في أثر الثورة الصناعية في أوروبا، والصراعات بين دول القارة الأوروبية؛ وعندما فشلت فرنسا في الحفاظ على مصر كمورد لزراعة القطن، توجهت نحو صناعة الحرير في لبنان وذلك بسبب حُسن موقعه الجغرافي ومناخه وجودة تربة بعض مناطقه، سيّما في جبل لبنان، لزراعة شجرة التوت وهي الغذاء الوحيد بورقها لتربية دودة الحرير.
عام 1841 قدم إلى بتاتر رجل أعمال فرنسي اسمه «فورتينه بورطاليس» مع أشقائه الأربعة، وعمل بالتنسيق مع الشيخ يوسف عبدالملك على بناء معمل حديث للحرير في البلدة، فاشترى أرضًا مناسبة للمشروع من الشيخ عبدالغني عبدالملك، وباشر فورًا بأعمال البناء والتحضير للمشروع بدعم مباشر ومساعد من الشيخ يوسف بك عبدالملك خلافًا لرغبة الأمير بشير الشهابي الثاني المعارض لبناء المشروع في بتاتر، كونه تحت وصاية الشيخ يوسف بك عبدالملك وتحديدًا في بلدته، لأنّ الشيخ يوسف ليس من أتباعه أو جماعته. عمل الأمير بشير عملًا جاهدًا لتغيير مكان المشروع ونقله الى بلدة أخرى، لكنّه لم يتمكن من ذلك، وفشلت كل مساعيه ومحاولاته أمام توافق السيد «فورتينه بورطاليس» مع الشيخ يوسف عبدالملك، واستمرّ العمل بقوّة على انجاح المشروع.
ولد «فورتينه بورطاليس» عام 1815 بعد واقعة أو معركة واترلو في فرنسا، وفي مدينة أكس.. والده «اتيان بورطاليس» ابن وزير العدل الفرنسي في عهد نابليون بونبارت الأول الذي ساهم في سن شرائع نابليون الشهيرة.
أتى «فورتينه بورطاليس» إلى مصر عام 1827 ثمّ إلى سوريا ولبنان عام 1838.
أنجب «فورتينه بورطاليس» ولدًا اسمه «بروسبيير» عام 1855 الذي خدم مدته العسكرية بعد تخرجه الجامعي، وعاد إلى لبنان وشارك والده في أعمال معمل الحرير، ويقال إنّه تفوّق على والده في حسن وعمل ادارة المعمل في بتاتر، وحقّق نجاحًا باهرًا في هذا المجال وتطوره آنذاك.
إشترى «بروسبيير» سرايا عبدالله باشا في رأس بيروت، وهي من أجمل المراكز. فكان يمضي فصل الشتاء فيها متنقلاً بين بيروت وبتاتر لمتابعة سير عمل معمل الحرير.
عام 1847 سكن «فورتينيه بورطاليس» وعائلته في بتاتر بعد أن اشترى بمساعدة ودعم الشيخ يوسف عبدالملك منزلاً في بتاتر، لازال قائماً وموجوداً لغاية هذا اليوم، علماً أنه قد جرت أعمال مستحدثة على البناء القديم.
بتاريخ 19 آذار 1847 سُجّل في محفوظات القنصلية الفرنسية مستند يقول:» نحن شارل ياجرشميت حامل أختام قنصلية فرنسا العامة في بيروت.. انتقلنا بأمر السيد القنصل العام الى معمل الحرير في بتاتر لأصحابه السادة بورطاليس اخوان بغية القيام بمعاينة حالة معمل الحرير المذكور حيث جرى وصفه بحالة الأعيان وبواقعة الموجود من ناحية البناء والموجودات وكل الممتلكات والأراضي والأبنية التابعة للمعمل».
تمّ شراء أرض المعمل في بتاتر بموجب عقد بيع، أي حجّة محررة من قبل الشيخ يوسف عبدالملك باسم عبدالله تيم.. وهذا العقد حفظ في القنصلية الفرنسية في سجل الايداعات بالمحفظة رقم 22 و 25 و 26 وأودع في خزنة ايداعات القنصلية الفرنسية بتاريخ 31 آذار 1847 على يد السيد «نقولا بورطاليس» ممثل المؤسسة أي معمل الحرير في بتاتر، وهو شقيق «فورتينه»، وأحد الشركاء في المؤسسة.
ساعد السيد «فورتينيه بورطاليس» وبعده ورثته وزوجته ماليًّا بشق الطريق الرئيسية، والتي تفرّعت من طريق عام بحمدون – بتاتر الى بلدة رويسة النعمان، بعد طلبات ووساطات من قبل أهالي رويسة النعمان لدى مشايخ آل عبدالملك في بتاتر وأصحاب معمل الحرير.
بعد هزيمة ابراهيم باشا تمّ تعيين شكيب أفندي حاكمًا من قبل السلطات العثمانية، ونفي الأمير بشير الشهابي إلى مالطا.. أصدر شكيب باشا فرمانًا طلب فيه مغادرة جميع الأجانب في مقاطعة جبل لبنان.. رفض «نقولا بورطاليس» المغادرة، واستقرّ في بتاتر حتى العام 1847، بعدها باع حصته في الشركة والمعمل الى أخيه «فورتينيه»، وسافر إلى مصر نهائياً.
توفِّي «فورتينيه بورطاليس» بتاريخ 9 شباط 1882 في بتاتر في يوم مثلج وطقس شديد البرودة، ودُفن في تربة اللاتين في بيروت.
بعد إتمام أعمال البناء في بتاتر وتجهيزه بأحدث المعدات آنذاك.. قام السيد» فورتينيه» المعروف على لسان عامة الناس في بتاتر والجبل (بالخواجة فرتوني) باستقدام أربعين امرأة غازلة للحرير من فرنسا، بهدف تدريب وتعليم الصبايا والنساء العاملات في المعمل على كافة أعمال الغزل والانتاج وغير ذلك. يذكر أنّه للمرة الأولى في تاريخ جبل لبنان آنذاك تخرج الفتاة أو المرأة إلى ميدان العمل لمشاركة الرجل في مواجهة أعباء الحياة المعيشية.. حيث قام السيد «فورتينيه» انطلاقًا من ذلك بإقامة برنامج ونظام عمل للنساء بغير أوقات دوام عمل الرجال، وكلّف عليهم مراقبين لتتابع حركة مجيئهم إلى مكان عملهم، ومرافقتهم أثناء المغادرة إلى منازلهم، احتراماً للتقاليد والأعراف الجبلية في التربية العامّة المحافظة، والبعيدة عن الاندماج بين الرجال والنساء أثناء العمل.
ترافق مع قيام المعمل الدعوة والعمل على تشجيع زراعة شجرة التوت في بتاتر وقرى الجرد والجبل عامة، واشترت شركة «بورطاليس اخوان» في بتاتر مساحات شاسعة من الأراضي، وزرعت فيها شجرة التوت.. وقامت أيضاً ببناء بركة مياه كبيرة في أول البلدة تعلو بناء معمل الحرير، وهذه البركة لازالت موجودة وتعرف ببركة الخواجة، وكان الهدف منها تجميع المياه في فصل الشتاء، وهي ضرورية لغلي الشرانق.. كما تمّ إقامة بناء كبير مستطيل الشكل قريب من وجود المعمل وشبيه له من ناحية البناء، وكان بمثابة سكن للعمال حيث لازال موجودًا بحالته الطبيعية الجيدة، لكن دون سقفه الترابي الذي تهدم بفعل عامل الزمن والاهمال.. كما تمّ بناء مبنى عقد متوسط في أول البلدة أيضًا عرف بدكان الكرخانة، يحتوي على كل حاجيات الناس الأساسية في حياتهم اليومية..حيث أصدرت آنذاك شركة «بورطاليس» عملة نقدية خاصة باسمها كانت تدفع للعمال والأجراء كأجور لهم يشترون بها حاجياتهم من هذا الدكان، ومن بعض المحالّ التجارية في سوق بتاتر التجاري الكبير.. حيث تواجد فيه آنذاك كلّ ما يحتاجه المواطن من البلدة والجوار من حاجيات.
اعتبر معمل الحرير في بتاتر الذي انشأ في العام 1841 من أكبر المعامل وأحدثها في لبنان وسوريا في تلك الحقبة.. حيث قُدر حجمُه آنذاك ب 210 دواليب كان تنتج أفخر وأجود أنواع الحرير التي كانت تُصدر إلى فرنسا وكلّ الأسواق الأُوروبية..وقُدر إنتاجه سنوياً ب 130 ألف أقة شرانق.
عُرف السيد «فورتينه بورطاليس» بذكائه الحاد وفطنته السريعة، وحسن معشره وجمال حديثه، وأسلوب تعاطيه مع عمال المعمل، ومع عامة الناس في بتاتر، التي سكنها وعاش مع أهلها فترة من الزمن.. وكان له أخبار مميزة وجميلة ونوادر متعددة. وكان آنذاك محور احاديث عامة الناس في معظم حياتهم اليومية في البلدة ومن عرفه.. ومن نوادره نذكر: إنّه كان يقرض الناس أموالاً مُسبقة يستردها شرانق في الموسم السنوي القادم من المواطن، وكي لا يتمنع أو يتخلف المواطن عن الدفع والوفاء بالالتزام، قام بوضع كتاب الانجيل المقدس على الطاولة أمامه، وأوصل اليه سلك كهربائي بطريقة غير مرئية، كان يشعر المواطن بالارتعاش عندما يضع يده على الانجيل ساعة اقتراض المبلغ، وتأديته واجب القسم والحلفان.. هنا يدخل المواطن في حالة رهبة وخوف وإيمان عميق بالانجيل ممّا يجعله يبادر إلى الوفاء بالوعد بالموسم والوقت المحدد.
جلب السيد «فورتنيه بورطاليس» نصبة شجرة الزهري وأكثر من زراعتها في بتاتر، وعُرفت آنذاك بزهرة بتاتر، التي تستعمل زهرتها أي ثمرتها كالشاي خاصة في أيام الشتاء، وهي مفيدة لمعالجة الرّشح والزكام. وما زالت بتاتر غنية ببعض هذه الأشجار.. كما زيّن مدخل معمل الحرير بأشجار الكستناء البريّة.
تميّز بناء المعمل في بتاتر وبالتحديد على مدخله الرئيسي وجود ساعة متوسطة الحجم، وضعت على بناء حجري عالي بشكل معقود، بهدف الحفاظ على الوقت والالتزام بدوام العمل. ويوجد لتلك الساعة مثيل لها أمام البرلمان اللبناني في بيروت لكن بشكل أكبر.
عام 1864 تمّ شق أول طريق فرعية عن الطريق الدولية المعروف بخط الشام الدولي إلى المعمل في بتاتر، وكان ذلك في عهد المتصرف داوود باشا، ونفّذ المشروع آنذاك على نفقة شركة «بورطاليس أخوان» التي تنازلت عن حقها في الطريق في ما بعد لصالح الدولة اللبنانية.
خلق انشاء معمل الحرير في بتاتر نهضة اقتصادية وحركة تجارية واسعة، طالت أيضًا كافة قرى الجوار، وانتعشت المحال وسوق البلدة بحركة تجارية، ونهضة شاملة، وقصدها وسكنها العديد من المواطنين من خارج البلدة، ومنهم من استقرّ فيها لأنها شهدت حركة تجارية وانمائية واسعة، فيها العديد من الأعمال وفرص العمل.. لهذه الأسباب إضافة إلى دورها السياسي والاجتماعي من خلال وجود عائلة عبدالملك صاحبة القرار والنفوذ آنذاك في المنطقة، حيث كانت عامة البلاد تحت حكم النظام الاقطاعي العام.. اعتبرت بتاتر عاصمة الجرد آنذاك، وكانت تتبعها العديد من قرى المنطقة، لكنّ بعد الاحداث الطائفية عام ،1860 ثمّ إقامة نظام المتصرفية، بدأ يضعف دور الاقطاع السياسي ومعه الحركة الاقتصادية في بتاتر. وكان لمجيء الارساليات الأجنبية، والدور الفرنسي في لبنان سبب في تغيير الموازين الاجتماعية والسياسية.. قُسّم بعدها الجرد الى قسمين: شمالي وجنوبي، الجرد الشمالي وعاصمته بتاتر ويتبعه 12 قرية من قرى الجوار، والجرد الجنوبي عاصمته رشميا.
استمرّ عامل الاستقرار لدى المواطن الجبلي ولا سيما في بتاتر والجوار، وعاش البحبوحة والانتعاش لحين اندلاع الأحداث الطائفية عام ،1860 وما أعقبها من متغيرات.. ومن ثمّ ظروف الحرب العالمية الأولى عام 1914 وما رافقها من أعمال قهر وظلم واستعباد ومجاعة وعوز، في ظل وجود الاستعمار التركي والحكم العثماني. توقف العمل في معمل الحرير بعد الحرب العالمية الأولى، وتقاسم الورثة الأملاك، وموجودات المعمل، وباعوها الى السّيدين عبدالله الهبر، وجورج معاصري.. الذين بدلًا من أن يحافظوا على البناء المميّز، ذي الطابع التراثي، قاما بهدم كامل البناء وبيع حجارته وجميع معداته، حيث لم يبق منه سوى أقبية العقد المصالبة بأسفل الباحة، التي استعملها الجيش الفرنسي أثناء وجوده في لبنان، وكانت بمثابة أقبية للخيل يوم انشاء المعمل.. كما بقي لوحتان حجريتان حفر عليهما تاريخ انشاء المعمل وتاريخ وجود الجيش الفرنسي فيه، وذلك بعهد نابليون الثالث عام 1864.
كان لهدم معمل الحرير في بتاتر وبيع موجوداته آنذاك، وفي غفلة من الزمن، أثر سلبي في نفوس الناس، وكانت عملية طمس لمعلم تاريخي واقتصادي هام في جبل لبنان.
في بداية الخمسينات من القرن الماضي، اشترى رجل كويتي اسمه عبدالله عبداللطيف العثمان كامل الأملاك والأراضي من السيدين عبدالله الهبر وجورج معاصري، وحافظ على ما تبقى من بناء المعمل، كما استحدث بعض الغرف والانشاءات الملاصقة لأقبية العقد المذكورة.. واهتم بمعظم الأراضي المزروعة، وقام بزرع العديد من أنواع أشجار الفاكهة وغيرها، وحوّل قسمًا كبيرًا من أراضي المعمل إلى منتجع سياحي جميل، زيّنه بحديقة عامّة، وبألعاب للأطفال حيث كنّا ننظر إليه بشغف، ونتمنّى الدخول إليه ونحن أطفال.. استقدم عبدالله عبداللطيف العثمان أشهر الفنانين اللبنانيين والعرب، وأحيوا الكثير من الجلسات والسهرات الغنائية والترفيهية في المنتجع الجديد القائم على أنقاض معلم تاريخي وصناعي، وجد في حقبة زمنية معينة في لبنان والشرق.
في بداية الثمانينات من القرن الماضي، أقدمت شركة غريزي وشركاه، على شراء كامل الأراضي وما تبقى من بناء معمل الحرير، وقامت ببيع قسم كبير من هذه الأراضي إلى أبناء البلدة، حيث شُيّد على هذه الاراضي أجمل المنازل والأبنية الحديثة.
مع الأسف، ما تبقى اليوم من أثار وأبنية من معمل الحرير في موقعه الجغرافي الجميل، والمميّز في بتاتر مهملة بالكامل، فالطريق إليه غير معبّدة ولا سليمة. حتى الأقبية الجميلة مهملة بالكامل، وبعيدة عن الاهتمام المطلوب واللازم؛ وعليه نتمنى على صاحب هذا العقار، التعاون مع البلدية، وبمساعدة ضرورية من وزارة الثقافة، الاهتمام بهذا المعلَم التاريخي، حيث يقضي الواجب الاضاءة على الدور الذي لعبه هذا المعمل في النهضة الاقتصادية في جبل لبنان، وباعتباره وثيقة نادرة لحقبة مهمة من تاريخ بتاتر وجبل لبنان عموماً.