كم نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى ذكر فضائل المشايخ الأسياد رضي الله تعالى عنهم ونفعنا ببركاتهم، علّنا نستلهم بركتهم ونقتدي ببعض مآثرهم لتبقى ذكرًا وقدوة لمن يأتي بعدهم بخاصة في هذا الزمن الذي كسدت فيه الفضائل وقلّ الإخلاص ووهنت فيه القوى.
فالهدف الحقيقي والقصد الأول هو خلاص النفوس من أدرانها وإعزاز دين الإسلام وتوطيد دعائم الإيمان وإيضاح الطريق لأهل التوحيد والإيقان.. ومهما بذلنا من الجهد وقدمنا من العزم وشحذنا ذاكرتنا وذاكرة المعاصرين والمعاشرين، فلن نتوصل إلّا إلى القليل النادر من درر ذلك البحر الزاخر لأنّ هذا الوميض الظاهر الحسيس يعجز عن تعبير سر الباطن النفيس، فهل يمكن للعين أن تتذوق كل ما تراه مهما بالغت في النظر والتدقيق.
وهكذا مزايا ومناقب الأولياء الأطهار وحركاتهم وسكناتهم وألفاظهم وأفعالهم تبقى أنوارًا سواطع تخاطب النفوس وتناجي العقول بلغات نورانية ومعانٍ شعشعانية يعجز القلم عن ترجمتها إلى حروف وتسطيرها في أوراق وطروس. ونحن وإنْ كنّا رافقنا سيدنا وشيخنا الشيخ أبا محمد صالح في الربع الأخير من حياته نبقى عاجزين عن تدوين مزاياه ومناقبه إذ كيف ندوّن ما كان يكنّه قلبه من الخضوع والخشوع لمولاه وانشراحه المشعّ لقبول أوامره وما تجنّه روحه الطاهرة من الحب والشوق للقياه. وكيف نسطّر تعابير حزنه لرؤيته الإنجراف في الملاهي والمآثم ومن أين لنا أن ندرك ما ينطوي عليه حلمه الواسع الرحيب وما يكنّه في صدره من صبر واحتمال؟. ومَن يسجل حرارة شوقه وتوقه وهيامه وما هو مفعم به من العطف والمحبة والرفق ولين الجانب، غير إنّه لعظم صدقه وإخلاصه وتوافق باطنه مع ظاهره ترى تعابير وجهه وحركاته وإشاراته كأنّها تنطق بما يريد فيفهمها الناظر إليه قبل أن يتكلم.
حياته
ولد سيدنا الشيخ أبو محمد صالح في بلدة العبادية سنة ١٩١٣م أي قبل الحرب العالمية الأولى بما يقارب السنة وكان والده المرحوم الشيخ أبو علي بشير حسين العنداري من الشباب المجاهدين في طاعة الله تعالى المثابرين على واجباتهم الدينية. ووالدته التقية الفاضلة أم علي زين كريمة الجليل المرحوم الشيخ أبي فارس منصور العنداري. توفي والده وعمره حوالي ثلاث سنوات ثم توفي شقيقاه علي الذي يكبره بما يقارب التسع سنوات ومحمود الذي يكبره بحوالي أربع سنوات. فتربي في كنف والدته الفاضلة وقاسى ووالدته الفقر الشديد وتحمّل من شظف العيش الشيء الكثير على أثر الحرب والمجاعة والمصائب التي ألمّت بالبلاد في ذلك الوقت، فسلك طريق الدين والتقوى محافظًا على الواجبات والفرائض رغم فقره الشديد ومعاناته المعيشية التي أجبرته على القيام بالعمل القاسي لكسب القوت. فتارة يحمل الوقيد إلى الأتون لصنع الكلس وتارة يحمل أعدال القمح في المطحنة وطورًا يتفرغ للحراثة والزراعة ومتطلبات الأرض وهو إلى ذلك لا ينفك محافظًا على واجباته الدينية وطالبًا مجاهدًا في اكتساب العلم الحقيقي مغترفًا من معينه الصافي قائما بحقوقه متنقلًا بين منزل جدي المرحوم الشيخ أبي فارس منصور والمزرعة التي كانت مدرسة دينية في ذلك الوقت.
وعندما بلغ سن الشباب وقع الإختيار على الفاضلة المصونة نجيبة جابر العنداري حفيدة الورع الزاهد المرحوم الشيخ أبي حسين نجم العنداري، فأنجبت له ولدين لبيبة سنة ١٩٣٢م ومحمد سنة ١٩٣٦م. وكانت رحمها الله تعالى زوجة موافقة فاضلة حنونة تربي أولادها على ما يوافق تعاليم الدين وسنّة الرسول، وأمّا هو فكان يواظب على تأدية واجباته الدينية وعمله الذي يكسبه ما يقوم بأود بيته وعائلته ويقيهما غائلة الجوع.
وعلى أثر قيام الحرب العالمية الثانية وانقطاع المصادر الخارجية خيّم شبح المجاعة على البلاد وأصبحت الأعمال قليلة والمكسب صعبًا فكان رحمه الله رغم ضائقته المالية الشديدة لا يقبل من أحد صدقة أو زَكاة، بل كان يحمل ما تيسّر من متاع البيت قاصدًا المدينة ليبيعه ويسدّ بثمنه غائلة الجوع، ولم تكد تلوح تباشير السلام والهدوء حتى فجع بوفاة زوجته سنة ١٩٤٨م وكان لوفاتها فراغ كبير في بيته فحمل هَم تربية أولاده إضافة إلى أعماله الدنيوية وواجباته الدينية، وهكذا وزّع وقته بين العمل والعبادة والتربية والقيام بحقوق إخوانه فكان عاملًا مواظبًا على عمله الشاق وعابدًا ملازمًا للصلاة في أوقاتها قائمًا بمفترضاتها وواجباتها ومربيًا صالحًا قائمًا بحقوق التربية ومتطلباتها.
عاش بقية حياته عيشة بتوليّة رغم ترمّله الباكر ورغم حاجة بيته الذي كان مَوئلًا للضيوف والقصّاد ومنهلًا للعلم والأدب ومرجعًا دينيًا واجتماعيًا إلى سيدة تقوم بشؤونه وتدبيره.
ونشأت ابنته الفاضلة على الديانة والتقوى طائعة راضية مرضية مساعدة لوالدها في تدبير أمور البيت، ولم تتمّ العشرين من عمرها حتى مرضت بمرض السل فصرف جهده لمعالجتها ومعاملتها إلى أن توفاها رحمها الله تعالى سنة ١٩٥٤م مأسوفًا على أخلاقها وديانتها وكان لفقدها صدى أليم في النفوس.
التعاون والتآلف المبارك
وفي العقد الرابع من هذا القرن وما يليه كثر تردد الشاب الفطن النبيه ابن أخ زوجته المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم العنداري عليه ليستفيد منه العلوم الدينية ويعاونه على متطلباته الدنيوية فتحالفا وتآلفا وتعاونا على الواجبات الدينية وأعباء الحياة فكانا يعالجان الأمور معًا ويتعاونان على كل مهّم ومعضل، ويصرفان الأمور مهما عظمت بدراية ورويّة فذاع صيتهما وانتشر خبرهما وقوي عزهما فقصدهما الزوار والضيوف وحطت عندهما الركبان. وقلّما يمر يوم يخلو بيت أحدهما من القصاد والضيوف فكانت أوقاتا مشرقة وأيامًا زاهرة وتجارة رابحة وديارًا عامرة ولمحات صفا بها الزمان وفاح من عبير ريحان الجنان جاد بها الحليم الرحيم الكريم المنان.
انتقاله إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدته
في أواخر الخمسينات نقل المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم سكنه المؤقت إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدة العبادية ليمارس العبادة بوحدة وتقشّف بعيدًا عن ضوضاء الحياة من جهة ، وليمارس الكتابة التي كانت صنعته المفضلة من جهة أخرى، كقول بشر الحافي رضي الله عنه: «غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وخفاء مكانه عنهم»، وفي السنة ذاتها قايض سيدنا الشيخ أبو محمد صالح أملاكه الموجودة في ظهور العبادية في المكان المعروف بالزهّار بعقار في بعلشميه بجوار الشيخ أبي يوسف سليم رغبة منه في البعد عن الضوضاء، وطلبًا للوحدة التي فيها الأسرار الإلهية والإنصراف بكليته إلى العالم العلوي في عالم البهاء والنور. وبدأ بإنشاء مسكن متواضع يكنّه ويَقيه حرّ الشمس وبرد الليل بعيدًا عن كل فضول.
وفي أواخر سنة ١٩٦٠م فجعت البلاد بوفاة الشاب التقي العالم الزاهد المجاهد نفسه حق الجهاد السالك طريق الرشاد والسداد المرحوم الشيخ أبي يوسف سليم تاركًا له الوصاية على أولاده الثلاثة وقد ترك بفقده رحمه الله فراغًا عظيمًا عند إخوان الدين وألمًا ووحشة في قلوب الموحدين وبخاصة عند الشيخ أبي محمد صالح، وكأنّما لسان حاله يقول:
يا سادة في سويدا القلب مسكنهم
وفي منامي أرى أنّي أحادثهم
أوحشتمونا وعزّ الصبر بعدكم
يا من يعزّ علينا أن نفارقهم
حياته في خلوته
تحول منزله الجديد إلى خلوة للعبادة وتنمية الإرتباطات الدينية فكان مقصدًا للمريدين لتلاوة ما تيسر من الكتاب العزيز واستماع الشرح والتفسير والمواعظ والإرشاد والحكم، والتداول بذكر مناقب السلف الصالح الذين كان الشيخ يحث على الإقتداء بمآثرهم الحميدة وآرائهم السديدة، ويتحسر التحسر الشديد على التقصير والإهمال والعجز والكلال عن همم مثل هؤلاء الرجال والرضى بالقعود عن إدراك درجات الكمال. وكان نجله الكريم الشيخ محمد نِعْمَ رفيق وخير مساعد فقد حفظ كتاب الله العزيز عن ظهر قلب وغاص في بحار علومه الواسعة مستخرجًا الدرر الثمينة وشواهد الآيات الكريمة، وزهد في الدنيا وملذاتها وترك شواغلها وارتباطاتها ملازمًا البيت والخلوة والعمل في أرضه المتواضعة التي كانت غلتها القليلة الزهيدة تكفي متطلبات البيت مع كثرة الضيوف. وبارك الله تعالى القليل فجعله كثيرا فنما وزاد وفاض كثير منه في الهدايا والهبات.
توسعت متطلبات الناس من هذا البيت المبارك بكل اتجاهاتها فكان مجلسا لحلقات الذكر والإجتهاد الديني ومقصدًا للقضاء بين الناس وصندوقًا خيريًا للمرضى والمحتاجين بإدارة شيخه الحكيمة. فكان رحمه الله الطبيب المداوي لعلل النفوس وأهوائها، والحكيم المعالج لأسقام القلوب وتشنجاتها، يصف الترياق الواقي من داء الشيطان الخبيث ويعطي الإكسير العجيب المحيي للنفوس المستمد من عين الحياة. كما قال بلوهر الزاهد الحكيم، لا طاقة للبشر أن يبلغوا نهاية معرفة الحكمة إلّا بما تحيا به قلوبهم وعقولهم. فكما ينالون من شعاع الشمس ما تحيا به أبصارهم كذلك ينالون من شعاع الحكمة ويستدلون على ملكوت السموات والأرضين وهو مفتاح الخزائن النفيسة ومراقي الدرجات الرفيعة التي هي عين الحياة، من شرب منها لم يمت أبدًا وهي النور الذي يجلي العمى ولا ظلمة معها.
مسيرته رحمه الله مع الأحداث
كان رحمه الله له الدور الأول في إنهاء الخصومات الجماعية والشخصية وعقد راية الصلح، فقد صرف وقتًا كبيرًا من حياته في إصلاح ذات البين، وكثير من المشاكل المستعصية ما كانت لتحلّ لولا تدخله فكان همّه الأول الوفاق والرضى والمحبة والصفاء في مجتمعه بكل فئاته وتصريف الأمور باللين والتفاهم لا بالعنف والقتال والحث على التغاضي والصفح ورد الأمور إلى الله تعالى لأنّ ما عنده تعالى خير وأبقى. وكان يقول «ما أفضل من الحق إلا ترك الحق في جنب الله تعالى والله سبحانه حاشاه أن يخيّب من ترك حقه لوجهه الكريم»، وكم صرف من ماله الخاص لحل كثير من المشاكل.
أمّا دوره في الأحداث الأخيرة فكان دور دفاع وصمود ومحافظة وعدم التعدي، وقطع الطريق على كل من يحاول التضليل ومن ثم الحفاظ على كرامة المدافعين.
كان رحمه الله يتألم كثيرا من الأحداث الداخلية التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة ابتداء من سنة ١٩٧٥م وسار معها مسيرة سلام ووفاق، وكان ينادي بالتعايش المشترك ورمي الأحقاد وكان يتوجع من ذلك التعدي الذي لا مبرر له مما فرض علينا حمل السلاح الذي لا غاية لنا من ورائه غير الحفاظ على وجودنا والدفاع عن أرضنا التي دافع عنها أسلافنا في جميع الأدوار التي مرت على لبنان، وبنوا فيها مقدساتهم وصانوها بضريبة الدم، فكانوا للفضل والعمران دعاة، وللنجدة أهلا. كان بيته ملجأ للمنقطعين واللاجئين والمصابين وهو بناء متواضع غير محصّن وفي موقع مكشوف مستهدف بقصف العدوان، وكان كل من يدخله يشعر بالأمن والطمأنينة.
وكان رحمه الله يبتهل إلى الله تعالى ويتوسل إليه برسوله الصفي المختار صلوات ربي عليه، وبخاصة في الأيام الشديدة طالبًا منه النصر والتوفيق، وكان يردد دعاء سيدنا المرحوم الشيخ أبي حسين شبلي أبي المنى بقوله:
يا قدرة الحق حلي عقد ما ربطوا وشتتي جمع أعدانا بما ارتبطوا
يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم وكلما علوا في جبرهم هبطوا
هذه بعض المبادئ التي سار عليها في تلك الأحداث الأليمة، وله رحم الله في تفاصيلها مواقف شريفة وآثار حميدة يطول شرحها، ولفطنة القارئ أن يتخيل مواقفه وشعوره الدقيق في كل هذه الأمور.
«ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد»
من إمارات التأييد حفظ التوحيد
ومن آدابه رحمه الله أنّه كان الموحّد المخلص الذي تخلّصت نفسه من درن الشهوات والمآثم فراقت وصفت واستبصرت وفاضت عليها الأنوار الإلهية، وازدادت نفسه نوراً بالإشراق على نورها الذي فطرت عليه.
كان رحمه الله يرى أنّ التوكل على الله سبحانه وتعالى ركن من أركان التوحيد، فالمتوكّل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله سبحانه وتعالى واثق بتدبيره، فيقول: التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين لا يقوى عليه إلا الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا وصحّ لهم ما يتوافق فيه مقتضى التوحيد. فمن أيقن ذلك انطوى ضميره على الرضى بكل ما يجري من الله عز وجلّ. وكذلك كان يرى أنّ اليقين من ثمرة التوحيد فمن أيقن أنّ الأشياء كلها من مسبّب الأسباب فلا يلتفت إلى الوسائط وكان يقول: «لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيّع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلاّ ما قد كتب الله لك».
فالعارف بالله هو الموحّد له، وكان رحمه الله يقول: ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد. وفي تفسير قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» كان يقول: أي ما عظّموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته ليوحدوه حقّ توحيده ويعبدوه حقّ عبادته. ويضيف: «حقّ عبادته أنّه يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر به». وكان يقول: الصالحون يقفون على الحدود ولا يعرفون أسرارها، أمّا العارفون على قدر معرفتهم فيزيدهم الله سبحانه من لدنه علماً فيفيض ذلك العلم من القلب على اللسان وتتأدّب به سائر الجوارح. وكثيراً ما كان يردد هذا القول: «الخلق السمح للعارفين الأوحاد».