل على الجبل، لكنهم في بادئ الأمر لم يقرنوا عدم رضاهم، ولم يقرنوا معارضتهم، بالتحرّك الميداني، وبالعمل لعزل الأمير الشهابي، وتسلّم الإمارة بدلاً عنه كما كانوا يفعلون سابقاً مع الأمراء المعنيِّين، لأنهم ما كان بمقدورهم ذلك إلا إذا تأخّر الأمير الشهابي عن ضبط الأمن، وتأدية الضّرائب للدولة العثمانيّة في أوقاتها، وإلاّ إذا حرّضتهم الدّولة العثمانيّة على مناهضته. وقد حصل ذلك في عهد الأمير الشاب حيدر الشهابي الذي عجز عن حفظ الأمن وتأدية الضرائب، فاعتبرته الدولة، بتعليماتها الصادرة في سنتي1707 و1708، عاصياً يجب طرده، وتعيين بديل عنه، لأنّه تمنّع عن دفع المترتّب عليه، وماطل وزعماء الدروز في ذلك.
آنذاك ظهر منافس للأمير حيدر الشهابي هو محمود أبو هرموش، من أسرة بني الشويزاني العريقة. كان نائبه في جمع الضرائب من جبل عامل. وقد تقرّب من والي صيدا، واستحصل منه على لقب الباشويّة. ثم تعاون مع آل علم الدين والأرسلانيّين، الذين تظاهروا ضد الأمير حيدر، فعجز الأمير عن الوقوف في وجه هذا التكتّل المدعوم من والي صيدا، وترك مَقرّ إمارته في دير القمر سنة 1709، ولجأ إلى غزير، وبعد طرده منها من قِبل خصومه لجأ إلى الهرمل واختبأ في مغارة فاطمة المعروفة أيضا بمغارة عزرائيل.
تسلّم آل علم الدين حكم الجبل بعد خلع الأمير حيدر الشهابي، لكن تجربتهم فيه كانت، كسابقاتها في العهد المعني، غير ناجحة، إذ لاقوا الصعوبات في جمع الضرائب، ولم تفسّر الأكثريّة الدرزيّة القيسيّة في الجبل تسلّمهم للحكم أنّه استعادة للإمارة الدرزية، بل فسَّرَته استعادة لنفوذ يمني لا يريدونه، فبدأوا يتصلون بالأمير حيدر، ويطلبون عودته، فترك مخبأه في الهرمل وعاد إلى الجبل في أوائل سنة1711، ونزل عند حلفائه اللّمعيين في رأس المتن، حيث بدأ القيسيون يتوافدون إليه ويتجمّعون لمحاربة اليمنيين، ثم التحموا معهم في موقعة عين داره حيث انتصر الأمير حيدر، وعاد إلى الحكم قاضياً بمساعدة القيسيّين له على محاولة آل علم الدين ومحمود باشا أبو هرموش استعادة الإمارة، إذ بات التّنافس بعد ذلك على إمارة الجبل محصورا بالأمراء الشهابيّين الذين استمرُّوا في الحكم إلى حين عزل آخر أمير منهم في سنة1841 هو الأمير بشير الثالث.

نهاية آل علم الدين والحزب اليمني
تقع عين داره إلى الغرب من مَمَرِّ ضهر البيدر عند المدخل الشرقي لجبل لبنان الجنوبي، وعلى مفترق الطرق المؤدّية إليه، والذاهبة منه إلى البقاع. اكتسبت بموقعها المميّز أهميّة استراتيجيّة، ربما أعطتها أحد معاني اسمها: دار الحرب. واكتسبت بخراجها الواسع، الغني بالمراعي والأراضي الخصبة والمياه، أهميّة اقتصاديّة سمحت بسكنها وتزايد سكّانها، ما أعطاها أحد معاني اسمها: عين البيوت والمساكن.
كانت عين داره مقرّ آل علم الدين ومركز إقطاعهم بعد تركهم لرمطون، ثم كانت في سنة1711 مركزاً لتجمّع أنصارهم، ورجال محمود باشا أبو هرموش، بقصد أن يهاجموا، بعد استكمال حشدهم، جموع القيسيّين التي تلتقي في رأس المتن. وكان آل علم الدين يتوقّعون وصول والي دمشق الذي حضر لنجدتهم ونزل في قب الياس، ووصول والي صيدا الذي حضر لنجدتهم أيضا ونزل في حرج بيروت. لكن الأمير حيدر قام بمغامرة جريئة إذ هاجم على رأس رجاله القيسيِّين عين دارة بشكل كَبْسة ليل الجمعة في 15محرّم 1123هـ (5 آذار 1711)، وتمكّنوا بفضل عنصر المفاجأة وكثرة العدد من التغلّب على اليمنيِّين وقتل خمسمائة رجل منهم، ومعظم قادتهم بمن فيهم بعض أمراء آل علم الدين، فيما أُسِر أربعة من هؤلاء أو ثلاثة، هم منصور وأحمد ويوسف، الذين أجهزَ عليهم الأمير حيدر على نبع الباروك. وحين علم واليَا دمشق وصيدا بالنتيجة عادا إلى مقرَّي ولايتيهما ليتعاملا مع الواقع الجديد، ومع المنتصر، إذ كان الهمّ الأساس عند الولاة ضبط الأمن وجمع الضرائب أكثر من هُوِيّة الأمير الحاكم.
أُسِرَ محمود باشا أبو هرموش في الموقعة، لكن الأمير حيدر لم يقتله احتراماً للقب الباشويّة، واكتفى بقطع لسانه وإبهاميه. ثم إنه هدم قصره في السمقانيّة، وقصر أخيه هزيمة في بعقلين.
كان من نتائج هزيمة اليمنيين، في موقعة عين داره، إعادة الأمير حيدر الشهابي توزيع الإقطاع، ما أدَّى إلى بروز مشيخات درزيّة جديدة، منها آل تلحوق الذين فتكوا بآل حمدان اليمنيِّين المقيمين في قرية كفرا(الغرب)، وآل عبد الملك الذين فتكوا بالتعاون مع آل شيّا، ببني هرموش اليمنيين المقيمين في مجدل بعنا، الواقعة في الجرد، والتي لا زالت فيها حارة وبيادر في خراجها تعرف باسمهم، كما أنه ظلّت لهم أملاك مُسجّلة باسمهم حتى أوائل النّصف الثاني من القرن العشرين(31). وقد ذكرت الوثائق العثمانية قائدًا لسكّان عين داره في سنة 1564 إبّان تمرّدهم على الدولة العثمانية، وامتناعهم عن دفع الضرائب، اسمه يوسف بن هرموش، ومن المرجَّح أنّ هذا هو من أقارب آل أبو هرموش في مجدل بعنا، لكنّنا لا نعلم إذا كان هؤلاء أقارب محمود باشا أبو هرموش، أم أنّ ما يجمعهم به هو الاسم”هرموش” فقط، مع العلم أنّ اسم العائلة”هرموش” أو”أبو هرموش” هو واحد. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن آل هرموش كان لهم إقامة في بلدة نيحا، ولهم ملكيّات عقاريّة بالقرب منها، في مرج بسري، وفي منطقة جزِّين.

آل العبد الله في الخيام يعتقدون بتحدرهم من آل علم الدين التنوخيين
آل العبد الله في الخيام يعتقدون بتحدرهم من آل علم الدين التنوخيين

عدم انقراض آل علم الدين
كما أخطأ الكثير من المؤرِّخين حين حكموا بانقراض المعنيِّين بعد موت الأمير أحمد المعني بدون عقب سنة 1697، كذلك أخطأ الكثير منهم حين حكموا بانقراض آل علم الدين في موقعة عين دارة. فمِمّا لا شك فيه أنّ مَن حضروا هذه الموقعة من آل علم الدين أُبِيدوا فيها أو أُبِيدوا بعد أسْرِهم. وممّا لا شكّ فيه أيضا أنّهم لم ينقرضوا، ذلك أنّ بقاياهم ظهرت حسبما يروى في مكانين، هما بلدة الخيام ومدينة دمشق. وعن وجودهم في بلدة الخيام يقول أمين بك آل ناصر الدين ما يلي:
“يؤكِّد آل عبد الله في(خيام مرجعيون) ومن كبار زعماء الشيعة في جبل عاملة أن لديهم من الاستدلالات التاريخية الثابتة ما يرجعهم إلى آل علم الدين التنوخيين، وأنّ جدّهم نزح من مواطن التنوخيين في مشارف الغرب والجرد إلى بلدة الخيام واستقرّ فيها، وكان من نسله هذه الأسرة الكبيرة المعروفة اليوم بآل عبد الله، وكتب إلينا الحاجّ علي عبد الله مفتي مرجعيون يزيد على هذا التأكيد، أنّ في حيازة الأسرة كتابًا خطيًّا قديما موسومًا بهذه العبارة: لقد دخل هذا الكتاب في ملك موسى ابن علم الدين التنوخي من آل عبد الله القاطن بالخيام من أعمال مرجعيون سنة 750 للهجرة”(32).
إنّ الكلام الوارد أعلاه غير قابل للنقاش عندنا إلاّ فيما يتعلّق بتاريخ الكتاب الذي دخل في ملك موسى ابن علم الدين وهو سنة 750 للهجرة، إذ إن هذه السنة توافق سنة 1349م، وهي سنة لم يكن فيها، حسبما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وتاريخ ابن سباط، أمير من آل علم الدين اسمه موسى.
ويورد أحمد أبو سعد عن نسب آل عبد الله الكلام التالي: “أمّا المسلمون الشيعة من أبناء الخيام، فهؤلاء يرجع نسبهم كما يروي أحد أبنائهم إلى آل عبد الله التنوخيين، وما يزال البعض منهم مسجَّلاً في جدول الإحصاء القديم باسم التنوخي، والمنقول أنهم جاؤوا تلك البلدة في منتصف القرن 16، واتَّخذوها وطنًا لهم، وأوّل من جاء منهم موسى بن علم الدين التنوخي وبصحبته ولده عبد الله الذي أورث الأسرة اسمه”(33).
كانت دمشق ملجأ آل علم الدين الأول في كل مرّة ينهزمون فيها أمام المعنيّين، حيث يستظلُّون بحماية الولاة الذين يناصرونهم. ومن بقاياهم فيها أسرة مسلمة سنِّيَّة كانت أخبار نسبها ومذهبها الدرزي معلومة عند أفرادها، مجهولة عند غيرهم وعند المؤلِّفين، إلى أن كشف ذلك أحد أبنائها، عزّ الدين علم الدين التنوخي، الذي أعلن هُوِّيَّته وأصله في الثلاثينيات من القرن العشرين، فقال: “إنه من أصل آل علم الدين التّنوخيِّين”. وقد كان عضو المجمع العلمي في دمشق وأحد أساتذة جامعتها. وتسلَّم مديريّة المعارف في محافظة جبل العرب سنة 1945، وله الفضل في تكريس اسم الجبل رسميًّا (جبل العرب)، بعد أن كان اسمه في عهد الانتداب الفرنسي: جبل الدروز.
اشترك 1800 ضابط وجندي درزي من جبل العرب بتحرير الجبل من الفرنسيِّين في أواخر أيّار 1945. واشتركت في الوقت نفسه قوّة من الخيّالة الدرزية، وبعض المجاهدين الدروز، في الدفاع عن دمشق عند مهاجمة الفرنسيِّين لها يومي 29 و30 أيّار 1945، فكان هذا مبعث فخر عند عزّ الدين علم الدين التنوخي بقومه الدروز، وبقائد الثورات السورية التحرُّريّة: سلطان باشا الأطرش، فارتجل في الجامع الأموي البيتين التاليَين:
يـــــــــــــــا معشر المستعمريـــــــــــــن ترحّلـــــــــــــوا قَومي الدروز تكفَّلوا الترحيلا
سَيغولكم سلطان يهزم جمعكم فيريكــــــــــــــم يـــــــــــــوم الحســـــــــــــاب ثقيــــــــــــــلا

من ذاكرة الجبل

من ذاكرة الجبل

بسبب الإفتراء على الدّروز في مجلس الأمير فيصل

مواجهة بين جاد الله شلهوب وأمير قبيلة الرْوَلَه

عندَ الإمتحان فرَّ الشّعلان وخَسِرَ الرِّهان

عندما تقدّم الجيش العربيّ الذي كان يقوده الأمير فيصل بن الحسين وخيّم في واحة الأزرق التي كانت حينها من أملاك جبل الدروز قَبْل ضمّها للأردن من جانب الإنكليز والفرنسيين. وقد كانت وجهة جيش فيصل تحرير الشّام من سلطة الأتراك والدّخول إليها عبر الطّريق الصّحراوي المارّ من أراضي الأردنّ فدرعا إلى دمشق، وبناء على المراسلات التي كانت تجري بين سلطان باشا الأطرش والأمير فيصل بن الحسين فقد كان يترتّب على سلطان باشا أن يردّ برسالة جوابيّة منه إلى الشّريف فيصل بواسطة رجال من خاصّته، وهكذا فقد انتدب سلطان جاد الله شلهوب الذي هيّأ فرسه فحمّلها بخرج وضع فيه مؤنته لثلاثة أيّام تكفيه لذهابه وإيابه.
ويعود أصل آل شلهوب في بلدة القريّا إلى آل الأحمدية في جبل لبنان، وقد أنجبت هذه العائلة المعروفية شخصيّات كان لها دورٌ نضاليّ واجتماعيّ مميّز في تاريخ البلدة.
ويذكر عطا الله الزاقوت وهو من جيل التابعين لجيل سلطان باشا وجاد الله، أنّ أبا نسيب “كان موثوقاً من سلطان، رجلٌ له من الحكمة والدّراية والشّجاعة ما يؤهّله لمثل تلك المهمّة” ومع تباشير الفجر الأولى إنطلق جاد الله مع رفيق له موثوق منه ومن سلطان هو أبو حسن سلامة زيتونة. كان الفارسان وهما رسل سلطان إلى فيصل يلبسان ملابس متشابهة، فكلٌّ منهما يلبس العقال العربيّ الأسود على كوفيّة بيضاء فوق شعر مجدول مردود إلى الخلف، وقد كحّل عينيه بالكحل الأسود كعادة رجال بني معروف في ذلك الزّمن، وتجلبب بعباءة شقراء مطرّزة بخيوط القصب فوق حوافيها، وتجنّد ببارودة عُصْملّية1 حتى فرسيهما الأصيلين كانتا متشابهتين..
بُعَيْد الغروب وصل الرّسولان معسكر الجيش العربيّ فاستُقبلا في فسطاط رحب الأرجاء؛ هو عبارة عن خيمة إنكليزيّة زرقاء اللّون، دائريّة الشّكل لم يسبق لهما أن رأيا مثلها في مضارب البدو من قبل، نصبها الإنكليز خِصِّيصاً للأمير فيصل الذي كان قد خرج بزيارة لإحدى القبائل العربية في بادية الأردنّ بهدف ضمّ تلك القبيلة للرّكب المناهض للأتراك، وقد أُبلغ رسولا سلطان أنّ الأمير سيعود ظُهر الغد، وعندها يلتقيان به.

الأمير نوري الشعلان أمير قبيلة الروله
الأمير نوري الشعلان أمير قبيلة الروله
الأمير فيصل بن الحسين قبل دخول دمشق
الأمير فيصل بن الحسين قبل دخول دمشق

في خَيمة الأمير
يروي سلامة زيتونة لعطا الله الزّاقوت قِصّة لقائهما مع الأمير فيصل فيقول: “وجدنا بضعة رجال من البدو في خيمة الأمير، وبعد أن قُدّمت لنا القهوة المُرّة وأكرمونا كضيوف سألنا عن الأمير فقيل لنا: “ يَلْفي” أي هو سيأتي، وبالفعل عند ضحى اليوم التالي رأينا مشهداً غريباً لم نَرَه من قبل. رأينا قُبّة زرقاء تَشُقّ عنان السّماء وراحت تقترب نحونا الهوينا، فقيل لنا ها قد جاء الأمير … ونزلت الكُرَة الزّرقاء التي كانت معلّقة بين السّماء والأرض على مسافة خُطوات من الخيمة .. كانت مثل مِظلّة وقد تدلّى منها ما يشبه سلّة كبيرة تحمل أربعة رجال، كان منهم الإنكليزيّ الذي يسوق البالون كما أسموه ( لم يكونوا قد رأوا المنطاد من قبل) والأمير فيصل ويصحبه نوري الشّعلان أمير قبيلة الرْوَلَه المرهوبة الجانب وهي فرع من قبيلة عَنَزة الكبرى. وتابع مُحدّثي يقول:
“ سلّمنا على الأمير ورفاقه وقدم رفيقي له رسالة سلطان التي كلّفه بحملها وقرأ الأمير الرّسالة وأغدق الثّناء على سلطان وعشيرته، أمّا فحوى الرّسالة فهو: إنّ سكان الجبل من بني معروف يقفون تحت قيادة الثّورة العربيّة الكبرى وهم رهن إشارة القيادة للمسير وقتال الجيوش العثمانيّة وتحرير دمشق.
لكنّ ذلك لم يُعجب الأمير النّوري بن شعلان، فخاطب الأمير فيصل بقوله: “يا أمير ذول الدّروز يميلون مع الرّيح كيف ما تميل، ولا أمان في جانبهم. فما كان من رفيقي ( جاد الله شلهوب) إلاّ أن انتهره وكأنه من خدمه وقال له” هَبِيْت ــ أي كذبت ــ هذه عوايدك، ما هي عوايد الدّروز، وعن قريب يكون موعدنا الشّام فإمّا نَفرّ نحن من الحرب أو انت اللّي تنهزم مع عشيرتك ــ ومشى نحوه يهزّ قبضته في وجهه.
نعمْ إنّه رِهان قد نهض للتوّ… من سيسبق الآخر إلى المعركة ومن الذي سيصمد فيها؟
هنا تدخّل الأمير فيصل ولامَ النّوري على مقالته وأثنى على بني معروف ثناءً صادقاً وصريحاً ونَعتهم بنعوت لا تكون إلاّ لأخيار الناس.
ومرّت أيّام، ووصلت إشارة فيصل إلى سلطان بكتاب يقول فيه: “الملتقى باكر ــ أي غداً ــ في درعا”. وكان سلطان باشا قد استنفر أنصاره فلبّوا الدّعوة مُشاة وفرساناً وأقبلوا تحت بيارقهم الخفّاقة كالسّيل الجارف ولكنّه احتفظ بنحو خمسمائة فارس وطلب من المشاة العودة إلى قراهم وأعمالهم ولينتظروا منه نبأ آخر في ما لو دعت الضّرورة إلى وجودهم في القتال.

سلطان باشا يتحرّك نحو دمشق
وانطلق سلطان برجاله ومن بينهم جاد الله شلهوب وسلامة زيتونة، إلى بصرى التي كانت معقل القوّات العثمانيّة على مقربة من القريّا وقرى المقرن القبلي، فاستسلمت حاميتها دون مقاومة تُذكر، واستولى الثواّر على الأسلحة والذّخائر ومستودعات الحبوب التي كان العثمانيّون قد صادروها من الأهالي لتموين جيوشهم، وراحوا بأمر من سلطان يوزّعونها على أهالي بصرى الذين انضمّوا للثوّار من البلدة نفسها، ولم يتوجّه سلطان باشا ومجاهدوه إلى درعا بعد أن أدرك أنّها توشك على السّقوط بيد القوات العربيّة الزّاحفة إليها وكان يساعدها على ذلك بعض سرايا الجيش البريطاني، كان سلطان باشا يريد أن يسبق البريطانيين بالدّخول إلى دمشق حسب اتّفاق بينه وبين فيصل لكي لا يظهر البريطانيون وكأنهم المحرّرون للعرب في تلك الحرب.
إتّجهت الحملة التي يقودها سلطان شمالاً فالتقت في بلدة الشّيخ مسكين بحملة ثانية من ثوّار بني معروف انحدرت إليهم من السّويداء وجوارها ومن قضاء شهبا، كما التقَوْا بحملة الجيش العربيّ التي يقودها الشّريف ناصر بن جميل ــ وهو ابن عمّ فيصل من الأسرة الهاشميّة ــ المؤلّفة من جيش البدو ومنهم عشائر عَنَزَة بقيادة النّوري بن شعلان وطراد الملحم، وقبيلة الحويطات بقيادة عَوْدة أبوتايه، وبني صخر بقيادة مثقال الفايز وحديثة الخْرَيْشة، بالإضافة إلى مجاهديّ لواء حوران يقودهم اسماعيل التّرك الحريريّ.

بعض فرق الجيش العربي تستعد للتوجه إلى دمشق
بعض فرق الجيش العربي تستعد للتوجه إلى دمشق

ساعةُ الامتحان.. وفرارُ الشعلان
سارت تلك الجموع الهادرة بقيادة الشّريف ناصر تطارد القوّات العثمانيّة والألمانية المتراجعة باتّجاه دمشق، وكانت القيادة العثمانيّة تعمل باستشارة قادة ألمان تنبّهوا إلى أهمية مجموعة من التّلال الوعرة التي تقع على مسافة ثمانية عشر كيلومتراً جنوب دمشق وتطلّ على الطرق والمسالك المؤدّية إليها من تلك الجهة، فأقاموا خطّاً دفاعيّاً حَصيناً زوّدوه بمرابض للمدفعيّة من طراز “كروب” وكانت تلك من أفضل مدافع عصرها.
وهكذا تساقطت على الثّوار قنابل تلك المدافع بلا انقطاع وأحدثت في جبهتهم المتقدمة ثغرات واسعة إذْ أخذت قنابلها تنفجر بين تجمّعات المجاهدين، فذُعرت الخيل والإبل من أصوات انفجار القنابل التي لم تعهدها من قبل فانسحب كثير من رفاق حملة الجيش العربي أمام المدافع العثمانيّة ومن بين المتراجعين من المعركة كان الأمير النّوري بن شعلان منسحباً أسوة بغيره، وبإنسحابه هذا، فقد خسر أمير إحدى أهم وأكبر القبائل البدوية في شبه جزيرة العرب رهان التحدّي الذي كان قد أشهره في وجه جاد الله شلهوب؛ رسول سلطان باشا إلى فيصل بن الحسين. لقد انكفأت حملة القبائل على أعقابها هاربة من حقل نيران المدفعيّة وصمد بنو معروف وحدهم بقيادة سلطان باشا في المواجهة أمام مدافع وتحصينات تلال المانع، ولمّا داهمهم الليل اضطُرّوا للمبيت في قرية “دير علي” الدّرزية القريبة من الكسوة، تلك القرية التي تقع على الطّريق التاريخيّة لهجرات الموحّدين من جبل لبنان إلى جبل حوران.
في تلك الليلة وضع سلطان ورجاله خطّة قتال اليوم التّالي، وفي الوقت نفسه اتّصل بهم الأمير فيصل طالباً مواصلة الزّحف بأقصى سرعة لدخول دمشق قبل وصول الجيش البريطاني إليها2.
في اليوم التّالي قام سلطان ورجاله بحركة التفاف حول مواقع الأتراك وباغتوهم بهجوم صاعق تعطّلت به أكثر بطّاريّات مدافعهم وقاتلوهم بخنادقهم بالسّلاح الأبيض حتى استسلم أمام هجومهم من بقي حيّاً منهم، وكان في مقدّمة المستسلمين الذين بلغ عددهم نحو ثمانمائة، ضابط كبير هو رضا باشا الرّكابي وقد أسره فرسان قرية الغارية، ولما أحضروه إلى سلطان الذي عرف أصوله العربيّة قال له: “ دعك من أعداء بلادك فقد تركوا الأرض لأصحابها وانهزموا”(2) وأمر بإعادة سلاحه إليه وأركبه فرساً توجّه بها بصحبة الثّوار إلى دمشق مروراً بموقع الحرجلّة، ولما كانت قرية الحرجلّة تقع على نهر الأعوج الذي لابدّ لكل عابر إلى دمشق من عبور جسرها، وكان رضا باشا الرّكابي قد أمر بلغم الجسر عندما كان يقود عمليات الدّفاع عن مدينة دمشق قبل استسلامه للثوّار، وهو لا يدري إن كانوا قد لغموا الجسر أم لا، فنبّههم إلى ذلك، وتردّد كثيرون أمام ذلك المعبر المُريب، فما كان من فارس ملثّم لم يتبيّن أحدٌ ملامح وجهه إلاّ أنه اندفع كالعاصفة باتّجاه ذلك الجسر والغبار ينتثر على وقع سنابك فرسه فعبره ذهاباً وإياباً هازئاً بالموت الذي قد يكون كامناً في ثناياه، ومن ثمّ ليعود ثالثة يتقدّمهم منطلقاً باتجاه دمشق، وهكذا اطمأنّ المجاهدون المعروفيّون إلى أمن عبور الجسر، فتدافعوا يعبرونه كعاصفة فارسهم الملثّم، ودخلوا دمشق فاتحين بقيادة سلطان هذه المرة، ونَثَرَ عليهم الدمشقيّون من شرفاتهم المطلّة على الشّوارع الرّئيسة المؤدية إلى قلب المدينة الورود والأرّز و”الملبّس” إبتهاجاً بقدومهم محرّرين ورفعوا علم الثّورة الذي كان يخفق فوق رؤوسهم من بلدة القريا على سرايا دمشق، كانت أصداء جبل قاسيون المطلّ على دمشق تردد حداءهم:
وسِّعوا المرجة تـرى المرجة لنا وسِّعوا المرجة لتلعب خيلنـا

الحكومة العربية في دمشق 1918
الحكومة العربية في دمشق 1918

وأمّا الأمير النوري بن شعلان فإنّه لم يستطع دخول دمشق إلاّ بعد ستٍّ وثلاثين ساعة من دخول فرسان الدّروز إليها، وفي طليعتهم صاحب رهانه؛ جادالله شلهوب، دخل الأمير البدويّ دمشق تابعاً متأخّراً مع حملة الجيش العربيّ بقيادة الشّريف ناصر بن جميل ومن معه من جيش القبائل.
وظلّ إسم ذلك الفارس الملثّم الذي تعمّد الاّ يتعرّف عليه أحدٌ مجهولاً، ويروي المرحوم عطا الله الزّاقوت3 أنّه سأل سلطان باشا: “لقد سمعت حكاية الفارس الملثّم من الشّيخ جاد الله شلهوب من القريّا وسألته يومها عن الفارس الملثّم من يكون؟ ومن الذي قطع الجسر عدواً على فرسه، افتداءً لرفاقه، فأجابنا: لم أعرف اسمه!
هنا ابتسم سلطان وقال: ألم يخبركم جاد الله عن إسم الفارس؟
قلت: نعم لم يخبرنا. عندها قال سلطان: إنّه نفسه أبو نسيب جاد الله شلهوب والذي يعيش الآن بينكم، وهو رسولي مع سلامة زيتونة إلى فيصل في واحة الأزرق.
وعدت أسأل الفارس الملثّم : لمَ لمْ يفصح لنا عن إسمه، منكراً الحقيقة فأجاب: لقد استحْيَيْت، لأن القاعدة في زمننا تقول: اطعمْ واسكتْ، واطعنْ واسكتْ”.

سليمان بدور

الصحيفة التي رافقت نضال العرب وكانت منبراً لمشاهير كتَّابهم

تكريم الصحافي الراحل سليمــان بدور
والــدور التاريخـــي لصحيفـة “البيـــــــان”

نجيب البعيني: سليمان بدُور رفض بشدّة عرضاً من فرنسا بالسماح بدخول “البيان” إن هو قبل بمهادنتها

شوقي حمادة: أمثال سليمان بدور اغتربوا ليبقى لبنان مقيماً.. وكم من مقيم هنا يسعى ليجعل لبنان مغترباً!

حليم فيّاض:صحيفة “البيان” رافقت أحداث المنطقة ولعبت دوراً في توجيه الجالية الدرزية الأميركية والمحافظة على تراثها

شهد لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين موجات هجرة متتالية لشبانه الذين عرفوا طريق البحر إلى القارات الجديدة في الأميركيتين بصورة خاصة. كانت أسباب الهجرة أكثر من أن تعدّ، لكن من أهمها آثار الحرب الكونية الأولى وما رافقها من ضائقة شديدة على السكان أوصلت الكثيرين منهم إلى حافة الجوع والعجز عن تأمين القوت، لكن كانت هناك أيضاً الآثار المباشرة للاحتلال الأجنبي لمعظم ولايات الدولة العثمانية التي أزيلت عن الخريطة وقد كانت بلاد الشام وبصورة خاصة سوريا ولبنان تزخر بالأفكار الوطنية ومعاداة الأجنبي، وظهرت الأحزاب الاستقلالية والنهضوية وحركات المرأة، كما برزت الدعوة القومية العربية ومهّدت تلك المناخات لأحداث كبيرة كان أهمها الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في العام 1925.
في ظل تلك المناخات برزت ظاهرة الصحافة المهاجرة وازدهرت لتصبح في وقت من الأوقات المُعبِّر الحقيقي والأهم عما يختلج في الشرق العربي من حركات وتيارات وأفكار وحياة سياسية، وقد استفادت صحافة المهجر من وجود نخبة من الكتاب والمفكرين المقيمين في الخارج كما استفادت من قوة الجالية العربية خصوصاً في البرازيل والأرجنتين ومن مناخات الحرية التي كانت متوفرة في المهاجر، فصدرت عشرات المجلات والصحف التي كانت تنقل أخبار الوطن للمغتربين وتنقل أخبار المغتربين أيضاً وتهتم بالقضايا الوطنية والإجتماعية والثقافية. بين هذه الباقة من صحف المغتربات برزت جريدة “البيان” التي أسسها صحافي لامع من بعقلين هو سليمان بَدُّور كأبرزها وأشهرها وأوسعها نفوذاً. واستمرت الصحيفة في لعب دورها البارز طيلة مرحلة العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، فرافقت نضالات التحرر من المحتل الأجنبي ثم مرحلة الاستقلال وانطلاقة الحياة السياسية، كما لعبت صحافة المهجر وكتاب المهجر ومثقفوه دوراً مهماً في إحياء الثقافة العربية وتحفيز الإبداع الأدبي والشعري فتأسست رابطات أدبية وثقافية مثل “الرابطة القلمية” و”العصبة الأندلسية” وبرز في المهجر أعلام كبار منهم ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) ونعمة الله الحاج ونسيب عريضة ورشيد أيوب وعبد المسيح حداد وندرة حداد وغيرهم كثيرون..
لكن على الرغم من الدور الكبير الذي لعبته صحافة المهجر وكتّابه فإن الكثيرين من أبناء الجيل الحالي لا يعرفون الكثير عنهم، إلا أن المناسبة أتيحت وافرة للتعرف على بعض جوانب هذا الفصل من تاريخنا الثقافي والوطني عندما دعا مجلس إنماء قضاء الشوف والمكتبة الوطنية في بعقلين إلى تكريم الصحافي الراحل سليمان بدُّور (توفي في العام 1941) مؤسس جريدة “البيان” في الولايات المتحدة في العام 1910 والتي لعبت في ما بعد دوراً كبيراً في حركات الاستقلال في لبنان وسوريا بصورة خاصة وقد استمر سليمان بدُّور في دوره الريادي هذا حتى وفاته.
وُفِّق منظمو الندوة في اختيار الأشخاص المحاضرين الذين، من دون تنسيق بينهم، نجحوا في اجتناب التكرار فساهمت مداخلة كل منهم في إضافة ضوء مختلف على تاريخ الرجل وشخصيته ومساهمته ودوره ودور صحيفته (البيان) في تاريخنا الفكري والوطني بحيث خرجنا في النهاية بعرض متكامل ومفيد ومؤثِّر.

المشاركون في التكريم ويبدو من اليمين أسعد زيدان ، شوقس حمادة، جان داية، غادة العريضي، حليم فياض ونجيب البعيني
المشاركون في التكريم ويبدو من اليمين أسعد زيدان ، شوقس حمادة، جان داية، غادة العريضي، حليم فياض ونجيب البعيني

نجيب البعيني
الأستاذ والمؤلف نجيب البعيني لفت إلى أنه “كان في الخامسة من عمره عندما توفي سليمان بدّور صاحب جريدة “البيان” النيويوركية في سنة 1941 مشيراً إلى أن جريدة “البيان” أصبحت في وقت قصير” لسان حال المجاهدين والمناضلين في الوطن وبلاد الإغتراب طوال ثلاثين سنة متواصلة. خلال تلك المدة كانت الجريدة منبراً للأفكار الحرّة وأداة لمقاومة الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان.
وأوضح البعيني أن جريدة “البيان” اعترضتها صعوبات جمة، فنية ومادية وسياسية لكن صاحبها “ظلَّ مثابراً مكافحاً مناضلاً مكابراً على صدورها في أوقاتها المحدّدة وديمومتها حتى لقّبه بعض أصحابه وزملائه: بـ”الجبل الذي لا تهزه الرياح”. وأضاف في وصف الرجل نقلاً عن الذين رافقوا مسيرته بأنه “كان رجلاً فذاً مقداماً، صدوقاً إذا صادق وفياً إذا عاهد، عنيداً لا يتزحزح إذا آمن بعقيدة أو موقف، كما إنه كان “عفيف اللسان قوي الجنان لا يسخّر قلمه لأحد، ولا يخشى في نصرة الحق والعقيدة لومة لائم، وكان كثير الأصحاب والأصدقاء قليل الأعداء، وإذا قام بمشروع وطنيّ أو بمشروع خيري، تكون “البيان” فاتحة صفحاتها حاملة هذا المشروع على كتفيها، إكراماً لوجه الله من دون مقابل أو مال يُذكر”.
وأضاف البعيني القول: إن جريدة “البيان” رافقت كل الأزمات التي حصلت في البلاد العربية فانحازت إلى العثمانيين إبان الحرب العثمانية- الإيطالية، والحرب التركية، البلقانية، إدراكاً من صاحبها سليمان بدور أن ضعف العثمانيين هو ضعفٌ للمسلمين أولاً، وللعرب ثانياً. لكنه تحول إلى معارضتهم والمطالبة بجلائهم عن أرض العرب عندما رأى من مظالم الطورانيين وأنصار التتريك وشراستهم في التعامل مع أماني العرب بالكرامة والحرية.
وبعد ان تقلّص ظل تركيا على البلدان العربية، صارت “البيان” في ركب السياسة الوطنية المتحررة حين اندلعت الثورة العربية السورية الكبرى في جبل الدروز سنة 1925. شرّعت “البيان” صدر صفحاتها لنداءات قائد الثورة العربية الكبرى سلطان باشا الأطرش وأخوانه المجاهدين الميامين، كما إنها شحذت همم المغتربين على مد يدّ المساعدة والعون للمجاهدين وفتحت صفحاتها لنشر الأنباء عن تبرعات المغتربين من أجل مساعدة منكوبي الثورة ومد أبنائها بالمال. ونقل البعيني حادثة عن المغترب البتلوني نايف خطار قيس تبيّن مدى صلابة سليمان بدور في مواقفه المتحررة، إذ كانت السلطات الفرنسية منعت دخول “البيان” إلى لبنان وسوريا فتأثرت مبيعاتها ولاقتصعوبات مالية، عندها وحسب المغترب قيس فقد تبّرع هو للإتصال بالمؤرخ سليمان أبو عز الدين للتوسط مع السلطة المنتدبة التي أكّدت أنها سترفع المنع وتؤمن سليمان بدور على شخصه في حال بدّل سياسته المعادلة لفرنسا. لكن عندما عرض قيس الموقف الفرنسي على صاحب «البيان» كان جوابه على الفور: “إنني أنا و«البيان» نفضّل الموت، ولا أغيّر من سياستي ولا أبيع ضميري بالفرنكات الفرنسية».
واستغرب نجيب البعيني استمرار غياب أعداد «البيان» عن قاعدة بيانات مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت رغم توافرها في الولايات المتحدة وفي جامعة SOAS في لندن، رغم أهميتها للدارسين والباحثين مذكراً بأنه طالب الجامعة الأميركية بذلك منذ 30 عاماً لكن من دون نتيجة حتى الآن.
أخيراً طالب البعيني بطبع مذكرات سليمان بدور وطبع أعداد جريدة البيان لتكون في متناول الجميع ولاسيما الباحثين وطلبة الجامعات.

‘دد من صحيفة البيان صادر فيالعام 1929
‘دد من صحيفة البيان صادر فيالعام 1929

الأستاذ شوقي حمادة
الأستاذ اللغوي شوقي حمادة بدأ مداخلته بالإشارة إلى أنه “ما من صحيفة عربية، ظهرت في بسيط الأرض، إلاّ كان مؤسسها لبنانياً (مع إستثناءات نادرة والنادر لا يقاس عليه) ولم يكن النهضويّون اللبنانيون، روّاد الصحافة وحدها بل كانوا روّاد العلوم واللغة والترجمة والنقل والتجديد الأدبي في المشرق العربي كلّه” ونوّه حمادة بروّاد الإغتراب والفكر المهجري من أمثال سليمان بدور واصفاً إياهم بـ “أسراب النسور، الذين ركبوا المجهول عبر البحار، وبنوا لأنفسهم مجداً وللبنان أمجاداً قائلاً: “هؤلاء اغتربوا ليبقى لبنان مقيماً.. وكم من مقيم هنا يسعى ليجعل لبنان مغترباً، ومرتهناً لولاءات غريبة عن لبنان الحضارة والثقافة والإنفتاح.
وقال حمادة: إن سليمان بدور الذي هاجر إلى الأرجنتين سنة (1907)، لم يحبّ كار التجارة وهو الغالب في تلك المهاجر، ورأى في الموقف والرأي والكلمة، ما يفوق المال والذهب والثراء”..فعاد إلى لبنان ومنه إلى نيويورك حيث اشترى امتياز جريدة “السهام” التي أسّسها ميخائيل جرجس الباشا سنة 1905، فأصدرها بإسم “البيان” سنة 1910، جريدة عربية حرة، شعارها الوطنية والحقيقة.
وذكر الأستاذ شوقي حمادة أنه “ما إن بلغت “البيان” يوبيلها الفضّي في 26 آذار سنة 1935، حتى تقدّم ملوك العرب، وأعيانهم من أهل الصحافة والطب والأدب والحرب والسياسة يهنئون ويباركون، وقال: «ألا يكفي ذلك في الإشارة إلى منزلة سليمان بدور إبن بعقلين الأعزّ، وفتى لبنان الأغرّ وسليل بني معروف الأمجاد؟ وقد مضى عليه مغموراً قرن كامل من الزمان»؟

حليم فياض
المحافظ الأسبق الأستاذ حليم فياض أشار إلى ولادة سليمان بدور في العام 1888 في ظروف صعبة كانت تعيشها المنطقة ثم اغترابه إلى الأرجنتين عندما أصبح في التاسعة عشر من العمر ليعود بعد عام واحد ويسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ويشتري في العام 1910 جريدة ناطقة باللغة العربية أسماها “السهام” وما لبث أن غيّر إسمها إلى “البيان” التي صدر العدد الأول منها في 24 كانون الثاني 1911، وكان سليمان بدور لا يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر. ولفت فياض إلى قيام الجريدة بنشر مقالات كثيرة عن الدروز والعرب وأنها كانت قفزة رئيسية في توجيه الجالية الدرزية الأميركية والمحافظة على تراثها.
من أبرز مراحل “البيان” الإحتفال المهيب باليوبيل الفضي لمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على تأسيسها. وقد كان للدكتور رشيد تقي الدين اليد الطولى في ذلك، وقد بعث الملك السعودي عبد العزيز آل سعود بكسوة عربية قشيبة إلى صاحب «البيان». وتحدّث بعدها الخطباء والشعراء وصاحب اليوبيل الذي ألبسه أصدقاؤه الكسوة العربية “بين التهليل والإغتباط”.
وأشار فياض إلى توقف “البيان” عن الصدور بعد وفاة بدور في العام 1941 وتنادى عدد من أبناء الجالية الدرزية في الولايات المتحدة على رأسهم الوجيه المعروفي أمين داود فياض للإستمرار بإصدارها وعقدوا لهذا الغرض اجتماعاً أيدوا فيه متابعة إصدار الجريدة فسجّلت “البيان” بإسم أمين داود فياض الذي تابع مع شقيقه سعيد إصدارها حتى العام 1947 عندما تنازل أمين عن ملكيته في الجريدة الى لجنة من أبناء الجالية الذين استقدموا لرئاسة تحريرها الشيخ هاني أبو مصلح من لبنان وأقاموا مهرجاناً لها عام 1947.
وأخيراً في أوائل الخمسينات عادت ملكية الجريدة إلى محررها السابق راجي ضاهر الذي أعادها إلى نيويورك واستمر في إصدارها إلى عام 1970.
ولفت فياض إلى أن المعلومات التي يوردها مستقاة من كتاب وثائقي أصدرته الجمعية الدرزية الأميركية عن دروز أميركا في بداياتهم تضمن مجموعة قصص عن المهاجرين الأوائل بمن فيهم المرحوم سليمان بدور، شاكراً للجمعية جهودها.

جان داية
الكاتب والأديب والأستاذ جان داية ركّز في مداخلته على استعراض أسماء الكتاب والمشاركين في تحرير جريدة البيان وعلى إعطاء أمثلة عن طبيعة المواضيع والأخبار التي كانت تنشرها لافتاً إلى المشاركة البارزة للأمير شكيب أرسلان في مواضيعها ومقالاتها ابتداء من حزيران 1912 ونشاطه البارز فيها خصوصاً في العام 1925.
وأشار داية إلى مشاركة الدكتور رشيد تقي الدين في تحرير «البيان» وكان ما زال شاباً يدرس الطب في الجامعات الأميركية ومن كتاباته مقال عن “الحالة الحاضرة في لبنان” وسلسلة مقالات بعنوان “خطرات أفكار”، وأشار داية إلى ثلاثة مقالات كتبها سليمان بدور تعليقاً على انعقاد المؤتمر العربي في باريس في العام 1913 وكان أولها بعنوان “المسألة السورية” والثاني بعنوان “ماذا فعل المؤتمر؟” والثالث بعنوان “الإصلاح السوري” بعد ذلك امتلأت الصحيفة بأخيار الحروب التي اندلعت في العام 1914 والإفتتاحيات المتمحورة حولها كما لفت في صفحاتها الى المناظرات والردود المتبادلة بين ناشري عدد من المجلات المهجرية مثل “الهدى” و”السائح” و”مرآة الغرب”، ولفت أيضاً في تلك الفترة الى مشاركة كتاب كبار مثل ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وفيليب حتي بمقالات في الجريدة.

مرتديا الكسوة الملكية التي أهداها إليه الملك عبد العزيز
مرتديا الكسوة الملكية التي أهداها إليه الملك عبد العزيز

الأديب أسعد زيدان
وتحدث الأديب المهجري البرازيلي الأستاذ أسعد زيدان عن مآثر المحتفى بذكراه، وأورد شهادة الأمير شكيب أرسلان به والتي جاء فيها “سليمان بدور عصامي من الطبقة الأولى، وهو أحد حاملي الوطن في قلوبهم، ورافعي علم العروبة فوق رؤوسهم، جعلوا من أقلامهم أشواكاً في عيون الخصوم، فهو من الأحرار أنصار الحق المبين”.
وأضاف زيدان أنه عدا عن شهادة الأمير الأرسلاني هنالك لائحة كبيرة بأسماء أدباء ومناضلين عرب كرام أشادوا في سليمان بدور ونضاله ورهنه حياته دفاعاً عن قضية أمته، منهم المؤرخ عجاج نويهض والأمير عادل أرسلان ومحمد علي الطاهر وفؤاد حمزه وغيرهم من الذين أورد أسماءهم أستاذنا الكبير شوقي حمادة.

د. نهى الغصيني
رئيسة بلدية بعقلين الدكتورة نهى الغصيني قدمت مداخلة قالت فيها إن من حق سليمان بدور، الكاتب والأديب والصحافي الفَذَّ أن يكرّم في بلدته بعقلين، وفخر واعتزاز لبعقلين أن تكرّمه وتباهي بإنتمائه إلى البلدة التي أعطت العباقرة في الأدب النثري والشعري وقد لمع من أفذاذها في الوطن ودنيا الإغتراب جمهرة من الراسخين في العلوم والأدب. وشكرت عائلة بدور المحترمة لتسليطها الضوء على سيرة الصحافي المبدع سليمان بدور الذي أضاف نجمة ساطعة في تاريخ بلدتنا الحبيبة”.
واختتم حفل التكريم بكلمة من آل بدور شكروا فيها منظمي الحفل على جهودهم معربين عن اغتباطهم لهذه البادرة التي تعيد لسليمان بدور بعض ما يستحقه من شكر وتقدير للدور الكبير الذي قام به في مرحلة حساسة من تطور لبنان وبلدان المنطقة.

دور بني الشويزاني في الشوف

إماطة اللثام عن عشيرة معروفية حاكمة وتاريخها الغامض

دور بني الشويزاني في الشوف وأنساب عائلات
عبد الملك وحمادة وأبو هرموش وأبو حمزة

جانبلاط عبد الملك نَصَرَ حيدر الشهابي في عين دارة
فأقطعه الجرد وشيّخه عليه وكتب له «الأخ العزيز»

سنحاول في هذا المقال توضيح الصلة بين بني الشويزاني الذين لعبوا دوراً مهماً في تاريخ الشوف وكانت لهم اليد الطولى في ناحية منه، وبين عدد من العائلات العريقة التي ما زالت تحتل مكانة مرموقة في الهرم الاجتماعي والسياسي وهي بصورة خاصة عائلات عبد الملك وأبو هرموش وحمادة وأبو حمزة. هذه الأسر الأربع والأدوار التي لعبتها تعود بصورة خاصة، وحسب ما تشير جميع المصادر التاريخية المعتمدة، إلى تفرّعها من أصل واحد هو عشيرة بني الشويزاني التي كانت قد تولّت ناحية مما يعرف اليوم بإسم منطقة الشوف، وكان ذلك في أساس تسمية تلك المناطق بـ «الشوف الشويزاني» قبل تصحيف الكلمة لتصبح «الشوف السويجاني».
إن لموضوع الأنساب حساسية خاصة عند العرب وله حساسيته أيضاً عند العائلات العربية العريقة الحريصة على إثبات نسبها والدفاع عنه في وجه أي إلتباس. لكن تحقيق الأنساب ليس مسألة سهلة دوماً، فقد يتعرّف الباحث في التاريخ على أسر كثيرة مهمة، لكن المعلومات عنها تكون قليلة جداً، إما لأن ما كُتب عنها فُقد أو لأنه لم يقيّض لها من يدوِّن تاريخها فبقي الغموض بالتالي محيطاً بها، ومنها ما لم يبقَ من المعلومات عنها سوى إسمها فقط، ومنها ما استمر تاريخها في الأسر المتفرّعة منها كبني فوارس المناذرة الذين تفرّع منهم آل أبو اللمع، وآل عبد الله المناذرة الذين تفرّع منهم آل علم الدين اليمنيون وآل تقي الدين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تاريخ الأمراء التنوخيين المناذرة كان معظمه ضاع لو لم يدوّن أحدهم، وهو المؤرّخ صالح بن يحيى، أخبارهم في مؤلّفه المسمّى «تاريخ بيروت»، كما إن تاريخ الأمراء الأرسلانيين المناذرة كان قد ضاع في معظمه لولا السجل الأرسلاني.

من هم آل الشويزاني؟
إننا لا نمتلك الكثير عن بني الشويزاني وعن ظروف قدومهم إلى لبنان واستقرارهم في ما هو اليوم منطقة الشوف، لكننا نعلم مؤكداً أنه كان لهذه العشيرة القوية دورها المهم بين العشائر التي قدمت من جهات معرّة النعمان إلى لبنان في سنة 820 م، وكان لهم انتشارهم الواسع في الشوف، ثم تفرّعوا إلى أسر عديدة لا تحمل إسمهم، إلا أن المعلومات عنهم قليلة. ولهذا فليس مستغرباً أن يحيط بآل الشويزاني هذا القدر من التساؤلات عن حقيقتهم وعن طبيعة العائلات المنتسبة إليهم، وقد بقي الكثير من تلك التساؤلات بلا أجوبة، لذا سنحاول، بالإستناد إلى المصادر التاريخية والتحقيق فيها، الإضاءة على حقيقة آل الشويزاني ما أمكن تحت العناوين التالية:
1. أصل بني الشويزاني
2. بنو الشويزاني في «المصادر التاريخية»
3. بنو الشويزاني في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب»
4. إطلاق اسم الشويزاني على منطقة كبيرة في الشوف وعلى حصن قديم
5. الأسر المتحدّرة من بني الشويزاني

أولاً: أصل بني الشويزاني
إن أقدم النسّابين وأشهرهم إبن الكلبي المتوفّى سنة 204 هـ (819 م) وأشهرهم بعده إبن حزم الأندلسي (284 – 356 هـ)ـ (994 – 1064 م)، لم يذكرا أية قبيلة أو عشيرة أو بطن أو فخذ أو فصيلة بإسم الشويزاني، كما خلت كتب النسّابين الآخرين الذين جاؤوا بعدهما من هذا الإسم. لذا بات من المؤكّد أن آل الشويزاني لم يكونوا قبيلة رئيسية بل بطناً أو فخذاً من إحدى العشائر العربية التي تُعد بالمئات، وأول ما نرى لهم ذكراً في تاريخ لبنان هو في كتاب «قواعد الآداب حفظ الآنساب» الذي دُوّن مخطوطه في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وهو لمؤرّخ مجهول.
تكلّم مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن نزوح ما سمّاه «طوائف» أي عشائر من الحيرة في العراق إلى جهات معرّة النعمان، وهم «الأمير شهابي بن الأمير خالد والأمير مسعود بن رسلان بن مالك والأمير فوارس والسيد عزايم والسيد عبد الله والسيد عطير والسيد حصن والسيد هلال والسيد كاسب والسيد شجاع والسيد نمر والسيد شراره»1. تمّ ذكر أسماء عدد من الأعيان والجماعات الذين رافقوا تلك العشائر في نزوحها إلى لبنان. ولم يرد بين هذه الطوائف (العشائر) عشيرة بإسم «بني الشويزاني» لكن هذا الإسم يظهر بعد ذلك في الحديث عن فروع العشائر المذكورة التي توطّنت في لبنان مما يدلُّ على أن بني الشويزاني هم فرع من إحدى تلك العشائر أو هم إحدى العشائر، مع الإستبعاد الكلي أن تكون فرعاً من المناذرة (آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس وآل تنوخ) لأنها لو كانت منهم لكان تحدّث عنها السجل الأرسلاني ، وصالح بن يحيى في كتابه « تاريخ بيروت».
بالعودة إلى المعاجم اللغوية نجد أن إسم الشويزاني قد يكون مشتقاً من لفظة « شزن « ومن معانيها: النشاط، ومن معاني تشزّن : صرع 2. وبالعودة إلى المعاجم الجغرافية نجد أن إسم شويزاني قد يكون مشتقاً من كلمة شوزن التي جاء عنها أنها من مياه بني عقيل.3

بنو الشويزاني في المصادر التاريخية
أول مصدر ذكر بني الشويزاني هو كما وردت الإشارة كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» الذي سنتكلم عنه لاحقاً. وقد ورد ذكر إسم «الشويزاني» عند المؤرخ المقريزي المتوفى سنة 845 هـ (1441 م) وذلك حين قال في معرض حديثه عما جرى في القاهرة من حوادث في شهر شعبان من سنة 358 هـ (أيار 969 م) ما يلي: «فسلّموا على نحرير الشويزاني بالإمارة وخرجوا يحجبونه إلى داره»4. ثم ذكر المقريزي وفاة إبن نحرير (أبي الحسن) في 12 ربيع الآخر من سنة 415 هـ (حزيران 1024م)، وقال عنه «إنه أكبر من بقي من عرفاء الإخشيدية»5، ولا نعلم إذا كان الإسم «الشويزاني» هو الذي يجمع بين هذين الشخصين اللذين عاشا في عهد الإخشيديين وبين بني الشويزاني في لبنان، أم أنهما وهم من أصل واحد.
ومن الذين ذكروا بني الشويزاني المؤرّخ صالح بن يحيى، مجهول الولادة والوفاة، إلا أنه من المعتقد أن ولادته في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، ووفاته بعد سنة 1453 التي توقف فيها عن الكتابة. لقد ذكر صالح بن يحيى أنه وجد محضر كُتب عن نزول الفرنج في الدامور في الخامس من جماد الأول من سنة 702 هـ (كانون الأول 1302م) حيث قتلوا وأسروا من قدروا عليه من حرس الدامور ومن المنشغلين بالزراعة فيها. وكان من القتلى الأمير البحتري التنوخي فخر الدين عبد الحميد، ومن الأسرى أخوه شمس الدين عبد الله. وقد حصل ذلك بسبب إهمال بني الشويزاني وبني العدس الحراسة 6. وفي ما ذكره صالح بن يحيى دلالة على أن بني الشويزاني كانوا في العهد المملوكي من أبدال الحراسة على الساحل لردّ غارات الفرنجة، ولإبلاغ السلطة المملوكية بها.

” أطلال «قصــر الشويزاني» هلنستية تعود إلى القرن الثالث أو الرابع قبل الميــــــلاد وربما سكن الحصن زعيــم من العشــــيرة بتكليف من المماليك “

كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب»
إن مؤلف مخطوط «قواعد الآداب حفط الأنساب» مجهول، لكنه من أبناء القرن الرابع عشر ميلادي بدليل إيراده ما يشير إلى أنه عاش قليلاً بعد سنة 1389. وقد تحدّث الكتاب عن العشائر التي نزحت إلى لبنان سنة 820 م، وعن فروعها التي بلغت معها مائة وإحدى عشرة عشيرة موّزعة على مائة وأربعين مكاناً في جبل لبنان الجنوبي. وبلغ مجموع صفحات المخطوط أربعاً وعشرين صفحة ونصف، منها أربع صفحات كاملة عن بني الشويزاني، كما أشير إليهم في ثلاث صفحات أخرى. وبهذا يكون المؤلف قد تكلّم عنهم اكثر مما تكلّم عن أية عشيرة بمن في ذلك العشائر التي تفوقهم حسباً ونسباً وأهمية.
وصف مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» بني الشويزاني بالقول «إنه لم يكن أحلف ولا أشعر ولا أرغب في جمع المال منهم»، وذكر أقرباءهم، ومنهم فوارس الجبلي، كما ذكر أماكن سكنهم، وأبرزها تيروش الواقعة تحت ممر ضهر البيدر في السفح الغربي لجبل الباروك إلى الشمال الشرقي من بلدة عين دارة، وقد كانت ذات أهمية في العصر الروماني وربما في العصر الهلنستي، بدليل وجود حجارة ضخمة ونواويس رومانية فيها، ومنها تنفرّع الطريق الذاهبة من قب الياس إلى بيروت والطريق الذاهبة إلى صيدا.
نصر عسكري يبدِّل الموازين
توسّع مؤلف «كتاب قواعد الآداب حفظ الأنساب» في الحديث عن حادثة جرت لبني الشويزاني مع الدرغام «مقدّم ناحية سبعل» الواقعة قرب بحمدون، ومع البقاعيين. وملخّص ذلك أن الدرغام قتل أبا الخير الشويزاني ظلماً وعدواناً، عندما انفرد به على طريق جبلية لا يراه فيها أحد، وظلّ ما فعله خافياً عن بني الشويزاني لبضع سنوات، لكن ما إن بلغت تفاصيل الاعتداء أخوة أبي الخير الستّة، حتى ساروا إلى سبعل بقيادة أبرزهم فهد، ومعهم نبا (زوج شقيقتهم) وهاجموا بيت الدرغام وقتلوه وثأروا لمقتل أخيهم.
إستنجد أهل سبعل بأنصارهم في وسط البقاع، فهاجم ثلاثمائة رجل من هؤلاء تيروش التي كان فيها مائتا رجل، نصفهم من بني نمر وبني روق، والباقون أكثرهم من بني الشويزاني. فصدّ أهل تيروش المهاجمين، وقتلوا وأسروا معظمهم، ثم عفّوا عن الأسرى لأنهم، أي أهل تيروش، يمنيون، أي أصلهم من اليمن، واشترطوا إطلاق سراحهم مقابل كل اثنين بحصير وكل ثلاثة بحصير بدلاً من الذهب والفضة، وذلك من قبيل التباهي بقوة بأسهم.
وبما أن فهد الشويزاني كان المبرّز في الهجوم على سبعل وقتل الدرغام، وفي صدّ هجوم البقاعيين، فقد شكره بنو نمر وبنو روق ورأّسوه عليهم 7. وهذا كان منطلقاً لتقدّم بني الشويزاني على العشائر المقيمة معها في تيروش، وبعد انتقالها منها.
جرت حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين في بداية توّطن العشائر النازحة إلى لبنان في سنة 820 م بحسب ما جاء في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب». وأعقب ذلك نزوح العشائر من تيروش بسبب الثلج والصقيع، وتوزّع أكثرها في الشوف بدءاً بقريتي عين زحلتا والبصّية (البصّيل)، وهذا يوضح الإتجاهات التي سلكتها العشائر النازحة من جهات معرّة النعمان والأمكنة التي نزلت فيها بعد أن استقرت لبعض الوقت في تيروش والمغيثة، إذ اتجه المناذرة (آل ارسلان وآل تنوخ وآل عبد الله وبنو فوارس) غرباً وأقاموا في جبل بيروت، وكان نزوحهم في سنة 758م، فيما اتجه من جاؤوا بعدهم، في سنة 820م إلى الجنوب الغربي، وأقاموا في جبل صيدا، أي الشوف، وكان بنو الشويزاني من أبرزهم.

أهمية تيروش
إن ما أورده كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين، وعن حصولها في بداية توطّن العشائر العربية في جبل لبنان، يفيد عن أهمية تيروش آنذاك، إذ كانت المحط الأول لرحال العشائر النازحة إلى جبل لبنان عبر الممر الرئيسي من البقاع والشام إليه، وهو ممر ضهر البيدر، حيث كانت تقيم فيها وفي محلّة المغيثة القريبة منها، ثم تتجه غرباً بإتجاه بيروت والساحل، وشمالاً غرباً بإتجاه المتن، وجنوباً غرباً بإتجاه الشوف، إلا أن قرية تيروش درست في أواخر العهد المملوكي، بدليل أنها لم تُذكر في جداول الإحصاء العثمانية العائدة للمنتصف الأول للقرن السادس عشر الميلادي.
وإذا كان مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الانساب» لم يسقط لقب «المقدّم» على الدرغام إبن قرية سبعل، ولفظة «الناحية» على هذه القرية، فإن تاريخ حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين هو في العهد المملوكي، ذلك إن اللقب واللفظة المذكورين لم يكونا متداولين قبله.

أحد-أودية-منطقة-الشوف-التي-عرفت-باسم-عشيرة-الشويزاني
أحد-أودية-منطقة-الشوف-التي-عرفت-باسم-عشيرة-الشويزاني

نشأة الشوف الشويزاني (السويجاني)
أطلقت العشائر العربية النازحة من جهات معرّة النعمان إلى لبنان أسماء على المناطق التي نزلت فيها، ومنها إسم الشوف الذي يعني المكان المرتفع والمشرف على ما حوله. ولكن هذا الإسم كان يُطلق مقروناً بلفظة أخرى لتمييز الأشواف عن بعضها، مثل الشوف الحيطي لإنتصابه كالحائط بين مجرى نهر الأولي وجبلي الباروك ونيحا، والشوف البيّاض لبياض صخوره، وشوف الميادنة نسبة إلى عشيرة الميادنة، وشوف هلال نسبة إلى عشيرة بني هلال، والشوف الشويزاني نسبة إلى بني الشويزاني 8.
توزّع بني فهد الشويزاني
بالعودة إلى ما ذكره مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن عدد رجال العشائر في تيروش، نستنتج أن من كانوا فيها من بني الشويزاني ليسوا فقط فهد وأخوته الستّة، كما نراه، يذكر أن بني نمر وبني روق وبني الشويزاني تقاسموا البلاد، لكنه لا يذكر من القرى التي سكنها بنو الشويزاني سوى تلك التي سكنها أبناء فهد الذي قتل الدرغام وهم أربعة: إبنه فهد، الملقّب بفهد الصغير، والمسمّى على إسمه لأنه ولد بعد وفاته، والثلاثة الآخرون، وهم صاعد وسبع وهمّام. وسكن أبناء فهد الصغير في مجدل بعنا وشانيه والبصيّه (البصّيل) وبنو صاعد في دير القمر والسمقانية وبقعاتا الشوف وجوارها، وبنو سبع في عين زحلتا والبصيّه وكفرقطرة ودير دوريت وبعقلين وجوارها، وبنو همّام في مجدل بعنا والبصّيه عند أقاربهم 9. وسكنت طائفة من بني الشويزاني البرجين والجاهلية وانتقلت طائفة إلى الجبل الأعلى. وإذا استثنينا قرى مجدل بعنا وشانيه والبرجين، فإن سائر القرى واقعة في المنطقة التي نسبت إلى بني الشويزاني، وهي الشوف الشويزاني.
صُحّفت لفظة «الشويزاني» أولاً في اللفظ، ثم في التدوين، فغدت «السويجاني». وأول ذكر للشوف الشويزاني جاء في وثائق الفرنج سنة 1261م، وفيها يحدّد سنيور صيدا (باليان) القرى المقطعة للفرسان التوتونيين، ومنها قرى في ما سمّاه «الشوف الشويزاني»10. وورد في تاريخ إبن سباط نص منشور مرسل من الملك عز الدين إيبك إلى الأمير البحتري التنوخي سعد الدين خضر بن نجم الدين محمد بن حجى بن كرامة بن بحتر، يحّدد إقطاعه، ومنه أربع قرى في «الشوف السويجاني»11. وورد في تاريخ إبن سباط إسم «الشوف السويجاني» في الحديث عن فيضان الأنهر في سنة 909هـ (1503-1504 م)12.
كان الشوف السويجاني يشتمل على القرى التي نزل فيها بنو الشويزاني، والتي ورد ذكرها، ويشتمل أيضاً على قرى لم يذكر مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» أن بني الشويزاني نزلوا فيها وكان يمتد بين نهر الصفا ورافده نهر الحّمام، وبين نهر الباروك، ويقع بين مناطق الجرد والشوف الحيطي وإقليم الخرّوب. وقد شكل ناحية بإسم «ناحية شوف شويزاني» في أواخر العهد المملوكي، وأوائل العهد العثماني، تضم ستاً وستين قرية ومزرعة. وهذه الناحية شكلت مع الشوف الحيطي ما دعي بإسم «شوف إبن معن» أي الشوف المعني. وما ورد في أحد المراجع، التي تحدّثت عن «شوف إبن معن»، عن وجود شوف ثالث بإسم «شوف شوران» كان نتيجة الخطأ في قراءة شوف شويزاني: فقرئت «شوف شوران». وبعد ذلك أخذت من الشوف الشويزاني قرى عند إحداث مقاطعتين إداريتين جديدتين، هما العرقوب والمناصف، فصار يضم تسع قرى هي بعقلين وعترين وعينبال وغريفه والسمقانية والجديدة والكحلونية ومزرعة الشوف وبيقون، ثم نشأ من بلديات هذه القرى إتحاد بلديات في سنة 1979 بإسم «إتحاد بلديات الشوف السويجاني» يضمّ بلديات القرى المذكورة بإستثناء بيقون التي لم يكن فيها مجلس بلدي، كما يضمّ بلدية عين وزين التي كانت تتبع في عهد المتصرفية لمديرية العرقوب الجنوبي.

” جانبلاط عبد الملك نَصَرَ حيدر الشهابي في معركة عين دارة فأقطعه الجرد وشيّخــــه عليه وكتب له «الأخ العـــزيز»  “

قصر السويجاني
توجد على رأس هضبة قرية الكحلونية الواقعة في الشوف السويجاني أطلال بناء قديم كبير يعرف بقصر السويجاني، تماشياً مع القاعدة المعمول بها، وهي إطلاق إسم القلعة في أكثر الأحيان، وإسم القصر في أقلها، على كل بناءٍ كبير حتى لو كان هيكلاً للعبادة. وهذه الأطلال قسمان: القسم الشمالي، وهو بطول 35 متراً، تبدو أساساته الضخمة، وبقايا جدرانه التي تعلو حوالي المترين، بأحجار كبيرة مشذّبة ، جيدة البناء. والقسم الجنوبي وهو أقل إتساعاً، ولا يظهر منه سوى أساسات لا تعلو عن سطح الأرض. وقد أظهرت أعمال التنقيب في القسم الشمالي بين سنة 2005 وسنة 2013 أنه حصن هلنستي يعود إلى بداية القرن الثالث أو أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، سمّي بقصر السويجاني لأحد الإحتمالين التاليين:
أولاً: النسبة إلى المكان، أي إلى الشوف السويجاني.
ثانياً: النسبة إلى أحد أعيان بني الشويزاني، وهذا مرجَّح أكثر من الإحتمال الأول، إذ إن الحصن يقع في منتصف الطريق الرئيسية بين صيدا وساحلها وبين قب الياس، المعروفة منذ القرون الوسطى بـ «السكة السلطانية»، وهذا العين الشويزاني قد يكون مكلّفاً من المماليك بحراسة هذه الطريق المهمة، والإقامة في الحصن المذكور الذي ربما كان أيضاً خاناً للمسافرين كخان الحصين الواقع بين عاليه وبحمدون في منتصف الطريق الرئيسية بين بيروت وقب الياس. وقد يكون وما حوله من أراض ملكاً لعين من بني الشويزاني يستثمر الأراضي دون أن يكون مكلّفاً بأية مهمة أمنية أو رقابية على الطريق التي تمرّ أمام الحصن المشرف على مناطق واسعة تمتد من صنين شمالاً إلى جهات جزّين جنوباً.13
يقع قصر السويجاني في خراج قرية الكحلونية ، وهو أقرب إليها من سائر القرى المجاورة له، وهي مزرعة الشوف، وعترين، وجديدة الشوف، وبقعاتا التابعة لها، هذا قبل أن يمتدّ العمران من هذه القرى ويصل إلى جوار الحصن . مُسح معظمه في الثمانينيات من القرن العشرين مشاعاً للكحلونية مما يدل على عدم ملكية أحد له في الماضي. وقد كان بعده النسبي عن القرى المجاورة له ، وكبر حجارته، وانتشار المقالع الحجرية حوله بكثرة، السبب الرئيسي في الحفاظ على معالمه وعدم التمادي في السطو على حجارته وإبقاء بعض جدرانه قائمة وإن على علو منخفض .
ومما يلفت هو ان أعمال التنقيب في الجزء الشمالي الشرقي من قصر السويجاني جرت بسهولة وأدت إلى اكتشاف غرفة مهدّمة محروقة ، عُثر فيها بين الرماد والتراب على حلي ومقتنيات برونزية وعلى فخاريات أثبتت أنه حصن هلنستي مما يدل على أن هذا الجزء بقي على وضعه بعد هدمه وإحراقه في أواسط القرن الأول قبل الميلاد ولم تعبث به يد الإنسان كما عبثت بالكثير من المباني القديمة والنواويس الحجرية ، لكن لصوص الآثار عبثوا بجزء من الحصن في الأحداث اللبنانية بين العامين 1975 و 1990 فهدموا بعض قسمه الشرقي وأحدثوا فجوة فيه بحيث بدا مدرّجاً. وما أوقفهم عن متابعة التخريب فيه هو عدم عثورهم على ما يبتغون من الحلي والمقتنيات الأثرية الغالية إضافة إلى سهر بلدية الكحلونية على الحصن والمحافظة عليه . ومن الضروري متابعة التنقيب في القسم الشمالي من الحصن لمعرفة ما إذا كانت الأجزاء التي لم يجرِ فيها التنقيب بقيت على حالها بعد هدمه وإحراقه، كما من الضروري التنقيب في القسم الجنوبي علَّ هذا وذاك يضيئان على من سكنوا الحصن واستعملوه بعد هدمه وإحراقه ، ويوضحان إشكالية تسميته: هل هي نسبة إلى المكان ( الشوف السويجاني ) أم نسبة إلى أحد أعيان أسرة بني الشويزاني .
يذكر في هذا المجال أن بلدية الكحلونية تعمل على استعادة ما أُخذ من أرض الحصن ومُسح ملكاً خاصاً مع الأملاك المجاورة ، وهي تعدُّ بناء صغيراً هو عقد قديم ليصبح متحفاً يُوضع فيه ما يعثر عليه في الحصن، ومما يُذكر أيضاً أن أعمال التنقيب يقوم بها مختصون في علم الآثار، وأن تمويل التنقيب يؤمّنه إتحاد بلديات الشوف السويجاني بالتعاون مع مديرية الآثار .

“هزيمة محمود باشا أبو هرموش في عين دارة أضعفت العائلة لكنها حافظت على مكانتها بين مشـايخ الصف الثاني في الفتــرة اللاحــــقة”

بقايا حصن الشويزاني أثارت اهتمام علماء الآثار وأثبت أنه لعب دورا مهما
بقايا حصن الشويزاني أثارت اهتمام علماء الآثار وأثبت أنه لعب دورا مهما

الأسر المتحدّرة من بني الشويزاني
من الروايات المتناقلة أن آل عبد الملك وآل أبو هرموش وآل حماده ( بعقلين ) وآل أبو حمزة من بني الشويزاني ، وهناك بالتأكيد أسر غيرهم لسنا متأكدين من نسبها إليهم، وأسر لا نعرفها نظراً إلى كثرة القرى التي سكنها بنو الشويزاني، ولإتساع المنطقة الجغرافية المسمّاة بإسمهم. وأهمية الأسر الأربع التي سنتحدث عنها ناتجة من عراقة النسب، ومن بناء أبنائها مجداً جديداً على مجد قديم.
1. آل عبد الملك : ترجم طنّوس الشدباق لمشايخ آل عبد الملك الدروز ، في كتابه «أخبار الأعيان في جبل لبنان» فذكر «أنهم ينتسبون إلى بلاد الحجاز، وأنهم قدموا مع الأمراء التنوخيين وتوطّنوا في الكنيسة في مقاطعة المناصف، ثم انتقلوا إلى عاليه ثم إلى بتاتر وأقاموا فيها فظهر منهم رجل يُسمى جانبلاط .. وسنة 1711 لما فرّ الأمير حيدر الشهابي من أمام معسكر محمود باشا أبي هرموش تبعه الشيخ جانبلاط إلى غزير وإلى الهرمل ثم إلى المتن وحضر واقعة عين دارة فأقطعه مقاطعة الجرد وشيّخه عليها وكتب له الأخ العزيز».14
والشدباق يعني أحياناً بكلمة « التنوخيين « البحتريين التنوخيين أي التنوخيين المناذرة، وهو يخطىء حين يعني بها أحياناً أخرى قبيلة لخم التي ينتسب إليها الملك النعمان إبن ماء السماء 15 الذي يتحدّر منه المناذرة ( آل أرسلان وآل عبد الله وبنو فوارس التنوخيون ) وتبعاً لذلك، ولأنه لا يعيد آل عبد الملك إلى التنوخيين، نستنتج أنهم عنده من أسرة غير منذرية مما يتوافق مع القول إنهم من بني الشويزاني. أما وجودهم في بتاتر، فهو بالتأكيد قبل القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك بناءً على الآثار التي تعود إليهم وبخاصة مقبرتهم المدوّن عليها إسم « الشيخ جنبلاط إبن الشيخ فخر الدين إبن عبد الملك »16 .
إن أحد أبناء آل عبد الملك، المؤرّخ عبد المجيد ، يخطّىء المؤرّخون الذين يعيدون أسرته إلى بني الشويزاني ويقول : «إنهم ينسّبون أنفسهم إلى جدّهم الأعلى عبد الملك بن مالك بن بركات بن مسعود بن عون إبن الملك المنذر الخامس آخر ملوك المناذرة في الحيرة ، وعبد الملك المذكور هو أحد الأمراء الذين استدعاهم الخليفة أبو جعفر المنصور وأمرهم بالتوجه للتمركز في جبل لبنان» 17 كما إن المؤرّخ المذكور يعيد آل عبد الملك إلى فرع من المناذرة المتحدّرين من الملك المنذر الخامس هو فرع بني فوارس، ويجعل الأمير معضاد الفوارسي جدهم القديم. 18 لكن عبد الملك بن بركات لا يُذكر إلا في السجل الأرسلاني وهو يذكر فيه كوالد للأمير فوارس الذي ينتسب إليه بنو فوارس وأميرهم المشهور معضاد. وهذا الإسم لا يُذكر في أي مصدر أو مرجع بعد ذلك في ما يتعلق بنسب أية أسرة . وبناءً على هذا تبقى نسبة آل عبد الملك إلى بني الشويزاني هي المرجّحة .
ومما يجدر ذكره أخيراً هو أن آل عبد الملك برزوا بعد موقعة عين دارة في سنة 1711، وطوال عهد سيادة الإقطاع، إحدى أسر مشايخ الدروز الكبار، وهي بالإضافة إليهم، آل جنبلاط وآل عماد وآل نكد وآل تلحوق.
2. آل أبو هرموش : كان آل أبو هرموش يقيمون بحسب أحد المراجع في نيحا الشوف، ومنها انتقل كبيرهم علي إلى السمقانية في العهد الشهابي، وأقام فيها وتوفي بعد عمر مديد 19، وبنى إبنه محمود قصراً فيها فيما بنى إبنه الثاني هزيمة قصراً في بعقلين، هدمهما الأمير حيدر الشهابي بعد انتصاره في موقعة عين دارة. ولا نعلم إذا كانت هناك صلة بين آل أبو هرموش وبين يوسف بن هرموش الذي ذكرت الوثائق العثمانية أن أهالي عين دارة هاجموا في سنة 1564 بقيادته وقيادة محمد بن سيدي المعروف بأبي عرام ، منزل المكلّف بجمع الضرائب من قبل الدولة العثمانية 20. وفي اعتقادنا أن آل أبو هرموش كانوا كلهم أو بعضهم مقيمين أصلاً في السمقانية وبعقلين بدليل إقامة أجدادهم بني الشويزاني فيهما بعد إنتقالهم من تيروش، وبدليل ما يتناقله آل ابو هرموش وهو أنهم كانوا كثراً في السمقانية في زمن محمود ابو هرموش، وأنهم فرغوا من المقاتلين بعد موقعة عين دارة، ولم يبق منهم سوى كبار السن والنساء والأطفال ، وبدليل أن أنسباءهم آل حماده هم من سكان بعقلين، وأن أنسباءهم آل أبو حمزة كانوا مقيمين في السمقانية قبل انتقالهم إلى الخريبة (الشوف). وقد يكون هناك من أقام منهم في نيحا بدليل تصرّفهم بملكيات عقارية في مرج بسري وفي منطقة جزين.21 ولربما كان المقصود بـ «الشيخ أبو هرموش» الوارد ذكره في إحدى نسخ تاريخ فخر الدين للشيخ الخالدي الصفدي، واحداً منهم. وقد توفي الخالدي سنة 1624.
إشتهر آل أبو هرموش ببروز شيخهم محمود، الذي كلّفه الأمير حيدر الشهابي بجباية الأموال من جبل عامل، فتقرّب من والي صيدا، واستحصل منه على لقب «الباشا»، وانقلب على الأمير حيدر، وحاول استعادة الإمارة الدرزية، بإعادة أمراء آل علم الدين اليمنيين الى إمارة الجبل التي فقدها الدروز بموت الامير أحمد المعني بدون عقب، وانتقالها الى الامراء الشهابيين. لكن محمود باشا أبو هرموش هُزم مع اليمنيين في موقعة عين دارة حيث قُتل فيها وبعدها أمراء آل علم الدين، وإنتهى أمره أسيراً، لكنه لم يُقتل إحتراماً للقب الباشوية الذي يحمله، وإنما اكتفى الأمير حيدر بقطع لسانه وإبهاميه. ومنذ ذلك الحين تراجع شأن آل أبو هرموش قليلاً، ومع هذا ظلّت لهم مكانتهم

” آل حماده تفرعوا عن أبو علي مرعي تلميذ الأمير السيد ولعبوا دوراً بارزاً في إمارة بشير الثاني وفي عهد المتصــرفية  “

أرز الشوف كان فاصلا طبيعيا بين شوف بني الشويزاني ومنطقة البقاع وتبدو ثلوج السلسلة الشرقية في الأفق
أرز الشوف كان فاصلا طبيعيا بين شوف بني الشويزاني ومنطقة البقاع وتبدو ثلوج السلسلة الشرقية في الأفق

” الشيخ إسماعيل أبو حمزة شيخ عقل الموحِّدين الدروز كان رجل حلّ وعقد وهو الذي رعى في سنة 1792 الاتفــــاق بين اليزبكيين والجنبلاطيين  “

كمشايخ، وبرز منهم العديد. ولا عجب إن عدّهم المؤرخون من مشايخ الصف الثاني، ويلون في الاهمية، مع أنسبائهم آل ابو حمزة ، مشايخ الصف الاول الذين هم آل جنبلاط و آل عماد، و آل نكد، وآل تلحوق ، وآل عبد الملك 22 .
3. آل حمادة: من الروايات عن آل حمادة أنهم من بني الشويزاني، وأنهم سكنوا في بعقلين بعد نزوحهم من تيروش، وإحدى الروايات تقول إنهم سكنوا الكنيسة. وانتقل كبيرهم الشيخ ابو علي مرعي من بعقلين الى عبيه و التحق بالأمير جمال الدين عبدالله التنوخي الامير السيد (قدّس الله سره)، وغدا من تلاميذه، وكتب عنه بعد مماته. وإليه يعود فضل الإتيان بإحدى مخطوطات الموحِّدين الدروز من القاهرة، بتكليف من الامير السيد. وعندما توفي الشيخ مرعي دُفن في الفساتين (البساتين حالياً)، وعاد أبناؤه الى بعقلين، ومنهم يتحدّر شيوخ آل حمادة، الذي كان لكبيرهم الشيخ حسين دور كبير في عهد الامير بشير الشهابي الثاني، الذي ولاّه على إقليم الخرّوب وهذا الدور سيستمر بعد ذلك على الصعيد السياسي والإداري والديني في متصرفية جبل لبنان، ثم في لبنان الكبير بعد إنشائه في أول أيلول سنة 1920.
4. آل أبو حمزة: كان آل أبو حمزة يقيمون في السمقانية قبل انتقالهم إلى الخريبة في الشوف الحيطي، في أوائل القرن الثامن عشر، إذ من المرجّح أن أول من انتقل منهم هو الشيخ إسماعيل أبو حمزة بدليل أن ضريح والده موجود في السمقانية.
عدّ القس حنانيا المنيّر (1751 – 1823) آل أبو حمزة مع أنسبائهم آل أبو هرموش، من مشايخ الصف الثاني بعد مشايخ الصف الأول من مقاطجيي الدروز، ولكن ليس في تصرفهم مقاطعات ولا رجال مثل مشايخ الصف الأول. وقد أضافوا إلى نفوذهم التقليدي المتأتي من مشخيتهم نفوذاً جديداً متأتياً من المناصب العديدة، ومنها المناصب التي تسلّمها بعض أبنائهم، وأشهرهم منصور في إمارة الجبل 23، ورعى الشيخ إسماعيل أبو حمزة الذي كان شيخ العقّال أو شيخ عقل الموحِّدين الدروز من سنة 1759 إلى سنة 1798 وقد كلّفه في سنة 1763 الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي بالعمل من أجل إحلال الأمير يوسف الشهابي محل عمه الأميرفي سنة 1792 والإتفاق بين اليزبكيين والجنبلاطيين حسب ما تذكر إحدى الوثائق التي كانت موجودة عند الشيخ سعيد خطار أبو حمزة 24. ومن أشهر رجالات آل أبو حمزة الشيخ الزاهد العابد أبو يوسف أمين المتوفّى سنة 1389هـ (1969م)، وله ضريح في الخريبة هو مزار للتبرّك .

الشيخ ابو علي يوسف البردويل

الشيخ العابد الذي خضع له الطاغية بشير الثاني

سيــرة شيــخ اليقيــن وأســد الديــن
الشيــخ أبو علــي يوســف البردويــل

ترك الاهل والعشيرة شاباً وبحث في قلب جرف صخري
عن خلوة ينقطع فيها إلى الصلاة والمناجاة والتقرب من الله

اختير شيخاً لمشايخ خلوات البياضة ثم شيخ عقل للطائفة
وترك الخلوة والصومعة من أجل مواجهة مظالم الأمير بشير

رفع الامير بشير سيفه ليضرب عنق الشيخ البردويل
فناداه قائلاً:«يا أمير سيفك كبير ولكن سيف الله أكبر»

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور (سورة الحج:38 )

في سير الصالحين من الموحدين العابدين الذين يزخر بهم تاريخ بني معروف يحتل الشيخ يوسف أبو رسلان (أبو علي يوسف البردويل) من رأس المتن مكاناً مرموقاً بين ثلّة من الأولياء الصالحين، وقد كان ممكناً لهذا الشيخ الزاهد العابد أن يمضي حياته كلها في الخلوة والذكر لولا أن وجد نفسه في عصر من الإضطراب والمظالم التي أحاطت بأخوانه الموحدين وزعاماتهم وأعيانهم على يد الأمير الجائر بشير الشهابي الثاني، فقرر وعملاً بمبدأ حفظ الأخوان أن يترك حياة الإعتكاف وطمأنينة الصومعة وأن يخرج إلى الملأ ذوداً عن حياضه وأرضه وكرامة شعبه، وبسبب مواقفه هذه، فقد وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الأمير بشير الذي قرّر التخلص منه وإعدامه لكن كرامة الشيخ الضعيف عند ربه جعلت السيف يجمد في يد السياف ثم في يد الأمير الغاضب، وجعلت الحاكم الجائر يطأطئ الرأس ويخضع لكرامة هذا الولي الذي لم يخش في الحق لومة لائم.
رغم اشتهار تلك الحادثة وتداولها على مرّ الأجيال فإنها لا تمثل في الحقيقة سوى تتويج لنضال طويل ولمآثر كبيرة قدّمها الشيخ يوسف أبو رسلان إلى مجتمعه وأخوانه، فهذا الشيخ العارف العالم اشتهر ببناء الخلوات وإنفاقه الواسع عليها وبدوره في تقريب المواقف بين أعيان الموحدين والدفاع عن الحقوق وشدّ العزائم، وقد كان من علامات علو مقامه وتعاظم شأنه اختياره بإجماع المشايخ «شيخ مشايخ» خلوات البيَّاضة قبل أن ينتخب شيخ عقل للطائفة ونائباً لشيخ مشايخ الطائفة في عهد الأمير بشير، كما إن الله أراد له أن ينشر مآثره ويعمم فوائد علمه وتقواه فقيض له أن يعيش السنوات الأربع الأخيرة من حياته في بلدة بعقلين بين مشايخ أجلاء أحبوه وأحبهم وأن يتوفاه الله في تلك البلدة العريقة التي تحتضن رفاته ومزاره الذي يشكل مقصداً للمؤمنين من مختلف مناطق لبنان ومن خارجه.
في سياق اهتمامها بسير الصالحين تعرض «الضحى» في ما يلي لسيرة هذا الشيخ العارف على أمل أن يساهم ذلك في التعريف بالصفوة من أهل الله العابدين الذين لم يخل منهم زمان أو مكان والذين يبسطون أنفاس كراماتهم وشفاعتهم على مجتمعنا ويدفعون عنه البلايا ويحفظونه في تقلب الممالك والدهور.

الصومعة-في-بعقلين
الصومعة-في-بعقلين

 

خلوة-راس-النحل-في-بعقلين
خلوة-راس-النحل-في-بعقلين

قال أحد مشايخ الصوفية: «من لم تكن له بدايات محرقة لم تكن له نهايات مشرقة» للدلالة على أن رجال الله يبدأون السير في طرق المجاهدات في سن مبكرة لأن الله يضع في قلوبهم جذوة التقوى والخشية ليقربهم ويؤهلهم لتلقي المعارف وصفاء النفوس. وقد كان الشيخ يوسف ابو رسلان مثالاً على السير المبكر في الطريق إلى الله، إذ ارتحل وهو في ريعان الشباب عن أهله والعشيرة إلى البريّة في خراج رأس المتن وانقطع لسنوات عدّة للعبادة والدرس والتدقيق في علوم الدين زاهداً ناسكاً في خلوة الشقيف الصغيرة في أحضان طبيعة خلابة تبعث الخشوع في النفوس وتشهد على عظمة الخالق، وهي خلوة مازالت قائمة وتستحق الزيارة لمن فاتهم ذلك حتى الآن.
تقع خلوة الشقيف في نهاية خراج رأس المتن عند نهاية السنام الجبلي الذي يشكل جزيرة مستطيلة تبدأ بين بلدتي بيت مري والعبادية، وتنتهي في بلدات قرنايل وفالوغا وحمانا. ويلتقي في أسفل واديها «نهر الجعماني» القادم من سفوح جبل صنين بالرافد الثاني القادم من حمانا عبر وادي لامارتين ليشكل الرافدان معاً نهر بيروت الذي يصبّ في البحر المتوسط.
لا يستطيع المرء الوصول الى خلوة الشقيف الّا عن طريق واحدة تمتد من الغرب الى الشرق في خاصرة صخرات شاهقات محدودبات تشكل في أعلاها مصاطب صخرية ناتئة تظلل الزائر مسافة نحو ثلاثمائة متر، وتقوده فوق علو شاهق يطل منه على جنّة خضراء من غابات الصنوبر والسنديان والأشجار البريّة. إن اللسان لينعقد دهشة أمام هذه الآيات الطبيعية التي تشهد بجلال الخلق وعظمة الرب الذي أحسن كل شيء خلقه سبحانه ذو الجلال والجمال والإكرام. ومن اللافت على أي حال أن جميع أهل الله الذين اختاروا طريق الزهد والتقرب من المولى بالخلوات والذكر اختاروا دوماً أماكن منعزلة عن الناس ومباهج الدنيا فأشادوا خلواتهم البسيطة في وسط الطبيعة والحياة البرية بحيث لا يشغلهم شاغل عن التفكر والتأمل ومجاهدة النفس وبحيث يضطر الناس حتى أقرب المقربين إليهم أن يحترموا رغبتهم في حياة الخلوة والسكون فلا يقطعوا عليهم مجاهداتهم بالزيارات أو الفضول.
إذا نظرنا عن قرب في خصائص ذلك الموقع الذي اختاره الشيخ الشاب لبناء معتكفه النائي فإننا سنلاحظ أنه يمتاز إلى جانب محيط السكينة الذي يظلله بأنه موئل طبيعي دافئ في جوف صخور شاهقة وعملاقة وهو لذلك يصدّ الرياح والعواصف والبرد القارس الذي يهب بزمهريره من الشمال.
بدأ تاريخ خلوة الشقيف منذ مائتي سنة ونيف مع الشيخ أبو يوسف ابو رسلان وقريبه الشيخ ابو علي نعمان، إذ كان هذان الناسكان من أوائل الذين قصدوا ذلك الجرف الصخري الشاهق المسمى «الشقيف» وقد قاما بتشييد الخلوة الأولى واستقرّا فيها متعبدين فترة غير قصيرة في أواخر القرن الثامن عشر.
وقد ظلّت طريق الشقيف حتّى العام 1990 ضيقة وعرة ومخيفة، إذ كان على الراجل إليها ان يمشي بحذر شديد خوف أن تزل قدمه أو يختل توازنه فيهوي إلى الوادي السحيق، وربما كانت وعورة الطريق المفضي إلى الخلوة من الأمور التي عوّل عليها الشيخ البردويل لحماية اعتكافه، ويذكرنا هذا النهج بأسلوب بعض النساك الذين بنوا معابدهم في أعالي صخور يعتبر سلوكها مغامرة حقيقية، أو في مناطق يصعب الوصول إليها على الناس العاديين، لكن المرء لا يمكنه مغالبة الدهشة لهذا النهج في ركوب الخطر من أجل العزلة والانفراد مع الخالق، وقد كان على الشيخ الزاهد ورفيقه أن يقطعا تلك الطريق الخطرة مراراً وأحياناً في الليالي أو في الطقس العاصف.. لكن وبعد مائتي عام وأكثر إستقر رأي المشايخ على أن ما كان سهلاً على أهل ذلك الزمان من الرجال الأشداء لم يعد بالسهولة نفسها على أهل الدعة واليسر من أبناء جيلنا، وقد رغب المشايخ في تعميم الفائدة وجعل الخلوة متاحة للمهتمين بالتعرف عليها والتبرك بالمكان وربما التمتع بأجواء السلام والطمأنينة التي تظلله، فبادروا سواء عبر التبرع بالمال أو بتقديم العمل المباشر أو المواد إلى توسيع الطريق وتعبيدها وبناء السور الواقي، كما أضافوا إلى ذلك إنشاء خلوة جديدة مزوّدة بمرافق صحيّة ومياه الشرب والسياسة،وأصبح وصول السيارات سهلاً لأغراض الضرورة مثل نقل المؤن واللوازم أو نقل بعض المشايخ المسنين.
وبذلك تحوّلت خلوة الشقيف إلى مقرّ عبادة عامر بالمشايخ الذاكرين ومزار للمؤمنين بعد أن كانت مكاناً نائياً للزاهدين المتعبدين. وفي صيف 1991 زار هذه الخلوة المشايخ الأجلاء أبو حسن عارف حلاوي وأبو محمد جواد ولي الدين وأبو ريدان يوسف شهيب، وأبو محمد صالح العنداري وكانوا يمثلون الهيئة الروحية العليا لطائفة الموحدين الدروز اضافة الى عدد كبير من مشايخ الطائفة، وكانت البادرة تحمل مغزى التبرك بالمكان من جهة كما أريد منها تكريس الخلوة من أعلى مرجعية روحية كأحد المزارات والمعالم الروحية البارزة في مجتمع الموحدين.

كان على قاصد «خلوة الشقيف» ان يمشي بحذر شديد على طريق ضيق ومتعرج خوف أن تزلّ قدمه أو يختل توازنــه فيهوي إلى الوادي الســحيق

الإنتقال إلى خلوة الرويسة
بعد أن أمضى سنوات من شبابه في خلوة الشقيف مع قريبه ورفيق خلواته الشيخ أبو علي نعمان قام الأخير ببناء خلوة جديدة انتقل إليها مع الشيخ يوسف في منطقة الرويسة في رأس المتن، واختار الشيخ نعمان مكان الخلوة على رابية صنوبرية جميلة في نهاية البلدة وهي تطل من الغرب على مناطق خلدة والبحر المتوسط وعاليه وبحمدون، وشمالاً على بلدات بيت مري وبرمانا وصولاً إلى بسكنتا وصنين ويشكل هذا الأفق الأزرق والأخضر لوحة طبيعية خلابة ويوفّر بالتالي مناخاً مثالياً للتأمل والاعتكاف والصلاة. وظلت هذه الخلوة مفتوحة تستقبل الساهرين والذاكرين لأكثر من قرن من الزمن، كما إنها بقيت قائمة حتى عهد قريب.

بناؤه خلوة في وسط رأس المتن
بعد فترة، ومع اشتهار أمره بين المؤمنين، تحول اهتمام الشيخ أبو علي يوسف إلى ما يمكن أن يقدمه لأخوانه ليساعدهم على أداء فروض العبادة والاجتماع على الذكر فقرر بناء الخلوة التي عرفت بإسمه في وسط رأس المتن على مقربة من السرايا (مدرسة اوليفر). وقد حرص الشيخ أن يبذل من نفسه ومن ماله ما يمكّن أهل زمانه أيضاً من زيارة مكان للعبادة يكون مفتوحاً في وسط البلدة للجميع. وقد بقيت تلك الخلوة بالفعل عامرة زمناً طويلاً لا يقل عن مئة وعشرين سنة، وكانت تتألف من طبقتين: العلوية للسهر والعبادة للمشايخ الأجاويد، والسفلية لإيواء الأغراب والفقراء وعابري السبيل الذين يمرون في رأس المتن أو يودون المكوث فيها لوقت قصير. وكانت إدارة الخلوة تقدم لهم الطعام والشراب والمبيت على سبيل الخير والثواب. ولا يزال المسنون من أهالي بلدة رأس المتن إذا تحدثوا عن هذه الخلوة قالوا: إذا سأل الغريب عن مكان يؤمه في رأس المتن فكان يأتيه الجواب التالي «ما إلكْ إلا خلوة بيت أبو رسلان».
وقد بلغ من اهتمام الشيخ أبو علي يوسف بالخلوة أن أفرد لها بنداً في وصيته نص على أن تظل مفتوحة من بعده، وطلب في وصيته ان «تبقى الخلوات مفتوحة أمام المقبلين والمؤمنين للصلاة والعبادة: «بحيث يضَمُّوا (أي «يبقوا»)الخلوات مفتوحين إلى الذين يَلفوا (أي يقصدوا المكان) من أهل الخير وسهرتهم منقامة (قائمة) لكافة من يلفي من أهل الضيعة وغيرهم ونقلهم1 منقام ورزقهم مشغول».
يُلاحظ انّ الشيخ كان يرغب في تشجيع أهل الخير من الضيعة ومن خارجها على الحضور الى الخلوات ساعة يشاؤون، وان تقام لهم السهرة والضيافة (النقل).
جدير بالذكر أنّ المؤسسات هي عادة التي تهتم بتأمين المكان والتقديمات الأخرى لمجموعة من الناس، وقلما عثرنا على أفراد مثل الشيخ البردويل يتجهون هذا التوجه الديني والاجتماعي في آن، وربما كان يسر الشيخ والسعة اللذين تمتع بهما جراء أرزاقه الواسعة هما اللذان ساعداه على تحقيق تلك الأهداف وهو الذي بذل كل ماله في سبيل الدين، بينما عاش هو حياة زهد واعتكاف وتقشف بعيدة جداً عن مسرات اليسر والرفاه. .وهذا التوجه ظهر بأجلى معانيه في وصية الشيخ التي وقف فيها معظم أملاكه للخلوات وأماكن العبادة.
واشتهرت خلوات الشيخ البردويل على مدى عشرات السنين بأنها ليست مكاناً للعبادة فحسب، بل موئلاً يستضيف الغرباء والفقراء حتّى عهد قريب ويقدّم لهم المأوى والطعام والشراب. وكان تأمين ذلك يتم من مداخيل الأوقاف الواسعة التي كرّسها الشيخ وقفاً مؤبداً لذلك الغرض ولغيره من أغراض الخير.
وقد أقيمت في مكان خلوة الشيخ البردويل التي درست وتقادم عهدها خلوة جديدة كتب فوق مدخلها الرئيسي«خلوة الشيخ أبو علي يوسف البردويل أبو رسلان».

الطريق-إلى-الخلوة
الطريق-إلى-الخلوة

شيخاً لمشايخ خلوات البيَّاضة
المحطة الثالثة المهمة في مسيرة الشيخ أبو علي يوسف البردويل كانت يوم اختير ليكون شيخ مشايخ البيَّاضة وليرعى شؤون تلك الخلوات ومدرستها التوحيديّة الناشئة وينظّم أحوالها وأوقافها وسجلاتها.
تقع خلوات البيَّاضة على بعد كيلومتر واحد جنوب حاصبيا ويرجع تاريخ إنشائها إلى منتصف القرن الحادي عشر للهجرة، أي منذ حوالي 275 سنة ميلادية، وهي المرجع الديني الأعلى لعموم طائفة الموحدين الدروز ولها مكانتها الرفيعة في قلوب الموحدين في جميع الأقطار. ونظراً إلى ازدهار المكان وكثرة المشايخ وطالبي علوم الدين الذين باتوا يفدون إليها من مختلف المناطق، فقد عمل مشايخ البيَّاضة على وضع نظام جديد لإدارة وضبط الشؤون الدينيّة التعليميّة الجديدة، واتفقوا على أن يكون لها مسؤول أعلى من المشايخ يُعنى بشؤون الخلوات والمقيمين فيها، وأطلقوا عليه لقب «شيخ المشايخ»، وكان أول شيخ مشايخ لخلوات البيَّاضة يتم اختياره بالإجماع هو الشيخ أبو علي يوسف البردويل أبو رسلان.
هكذا كانت انطلاقة تجدد لخلوات البيَّاضة من مدرسة تحت الشجرة الى نظام خاص مستقل بحيث أصبح لها مشايخها وتلامذتها الذين ينزلون في الخلوات لقراءة ودراسة الكتاب الكريم وحفظه والتفقه في أحكامه.

مدخل-مزار-الشيخ-في-رأس-النحل-في-بعقلين
مدخل-مزار-الشيخ-في-رأس-النحل-في-بعقلين

شيخ عقل للموحدين الدروز
بعد سيرة حافلة من الإرتقاء في مسالك العبادة والتقرب من الله تعالى ومن العمل لإعلاء شأن الدين وحفظ الأخوان الموحدين تمّ الإتفاق بين مشايخ الطائفة على اختيار الشيخ أبو علي شيخ عقل للموحدين الدروز وهو موقع بقي فيه لمدّة تناهز العشرين سنة وحتى انتقاله إلى جوار المولى. وقد فرض منصب شيخ العقل على الشيخ أبو يوسف تولي مسؤوليات عامة تتعلق بحماية مصالح الطائفة والدفاع عن أبنائها في مواجهة مظالم الأمير بشير الثاني، وقد أظهرت تلك الحقبة الحساسة في تاريخ الموحدين كيف تحوّل الشيخ الوديع الناسك المعتكف إلى أسد هصور عندما تعلق الأمر بحفظ الأخوان والذود عن كرامات الموحدين وأراضيهم وأرزاقهم التي تعرضت لأقسى حملة من الاعتداءات والاغتصاب والسلب المنظم من قبل الأمير الطاغية وبطانته.
وكان شيخ العقل في تلك الفترة يلعب دوراً مهماً وفعالاً في الحفاظ على تماسك الطائفة ووحدتها في وجه محاولات لبث الفرقة في صفوفها وتعميق الحزبيات وتأليب فريق على آخر. وكان ذلك الدور يتم من خلال التوسط بين الأمراء والأعيان الدروز عند وقوع الخصام فيسعى لإقامة الصلح بين الفرقاء، وكانت لمشيخة العقل في تلك الأمور كلمة مسموعة و«مونة» مقبولة وكانت الجهود غالباً ما تنتهي إلى وأد الفتن وإعادة الوفاق وجمع الصفوف. ونظراً إلى مكانة مشيخة العقل الرفيعة في البلاد كان لا يخرج عن طاعتها أحد من الزعماء أو من عامة الناس، حتّى ان حكام البلاد من الشهابيين ومن سبقهم كانوا يقبّلون يد شيخ العقل بكل احترام وتقدير وعند تشييعه يرافقونه حتّى الباب الخارجي.

” الشيخ أبو حسن عارف حلاوي وكبار مشايخ الطائفة زاروا خلوة الشقيف بعد ترميمها للتبرك ولتكريسها كمعلـــــــم روحي للموحديـــن الدروز  “

ولم يكن يصدر فرمان من الباب العالي إلى حكام إمارة جبل لبنان إلا وكان يوجه أولاً إلى الأمير وبعدها مباشرة إلى شيخ العقل فكانت السلطة العثمانية تنظر إلى من يتولى مشيخة العقل من المشايخ ذوي الرجاحة والحكمة باحترام لأن السلاطين أنفسهم كانوا يعلون من قدر المفتي أو «شيخ الإسلام» في الآستانة، وكان لأهل الطرق الصوفية وشيوخها مكانة رفيعة في المجتمع العثماني وكان السلطان ينفق على إقامة الزوايا الصوفية. وبنفس المعنى فقد كان لشيخ العقل في نظرهم قدر كبير يجعل منه الوسيط أو المرجع الطبيعي الذي يرجع إليه في معالجة الأزمات وحلحلة الأمور المعقدة.
كان شيخ العقل بمثابة إمام وقته، وكان يعاونه في مهامه أربعة من كبار مشايخ الدين كنواب له، وكان هذا التعدد قد استجد في أيام بشير الشهابي الثاني بعد أن ظلت مشيخة العقل موحدة في رجل واحد حتّى الربع الأول من القرن التاسع عشر. وكان من ضمن خطة الأمير بشير شرذمة الطائفة وإضعاف مركز شيخ العقل أو «شيخ العقال» كما كان يسمى لكن النضج الكبير والتقوى وحس المسؤولية لدى كبار مشايخ الدين جعلتهم يتوحدون ضمن مجلس واحد أنشأوه ليضمهم جميعاً وينظم صلاحياتهم ويوحد فتواهم وآراءهم في التحقيق والتدقيق في الأمور الدينيّة. فأحبطوا بذلك مكيدة الأمير بشير بداية، لكنه استمر على دسائسه لقيام شيخ آخر فكان الشيخ احمد امين الدين كآخر شيخ عقل منفرد انتخب في ذلك الوقت.
وكان تنظيم مجلس المشيخة في زمن الشيخ البردويل على الشكل التالي:

صدامه مع الأمير بشير
كان الأمير الشهابي بالغ الدهاء والقسوة، وكان نموذجاً للحاكم الذي يبني ملكه على إزالة كل معارضة أو منافسة محتملة، وعلى تشتيت الخصوم وإفقارهم، وقد كان يعلم أن قاعدة سلطة الزعماء الدروز تقوم على الملكيات الواسعة للأراضي والتي كانت تمثل مصدراً للثروة التي تمول بناء القوة العسكرية والجند والأعوان، لذلك، فقد انصبّ اهتمامه على تنفيذ أكبر برنامج لنزع الملكيات والمصادرة وتشريد الأمراء الدروز وتوزيع أملاكهم على أعوانه ومناصريه. وأدى تحالف الأمير بشير مع الحكم المصري وإبراهيم باشا إلى تزايد حاجة الدولة إلى المال والجند فتم فرض الضرائب الباهظة وصدرت أوامر بنزع السلاح من الجبل وفرض التجنيد بصورة واسعة على كل شاب قادر، وفرّ الكثير من سكان الجبل إلى حوران في سوريا هرباً من مظالم الأمير، وحسب قول للمؤرخ أسد رستم فإنّ سياسة الأمير بشير كانت تقوم دائماً على «تحطيم الرؤوس الكبيرة» حتّى ولو كانوا من الحلفاء والمقربين كما حدث في خلافه مع الشيخ بشير جنبلاط ثم مع منافسيه من الأسرة الشهابية.
لكن ما إن خلا الجو للأمير بشير بعد القضاء على منافسه الشيخ بشير جنبلاط حتى انتقل إلى القسم الأخطر من خطته وهو إضعاف الزعامات الدرزية عموماً وإفقارها ونزع ملكياتها، الأمر الذي خلق حالة من الضنك والاضطهاد وضيق العيش بين الموحدين الدروز. وقد استفز الواقع الذي أنشأه الأمير بشير في الجبل بعد إزالة الشيخ بشير جنبلاط الشيخ الأبي فقرر أن يخرج من صومعته ليصبح شيخاً مقاتلاً بكل معنى الكلمة، وقد قام بذلك عبر مناصرة أصحاب الحقوق والوقوف في وجه رجال الأمير وسياساته الظالمة، ومع اشتداد حملات الاضطهاد أصبح الشيخ يجاهر بنقد الأمير والسلطة الظالمة ويدعو الحاكم إلى أن يلتزم بالعدل بين الناس، وقد وقع عليه بالفعل حمل كبير لأنه في غياب الشيخ بشير جنبلاط والتنكيل بجميع العائلات الإقطاعية الدرزية وجد الشيخ أبو علي يوسف نفسه في وجه مدّ عارم من الأحداث أثرت عليه وأشعلت في صدره غضباً عارماً على الأمير وعهده.
قرّر الأمير بشير الشهابي الثاني أخيراً أن يتخلص من الشيخ أبو علي يوسف، لكنه أرسل قبل ذلك الوسطاء لكي يقنعوا الشيخ الجليل بأن يتوقف عن انتقاد الأمير بشير وأن يلتزم بدل ذلك سياسة الحياد إن لم يكن في إمكانه الانضمام إلى صف الأمير كما فعل عدد لا بأس به من الأمراء والوجهاء والأعيان واللذين كان مقتل الشيخ بشير جنبلاط صدمة كبيرة له، لكن الشيخ البردويل رفض مساعي الوساطة وتمسك بموقفه.

” كان صوت مناجاة الشيخ البردويل يتردد في الكهف الصخري ليلا ويسمعه أهل دير القمر الدروز في القاطع المقابل فشبّههوه بدنين النحل وسُمِّي المكـــان لذلك بـ «رأس النحــل» “

داخل-خلوة-الشيخ
داخل-خلوة-الشيخ

الإستدعاء الى بيت الدين
ردّ الأمير بشير على موقف الأنفة والتحدي الذي اتخذه الشيخ البردويل بأن أرسل الجند وأمرهم بجلبه مكبلاً بالسلاسل بهدف كسر إرادته. ويحكى انّ جند الأمير جاءوا بالشيخ بهذه الحالة فعلاً إلى قصر بيت الدين وجاءوا أيضاً بأشقائه محمود وفارس ومعروف. ولدى مثولهم أمام الأمير بشير سألهم من أنتم؟ فأجابوه نحن أخوة الشيخ يوسف. فقال الأمير سوف أعفو عنكم وانّني اسمح لكم بالعودة إلى المتن إكراماً لهذه العمامة مشيراً إلى عمامة الشيخ يوسف المدوريّة، عندها انتفض الشيخ ورفع العمامة عن رأسه ووضعها جانباً وقال بصوت عالٍ متحدياً الأمير بشير:«يا بشير هائنذا أمامك بدون العمامة فافعل ما تشاء. فالكرامة ليست للعمامة». فاغتاظ الأمير من جرأة الشيخ وصلابته ونَهَرَه بنبرة الحاكم الجائر، وطلب من السجان ان يلقوا به في سجن بيت الدين لينفذ فيه حكم الإعدام في اليوم التالي. فأدخل الشيخ مكبلاً بالحديد إلى سجن القصر وهنا بدأت حكايته مع الأمير بشير ومعجزة الحكم الذي لم ينفذ.

كرامات أذهلت الطاغية
تقول الروايات المتناقلة إنّ الشيخ البردويل استوحى في تلك الليلة من ظلام السجن وقسوة الحكم قصيدة روحانية رائعة أنشدها مناجياً أولياء الدين بأن يهبوا إلى نجدته، ولم يكد ينتهي من تلك القصيدة حتّى استجاب الله لمناجاة وليه وانفكت قيود الحديد عن يديه ورجليه وسقطت على الأرض، وحدثت في تلك اللحظة رجفة (هزة) في أرجاء قصر بيت الدين شعر بها جميع من كانوا داخل القصر.
وفي الأخبار المتناقلة انّه في اليوم التالي طلب الأمير بشير من السيّاف تنفيذ عقوبة الإعدام بالشيخ البردويل. فدنا السيّاف من الشيخ الوقور ذي القامة المديدة واللحية العريضة البيضاء وما كاد يرفع السيف بيمناه ليسلطه على رقبته حتّى شعر أنّ يده قد تجمدت وأصبحت لا تسعفه. فاضطرب واعتذر للأمير عن فشله وارتباكه.
غضب الأمير بشير وطلب من السيّاف أن يتنحى جانباً وقد ساوره الشك بأن هناك خيانة مدبرة هدفها إنقاذ حياة الشيخ أو انّ الشيخ ذا الأملاك الواسعة استماله برشوة، فتقدّم من الشيخ البردويل واستل سيفه من غمده وزمجر قائلاً:«بيدي وسيفي هذا سأقطع رأسه». فناداه الشيخ قائلاً:«يا أمير سيفك كبير ولكن سيف الله أكبر». في تلك اللحظة رفع الأمير بشير يده بالسيف فإذا بيده تجمد ويفشل هو بدوره في أن يهوي بالنصل القاطع على عنق الشيخ الطاهر. عندها أدرك الأمير المتجبِّر أنه لم يكن في الأمر خيانة بل هي كرامة من عند الله تعالى الذي نصر عبده الضعيف وشل يد المعتدي، وأدرك في الوقت نفسه أن هناك سراً ربانياً منعه من أن يمس شعرة من هذا الشيخ الجليل. استخلص الأمير العبرة وقرر العفو عن الشيخ،ثمّ قال له:«يا شيخ يوسف لا ريب انّك من أولياء الله الصالحين وأنا قررت العفو عنك وأريدك أن تبقى عندي في قصر بيت الدين لنتبرك بوجودك وأنا لن اسمح لك بالعودة إلى رأس المتن فاطلب ما تشاء».
لكن الشيخ الزاهد أجاب الأمير بأنه لا يرغب في سكن القصور وطلب أن يسمح له بالإقامة في بعقلين لينصرف إلى الصلاة وعبادة الله. وقال للأمير:«أنا لا أسكن في أملاك الدولة ولا أتناول طعاماً ما لم أكن قد حصلت عليه بتعبي وجهدي» وكان قرار الشيخ أن يتخلّى طوعاً واختياراً عن تناول الأطعمة الطيبة ويستعيض عنها بأوراق الطيّون المرّة ليروض نفسه ويقهر فيها شهوة النفس.
لكن بناءً على طلب الأمير بشير واظب الشيخ البردويل على الحضور إلى قصر بيت الدين قادماً من بعقلين مرّة في الأسبوع، وكان كلّما أبلغ بوصول الشيخ إلى أسفل درج القصر يترك مجلسه ويهبط لملاقاته إجلالاً وتقديراً له. وذات مرة حدثت الملاقاة في حضور بعض رجال الدين الذين لم يرق لهم هذا الاهتمام الخاص وهو تكريم لا يمنحه لأي من رجال الدين الآخرين، لذلك فقد نصح مجالسو الأمير بشير بأنه لا موجب لملاقاة الشيخ بهذا القدر من التبجيل، ويبدو أن الأمير بشير تأثر برأيهم ووعد بأن ينتظره في مجلسه حتّى يدخل في المرة القادمة.. وفي اليوم المحدد من الأسبوع التالي حضر الشيخ كعادته، وما كادت عصاه تطرق الأرض عند درج القصر حتّى هبّ الأمير دون شعور منه وتوجه لملاقاته والترحيب به كالعادة. ولمّا عاد الأمير إلى ديوانه سأله نفس الأشخاص عمّا حلّ به ليتراجع عن وعده، فأجابهم بالقول:«لست ادري ماذا يحدث لي مع هذا الشيخ! انّ بداخله سرّاً ربانياً فرض عليَّ بالأمس العفو عنه، واليوم أمرني لملاقاته والإحتفاء به».

مراكز-تأمل--بناها-الزهاد-التاويون-في-الصين-وهي-معلقة-وتشبه-صومعة-الشقيف
مراكز-تأمل–بناها-الزهاد-التاويون-في-الصين-وهي-معلقة-وتشبه-صومعة-الشقيف

” دهش الامير بشير للكرامة التي منّ الله بها على الشيخ البردويل فعفا عنه وعرض عليه البقاء عنده في القصر فردّ الشــيخ: لا أحب ســــكن القصـور ولا آكـــــل إلا من تعب يدي “

خلواته في الصومعة
في حِمَى أهل بعقلين، وخاصة آل حمادة وآل أبي عجرم، عاش الشيخ أبو علي يوسف البردويل السنوات الأربع الأخيرة من حياته في بعقلين (1825 – 1828) وقد قضى معظمها منفرداً زاهداً مثابراً على تلاوة الصلاة والمعلوم الشريف، وكان يمضي قسماً من خلواته داخل صومعة صخريّة منفرداً وفي بعض الأحيان مع الشيخ الجليل أبو علي باز. وتقع الصومعة الصخرية على كتف الوادي الذي يفصل بين بعقلين ودير القمر، وقد اختارها الشيخ بسبب قربها من البلدة ومن الخلوة التي تقع الآن إلى جانب مزاره، ولكن في الوقت نفسه بسبب بعدها عن الأنظار فوجدها تصلح للخلوة. والصومعة أقرب إلى كهف طبيعي صغير يتمثل سقفه في صخرة منبسطة وسميكة تظلل ما تحتها، وقد بني تحت السقف جدار شبه دائري بسيط فتكوَّن بذلك ركن صغير لا تزيد مساحته على المتر مربع أو المترين. وكان الشيخ يمضي الليل أحياناً في الصلاة والمناجاة بصوته الرخيم الذي كان يتردد في الوادي ويسمعه أهل دير القمر في القاطع المقابل، وكانوا في معظمهم يومها من الموحدين الدروز، وكانت مناجاة الشيخ وتلاواته، وبسبب اتساع الوادي، تصلهم من البعيد على شكل دنين بحيث شبهوه بدنين النحل، فكان ذلك هو السبب في تسمية المنطقة تلك «رأس النحل». وكان الشيخ يمضي بعض أوقاته في الخلوة التي سميت في ما بعد خلوة رأس النحل، وهي تقع فوق الكهف وعلى مسافة قصيرة منه، كما كان يمضي أوقاتاً في خلوات كفر حصيد وخلوة الشيخ رافع بو حاطوم حمادة.

وفاته ووصيته
قبل انتقاله إلى جوار ربه بخمسة أشهر حرّر الشيخ يوسف أبو رسلان وصيته التي أوقف فيها أملاكه الواسعة وجميع ما تملكه يديه من حطام الدنيا الفانية من توت وسليخ وكرم وحرف (29 عقاراً) وعمار وأثاث ودواب وذهب وفضة ونحاس لتكون لخلوات رأس المتن وخلوات رأس النحل (بعقلين) وقفاً مؤبداً موطداً لأهل الخير وعباد الله الصالحين إلى يوم القيامة.
وافته المنية في بعقلين عن عمر يناهز السبعة والستين عاماً، وقد بنى له الشيخ ابو قاسم حسين حماده ضريحاً قرب خلوات رأس النحل ونُقِش على شاهد ضريحه النص التالي:
انّا لله وانّا اليه راجعون
دُرج بالوفاة الى رحمة الله تعالى العالم العلامة والعمدة الفهامة قدوة المحققين ورئيس المدققين زين الخلّان وبهجة العصر والزمان المرحوم الشيخ يوسف ابو رسلان تغمده الله بالرحمة والرضوان وأسكنه فسيح الجنان. وكانت وفاته يوم الثلاثاء تسعة عشر خَلَتْ من ربيع الثاني ألف ومائتين وأربعة وأربعين هـ.
وقد أصبح الضريح مزاراً يقصده الناس من مختلف المناطق ومن خارج لبنان للتبرك وتقديم النذورات، وذلك لما بات معروفاً من سيرة هذا الشيخ ومآثره وعلو مقامه وكان من محبة المؤمنين للشيخ البردويل أنهم كانوا يستخدمون في ذكره لقب السيّد أو «سيدنا الشيخ» وقد كان بالفعل سيداً على نفسه وعلى أغراض الدنيا وزخرفها فجعله الله تعالى سيداً على الأمراء وأخضع له رؤوس الملوك.

بعض ما جاء في مقدمة وصيته
قبل وفاته بخمسة أشهر ونيف كتب الشيخ يوسف البردويل وصيته بخط يده وهو في بعقلين في شهر ذي القعدة سنة 1243 هجرية (1828 ميلادية) على ورقة بطول 85 سنتمتراً وعرض 17 سنتمتراً واستهلها بهذه المقدمة:

«بسم الله الرحمن الرحيم، سبحانك يا أول بلا بداية وآخر بلا نهاية سألتك يا مولاي المغفرة والهداية إلى موجبات رضاك بجاه من خلقته لكل شيء غاية. الحمد لله العليّ المتعال المنزّه عن الزوال والانتقال الذي لم يزل وما زال المتفضل بالعفو والجود والحلم والكمال المتصف بالتقديس والتسبيح والوجود والتنزيه والجلال وصلى الله على المصطفى الهادي المكرم المِفضال ذي الشرف والفخر والكمال وعلى صحبه وأنصاره والآل على ممر الشهور والسنين والأيام والليال، أنه ولي الإجابة والأفضال.
فإنه لما كان لكل ابتداء انتهاء، سبحان من هو قاهر عبيده بالموت وهو حي لا يموت، وهو لما كان بتاريخ نهار السبت في العشر الأول من شهر ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين ومئتين وألف 1243 هـ. يا رب عِين في ما يرضيك بجاه سيد المرسلين ورغبة في رضا الرب الغفور الكريم المعين باليقين الصادق والرجا الثابت في عفو ربي ومعبودي الحليم الكريم الجليل على العبد المذنب الخاطي العاجز الحقير الذليل المفتقر بكلية الاضطرار وحقيقة التوسل بالاعتذار إلى وجود عفو مولاه ومواهب فيض رضاه بشفاعة صفيه وأنبيائه بجاه عفوه وكرمه ومن والاه ونرجو من مشايخنا وساداتنا وإخواننا وأخواتنا بروان (المقصود «إبراء») الذمة لما لهم من الفضل والأيادي علينا وحسن الظن والرحمة».

احراق الفرنسيين مزرعة الشوف

صفحة من النضال ضد الإستعمار الفرنسي

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف
وتهجير أهاليها إلى جبل العرب

إن تاريخ المناطق والقرى والفئات والأعلام في أي بلد جزء من تاريخه العام، ومكمّل له لا متعارض معه. وبناءً على ذلك، فإن حادثة إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف وتهجيرهم لأهاليها في تشرين الأول 1919، هي محطة بارزة من تاريخ هذه البلدة وجزء من تاريخ المقاومة في سورية ولبنان للإنتداب الفرنسي.
وبما أن الحادثة المذكورة لم تكن معزولة عن الوضع السياسي والعسكري العام، الذي أعقب جلاء العثمانيين عن بلادنا في سنة 1918، وحلول البريطانيين والفرنسيين مكانهم، فلا بدَّ من التكلّم عن ذلك للإضاءة على الحادثة، ووضعها في السياق التاريخي الصحيح.

من الحكم العثماني إلى الحكم الفرنسي
إنتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، وإنسحاب جيوشها من بلاد العرب في أيلول 1918 بعد أكثر من 400 سنة على فتح العثمانيين لها في سنة 1516، وبعد تاريخ طويل حافل بالمآسي والنكبات والمظالم والقتل والتشريد، وأخذ الشبان بالقوة للخدمة العسكرية الإلزامية، ولخوض الحروب في الأماكن البعيدة.
وتنفّس العرب الصعداء لإنزياح كابوس ثقيل عنهم، وأملوا بأيام أفضل، وبإستقلال في تدبير شؤونهم، لطالما طمحوا إليه، وهنّأ بعضهم بعضاً بزوال حكم مستبد، لطالما تمنّوا زواله. لكن الكثيرين من الخبيرين في الشؤون السياسية، والمطّلعين على القضايا الدولية وما كان يخطّط للمناطق العربية والإسلامية، لم يجاروا المتفائلين بالمستقبل والفرحين بهزيمة الدولة العثمانية، وكان منهم أمين بك آل ناصر الدين الذي قال لمن زاروه فرحين، مهنّئين إياه بالتطوّر الحاصل: «لا تفرحوا. ستترحّمون على الدولة العثمانية. وستبكون دماً». كما كان الأمير شكيب أرسلان قد سبق الجميع في زمنه لهذا الرأي، ومن أشد مناصري الدولة العثمانية، لأنها، في رأيه، الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تزال مستقلة، وصامدة في وجه الغرب الإستعماري، ولأنه كان على علم بمخطّطات الحلفاء، ومطامعهم في الدول العربية والإسلامية.
صحّ ما توقّعه المترحّمون على الدولة العثمانية، والمتشائمون مما سيأتي، إذ فشل رهان العرب على الحلفاء، وندموا على الوثوق بهم، لأن الدولة العربية المنشودة التي وعدوهم بها مقابل مساعدتهم وثورتهم على الدولة العثمانية، التي ساهمت في هزيمتها، لم تتحقق، بل تحقق بدلاً منها تقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا تنفيذاً لإتفاقية «سايكس- بيكو» المعقودة بينهما، كما بدأ تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبناءً على ذلك باتت بعض الولايات العربية التي كانت مفصولة عن بعضها في العهد العثماني بحدود إدارية، دولاً مستعمَرة بإسم «الإنتداب»، مفصولة عن بعضها بحدود سياسية. وهذه الدول هي العراق وشرق الأردن وفلسطين الموضوعة تحت الإنتداب البريطاني، ولبنان وسورية الموضوعان تحت الإنتداب الفرنسي، حتى إن الفرنسيين، وإمعاناً منهم في سياسة التجزئة الإستعمارية، قسّموا سورية نفسها على أساس مذهبي، إلى أربع دويلات، هي دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة بلاد العلويين، ودولة جبل الدروز، إضافة إلى لواء الإسكندرونة، وقد فعلوا ذلك من أجل إضعاف السكان، ولكي يسهل عليهم حكمهم، ويُظهروا أنفسهم حماة للأقليات.
كان من الطبيعي أن يرفض السوريون واللبنانيون الوجود الفرنسي بصيغة الإحتلال أو بصيغة الإنتداب، وأن يقاوموه بالأساليب السياسية، وأن تتوالى مقاومتهم العسكرية له فصولاً من الثورات والإنتفاضات، ومنها ثورة الدنادشة في تل كلخ وحمص وشمال البقاع، والثورة في جبل عامل، وثورة الشيخ صالح العلي في بلاد العلويين، وثورة صبحي بركات في لواء الإسكندرونة، وثورة رمضان شلاش في دير الزور، وثورة إبراهيم هنانو في شمال سورية، وثورة سلطان باشا الأطرش الأولى في جبل العرب، والثورة السورية الكبرى التي أعلنها وقادها سلطان باشا، علاوة على ما لا يحصى من الحوادث والإضطرابات التي كان من الممكن أن تتحوّل إلى إنتفاضات وثورات لو قُدّر لها من يقودها ويرعاها ويدعمها من الزعماء السياسيين الفعّالين.

بداية حادثة مزرعة الشوف
بعد دخول جيوش الحلفاء البريطانيين والفرنسيين إلى بلاد الشام، قسّمها القائد العام لهذه الجيوش، الجنرال البريطاني اللنبي، إلى ثلاث مناطق، هي «المنطقة الشرقية» وتتبع للحكومة العربية التي أنشأها الشريف فيصل بن الحسين في دمشق، في تشرين الأول 1918، واستمرت حتى تموز 1920، و«المنطقة الجنوبية» وتتبع للبريطانيين، و«المنطقة الغربية» وتتبع للفرنسيين، وهي تشمل الأجزاء الغربية من لبنان وسورية، بحيث كانت الأقسام الداخلية من سورية، وأقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، التي ضّمت إلى جبل لبنان أو«لبنان الصغير» سنة 1920، تابعة للحكومة العربية.
وتبعاً لذلك، كان الوجود الفرنسي في «المنطقة الغربية» إحتلالاً بالمعنى الدقيق، لأنه لم تكن عصبة الأمم قد وافقت بعد على الإنتداب الفرنسي على سورية ولبنان، والذي هو في الحقيقة إحتلال أيضاً، وإستعمار تحت عنوان الإرشاد والتمدين.
تحوّلت «المنطقة الغربية» إلى مسرح صراع بين الحكومة العربية والفرنسيين، حيث كانت العصابات الوطنية تهاجم مراكز الفرنسيين وتهاجم أعوانهم، معبّرة بأصوات البنادق عن رفض الإحتلال الفرنسي، فيما كانت المعارضة السياسية تعبّر عنه بالمواقف والكلمات وأمام لجنة الإستفتاء الإميركية. وفي المقابل شكّل الفرنسيون عصابات من الموالين لهم، وخصوصاً من المسيحيين في لبنان، لتكون مع العناصر الأمنية المحلية، العاملة بإمرتهم، جيشاً رديفاً لجيشهم، يساعدهم في تثبيت وجودهم، وفي إشغال المعارضين لهم بمشاكل داخلية مع مواطنيهم، ما أدّى إلى نشوء حوادث طائفية ليست صنيعة الجهل والتعصّب، وسائر عوامل الإنقسام الداخلي، بقدر ما هي صنيعة الفرنسيين الذين أوجدوها لإضعاف السكان، وتفريق صفوفهم، وإظهار حاجتهم إلى الوصاية الأجنبية، وحاجة الأقليات إلى الحماية. لقد عمّدوا في القرن العشرين وجودهم في لبنان وسورية بدماء أهلهما، كما عمّدوا نفوذهم بهذه الدماء في منتصف القرن التاسع عشر من خلال المساهمة الكبيرة في خلق الفتن الطائفية، وفي هذا دليل على أن الحوادث الطائفية ما كانت لتحصل في بلادنا لولا التدخل الأجنبي.
قامت إحدى العصابات، التي أوجدها الفرنسيون، بقتل أحمد مصطفى أبو شقرا من عماطور، وأمين قاسم البعيني من مزرعة الشوف، فكان ذلك بداية حادثة مزرعة الشوف. كان هذان الرجلان وكيلين على أملاك فؤاد بك جنبلاط في مزرعتي «ماروس»
و«كفرفالوس»، الواقعتين في إقليم التفاح في قضاء جزّين، وكانا في أواخر أيلول 1919 قد أنهيا مهمة بيع محصول التبغ فيهما، فعادا منهما على طريق المشاة المعهودة، التي تمرّ في مرج بسري، وما أن إجتازا قرية بسري حتى إعترضهما كمين مسلّح معدٌّ لهما من العصابة المذكورة، وباغتهما رجالها بإطلاق النار، وقتلوهما، ثمّ سلبوا ما معهما من المال، ومقداره يقارب خمسمائة ليرة ذهبية هي ثمن التبغ المباع.
إنها جريمة قتل تحصل في وضح النهار، في حين كانت أكثرية الإعتداءات والجرائم العادية تحصل تحت جنح الظلام، وفي الأماكن المنعزلة، وإذا حصلت على الطرقات الرئيسية والمعابر، فإن القائمين بها كانوا يخفون أحياناً كثيرة أنفسهم، أو يقنّعون وجوههم، بحيث ظل الكثيرون من المجرمين مجهولين. والصحف الصادرة آنذاك حافلة بأخبار الحوادث والإعتداءات التي يكثر فيها المتهمون، وتقل معرفة الفاعلين الحقيقيين.
كان من الممكن إعتبار ما جرى كسائر جرائم القتل التي تحصل في الشوف آنذاك في ظل الإحتلال الفرنسي، لو أنه غير متعلّق بعائلتين قويتين، ولو أنه ليس ذا خلفيات وأهداف سياسية، لذا بدأ يتفاعل منذ اليوم الأول لحصوله، ثم تأتّى عنه نتائج خطيرة بالنسبة إلى آل البعيني.
أحدثت الجريمة النكراء صدى كبيراً في جميع الأوساط، لأن المغدورين قُتلا إعتداءً وتعمّداً، ودون ذنب أو سبب، وقُتلا علناً في منطقة عملاء الفرنسيين فيها معروفون، ويعملون بتوجيه منهم، ولأنهما من عائلتين معدودتين، بحسب التعابير الشعبية، «من جمرات العيال»، وهما عند حنانيّا المنيّر (1756 -1823)، وعند ناصيف اليازجي (1800- 1871)، «من الطوائف المشهورة التي هي دون المشايخ، لهم أحزاب تنتمي إليهم وتعادي معهم وتحمل الدماء كما يحملونها». ومما يُذكر في هذا المجال أن أمين قاسم البعيني منع منذ بضع سنوات قوة من الدرك، يرأسها ضابط، من أخذ نزيل من آل عويدات لجأ إليه، وقد تجّرأ على ذلك لإستقوائه بقوة عصبية عائلته.
وكما كان الفرنسيون وراء الجريمة المذكورة بهدف تسعير نيران الحوادث الأهلية التي أوجدوها، كانوا أيضاً وراء تجهيل القائمين بها وحماتهم، وما كانت تعنيهم نتائج التحقيق، ولا أحكام المجلس العسكري المنحاز الذي أنشأوه. وقد اقتصرت جهودهم على نقل القتيلين إلى قريتيهما، واتخاذ إجراءات شكلية، ما أكد ضلوعهم في الجريمة، وأوحى أنهم يريدون كسر شوكة العصبيات الدرزية القوية من أجل إجبار الدروز الرافضين لوجودهم على القبول بهم، ومنهم فؤاد بك جنبلاط الذي طلب في مؤتمر عيناب الإنتداب البريطاني، وذلك عندما قدمت لجنة الإستفتاء (لجنة كنغ-كرين الأميركية) في تموز 1919 لإستفتاء السكان حول تقرير مصيرهم.
جاء في مذكّرات الضابط نعمان أبو شقرا، المعاصر للحدث، أن رئيس مجلس إدارة جبل لبنان، حبيب باشا السعد « لفت المسؤولين الفرنسيين إلى ضرورة الإسراع في إتخاذ التدابير الفعّالة لكشف مرتكبي الجريمة، لأن الأمر يتعلّق بسمعة عائلتين قويتين، ويمسُّ وضع فؤاد بك جنبلاط، فقاموا بعزل قائد درك جزّين، وأرسلوا محقّقين إلى قرية بسري برئاسة الشيخ سليم علم الدين مستشار محكمة التمييز». لكن معوّقات التحقيق لمعرفة الحقيقة كانت كثيرة. وفيما تعمّد الفرنسيون الإبطاء في هذه القضية، سارعوا إلى إتهام أشخاص من آل أبو شقرا وآل البعيني بأنهم مرتكبو بعض الجرائم في منطقتي جزّين وإقليم الخرّوب، منها جرائم ضد أعوانهم وأرسلوا قوة من الدرك للقبض عليهم. ولم يكن من الصعب عليهم توجيه هذا الإتهام إذ كان من السهل الزعم من قبل الفرنسيين أو بعض الناس أن آل أبو شقرا وآل البعيني لم يكونوا ليناموا على ضيم، وأن تلك الجرائم لا بدّ وأن تكون من قبيل الثأر لقتيليهم.
وهناك إعتبار آخر عند الفرنسيين بالنسبة إلى آل البعيني، جعلهم يتشدّدون إزاءهم كما سنرى، وهو أن المتهمين منهم كانوا من ضمن المجموعة البعينية التي وقفت إلى جانب محمود بك تقي الدين، المعارض للإنتداب الفرنسي، عندما إتهم بأنه وراء محاولة إغتيال المفوّض السامي جورج بيكو في بعقلين، أثناء زيارته لها في 25 تموز 1919، مع قائد الأسطول الفرنسي في السواحل السورية واللبنانية وبعض الضباط، بناءً على دعوة شيخ العقل حسين حماده. فقد حمى البعينيون داره، إذ دخلوا إليها على الرغم من الحصار المفروض عليها عندما طوّق الفرنسيون بعقلين وهدّدوا بقصفها بالمدافع وسجنوا حسبما يقول سعيد تقي الدين إبن محمود بك «نصف رجال البلدة وبعض النساء».

ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان
ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان

فشل «كبسة» الدرك لمزرعة الشوف ليل 28- 29 تشرين الأول 1919
علم آل أبو شقرا وآل البعيني أن قوتين من الدرك ستتوجّهان إلى عماطور ومزرعة الشوف للقبض على المتهمين، فقرّروا عدم تسليم أحد منهم لأن قضية مقتل وجيهيهم لم يُعرف عنها شيء وتكاد تُطمس، ولأنه ليس عندهم ثقة بعدالة المجلس العسكري ليسلّموا أبناءهم إليه، إذ كثيراً ما كان ينظر في القضايا بعين الإنحياز، لا بعين العدل، ويقسو في الأحكام على غير أنصار الفرنسيين، ولأن الكثيرين كانوا يُسجنون كوسيلة ضغط لتسليم المطلوبين، لكنهم قرّروا أيضاً عدم الإصطدام بالدرك، وتنحّي المطلوبين وأقربائهم عند قدوم هؤلاء لتنفيذ مهمتهم.
قُدّر لآل أبو شقرا تجنّب الصدام مع الدرك، أما آل البعيني فلم يقدّر لهم ذلك. كان منهم خمسة مطلوبين هم حسن شاهين، ونصرالله يوسف، وحسين فارس، ومحمد حسين سلمان، ويوسف علم الدين. وقد مكث هؤلاء وكثيرون من رجال آل البعيني ليل 28 – 29 تشرين الأول 1919، في المرتفع المشرف على البلدة يراقبون تحركات الدرك المرسلين إلى البلدة. لكن حسن شاهين عجّل بالعودة إلى منزله عند إنبلاج الفجر، على اعتقاد منه أن عناصر الدرك غادروا البلدة، فإذا بإثنين منهم كانا كامنين في بيت مهجور قريب، يفاجآنه ويلقيان القبض عليه، ويسيران به ممسكين بذراعيه فيما هو يمانع ويحاور ويداور محدثاً ضجة إنتهت إلى مسمع قريبته ومطلّقته زهيّة يوسف البعيني، فأسرعت وتقدّمت من الدركيين، وأمسكت بهما، فأربكتهما وشلّت حركتهما بفضل ما تمتلك من شجاعة وقوة جسدية، وبهذا ساعدته على الإفلات منهما، حتى إذا حّرر يديه إنتزع بندقية أحدهما، وهدّد الآخر بالقتل إن لم يسلّم بندقيته فسلّمها وإنسحب مع رفيقه. وحين حضر سائر عناصر الدرك مع زميليهم لاستعادة السلاح المنتزع، وجدوا أنفسهم أمام مسلّحين من آل البعيني، يهدّدونهم بإطلاق النار عليهم إن لم يتراجعوا، فآثروا الإنكفاء وعدم خوض معركة خاسرة.
في معرض حديثه عن هذا المشهد، وعما فعلته المرأة المذكورة، يقول محمود خليل صعب تحت عنوان «الحرب بين فرنسا وآل البعيني» ما يلي: «ومن المعروف عن أخواتنا البعينيات أنهن لسن أقل سطوة وبطشاً من أخواننا البعينيين، ولهن تاريخ مجيد في هذا المضمار، ومنهن كثيرات لا تزال تُروى عنهن قصص وحكايات كأنها من نسج الخيال».

هزيمة القوة المرسلة إلى مزرعة الشوف يوم 30 تشرين الأول 1919
كان ما جرى في مزرعة الشوف صباح 29 تشرين الأول 1919 خطيراً بالنسبة إلى الفرنسيين، وبات الأمر عندهم ذا شقين: أولهما القبض على المتهمين، وثانيهما، وهو الأهم، إعادة الهيبة المفقودة إلى السلطة وإلى رجال الدرك، وإعادة السلاح المأخوذ منهم. فسيّروا إلى مزرعة الشوف نهار 30 تشرين الأول قوة أكبر من الأولى، واثقين من نجاحها، ومن أنها لن تصادف أية مقاومة قياساً إلى الحملات التي كانوا يرسلونها إلى القرى، مزوّدين حملتهم بصلاحيات أخذ النساء والشيوخ أسرى في حال لم يجرِ تسليم المطلوبين وإعادة السلاح.
وفي غياب المفاوضات، وإنعدام الوساطات، لم يجد آل البعيني أمامهم سوى المقاومة، وخصوصاً بعد نشوة الإنتصار الذي حققوه، وبعد تأكدهم من أن الفرنسيين سيتشدّدون في تدابيرهم، وقد لا يكتفون بطلباتهم السابقة إذ سيستدعون للتحقيق كل من شاهد ما جرى صباح 29 تشرين الأول وساهم فيه. لذا استعدوا للقتال وانتشروا في المرتفعات وعلى سطوح البيوت المواجهة للطريق الآتية من بيت الدين، والتي تمر بقرية الكحلونية المجاورة. وحين بلغت القوة المرسلة إليهم مدخل الكحلونية الشمالي أمطروها بوابل من رصاص بنادقهم وبدأوا هجومهم عليها، فذُعرت من هول الصدمة غير المتوقّعة، وتضعضع أفرادها، وانهزموا بشكل فوضوي عائدين إلى بيت الدين، مخلّفين في ساحة القتال حصانين وذخائر غنيمةً للمسلّحين.

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف في 31 تشرين الأول 1919
إهتزت هيبة السلطة الفرنسية مرتين، ولم يعد مقبولاً عندها أن تهتز لمرة ثالثة في نفس المكان ومع نفس الجماعة، بل إنها رأت من الضروري التعجيل في إعادة الهيبة المفقودة، وفي تأديب الفئة العاصية التي تتحدّاها، كي لا تتجرّأ أية فئة على الإقتداء بها. لذا استقدم الحاكم العسكري التعزيزات إلى بيت الدين، وأرسل على عجل حملة ثالثة من كافة الدركيين الذين كانوا بحالة الجهوز، مدعومين بسرية من فوج المشاة الفرنسي، ومزوّدين بالمدافع والرشاشات.
علم آل البعيني من أصدقاء لهم بالإستعدادات الفرنسية، وبالحملة الكبيرة المرسلة إليهم، فكانوا أمام خيارات ثلاثة: إما الإستسلام، وهذا لم يروه ملائماً بعد رفض تسليم المطلوبين منهم، وبعد البطولات التي أبدوها في مقاومة القوتين الأوليين، وإما خوض معركة غير متكافئة، وهذا الخيار إستبعدوه لأن فيه الكثير من الخسائر والقتل وخراب البيوت، وخصوصاً أنهم وحدهم في المعركة، دون دعم سياسي، ودون توسّط أية جهة، ودون مساعدة ميدانية، إذ إن حمّالي الدم معهم وشركاءهم في المصيبة آل أبو شقرا، وهم أيضاً أقرب الناس إليهم جغرافياً، لم يحرّكوا ساكناً، ولم يساعدوهم كما كان يجري بينهم في إطار التعاون المتبادل، ذلك أنه ليس من مصلحتهم لفت أنظار السلطة إليهم، وتأكيد الإتهامات الموجّهة ضدهم بعد نجاحهم في تجنّب الموضوع. وكما إن أهالي غريفة، وخصوصاً آل حرب حمّالي الدم مع آل البعيني والقريبين إليهم أيضاً جغرافياً، هُدِّدوا من قبل السلطة كما هُدِّد سواهم، فلم يأتوا بأية حركة. أما الخيار الثالث فهو الإنسحاب من البلدة، والنزوح عن المنطقة، مع تعويق زحف الحملة الفرنسية لإنجاز هذين الأمرين، وهذا مع مرارته وسيئاته وعذاباته أهون الخيارات وأفضلها، صوناً للكرامة، وحجباً للدماء، وكي لا تصيب الأضرار سائر أبناء مزرعة الشوف.
ومع أن الفرنسيين، علموا بواسطة مخبريهم بنزوح معظم أهالي الحي الدرزي من مزرعة الشوف، أخذوا بإطلاق المدافع على التلال المحيطة بها، لإسكات طلقات النيران التي كان المسلحون يشغلونهم بها، ولأجل إلقاء الرعب في نفوس اهاليها و أهالي الجوار ومن ثم دخلوا مزرعة الشوف، واستعانوا بأدلاّء ليعرفوا ما يريدون نهبه وإحراقه من بيوتها، فأحرقوا جميع بيوت آل البعيني، وبيوتاً أطلقت من على سطوحها النيران ولأصحابها علاقة نسب بآل البعيني، هي بيت يونس علي أبو كروم وبيت المختار شاهين محمد أبو كروم، و «دار الحارة» التي منها مجاهدون ضد الإنتداب الفرنسي على رأسهم الملازم حسيب ذبيان.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الجنود حاولوا عبثاً إحراق خلوة الوليّة الست فاخرة البعيني (1764 – 1849) إذ كانت نار الأخشاب والأغصان المبلّلة بالكاز والمشتعلة، تنطفئ حين تلامس الجدران والسقف ما جعلهم أخيراً يتوقفون عن إحراقها. لكنهم أحرقوا البيت الذي أقامت فيه، والملاصق لبيت حفيد شقيقتها يوسف علم الدين البعيني الذي كان أحد المطلوبين الخمسة، فأتت النيران على أخشابه، ولم يبقَ من محتوياته بعد نهبها إلا عمود خشبي كانت تتكئ عليه الست فاخرة، قائم وسط الغرفة وقد احتفظ به يوسف علم الدين، وتركه كذكرى في إحدى غرف بيته للتبرّك. فهذه الوليّة لم يأت مثلها، حسب أقوال الشيوخ التقاة والتقات، منذ مئات السنين.
ربط المؤرّخ أمين سعيد بين حادثة مزرعة الشوف ومحاولة إغتيال المفوض السامي جورج بيكو في بعقلين، فقال تحت عنوان «مزرعة الشوف» ما يلي: سيّر الفرنسيون قوات كبيرة للفتك بالقرى التي ظنوا أن لها صلة بمطلقي الرصاص [على المفوّض السامي]، فنكّلوا بسكانها تنكيلاً، ففرّ الشبان إلى رؤوس الجبال، وألّفوا عصابات قوية جعلت دأبها شن الغارات وإزعاج السكان والحكومة.
ولما ضاق الفرنسيون ذرعاً بأعمال عصابة الشوف عمدوا إلى الحرق والقتل. فسيّروا في أوائل شهر نوفمبر قوة عسكرية كبيرة أحاطت بالحي الدرزي من مزرعة الشوف، وضربت حوله نطاقاً، ثم بدأت المدافع بإطلاق نيرانها على البيوت. كما بدأ الجند بقذف القنابل الملتهبة فأحرقوا 25 منزلاً وقتلوا نحو 40 من النساء والرجال، فهام الدروز الباقون وعددهم لا يقل عن المائتين بين نساء ورجال وأطفال وشيوخ وعجزة على وجوههم فبلغوا دمشق مساء الخميس 6 نوفمبر فضجّت حزناً وأسى لما أصابهم».
لقد قلّل المؤرّخ أمين سعيد من عدد البيوت المحروقة، ومن عدد النازحين عن القرية، وزاد كثيراً من عدد القتلى، لأنه كتب عن بعد، لكنه قارب الحقيقة وصوّر بدقة الأثر الذي أحدثه وصول النازحين إلى دمشق، ومعرفة سكانها لمأساتهم.
وجاء في الصفحة 243 من التاريخ المدرسي في سورية لطلاب الصف الثالث ثانوي – الفرع الأدبي – الطبعة الرابعة سنة 1961، في معرض ذكر الثورات على الإحتلال الفرنسي، ما يلي:
«حادثة مزرعة الشوف في لبنان حيث هاجم الدروز المفوّض السامي الفرنسي وقائد الأسطول الفرنسي وأطلقوا عليهما النار فأحاط الجيش بالمزرعة وأحرق بيوتها وقتل سكانها عام 1919».

فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي
فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي

حادثة مزرعة الشوف في بلاغات الفرنسيين ورسائلهم
أصدر الحاكم العسكري الفرنسي بلاغاً بعد إحراق مزرعة الشوف، وتهجير أهلها، يذكر فيه «أن كل قرية يبدو فيها حركة عداء تجاه الحكومة يصيبها ما أصاب مزرعة الشوف». وهذا التهديد ساهم مع الإجراءات التي قام بها الفرنسيون في إسكات المعترضين والمستائين والناقمين على الفرنسيين، والمتعاطفين مع أبناء مزرعة الشوف منذ مقتل أحد أبنائها.
وصرّح أحد المسؤولين الفرنسيين حول أخذ الشيوخ والعجّز والنساء، الذين لم ينزحوا عن مزرعة الشوف مع غيرهم، وعن وضعهم في سجن بيت الدين، «بأن بيوت هؤلاء لم تعد صالحة للسكن».
وجاء في تقارير الفرنسيين أن ما جرى في مزرعة الشوف هو حركة عصيان قامت بإيعاز من الحكومة العربية في دمشق، فهو يقول ما يلي: «إن الفرنسيين هدموا منازل الثائرين، وأوقفوا العديد من المتهمين، وأنه تبيّن للحاكم العسكري وبصورة واضحة أن هذه الأعمال المخلّة بالأمن لم تكن سوى حركة عصيان نظّمها بعض زعماء الدروز في حوران بالايعاز من حكومة دمشق».
وهناك أربع رسائل من وكيل حاكم لبنان إلى شيخ العقل حسين طليع، تضيء على موقف الشيخ، وعلى موقف الفرنسيين منه ومما جرى في الشوف آنذاك، وتحديداً في مزرعة الشوف.
في رسالته الأولى إلى شيخ العقل حسين طليع، وهي بتاريخ 6 تشرين الأول 1919 يطلب منه وكيل حاكم لبنان حضور إجتماع أعيان ووجهاء الشوف في بيت الدين في 14 تشرين الأول، لبحث الحوادث التي حصلت في الأشهر الأخيرة.
وفي رسالته الثانية إليه، وهي بتاريخ 31 تشرين الأول، تاريخ إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف، يذكر فيها ما جرى في هذا اليوم، فيقول: إن أهالي القرية المذكورة قد أطلقوا عيارات نارية على المفرزة الفرنساوية المتوجّهة مع الأنفار الجاندرمة لإلقاء القبض على الأشقياء ويضيف قائلاً: «أكثر الأشقياء وعائلة البعيني خاصة خاضعة لنفوذكم. أتأمل منكم أن تبذلوا هذه [هذا] النفوذ لحفظ الأمن العام وإني أجعلكم مسؤولاً شخصياً لكل ما يحصل. وإذا سمع طلقات قواس صدرت من جهتهم فألتزم أن ألقي القبض حالاً عليكم وأحاكمكم أمام ديوان الحرب العرفي. لكن أتأمل من سطوتكم العالية أن تعاونوا الحكومة كما فعلتم الى حد الآن لحفظ الأمن».
ويقول في نهاية الرسالة: «أما بخصوص الأسراء [الأسرى] الذين أخذناهم فإننا مستعدّون أن نحكم عليهم بالإعدام إذا كانت أهالي المزرعة لم تعد إلى السكينة».
إن الرسالة الثانية، المرسلة من وكيل الحاكم الإداري إلى شيخ العقل حسين طليع، تتضّمن في ما تتضمّنه نقطتين بارزتين أولاهما تحميل الشيخ حسين المسؤولية واعتبار الأشقياء وعائلة البعيني خاضعين لنفوذه إعتماداً على أنه شيخ عقل الفريق الجنبلاطي إلى جانب شيخ العقل عن الفريق اليزبكي حسين حماده، وأن آل البعيني جنبلاطيون. أما كلمة «نفوذ» الشيخ حسين طليع التي وردت في الرسالة، فهي لا تعني سوى نفوذ معنوي لأنه رجل دين إتصف بالورع والتقوى. وثانيهما لغة التهديد والوعيد التي اعتمدها وكيل الحاكم الإداري في مخاطبة الشيخ حسين، وفي طلب مساعدة الفرنسيين في مسألة مزرعة الشوف، فهو يهدّد بإحالته إلى المجلس العسكري ومحاكمته، وبالحكم بالإعدام على الأسرى في المزرعة إذا لم يلتزم أهلها السكينة. وهذه اللغة الإستكبارية والإستقوائية إن دلّت على شيء، فهي تدلُّ على الأسلوب الذي إِعتمده الفرنسيون في التعاطي مع السوريين واللبنانيين، والذي كان أحد أسباب الثورات عليهم.
والرسالة الثالثة، المرسلة من وكيل حاكم لبنان إلى الشيخ حسين طليع، هي بتاريخ 3 تشرين الثاني 1919، وفيها ما يلي: «أن يتعهّد أهالي مزرعة الشوف أن لا يلفّوا الأشقياء ولا عساكر الشريف الذي ليس مصدّق على مأذونيتهم من حاكم لبنان» لكي يسمح للمهجّرين من مزرعة الشوف بالعودة إليها.
ما جاء في هذه الرسالة يعني أن مزرعة الشوف تستضيف وتحمي «الأشقياء» الذين هم أفراد العصابات الوطنية التي تقاتل الفرنسيين، ويعني أيضاً أن من مزرعة الشوف «عساكر» في جيش الشريف فيصل يعرف الفرنسيون أسماءهم، ويشترطون التصديق على مأذونياتهم ليتأكدوا من أن وجودهم في المزرعة هو لرؤية أهلهم، لا لأداء مهمات قتالية كانت حكومة فيصل تعهد بها أحياناً للفرق العسكرية التابعة لها. وبالفعل كان هناك خمسة من أبناء مزرعة الشوف في جيش الحكومة العربية، هم الملازم حسيب ذبيان، وأقرباؤه من عائلته: سلمان محمد وأخوه نجيب، ومصطفى حسن، وشاهين محمد، وكانوا جميعاً في مجموعة القائد فؤاد سليم الذي هو أحد أهم ضبّاط الحكومة العربية.

سجن نساء مزرعة الشوف
كان من جملة الأسرى الذين إحتجزهم الفرنسيون نساء بعينيات ووضعن في سجن بيت الدين. وسجن النساء وسيلة من وسائل الضغط التي إعتمدوها بشكل مكثّف ولم تكن معتمدة من قبل. فكثيراً ما عمدوا إلى سجن نساء المطلوبين، وأحياناً نساء غيرهم، لإجبارهم على التسليم. وكثيراً ما إنتقموا من السكان والمعارضين لهم، ومن الثائرين عليهم، بحجز نسائهم. لقد سجنوا، على سبيل المثال، في حادثة مماثلة تقريباً لحادثة مزرعة الشوف، ومتزامنة معها، زوجتي المطلوبين، علي يوسف طربيه وعلي حسين أبو إسماعيل من ديربابا، وأبقوهما مدة في سجن بيت الدين ثم نقلوهما إلى سجن عاليه، وذلك من أجل إجبار زوجيهما على التسليم. وهذا كان أهم سبب لمهاجمة فندي أبو ياغي زهر الدين ومجموعة من الرجال معه منزل حبيب باشا السعد في عين تراز ليل 6 تشرين الأول 1919، بقصد إغتياله لتعاونه مع الفرنسيين. ولما كان غائباً عن دارته وجّه فندي إنذاراً إليه عبر زوجته «بأن يطلق سراح النساء الدرزيات من السجون، وأن يكفَّ عن ممارسة الأعمال السيئة بتوجيه فرنسي وإذا لم يستجب لهذا الإنذار سيأخذون زوجته في المرة القادمة».
جاء في إحدى الصحف أن سيادة المطران أوغسطين البستاني وسيادة شيخ عقل الطائفة الدرزية حسين طليع توسّطا لدى الحكومة لمعاملة أهالي مزرعة الشوف بالرأفة وإطلاق سراح الموقوفين من النساء والأولاد وتكفّلا بإقناع الأهالي على ردّ ما سلبوه من أسلحة الجنود اللبنانية «فرأت الحكومة أن تستجيب لطلب الوسيطين وتعامل الأهالي بالرفق». إذاً كان اطلاق سراح النساء والأولاد مرتبطاً بإعادة آل البعيني أسلحة رجال الدرك، ولكن من يُطلب منهم إعادة هذه الأسلحة باتوا مهجّرين من بلدتهم، وباتوا متضرّرين يجب التعويض عليهم لبناء بيوتهم المهدّمة والمحترقة.
في الذاكرة الشعبية لأهالي مزرعة الشوف مأثرة المطران أوغسطين البستاني لإستضافته نسائهم، وهي من جملة مآثره المحفوظة في ذاكرة الدروز والنصارى الشوفيين. لقد طلب من الحاكم الفرنسي إستضافة النساء فنزل الحاكم عند طلبه «وظللن في ضيافته مدة أربعة أيام إلى أن نجح مسعاه في إخلاء سبيلهن».

بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها
بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها

النزوح الجماعي من مزرعة الشوف
قبل أن يصل الجنود الفرنسيون إلى مزرعة الشوف، ويبدأون بإحراق بيوتها. كان آل البعيني قد اتخذوا قرار النزوح الجماعي، فأخذوا ما خفَّ وزناً وغلا ثمناً وبعض الضروريات، وأخذوا معهم أولادهم بمن فيهم الصغار، أما عددهم، فهو الأكثرية الساحقة من آل البعيني الذين كانوا آنذاك حوالي أربعمائة نسمة، ما يعني حكماً أن النازحين حوالي الثلاثمائة والخمسين، إذا استثنينا النساء والشيوخ الذين سُجنوا في بيت الدين، والشيخ التقي أبا حسين محمود علي الذي نزل مع عائلته ضيفاً عند صديقه الشيخ أبي أمين أحمد عوده في باتر.
كانت وجهة النازحين جبل العرب، وقد ساروا في الطريق الرئيسة المعتادة، وهي طريق ثغره مرستي – وادي التيم- دمشق وتجنّبوا المرور في أية قرية شوفية ليوفّروا على أهاليها مضايقات الفرنسيين. وبعد أن اجتازوا الجبل وأصبحوا في البقاع باتوا في ما كان يسمى «المنطقة الشرقية» حسب تقسيمات الجنرال اللنبي، وهي كانت آنذاك لا تزال تابعة للحكومة العربية في دمشق. رحّب بهم وأكرمهم آل جمال في المحيدثة من وادي التيم، وحلّوا على الرحب والسعة في ضيافة نسيب بك الداود في حلوه. ومنها ساروا إلى دمشق حيث نزلوا في مجلس «حارة الدروز». وقابل وفد منهم رئيس الحكومة العربية رضا باشا الركابي، والشريف زيد، شقيق الشريف فيصل الذي كان آنذاك في أوروبا، فعّين لهم الشريف «لوكندات» للمنامة وللأكل على نفقة الحكومة.
إتخذ النازحون من دمشق محطة مؤقتة في طريقهم إلى جبل العرب، فغادروها إليه حيث لهم أقرباء فيه بدأوا بتوطّنه منذ سنة 1825 حين نُكبوا بعد هزيمة الشيخ بشير جنبلاط أمام الأمير بشير الشهابي الثاني، إذ كانوا من أنصار الشيخ. إلا أنه ظل منهم في دمشق بضعة شباب متحمّسين إلتحقوا بقوات الحكومة العربية، منهم نصرالله يوسف الذي كان من بين أفراد مجموعة فؤاد سليم حين حضرت ليل 25 كانون الثاني 1920 لنسف جسر الخردلي على نهر الليطاني.
ومما يذكر في هذا المجال أن فؤاد بك جنبلاط، الذي تضرّر كثيراً من مقتل وكيليه، ومن نزوح أنصاره آل البعيني إلى جبل العرب، والذي كان مستاءً من تصرفات الفرنسيين في منطقته، عزم على ترك جبل لبنان، والإلتحاق بالحكومة العربية في دمشق، لكنه عاد وإقتنع بنصيحة المخلصين من أن بقاءه يفيد منطقته أكثر بكثير من تركها. ومما يجدر ذكره هو أنه كان هناك إرتياح في بعض الأوساط لنزوح أهالي مزرعة الشوف، اشارت إليه جريدة «الصفاء» فقالت: «عندما وقعت حادثة مزرعة الشوف أخذ البعض يطبّل ويزمّر قائلاً: إن الدروز مقلقون يجب طردهم من لبنان».

 

جانب من عماطور اليوم_
جانب من عماطور اليوم_

 

صدى حادثة مزرعة الشوف عند أعيان جبل العرب وفي «المنطقة الشرقية»
عندما وصل النازحون إلى دمشق لم يكن فيها احد من كبار أعيان جبل العرب، فأُعلموا بقدومهم، فحضر شيخ مشايخ الجبل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش. ويذكر الشيخ وهبي طليع في مذكراته -وهو شاهد عيان- أن هؤلاء الأعيان الثلاثة قابلوا النازحين في مجلس الدروز في الشام، وطيّبوا خاطرهم، ثم انتقلوا إلى مقر الشريف زيد، ومنه إلى مقر المعتمد الإنكليزي المايجور كلايتون، ورئيس الإستخبارات المايجور دون، فاحتجوا لديهم بقوة على ما فعله الفرنسيون في مزرعة الشوف، ومن ثم إنتقلوا إلى مقر المعتمد الفرنسي الكولونيل كوس، واستنكروا بشدة ما قامت به السلطة الفرنسية في مزرعة الشوف. ويضيف الشيخ وهبي طليع أن نسيب بك قال للكولونيل ما معناه: أنتم تعدّوننا متخلّفين، ولكننا في الحرب الكونية وقفنا بوجه الأتراك، ومنعنا إحتكار الحنطة، وأطعمنا اللاجئين إلى الجبل الذي وفّر الأمان لكل من دخله، وخدمنا الإنسانية. وأنتم تقولون ويقال عنكم إنكم أم المدنية والحرية، لكنكم عملتم بعكس الإثنتين وتصرّفتم بوحشية فضربتم بالمدافع مزرعة الشوف، وأحرقتم البيوت، وشتتم النساء والأولاد».
هاج الرأي العام في «المنطقة الشرقية» حيث كان التأييد عارماً للحكومة العربية، والنقمة طاغية على الفرنسيين. فأبرق أهالي حاصبيا مستنكرين. وأبرق محمود الفاعور، وشيوخ القبائل والقرى وأعيان الدروز في الجولان إلى الحاكم العسكري الفرنسي في لبنان، محتجين «على الفظائع والجنايات التي تخالف مبادئ الحلفاء السامية، ولا تتفق مع المدنية الحاضرة بوجه من الوجوه». وأرسل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش بإسم زعماء دروز جبل العرب برقية إحتجاج إلى الشريف زيد المتسلم للشؤون العامة في غياب أخيه فيصل، وإلى الحاكم العسكري العام، وإلى معتمدي إنكلترا وفرنسا، هذا نصها:
«دروز حوران [جبل العرب] يحتجون بكل ما لديهم على المعاملة الجائرة بشأن إخوانهم دروز لبنان. تخريب مزرعة الشوف هاج الدروز هنا الذين تجمهروا لمعاونة إخوانهم. أوقفناهم مؤقتاً حقناً للدماء، ومنعاً لوقوع مجازر بشرية. إن كل نقطة دم تُهرق من درزي لبناني تهيج بها عواطف ثمانين ألف درزي حوراني، ودروز حوران لا يتخلّون عن أقاربهم دروز لبنان ولو أدّى ذلك إلى إفنائهم. نرجو إستعمال نفوذكم لمنع الظلم عن الدروز هناك، وإلا نكون غير مسؤولين عن أية نتيجة تحصل».

العفو عن أهالي مزرعة الشوف
منذ الأيام الأولى لنزوح أهالي مزرعة الشوف بدأت المساعي والوساطات للعفو عنهم، وقبول الفرنسيين بعودتهم. وفي البداية إشترط وكيل الحاكم الإداري شروطاً قاسية، منها تعهّدهم بإيجاد الراحة العمومية في بلدتهم، وضمان حياة عساكر الدولة عند قدومهم إليها، وإعادة الخرطوش والأسلحة التي كسبوها من أفراد الدرك مع خمسين بندقية حربية جديدة. ثم ألغى وكيل الحاكم هذه الشروط، وإعتبر ما أصاب أهالي مزرعة الشوف من هدم بيوتهم وخسارة محتوياتها، عقاباً لهم. وبعد ذلك تطوّر الأمر إلى العفو عنهم دون شروط.
كان من مصلحة الفرنسيين كسب السكان عموماً، والدروز تحديداً، في مرحلة بحث عصبة الأمم لمسألة الإنتداب، ومرحلة تطلّعهم إلى إحتلال «المنطقة الشرقية» وتثبيت أقدامهم في الشرق. وهذا كان الهدف الأول للجنرال غورو الذي عيّنته فرنسا لتطبيق الإنتداب في سورية ولبنان.
لذا تقرّب من دروز لبنان بإحتواء المعارضين منهم، وردّ الزيارات لكبار زعمائهم، والعفو عن مرتكبي الحوادث التي جرت في العامين 1918 و 1919، وتقرّب من دروز حوران (جبل العرب)، بوعدهم بإنشاء كيان خاص بهم في الجبل، وبجعل حرسه الخاص من شبابهم. وفي المقابل حصل تطوّر عند الفريقين الدرزيين أدّى إلى قبول معظم المعارضين بالإنتداب الفرنسي. وتزامن هذا مع مفاوضات أجراها الشريف فيصل في باريس مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو، أسفرت عن الإتفاق بينهما في كانون الأول 1919 على قبول فيصل بالمساعدات الفرنسية، وبإنتداب فرنسا على لبنان، وتسهيله تشكيل إدارة مستقلة لدروز حوران داخل الدولة السورية.
حضر وفد من أعيان دروز جبل لبنان للسلام على الجنرال غورو في 6 كانون الأول 1919، بعد قدومه إلى الشرق. وهذا الوفد مؤلف ممن أيّدوا الفرنسيين سابقاً مثل الأميرين الأخوين فؤاد وتوفيق أرسلان، ونجيب عبد الملك، وشيخ العقل حسين حماده وأخيه أمين، وشفيق بك الحلبي، وممن عارضوا الفرنسيين مثل الأمير عارف مصطفى أرسلان، وفؤاد بك جنبلاط، ورشيد بك جنبلاط، ومصطفى بك العماد، ومحمد بك تلحوق. وكان لقاؤهم معه فرصة لأن يطرح الكولونيل الفرنسي نيجر موضوع العفو عن جميع المحكومين الدروز في الحوادث، ومنهم الذين حكموا بحادثة مزرعة الشوف، فوافق الجنرال غورو على ذلك. ثم طلب شيخ العقل حسين حماده أن يشمل العفو جميع المحكومين المسيحيين في الحوادث نفسها، فوافق الجنرال.
وفي 7 نيسان 1920 زار الجنرال غورو، ومعه كبار المسؤولين الفرنسيين المدنيين والعسكريين، فؤاد بك جنبلاط في المختارة، فاستُقبل من أهالي المنطقة بالحداء وإطلاق العيارات النارية حسب عادات اللبنانيين، وكان في إستقباله من أعيان الدروز شيخ العقل حسين طليع والأميران: أمين مصطفى وفؤاد أرسلان، والبكوات علي ومحمود ورشيد جنبلاط، ومصطفى العماد، ونجيب عبد الملك، وأمين حماده، ومحمود تقي الدين، وشفيق الحلبي، وسعيد زين الدين، فرحّب فؤاد بك جنبلاط بالفرنسية بالجنرال غورو وأكمل محمود بك تقي الدين عنه بالعربية وطلب استقلال «لبنان الكبير» بحماية فرنسا فأيده الحاضرون بالهتاف.

مزرعة الشوف اليوم
مزرعة الشوف اليوم

التعويض عن أضرار مزرعة الشوف
إنعكس التحوّل في موقف دروز جبل لبنان نحو التأييد شبه الشامل للإنتداب الفرنسي على قضية مزرعة الشوف فتطوّر الأمر من العفو عن أهاليها إلى التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، وأظهر الفرنسيون إهتماماً بهم، من وجوهه رسالة المستشار الإداري «للمنطقة الغربية» إلى المستشار الإداري لجبل لبنان، بتاريخ 20 آذار 1920، يستوضح فيها عن وضع مزرعة الشوف.
كان الأمير أمين مصطفى أرسلان، الملقّب من الفرنسيين بالعدو الشريف، يهاجمهم في مواضيع عدة، منها إحراقهم لمزرعة الشوف وتهجير أهلها، وكان يطلب منهم تصحيح خطأهم إزاءها بالتعويض الكافي لإعادة بناء بيوتها وتأثيثها، والتعويض عن توقف أعمال النازحين منها. وتجاوب الفرنسيون معه في ذلك لإعطاء مثل عن تساهلهم ومعاملتهم الحسنة للسكان، ووافقوا على تعويض عادل قدره بالعملة المصرية التي إعتمدها الحلفاء في سورية ولبنان، ستون ألف ليرة ورقية، إلا أن بعض المزايدين من أعيان الدروز في ولائهم للفرنسيين، والمتزلّفين إليهم، أظهروا الغيرة على مصلحة الفرنسيين، حسبما صرّح به الأمير أمين لوجوه آل البعيني، إذ نصحوا الجنرال غورو بإنقاص التعويض، بحجة أن التعويض العالي، إضافة إلى العفو، قد يكون دافعاً للتجرؤ على مقاتلة الفرنسيين، فبات 12 ألف ليرة مصرية ورقية. واضطر أهالي مزرعة الشوف إلى القبول بالتعويض القليل، وعاد النازحون من آل البعيني من جبل العرب، ومعهم المتهمون الخمسة الذين ورد الحديث عنهم، وأعادوا بناء بيوتهم، فيما ظلت قلّة منهم مع أقربائهم في الجبل.
حصل إحراق مزرعة الشوف وتهجير أهلها في نهاية تشرين الأول 1919، وعاد النازحون في ربيع 1920، وغدا هذا التاريخ عندهم وعند سائر أبناء البلدة محطة يؤرّخون بها الوقائع، ويذكرونه بلفظة «حريقة» فيقولون: هذا خلق قبل الحريقة أو بعدها، وهذا الموضوع حصل قبل الحريقة أو بعدها. إنها صفحة مأسوية ماثلة في ذاكرة الأبناء والأحفاد، ولا يمرّ عليها الزمن، لكنها أيضاً صفحة مجيدة من تاريخ هذه البلدة، ومن تاريخ لبنان في عهد الإنتداب الفرنسي، لأنها الأكبر من بين أعمال المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين في جبل لبنان حتى نشوب الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

المراجع

– حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، ص 130. وناصيف اليازجي: رسالة تاريخية في احوال لبنان في عهده الإقطاعي، ص 16.
– مذكرات الضابط نعمان أبو شقرا (مخطوطة) ص 182. نحتفظ بصورة عنها.
– سعيد تقي الدين: ملحق أنا والتنين، ص66.
– محمود خليل صعب: قصص ومشاهد من جبل لبنان، ص 83.
– أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى، طبع مكتبة مدبولي بمصر الجزء الثاني، ص 116-117.
– لسان الحال، عدد 3 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة، عدد 11 تشرين الثاني 1919.
– جورج فغالي: تاريخ جيش المشرق في لبنان، ص 257.
– نحتفظ بصور عن الرسائل الاربع. والأصل محفوظ عند الشيخ زهير طليع.
– عزت زهر الدين: المجاهدون الدروز في عهد الإنتداب ص 189- 190.
– لسان الحال عدد 8 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة عدد 24 تشرين الثاني 1919.
– الصفاء، عدد 23 تموز 1920.
– مذكرات وهبي طليع (مخطوطة) ص 26، نحتفظ بصورة عنها.
– البرقيات منشورة في جريدة -العاصمة- عدد 24 تشرين الثاني، وعدد أول كانون الأول 1919.
– العاصمة، عدد 13 تشرين الثاني 1919.
– أنظر إلى اتفاق فيصل- كليمنصو: زين نور الدين زين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سورية ولبنان، ص 141- 142.
– لسان الحال، عدد 8 كانون الأول 1919.
– لسان الحال، عدد 8 وعدد 10 نيسان 1920.
– صورة عن الرسالة: نحتفظ بها في مكتبتنا.

صياح الأطرش

المجاهـــــد
صيّــاح الحّمــود الأطــرش

وجد فيه سلطان الشجاعة العاقلة والرأي السديد والإخلاص والتفاني
فجعل منه رفيقاً مقرَّباً وساعداً وجناحاً قوياً لا يمكن الإستغناء عنه

سـار على رأس ألـــف مجاهــد لملاقــاة الشريــف فيصــل
ولاقاهـم سلطان وفرسان الجبل في الزحف لتحرير دمشـق

أبدى صيّاح بطولة خارقة في موقعة «عرى» ضد الفرنسيين
وقُتل تحته في حميم الرصاص خمسة من الجياد العربية الأصيلة

الجنرال أندريا: بعض الثوار ظلّوا يطلقون النار
وهم منبطحون حتى مرّت فوقهم العربات فسحقتهم.

في الحديث عن المجاهدين الأموات الأحياء، والأحياء عند ربّهم يُرزقون، بعض الوفاء لهم، وتذكير بمواقف العزِّ والبطولة والوطنية والتضحية والفداء، وإستحضار لماضٍ، كانوا فيه السواعد التي تقاوم المستعمرين، وتهدم صروح الظالمين، والمشاعل التي تبدّد الظلام، وتنير طريق الحرية، إلى حاضر يحتاج الكثير من أمثال هذه السواعد والمشاعل لما بات يكتنفه من الظلم والظلام.
وفي العودة إلى سلطان باشا الأطرش ورفاقه في الجهاد صفحات تحلو كتابتها، وتلذّ قراءتها. وصيّاح الحمّود الأطرش هو من الرعيل الذي جاهد في الثورة العربية الكبرى، وفي الثورة السورية الكبرى تحت لواء سلطان، وهو، إضافة إلى ذلك، أحد مراجع الثورة السورية الكبرى لقصائده فيها، ولما دوّنه عنها من يوميّات، واحتفظ به من وثائق وإن قليلة.
صيّاح هو إبن نايف بن سلامه بن حمّود الثاني بن حمّود الأول، شقيق إسماعيل الأول الذي هو أحد جدود آل الأطرش، الأعلين. وُلد سنة 1898 في قرية «بكّا»، إحدى قرى «المقرن القبلي» في جبل العرب (محافظة السويداء حالياً). توفّي والده قبل ولادته فعاش يتيم الأب، وتعّهدت والدته تربيته وإعاشته بمساعدة من أقاربه، آل الأطرش، والمحبّين لأبيه وجدّه سلامه من أهالي «بكّا», وكانت هناك عوامل من محيط صيّاح ساهمت في إعداد شخصيته وتنمية مواهبه، وصيرورته فارساً مغواراً، وشاعراً يجاهد بسيفه وبقصائده الحماسية الوطنية.
إن بيئة جبل العرب البركانية، ذات المناخ الجبلي الجاف، وشبه الصحراوي، أفضل البيئات لنمو الأجسام الصحيحة، الصلبة والقوية. وبيئته الثقافية بما فيها من تقاليد عربية أصيلة، ومفاهيم عرفانية توحيدية، منبت الرجال الأفاضل المتحلّين بالقيم والمناقب، والناس الصابرين، والمقاتلين الأشدّاء الشجعان، والنشاما، أي أصحاب الأريحية. هاتان البيئتان جعلتا صيّاح الأطرش مقاتلاً مقداماً، وفارساً مغواراً، ورث الشجاعة والرجولة عن قوم لهم تاريخ طويل في الكفاح من أجل تثبيت الوجود, وحفظ الكرامة، والدفاع عن الأرض والعرض، وعن الديرة، وورثها خصوصاً عن جده لأبيه «سلامه» الملقب بـ «سم الموت».
ومن عوامل البيئة الثقافية، التي جعلت من صيّاح الأطرش شاعراً، المضافات التي هي في جبل العرب مدارس مجّانية مفتوحة في كل آن، هي أشبه بسوق عكاظ مصغّرة، تُروى فيها الحكايات عن الشجعان، وتُردَّد الحكم والأمثال عن العقلاء, وتُنشَد أناشيد الشعراء على أنغام الرباب، فتطرب بها الآذان، وترقص لها الأفئدة. ومن عوامل هذه البيئة الثقافية أيضاً إنشاد أهل الجبل القصائد الحماسية في المناسبات، وإنشاد مقاتليهم الجوفيات في العرضات التي يقيمونها عند تجمّعهم وتأهّبهم للحرب، وإنشاد أبيات الحداء في سيرهم إليها.
تسلّم صيّاح الأطرش بضع وظائف مهمة هي مدير ناحية «القريّا» في حكومة جبل الدروز التي أقامها الإنتداب الفرنسي في سنة 1921, وقائمقام صلخد، أي «المقرن القبلي»، من الجبل، في عهد الإستقلال، بتفضيل من سلطان باشا الأطرش له على سائر الطرشان، وقائمقام الزبداني بعد ذلك وكان من لجنة أعيان آل الأطرش، وقد انتخبوه أمين سرّها حسبما يرد في محضر جلسة 6 كانون الثاني 1943، الذي نحتفظ بصورة عنه.

على خطى سلطان
إنطلق صيّاح الأطرش في العمل الجهادي متأثراً بإبن عمه سلطان باشا الأطرش، وملازماً له، ومنضوياً تحت لوائه في معارك الثورة العربية الكبرى والثورة السورية الكبرى. وفي هذا الصدد يقول إبنه الدكتور عبدي، في الصفحة 33 من «أوراق من ذاكرة التاريخ» ما يلي:
وعندها إكتشف [صيّاح] الزمان والمكان، فحدّد البداية منطلقاً منها إلى النهاية بكل تفاؤل وإقدام وكبرياء. فالبداية كانت سلطان باشا الأطرش إبن «القريّا» جارة «بكّا»، ذلك العملاق المتربّع فوق قلعته الحصينة على قمة عالية تشعُّ بالنور والإيمان إلى كل الجهات والنواحي. سلطان الذي إحتضن الفتى القادم من الجنوب معانقاً فيه الشجاعة اللامتناهية والجرأة العاقلة والرأي السديد والفكر المصيب والإخلاص والتفاني.. قرّبه من قلبه رفيقاً أكثر منه قريباً حتى غدا (كما سيظهر لاحقاً) ساعداً أبياً لا يمكن التفريط به وجناحاً قوياً لا يمكن الإستغناء عنه».

في الثورة العربية الكبرى
تبدأ مسيرة صيّاح الجهادية بإشتراكه في الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين في العاشر من حزيران 1916. لم يتلقّ كبعض أعيان جبل العرب، وهم سلطان باشا الأطرش وخليل المغوّش ومحمد الصغيّر، رسائل من الشريف فيصل بن الحسين ومعتمده نسيب البكري، وإنما سمع نداء الواجب «وسار مع حمد البربور وعبد الله العبد الله وألف من رجال جبل العرب لملاقاة الشريف فيصل، فالتقوا به في وادي اللسن» كما جاء في مذكرات فايز الغصين، الجزء الثاني، الصفحة 593. وسار بعضهم تحت لواء فيصل، ومع جيشه الزاحف شمالاً نحو دمشق لتحريرها من الأتراك. وعند وصول الجيش العربي إلى بصرى الشام إنضم سلطان باشا الأطرش والفرسان الذين جمعهم إلى الجيش العربي، ومنهم صيّاح، وزحفوا بإتجاه دمشق، وقضوا عند مشارفها، وفي تلال المانع، على المقاومة العنيدة التي أبداها الجيش التركي المدعوم من الألمان، ودخلوا بقيادة سلطان دمشق بعد ظهر الثلاثين من أيلول 1918، وكان له ولهم شرف السبق إلى عاصمة بلاد الشام، ودخلوها قبل قوات الشريف فيصل وقبل الجيش البريطاني، وكان له ولهم أيضاً شرف السبق في رفع العلم العربي على سراي دمشق في اليوم نفسه.
أنشأ فيصل الحكومة العربية في دمشق في أوائل تشرين الأول سنة 1918. لكن الفرنسيين الذين احتلوا «المنطقة الغربية» من بلاد الشام، شاؤوا السيطرة على كامل سورية تنفيذاً لإتفاقية سايكس-بيكو. فوجّه المفوّض السامي الفرنسي على سورية ولبنان، الجنرال غورو، إنذاراً إلى الحكومة العربية من خمسة شروط لا تتجزأ، مفادها تسريح الجيش العربي، وقبول الإنتداب الفرنسي فأحدث هذا إرباكاً للحكومة العربية وبلبلة وفوضى في دمشق. وبين قبول شروط الإنذار ورفضها، وتسريح الجيش العربي وإعادة جمعه، تراجعت الثقة بالحكومة العربية، وضعفت إمكانية مواجهة الجيش الفرنسي الزاحف بإتجاه دمشق، الذي انتصر في ميسلون في 24 تموز 1920 على بقايا الجيش العربي، ودخل دمشق، وأوصل الإنتداب الفرنسي إلى سورية على رؤوس الحراب ليبدأ تنفيذ مخطط تجزئتها، الإستعماري.
كان سلطان باشا الأطرش مع فريقه رافضاً الإنتداب الفرنسي، مؤمناً بوجوب مجابهة جيشه، لكن لم يتح له وللفرسان الذين جمعهم وسار بهم للدفاع عن دمشق، الإشتراك في موقعة ميسلون، إذ بلغهم خبر الهزيمة فيها ودخول الجيش الفرنسي دمشق في يوم الموقعة نفسه، وخروج فيصل منها إلى الكسوة. وكان صيّاح من هؤلاء الفرسان الذين حشدهم سلطان، وممن أرسلهم بعد ذلك إلى فيصل، الذي خرج من سورية في 29 تموز، ليطلبوا منه الحضور إلى السويداء وإقامة الحكومة العربية فيها.
بعد أن خرج فيصل من سورية مهزوماً من الفرنسيين، خرج والده الملك حسين من الحجاز مهزوماً من الأمير عبد العزيز آل سعود الذي ألغى المملكة الهاشمية في الجزيرة العربية وأقام مكانها المملكة العربية السعودية. لجأ الملك حسين إلى قبرص، وقلَّ المتصلون به والمتذكرون له في منفاه بعد انهيار مشروعه، وضياع حلمه بإنشاء الدولة العربية التي تمتد من جبال طورس شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، إلا أن صيّاح ظل يتذكره فبعث برسالة إليه أجابه عليها برسالة رقمها 176، أدرجنا صورة عنها في كتابنا «دروز سورية ولبنان في عهد الإنتداب الفرنسي» الصفحة 399، يخاطبه فيها «بالوطني المفادي أمير اللواء صيّاح باشا الأطرش المحترم»، ويشيد بالبطولة الخارقة والشجاعة النادرة التي أثبتها أبناء بني معروف فكانت محل الإعجاب وموضع المباهاة، وقد خاطبهم بالقول التالي: «نهضتم نهضتكم هذه أيها الأسود البواسل فأثبتم بها شرف الأخلاق العربية والشهامة العدنانية»، كما خاطب صيّاح قائلاً: «لقد تناولت مضبطتكم التي يتدفّق من بين سطورها ذاك الشمم العربي والوفاء المعروفي، وذاك الإخلاص الصادق واللهجة الحرة».
منح الملك حسين صيّاح لقبين هما «الأمير» و «الباشا»، ولكن صيّاح لم يعلن ذلك، وأخفى الرسالة حتى قبل وفاته سنة 1977 بيومين، مكتفياً بلقب «بك»، تاركاً لقب «أمير» لدار عرى التي حمله أبناؤها منذ أن منح الفرنسيون شيخ مشايخ الجبل سليم الأطرش لقب «أمير» عند تعيينه حاكماً على «دولة جبل الدروز». فدار عرى هي دارة الإمارة عند أبناء الجبل، وهي الدار المقدّمة عند الطرشان على غيرها، وقد إكتفى أعيانهم بألقاب «البيك» و «الباشا» و «الشيخ» بإستثناء حسين ومتعب وتوفيق الأطرش الذين منحهم الشريف عبد الله لقب «أمير» ليكسبهم إلى جانبه عند تأسيسه إمارة شرق الاردن، وعلي مصطفى الأطرش الذي خوطب بالامير أسوة بزميليه النائبين في المجلس النيابي السوري: الأمير فاعور محمود الفاعور، والأمير فوّاز الشعلان، عند حضورهما مؤتمر سان فرنسيسكو سنة 1945 الذي أُسّست فيه هيئة الأمم المتحدة.
إتخذ صيّاحُ سلطان باشا الأطرش مثلاً أعلى في نهجه وسلوكه ونضاله. فسلطان إكتفى بلقب «الباشا» الذي منحه إياه الشريف حسين، ورفض منه لقب «أمير»، كما إن إبنه الشريف عبد الله لم يجرؤ على منحه هذا اللقب. وكان سلطان يقدّم دار عرى وأمراءها، ويعتبر وحدة الزعامة التشريفية والرسمية فيهم تجسيداً لوحدة أبناء الجبل، كما يعتبر أن المرء هو الذي يحيك عباءة زعامته وهذا كان شأن صيّاح الذي كتم خبر رسالة الملك حسين، لأنه كما جاء بقلم إبنه الدكتور عبدي في «أوراق من ذاكرة التاريخ» الصفحة 35 «كان لا يؤمن إلا بالعمل الذي وحده يعلو على كل الألقاب والذي يشرّف كل إنسان بعيد عن الغرور والخيلاء».

قادة المجاهدين في خيمتهم في وادي السرحان في المملكة السعودية[1]
قادة المجاهدين في خيمتهم في وادي السرحان في المملكة السعودية[1]

في الثورة السورية الكبرى
كان صيّاح من بين 23 شخصاً اجتمع بهم سلطان باشا الأطرش من أجل التهيئة للثورة، ومن جملة أعضاء وفد جبل العرب، الذي قابل المفوض الفرنسي أوغست برونه، حين جاء لاستطلاع أحوال سورية ولبنان وقد قابل الوفد المفوض السامي الفرنسي سراي، ورئيس الاستخبارات الفرنسية دانتز، لكن مفاوضة زعماء جبل العرب مع المسؤولين الفرنسيين إصطدمت بغطرسة الجنرال سراي الاستعمارية وعصبيته، وتدابيره الإنفعالية المتسرّعة التي أدّت إلى التسريع بالثورة التي يعدّ لها سلطان بالتنسيق المحدود مع زعماء وطنيين في دمشق.
وكان صيّاح من أوائل المجاهدين الذين انضمُوا إلى سلطان في مسيرته لتهييج قرى «المقرن القبلي» إنطلاقاً من قرية صيّاح «بكّا». ثم كان من الفرسان الذين خاضوا أولى مواجهات الثورة في «الكفر» وانتصروا فيها على الفرنسيين، وكان في الطليعة يشدو بصوته الحسن الأغاني الحماسية، وقد جرح برصاص رشاش في يده اليمنى، لكنه لم يتوقف عن القتال إلا عند بلوغ النصر المؤزّر.
وتستمر الثورة، ويخوض صيّاح معظم مواقعها حتى صيف 1927، منتقلاً من منطقة إلى أخرى، مقاتلاً يغشى الوغى، فهو من فرسان معركة «المزرعة»، كبرى معارك الثورات على الفرنسيين، حيث أباد الثوار ببنادقهم وسيوفهم حملة فرنسية من ستة آلاف جندي، مجهّزة بأحدث وأثقل الأسلحة وهو من الفرسان الذين خاضوا معركة «المسيفرة» حيث عوّض الثوار عن عدم تحقيق النصر بشرف البطولات والفداء وهو ممن أبلوا البلاء الحسن في الدفاع عن السويداء في أيلول 1925 ضد حملة الجنرال غاملان، وممن خاضوا مواقع إقليم البلاّن، وممن تقدّموا بقيادة زيد بك الأطرش إلى جنوب لبنان لمساعدة ثوّار وادي التيم، ولنقل الثورة إلى لبنان، وقد عمل مع زيد وفضل الله الأطرش وحمزة الدرويش وعلي عامر على تنظيم أوضاع منطقة حاصبيا. وكان صيّاح أيضاً ممن قادوا عمليات تخريب الخط الحديد لعرقلة نقل الفرنسيين لجنودهم وللإمدادات، بقصد تجميع قواتهم لمحاصرة جبل العرب والقضاء على الثورة فيه. ولعلّ أبرز ما يسجَّل له هو بطولته في التصدي لحملة الجنرال أندريا في موقعة السويداء، يوم 25 نيسان 1926، وبطولته في إنقاذ سلطان باشا الأطرش في موقعة «الصوخر» في 9 آب 1926.

موقعة السويداء
بعد نجاح الفرنسيين في إضعاف الثورة أو إخمادها في معظم المناطق السورية واللبنانية التي إمتدت إليها، وجّهوا في نيسان 1926 حملة كبرى من 12 الف جندي بقيادة الجنرال أندريا، لإعادة إحتلال جبل العرب بعد أن انسحبوا منه في أيلول 1925، متخذين إحتلال عاصمته السويداء أول أهدافهم.
يصف الجنرال أندريا في كتابه الصادر بالفرنسية بعنوان «ثورة الدروز وتمرّد دمشق الصفحة 112- 118» ما لاقته الحملة الخفيفة من مصاعب، وما نزل بها من خسائر في القتال الذي جرى في 25 نيسان 1926، في المواقع على جبهة عرى- رساس. فهو يذكر أن معركة السويداء هي بالنسبة إلى الدروز كڤردان بالنسبة للفرنسيين في الحرب العالمية الأولى، وأن بعض الثوار ظلّوا يطلقون النار وهم منبطحون على الأرض حتى مرّت فوقهم العربات فسحقتهم، وأن الحملة الخفيفة – وهي مَيسرة الجيش الفرنسي – هوجمت بشراسة، ويضيف أندريا ما يلي: «وفي الوقت نفسه إنقضّ بعض الدروز على الميمنة وهاجموها بشراسة بالغة، من دون أن يستطيع الطيارون رؤيتهم، لدى خروجهم من مخبئهم في منخفض «رساس» لأن الضباب كان يغمر الجو. إنهم دروز «المقرن القبلي» الذين كانوا يجتمعون البارحة في منطقة «بكّا» ليقطعوا طريق «صلخد» وكان بعضهم من الفرسان قد اشتبك مع الحملة لدى وصولها إلى «عرى»، أما الآن فقد إجتمع الثوار معاً، من مشاة وفرسان خلال الليل في «رساس» والقرى المجاورة، وقاموا جميعاً بهجوم شامل قوي هلعت له الحملة فاضطرّت أن توقف تقدّمها نحو السويداء لتواجه المعتدين».
لم يسمِّ أندريا قائد دروز «المقرن القبلي». إنه صيّاح الذي سمّاه القائد العام للثورة سلطان باشا الأطرش قائد الجبهة الجنوبية، بموجب التنظيمات التي أجراها. أبدى صيّاح بطولة خارقة ونادرة في موقعة «عرى» المسمّاة أيضاً موقعة «سَمَر» وقُتل تحته خمسة من الجياد العربية الأصيلة، وسادس هو حصان مهزوم، إمتطاه ليتابع القتال. إنه لمشهد لا يراه المرء إلا في فيلم سينمائي يتقن مُخرِجه تصوير المشاهد التي يتألق فيها البطل لكنه مع صيّاح مشهد حقيقي نقل الثقات خبره، ووصفه الشعراء في قصائدهم، وردّده رواة مجريات الثورة ووقائعها، وذكره المطران نيقولاوس قاضي في كتابه «أربعون عاماً في حوران وجبل الدروز» الصفحة 96، كما إن صيّاح نفسه تحدّث عن ذلك، وذكر أسماء وأنواع وأصول أحد عشر فرساً من الخيول التي خسرها في الثورة، وفي المنفى، ومنها الجياد الخمسة التي خسرها في موقعة «عرى» وهي مدرجة في كتاب عنه بعنوان «أوراق من ذاكرة التاريخ» الصفحة 136.
إن ما قام به صيّاح في موقعة «عرى» وفي غيرها من المواقع جعل الناس يطلقون عليه لقب «أبو المغاوير». والمغوار، في اللغة، هو الكثير الغارات، وقد اعتمدت الجيوش المعاصرة هذا اللقب وأطلقته على نخب فرقها الشجاعة والمدرّبة. ولقب «أبو المغاوير» أخذه صيّاح دون غيره من أبطال وفرسان الجبل الذين يشبهونه في الفروسية والشجاعة، وحمله في جميع معارك الثورة كما قال أدهم الجندي في الصفحة 238 من كتابه: «تاريخ الثورات السورية في عهد الإنتداب الفرنسي».
جرت موقعة «عرى» إلى الشرق من مكان إسمه «سمر» يقع إلى الشمال الغربي من «عرى». لذا ورد إسم «سمر» في الأهازيج والأناشيد الحماسية وفي أبيات منها تشيد ببطولة صيّاح كالأبيات التالية:
صـيّـــــــــاح من شـرقي «سَمَر» ملكــــــــــاده بتـــــــــقــــــــــول ذيـــــــــب ومحلحـــــــــل بـطليـــــــــــــان
ملكادكم شرقي «سَمَر» خلّى السلاح مثل العصي بيدين طلقين اليمـــــان
صـيّــــــــــــاح ردّه والســـــــــــــبــــــــــــايــــــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــوم بشرقي «سَمَر» يلكــــــــــــــــــــــد على المتـراس
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وقـعـــــــــــــــــــــــــــــةً شرقي «سمَــــــــــــــــــــر» فــــــــــــــــاحـــــــــــــــــــت علــــــــــــــــــى فرســـــــــــــانــــــــــــــــــــــــــها
وصيـّـــــــــــــــــــــــــاح للعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرضـــــــــــــــــــــــي دمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر للصــــفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره يـــــــــــــــــــــــــرخـــــــــــــــــــي عنانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها

د. عبدي صياح الأطرش نشر مذكرات وأوراق والده كاملة
د. عبدي صياح الأطرش نشر مذكرات وأوراق والده كاملة

إنقاذ سلطان باشا الأطرش في موقعة الصوخر
بعد إحتلال الفرنسيين السويداء بدأوا بحملات إخماد في «مقارن» جبل العرب. وتجمّع الثوار في عدة معاقل أبرزها اللجاه و«المقرن القبلي» الذي جرت فيه موقعة «الصوخر» في 9 آب 1926، حيث فقد سلطان باشا الأطرش حصانه وفي خرجه رسائله وبعض أوراق الثورة، وكاد أن يؤسر لو لم تأته نجدة من فرسان يقودهم صيّاح الذي سارع إلى دخول المعركة هاتفاً: «يا مرحبا بالموت كي يبقى سلطان حياً». وبعد أن تمّ تشتيت الجنود الذين يحاصرون سلطان قدّم له صيّاح فرسه وأخذ فرساً لمجاهد من رفاقه. وبهذا أنقذ سلطان من اسر أو موت يتهدّدانه، مع ما كان سيؤدي إليه ذلك من إنعكاسات سلبية وخطيرة على مسار الثورة التي هو معلنها وقائدها العام، وباعث حيويتها واستمراريتها.
من النتائج المترتّبة عن إنقاذ صيّاح لسلطان باشا الأطرش في سنة 1926، تحوّله في سنة 1974 إلى سبب لوقف نشر مذكراته، وتفصيل ذلك أنه قُيّض للأستاذين صلاح مزهر ويوسف الدبيسي إعداد مذكرات سلطان التي آلت بعد إعدادهما لها إلى الأستاذ أمين الأعور الذي قام بنشرها على حلقات في جريدة «بيروت المساء»، الا أن الأستاذ منصور، إبن سلطان باشا، كان يرى أن مذكرات سلطان ملك للأمة، وأن تحقيقها يجب أن تقوم به نخبة من الأكاديميين المختصين بكتابة التاريخ، وقد أبدى وبعض الطرشان مآخذ عليها، منها مأخذهم على ما ورد فيها ولم يرد على لسان سلطان، وهو أن سلطان عزم على الإعتذار من عوده أبو تايه عن ردة فعل عنيفة عليه ردّاً على إتهامه الدروز بالنهب، وذلك عند بحث الحكومة العربية لأعمال الفوضى التي سادت في بداية تأسيسها في دمشق. وقد عالجنا ذلك مفصّلاً في كتابنا «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» الصفحة 86- 87.
لم يوقف سلطان باشا الأطرش نشر مذكّراته لمآخذ إبنه وأقاربه عليها، إلا عندما وردت فيها في معرض الحديث عن موقعة «الصوخر» الجملة التالية: «وسارع أحدهم إلي بجواد» دون ذكر هذا الشخص الذي هو صيّاح، ونظراً إلى ما يكنّه لصيّاح من محبة، ولتقديره لجهاده ولإنقاذه، طلب سلطان وقف نشر المذكرات، واستعادها من الأستاذ أمين الأعور، وقال له في رسالته إليه في تاريخ 13/3/1974، التي نحتفظ بصورة عنها، ما يلي: «لقد كلّفت إبني منصور بالإطّلاع على مخطوطة الكتاب الذي وضعه الأستاذ صلاح مزهر والأستاذ يوسف الدبيسي عن الثورة السورية، وأرى أن تتريّثوا بطبعه حتى نتذاكر معه ومع غيره من الأخوان الذين لهم صلة بالموضوع بما يستجد من آراء». وتبعاً لذلك توقف نشر المذكرات عند الصفحة 285 من أصل 461 صفحة.

صياح-الأطرش-في-شبابه
صياح-الأطرش-في-شبابه

“كان فارساً يقاتل في المقدمة بلا هوادة وينشد بصوته الحسن أغاني حماسية تلهب مشاعر المجاهدين وقد خاض معظم مواقع الثورة السورية حتى العام 1927”

يوميّات وأوراق وديوان صيّاح الأطرش
زوّدنا الدكتور عبدي صيّاح الأطرش مشكوراً بصور عن بعض يوميّات والده التي تبدأ في 31 تموز 1926، وتنتهي في 30 كانون الأول 1934، وبصور عن بعض أوراقه. ثم عاد وأرسل لنا صوراً عن ثلاث من يوميات والده تتعلّق بمقابلته مع زيد بك الأطرش وفضل الله الأطرش للملك فيصل الأول في سنة 1931. وأثناء زيارتنا الثالثة له في أواخر سنة 1987 طرحنا عليه، وبإلحاح، فكرة طبع ديوان ومذكرات وأوراق والده، وأبدينا إستعدادنا للقيام بذلك بواسطة المركز الوطني للمعلومات والدراسات المنشأ حديثاً في لبنان. فتريث في الأمر إذ لم يكن له، على ما قدّرنا متسع من الوقت لتجميع الأوراق وتبويبها والتعليق عليها.
إعتمدنا على ما زوّدنا به الدكتور عبدي في كتابنا «دروز سورية ولبنان في عهد الإنتداب الفرنسي» وكتابنا «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» وذلك في معرض الحديث عن إستسلام بعض الثوار، وحياة المجاهدين في المنفى، وإتصالاتهم بالأحزاب والجمعيات العربية وبالملك فيصل الأول وأخيه الشريف علي يوم كانت القضية السورية تُبحث في عصبة الأمم، ويوم كان يُبحث، في الأوساط العربية وخصوصاً السورية وبين مسؤوليها ومسؤولي الإنتداب، موضوع إعادة الملكية إلى سورية وتنصيب أميرٍ هاشمي أو سعودي عليها. إن ما اعتمدنا عليه من يوميّات وأوراق صياح الأطرش فيه بعض الفائدة منها، فيما الفائدة كلها جاءت – وإن متأخرة بعض الشيء – من نشر الدكتور عبدي لها كاملةً في سنة 2005، لأنها شهادات حيّة وصادقة من مجاهد عاش الحدث وساهم فيه.
ولحسن الحظ ظلت أوراق صيّاح محفوظة على الرغم من مرور الزمن، وتعاقب الحوادث، بعد أن سبق فقدان بعضها، وهو يوميّاته لأعوام 1935 و 1936 و 1937، التي هي في نظرنا ذات أهمية كبيرة، لأنها، حسب اعتقادنا، تتضمّن الكثير من المعلومات عن مواقف المجاهدين من الأحداث في سورية آنذاك ومن المفاوضات التي كانت تجري بين السوريين والفرنسيين لعقد معاهدة سنة 1936 ، ومن الصراع الذي كان يجري في جبل العرب بين الوحدويين الذين يطالبون بإعادة الجبل إلى الوطن الأم، والإنفصاليين الذين يريدون إبقاءه دويلة ذات إستقلال داخلي وإداري.
وسنكتفي هنا بإيراد نماذج من الأوراق والرسائل لإبراز دور صيّاح الأطرش، ومنها ما هو من أوراق زيد الأطرش وعقله القطامي:
رسالة من الملك حسين إلى صيّاح وقد وردت الإشارة إليها والحديث عنها.
-رسالة من الشريف علي بن الحسين إلى زيد وصيّاح الأطرش بتاريخ 12 سبتمبر 1931، يكبر فيها وطنيتهما، ويذكر ان عمر زكي سيحدّثهما عن الجهود المبذولة، وعن الآمال المعقودة لخير العرب، ويبعث بتحياته إلى «الصديق العزيز» سلطان باشا الأطرش ومن التفّ حوله من المجاهدين.
رسالة من إبراهيم النشمي إلى «صاحب السعادة صيّاح الأطرش» وفيها إعلام للمجاهدين بأن الملك عبد العزيز يُخيّرهم بين أمرين: إما أن ينتقلوا إلى داخل بلاده، وإما ان يرحلوا عنها، وان لديهم مهلة شهر واحد.
رسالة من إبراهيم النشمي إلى «صاحب السعادة صيّاح باشا الأطرش» وهي بتاريخ 9 ذي القعدة 1348، وفيها إستعداد الملك عبد العزيز أن يستقبل موفداً عن المجاهدين مع تأكيد إبراهيم النشمي على ضرورة إنتقال المجاهدين إلى داخل السعودية أو خروجهم منها.
سماح الأمير عبدالله «إلى صيّاح بك الأطرش وزيد بك الأطرش، وعقله بك القطامي» بالتوجه من شرق الاردن إلى العراق وهذا السماح هو بتاريخ 28/3/1932، وهو مرفق بسماح المعتمد البريطاني بتاريخ 29/3/1932.
رسالة من سلطان باشا الأطرش إلى صيّاح بتاريخ 26 تموز 1932، وهي مكتوبة على قفا رسالة من صيّاح إلى سلطان. وسبب ذلك حسبما يذكر سلطان «لا توجد لدينا فلوس حتى نشتري طبق ورق لنحرّر لكم فأضطررنا أن نحرّر على قفاه». وهذا يظهر مقدار العوز الذي وصل إليه المجاهدون في المنفى، وعلى رأسهم سلطان الذي لم يبقَ عنده من المال ما يشتري به ورقة لكتابة رسالة، والذي اضطر كما جاء في رسالته المذكورة ان يبيع حلى زوجته لشراء فرش للبيت الجديد، كلف صيّاحاً بشرائه، وذلك بعد إنتقالهم من الحديثة إلى الكرك في إمارة شرق الأردن.

وادي السرجان في شمال شرق المملكة السعودية حيث أمضى سلطان ورفاقه سنوات المنفى
وادي السرجان في شمال شرق المملكة السعودية حيث أمضى سلطان ورفاقه سنوات المنفى

“بسبب بطولاته في معركة «عرى» نال صيّاح لقب «أبو المغاوير» وهو لقب اختص به وحده بين جميع أبطــــال الثورة السوريـة وفرسانها”

شعر صيّاح الأطرش
بعد أن تكلّمنا عن صيّاح الأطرش مجاهداً سنتكلّم عنه شاعراً، إذ له ديوان كبير أورد إبنه الدكتور عبدي بعض قصائده وشرحها، وتحدّث عنه في نظر الشعراء. وبما أن المجال ضيّق للحديث عن هذه النواحي، نحيل من أراد معرفتها إلى كتاب «أوراق من ذاكرة التاريخ» وإلى دواوين شعراء جبل العرب التي تحتوي مناظراتهم مع صيّاح وقصائدهم المرسلة إليه، إضافة إلى ما كتبه المؤلفون، وخصوصاً الأستاذان صلاح مزهر ويوسف الدبيسي عن شعراء الزجل إلا أنه لا بدّ من الحديث عن أجمل القصائد الوطنية لصيّاح، وهي «يا ديرتي» التي ردّدها الكثيرون، وغنتها أميرة الغناء أسمهان الأطرش فأطربت العالم العربي، والتي عارضها بعض الشعراء ونظموا على نهجها، مع الإشارة إلى أن هناك آراء تشرك شاعرين آخرين في نظم هذه القصيدة، هما زيد وفضل الله الأطرش. وأبيات القصيدة هي التالية:
يــــــــــــا ديرتـــــــــــي مالِـــــــك علينــــا لـــــــــــوم لا تعتبـــــي لومــــــك علــى مــــن خـــــــــان
حِنّا روينا سيوفنا من القـوم مــــــــا نـــرخصــك مثـــــل العفـــــن بـــــأثمــــــــان
لا بد مـــــا تجلــــي ليالـــــي الشـــــــــوم وتــــــــــــــعتــــــــز غلمـــــــــــه قــــــــايــــــــــــدهْ ســلـطـــــــــــــان
وإن مــا تعدّل حقنــــا المهضـــــــوم يـــــــــــــا ديرتــــــــي مــــــــا حنــــــا لـــك ســــكـــان
يخاطب صيّاح الديرة، والديرة لها مفهومان عنده: أولهما المنطقة أو المكان الذي يولد المرء فيه، ويعيش بين سكانه في جنباته، وثانيهما الوطن الأوسع من مسقط الرأس، وهو المقصود في هذه القصيدة، إذ هو الوطن السوري الذي قاتل الثوار من أجله، وناضلوا لتوحيده وتحريره وإنالته الإستقلال عن الإنتداب الفرنسي، وضحّوا بالأرواح ورخّصوا الدماء، ومنهم صيّاح الذي حكم المجلس الحربي عليه بالإعدام. إنه الوطن سورية الذي خاطبه سلطان باشا الأطرش في بياناته ومناشيره وإستنهض السوريين إلى الجهاد في سبيله، ومما يدلُّ على أن المقصود بالديرة في القصيدة المذكورة هو سورية، وقضيتها الكبرى، البيت الأول الذي عارضه الشاعر محمد الجرمقاني بقوله:
يا صاحبي مـالـــَك علينـا لوم لومك على من بالقضيّه خان
تعدّدت الروايات إذاً عن من نظم هذه القصيدة، ومنها أنها لصيّاح وزيد ذوقان الأطرش وفضل الله الأطرش. وهذا كان في البداية رأي الأستاذين صلاح مزهر ويوسف الدبيسي اللذين ذكراه في مخطوطة مذكرات سلطان الصفحة 321. وقد اعتمدنا سابقاً عليه، فأوردنا في الصفحة 622- 623 من كتابنا: «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» ما يلي:
«تراجعت الثورة عن كل المناطق التي قامت فيها بما في ذلك مهدها جبل الدروز (جبل العرب). وتجمّع الثوار الذين تركوا هذه المناطق في الأزرق، وكانوا أمام خيارين: إما الإستسلام، وإما الإبتعاد عن البلاد. وخالجهم الإحساس بمرارة الفشل مقروناً براحة الضمير لما قدّموه من أجل الحرية والإستقلال. والتقى في قرية «الهويّا» في جبل الدروز، ثلاثة من قادتهم هم زيد وصيّاح وفضل الله الأطرش، وأنشدوا قصيدة «ياديرتي» وهم يهمّون بالرحيل عن الجبل، نظم كلٌّ منهم بيتاً أو أكثر منها، وعبّروا فيها عن أنهم قاموا بواجبهم في الثورة، وأن مسؤولية فشلها تعود إلى الخائنين، وأنهم لن يعودوا إلى الديار إلا بعد الإستقلال وإستعادة الحق المهضوم».
واليوم، ونحن نكتب عن صيّاح الأطرش لا بدَّ لنا أن نذكر المعطيات والمعلومات الجديدة، التي تجعلنا ننسب القصيدة إليه، وهي أن من اعتمدنا عليهما في ما كتبنا عدّلا رأيهما، فقال الإستاذ صلاح مزهر إن صيّاح هو من نظم القصيدة، وقد جاء ذلك عنده في مقالته في جريدة «الجبل» العدد 40 تاريخ 5/7/1983 تحت عنوان «رياض الأدب الشعبي»، كما إن الإستاذ يوسف الدبيسي قال أيضاً إن صيّاح هو ناظمها، وذلك في كتابه: أهل التوحيد (الدروز) الجزء الخامس، الصفحة 114- 115، لكنه ذكر في الهامش الرقم 4 من الصفحة 114 ما يلي: «يُقال إن مجاهدين آخرين شاركا في نظمها أيضاً هما زيد ذوقان الأطرش وفضل الله الأطرش».
وما يعزّز القول أيضاً بأن صيّاح هو ناظم قصيدة «يا ديرتي» أدلة عدة، أبرزها إثنان: أولهما قوله في شريط مسجّل بصوته إنه هو من قال هذه القصيدة، ورأينا هو أن هذا الرجل الذي لم يكشف عن لقب «أمير» خاطبه به الملك حسين، لتواضعه وبعده عن الغرور والكبرياء والإدّعاء، لا يمكن أن ينسب لنفسه وحده قولاً شاركه فيه غيره، وثانيهما ردُّ محمد الجرمقاني على قصيدة «يا ديرتي»، وهو من جملة القصائد التي قيلت على نهجها، ومنها قصيدة متعب الأطرش، وقصيدة سليم الدبيسي.
يقول الشاعر محمد الجرمقاني:
حيّــــــــــــــــاك يــــــــــــا علمــــــــــــــــاً لفانـــــــــــــا اليــــــــــــــــوم مـــــــــــــــــــــن لابة قيــــــــــــدومــــــــــــــــــــــهــــــــــــا سلطـــــــــــــــــــــــــــان
حيــّــــــــــــاك عـــــدد مــــــــزن البَرَد ونجوم حيثهْ صدر مـــــــــــن نخبة الشجعـــــــــــان
صيّــــــــــــــــــــــاح ردّه والـسـبـــــــــــايــــــــــــــــــــــا كـــــــــــــــــــوم يــــــــــــــــــــــوم العـــــــــــراضــــــــــــي قـــــــــــايـــــــــــدهْ غمــــــــــــلان
من فوق شقرا مــا غلي بهْ سـوم المـــــــــــرجـلــــــــــــــــــــــــــــــــــه قبـــــــــــــــــــلاً لـــــــــــكـــــــــــــــــــــــــــــــــم والآن
يـــــــــــا صـاحبـــي مالـــــــــــك علينـــــــــــا لـــــــوم لــــــــــــومك علـــــــــــى مــــــــن بـــــــــــالقضيه خـان
حنّـــــــــــا وقعنـــــــــــا بـــــــــــالـشـــرك وهمـــــــــــــــــوم وانتـــــــــــم على قـــــــــــب الرمـــــــــــك عقبــــــــــــان
في هذه الأبيات ذكّر لصيّاح وحده، وفي البيت الرابع منها إشارة إلى جدّه سلامه الملقّب بـ «سم الموت» وإلى أن البطولة ورثها صيّاح عن جدّه. أما البيت الأخير فهو يعني أن بعض الثوار وقعوا في فخ الإستسلام للفرنسيين بعد أن زيّنه هؤلاء بالعفو وكلّفوا الوسطاء لإقناع الثوار به، فيما فضّل صيّاح ورفاقه ترك البلاد مع سلطان باشا الأطرش سنة 1927، والعيش في المنفى حتى سنة 1937. لقد ضحّوا ببيوت هدمها الفرنسيون، وبأملاك صادروها، وظلوا عقبانا «على قب الرمك» أي على ظهور الخيل، يجاهدون في المنفى من اجل البقاء كما جاهدوا في الثورة من أجل الحرية، من دون ان يتخلّوا عن العمل من أجل وطنهم، ومن أجل إستعادة حقوقه المهضومة. وهم لم يعودوا إلى سورية إلا في سنة 1937 بعد أن تعدّل الحق المهضوم مؤقتاً بنيل سورية وحدتها وإستقلالها بموجب المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، ثم تعدّل كلياً بنيل سورية إستقلالها السياسي والعسكري سنة 1945، وجاء ذلك تصديقاً لما ورد في احد أبيات قصيدة «يا ديرتي» وهو:
وإن مـــــــــــا تعدّل حقنا المهضوم يـــــــــــا ديرتي مـــــــــــا احنــــــــا لــــك سكان.

القريا

آثارها الغنية شاهد على تاريخ وحضارات متعاقبة
“القريّــا” بلـدة الثـورة وسلطان
هـــذه أعمالنـــا تـــــدلّ علينـــــا

«القريـّا» شهدت عصرها الذهبـي في الفتــرة الإسلامية
في عهد الحاكم الأيوبي عز الدين أيبك (1216 – 1247)

مناخها المعتدل أغرى البشر منذ القدم بالتوطن فيها
فقامت حضارات وازدهرت الزراعة وتربية المواشي

سلطان باشا الأطرش أعاد كتابة تاريخ الجبل
وجعل إسم “القريّا” رمزاً للجهاد ضد الفرنسيين

آل شقير أول النازحين إليها من أرصون اللبنانية
بسبب اعتداءات الشهابيين وأحلافهم والفرنسيين

شارع-في-البلدة-القديمة
شارع-في-البلدة-القديمة

تعتبر بلدة “القريّا” من البلدات الكبيرة في محافظة السويداء وتعدّ رابع مركز مديني بعد صلخد وشهبا والسويداء وهي تستند إلى تاريخ عريق يعود إلى العصور المغرقة في القدم، كما تشهد عليها الآثار التي تمّ الكشف عنها عبر السنين وتعود إلى مختلف الحضارات التي توالت على المنطقة، لكن رغم أهميتها التاريخية فإن “القريّا” اكتسبت شهرة واسعة بسبب كونها مسقط رأس قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وأصبحت أهميتها اليوم أنها تضم صرح الثورة السورية الكبرى ومتحفها وضريح سلطان باشا كما تضم مضافته الشهيرة التي شهدت قسماً مهماً من الأحداث التاريخية التي مرّت بها سورية.
تقع مدينة “القريّا” جنوب مدينة السويداء مركز المحافظة على مسافة 18 كيلومتراً، وعلى ارتفاع 1050 متراً فوق سطح البحر، يحدّ أراضيها من الشرق الأراضي الزراعية التابعة لقريتي حبران والمنيذرة، ومن الغرب أراضي مدينة بصرى التابعة لمحافظة درعا، وأراضي قرية المجيمر التابعة لمحافظة السويداء، ومن الشمال أراضي قرية العفينة وحبران ومن الجنوب أراضي قريتي حوط وبكّا. مناخياً تقع “القريّا” ضمن المنطقة نصف الجافة نصف البحرية ذات المناخ المتوسطي المعتدل وذي الأربعة فصول.
يبلغ عدد سكان القريّا نحو 17 الف نسمة وهي تعدّ من البلدات الكبيرة في المحافظة ورابع مركز بعد السويداء وشهبا وصلخد، وتضم المدينة سوقاً تجارية كبيرة تمتد عبر شارع يصل طوله إلى ثلاثة كيلومترات وعدداً كبيراً من المحلات التجارية لمختلف التخصصات والمهن يزيد على 350 محلاً تجارياً، إضافة إلى توفر كافة الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية ومراكز حكومية.
لعبت بلدة “القريّا” (التي تعني في اللغة جمع أقرية وهو مسيل الماء من الربوة إلى الروضة) دوراً هاماً منذ عصور ما قبل التاريخ وعصور البرونز وحتى العصر العربي الإسلامي وكانت مرتبطة بمدينة بصرى عاصمة الولاية العربية منذ بدايات القرن الثاني الميلادي بدليل وجود الكنائس التي مازالت معالمها باقية حتى يومنا هذا، كما تبوأت مكانة هامة في العصر الإسلامي لقربها أيضاً من مدينتي بصرى و صلخد.

“القريّا” في التاريخ
تعدّ آثار بلدة “القريّا” شواهد تاريخية حية على تعاقب الحضارات في منطقة جنوب سورية بدءاً من العصر الحجري الأول وصولاً إلى الحضارات النبطية واليونانية والرومانية والبيزنطية والغسانية والأيوبية الإسلامية.
وقد سكنت هذه الحضارات “القريّا” منذ أقدم الأزمنة مثلها مثل باقي قرى وبلدات المحافظة، إلا أن الفترة البشرية الأهم كانت في الفترة النبطية الرومانية ومن ثم البيزنطية، فالفترة الأيوبية وذلك نظراً لطبيعة المنطقة السهلية المنبسطة وجوّها المعتدل ومناخها شبه الرطب الذي أغرى البشر منذ فجر التاريخ بالتوطن فيها حيث ازدهرت في “القريّا” منذ القدم الزراعة وتربية المواشي.
ويقول حسين زين الدين رئيس دائرة آثار السويداء إن أهم المعالم الأثرية في بلدة “القريّا” التي مازالت باقية حتى اليوم أجزاء من قناة مياه بطول 50 كلم تعود إلى الفترتين الرومانية والإسلامية كانت تنقل مياه الشرب من نبع تل قليب في جبل العرب والواقع إلى الشرق من بلدة الكفر وصولاً إلى مدينة بصرى الشام في درعا حيث تمت الإستفادة من مياه القناة في مكان يبعد 15 كيلومتراً عن بصرى وأنشئت هناك بركة ماء تعود إلى الفترة الأموية. ويشير زين الدين إلى أن جملة الآثار والكتابات والنقوش التي تمّ اكتشافها في “القريّا” تشير بوضوح إلى ترابط ازدهار منطقة جنوب سورية بالعرب والأنباط حيث كانت بصرى مركز الأنباط الرئيسي في سورية، مشيراً إلى أن بركة جميلة ومسورة كانت موجودة في البلدة وتعود فترة بنائها إلى عام 295 ميلادية إلا أنها تعرضت للردم وطمست معالمها.
ويضيف زين الدين القول إن “القريّا” عرفت الازدهار الأهم في الفترة الإسلامية في زمن حاكم صلخد الأيوبي عز الدين أيبك ما بين العامين 1216-1247 ميلادية وقد تم العثور على العديد من اللقى الهامة التي تضم نقوداً وسرجاً وصحوناً فخارية وعدداً من قطع الخرز والفخار والزجاج العائدة إلى تلك الفترة، لكن هذا التاريخ الغني إنقطع كما يبدو وانقع معه التوطن الحضري في البلدة التي أقفرت من العمران ولم يتم التوطن فيها مجدداً إلا في بدايات القرن التاسع عشر.
ويذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه” جبل العرب”، صفحات من تاريخ الموحّدين الدروز (1685ــ 1927) أن المستشرق السويسري جان لويس بيركهاردت، وكان مكلّفاً من قبل بريطانيا باستطلاع بلاد العرب قد زار “القريّا” عام 1810، ووجد فيها أربعة بيوت مسكونة فقط من أصل خمسمائة، كان هذا في عهد شبلي الحمدان شيخ قرية عرى الذكي الذي أُعجب بيركهاردت بمؤهّلاته الشخصية، لكن لم يكن للقريا دور مميّز في تاريخ بني معروف في جبل العرب قبل أن ينزل فيها اسماعيل الأطرش وعشيرته في الفترة الواقعة بين نهاية العشرينيات من القرن التاسع عشر ومطلع الثلاثينيات منه.
واستناداً إلى ما يرويه المعمرون ومنهم المرحوم الأستاذ عطالله الزاقوت وما ذكره الكاتب سعيد الصغير في كتابه “ بنو معروف في التاريخ”، أن اسماعيل الأطرش نزل “القريّا” مع عشيرته بعد الإتفاق مع وكيل الشيخ الحمداني خطار عسقول على استيطانها وشيخها ابن زين الدين (ولعلّ الأصح ابن زين العابدين، المنتمي لأسرة سنية من سهل حوران)، مقابل دفع مائة تيس ماعز إلى الشيخ الحمداني، شيخ مشايخ بني معروف في الجبل آنذاك.
وحسب رواية الأستاذ الزاقوت فإن الشيخ اسماعيل الأطرش وَفَدَ مع رجال من عشيرته إلى الشيخ واكد الحمدان، وكان لدى الشيخ واكد ريبة وتوجس من سعة طموحات اسماعيل الأطرش وتطلّعاته، ولكنه كان يحذر من مواجهته، ويودّ إبعاده إلى قرية بعيدة عن السويداء، بحيث يكون في مواجهة الغزوات البدوية التي لا تنفك تهدد الزراعة والعمران في جبل حوران وسهلها فيستريح من مضايقاته له.
قال اسماعيل للشيخ الحمداني: أريد قرية مناسبة لي ولجماعتي، وأنا شيخ أباً عن جد.
قال الحمداني:” روح وشيخ آخر ماعمّر الله”.
ـ أين؟
ـ “القريّا”.
قَبِلَ اسماعيل بـ”القريّا” المَخوفة التي كانت آنذاك آخر القرى التي يصل إليها عمران الجبل من جهة الجنوب، وتتهددها الغزوات البدوية بإستمرار. ويُروى أن اسماعيل الأطرش دفع مائة تيس من الماعز إلى الشيخ خطار عسقول الذي كان وكيلاً للحمدان على “القريّا”، وهو الذي سمح لإسماعيل الأطرش وعشيرته بالسكن في “القريّا” بتفويض من موكّله الحمداني مقابل ذلك.

” بيرق “القريّا” بقي في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة وانتقل إلى

يد الشيخ صالح طربيه خال ذوقـــــان الأطرش قبل أن يســـــــتقر بيد آل شقيــــــر “

كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا
كنيسة-الروم-الكاثوليك-في-القريا

آل الأطرش وبداية التغيير في الجبل
كان اسماعيل الأطرش يتمتع بشخصية قوية، وهو الذي وصفه البريطاني بورتر عندما زار “القريّا” في أواسط القرن التاسع عشر بأنه أشجع رجل في شعب شجاع، وكان إسماعيل بدوره يستند إلى عشيرة قوية من أبناء العم والأقارب تلتف حوله وتثق بصواب رأيه وسلامة سياسته، وأصالة إنتمائه لقومه بني معروف، كان الرجل يعتبر نفسه شريكاً في همّ أي فرد منهم، إذ يهبّ لنجدته مع سائر بني عمه وأفراد عشيرته إذا أصيب بمكروه مهما كان بعيد الديار.
ويذكر الباحث جميل شقير أن ابراهيم شقير وأخاً له هما أول من سكن “القريّا” من بني معروف الموحّدين، وآل شقير قدموا أصلاً من جبل لبنان من أرصون نحو عام 1810، بسبب مضايقات واعتداءات من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين في فرنسا. وهكذا ارتحل فريق من آل شقير إلى حاصبيا، وارتحل فريق آخر في ما بعد إلى جبل حوران وتفرقوا في “القريّا” وعدة قرى أُخرى من الجبل. وعندما نزلوا في “القريّا” لم يكن فيها من السكان حينها غير آل الراشد المسيحيين، (والمسيحيون من قدامى السكان الأصليين في سهل حوران قبل الفتح العربي الإسلامي)، وآل زين العابدين السنّة. ولعلّ قدوم آل شقير إلى “القريّا” كان بُعَيْدَ زيارة بيركهاردت إليها عام 1810، وفي آل شقير متديّنون لم تزل إمامة مجلس الموحّدين متوارثة فيهم منذ العام 1890، ومن أشهرهم الشيخ المرحوم أبو علي سلّوم شقير المتوفّى عام 1976م وهو الذي تسلّم إمامة مجلس الموحّدين مدة خمسين عاماً.

عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
عمران-قديم-بالأحجار-البركانية-المميزة
قنطرة-غسانية
قنطرة-غسانية

تنامي قوة آل الاطرش
تنامى عدد سكان “القريّا” منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، إذ استقدم إليها اسماعيل الأطرش كل من وجد فيه فروسية من بني معروف وكان ذلك ضد مصلحة شيخ مشايخ الجبل في السويداء آنذاك، واكد الحمدان الذي كانت زعامته تؤول إلى الشيخوخة والضعف. ومن “القريّا” أدار الشيخ اسماعيل الأطرش سياسة جمعت بين اللين والحنكة السياسية، والقوة العاقلة التي أدت في نهاية الأمر إلى إعلاء شأن الموحّدين الدروز في جبل حوران الذي شاعت تسميته في تلك الفترة من القرن التاسع عشر
بـ “ جبل الدروز”، ومن ثمّ تمكن اسماعيل من إسقاط مشيخة آل الحمدان وإحلال آل الأطرش الذين يعتبرون أنفسهم من أصول معنية محلّهم.
ومن أبرز الذين استقدمهم اسماعيل الأطرش إلى “القريّا” آل الحجلي الذين يرتبط بهم بعلاقة نسب ومصاهرة، وآل الحناوي الذين أصهر إليهم في ما بعد، وأحمد البربور الذي كان أحد أبرز فرسان الشيخ الحمداني، وآل أبو هدير الذين منحهم أرضاً يزرعونها حسب رواية مختار “القريّا” الحالي السيد رياض أبو هدير، الذي يقول بأن جدّه محفوظ أبو هدير حمل بيرق “القريّا” بعد موقعة محجّة على أطراف اللجاة في موقعة دامية ضد قبيلة “ولد علي” التي كانت تعتدي على الزراعة وتنهب المواشي في سهل حوران والجبل، وكانت تتأرجح بتحالفاتها ضد الموحّدين في جبل حوران من العثمانيين إلى بشير الشهابي في زمن الشيخ اسماعيل.
وقد ظل بيرق “القريّا” في حوزة آل أبي هدير مدة خمس وثلاثين سنة، وبعد أن استشهد اثنان من الأسرة وخُشي عليها من الإنقراض انتقل البيرق إلى يد الشيخ صالح طربيه، وهو خال ذوقان الأطرش والد سلطان، البيرق ذاته الذي كان الشيخ صالح من بين الذين رفعوه على سرايا دمشق في سماء ساحة المرجة عام 1918 يوم خرج العثمانيون من الشام، وفي ما بعد انتقل ذلك البيرق إلى آل شقير.

معروف-شقير-في-غابة-منحوتاته

تنوع سكاني وديني
تنامى عدد سكان “القريّا” من نحو 6,700 نسمة في عام 1981 إلى نحو 17,000 نسمة حسب دفتر النفوس تقريباً ويمثل الموحدون الدروز 75 % من الإجمالي في مقابل 20 % للمسيحيين الأورثوذكس والكاثوليك ونحو 5 % يمثلون السكان من البدو المستقرين الذين تركوا حياة الترحّل. وتبلغ نسبة النمو السكاني في “القريّا” نحو 3 بالألف وهذا الرقم يقارب رقم النمو السكاني في محافظة السويداء وهو مرتفع نسبياً.
وفي ما يلي تعداد لأسماء العائلات المعروفية من أهالي “القريّا”، ومن هذا العرض نلاحظ أن معظم هذه العائلات تتحدّر جذورها من العائلات المعروفية في لبنان وهم: آل شقير ومطر وشلهوب (وشلهوب أصلاً آل الأحمدية ) والزاقوت(أصلاً أبو الحسن) وقرموشة (أصلاً آل الداود) وغبرة والبصّار(أصلاً آل شمس) والبلعوس والدبس وصربوخ، وأبو طي والصفدي والحمّود وأبو زهرة وأبو صعب (أصلاً آل صعب) وآل عامر ومفرّج وأبوصلاح والصالح، والشمعة، والنمر ومنذر والجغامي (أصلاً آل منذر) وقطيش وطربيه والملحم وعريج والأباظة والمرعي وعز الدين والقجّي
ومجموعة آل الأطرش والمعاز والنجم وأبو دقّة (وهم أصلاً معنيون) وحرب ومليح وشمس والحجلي (أصلاً آل صعب) ونصر وعلم الدين ونحلة والخطيب والعوّام ومعالي وشرّوف والعبد الله والحمدان وحديفة وغيرهم…

المسيحيون في “القريّا”
ينقسم المسيحيون في “القريّا” إلى مذهبين هما: الأورثوذكس الشرقيون، والكاثوليك الغربيون، ومن العائلات الأورثوذكسية:
آل العوابدة والحانوت والجبرائيل والسمّور، واليوسف. أما المسيحيون الغربيون فهم آل الرمحين، وآل شحيّد. وآل شحيّد وهم فرع من آل السهوي الذين نسبوا إلى بلدة سهوة الخضر التي كانوا يقطنونها، وهي بلدة قديمة في أعالي الجبل ولكن ظروف انعدام الأمان وتسلّط البداوة على الحياة الزراعية هجّرهم إلى قرى بصير وتبنى على أطراف سهل حوران الشمالية الشرقية، ولكنهم مع قدوم الموحّدين من بني معروف إلى الجبل عادوا من جديد ليستقرّوا في “القريّا”.
ويقول الأب عبدالله الشحيِّد كاهن الكنيسة الكاثوليكية في “القريّا” وهو الكاهن السوري الوحيد الذي شارك في مؤتمرات الحركة الكهنوتية المريمية في العامين 2005 و2006 ، بأن الروم الملكيين الكاثوليك يبلغ تعدادهم في “القريّا” حسب السجلاّت نحو 2000 نسمة، ولكن المقيمين فعلاً لا يزيد عددهم على 300.
أما آل الرمحين وكنيتهم أصلاً آل الراشد وكانوا يسكنون مع آل الريشان والكيال وهريرة في قرية عيون شمال شرقي مدينة صلخد وللأسباب نفسها التي كانت وراء تهجير السهاونة من سهوة الخضر فقد هُجّرت تلك العائلات المسيحية من عيون، واستقر آل الراشد في “القريّا” في حماية شيخ السويداء الحمداني، ويعتبر المسيحيون في بلاد حوران وهي البلاد التي تمتد جغرافياً من غباغب جنوب دمشق وحتى معان في الأردن ــ لكن “سايكس بيكو“ شطراها مابين سوريا وشرق الأردن ــ من السكان الأصليين الذين يقطنون البلاد منذ ما قبل الفتح العربي الإسلامي، وهم ينتمون إلى العرب الغساسنة الذين ناصروا الفتح آنذاك وقالوا “نقاتل مع أبناء عمومتنا العرب، ولا نقاتل إلى جانب البيزنطيين”، ويقول سعيد الصغير في ص 402 من كتابه “بنو معروف في التاريخ”: “وكان سكان حوران من مسلمين ومسيحيين يستثمرون السفح الغربي للجبل حينما يأمنون غزو العربان الذين كانوا يقيضون فيه صيفاً بمواشيهم فيهدمون قراه ويتلفون أشجاره ومنهم قبائل عنزة في الجنوب وقبيلة الفواعرة في المقرن الغربي وقبيلة الحسن في المقرن الشمالي وقبيلة الجوابرة في اللجاة إلى أن بدأ الدروز بالإستيلاء على المساكن العامرة ( لكنها خالية من السكان)، وترميم القرى واستثمار الأراضي الزراعية والمراعي والأشجار”.
لكن المسيحيين لم يستطيعوا التوطن والاستقرار بشكل دائم في حواضر الجبل قبل قدوم بني معروف إليه، وذلك بسبب غزوات البدو على المناطق الحضرية، وغياب هيبة الدولة وعجزها عن تثبيت الأمن في المناطق البعيدة عن عاصمة الولاية، وقلة عددهم يضاف إلى ذلك ما أشار إليه الرحّالة الذين زاروا البلاد منذ سنوات الجفاف والجراد الذي كان يجتاح المنطقة بين فترة وأخرى…
إلى أن لحق بهما، منهماً، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما

ولكن اعتباراً من أواخر القرن السابع عشر (1685)، وأوائل القرن الثامن عشر، ومع تكاثر أعداد بني معروف الذين قدموا بأغلبيتهم إلى البلاد من لبنان في بادئ الأمر، وفي ما بعد من شمال فلسطين وديار حلب (جبل السمّاق)، أخذ المسيحيون يلتحقون بالقرى الجبلية التي يعيد الموحّدون إعمارها، وأصبح وضعهم في الجبل أكثر ثباتاً.

مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-هدير
مختار-القريا-السيد-رياض-أبو-
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة--شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا
الخوري-الأرثوذكسي-الأب-محمود-العوابدة–شاهد-على-معاناة-الآثار-الغسانية-في-القريا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا
الأب-عبدالله-الشحيّد-الكاهن-في-الكنيسة-الكاثوليكية-في-القريا

“ا لفارس المسيحي سلامة الراشد طارد خاطفي الفتاة الدرزية على فرسه فضرب على شعرها بسيفه وخلّصها وقتلهما وغنم رمحيهما فأصبح اسم عائلة الراشد عائلة “أبو رمحين””

كيف اكتسب آل الراشد كنية “أبو رمحين”؟
آل الراشد من عائلات “القريّا” القديمة التي كانت تعيش في ظل حماية مشيخة آل الحمدان التي كان مركزها في السويداء قبل قدوم اسماعيل الأطرش وآله إليها، وفي عام 1842 استغل محمد الدوخي بن سمير شيخ قبيلة “ولد علي” غياب اسماعيل وغالبية فرسان “القريّا” في مهمة خارج الجبل بعيداً عن حماهم، لنجدة أبناء عمومتهم في جبل لبنان إذ كانوا يتعرضون آنذاك إلى فتنة تستهدف وجودهم من قبل الشهابيين وأحلافهم المدعومين من فرنسا، فباغت “القريّا” بخمسمائة خيّال من فرسان قبيلته بدون نذير، وفي ذلك غدر وإخلال بتقاليد القبائل العربية التي اعتادت الغزو، وقتل من أهالي “القريّا” 72شهيداً، وقد طمع اثنان من فرسان البدو بفتاة سحباها من شعرها الطويل وانطلقا بها وهما على فرسيهما، إلاّ أنّ الفارس المسيحي سلامة الراشد طاردهما على فرسه إلى أن لحق بهما، فضرب على شعر الفتاة بسيفه وخلّصها منهما، ثم اشتبك معهما وتمكّن من قتلهما، وكسب رمحيهما، وعاد بالفتاة إلى “القريّا”. ولما رجع اسماعيل من بعد غيابه مع فرسانه من مهمته أكبر بطولة سلامة الراشد، ولقبّه بـ “ أبو رمحين “، وهكذا اكتسب آل الراشد كنية جديدة تدل على بطولة جدّهم وفروسيّته التي سارت بها الركبان، وأحاديث المضافات والدواوين إلى يومنا هذا، أمّا ثأر اسماعيل و”القريّا” من غدر محمد الدوخي بن سمير وقبيلة ولد علي فلم يمت، وسنذكر قصته في وقت لاحق.

البدو في “القريّا”
البدو في “القريّا” بل وفي معظم ديار الجبل هم في الأصل من عشائر الشنابلة والمساعيد والجوابرة، الذين لم يعرفوا طيلة تاريخ وجودهم في الجبل حياة الاستقرار والزراعة بل كانوا يرعون بمواشيهم العشب والخصاب، أي: العشب اليابس، في أيام الربيع الجبلي المتأخر عن ربيع بادية الحماد ويمضون الصيف في الجبل، وفي الشتاء كانوا يفيضون ــ أي ينطلقون ــ إلى بادية الحماد هرباً من برد الجبل وثلوجه بحيث يستمرون إلى أن يرعوا بمواشيهم ربيع البادية ومن ثم ينتقلون إلى الجبل وهلمّ جرّاً… وكانوا من الضعف قبل مجيء بني معروف الموحّدين إلى الجبل أن كانت القبائل البدوية القوية القادمة من شبه الجزيرة العربية مثل قبيلة عنزة بفروعها من ولد علي والرّوّالة وغيرهما من القبائل كبني صخر والسردية من القبائل التي كانت تترحل بين شرق الأردن ونجد، تعتدي عليهم وعلى مواشيهم وأرزاقهم… كانت تلك القبائل الصحراوية تأتي في فصل الصيف إلى حوران لترعى بمواشيها من جمال وأغنام مخلّفات الحصاد، ومع قدوم طلائع الموحّدين إلى الجبل توطّدت علاقات طيبة في غالبية المواقف بين تلك العشائر البدوية وبينهم، ما أدى إلى تحييد منطقة الجبل من اجتياحات الغزو البدوية التي تأتي في أواخر الربيع وخلال فصل الصيف وباتجاه سهل حوران، والأدب الشعبي الموروث غني بالمساجلات التي كانت تدور بين الأطراف المتنازعة في تلك الأيام الخوالي.
كما شهدت العلاقات بين الموحدين وبين تلك العشائر المحلّية أحياناً علاقات تحالف في مواجهة جيوش العثمانيين وقوات محمد علي باشا عندما كان هؤلاء يفرضون الضرائب الباهظة والمطالب التعسّفية عليهم. ويقيم البدو في موقع من الجانب الغربي من “القريّا”، وغالبيتهم من عشيرة الشنابلة، بنسبة نحو 90 % ، ومنهم عائلات البريك والشلوح والدغيم، ومن عشيرة الجبور السعيد والمغيّر.

مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده
مضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهدهمضافة-سلطان-باشا-الأطرش-بجانب-داره-كما-كانت-على-عهده

النشاط الاقتصادي في “القريّا”
يبلغ متوسّط الأمطار في “القريّا” 285 ملم سنوياً، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تدنّياً عن هذا المعدّل بسبب الجفاف العام الذي تتأثر به منطقة الشرق الأوسط. أما إجمالي مساحة الأراضي التابعة لمدينة “القريّا” فيبلغ 68000 دونم، من ضمنها المخطط التنظيمي السكني للمدينة البالغة مساحته 6300 دونم. ولما كانت الزراعة في هذه المدينة تعتمد على مياه الأمطار فإنها بعمومها زراعة بعلية، وتبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة في مجال هذه المدينة 48,758 دونم، المستثمر منها 33,465 دونم، أمّا غير المستثمر وهو في الوقت نفسه قابل للزراعة فتبلغ مساحته 15,293 دونم. وتبلغ مساحة الأحراج نحو 2450 دونماً تقع إلى الشرق والشمال الشرقي من المدينة وقد أُطلق عليها اسم غابة سلطان باشا الأطرش.
الزراعة وإنتاجها
تعتبر زراعة الحبوب من المحاصيل الغذائية الاستراتيجية في الظروف التي تواجهها سوريا منذ استقلالها وإلى يومنا هذا. واستناداً إلى أرقام عام 2013 فإن المساحات المزروعة حبوباً كانت في حدود 10,500 دونم بعلي بلغ إنتاجها 210 أطنان من القمح و70 طناً من الحمص و30 طناً من الشعير، وهذه الكميات تعتبر متواضعة بالنسبة لقرية تتمتع بأراض قابلة للزراعة مساحتها نحو 48,758 دونم. لكن في المقابل فإن “القريّا” تحتوي على 4,354 دونم من الكرمة أنتجت في العام 2013 نحو 877 طناً من العنب ونحو 3,569 دونم من الزيتون وهي تزرع مساحات واسعة بالتفاح والفستق الحلبي والتين والجوز واللوز والرمان.
وقد تراجعت زراعة الحبوب في “القريّا” بقوة منذ عدة عقود مع توجه مزارعي “القريّا” إلى زراعة الأشجار المثمرة التي تدرّ محاصيل غذائية ونقدية مجزية نسبياً.
وتعتمد الزراعة في “القريّا” على المكننة إلى حدّ كبير كما يشهد على ذلك العدد الكبير من الجرارات الزراعية التي يبلغ عددها نحو 131 جراراً من مختلف القدرات والحصادات والدراسات الآلية وغيرها من المعدات.
تمثل التربية الحيوانية مصدراً أساسياً من مصادر النشاط الاقتصادي في القريا وتتمثل بوجود مزارع الأبقار والمشاريع الصغيرة وكذلك تربية الأغنام والماعز والجمال والدواجن ويتفرع من التربية الحيوانية قطاع مهم للألبان والأجبان واللحوم.

نحو تحويل القريّا إلى مركز قضاء
تتمتع مدينة “القريّا” بحكم موقعها المتوسط بين القرى التابعة لها وكونها مركز ناحية بجملة من الخدمات الحضرية تديرها مجموعة من الدوائر الحكومية منها: محكمة الصلح، والمركز الثقافي ومديرية الناحية والبلدية والمختارين والجمعية التعاونية الزراعية والجمعية التعاونية الاستهلاكية (صالة البيع بالتجزئة) والمركز الصحّي ومركز الهلال الأحمر، ووحدة مياه “القريّا”، وفرع المصرف الزراعي ومصرف توفير البريد ومصلحة كهرباء “القريّا”، والنادي الرياضي. وبسبب ثقلها السكاني واتصالها بعدد من القرى التابعة، فإن مدينة “القريّا” مرشّحة لأن تصبح مركز قضاء (قائمّقامية) بحسب التقسيمات الإدارية لمحافظة السويداء.

صرح سلطان باشا الأطرش في “القريا”
خزانة تاريخ مجيد ومنارة للثقافة

ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
ضريح-سلطان-باشا-محاطا-ببيارق-القرى-التي-شاركت-في-الثورة-على-الفرنسيين
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها
جدرانيات-تخلد-أحداث-الثورة-السورية-الكبرى-وانتصاراتها

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش
واجهة-ضريح-سلطان-باشا-الأطرش

أُنشئ صرح سلطان باشا الأطرش ومتحف الثورة السورية في وسط “القريا” بمساحة 2,000 م2 من البناء الفني المتقن، في وسط عقار مساحته 20,000 م2، ويحتوي البناء على ضريح المرحوم سلطان باشا الأطرش والمقتنيات الحربية للمتبرعين من المجاهدين أو أحفادهم، ويضم المبنى قاعة مركزية في وسطها ضريح القائد العام بالإضافة إلى أسماء المعارك والشهداء الذين شاركوا في الثورة. وتعلو هذه القاعة بانوراما تجسّد معارك الثورة منفّذة بالفسيفساء، مساحتها 130 م2 وهي عبارة عن عدة لوحات تمثل أحداث الثورة العربية الكبرى عام 1916 ورفع العلم العربي فوق سراي الحكومة في دمشق في ساحة المرجة من قبل مجاهدي بني معروف، ومعركة ميسلون في 24/7/1920 واستشهاد البطل يوسف العظمة. وهناك لوحتان تظهران الجواد العربي ولوحة ثلاثية الأبعاد تمثل معركة في المنطقة الجنوبية وأخرى تظهر أجزاء من معركة “الكفر” ومشاهد أخرى من معركة السويداء، وهناك لوحة ثلاثية الأبعاد تمثل المعارك التي جرت في مدينة دمشق واخرى تمثل معارك حماة، ونشاهد على الجهة اليسرى تمثيلاً لفترة المنفى التي استمرت عشر سنوات، سبع منها في وادي السرحان على أطراف نجد من أراضي المملكة العربية السعودية وثلاث في جنوب الأردن، وكذلك نشاهد الهرم الأبيض الذي يرفع في قمته العلم الوطني وما يشير إلى معاهدة عام 1936 التي أدت إلى استقلال سوريا.
يحتوي الصرح على المتحف الخاص بالمغفور له سلطان باشا الأطرش وعلى المتحف العام للثورة السورية الكبرى المحتوي على أسلحة استعملها الثوار في المعارك بالإضافة إلى بيارق الثورة التي حملها المقاتلون في الثورة ومدفع فرنسي كسبه الثوار في معركة الكفر …
كذلك يحتوي المتحف على الأسلحة والعتاد التي غنمها الثوار في المعارك من بنادق ومسدسات وسيوف وحراب ومدفع وأجزاء من طائرة كان الثوار قد أسقطوها وقنابل والعديد من الوثائق كالحوالات المالية والمراسلات التي كانت تتم بين الثوار، وبيارق الثورة… ومن بين الموجودات في هذا المتحف سيف القائد الفرنسي نورمان الذي غنمه أحد الثوار بعد قتله في معركة الكفر…ويضم المجمع مسرحاً وقاعة محاضرات تتسع
لـ 310 أشخاص، وقاعة شرف للإستقبالات الرسمية.

المناضل فؤاد جبور

المناضل فؤاد جبور يتذكَّر

استفزتني سياسة الحرتقات فقررت تحدي مختار البلدة

اعتقلت في السويداء بسبب بيان عنيف ضد الفرنسيين
طالبهم بحماية بلادهم من الألمان بدل استعمار الآخرين

قلت للمعلم بأن مشروع مياه البلدة متعثر بسبب الحرب
فأجابني : بدك تترك الناس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟!

“الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضّعفاء وأنت من الأقوياء، وعربون تقدير ووفاء أقدّم لك ميدالية المعلّم كمال جنبلاط”. بهذه الكلمات القليلة، المعبّرة، اختصر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط مسيرة المناضل الشّيخ أبو كمال فؤاد ملحم جبور خطّار (92 عاما) في الحفل التّكريمي الذي أُقيم له برعايته في بلدته باتر بحضور أهالي البلدة وفعاليّات شوفيّة، وأصدقاء المُكرّم وحشد من المدعوّين، بوصفه الصّديق الصّدوق لـِ “دار المختارة” منذ عهد السّتّ نظيرة جنبلاط، مرورًا بالمعلّم الشّهيد كمال جنبلاط، وصولًا إلى وليد بك جنبلاط، ونجله تيمور بك جنبلاط.
حفل التّكريم هذا دلَّ بالدّرجة الأولى على وفاء الزّعامة الجنبلاطية للمناضلين وتقديرها للرّجال الرّجال، وقد حرص وليد بك على أن يحضر بنفسه حفل التّكريم ويقدم الميداليّة، على سبيل إعطاء المثال للجميع بضرورة تقدير النّضال والتّضحيات وتكريم المبادئ والشّجاعة والصّدق والأمانة في الخدمة، وكلّ تلك الصّفات اجتمعَت في شخص هذا المناضل الصّادق والمتواضع أبو كمال فؤاد جبور خطّار.
لكنّ حفل التّكريم كان أيضًا عنوانًا لمسيرة عمر كامل من العمل والخدمة الصّادقة أنفق فؤاد جبور فيها حياته وشبابه ووقته وقدّم خلالها مثالاً على الثّبات في الالتزام والقدرة على تحمّل المسؤوليّات والاضطلاع بالمهمّات الدّقيقة فكان بذلك موضع ثقة المعلّم وكذلك ثقة الزّعيم وليد جنبلاط ونجله تيمور بك.
وفي هذا الحوار اللّطيف والحافل بالذّكريات والعِبَر وخصوصًا الحافل بشهادات ثمينة عن حياة المعلّم الشّهيد وحكمته وخصاله الرّفيعة تقوم مجلّة “الضّحى” بواجب الوفاء للمناضل أبو كمال فتعرِّف بالمحطّات الرّئيسة في حياته ونضاله
وهنا الحوار:

> أبو كمال فؤاد جبور، أين بدأت مسيرتك؟
كنت في التّاسعة من عمري، يوم أبلغنا والدي العائد من السّفر، نِيّته الانتقال إلى السّويداء للعيش هناك. أمّي لم تتقبّل الفكرة بادىء الأمر، لكنّها ونزولًا عند إصراره قبلت على مضض. وفي اليوم المحدّد للسّفر، انتقلنا من البلدة بسيّارة خاصّة لمحمود سلمان زين الدِّين إلى بيروت، ومن هناك توجّهنا إلى السّويداء حيث التحقت بإحدى المدارس. في تلك الفترة كان الجبل يعيش مخاض الاستقلال في ظلّ الحكم الفرنسي بعد تقسيم سورية إلى أربع دويلات هي: دويلة جبل الدّروز ودويلة الشام ودويلة حلب ودويلة العلويين. كان معظم سكّان الجبل وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش ورفاقه يرفضون فكرة الدّويلة الطّائفيّة، ويدافعون عن فكرة الوحدة السّورية وهم الذين خاضوا ثورة عارمة تكلّلت بالانتصارات في عدة مواقع ضدّ الفرنسيّين من أجل تحرير سوريا ووحدتها في العام 1925.
في العام 1936 ازداد عديد المطالبين بالوحدة، وعمّت التّظاهرات كلّ السّويداء للمطالبة بسورية موحدة. في ذلك الوقت كنت قد بلغت الثّانية عشرة من عمري، فشاركت لأوّل مرّة مع رفاق لي في تلك التّظاهرات. وأذكر أنّني عندما ذهبت لأقفل أبواب المحالّ التّجارية التي يملكها أبي لبيع موادّ البناء، صرخَ بي أحد الرّفاق بصوت عالٍ، قائلًا: هيّا أسرع، ولشدّة تأثّري ارتطم وجهي بباب المحلّ فجُرحت شَفَتي، وتحطّم زجاج الواجهة. هذه الحادثة استعيدها بفخر لأنّني اعتبرتها بداية مسيرة جهاد طويلة أعتزّ بها.

> كيف تعرّفت إلى الشّيخة أمّ كمال؟
كان ذلك في العام 1942، وكنت قد بلغت الثّامنة عشرة من عمري. في تلك السّنة أصرّ والدي أن يزوّجني، كي أرزق بالأولاد في حياته، وكأنّه كان يدرك أنّ أجله يقترب. كيف لا وأنا ابنه الوحيد، فلا أشقّاء لي ولا شقيقات، ولقد أوكل إلى عمّي مهمّة تدبير الأمر. أمّا أنا فلم أكن أعرف من أمور الزّواج شيئًا. بعد فترة طلب عمّي منّي مرافقته إلى قرية عِرى في الجبل من أجل التعرّف الى إحدى الصّبايا التي تمّ إرشاده إليها، قلت له أذهب معك لكن بشرط عدم الموافقة على أيّة فتاة قبل أن يتسنّى لي رؤيتها، فقال: اتّفقنا، فتوجّهنا إلى عِرى ولمّا رأيتها، قلت لعمّي الآن بإمكانك أن تفاتح أهلها رسميًّا بموضوع الزّواج. وهكذا كان وقد تزوّجت في تلك السّنة، بناءً لرغبة والدي، والحمد لله، رُزِقنا شبابًا وصبايا “بيفتحوا العَين”، وحسب نواياكم تُرزقون. وما زلنا حتى السّاعة نعيش أسعد أيّامنا، نحن وأولادنا وأحفادنا أنا والسّت أم كمال.

فؤاد-جبور
فؤاد-جبور

“أمضيت في سجن المزة أربعة أشهر بأمر الفرنسيين وكان سجنا مخيفا ثمأخلي سبيلنا واستقبلنا في جبل العرب استقبال الأبطال”

العودة الى باتر
> متى عدت إلى باتر؟ ولماذا ترشّحت لمنصب المُختار ضدّ آل حمدان؟
عدت مع أسرتي إلى باتر في أوائل العام 1947، وبسبب تربيتي في جبل العرب حيث لا يوجد أيّ تفريق أو حتى اهتمام بطائفة الشّخص (بل فقط بمبادئه ومواقفه) لم أكن أعرف يومها بوجود تفريق طائفي: هذا درزي وهذا مسيحي وذاك سنّي… وقد أخذ الأمر منّي بالفعل بعض الوقت في لبنان حتى أصبحت أُميِّز طائفة هذا أو ذاك.
في العام 1948، توفّي والدي، وكان وقْع المُصاب صادمًا بالنّسبة لي باعتباري ابنه الوحيد. وقد نشأت في كنَفه فأحسن تربيتي وغمرني بعطفه وحنانه، ولم ننسلخ عن بعضنا أبدًا ولم يفرّق بيننا إلّا الموت الحقّ، رحمه الله. وكانت تلك الفترة وتلك الرّفقة كافية كي أستكشف حياة قريتي بكلّ متطلّباتها ومتاعبها، وأدركت يومها ما يعانيه أهالي بلدتي من العوَز والإهمال، بسبب تسلّط إحدى الأسر الإقطاعية عليهم. وبحلول العام 1949 حدّدت الدّولة موعدًا لإجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة، فانشغل النّاس بهذا الاستحقاق، وراح البعض يروّج للمختار وهو الشيخ عارف حمدان داعيًا منحه ولاية جديدة. حيال ذلك الواقع رحت أسأل نفسي، لماذا تستمرّ الأمور على هذا النّحو؟ وما الذي يمنع تداول المسؤوليات وبالتّالي تغيير الواقع؟ وقرّرت بالفعل أن أقدّم ترشيحي منافسًا للمختار رغم أنّهُ كان قويًّا بعلاقاته وسطوته في القرية. وكان من أسباب قراري الترشّح ضدّه كونه لعب دورًا مباشرًا في إعاقة إيصال الهاتف إلى القرية. كان والدي قد سعى جاهدًا من أجل تأمين وصوله قبل وفاته مستفيدًا من صداقة وثيقة كانت تربطه بالشّيخين بهيج ومنير تقيّ الدّين. وقد استفزّني من المختار ذلك الموقف الذي يرفض الخير للبلدة لكونه سيتم عن غير طريقه، ورأيت في موقفه ذاك قمّة التّصرّف غير المناسب لروح العصر إذ تدخّل الشيخ عادل حمدان قريبه وصديق الرّئيس كميل شمعون من جانب آخر لعرقلة المشروع وتمكّن بالفعل من إيقافه.
أبلغت عمّي بنيّتي منافسة المختار فأجابني بالقول: “شو بدّك بـها الشّغلة” أمّا خالي، فقال مُعلّقاً: من أين أتى ابن شقيقتي بكل هذه الثّقة بالنفس؟ وعلى ماذا يعتمد؟ لكنّني تابعت ترشيحي وخضت الانتخابات ونلت سبعة أصوات زيادة عن المختار السّابق رغم التدخّل الشّخصي من قبل عادل حمدان ضدّي.

“ذهبت بعد فوزي مختارا لأخذ بركة الست نظيرة فتأملتني مليا (وكنت في سن الـ 25) ثم قـــــالت:»مْبَكِّر يا بعدي!”

> كيف نظرت إلى تلك النتيجة؟
كانت مفاجأة إيجابية لأنّها كسرت قيودًا وحرّرت نفوسًا وأظهرت للنّاس أنّ بإمكانهم أن يغيّروا، لكن عليهم أن يتضامنوا، كما أظهرَت أنّك إن كنت مؤمنًا بشيء ما فإنّ من الممكن أن تحقّقه، لكن عليك أوّلًا أن تثق بنفسك. وأودّ الإشارة هنا إلى أنّ أجواء البلد بعد الاستقلال كانت قد بدأت تتغيّر وكانت هناك أفكار تحرّرية بدأت تنتشر.
كان الزّعيم كمال جنبلاط في تلك السّنة يُعدُّ لإطلاق الحزب التقدّمي الاشتراكي وكان قد اشتُهر أصلًا كزعيم يمتلك من صفات التّواضع ومناصرة الفقراء ما جعل النّاس تفكّر فعلًا في التّغيير. وقد حصل ذلك… ولوعلى نطاق قرية من خلال مثال باتر.
> كيف توطدت علاقتك مع الست نظيرة جنبلاط، ومع كمال بك، وماذا كان موقفهم منك بعدانتخابك مختاراٌ؟
في الحقيقة، لم أشعر بأنّ “المختارة” وقفت ضدّي في الانتخابات. ولكن في أوّل زيارة قمنا بها إلى “الدّار” أنا والأعضاء الذين نجحوا معي، وفي لقائنا بالسّتّ (نظيرة) نظرت إليّ نظرة تأمّل، وتساؤل، وقالت: (مبكِّر يا بَعدي)، قلت لها: المعركة فُرضت عليّ، ونحن هنا لأخذ البرَكة. هذه الزّيارة كانت فاتحة لزيارات عديدة فيما بعد. ساعدتني في بناء علاقة وطيدة جدًّا مع كمال بك. وبالمناسبة أعترف أن أفضاله كثيرة عليّ، لا يمكن أن أنساها، وقد ساعدني على تنفيذ العديد من المشاريع التي كانت بلدتي في حاجة لها.
لقد وضعت نصب عينيَّ منذ لحظة انتخابي مختارًا، حاجة البلدة لمشاريع إنمائية مُلحّة كان أوّلها تجميع مياه الشّفَة وتوزيعها على الأهالي، بعد ما كانت مصادرة من قبل بعضهم. وكنت عرضت الأمر على كمال بك، فقال لي: ابدأ بالعمل وأنا معك.
في البداية حدّدنا قيمة المساهمة لكلّ بيت بـ 50 ليرة، ثمّ ضاعفنا المبلغ ليصبح مئة ليرة. لكنّنا لم نتمكّن من إنجاز المشروع بإمكاناتنا المحدودة. وكنت في كلّ مرّة ألتقي فيها المعلّم، يسألني: أين أصبح “مشروع المَيّ”؟ في ذلك الوقت كانت رياح الثّورة الشّعبيّة في العام 1958 قد بدأت تهبّ على لبنان، وبالأخصّ منطقة الجبل، فقلت له: يا بيك، كيف يمكننا العمل والبلاد بحالة حرب، فأجابني: بدّك تترك النّاس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟. بعد مدّة سألني عن المشروع، فأخبرته باستناف العمل، فانفرجت أساريره وقال لي: سأرسل لك جوزف سركيس، فهو صاحب خبرة في هذا المجال. حينذاك كنّا قد انتهينا من بناء الخزّان، ولم يعد ينقصنا إلّا مولِّد يعمل على البنزين أو الدّيزل لضغط المياه صعودًا حتى تصل إلى الخزّان الموجود في أعلى البلدة ، فتبرّع سركيس بتقديمه لنا بناءً على توجيهات الـمعلِّم. وهذا واحد من عدّة مشاريع نفّذناها بمساعدته.
بعد نهاية الثّورة وانتخاب قائد الجيش اللّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريّة. تقرّر إجراء الانتخابات النّيابية، فاتّفقنا على مقاطعتها، وتقدّمنا بعريضة علّلنا فيها سبب المقاطعة، باعتبار أنّنا لم نتلقَّ أيّة مساعدة من الدّولة، لا بموضوع المياه، ولا بخصوص الهاتف. وعلى الأثر تمّ استدعاؤنا بطلب من العقيد غابي لحّود، فذهبت إليه مع اثنين من الأعضاء هما: الياس سبع الحدّاد، والشّيخ أبو حسن سليمان عوده. وقبل الاجتماع به اقترحت على رفيقيّ استشارة الشّيخ منير تقيّ الدّين بالأمر، وكان يومها مديرًا للدّفاع فطمأننا بأنّ ما فعلناه هو عين الصّواب، ولن يحصل ما يكدّر خاطرنا لأنّنا أصحاب حقّ. ولما اجتمعنا به، سألنا عن الدّوافع التي تجعلنا نقاطع الانتخابات. فشرحنا له مانعانيه من حرمان وإهمال، فتفهّم موقفنا ووعدنا بأنّه سينقل ملاحظاتنا إلى الرّئيس شهاب.

المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958
المعلم-كمال-جنبلاط-مع-المجاهدين-في-ثورة-العام-1958

“المعلم كمال جنبلاط هب إلى نجدة منكوبي زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثم في ترميم البيوت المهـــدّمة”

> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلديّة؟
كان قرار إنشاء البلدية في باتر قد صدر أثناء تولّي كمال بيك وزارة الدّاخلية، وأنا كنت حينها مختارًا، فانتُخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيسًا للبلدية. لكنّه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق في البلدة تمّ بموجبه انتخابي رئيسًا للبلديّة، والشّيخ أبو حسن سليمان عودة مختارًا. ربّما كان ذلك وفاءً لنا على الإنجازات التي حقّقناها في تلك الفترة بمجهود فرديّ وشخصيّ في غالب الأحيان.
> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلدية؟
قرار إنشاء البلدية قي باتر، صدر أثناء تولي كمال بيك وزارة الداخلية، وأنا كنت لا زلت مختاراً فانتخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيساً للبلدية. لكنه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق قي البلدة تم بموجبه إنتخابي رئيساً للبلدية، والشيخ أبو حسن سليمان عودة مختاراً. ربما كان ذلك وفاء لنا على الإنجازات التي حققناها في تلك الفترة بمجهود فردي وشخصي في غالب الأحيان.

> ماذا عن زلزال 1956 ودوركم في مساعدة المنكوبين؟
الزّلزال الذي ضرب لبنان سنة 1956، لم تسلم منه باتر، وأدّى ذلك إلى تهدّم عدد من المنازل وتشرُّد أصحابها. وأوّل عمل قمت به بصفتي مختارًا كان تشكيل لجنة لإحصاء الأضرار وتنظيم المساعدات، وتأمين السّكن العاجل للعائلات التي تشرّدت، حتى لايتحكّم بنا بعض المتنفّذين. فاضطررنا لإيوائهم عند أقاربهم في بداية الأمر حتى وصلتنا مساعدة ماليّة من الأستاذ أسعد النجار، أمَّنّا بموجبها بعض الخِيَم التي استعملناها لإيواء المنكوبين إلى أن تتم إزالة الأنقاض والبيوت المهدّمة.
المعلم كمال جنبلاط هبّ إلى نجدة منكوبيّ زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثمّ في ترميم البيوت المهـــدّمة، وكان أوّل الذين مدّوا لنا يد المساعدة، ولم يكتفِ بإرسال المساعدات بل حضر شخصيًّا لتفقُّد المنكوبين وتقديم ما يلزم من احتياجات، وعمل معنا في بناء البيوت المهدّمة، وكان ذلك تواضعًا منه، كما كان يتابع ما كنّا نقوم به خطوة خطوة.
ذات مرّة، كنا قد وُعدنا بمساعدة هي عبارة عن موادَّ للبناء، لكنّهم تأخّروا بإرسالها وأرسلوا بدلًا منها سيارة بيك آب محمّلّةً بالطّحين فرفضنا استلام الشّحنة، وأمرنا السّائق أن يعيدها من حيث أتى بها لأنّنا بحاجة إلى موادّ بناء لإعادة إعمار ما تهدّم، ولسنا جائعين حتى يرسلوا لنا طحينًا. هذه الحادثة تركت أثرًا إيجابيًا لدى الـمعلِّم فقال لبعض من طالبوه أن يساعدهم في أمرٍ لم يكن مقتنعًا به: “إذهبوا وتعلّموا عزّة النّفس من أهالي باتر”!.

“أعتز بأن المعلِّم منحني ثقة لم يمنحها إلا لقليل من الناس، حتى أنه عرض عليّ التواجد الدائم في القصر أثناء غيابه لمدة شــــهر في أميركا”

> كيف توجز لنا علاقتك الشخصية مع المعلم
ايمكنني بكلمات قليلة أن أصف علاقتي بزعيم كبير بقامة المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط. كما ذكرت في بداية هذا الحوار، فمنذ لحظة انتخابي مختارًا ذهبت بزيارة تعارُف إلى “المُختارة”، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع لقاءاتي به إلى حين استشهاده. مرّة في الأسبوع أو كلّ أسبوعين على أبعد تقدير، وقد استمرّت تلك العلاقة من بعده مع وليد بك، ولولا التقدّم بالسّن لما تردّدت في زيارة “المختارة” على الدّوام. وهنا لابدّ لي من الاعتراف أن أفضال المعلّم عليّ لا عَدّ لها ولا حَصْر.
وأهمّ ما في هذه العلاقة كانت الثّقة الكبيرة التي منحني إيّاها، وأعتقد أنّه لم يمحضها إلّا لقلّة من النّاس. وأذكر على سبيل المثال أنّه في العام 1955 أوفد سائقه سامي نمور بطلبي، يومها لم يكن عندي سيّارة فاستمهلته بعض الوقت حتى أجهّز نفسي ثم ذهبت برفقته إلى “المختارة”، وعندما أبلغوا المعلم بقدومي أمر بدخولي إليه في الحال، ولمّا رآني قال لي: أرسلت بطلبك لأنّني مضطرّ للسفر إلى أميركا وقد يستغرق غيابي نحو شهر. أريد منك التّواجد في القصر طوال فترة سفري. شكرتُه على هذه الثّقة واعتذرت منه لعدم تمكّني من تلبية رغبته لأسباب خاصّة. فتفهّم عُذري، وقال لي: ما رأيك لو نذهب سويًّا إلى بيت الدّين لنبلغ القائمّقام بموضوع السّفر، وأنت تأتي إلى المختارة مرّةً كلّ أسبوع وإذا احتجت لأيّ شيء يكون لديه عِلم على الأقلّ، ثمّ أردف: “أتعرف يا فؤاد أنّ بلاط هذا القصر فيه سرّ كبير، والمشي كتير عليه بينزع الإنسان”.
أيضًا، مرّة أُخرى، طلب مِنّي مرافقته “لمعايدة” الإخوان المسيحيين في المختارة، وكان كلّما قدّموا له الضّيافة يناولني إياها ويقول لي: لاتنزعج منّي فأنا لا أحبّذ هذه الأمور. أمّا المشوار الأهمّ فكان لحاقنا به، أنا وفؤاد أبو شقرا وشخص آخر من بيت رسلان إلى منتجع (الحِمّة) في منطقة الجولان السّورية، و قد كان سابقًا تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ( ملاحظة من المدقّق: لم يكن حينها احتلال في الجولان يرجى التأكّد من المعلومة أخي أبا هاني) وينخفض ذلك المنتَجع عن سطح البحر نحو 300 متر. كان برفقته يومها الزّعيم شوكت شقير، وكنّا لانعرف مكان الحمّة بالتّحديد، ولما بلغنا القنيطرة أخبرت رفاقي بأنّ لي ضابط صديق يدعى جادو عزّ الدين، وهو سيرشدنا إلى ذلك المكان، لكنّنا للأسف لم نجده، ولمّا بلغنا (الحِمّة) حاولنا الدّخول فمُنعنا من قبل الجنود المكلّفين حراسة المنتجع. قلنا لهم إنّنا من رفاق المعلّم، وفي تلك اللّحظات رأينا المعلّم يهم بالخروج وإلى جانبه مزيد عزّالدّين يقوم بوداعه، فعندما رآني صرخ بي أهلًا فؤاد عندها قال المعلّم: “شو يا عمي واصل نفوذك إلى هَوْن”.
من الميّزات المهمّة عنده أيضًا أنّه كان يرفض أيَّ شكوى ضدّي، ولكن يبدو أنّ أحدهم قد شكاني عنده لأمر يخصّه، وعلى أثر الشكوى تلك قال المعلّم لي: “معليش ها الجماعة ركّبلن لمبة ولو كانوا ضدّنا بالسياسة خليهن يقشعوا مثل غَيْرُن”.

> ما هي أبرز المهام التي كلفت بها من قبل المعلم؟
عندما اندلعت الثّورة في العام 1958، كنّا مجموعة أشخاص قريبين جدًّا من “المختارة”، وكنّا على استعداد لتنفيذ كلّ ما يطلب منّا. كانت المهام كثيرة ومتشعّبة، ولم نكن نتوانى عن أيِّ عمل. وأذكر أنني رافقت المعلّم للقاء العميد جميل لَحُّود في محلّة “ساقية فلقة” الكائنة تحت قلعة نيحا، على طريق باتر- جِزّين. ومن شدّة البرد القارس أصبت منذ ذلك التّاريخ بألم في المعدة، وما زال يلازمني حتى اليوم. وغالباً ما كنت أُكلَّف من قبله بمهامّ سياسيّة ذات طابع عسكري، وبالأخصّ في الحرب الأهليّة عام 1975. كان عليّ المحافظة على علاقة حسن الجوار مع أهالي جِزّين وجوارها. وفي العام 1976 كنت مسؤولاً عن القاطع 20 الممتدّ من مزرعة الشّوف إلى باتر.
في الانتخابات النّيابية التي كانت تُجرى في السّتّينيات والسبعينيّات كان المعلّم يطلب منّي الذّهاب إلى جبل العرب لاستنهاض الهمم والطّلب من الأهالي الذين لايزالون مسجّلين في لبنان ضرورة المشاركة بالانتخابات والتّعبير عن آرائهم، وكانوا مجموعة لا بأس بها. كذلك رافقته في زيارات لكبار الشّخصيّات، من بينهم شيخ العقل محمّد أبو شقرا في دارته في بعذران. يومها اشتكى سماحته للمعلّم من شدة الأرق الذي يصيبه بسبب ظروف البلد، فضحك المعلّم وقال له: “أنا من هذه النّاحية مختلف عنك، إذ لو كنت أحمل هموم الدّنيا كلَّها فإنني أضعها جانباً وأخلد إلى النّوم”

“كلفني وليد بك مع توفيق بركات بحماية متروكات المسيحيين وإحدى المهمات التي أعتز بها كانت تنظيم العلاقة مع أهالي «جزين»”

مع وليد بك جنبلاط
مع وليد بك جنبلاط

“اشتكى الشيخ محمد أبو شقرا من شدة الأرق بسبب الأحداث فضحك المعلم وقال له لو أنني كنت أحمل هموم الدنيــا كلها فإنني أضعها جانبا وأخلد إلى النوم”

> كيف تصف علاقتك مع وليد بك؟
كان وليد بك يعرف عمق العلاقة التي كانت تربطني بوالده، وهو يعرف كلّ أصدقاء الدّار، ولقد كلَّفني بمهامّ عدّة منها التّواصل مع عدد من المرجعيّات في القرى والبلدات، وإجراء المصالحات وحلحلة المشاكل. وكان يرافقني في هذه المهمّة مختار عمّاطور السّابق المرحوم نجيب أبو شقرا، والمرحوم فوزي عابد، والسّيد فوزي زين الدّين، وشخص من آل خضر. ومن المهام التي وكَّلني بها وليد بك: ترتيب العلاقة مع أهالي جِزّين، والمحافظة على متروكات الأخوة المسيحيّين وقمت بذلك أنا والمرحوم توفيق بركات، واستمرّينا في هذه المهمّة حتى تأسيس الإدارة المدنية. ولما احتدم الخلاف مع الشّيخ بهجت غيث أوفدني إلى جبل العرب لشرح موقفه من مشيخة العقل.

> كلمة أخيرة ؟
أثّرت فيّ كثيرًا بادرة الزّعيم وليد بك جنبلاط وهي ليست غريبة أبدًا عن هذه الأسرة النّبيلة التي خدمت الموحّدين والطّوائف اللّبنانية كلّها دون تمييز، وحافظت على الوطن وعلى القِيَم النّضالية في أحلك الظّروف بل ودفع الكثير من رجالاتها حياتهم ثمنًا لمواقفهم ولنضالاتهم، وها نحن سنحتفل بعد أيام بذكرى استشهاد المعلّم كمال جنبلاط وهي ذكرى لها رمزيّتها الكبرى بالنّسبة لجميع المناضلين الشّرفاء. وأهمّ شيءٍ أنّ الله أعانني على أن أمضي حياتي منسجمًا مع مبادئي، وأنا فخور بأنّ لي رفاقًا كثيرين من المناضلين والشّهداء عملت وإيّاهم في سبيل تلك المبادئ. وأنا مرتاح الضّمير لما قمت به والحمد لله.

من أعلام بني معروف