المناضل فؤاد جبور يتذكَّر
استفزتني سياسة الحرتقات فقررت تحدي مختار البلدة
اعتقلت في السويداء بسبب بيان عنيف ضد الفرنسيين
طالبهم بحماية بلادهم من الألمان بدل استعمار الآخرين
قلت للمعلم بأن مشروع مياه البلدة متعثر بسبب الحرب
فأجابني : بدك تترك الناس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟!
“الحياة انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضّعفاء وأنت من الأقوياء، وعربون تقدير ووفاء أقدّم لك ميدالية المعلّم كمال جنبلاط”. بهذه الكلمات القليلة، المعبّرة، اختصر رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط مسيرة المناضل الشّيخ أبو كمال فؤاد ملحم جبور خطّار (92 عاما) في الحفل التّكريمي الذي أُقيم له برعايته في بلدته باتر بحضور أهالي البلدة وفعاليّات شوفيّة، وأصدقاء المُكرّم وحشد من المدعوّين، بوصفه الصّديق الصّدوق لـِ “دار المختارة” منذ عهد السّتّ نظيرة جنبلاط، مرورًا بالمعلّم الشّهيد كمال جنبلاط، وصولًا إلى وليد بك جنبلاط، ونجله تيمور بك جنبلاط.
حفل التّكريم هذا دلَّ بالدّرجة الأولى على وفاء الزّعامة الجنبلاطية للمناضلين وتقديرها للرّجال الرّجال، وقد حرص وليد بك على أن يحضر بنفسه حفل التّكريم ويقدم الميداليّة، على سبيل إعطاء المثال للجميع بضرورة تقدير النّضال والتّضحيات وتكريم المبادئ والشّجاعة والصّدق والأمانة في الخدمة، وكلّ تلك الصّفات اجتمعَت في شخص هذا المناضل الصّادق والمتواضع أبو كمال فؤاد جبور خطّار.
لكنّ حفل التّكريم كان أيضًا عنوانًا لمسيرة عمر كامل من العمل والخدمة الصّادقة أنفق فؤاد جبور فيها حياته وشبابه ووقته وقدّم خلالها مثالاً على الثّبات في الالتزام والقدرة على تحمّل المسؤوليّات والاضطلاع بالمهمّات الدّقيقة فكان بذلك موضع ثقة المعلّم وكذلك ثقة الزّعيم وليد جنبلاط ونجله تيمور بك.
وفي هذا الحوار اللّطيف والحافل بالذّكريات والعِبَر وخصوصًا الحافل بشهادات ثمينة عن حياة المعلّم الشّهيد وحكمته وخصاله الرّفيعة تقوم مجلّة “الضّحى” بواجب الوفاء للمناضل أبو كمال فتعرِّف بالمحطّات الرّئيسة في حياته ونضاله
وهنا الحوار:
> أبو كمال فؤاد جبور، أين بدأت مسيرتك؟
كنت في التّاسعة من عمري، يوم أبلغنا والدي العائد من السّفر، نِيّته الانتقال إلى السّويداء للعيش هناك. أمّي لم تتقبّل الفكرة بادىء الأمر، لكنّها ونزولًا عند إصراره قبلت على مضض. وفي اليوم المحدّد للسّفر، انتقلنا من البلدة بسيّارة خاصّة لمحمود سلمان زين الدِّين إلى بيروت، ومن هناك توجّهنا إلى السّويداء حيث التحقت بإحدى المدارس. في تلك الفترة كان الجبل يعيش مخاض الاستقلال في ظلّ الحكم الفرنسي بعد تقسيم سورية إلى أربع دويلات هي: دويلة جبل الدّروز ودويلة الشام ودويلة حلب ودويلة العلويين. كان معظم سكّان الجبل وعلى رأسهم سلطان باشا الأطرش ورفاقه يرفضون فكرة الدّويلة الطّائفيّة، ويدافعون عن فكرة الوحدة السّورية وهم الذين خاضوا ثورة عارمة تكلّلت بالانتصارات في عدة مواقع ضدّ الفرنسيّين من أجل تحرير سوريا ووحدتها في العام 1925.
في العام 1936 ازداد عديد المطالبين بالوحدة، وعمّت التّظاهرات كلّ السّويداء للمطالبة بسورية موحدة. في ذلك الوقت كنت قد بلغت الثّانية عشرة من عمري، فشاركت لأوّل مرّة مع رفاق لي في تلك التّظاهرات. وأذكر أنّني عندما ذهبت لأقفل أبواب المحالّ التّجارية التي يملكها أبي لبيع موادّ البناء، صرخَ بي أحد الرّفاق بصوت عالٍ، قائلًا: هيّا أسرع، ولشدّة تأثّري ارتطم وجهي بباب المحلّ فجُرحت شَفَتي، وتحطّم زجاج الواجهة. هذه الحادثة استعيدها بفخر لأنّني اعتبرتها بداية مسيرة جهاد طويلة أعتزّ بها.
> كيف تعرّفت إلى الشّيخة أمّ كمال؟
كان ذلك في العام 1942، وكنت قد بلغت الثّامنة عشرة من عمري. في تلك السّنة أصرّ والدي أن يزوّجني، كي أرزق بالأولاد في حياته، وكأنّه كان يدرك أنّ أجله يقترب. كيف لا وأنا ابنه الوحيد، فلا أشقّاء لي ولا شقيقات، ولقد أوكل إلى عمّي مهمّة تدبير الأمر. أمّا أنا فلم أكن أعرف من أمور الزّواج شيئًا. بعد فترة طلب عمّي منّي مرافقته إلى قرية عِرى في الجبل من أجل التعرّف الى إحدى الصّبايا التي تمّ إرشاده إليها، قلت له أذهب معك لكن بشرط عدم الموافقة على أيّة فتاة قبل أن يتسنّى لي رؤيتها، فقال: اتّفقنا، فتوجّهنا إلى عِرى ولمّا رأيتها، قلت لعمّي الآن بإمكانك أن تفاتح أهلها رسميًّا بموضوع الزّواج. وهكذا كان وقد تزوّجت في تلك السّنة، بناءً لرغبة والدي، والحمد لله، رُزِقنا شبابًا وصبايا “بيفتحوا العَين”، وحسب نواياكم تُرزقون. وما زلنا حتى السّاعة نعيش أسعد أيّامنا، نحن وأولادنا وأحفادنا أنا والسّت أم كمال.


“أمضيت في سجن المزة أربعة أشهر بأمر الفرنسيين وكان سجنا مخيفا ثمأخلي سبيلنا واستقبلنا في جبل العرب استقبال الأبطال”
العودة الى باتر
> متى عدت إلى باتر؟ ولماذا ترشّحت لمنصب المُختار ضدّ آل حمدان؟
عدت مع أسرتي إلى باتر في أوائل العام 1947، وبسبب تربيتي في جبل العرب حيث لا يوجد أيّ تفريق أو حتى اهتمام بطائفة الشّخص (بل فقط بمبادئه ومواقفه) لم أكن أعرف يومها بوجود تفريق طائفي: هذا درزي وهذا مسيحي وذاك سنّي… وقد أخذ الأمر منّي بالفعل بعض الوقت في لبنان حتى أصبحت أُميِّز طائفة هذا أو ذاك.
في العام 1948، توفّي والدي، وكان وقْع المُصاب صادمًا بالنّسبة لي باعتباري ابنه الوحيد. وقد نشأت في كنَفه فأحسن تربيتي وغمرني بعطفه وحنانه، ولم ننسلخ عن بعضنا أبدًا ولم يفرّق بيننا إلّا الموت الحقّ، رحمه الله. وكانت تلك الفترة وتلك الرّفقة كافية كي أستكشف حياة قريتي بكلّ متطلّباتها ومتاعبها، وأدركت يومها ما يعانيه أهالي بلدتي من العوَز والإهمال، بسبب تسلّط إحدى الأسر الإقطاعية عليهم. وبحلول العام 1949 حدّدت الدّولة موعدًا لإجراء الانتخابات البلديّة والاختياريّة، فانشغل النّاس بهذا الاستحقاق، وراح البعض يروّج للمختار وهو الشيخ عارف حمدان داعيًا منحه ولاية جديدة. حيال ذلك الواقع رحت أسأل نفسي، لماذا تستمرّ الأمور على هذا النّحو؟ وما الذي يمنع تداول المسؤوليات وبالتّالي تغيير الواقع؟ وقرّرت بالفعل أن أقدّم ترشيحي منافسًا للمختار رغم أنّهُ كان قويًّا بعلاقاته وسطوته في القرية. وكان من أسباب قراري الترشّح ضدّه كونه لعب دورًا مباشرًا في إعاقة إيصال الهاتف إلى القرية. كان والدي قد سعى جاهدًا من أجل تأمين وصوله قبل وفاته مستفيدًا من صداقة وثيقة كانت تربطه بالشّيخين بهيج ومنير تقيّ الدّين. وقد استفزّني من المختار ذلك الموقف الذي يرفض الخير للبلدة لكونه سيتم عن غير طريقه، ورأيت في موقفه ذاك قمّة التّصرّف غير المناسب لروح العصر إذ تدخّل الشيخ عادل حمدان قريبه وصديق الرّئيس كميل شمعون من جانب آخر لعرقلة المشروع وتمكّن بالفعل من إيقافه.
أبلغت عمّي بنيّتي منافسة المختار فأجابني بالقول: “شو بدّك بـها الشّغلة” أمّا خالي، فقال مُعلّقاً: من أين أتى ابن شقيقتي بكل هذه الثّقة بالنفس؟ وعلى ماذا يعتمد؟ لكنّني تابعت ترشيحي وخضت الانتخابات ونلت سبعة أصوات زيادة عن المختار السّابق رغم التدخّل الشّخصي من قبل عادل حمدان ضدّي.
“ذهبت بعد فوزي مختارا لأخذ بركة الست نظيرة فتأملتني مليا (وكنت في سن الـ 25) ثم قـــــالت:»مْبَكِّر يا بعدي!”
> كيف نظرت إلى تلك النتيجة؟
كانت مفاجأة إيجابية لأنّها كسرت قيودًا وحرّرت نفوسًا وأظهرت للنّاس أنّ بإمكانهم أن يغيّروا، لكن عليهم أن يتضامنوا، كما أظهرَت أنّك إن كنت مؤمنًا بشيء ما فإنّ من الممكن أن تحقّقه، لكن عليك أوّلًا أن تثق بنفسك. وأودّ الإشارة هنا إلى أنّ أجواء البلد بعد الاستقلال كانت قد بدأت تتغيّر وكانت هناك أفكار تحرّرية بدأت تنتشر.
كان الزّعيم كمال جنبلاط في تلك السّنة يُعدُّ لإطلاق الحزب التقدّمي الاشتراكي وكان قد اشتُهر أصلًا كزعيم يمتلك من صفات التّواضع ومناصرة الفقراء ما جعل النّاس تفكّر فعلًا في التّغيير. وقد حصل ذلك… ولوعلى نطاق قرية من خلال مثال باتر.
> كيف توطدت علاقتك مع الست نظيرة جنبلاط، ومع كمال بك، وماذا كان موقفهم منك بعدانتخابك مختاراٌ؟
في الحقيقة، لم أشعر بأنّ “المختارة” وقفت ضدّي في الانتخابات. ولكن في أوّل زيارة قمنا بها إلى “الدّار” أنا والأعضاء الذين نجحوا معي، وفي لقائنا بالسّتّ (نظيرة) نظرت إليّ نظرة تأمّل، وتساؤل، وقالت: (مبكِّر يا بَعدي)، قلت لها: المعركة فُرضت عليّ، ونحن هنا لأخذ البرَكة. هذه الزّيارة كانت فاتحة لزيارات عديدة فيما بعد. ساعدتني في بناء علاقة وطيدة جدًّا مع كمال بك. وبالمناسبة أعترف أن أفضاله كثيرة عليّ، لا يمكن أن أنساها، وقد ساعدني على تنفيذ العديد من المشاريع التي كانت بلدتي في حاجة لها.
لقد وضعت نصب عينيَّ منذ لحظة انتخابي مختارًا، حاجة البلدة لمشاريع إنمائية مُلحّة كان أوّلها تجميع مياه الشّفَة وتوزيعها على الأهالي، بعد ما كانت مصادرة من قبل بعضهم. وكنت عرضت الأمر على كمال بك، فقال لي: ابدأ بالعمل وأنا معك.
في البداية حدّدنا قيمة المساهمة لكلّ بيت بـ 50 ليرة، ثمّ ضاعفنا المبلغ ليصبح مئة ليرة. لكنّنا لم نتمكّن من إنجاز المشروع بإمكاناتنا المحدودة. وكنت في كلّ مرّة ألتقي فيها المعلّم، يسألني: أين أصبح “مشروع المَيّ”؟ في ذلك الوقت كانت رياح الثّورة الشّعبيّة في العام 1958 قد بدأت تهبّ على لبنان، وبالأخصّ منطقة الجبل، فقلت له: يا بيك، كيف يمكننا العمل والبلاد بحالة حرب، فأجابني: بدّك تترك النّاس بلا شرب حتى تنتهي الحرب؟. بعد مدّة سألني عن المشروع، فأخبرته باستناف العمل، فانفرجت أساريره وقال لي: سأرسل لك جوزف سركيس، فهو صاحب خبرة في هذا المجال. حينذاك كنّا قد انتهينا من بناء الخزّان، ولم يعد ينقصنا إلّا مولِّد يعمل على البنزين أو الدّيزل لضغط المياه صعودًا حتى تصل إلى الخزّان الموجود في أعلى البلدة ، فتبرّع سركيس بتقديمه لنا بناءً على توجيهات الـمعلِّم. وهذا واحد من عدّة مشاريع نفّذناها بمساعدته.
بعد نهاية الثّورة وانتخاب قائد الجيش اللّواء فؤاد شهاب رئيسًا للجمهوريّة. تقرّر إجراء الانتخابات النّيابية، فاتّفقنا على مقاطعتها، وتقدّمنا بعريضة علّلنا فيها سبب المقاطعة، باعتبار أنّنا لم نتلقَّ أيّة مساعدة من الدّولة، لا بموضوع المياه، ولا بخصوص الهاتف. وعلى الأثر تمّ استدعاؤنا بطلب من العقيد غابي لحّود، فذهبت إليه مع اثنين من الأعضاء هما: الياس سبع الحدّاد، والشّيخ أبو حسن سليمان عوده. وقبل الاجتماع به اقترحت على رفيقيّ استشارة الشّيخ منير تقيّ الدّين بالأمر، وكان يومها مديرًا للدّفاع فطمأننا بأنّ ما فعلناه هو عين الصّواب، ولن يحصل ما يكدّر خاطرنا لأنّنا أصحاب حقّ. ولما اجتمعنا به، سألنا عن الدّوافع التي تجعلنا نقاطع الانتخابات. فشرحنا له مانعانيه من حرمان وإهمال، فتفهّم موقفنا ووعدنا بأنّه سينقل ملاحظاتنا إلى الرّئيس شهاب.


“المعلم كمال جنبلاط هب إلى نجدة منكوبي زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثم في ترميم البيوت المهـــدّمة”
> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلديّة؟
كان قرار إنشاء البلدية في باتر قد صدر أثناء تولّي كمال بيك وزارة الدّاخلية، وأنا كنت حينها مختارًا، فانتُخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيسًا للبلدية. لكنّه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق في البلدة تمّ بموجبه انتخابي رئيسًا للبلديّة، والشّيخ أبو حسن سليمان عودة مختارًا. ربّما كان ذلك وفاءً لنا على الإنجازات التي حقّقناها في تلك الفترة بمجهود فرديّ وشخصيّ في غالب الأحيان.
> كيف أخذت طريقك إلى رئاسة البلدية؟
قرار إنشاء البلدية قي باتر، صدر أثناء تولي كمال بيك وزارة الداخلية، وأنا كنت لا زلت مختاراً فانتخب يومها ملحم رفاعة صافي رئيساً للبلدية. لكنه استقال بعد فترة وجيزة، وعلى الأثر حصل توافق قي البلدة تم بموجبه إنتخابي رئيساً للبلدية، والشيخ أبو حسن سليمان عودة مختاراً. ربما كان ذلك وفاء لنا على الإنجازات التي حققناها في تلك الفترة بمجهود فردي وشخصي في غالب الأحيان.
> ماذا عن زلزال 1956 ودوركم في مساعدة المنكوبين؟
الزّلزال الذي ضرب لبنان سنة 1956، لم تسلم منه باتر، وأدّى ذلك إلى تهدّم عدد من المنازل وتشرُّد أصحابها. وأوّل عمل قمت به بصفتي مختارًا كان تشكيل لجنة لإحصاء الأضرار وتنظيم المساعدات، وتأمين السّكن العاجل للعائلات التي تشرّدت، حتى لايتحكّم بنا بعض المتنفّذين. فاضطررنا لإيوائهم عند أقاربهم في بداية الأمر حتى وصلتنا مساعدة ماليّة من الأستاذ أسعد النجار، أمَّنّا بموجبها بعض الخِيَم التي استعملناها لإيواء المنكوبين إلى أن تتم إزالة الأنقاض والبيوت المهدّمة.
المعلم كمال جنبلاط هبّ إلى نجدة منكوبيّ زلزال 1956 ومواساتهم وشارك بنفسه في رفع الأنقـــــاض ثمّ في ترميم البيوت المهـــدّمة، وكان أوّل الذين مدّوا لنا يد المساعدة، ولم يكتفِ بإرسال المساعدات بل حضر شخصيًّا لتفقُّد المنكوبين وتقديم ما يلزم من احتياجات، وعمل معنا في بناء البيوت المهدّمة، وكان ذلك تواضعًا منه، كما كان يتابع ما كنّا نقوم به خطوة خطوة.
ذات مرّة، كنا قد وُعدنا بمساعدة هي عبارة عن موادَّ للبناء، لكنّهم تأخّروا بإرسالها وأرسلوا بدلًا منها سيارة بيك آب محمّلّةً بالطّحين فرفضنا استلام الشّحنة، وأمرنا السّائق أن يعيدها من حيث أتى بها لأنّنا بحاجة إلى موادّ بناء لإعادة إعمار ما تهدّم، ولسنا جائعين حتى يرسلوا لنا طحينًا. هذه الحادثة تركت أثرًا إيجابيًا لدى الـمعلِّم فقال لبعض من طالبوه أن يساعدهم في أمرٍ لم يكن مقتنعًا به: “إذهبوا وتعلّموا عزّة النّفس من أهالي باتر”!.
“أعتز بأن المعلِّم منحني ثقة لم يمنحها إلا لقليل من الناس، حتى أنه عرض عليّ التواجد الدائم في القصر أثناء غيابه لمدة شــــهر في أميركا”
> كيف توجز لنا علاقتك الشخصية مع المعلم
ايمكنني بكلمات قليلة أن أصف علاقتي بزعيم كبير بقامة المعلّم الشّهيد كمال جنبلاط. كما ذكرت في بداية هذا الحوار، فمنذ لحظة انتخابي مختارًا ذهبت بزيارة تعارُف إلى “المُختارة”، ومنذ ذلك الحين لم تنقطع لقاءاتي به إلى حين استشهاده. مرّة في الأسبوع أو كلّ أسبوعين على أبعد تقدير، وقد استمرّت تلك العلاقة من بعده مع وليد بك، ولولا التقدّم بالسّن لما تردّدت في زيارة “المختارة” على الدّوام. وهنا لابدّ لي من الاعتراف أن أفضال المعلّم عليّ لا عَدّ لها ولا حَصْر.
وأهمّ ما في هذه العلاقة كانت الثّقة الكبيرة التي منحني إيّاها، وأعتقد أنّه لم يمحضها إلّا لقلّة من النّاس. وأذكر على سبيل المثال أنّه في العام 1955 أوفد سائقه سامي نمور بطلبي، يومها لم يكن عندي سيّارة فاستمهلته بعض الوقت حتى أجهّز نفسي ثم ذهبت برفقته إلى “المختارة”، وعندما أبلغوا المعلم بقدومي أمر بدخولي إليه في الحال، ولمّا رآني قال لي: أرسلت بطلبك لأنّني مضطرّ للسفر إلى أميركا وقد يستغرق غيابي نحو شهر. أريد منك التّواجد في القصر طوال فترة سفري. شكرتُه على هذه الثّقة واعتذرت منه لعدم تمكّني من تلبية رغبته لأسباب خاصّة. فتفهّم عُذري، وقال لي: ما رأيك لو نذهب سويًّا إلى بيت الدّين لنبلغ القائمّقام بموضوع السّفر، وأنت تأتي إلى المختارة مرّةً كلّ أسبوع وإذا احتجت لأيّ شيء يكون لديه عِلم على الأقلّ، ثمّ أردف: “أتعرف يا فؤاد أنّ بلاط هذا القصر فيه سرّ كبير، والمشي كتير عليه بينزع الإنسان”.
أيضًا، مرّة أُخرى، طلب مِنّي مرافقته “لمعايدة” الإخوان المسيحيين في المختارة، وكان كلّما قدّموا له الضّيافة يناولني إياها ويقول لي: لاتنزعج منّي فأنا لا أحبّذ هذه الأمور. أمّا المشوار الأهمّ فكان لحاقنا به، أنا وفؤاد أبو شقرا وشخص آخر من بيت رسلان إلى منتجع (الحِمّة) في منطقة الجولان السّورية، و قد كان سابقًا تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ( ملاحظة من المدقّق: لم يكن حينها احتلال في الجولان يرجى التأكّد من المعلومة أخي أبا هاني) وينخفض ذلك المنتَجع عن سطح البحر نحو 300 متر. كان برفقته يومها الزّعيم شوكت شقير، وكنّا لانعرف مكان الحمّة بالتّحديد، ولما بلغنا القنيطرة أخبرت رفاقي بأنّ لي ضابط صديق يدعى جادو عزّ الدين، وهو سيرشدنا إلى ذلك المكان، لكنّنا للأسف لم نجده، ولمّا بلغنا (الحِمّة) حاولنا الدّخول فمُنعنا من قبل الجنود المكلّفين حراسة المنتجع. قلنا لهم إنّنا من رفاق المعلّم، وفي تلك اللّحظات رأينا المعلّم يهم بالخروج وإلى جانبه مزيد عزّالدّين يقوم بوداعه، فعندما رآني صرخ بي أهلًا فؤاد عندها قال المعلّم: “شو يا عمي واصل نفوذك إلى هَوْن”.
من الميّزات المهمّة عنده أيضًا أنّه كان يرفض أيَّ شكوى ضدّي، ولكن يبدو أنّ أحدهم قد شكاني عنده لأمر يخصّه، وعلى أثر الشكوى تلك قال المعلّم لي: “معليش ها الجماعة ركّبلن لمبة ولو كانوا ضدّنا بالسياسة خليهن يقشعوا مثل غَيْرُن”.
> ما هي أبرز المهام التي كلفت بها من قبل المعلم؟
عندما اندلعت الثّورة في العام 1958، كنّا مجموعة أشخاص قريبين جدًّا من “المختارة”، وكنّا على استعداد لتنفيذ كلّ ما يطلب منّا. كانت المهام كثيرة ومتشعّبة، ولم نكن نتوانى عن أيِّ عمل. وأذكر أنني رافقت المعلّم للقاء العميد جميل لَحُّود في محلّة “ساقية فلقة” الكائنة تحت قلعة نيحا، على طريق باتر- جِزّين. ومن شدّة البرد القارس أصبت منذ ذلك التّاريخ بألم في المعدة، وما زال يلازمني حتى اليوم. وغالباً ما كنت أُكلَّف من قبله بمهامّ سياسيّة ذات طابع عسكري، وبالأخصّ في الحرب الأهليّة عام 1975. كان عليّ المحافظة على علاقة حسن الجوار مع أهالي جِزّين وجوارها. وفي العام 1976 كنت مسؤولاً عن القاطع 20 الممتدّ من مزرعة الشّوف إلى باتر.
في الانتخابات النّيابية التي كانت تُجرى في السّتّينيات والسبعينيّات كان المعلّم يطلب منّي الذّهاب إلى جبل العرب لاستنهاض الهمم والطّلب من الأهالي الذين لايزالون مسجّلين في لبنان ضرورة المشاركة بالانتخابات والتّعبير عن آرائهم، وكانوا مجموعة لا بأس بها. كذلك رافقته في زيارات لكبار الشّخصيّات، من بينهم شيخ العقل محمّد أبو شقرا في دارته في بعذران. يومها اشتكى سماحته للمعلّم من شدة الأرق الذي يصيبه بسبب ظروف البلد، فضحك المعلّم وقال له: “أنا من هذه النّاحية مختلف عنك، إذ لو كنت أحمل هموم الدّنيا كلَّها فإنني أضعها جانباً وأخلد إلى النّوم”
“كلفني وليد بك مع توفيق بركات بحماية متروكات المسيحيين وإحدى المهمات التي أعتز بها كانت تنظيم العلاقة مع أهالي «جزين»”


“اشتكى الشيخ محمد أبو شقرا من شدة الأرق بسبب الأحداث فضحك المعلم وقال له لو أنني كنت أحمل هموم الدنيــا كلها فإنني أضعها جانبا وأخلد إلى النوم”
> كيف تصف علاقتك مع وليد بك؟
كان وليد بك يعرف عمق العلاقة التي كانت تربطني بوالده، وهو يعرف كلّ أصدقاء الدّار، ولقد كلَّفني بمهامّ عدّة منها التّواصل مع عدد من المرجعيّات في القرى والبلدات، وإجراء المصالحات وحلحلة المشاكل. وكان يرافقني في هذه المهمّة مختار عمّاطور السّابق المرحوم نجيب أبو شقرا، والمرحوم فوزي عابد، والسّيد فوزي زين الدّين، وشخص من آل خضر. ومن المهام التي وكَّلني بها وليد بك: ترتيب العلاقة مع أهالي جِزّين، والمحافظة على متروكات الأخوة المسيحيّين وقمت بذلك أنا والمرحوم توفيق بركات، واستمرّينا في هذه المهمّة حتى تأسيس الإدارة المدنية. ولما احتدم الخلاف مع الشّيخ بهجت غيث أوفدني إلى جبل العرب لشرح موقفه من مشيخة العقل.
> كلمة أخيرة ؟
أثّرت فيّ كثيرًا بادرة الزّعيم وليد بك جنبلاط وهي ليست غريبة أبدًا عن هذه الأسرة النّبيلة التي خدمت الموحّدين والطّوائف اللّبنانية كلّها دون تمييز، وحافظت على الوطن وعلى القِيَم النّضالية في أحلك الظّروف بل ودفع الكثير من رجالاتها حياتهم ثمنًا لمواقفهم ولنضالاتهم، وها نحن سنحتفل بعد أيام بذكرى استشهاد المعلّم كمال جنبلاط وهي ذكرى لها رمزيّتها الكبرى بالنّسبة لجميع المناضلين الشّرفاء. وأهمّ شيءٍ أنّ الله أعانني على أن أمضي حياتي منسجمًا مع مبادئي، وأنا فخور بأنّ لي رفاقًا كثيرين من المناضلين والشّهداء عملت وإيّاهم في سبيل تلك المبادئ. وأنا مرتاح الضّمير لما قمت به والحمد لله.