السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

زراعة الكاكي

تساقط الثمار قبل النضح أهم أسبابه نقص التغذية وإهمال الري الدوري في فتــــرة الحمل ونمو الثمار

شجرة الكاكي

الجميلــة المنسيـة التـي لا يجـب
أن تخلـو منـها حـديقة بيـت

زراعة الكاكــي تراجعـــت كثيـــراً في لبنان
لضعـــف المردود وصعـــوبة تصنيـــع الفائض

الصيـــن موطنها وأكبـــر مصدر لها في العالـــم
ودول كثيـــرة وطنتـــها قبل قرنيـــن كمنتج اقتصـــادي

تتمتع ثمرة الكاكي(الخرما) الناضجة بجمال خاص وهي تجمع بين لونها البرتقالي اللماع وحجمها الكبير أحياناً ولبّها الطري ومذاقها اللذيذ السكري، وللكاكي أثر منعش على من يتناولها وغالباً ما يطلب المرء المزيد منها بسبب حلاوتها المعتدلة وهي مصدر رئيسي للفيتامين A المهم جداً لصحة النظر ويمكن لثمرة واحدة أن تمد المرء بأكثر من حاجته لهذا الفيتامين طيلة اليوم. لكن إذا كانت للثمرة ميزاتها الكثيرة فإن لشجرة الكاكي ميزات لا تقل أهمية إذ إنها شجرة قوية ونادراً ما تتعرّض للآفات التي تصيب مختلف فصائل الأشجار المثمرة وتجعل العناية بها أمراً مجهداً. وتظهر هذه الميزة خصوصاً في المناطق التي ترتقع عن سطح البحر أكثر من 800 متر إذ إن شجرة الكاكي في تلك المناطق تعتبر منيعة وغير معرّضة للآفات، وإن كانت بعض العصافير وخصوصاً البلابل قد تقبل عليها فتؤثر على الثمار.
لكن لماذا على رغم كل تلك المزايا لا نجد لزراعة الكاكي حضوراً قوياً في لبنان؟ بل إن الاتجاه الغالب في السنوات الأخيرة كان نحو تراجع المساحات المزروعة منها خصوصاً في البقاع وهو المنطقة الأكثر شهرة بزراعة الكاكي بكميات تجارية.
هناك من يقول بأن زراعة الكاكي تراجعت بسبب الإشاعات التي نشرتها الإذاعة الإسرائيلية قبل سنوات من أن ثمار الخرما تسبب السرطان، وهو ما أدى إلى قيام كثير من المزارعين بقطعها، وهذا السبب في تراجع زراعة الخرما مشكوك في صحته رغم البلبلة التي أحدثتها الإذاعة الإسرائيلية فعلاً بنشرها لتلك الأخبار الكاذبة في الوقت الذي كانت تضاعف فيه من حجم إنتاجها لتصبح من الدول المصدرة المهمة لهذه الثمرة. السبب الحقيقي لتراجع الزراعة هو بكل بساطة كونها غير مربحة للمزارعين وبسبب تدني أسعارها خلال الموسم وضآلة مردودها. وأحد أسباب تدني أسعار موسم الخرما هو صعوبة تبريد الثمار وعدم التوصل إلى إمكان تصنيع الإنتاج الفائض كما هو ممكن بالنسبة لثمار مثل المشمش مثلاً أو الكرز أو الدراقن أو غيرها. لذلك فإن على المزارعين تسويق الموسم في وقت قصير وإلا تعرّض إلى التلف. إن نتقص المرونة في طبيعة المحصول مشكلة في سوق صغيرة مثل لبنان ومع تزايد مصاعب تصدير هذه الثمرة التي لا تتحمل كثيراً مصاعب النقل ومشاكله.
وقد تكون شجرة الكاكي ليست الزراعة المثالية للأغراض التجارية لكن مما لا شك فيه أنها شجرة ذات جمال ولثمارها قيمة غذائية عظيمة، لهذا فإنه من المستحسن غرس شجرة أو عدة أشجار منها في حدائق البيوت الجبلية بما يؤمن للأسرة ثماراً شهية ومفيدة وبأقل مجهود على صعيد التكلفة والصيانة.

الصين موطنها الأصلي
تعتبر الصين الموطن الأصلي للكاكي ومنها انتقلت إلى اليابان. ولشجرة الكاكي مكانة رفيعة في الصين وهي المصدِّر الأول لهذه الثمرة في العالم، إذ تفوق صادرات الصين منها صادرات جميع البلدان مجتمعة (راجع الجدول) بل إن للخرما في الإرث الشعبي الصيني مكاناً يكاد يفوق ما لشجرة الأرز في لبنان وقد تفنن رسامو الصين في رسمها وتمجيدها وتصوير محاسنها وخصائصها السحرية.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، نقلت إلى الكثير من دول العالم التي توجد فيها مناطق معتدلة المناخ. تزرع أشجار الكاكي في المناطق الجنوبية الشرقية من قارة آسيا مثل الصين، اليابان، نيوزيلاند، كوريا، الـهـنـد، باكستان، والقارة الاميركية في البرازيل والولايات المتحدة، وتعتبر الكاكي من اهم الأشجار المثمرة التي دخلت الى دول حوض البحر الأبيض المتوسط مثل إيطاليا وفرنسا ومصر وسوريا .

شجرة معمرة ومقاومة
شجرة الكاكي هي من الاشجار المتوسطة الحجم والتي مثل غيرها من أشجار الفاكهة تتعرى من أوراقها في أواخر الخريف ومطلع الشتاء، وتشبه ثمار الكاكي ثمار التفاح الى حدّ ما لكن لونها أشبه بلون البرتقال، وكما قلنا فإن اشجار الخرما لا تحتاج الى مكافحة للآفات كما في الكثير من الاشجار المثمرة خصوصاً على ارتفاع يزيد على 800 متر فوق سطح البحر، و تعتبر شجرة الكاكي من الأشجار المتساقطة الأوراق وأهم أصنافها:
1.هاشيا (Hachiya): ثمارها ذات قشرة ولب برتقاليين، قلبية الشكل وتعقد بكرياً.
2.فيويو (Fuyu): ثمار هذا الصنف لا يظهر فيها الطعم القابض الذي قد نلاحظه في ثمار الخرما غير الناضجة تماماً، اما لحمها فمتماسك وهي تشبه ثمرة البندورة شكلاً وتعقد بكرياً.
3.تاموبان (Tamopan)
4.هياكومي (Hyakume)
تحمل الكاكي أزهاراً مذكرة أو مؤنثة بمعنى أن الزهرة تحتوي على أعضاء التأنيث والتذكير. وتظهر الثمار على أغصان عمرها سنة اي أغصان العام الماضي. وتختلف أصناف الكاكي في طبيعة أزهارها. معظم أشجار أصناف الكاكي المشهورة مثل (الهاشيا) و(تاني ناشي) و(كوستاتا) تحمل أزهاراً مؤنثة سنوياً، تخرج من آباط الأوراق الحديثة وفي بعض الأصناف الاخرى، تحمل أزهاراً مؤنثة ومذكرة سنوياً، ومنها تحمل أزهاراً مؤنثة واخرى أزهاراً مذكرة.
الازهار التي تحتاج التلقيح تحمل بذرة كبيرة كالبلحي أو بذور صغيرة كالأصناف الاخرى.
وهناك اصناف تؤكل عند نضجها وتبقى جامدة لان احتواءها على البكتين عند نضجها ضئيل مثل كاكي الشوكولا.
لكن بالنسبة إلى بقية الأصناف فإن المزارع يلجأ عادة إلى جمع الثمار قبل نضجها في أقفاص ويضع بينها تفاحاً ناضجاً أو كعب قرط موز لكي يساعد ذلك على إنضاج الثمار بحيث تصبح طرية وحلوة المذاق وقابلة للإستهلاك.

زراعة بستان الكاكي سهلة والعناية به أسهل
زراعة بستان الكاكي سهلة والعناية به أسهل

العوامل البيئية
تحتاج الزراعة الناجحة لشجرة الكاكي إلى توافر عوامل بيئية ملائمة أهمها التالي:
المناخ: ان دراسة عامل المناخ يساعدنا على معرفة الانواع التي تعطي مردوداً اقتصادياً جيداً تجنباً من الذي جرى في السابق. فقد اعتقد الكثير من المزارعين ان جميع الأشجار التي ادخلت الى لبنان تنمو في جميع الاراضي وجميع الإرتفاعات، فبادر الكثير منهم لتجربة هذه الاشجارالجديدة. وبعد مرور سنوات، تبيّن لهم ان الزراعة العشوائية لا جدوى منها لانه لا تنمو جميع الأشجار على جميع الارتفاعات وفي جميع الاتربة.
الحرارة: تحتاج اشجار الكاكي الى حرارة معتدلة بحيث تنجح زراعة أصناف الكاكي بشكل تجاري في المناطق الدافئة التي يشبه مناخها مناخ منطقة البحر الأبيض المتوسط، ولا تستطيع الأشجار تحمّل درجة حرارة تقل عن الصفر لأكثر من عشر ساعات لأنها قد تصاب بأضرار بالغة منها موت أو يباس جميع الفروع التي تعطي انتاجاً في الموسم المقبل. وكلما زاد الوقت مع إنخفاض الحرارة كلما امتد موت أجزاء من اشجار الكاكي وصولاً إلى الجذور اي موت الشجرة بكاملها.
البرودة: تحتاج اشجار الكاكي الى البرودة خلال فصل الشتاء من اجل مرحلة السكون والراحة التي تمر بها اي ايقافها عن النمو، فإن الكاكي لا تحتاج لأكثر من ( 100 ساعة ) برودة لا تزيد حرارة الجو فيها على سبع درجات فوق الصفر.
التربة: تعتبر التربة من العوامل الهامة لنجاح زراعة اشجار الكاكي وانتاجها وتأتي في الدرجة الثانية بعد عامل المناخ، وتنمو الكاكي في غالبية الأتربة لكنها تفضل الأراضي الخصبة العميقة والجيدة الصرف.
الامطار: تنجح زراعة اشجار الكاكي في المناطق التي يزيد فيها معدل الامطار على 700 مم سنوياً خصوصاً في الاراضي البعلية، لكنها محبة للمياه خلال فترة نموها ونمو ثمارها.
الضوء: من الضروري، دخول الضوء الى اشجار الكاكي لمساعدتها على تكوين براعم ثمرية من الداخل وبالتالي انتاج الثمار الجيدة من حيث اللون والطعم، لذا يستحسن في التقليم إزالة الاغصان والفروع المتشابكة والمتزاحمة لزيادة المساحة الغذائية المناسبة.

” الكاكي معمرة وقوية ومقاومة لأكثر الآفــــات الزراعية ورشة الكبــــريت والجنزارة الشــــــتوية هي كل ما تحتاجه  “

السبـعة الكبــــار
أكبر الدول المصدرة لثمارالكاكي في العالم
(عام 2011- بالطن)

الصين 3259334
كوريا 390820
اليابان 207500
البرازيل 154625
اذربيجان 146084
اسبانيا 70000
ايطاليا359 50236

 

 

مربى ثمرة الكاكي
مربى ثمرة الكاكي

كيف ننشىء بستان الكاكي
يجب للحصول على بستان كاكي منتج وسليم تنفيذ الأعمال الزراعية التالية:
•نقب الارض: تنقب الارض على عمق حوالي 70 سم ثم تنظف من الأحجار وجذور الاشجار البرية ان وجدت. في المرحلة الثانية، تحرث الارض حراثة متوسطة على عمق 40 سم تقريباً ايضاً لإزالة ما تبقى من حجارة وبقايا النباتات، وأخيراً حراثة سطحية لتسوية سطح التربة وتكسير الكتل الترابية. ملاحظة: ان افضل وقت للنقب هما شهرا آب وأيلول عندما تصبح التربة جافة نوعاً ما اي لا تحتوي إلا القليل من الرطوبة وقبل هطول الأمطار.
•تخطيط الارض: ان طرق التخطيط ترتكز على شكل الأرض من حيث مساحتها والمصاطب او الجلول هذا إذا كانت الأرض منحدرة، اما افضل الأشكال الهندسية لزراعة الأشجار المثمرة هي المثلث والمربع. يتم تخطيط الارض لتحديد موقع النصوب، مما يتيح لنا زرع اكبر عدد ممكن من النصوب وبخاصة بالشكل المثلث، كما إن هذه المسافات بين الخطوط تسمح لنا ايضاً إستخدام الآلات الزراعية مثل جرار الحراثة، والمكافحة…
•المسافات الزراعية: تختلف المسافات بين الأشجار بإختلاف انواع الأراضي او الأتربة وطبيعة التربة وخصوبتها وحسب الاصل الجذري المستخدم. اما المسافات المفضلة بين اشجار الكاكي هي 3,5 أمتار بين الشجرة والشجرة وايضاً بين الصف والصف هذا في الأصناف القليلة النمو مثل هياكومي، اما في الأصناف المعمرة والقوية فإن المسافة بين الشجرة والأخرى قد تصل الى 5 أمتار مثل تاموبان وهاشيا.
•حفر الجور: بعد تحديد أمكنة النصوب، تحفر الجور بعد ان تروى الأرض من امطار شهري تشرين الأول والثاني ويكون عمق الجور لأشجار الخرما حوالي 50 سم وعرض 40 سم ومن المفضل وضع حوالي 2 كلغ من السماد العضوي في الجورة وخلطها مع تراب في قاعها.

زرع الأشجار
يستحسن، قبل الزرع، وضع حوالي 50 غراماً من السوبرفوسفات الثلاثي في قاع الحفرة وخلطه مع التراب لانه يساعد المجموع الجذري على نمو افضل مما يؤدي الى حجم اكبر للاغراس. اما غرس الأشجار في الحفر المهيأة فيجب ان تكون الاغراس مستقيمة وان تكون منطقة الإلتحام (الإتصال) بين الأصل (المطعم عليه) والمطعوم على مستوى سطح التربة حتى نمنع حدوث انبات فروع طفيلية من الأصل اذا كان الطعم يعلو عن سطح التربة، وعدم السماح للطعم من انبات الجذور اذا ما طمرت منطقة الطعم تحت سطح التربة. ويؤدي ذلك الى عدم مقاومتها للأمراض والجفاف وعدم قدرتها على تكوين مجموع جذري كبير.

تكاثر الكاكي
تتكاثر أشجار الخرمة بعدة طرق اهمها: البذرة، الجذور، التطعيم بالقلم، او التطعيم بالرقعة (العين) وهي انجحها. تكون اوقات التطعيم للقلم في اوائل الربيع عند بدء انتفاخ البراعم وسريان العصارة النباتية ويكون التطعيم لسانياً او تاجياً اي ببري المزلوف من جهة واحدة ويدخل بين اللحاء (القشرة) وخشب الشجرة.
أوقات التطعيم بالرقعة تكون في الوقت الذي تنضج فيه البرعمة القشرية والخشبية على الفرع الحديث الذي لا يزيد عمره على الأربعة اشهر اي خلال شهر حزيران، وتنزع البرعمة عن الفرع بتأنٍ وبطول حوالي 2 سم وعرض حوالي 0,5 سم وتوضع في شجيرات الكاكي التي اصبحت بطول 1 متر تقريباً وبعد إحداث حرف (T) وإدخال البرعمة بها وربطها بورق الرز او بتلزيق الكهرباء مع الإنتباه على إبقاء البرعمة ظاهرة.
الري: لا بدّ من وجود مصدر مياه للري لمساعدة الاشجار على اجتياز الحرارة الشديدة في الصيف كما حصل في هذا العام خصوصاً مع بداية نموها. اما افضل وأحدث طرق الري للأشجار المثمرة فهي طريقة التنقيط عبر شبكة من الأنابيب الرئيسية والفرعية التي تساعد على ايصال كمية المياه والسماد الكيماوي بالتساوي الى جميع الأشجار هذا إذا اضطررنا لإستخدام السماد الكيماوي الذواب منعاً من تساقط بعض الثمار.

أهم القيم الغذائية في الخرما

(حبة بوزن 168 غ)

118 % من الحاجة اليومية وحدات حرارية
6غ 24% ألياف
فيتامينات
فيتامين A 55%
فيتامين C 21%
فيتامين E 6%
فيتامين B6 8%
فيتامين K 5%
معادن
منغانيز 30%
بوتاسيوم 8%
مغنيزيوم 4%
نحاس 9%
فوسفور 3%

ثمرة الكاكي لها مقطع نجمي جميل إذا قطعت أفقيا
ثمرة الكاكي لها مقطع نجمي جميل إذا قطعت أفقيا
تجفيف-وحفظ-ثمار-الكاكي-على-الطريقة-الصينية
تجفيف-وحفظ-ثمار-الكاكي-على-الطريقة-الصينية

التقليم
يعتبر التقليم من اهم الاعمال الحقلية لشجرة الكاكي لانه من الاعمال الاساسية لزيادة الانتاج وجودة الثمار وزيادة عمر الشجرة اقتصادياً. ان عملية تقليم الاشجار تساعدنا على التحكم بطبيعة نموها. فإن افضل الاشكال في التقليم هو الكأسي حيث يكون الانتاج من الخارج والداخل ويسمح هذا الشكل بدخول الشمس والضوء. اما تقليم اشجار الكاكي فيختلف عن الكثير من الأشجار لأنه يعطي إنتاجه في النموات الحديثة كما في الكرمة والكيوي الى حدّ ما، لذا يكون تقليم الكاكي مختلفاً، تبدأ عملية التقليم بعد الغرس مباشرة على ارتفاع يتراوح ما بين 50 و70 سم ويفضل ان يكون الساق قصيراً لانه يتعرض للعوامل الطبيعية من حرارة وصقيع. وبنفس الوقت، يجب الانتباه على ان يسمح بمرور الآلات الزراعية من دون تضرر الاغراس. في العام الثاني، ينتخب ثلاثة او اربعة فروع وتقص الفروع المتبقية. اما الفروع المنتخبة، فيقص نصفها العلوي على ان يراعى بقاء البرعم العلوي نحو خارج الشجرة. في العام الثالث هذا التقليم يكون لإدخال الأشجار في مرحلة الإثمار اي يكون التقليم للأفرع الرئيسية وتقصيرها او إزالة نصفها. اما الأفرع المتبقية فتزال الصغيرة والضعيفة مع الإبقاء على فرع او فرعين في الغصن من دون تقليم لتعطي الأزهار ثم الثمار هذا في اعلى الأغصان. ويجب ان نحافظ على الطرود الصغيرة والقصيرة على الأغصان لتعطي الأوراق التي تحمي الأغصان والساق من أشعة الشمس المباشرة إضافة الى إعطائها الثمار. ومع تقدم عمر الاشجار، تزداد عملية التقليم لتنظيم الاثمار للمحافظة على عمر الاشجار والحمل السنوي.
من المهم والضروري جداً في تقليم الاشجار ان نحافظ على استمرار نمو الاشجار نحو الاعلى وان تبقى مستقيمة وليس ملتوية كي يكون ممر العصارة النباتية المشبعة بالمواد الغذائية سهلاً وسريعاً وتصل الى الاوراق وتطبخ وتوزع على جميع اجزاء الشجرة. وكذلك التقليم الاثماري يهدف الى تنظيم الحمل بين الفروع والاغصان ليكون متساوياً نوعاً ما مع الإبقاء على بعض الفروع الثانوية لتكوين براعم ثمرية جديدة.

التسميد
ان اشجار الكاكي تحتاج الى العناصر المعدنية خصوصاً عند مرحلة النمو والإثمار. فإن جميع انواع الاتربة تحتوي على العناصر الضرورية للاشجار بنسب مختلفة وحسب انواعها مثلاً: التربة الطميية اغنى انواع الاتربة والتربة الرملية افقرها. لذا، يستحسن وضع الاسمدة العضوية البلدية المخمرة كالسماد الحيواني واهمها سماد الماعز، سماد الدواجن، سماد البقر، سماد الخيل والغنم.
هذه الاسمدة هي الحاضنة الطبيعية والوحيدة لتكاثر الكائنات الحية الدقيقة التي تفكك وتحلل وتحول المواد الغذائية لامتصاصها من قبل اشجار الكاكي. جميعها غنية بالآزوت (اليوريا) وتلعب دوراً اساسياً في خصوبة التربة وتساعد على تباعد حبيبات التربة الصغيرة مثل الاتربة الطينية والثقيلة وتقرب الحبيبات الكبيرة كما في الاتربة الرملية لتسهيل مرور الجذور بينها، كما إنها تساعد التربة على الحفاظ على الرطوبة لوقت اطول وتجديد جذور الاشجار وزيادة عمرها الاقتصادي واكتسابها مناعة لابأس بها ضد الجفاف والآفات التي تعتريها.

آفات الكاكي
اشجار الكاكي من الأشجار القليلة التي تقاوم الآفات الزراعية، فتمتاز بمناعتها ضد الأمراض والحشرات والعناكب. ففي لبنان لا تحتاج اشجار الكاكي الى المكافحة كما في الأشجار الأخرى لأنها لا تصاب إلا بمرض واحد «التبقع» وهو مرض يسببه فطر لا يظهر على الأشجار في كل سنة. اما إذا أصيبت الأشجار بهذا المرض، فمن السهل مكافحته لأن افضل الأدوية لهذا المرض هما: الجنزارة والكبريت الغروي، ولزوم 20 لتر مياه 150 غراماً جنزارة و100 غرام كبريت غروي تذاب جيداً في وعاء خاص ( سطل ) ثم تفرغ في المرشة وترش على أشجار الكاكي وهي في مرحلة تعريتها من الأوراق وفي مرحلة بدء سريان العصارة النباتية وانتفاخ البراعم في بداية فصل الربيع تقريباً، وترش مرة ثانية في حال ظهور المرض على الأوراق في مرحلة النمو بالكبريت الغروي فقط وبمعدل 50 غراماً لـ 20 لتر مياه.
تساقط الثمار: إن تساقط الثمار لا تسببه آفة، ولكن هي عملية طبيعية، فإن أشجار الكاكي تفرد نفسها بنفسها طبيعياً، لأنها لا تستطيع ان تحمل وتكبّر جميع الثمار التي تعقد الى مرحلة النضج، إضافة الى تحويل المواد البكتينية ( العفصية ) الى سكريات وفيتامينات. هناك عاملان يساهمان في تساقط الثمار أيضا: الأول نقص المياه فإذا كانت كمية الرطوبة في التربة قليلة، تؤدي الى تساقط بعض الثمار وخاصة إذا كانت الأشجار مزروعة في أراض خفيفة ومعرّضة للجفاف مثل التربة الرملية. ثانياً نقص التغذية، فإذا كانت كمية المواد الغذائية ضئيلة جداً في التربة المزروعة فيها أشجار الكاكي تؤدي الى تساقط بعض الثمار واصفرار في الأوراق خصوصاً النقص من العناصر الغذائية الصغرى كالحديد، البور، المغنيزيوم، والكالسيوم إضافة الى العنصر الرئيسي الفوسفور.
الطيور: لا تؤثر الطيور اقتصادياً على ثمار الكاكي في لبنان، لأن الطيور كما الإنسان لا تأكل ثمار الكاكي الا بعد نضجها وتصبح حلوة المذاق، كالبلبل،… كما إن ثمار الكاكي لا تترك على الاشجار لتكمل عملية النضج بل تقطف فجة (عجرة).
جني الانتاج: تقطف ثمار الكاكي عند مرحلة النضج اي عندما يصبح لون الثمار بلون البرتقال الفاتح وهذا يساعد الثمار على تحمل اعمال التوضيب والنقل. وعند قطاف ثمار الكاكي يجب الانتباه لعدم الضغط على الثمار باليدين لانه يؤدي الى تلفها بعد القطاف بوقت قصير، وعدم جرح الثمار عند القطف. يجب قطاف الثمار مع العنق الذي يحملها وبرفعها الى الاعلى تنفصل عند نقطة الإلتحام بالغصن مع الانتباه الى البراعم الاخرى التي يعتمد على انتاجها السنة القادمة.

“لا تنس تقديم الغذاء العضوي الوفير لها واروها جيداً لتحصــل على أكبر الثمار”

رزنامة الزراعات الربيعية

إزرع حقلك بعقلك

دليلك إلى زراعة خضار الصيف

في ســــــــــؤالاً و جــــــــــواباً

إزرع خضارك ولو على قطعة أرض صغيرة أو على سطح المنزل
أو تبقى مرتهناً بخضار السوق المحشوة بالمبيدات والهرمونات

الري بالتنقيط عملية سهلة توفر الكثير من الوقت
وتخفف استهلاك المياه وتعطي نتائج أفضل للخضار

السماد العضوي المختمر هو الأفصل على الإطلاق
وأهم مصادره الماعز والدجاج المنزلي المغذّى طبيعياً

«الضحى» التي جعلت هدفها منذ العدد الأول إعلاء مكانة الزراعة والحث على أساليب العيش الطبيعية والصحية تقدّم في هذا العدد دليلاً مفصلاً لكل مهتم بالتحضير لخضار الصيف في حديقة المنزل أو على نطاق أوسع وربما تجاري. وهذا الدليل مهم كما سنلاحظ لأن الزراعة علم ولا بد فيها من اتباع قواعد معينة للنجاح، وكثير من المزارعين الذين ينعون أحياناً فشل موسم البندورة أو تلف البستان بسبب الأمراض أو ضعف الإنتاجية يجب أن يلوموا أنفسهم وليس الأرض أو الطبيعة لأن الأرجح هو أنهم لم يتبعوا الأسلوب العلمي واتكلوا على نصيحة من هنا أو هناك أو اعتمدوا على القليل الذي يعرفونه وقد يكون خاطئاً من الأساس، ويجب أن ندرك أنه في الزراعة إذا كان لديك المياه وإذا كانت التربة خصبة فإن في إمكانك أن تضمن الحصول على موسم وفير لكن دائماً إذا اتبعت القواعد العلمية.
كيف نطبق هذه المبادئ ونجعل من أنفسنا مزارعين منزليين أو نحول الأسرة كلها إلى الاهتمام بالارض والحديقة وخضارها؟ هل النجاح في زراعة البستان صعبة أم يمكن اكتسابها تدريجياً؟
كثيرون ربما يتهيبون الأمر وليست لديهم الثقة في أنهم سينجحون وسيجنون بالفعل محصولاً جيداً. ومن أجل كسر حاجز الخوف وتبسيط الأمور وعرض المبادئ العلمية بأسلوب يفهمه الجميع تقدّم «الضحى» في ما يلي دليلاً مفصلاً حول زراعة بستان الخضار الربيعية والصيفية وذلك على شكل 12 سؤالاً وجواباً على الشكل التالي:

السؤال 1: لماذا يجب أن أتولى زراعة الخضار الصيفية في بستاني؟ أليس من الاسهل شراؤها من دكان الحي؟
الجواب: لا يوجد في الحقيقة أي محل خضار أو بقالة ينتج بضاعته بنفسه فهم يشترون من سوق الجملة ومن هذا السوق تأتي إليه البضائع يومياً من مختلف المناطق ومن المستحيل إلا في حالات قليلة أن تعرف مصدر البضاعة، وحتى لو عرفتها لن يكون في إمكانك أن تعرف كيف تمت معاملتها ونوع المبيدات السامة التي استخدمت في رشها وهل تم قطافها بعد فترة التحريم التي تحظر تناول الخضار قبل مضي مدة معينة أم ضمنها، إلى آخر ما هنالك من محاذير. من أجل زيادة الإيضاح نذكر حادثة حصلت في قرية في الشوف، إذ دعا أحد المزارعين أصدقاءه إلى غداء في الحديقة ومد على شرفهم طاولة عامرة وحدث أن رأى أحد الضيوف بستاناً للبندورة مثقلاً بالثمار الكبيرة فتوجه ليقطف منها، فما كان من المضيف إلا أن أسرع نحوه وحذره بالقول: لا تقطف من هذه!! وقد تعجب الضيف لكن المضيف أوضح له : «هذه البندورة للسوق وليست للأكل» وسآتيكم بعد قليل ببندورة من عندي. شرح الضيف بعد ذلك كيف يروي البندورة من خزانات يتم فيها خلط المواد الكيماوية والهرمونات والمبيدات ويتم ريها بالمحلول بواسطة التنقيط الأمر الذي يفسر مسارعة المضيف لتحذير ضيفه من تناولها!!
التعليق: هذا يحدث في قرية في الشوف وليس في آخر الدنيا! والرجل عندما يقول «هذه البندورة للسوق» فما الذي يعنيه بـ «السوق»؟ إنه يعني محلات الخضار ربما في القرية نفسها أو في القرى المجاورة أو على الطريق العام، أي أنه يعني المستهلك من أبناء المنطقة. وهو يمنع ضيوفه من استهلاك خضاره خوفاً عليهم لكنه لا يتورع عن إرسال البضاعة نفسها إلى محلات القرية أو جوارها أي إلى أهله واقاربه وأصدقائه الذين سيأتون الدكان لشراء بندورته المحرمة.
هل يعتقد أحد أن هذا المزارع حالة معزولة؟ بالتأكيد لا فالمزارعون جميعاً أصبحوا يريدون تحقيق أكبر ربح ممكن وبأي طريقة، وهم تعلموا من بعضهم كيف يحشون الخضار بالكيماويات والهرمونات ويحمونها بالمبيدات السامة. هذه هي على الأرجح حال الأكثرية من الخضار التي تأتي من سوق الجملة، وقد تكون بعض الخضار التي تأتي من منتج مستقل أو صغير أفضل حالاً لأنه لا يملك التقنيات والخبرات المستخدمة في الزراعات الواسعة، لكنها لن تختلف إلا بدرجة محدودة وفي جميع الحالات فإن المشكلة تبقى في أن المستهلك لا يعرف ماذا يأكل وماذا يقدّم لأطفاله وأسرته.
لا بديل إذاً عن أن تزرع حقلك بعقلك كما يقال لأن ذلك بات الشرط الأساسي لحماية صحتك وصحة أسرتك من السرطان ومن الأمراض المعوية والمعدية الكثيرة. إن زراعة بستان الخضار قرب المنزل هو بوليصة تأمين على الصحة بكل معنى الكلمة. لكن لزراعة الخضار المنزلية فائدة صحية ثانية لا تقل أهمية وهي أن العمل في البستان وفي الزرع والعناية بالشتول ومكافحة الآفات هو في حد ذاته رياضة جسدية وروحية وهو يدخل البهجة في النفس ويساعد على التخلص من هموم الحضارة المادية الضاغطة. والزراعة يمكن بهذا المعنى أن تكون جزءاً من روتين يومي قد لا يتطلب إلا بعض الوقت في نهاية الأسبوع وربما نصف ساعة أو ساعة بين الحين والآخر في متابعة البستان وحاجاته. ونحن ننصح بأن يتم تعريف الأطفال بالزرع وأن يغرس في نفوسهم حب الارض وأن يدربوا على العمل ويشاركوا في القطاف لكي يحسوا بالمتعة فيدخل حب الارض في قلبهم وهم صغار.
العمل في بستان الخضار يمكن ان يكون أيضاً مصدر اكتشاف دائم لأن الزراعة علم وثقافة ومن لا يزرع حقله بيده لن يمكنه أن يكتسب علم الأرض وأن يصبح مزارعاً ويحصّل الخبرة تدريجياً، والخبرة تحررنا من الارتهان للدكان وقد أصبحنا جميعاً رهائن الدكان رغم أننا محاطون بالطبيعة وبالأرض التي عمل عليها أبناؤنا وأكلوا من ثمارها، لكن أصبحنا لا نحب القيام بجهد وبات التلفزيون والسهر أكثر أهمية لنا من استنشاق أوكسيجين الطبيعة وتأمل عجيبة الخلق في متابعة نمو الشتول ونموها ثم قطف الجنى الكثير الذي تقدمه. وإذا بقينا على إهمالنا فسنبقى أسارى السوق وقد يداهمنا المرض ومصائبه.

” الزراعة البعلية طريقتها سهلة وهي تعطي نباتات مقاومة للآفات وثماراً لذيذة قابلة للحفظ لمدة أطـول  “

السؤال 2: كم أحتاج من الأرض لكي انشئ بستاناً، إذ ليست لدي أرض كافية؟
جواب:دونم واحد أو حتى نصف دونم (500 م2) أكثر من كاف لزرع كل شيء، وإذا لم يكن لديك هذه المساحة ازرع أي قطعة أرض متوافرة مهما صغرت، ولو كانت جلاً واحداً إزرعها، وعندها عليك أن تقرر أي أنواع الخضار هي الأهم بالنسبة لك أو لأسرتك ويجب أن تعطيها الأولوية. ازرع النعناع والبقدونس والبصل الأخضر وخمس أو عشر شتلات بندورة وربما خمس شتلات مقتي أو خيار وستكون لديك خضار الصيف الأساسية. حتى لو لم تكن لديك الأرض لكن لديك سطح المنزل حوِّل السطح إلى حديقة مصغرة من خلال بناء أحواض. أعرف جاراً لنا كان سطح منزله أشبه بحديقة وكان يزرع خضاره في أحواض بسيطة بناها حول محيط سطح المنزل وكان مكتفياً فعلاً بل كان لديه فائض.

بستان-شمام-يتم-ريّه-بنظام-التنقيط-وقد-مُدّت-الأنابيب-تحت-الشتلات
بستان-شمام-يتم-ريّه-بنظام-التنقيط-وقد-مُدّت-الأنابيب-تحت-الشتلات

السؤال 3. كيف أجهز الأرض لزراعة خضار الصيف؟
الأمر ليس معقداً . إذا كان في متناولك عزاقة أو فرامة وإذا كانت الأرض خصبة يمكنك أن تقلب التربة بالفرامة من أجل نزع الحشائش وتمهيد الأرض. إذا كنت شاباً وترغب في أن تكسب بعض اللياقة البدنية من زرع الخضار تناول الشوكة وانكش التربة بنفسك ولو على مراحل إلى أن يصبح الجل جاهزاً.
متطلبات بيئية: من المفضل الإبتعاد عن الأراضي التي تجمع مياه الأمطار في فصل الشتاء وتستمر في الرطوبة الزائدة خلال فصل الربيع مما يعيق العمليات الزراعية ويؤخر مواعيد الزرع وبالتالي الإنتاج ويخفض المحصول. ويجب أن يكون موقع الأرض مكشوفاً ومعرضاً للشمس على درجة كافية لأن الأماكن الظليلة كما في الأودية تكون أكثر رطوبة ولا تصلها الشمس بصورة كافية خلال النهار وهذان العاملان يخفضان المحصول ونسبة العقد في الإزهار كما يؤديان الى تكاثر وإنتشار الأمراض التي تصيب الخضار من جذورها حتى ثمارها.
الدورة الزراعية: هناك قاعدة مهمة عند تقسيم الارض وتعيين أوجه استعمال كل جزء منها وهو تجنب زرع الصنف نفسه في ذات المكان وإلا فستحصل على إنتاج ضعيف أو تتسبب بحصول الآفات للمحصول، أو سيكون عليك استخدام الأسمدة بوفرة وربما المبيدات لأن الشتول ستضعف مناعتها. هذا المبدأ يسمى بـ «الدورة الزراعية» وهو يقضي أن تبدل مكان صنف الخضار فلا تعود إلى زرعه في المكان نفسه إلا بعد سنتين، وهذا الأمر لا ينطبق فقط على صنف بعينه بل على فصيلة كاملة مثل الباذنجانيات التي تضم الباذنجان والبندورة والبطاطا والفليفلة وهذا يعني أنه في المكان التي تكون قد زرعت فيه البندورة لا يمكنك ليس فقط زرع البندورة بل يفضل أيضاً عدم زرع البطاطا أوالباذنجان أوالفليفلة لأن هذه كلهامن فصيلة واحدة وتحتاج للعناصر الغذائية نفسها، ولهذا وإن لم تكن ذاكرتك قوية فإنه من الأفضل أن تحتفظ بسجل تدوّن فيه أماكن زرع كل نوع من الخضار في موسم سنة معينة بحيث يمكنك العودة إليه في الموسم التالي لتعيّن أين يمكنك زرع هذا الصنف من الخضار أو غيره لكي تكون متبعاً لقاعدة المداورة أو الدورة الزراعية.
أهمية عامل الحرارة: تختلف الخضار في أمور عديدة ومن هذه الأمور تأثر نموها وعقد الإزهار ومحصول الثمار سلباً أم إيجاباً بمعدلات الحرارة . فمن الخضار ما ينمو بصورة مثالية في حرارة معتدلة أو أعلى نسبياً، ومن هذه الخضار تلك التي تعطي ثمارها في فصل الصيف مثل البندورة والكوسا والخيار، ومنها ما يحتاج حرارة معتدلة الى باردة نسبياً، مثل البطاطا والملفوف واللذين يفضلان معدلات تتراوح ما بين 15 و33 درجة مئوية. أما الحرارة التي تزيد على 33 درجة مئوية فإنها توقف نمو النباتات وتمنع عقد إزهارها كما ان إنخفاض الحرارة عن المعدل المطلوب يؤدي الى انخفاض المردود الإقتصادي لهذه الزراعة.

بذور-خيار-مهجنة-لا-يمكن-زرعها-إلا-لموسم-واحد--لاحظ-أن-الظرف-يحتوي-على-30-بذرة-فقط
بذور-خيار-مهجنة-لا-يمكن-زرعها-إلا-لموسم-واحد–لاحظ-  أن-الظرف-يحتوي-على-30-بذرة-فقط

السؤال 4. كيف أحضر الشتول اللازمة للموسم ؟
أصبح الكثير من المزارعين يعتمدون على شراء الشتول من السوق، وهذا حل سهل ويمكن الأخذ به إذا كنت لست خبيراً بتأصيل البذور ولا تريد تحمل عناء تكثير الشتول في بستانك. إذا كنت راغباً في استنبات الشتول بنفسك (وهذا هو الحل الأفضل) فيمكنك القيام بذلك بأكثر من طريقة.
الطريقة الأسرع والأفضل هي أن تشتري البذور الجاهزة التي تباع كمظاريف وهي عادة من مصادر موثوقة ومستوردة من الخارج. لكن تأكد من أن البذور ليست مهجنة ولموسم واحد. وعادة يمكن التأكد من ذلك إذا لم تجد على الظرف الرمز: F1 والقانون في أوروبا يفرض على شركة البذور أن تضع هذا الرمز في حال كانت البذور لموسم واحد. إذا كان الأمر لا يزعجك فلا بأس لكن يجب أن تعلم أنه سيكون عليك أن تشتري البذور نفسها في العام المقبل لأنه لن يمكنك الاحتفاظ بها من محصولك لانها لن تنبت جيداً. في بعض الحالات فإن الظرف نفسه قد يبقى منه بذور يمكن استخدامها في السنة التالية فاحتفظ بما تبقى من البذور في مكان مخصص لحفظ بذور الموسم ولا تهدرها أو ترميها.
استخدام بذورة السنة السابقة: يمكن عادة استخدام بذور السنة السابقة لزرع المشاتل وهذا ينطبق بصورة خاصة على البندورة البلدية والعمانية وهذه لم يتم تهجينها بعد ويجب أخذ البذور من الفروع السفلى القريبة من الجذع لأنها تنتج شتولاً قوية ومحصولاً أفضل. ويمكن الاحتفاظ ببذور المقتي البلدي والشمام والبطيخ (عندما لا تكون البذور الأصلية مهجنة أي لموسم واحد)، لكن مع الأسف الكثير من البذور أصبحت بصورة عامة مهجنة ويجب شراؤها كل سنة من محل المستلزمات الزراعية.

بذور-الفليفلة-تحتاج-20-يوما-أو-أكثر-لتنبت
بذور-الفليفلة-تحتاج-20-يوما-أو-أكثر-لتنبت

لسؤال 5: هل أزرع البذور في أكواب تورب أم ألقيها في التربة مباشرة؟
جواب: يتوقف ذلك على نوع الشتول
بالنسبة لمساكب البقدونس والرشاد أو الروكا أو السلق أو الهندباء أو غيرها من الخضار الورقية يمكن إلقاء البذور في المساكب المجهزة بعد تسميد تربتها وستجد أن الخضار قد نبتت في مدة قصيرة نسبياً، واظب على ري المساكب بصورة معتدلة إلى أن تصل إلى مرحلة النمو المطلوب وعندها يمكنك البدء بقطف الأوراق واستخدامها في السلطات أو في الطبخ.
بالنسبة لشتول البندورة والباذنجان والفليفلة يمكن صنع المشتل باستخدام بقعة صغيرة يتم تحضير تربتها جيداً وتسميدها عضوياً وتلقى البذور في التربة ويتم ريّها رياً خفيفاً إلى أن تنبت وتصبح شتلات جاهزة للنقل إلى الأثلام. لكن من الأفضل أن تزرع البذور في أكواب بقطر 8 إلى 10 سم مملوءة بالتربة الخفيفة أو بالتورب أو بخليط من الإثنين. لكن يجب الانتباه إلى أن بذور الباذنجان والفليفلة تأخذ وقتاً طويلاً ربما 20 يوماً لكي تنبت فلا تقنط وترمي بالأكواب معتقداً أن البذور غير صالحة، فقط اصبر وواظب على ترطيب وري الأكواب وستفاجأ في يوم بالنبتات الصغيرة تخرج من تحت التربة. إن إحدى ميزات الزرع بالأكواب هي أنه في إمكانك في الوقت المناسب نقل الشتلات إلى الأثلام دون الحاجة إلى تظليلها وحمايتها من الشمس لأن الشتلات تمتلك جذوراً ماصة قوية ويمكن أن تتابع النمو في التربة الجديدة من دون أي عناء. ويمكن في مرحة إنبات البذور تغطية الأكواب في البدء بقطعة من النايلون بهدف حفظ الرطوبة وزيادة الحرارة، الأمر الذي يسرّع الإنبات.
اما الشتول التي تقلع من المشاتل (المساكب في الأرض او الصناديق) لتزرع في الحقل فإنها تفقد قسماً كبيراً من جذورها الماصة مما يؤدي الى تأخير عودتها إلى النمو مدة أسبوع على الأقل وذلك لأنها تحتاج إلى تكوين جذور ماصة جديدة تعوض ما خسرته في عملية القلع، لهذا تحتاج هذه الشتول الى تظليل بعد الزرع مباشرة حماية لها من الشمس إلى أن تكون قد ثبتت جذورها وأصبحت قادرة على أن تعتني بنفسها ومن الأفضل أن تختار يوماً بارداً أو غائماً لإنجاز عملية القلع ونقل الشتول إلى مكانها في الأثلام، كما يمكنك من أجل تخفيف خسارة الجذور الماصة استخدام منكوش في قلع الشتول مع محاولة الحصول على الشتلة وعلى التربة التي تحيط بها وضمنها الجذور الماصّة، وعندها فإن الشتلة ستكون أقوى احتمالاً عند نقلها إلى مكانها الثابت لكن ينصح دائماً بالتظليل بضعة أيام.

رمد-أوراق-الخضار-قاتل-لكن-يمكن-الوقاية-منه-بالتعفير-بالكبريت-الأصفر
رمد-أوراق-الخضار-قاتل-لكن-يمكن-الوقاية-منه-بالتعفير-بالكبريت-الأصفر

ألفبــاء الزراعة البعلية

الزراعة البعلية تقنية عظيمة الفائدة اقتصادياً وصحياً وقد أتقنها أجدادنا يوم لم تكن هناك شبكات مياه وكانت عين الضيعة هي المصدر العزيز في بعض الحالات.
لكن توافر المياه بسبب التقدم الاقتصادي جعلنا نعتمد بصورة متزايدة على الزراعة التقليدية وننسى طريقة الزراعة البعلية وننسى ايضاً الفوائد الكبيرة للزراعة البعلية وخصوصاً مقاومة الخضار البعلية للآفات وإمكان حفظها لمدة أطول وأخيراً طعمها اللذيذ والغني وفوائدها الصحية.
هناك مجموعة من النباتات تنمو بعلاً وتعطي انتاجاً غنياً بالمواد الغذائية والفيتامينات والمواد المعدنية الضرورية لجسم الانسان. اهم هذه النباتات التي يمكن إنتاجها بعلاً أي من دون الحاجة إلى الري هي البندورة والمقتي والشمام والبطيخ، أما الطريقة فهي كالتالي:
– حراثة عميقة بواسطة السكة على عمق 45 سم تقريباً ثم حراثة سطحية بواسطة الفرامة على عمق حوالي 15سم لتنعيم سطح الارض وتكسير الكتل الترابية.
– حفر جور بقطر 50 × 50 وعمق 50 سم او خنادق بأطوال مختلفة عرض 50 سم وعمق 50 سم ووضع السماد العضوي المخمر فيها وخلطه مع تراب قاعها.
– يجب زراعة هذه الجور او الخنادق في وقت أبكر بحوالي 3 اسابيع، اذا سمحت الظروف المناخية ويجب ري الجور مباشرة ثم تروى بعد اسبوع وتترك لمدة اسبوعين على الاقل، وبعد ذلك يطمر ساق النبات بارتفاع حوالي 15 سم بالتراب المخلوط بالقليل من السماد العضوي المخمر ثم تروى وتترك لمدة 4 اسابيع ليعاد طمر ساقها كما في المرة السابقة وتروى.
بعد اسبوعين تطمر بالتراب من دون سماد أو ري..

” يجب عدم ترك الشتول المستنبتة في الكبايات لأكثر من اسبوعين لأنها ستضعف وتصبح عاجزة عن النمو في التربة كما يجب  “

الكوسا والمقتي واليقطين ..
النباتات التي تكون بذورها كبيرة نوعاً ما مثل الكوسا، اللوبياء، الفاصوليا، الخيار، اليقطين، المقتي، البطيخ، الشمام، لا تحتاج إلى بذرها في اوان خاصة ومن الأفضل أن تزرع في الأرض مباشرة في حفر مخصصة يتم تسميدها بعناية لأنها سريعة الإنبات خصوصاً إذا كان الطقس ملائماً مثل المناطق المتوسطة الى الساحلية. أما في المناطق الجبلية العالية فيستحسن ولتسريع عملية الإنتاج إستخدام مستوعبات البلاستيك من حجم متوسط (قطر 8-10 سنتم) لتتسع لكمية أكبر من التراب وتسمح بتكوين كتلة جذور كثيفة ومتفرعة، لكن يجب الانتباه لعدم ترك الشتول في الصواني والكبايات لأكثر من اسبوعين خصوصاً النباتات ذات البذور الكبيرة، لأنه اذا تركت في الكبايات تضعف وتصبح غير قادرة على الإستمرار لأنها تكون قد استهلكت جميع المواد الغذائية المتواجدة في تربة المستوعب البلاستيكي..

الملفوف والبروكولي والقنبيط
هذه الخضار يفضل زرع بذورها في التربة والانتظار حتى تكبر الشتول حتى حجم معين قبل نقلها إلى مكانها لأن جذور الملفوف والبروكولي والكرنب والقنبيط قوية وتحب النزول في التربة، وهناك بذور يفضل غرسها في مكانها وعدم نقلها مثل الفاصوليا واللوبياء لأن جذورها وتدية تنزل عمودياً في التربة ولا تحب الأكواب.

المكافحة-بالسم-تقتل-النحل-وأهم-الأعداء-الطبيعيين-للآفات----هنا-إم-علي-سيري-تقتات-على-المن-الضار-بالخضار
المكافحة-بالسم-تقتل-النحل-وأهم-الأعداء-الطبيعيين-للآفات—-هنا-إم-علي-سيري-تقتات-على-المن-الضار-بالخضار

السؤال 6: ما هو التوقيت الأمثل للبذار ثم لغرس الشتول؟
أوقات زراعة المشاتل اي ( تنزيل البذور في المساكب او الأواني الخاصة ) تختلف بحسب ارتفاع المنطقة عن سطح البحر. ففي المناطق المنخفضة نسبياً (تحت 700 متر) تزرع البذور خلال شهر شباط فإذا زرعت البذور في تراب الحقل تبذر في اوائل شباط، اما اذا كانت المساكب مخلوطة مع السماد العضوي المخمر او المصنع مثل الدوبالين فتزرع البذور في منتصف شباط، وإذا اراد المزارع زرع البذور في تراب جاهز ( التورب ) يكون في اواخر شباط لأن التورب يسهل عملية الإنبات وبسرعة أكثر من التربة الحقلية.
في المناطق المرتفعة التي تعلو أكثر من 700 م عن سطح البحر وقد تصل إلى 1200 متر أو أكثر يبدأ البذر من أوائل شهر آذار وحتى نهايته حسب الإرتفاع عن سطح البحر وحسب انواع التراب المستخدم كما في الفقرة السابقة. فالبذر في التربة يجب أن يبدأ باكراً بينما يمكن تأخير إنزال البذور قليلاً عند استخدام التورب والدوبالين والمخصبات لأنها توفّر بيئة ملائمة للإنبات السريع. لا تستعجل الموسم فتحاول أن تسبق الطبيعة لأن هبوب بعض الرياح الباردة أو سقوط الحرارة فجأة في بعض ليالي شباط أو آذار قد يؤذي الشتول ويسبب تلفها.
بعض البذور تصبح شتولاً جاهزة للزرع في الأرض بعد بذرها بشهر مثل الخس، الملفوف، القنبيط، والبروكولي وبعضها قد يستغرق نمو شتوله شهراً ونصف الشهر مثل البندورة، أما الفليفلة والباذنجان فيحتاجان الى نحو الشهرين..

السؤال 7: هل التسميد ضروري؟ وما هي الطريقة المتبعة؟
إذا كان في متناولك سماد عضوي أقلب التربة مع سماد عضوي لكن انتبه إلى سماد الماعز لأنه ما لم يكن متخمراً (نكوب) فسيؤدي إلى نموّ الكثير من الحشائش حول خضارك وسيزيد ذلك من عبء التعشيب. إذا كنت لا ترغب في أن تنتهي إلى هذه الحال اشتر السماد العضوي المعقم من شركة الأدوات والأسمدة الزراعية وهو مستورد عادة من أوروبا ويزن الكيس منه 25 كلغ ويكلف عادة ما بين 16 و18 ألف ليرة وهذا السماد الذي يأتي على شكل حبيبات جيد ومعقم ولا ينتج عنه ظهور أي أعشاب أو تشجيع نمو الحشرات. لكن الأرض نفسها فيها بذور أعشاب وهذه ستظهر لا محالة لكن من السهل تعشيبها ونزعها من حول الشتول عندما تكون في بدايتها، والتعشيب أسهل بعد ريّ المساكب أو الأثلام بالمياه بيوم أو يومين.
تحتاج الخضار الى كميات متفاوتة من الأسمدة العضوية والكيماوية. بشكل عام، كلما كان حجم وتفرع وعدد الأوراق أكبر، تحتاج الى عناصر غذائية أكثر وتتفاوت حاجة النباتات الى هذه العناصر في مراحل نموها وحسب إنتاجها. فالنباتات الورقية مثل البقدونس، الخس، الرشاد،. تحتاج الى عنصر الآزوت أكثر من الفوسفات والبوطاس، كما إن الخضار التي تعطي ثماراً مثل البندورة والبطيخ والبطاطا، تحتاج الى الآزوت أكثر من غيره في مراحل النمو الأولى وتحتاج الى الفوسفات أكثر في مرحلة الإزهار والى البوطاس في مرحلة نمو الثمار والدرنات لزيادة حجمها ونضجها.
المشكلة أن العديد من المزارعين يفرطون في استخدام الأسمدة الكيماوية للخضار اعتقاداً منهم أن ذلك يحسن الإنتاج، لكن السماد الكيماوي يجب استخدامه بمعدلات قليلة ومن الأفضل مع إضافة السماد العضوي للحفاظ على صحة التربة وعدم إفقارها من المواد العضوية والبكتيريا النافعة. على العكس من ظن المزارع، فإن الإفراط في التسميد الكيماوي يؤدي الى تراجع الخضار عن المقاومة الذاتية للآفات الزراعية وترسبه في الثمار وتلفها في وقت قصير ويضر بالصحة ويؤدي الى ضعف المناعة وزيادة نسبة الاصابة بالامراض القلبية والسرطانية، كما إن السماد الكيماوي يترسب في التربة كأملاح معدنية ويؤدي الى قتل الكثير من الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة، وهي التي تساعد النباتات على امتصاص العناصر الغذائية مع الماء بعد تفكيكها وتحليلها وتحويلها كغذاء صالح للإمتصاص من قبل الجذور. وإذا بقي المزارع مصراً على استخدام السماد الكيماوي فإن عليه أن يعلم أن اقصى حاجات الخضار الموسمية غير المعمرة من السماد الكيماوي الذواب مثل (20-20-20 + عناصر صغرى) هي حوالي 25 غراماً في الشهر (ما يعادل نصف فنجان قهوة).
اما السماد الحيواني العضوي المخمر خصوصاً الماعز والدجاج البلدي الذي يعتمد في غذائه على المواد التي لا تدخل فيها المركبات العلفية والكيماوية، فإنه من اهم المواد التي تضاف الى التربة وهو يلعب دوراً هاماً في تحسين خواص التربة ويساعد في الحفاظ على الرطوبة والحرارة، وله دور أساسي في تكاثر الكائنات الحية الدقيقة في التربة التي تساعد على تفكيك وتحليل وتحويل المواد الغذائية للنبات، إضافة الى إحتوائها على نسبة لا يستهان بها من العناصر الغذائية خصوصاً العناصر الكبرى منها. وتحتوي الأسمدة الحيوانية المأخوذة من روث الماعز والخيل والغنم على الآزوت اكثر من البوطاس والفوسفات. أما سماد الدجاج، فيحتوي على عنصر الفوسفات اكثر من العناصر الأخرى. يبقى عنصر البوطاسيوم فإنه متوفر في رماد الحطب لكن يستحسن ان يوضع مستقلاً وليس مع الأسمدة الحيوانية لأنه يتأكسد ويفقد السماد قيمته الغذائية، ونحن لم نأت عمداً على ذكر سماد الأبقار لأن أكثرها أبقار مزارع وروثها يحمل الكثير من بقايا الهرمونات والمضادات الحيوية التي يتم خلطها بالعقل المقدم لها أو من آثار الحبوب المعدّلة جينياً مثل الصويا والذرة التي تستخدم في صنع الأعلاف، ورغم أنه مفيد للتربة إلا أن سماد بقر المزارع له آثاره الجانبية ويمكن استخدامه فقط في حال عدم توافر مصادر الأسمدة العضوية الطبيعية.
لذلك فإن هذه الأسمدة هامة جداً وتعوض عن الأسمدة الكيماوية ولا تضرّ بالصحة على الإطلاق.

“الإفراط في استخدام السماد الكيماوي يعطي نتائج عكسية ويؤدي إلى فساد الثمار وإفقار التربة ونشر الأمراض”

“«تعطيش» شتول الخضار ضروري في مرحلة النمو الأولى لأنه يجبرها على تكوين كتل جذرية قوية وفي عمق التــــربة ويحفز نموّهـــا الورقـــــي والثمــــري”

السؤال 8: ما هو «التعطيش» هل هو حقاً ضروري؟
جواب: نعم ضروي ويجب القيام به بعد أسبوع من اشتداد عود شتول البندورة والخيار والمقتي والكوسا واليقطين والفليفلة والباذنجان والبطيخ والشمام وغيرها. عموماً كل هذه الشتول يجب أن يقطع عنها الري لمدة أسبوع إلى عشرة أيام لكي تجبر الشتلة على البحث عن الرطوبة في عمق التربة وتكبير كتلة الجذور الماصة. لهذا غالباً ما نفاجأ أن تعطيش الشتول يؤدي إلى نموها وتزايد كثافة الأوراق والأغصان بسرعة لأنها في الحقيقة اضطرت بحكم غريزة البقاء وعندما شعرت بتوقف إمداد المياه السطحي إلى تنمية كتلة جذورها وإلى التغلغل في عمق التربة، باتت أقدر على امتصال المغذيات من التربة وهذا ما يفسر سرعة نموها.
لهذا فإن خطة الري للشتول في مرحلة النمو الأولية يمكن أن تستخدم هذا المبدأ بحيث نعود الى التعطيش قليلاً إذا كان الطقس ملائماً وغير حار لكي نجبر الشتول على التمدد داخل عمق التربة ثم نعود فنعطيها كميات وفيرة من المياه وهذه الطريقة تؤدي إلى نتائج جيدة في تنمية حجم الشتلة وزيادة أغصانها. على العكس فإن الري الزائد وغير المتباعد سيؤدي إلى تكوّن جذور ماصة كثيرة بالقرب من سطح التربة وعندها فإن المزارع سيضطر على المواظبة على الري بوتيرة متكررة لأن الشتلة تكون سريعة التأثر بحرارة الشمس فتذبل لأن جذورها الماصة السطحية ستطلب المياه دوماً وفي هذا تكلفة أكبر كما إن نوعية الإنتاج تتأثر وقد يتأثر عقد الإزهار كثيراً بسبب ذلك.
لكن مع بدء الإزهار والعقد وبعد أن تكون طريقة التعطيش قد أدت إلى نبتة قوية وعميقة الجذور يفضل المواظبة على الري بوتيرة واحدة وفق حاجة كل نوع من الخضار كما سنأتي على شرحه في الفقرة التالية لأن الشتلة تكون دخلت مرحلة الإنتاج وتحتاج إلى معاملة مستقرة ووتيرة منتظمة.

السؤال 9: ما هي وتيرة الري للخضار الصيفية؟
جواب: جميع نباتات الخضار تحتاج الى الري، ولكن بمعدلات تختلف بين صنف وآخر, وهذا الأمر مهم لكن الكثير من المزارعين لا يعرفونه فهم لذلك يقومون بري الخضار في وقت محدد (كل ثلاثة أيام مثلاً) دون اعتبار لواقع أن بعض الخضار يحتاج إلى الري بوتيرة اقل وان بعضها الآخر يحتاج للري بوتيرة أعلى. على سبيل المثال: تحتاج البندورة الى حوالي 20 لتراً من المياه في الاسبوع عند مرحلة جني المحصول، أما نبتة القثاء (المقتي)، فلا تحتاج لأكثر من 10 لترات مياه إسبوعياً، والخضار تستجيب بشكل جيد عند إشباعها بالمياه والسماد وتعطي إنتاجاً وفيراً وذا جودة عالية.

حروق-الأوراق-الناجمة-عن-التسميد-الكيماوي-الزائد---ينصح-بالتزام-التعليمات-لأنها-لم-توضع-عبثا
حروق-الأوراق-الناجمة-عن-التسميد-الكيماوي-الزائد—ينصح-بالتزام-التعليمات-لأنها-لم-توضع-عبثا

السؤال 10: ما هي فائدة الري بالنقطة وكيف يمكن تنفيذ هذه الطريقة؟
ري الخضار بالتنقيط جزءأساسي من اي زراعة خضار ناجحة وله فوائد عظيمة يمكن أن نلخصها بالتالي:
1.الفائدة الأهم هي توفير الوقت على المزارع نفسه فالري بالخرطوم مثلاً وهو الطريقة الشائعة في كثير من الحدائق يستغرق وقتاً وقد يؤذي المزروعات لأن المزارع يجرّ الخرطوم الثقيل من مكان إلى آخر وقد يؤدي ذلك إلى سحق بعض الشتول. وبصورة عامة فإن الري بالتنقيط في بستان بمساحة دونم واحد يمكن أن يوفر ما بين ساعتين وثلاث ساعات وهو الوقت الذي يستغرقه ري الشتول كل مرة بينما الري بالتنقيط يحتاج فقط إلى فتح سكر المياه المخصص للخط المعني مع جهاز توقيت ينبهك إلى إقفال السكر أو تحويل المياه إلى خط آخر من خلال فتح سكر ثان وإقفال الأول. لذلك وبدلاً من أن تضيع الوقت أو يضيع عامل الحديقة الوقت في نقل الخرطوم وانتظار عملية الري حتى اكتمالها، فإن في إمكانك أن تقوم بعمل آخر وكذلك يمكن لعامل البستان أن ينهمك بعمل منتج في الوقت الذي تتم فيه عملية التنقيط.
2.الفائدة الثانية هي توفير المياه وتوزيعها بصورة متساوية بين جميع الشتول مع ضبط كمية المياه التي تحصل عليها كل شتلة لأن هناك طريقة لاحتساب كم لتر يصل إلى الشتلة في ربع ساعة مثلاً ويمكنك تعيير النقاطات بحيث تحصل الشتلة على الكمية المقررة ضمن وقت معين. أما في الري بالخرطوم فإنه من الصعب تقدير كميات المياه التي تصل إلى كل شتلة وعلى الارجح سيكون هناك هدر لأن الري الجرّ غالباً ما يتسرب منه الكثير على جوانب الثلم أو يضيع بعضه في حفر قرب جدران الدعم .
3.الفائدة الثالثة هي إيصال المياه إلى عمق الجذور وتشجيع الشتول على تنمية جذور ماصة عميقة وهذا يساعد على مباعدة فترات الري. أما في حال الري بالخرطوم فإن المياه لا تتسرب عميقاً إلا في حال صرف كميات كبيرة وهذا يهدر المياه أو يؤدي إلى ضياع قسم كبير منها بالتبخر كما إن التربة تتلبد بري الخرطوم بينما تبقى جيدة غير ملبدة ولا تجمع المياه على سطحها وهذا يخفض كثيراً نسبة التبخر.
طريقة الري بالنقطة: سهلة جداً لكن تحتاج إلى بعض المشورة ممن يطبقونها أو من مرشد زراعي أو مهندس مياه. وليس هذا مجال التفصيل فيها، وربما نخصص مقالاً لها في عدد قادم، لكن يمكنك التوجه إلى محل المستلزمات الزراعية وسيقدمون إليك الإرشادات اللازمة. لكن من المهم أن يكون لديك خزان مياه مرتفع عن مستوى الأرض المزروعة مخصص لشبكة التنقيط. ويمكن توفير خزان أو أكثر بتثبيتهما على منصة من الإسمنت أو الحديد بالعلو المطلوب وهذه الخزانات تصبح المصدر الاساسي الذي يغذي أنابيب التنقيط. ومن الأفضل أن ترسم خريطة الشبكة على الورق وأن تقيس المسافات وعدد الشتول في كل خط وأن لا تبدأ بشكل عشوائي، لأنك ستحتاج إلى خط أساسي ربما بقطر إنش أو أكثر وإلى خطوط تنقيط وهذه تأتي مع نقطة كل 25 سنتم أو كل 40 سنتم، وهناك أنابيب تنقيط بقطر ربع إنش يمكن أن تثبت فيها رؤوس رش صغيرة يتم تعييرها لكن على العموم تستخدم هذه في حال تباعد الشتول (مثل اليقطين أوالبطيخ حيث يمكن للشتلة أن تبعد متراً عن الأخرى) وبالتالي لا يمكن هنا الري بنقاطات الـ 25 سنتم لأن المياه ستذهب هدراً خارج الشتلة.
السؤال 11: ما هي طريقة الري بـ «شوربة السماد العضوي» وما هي فوائدها؟
جواب: شوربة السماد العضوي يمكن الحصول عليها بعدة طرق منها أن تملأ ثلث برميل كبير سعة 200 لتر بسماد حيواني (ماعز وسماد الدجاج البيتي أو غيرها) وأن تملأ البرميل بعد ذلك بالمياه وأن تغطيه. وإذا كان لديك رماد من بقايا وجاق الحطب فيستحسن أن تضيفه إلى الخليط وأن تحرك المزيج كل يومين أو ثلاثة.
بعد عشرة أيام يمكن أن تأخذ من مياه البرميل مرشة ماء وتسقي بها الشتول. وستجد الفرق في مدة قصيرة على شكل شتول قوية ونامية ومقاومة للآفات كما ستجد الفارق في المحصول. هذه الطريقة أفضل بكثير من الأسمدة الكيماوية لمن يرغب في الحصول على موسم خضار وفير.
إذا كانت لديك شبكة للري بالنقطة يمكن خلط السماد العضوي بالماء في خزان مياه سعة متر مكعب أو مترين على أن يوضع السماد في أكياس خيش سميكة تمنع تسريب المواد الصلبة إلى أنابيب الري بالنقطة لأنها قد تسدها. ويمكن استخدام فلتر عند مخرج المياه قبل انسيابها إلى الانابيب. وكذلك يمكن عندها الري بالنقطة من «شوربة» السماد العضوي وستحصل على نتائج هائلة وهذه الطريقة ليست معقدة لكن فوائدها كبيرة على المحصول.

السؤال 12: كيف أكافح الآفات التي تصيب الخضار؟
جواب: على عكس ما يعتقد كثير من المزارعين فإن جميع الآفات التي قد تصيب خضار الحديقة يمكن أولاً الوقاية منها عبر اتباع أساليب الزراعة والعناية السليمة كما يمكن عند حصولها التخلص منها بالأساليب العضوية أو الطبيعية ولا تحتاج لكل هذه الأصناف من المبيدات التي يتم رشها على الخضار.
المشكلة هنا مشكلة ثقافة أو قلّ غياب الثقافة الزراعية او استسهال المزارع استخدام المبيدات بدلاً من سبل الوقاية أو اتباع طرق المكافحة الطبيعية وغير الضارة بالبيئة أو صحة المزارع وعائلته. وبسبب نقص الثقافة فإن المزارع غالباً ما يأخذ عينة من الزق المصاب إلى محل المستلزمات والأدوية الزراعية ويسأل عن العلاج ويكون الجواب إعطاءه أصنافاً من المبيدات يسارع إلى تجربتها وقد تفيد أو لا تفيد.
بدلاً من ذلك يمكن أولاً اتباع طرق وقاية أولية من الآفات مثل:
1.مراعاة أن تكون ارض المشتل جيدة الصرف
2.تجنب الري الزائد عن حاجة النبات لتقليل الرطوبة حولها
3.تجنب الزراعة الكثيفة حتى يدخل الهواء والشمس بين النباتات
4.تجنب الاستخدام المفرط للأسمدة الكيماوية لأنه يضعف النبات ويجعله سريع العطب وقابلاً للإصابة بالأمراض لأن النبتة التي تنمو على السماد الطبيعي تكون أقوى وأكثر مقاومة.
5.تجنب استخدام المبيدات الكيماوية قدر الإمكان لأن المبيدات تقتل الأعداء الطبيعيين للآفات والحشرات، ونعطي على سبيل المثال حشرة المن التي تفتك بالمزروعات، هذه الحشرة لها أعداء طبيعيون مثل الكوكسينال (إم علي سيري) أو أسد المن. وكلنا يذكر كيف كانت إم علي سيري تملأ الحقول. يومها لم تكن هناك هجمات من حشرة المن لأن الأعداء الطبيعيين كانوا يفتكون بها قبل أن تتكاثر. أما الآن فإن استخدام المبيدات بدأ يقضي على إم علي سيري وغيرها من أعداء المن الطبيعيين. ولو تركنا الطبيعة على حريتها فإن هذه الحشرات ستتكاثر في البيئة وستؤدي إلى الحد من مضار حشرة المن وغيرها من الأمراض.
وسائل المكافحة
إذا لم تفلح سبل الوقاية الطبيعية في الحد من الآفات فإنه من الأفضل أن نعالج الآفات بالوسائل الطبيعية أولاً، هذه الوسائل ناجعة وتفيد حقاً وثانياً لأننا باستخدامنا وسائل مكافحة طبيعية نساهم في عودة الأعداء الطبيعيين إلى الأرض ومساهمتها في مكافحة الآفات. من أهم سائل الوقاية الطبيعية التي أثبتت نجاحها وأكثرها شيوعاً مايلي:
بالنسبة لحشرة المن: تذاب أربع ملاعق طعام من مسحوق الحر الشديد اللاذع (قرن الغزال أو فليلفة الزينة الصغيرة وهي لاذعة جداً) في 15 لتر مياه ويضاف إليها كوب من خل التفاح وكوب من مقطر الصعتر أو نصف رأس ثوم يسحق ويضاف بعد تصفيته بشاشة إلى المياه، كما تضاف كمية من برش الصابون وهذه الخلطة نافعة جداً في القضاء السريع على كل أنواع المن بما في ذلك المن القطني وهو صعب المراس ولا تنفع فيه المبيدات أحياناً.
تعفير الخضار
بالنسبة لأمراض الخضار الفطرية العديدة مثل الرمد الصديدي أو لفحة الأوراق فإن الطريقة المثلى هي التعفير بمزيج يتألف من كيلوغرام من كبريت الزهرة (الأصفر) مع 200 غرام أوكسيد النحاس أو «الجنزارة.»
يعمل الكبريت والجنزارة على منع إصابة الخضار بالفطريات والتقليل من إصابتها بالأمراض البكتيرية والفيروسية وإعاقة تكاثر ووصول الكثير من الحشرات والأكاروز الى أجزاء نبات الخضار لامتصاص عصارتها وقضم بعض أجزائها، فهذا الخليط يشكل طبقة فاصلة نوعاً ما، بين الآفة وجدار قشرة النبات..
وهذه المعالجة تبدأ في أولى مراحل النمو وقبل العقد ويجب أن تكرر مرتين على البندورة و«الصحرا» أي مزيج خضار الكوسا والمقتي والخيار والبطيخ والشمام واليقطين ومثيلاتها. وهنا لا بدّ من تنبيه المزارع إلى خطأ الفكرة الشائعة القائلة بأن أفضل وقت للتعفير هو «على الندى» في الصباح الباكر فهذا الخطأ الشائع مضر جداً بالنباتات لأنه يجعل المزيج الكبريتي يلتصق بأجزاء النبتة فيحرقها بينما تبقى بعض الأجزاء غير معفرة فتصاب بالآفات المختلفة. كما إنه من غير المستحسن تعفير الخضار في جو حرارة مرتفعة تزيد على 32 درجة مئوية أو في الايام العالية الرطوبة. ويستخدم في التعفير منفاخ جيد التصميم أو فردة كلسات نسائية نايلون يوضع فيها المزيج ويهز فوق النبتات فتنزل منه سحابة خفيفة من المسحوق يحملها الهواء فتستقر بطبقة رقيقة على مختلف أجزاء النبتة.
يعتبر التعفير الكبريتي نوعاً من المعالجة العضوية لأن الكبريت والجنزارة كلاهما منتجين طبيعيين ولا يضاف إليهما أي مبيد كيماوي، لكن يمكن أن ندخل ضمن أساليب المكافحة العضوية الطريقة التي أوردناها في معرض الحديث عن سبل مكافحة المن. فالخلطة المستخدمة لمكافحة حشرة المن يمكن أن يضاف إليها 100 غرام كبريت غروي في حال إصابة بعض النباتات بأمراض فطرية، وهذه الخلطة صالحة للإستعمال على كل الخضار على سبيل الوقاية أو العلاج عند حصول الإصابة.

تربة-تم-تحضيرها-لزرع-الخضار-فحرثت-قليلا-وأضيف-إليها-الكمبوست-والسماد-العضوي-وتم-وضع-علامات-تشير-إلى-نوع-الخضار-في-كل-ثلم
تربة-تم-تحضيرها-لزرع-الخضار-فحرثت-قليلا-وأضيف-إليها-الكمبوست-والسماد-العضوي-وتم-وضع-علامات-تشير-إلى-نوع-الخضار-في-كل-ثلم

” تعفير الخضار بمزيج الكبريت والجنزارة طريقة فعالة للوقاية من الفطــــــريات ومعظم الآفات التي تصيب موسم الخضـــار  “

إلى ما سبق يمكن أن نضيف:
المكافحة الميكانيكية: وهي إزالة النباتات المصابة خصوصاً بالفيروس وحرقها، وكذلك إزالة الأعشاب البرية التي تنمو عليها بعض الآفات الضارة والعمل على تقليل الرطوبة المحيطة بالنبات والجذور خصوصاً في مرحلة النمو الأول (بعد الزرع). وتضم المكافحة الميكانيكية أيضاً زراعة نباتات عطرية وطبية مثل الصعتر، النعناع البري، الخزامة، والقصعين في الحقول والحدائق والبساتين. جميع هذه النباتات لها تأثير جيد على أنواع العناكب مثل الأكاروز والحلم.
ويمكن أن ندخل ضمن أساليب المكافحة الميكانيكية التعشيب، وهو ازالة وقلع (شلط وليس قطع) النباتات المزاحمة على الغذاء وهذه النباتات تكون برية او من بذور وأجزاء خضار الموسم السابق جميعها تعتبر نباتات مزاحمة ويجب ازالتها في بداية نموها، لأنها تمتص كمية لا يستهان بها من المياه وتتسبب بجذب الأمراض والحشرات المضرة بالمحصول كونها إنتقلت إليها من النباتات التي كانت مزروعة في الموسم السابق. ان الكثير من نباتات الخضار والنباتات البرية الضارة تصاب بآفات مشتركة، لذلك يجب ان لا نبقي اي نبتة غير المحصول المزروع تجنباً من انتقال الأمراض والحشرات الى الخضر.
ومن أساليب المكافحة الميكانيكية نزع ديدان الملفوف والقنبيط والبروكولي التي تسببها الفراشة البيضاء باليد عندما تكون في بداية انتشارها على الأوراق، وهذه يمكن اكتشافها بسهولة عندما نبدأ برؤية ثقوب متفاوتة الحجم على الأوراق أو تعريقة بعضها، وجمع الديدان باليد أو بواسطة ملقط لا يستغرق وقتاً وهو أفضل بكثير من رش الشتول بالمبيدات لأن هذه تدخل إلى نظام النبتة وقد تبقى آثارها فيها فتدخل نظامنا الغذائي وتصيبنا بأضرار لا نعرف مداها. وإذا كان عندك دجاج فإنه سيحب كثيراً تلك الديدان عندما تلقي بها إليه.
المكافحة البيولوجية: تتم بواسطة الأعداء الطبيعيين للآفات الضارة مثل حشرات أسد المن و«أم علي سيري» المتوفّرة بكثرة في الحقول التي لا تستخدم فيها المبيدات الكيماوية.

دور بني الشويزاني في الشوف

إماطة اللثام عن عشيرة معروفية حاكمة وتاريخها الغامض

دور بني الشويزاني في الشوف وأنساب عائلات
عبد الملك وحمادة وأبو هرموش وأبو حمزة

جانبلاط عبد الملك نَصَرَ حيدر الشهابي في عين دارة
فأقطعه الجرد وشيّخه عليه وكتب له «الأخ العزيز»

سنحاول في هذا المقال توضيح الصلة بين بني الشويزاني الذين لعبوا دوراً مهماً في تاريخ الشوف وكانت لهم اليد الطولى في ناحية منه، وبين عدد من العائلات العريقة التي ما زالت تحتل مكانة مرموقة في الهرم الاجتماعي والسياسي وهي بصورة خاصة عائلات عبد الملك وأبو هرموش وحمادة وأبو حمزة. هذه الأسر الأربع والأدوار التي لعبتها تعود بصورة خاصة، وحسب ما تشير جميع المصادر التاريخية المعتمدة، إلى تفرّعها من أصل واحد هو عشيرة بني الشويزاني التي كانت قد تولّت ناحية مما يعرف اليوم بإسم منطقة الشوف، وكان ذلك في أساس تسمية تلك المناطق بـ «الشوف الشويزاني» قبل تصحيف الكلمة لتصبح «الشوف السويجاني».
إن لموضوع الأنساب حساسية خاصة عند العرب وله حساسيته أيضاً عند العائلات العربية العريقة الحريصة على إثبات نسبها والدفاع عنه في وجه أي إلتباس. لكن تحقيق الأنساب ليس مسألة سهلة دوماً، فقد يتعرّف الباحث في التاريخ على أسر كثيرة مهمة، لكن المعلومات عنها تكون قليلة جداً، إما لأن ما كُتب عنها فُقد أو لأنه لم يقيّض لها من يدوِّن تاريخها فبقي الغموض بالتالي محيطاً بها، ومنها ما لم يبقَ من المعلومات عنها سوى إسمها فقط، ومنها ما استمر تاريخها في الأسر المتفرّعة منها كبني فوارس المناذرة الذين تفرّع منهم آل أبو اللمع، وآل عبد الله المناذرة الذين تفرّع منهم آل علم الدين اليمنيون وآل تقي الدين. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تاريخ الأمراء التنوخيين المناذرة كان معظمه ضاع لو لم يدوّن أحدهم، وهو المؤرّخ صالح بن يحيى، أخبارهم في مؤلّفه المسمّى «تاريخ بيروت»، كما إن تاريخ الأمراء الأرسلانيين المناذرة كان قد ضاع في معظمه لولا السجل الأرسلاني.

من هم آل الشويزاني؟
إننا لا نمتلك الكثير عن بني الشويزاني وعن ظروف قدومهم إلى لبنان واستقرارهم في ما هو اليوم منطقة الشوف، لكننا نعلم مؤكداً أنه كان لهذه العشيرة القوية دورها المهم بين العشائر التي قدمت من جهات معرّة النعمان إلى لبنان في سنة 820 م، وكان لهم انتشارهم الواسع في الشوف، ثم تفرّعوا إلى أسر عديدة لا تحمل إسمهم، إلا أن المعلومات عنهم قليلة. ولهذا فليس مستغرباً أن يحيط بآل الشويزاني هذا القدر من التساؤلات عن حقيقتهم وعن طبيعة العائلات المنتسبة إليهم، وقد بقي الكثير من تلك التساؤلات بلا أجوبة، لذا سنحاول، بالإستناد إلى المصادر التاريخية والتحقيق فيها، الإضاءة على حقيقة آل الشويزاني ما أمكن تحت العناوين التالية:
1. أصل بني الشويزاني
2. بنو الشويزاني في «المصادر التاريخية»
3. بنو الشويزاني في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب»
4. إطلاق اسم الشويزاني على منطقة كبيرة في الشوف وعلى حصن قديم
5. الأسر المتحدّرة من بني الشويزاني

أولاً: أصل بني الشويزاني
إن أقدم النسّابين وأشهرهم إبن الكلبي المتوفّى سنة 204 هـ (819 م) وأشهرهم بعده إبن حزم الأندلسي (284 – 356 هـ)ـ (994 – 1064 م)، لم يذكرا أية قبيلة أو عشيرة أو بطن أو فخذ أو فصيلة بإسم الشويزاني، كما خلت كتب النسّابين الآخرين الذين جاؤوا بعدهما من هذا الإسم. لذا بات من المؤكّد أن آل الشويزاني لم يكونوا قبيلة رئيسية بل بطناً أو فخذاً من إحدى العشائر العربية التي تُعد بالمئات، وأول ما نرى لهم ذكراً في تاريخ لبنان هو في كتاب «قواعد الآداب حفظ الآنساب» الذي دُوّن مخطوطه في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وهو لمؤرّخ مجهول.
تكلّم مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن نزوح ما سمّاه «طوائف» أي عشائر من الحيرة في العراق إلى جهات معرّة النعمان، وهم «الأمير شهابي بن الأمير خالد والأمير مسعود بن رسلان بن مالك والأمير فوارس والسيد عزايم والسيد عبد الله والسيد عطير والسيد حصن والسيد هلال والسيد كاسب والسيد شجاع والسيد نمر والسيد شراره»1. تمّ ذكر أسماء عدد من الأعيان والجماعات الذين رافقوا تلك العشائر في نزوحها إلى لبنان. ولم يرد بين هذه الطوائف (العشائر) عشيرة بإسم «بني الشويزاني» لكن هذا الإسم يظهر بعد ذلك في الحديث عن فروع العشائر المذكورة التي توطّنت في لبنان مما يدلُّ على أن بني الشويزاني هم فرع من إحدى تلك العشائر أو هم إحدى العشائر، مع الإستبعاد الكلي أن تكون فرعاً من المناذرة (آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس وآل تنوخ) لأنها لو كانت منهم لكان تحدّث عنها السجل الأرسلاني ، وصالح بن يحيى في كتابه « تاريخ بيروت».
بالعودة إلى المعاجم اللغوية نجد أن إسم الشويزاني قد يكون مشتقاً من لفظة « شزن « ومن معانيها: النشاط، ومن معاني تشزّن : صرع 2. وبالعودة إلى المعاجم الجغرافية نجد أن إسم شويزاني قد يكون مشتقاً من كلمة شوزن التي جاء عنها أنها من مياه بني عقيل.3

بنو الشويزاني في المصادر التاريخية
أول مصدر ذكر بني الشويزاني هو كما وردت الإشارة كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» الذي سنتكلم عنه لاحقاً. وقد ورد ذكر إسم «الشويزاني» عند المؤرخ المقريزي المتوفى سنة 845 هـ (1441 م) وذلك حين قال في معرض حديثه عما جرى في القاهرة من حوادث في شهر شعبان من سنة 358 هـ (أيار 969 م) ما يلي: «فسلّموا على نحرير الشويزاني بالإمارة وخرجوا يحجبونه إلى داره»4. ثم ذكر المقريزي وفاة إبن نحرير (أبي الحسن) في 12 ربيع الآخر من سنة 415 هـ (حزيران 1024م)، وقال عنه «إنه أكبر من بقي من عرفاء الإخشيدية»5، ولا نعلم إذا كان الإسم «الشويزاني» هو الذي يجمع بين هذين الشخصين اللذين عاشا في عهد الإخشيديين وبين بني الشويزاني في لبنان، أم أنهما وهم من أصل واحد.
ومن الذين ذكروا بني الشويزاني المؤرّخ صالح بن يحيى، مجهول الولادة والوفاة، إلا أنه من المعتقد أن ولادته في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، ووفاته بعد سنة 1453 التي توقف فيها عن الكتابة. لقد ذكر صالح بن يحيى أنه وجد محضر كُتب عن نزول الفرنج في الدامور في الخامس من جماد الأول من سنة 702 هـ (كانون الأول 1302م) حيث قتلوا وأسروا من قدروا عليه من حرس الدامور ومن المنشغلين بالزراعة فيها. وكان من القتلى الأمير البحتري التنوخي فخر الدين عبد الحميد، ومن الأسرى أخوه شمس الدين عبد الله. وقد حصل ذلك بسبب إهمال بني الشويزاني وبني العدس الحراسة 6. وفي ما ذكره صالح بن يحيى دلالة على أن بني الشويزاني كانوا في العهد المملوكي من أبدال الحراسة على الساحل لردّ غارات الفرنجة، ولإبلاغ السلطة المملوكية بها.

” أطلال «قصــر الشويزاني» هلنستية تعود إلى القرن الثالث أو الرابع قبل الميــــــلاد وربما سكن الحصن زعيــم من العشــــيرة بتكليف من المماليك “

كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب»
إن مؤلف مخطوط «قواعد الآداب حفط الأنساب» مجهول، لكنه من أبناء القرن الرابع عشر ميلادي بدليل إيراده ما يشير إلى أنه عاش قليلاً بعد سنة 1389. وقد تحدّث الكتاب عن العشائر التي نزحت إلى لبنان سنة 820 م، وعن فروعها التي بلغت معها مائة وإحدى عشرة عشيرة موّزعة على مائة وأربعين مكاناً في جبل لبنان الجنوبي. وبلغ مجموع صفحات المخطوط أربعاً وعشرين صفحة ونصف، منها أربع صفحات كاملة عن بني الشويزاني، كما أشير إليهم في ثلاث صفحات أخرى. وبهذا يكون المؤلف قد تكلّم عنهم اكثر مما تكلّم عن أية عشيرة بمن في ذلك العشائر التي تفوقهم حسباً ونسباً وأهمية.
وصف مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» بني الشويزاني بالقول «إنه لم يكن أحلف ولا أشعر ولا أرغب في جمع المال منهم»، وذكر أقرباءهم، ومنهم فوارس الجبلي، كما ذكر أماكن سكنهم، وأبرزها تيروش الواقعة تحت ممر ضهر البيدر في السفح الغربي لجبل الباروك إلى الشمال الشرقي من بلدة عين دارة، وقد كانت ذات أهمية في العصر الروماني وربما في العصر الهلنستي، بدليل وجود حجارة ضخمة ونواويس رومانية فيها، ومنها تنفرّع الطريق الذاهبة من قب الياس إلى بيروت والطريق الذاهبة إلى صيدا.
نصر عسكري يبدِّل الموازين
توسّع مؤلف «كتاب قواعد الآداب حفظ الأنساب» في الحديث عن حادثة جرت لبني الشويزاني مع الدرغام «مقدّم ناحية سبعل» الواقعة قرب بحمدون، ومع البقاعيين. وملخّص ذلك أن الدرغام قتل أبا الخير الشويزاني ظلماً وعدواناً، عندما انفرد به على طريق جبلية لا يراه فيها أحد، وظلّ ما فعله خافياً عن بني الشويزاني لبضع سنوات، لكن ما إن بلغت تفاصيل الاعتداء أخوة أبي الخير الستّة، حتى ساروا إلى سبعل بقيادة أبرزهم فهد، ومعهم نبا (زوج شقيقتهم) وهاجموا بيت الدرغام وقتلوه وثأروا لمقتل أخيهم.
إستنجد أهل سبعل بأنصارهم في وسط البقاع، فهاجم ثلاثمائة رجل من هؤلاء تيروش التي كان فيها مائتا رجل، نصفهم من بني نمر وبني روق، والباقون أكثرهم من بني الشويزاني. فصدّ أهل تيروش المهاجمين، وقتلوا وأسروا معظمهم، ثم عفّوا عن الأسرى لأنهم، أي أهل تيروش، يمنيون، أي أصلهم من اليمن، واشترطوا إطلاق سراحهم مقابل كل اثنين بحصير وكل ثلاثة بحصير بدلاً من الذهب والفضة، وذلك من قبيل التباهي بقوة بأسهم.
وبما أن فهد الشويزاني كان المبرّز في الهجوم على سبعل وقتل الدرغام، وفي صدّ هجوم البقاعيين، فقد شكره بنو نمر وبنو روق ورأّسوه عليهم 7. وهذا كان منطلقاً لتقدّم بني الشويزاني على العشائر المقيمة معها في تيروش، وبعد انتقالها منها.
جرت حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين في بداية توّطن العشائر النازحة إلى لبنان في سنة 820 م بحسب ما جاء في كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب». وأعقب ذلك نزوح العشائر من تيروش بسبب الثلج والصقيع، وتوزّع أكثرها في الشوف بدءاً بقريتي عين زحلتا والبصّية (البصّيل)، وهذا يوضح الإتجاهات التي سلكتها العشائر النازحة من جهات معرّة النعمان والأمكنة التي نزلت فيها بعد أن استقرت لبعض الوقت في تيروش والمغيثة، إذ اتجه المناذرة (آل ارسلان وآل تنوخ وآل عبد الله وبنو فوارس) غرباً وأقاموا في جبل بيروت، وكان نزوحهم في سنة 758م، فيما اتجه من جاؤوا بعدهم، في سنة 820م إلى الجنوب الغربي، وأقاموا في جبل صيدا، أي الشوف، وكان بنو الشويزاني من أبرزهم.

أهمية تيروش
إن ما أورده كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين، وعن حصولها في بداية توطّن العشائر العربية في جبل لبنان، يفيد عن أهمية تيروش آنذاك، إذ كانت المحط الأول لرحال العشائر النازحة إلى جبل لبنان عبر الممر الرئيسي من البقاع والشام إليه، وهو ممر ضهر البيدر، حيث كانت تقيم فيها وفي محلّة المغيثة القريبة منها، ثم تتجه غرباً بإتجاه بيروت والساحل، وشمالاً غرباً بإتجاه المتن، وجنوباً غرباً بإتجاه الشوف، إلا أن قرية تيروش درست في أواخر العهد المملوكي، بدليل أنها لم تُذكر في جداول الإحصاء العثمانية العائدة للمنتصف الأول للقرن السادس عشر الميلادي.
وإذا كان مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الانساب» لم يسقط لقب «المقدّم» على الدرغام إبن قرية سبعل، ولفظة «الناحية» على هذه القرية، فإن تاريخ حادثة بني الشويزاني مع الدرغام والبقاعيين هو في العهد المملوكي، ذلك إن اللقب واللفظة المذكورين لم يكونا متداولين قبله.

أحد-أودية-منطقة-الشوف-التي-عرفت-باسم-عشيرة-الشويزاني
أحد-أودية-منطقة-الشوف-التي-عرفت-باسم-عشيرة-الشويزاني

نشأة الشوف الشويزاني (السويجاني)
أطلقت العشائر العربية النازحة من جهات معرّة النعمان إلى لبنان أسماء على المناطق التي نزلت فيها، ومنها إسم الشوف الذي يعني المكان المرتفع والمشرف على ما حوله. ولكن هذا الإسم كان يُطلق مقروناً بلفظة أخرى لتمييز الأشواف عن بعضها، مثل الشوف الحيطي لإنتصابه كالحائط بين مجرى نهر الأولي وجبلي الباروك ونيحا، والشوف البيّاض لبياض صخوره، وشوف الميادنة نسبة إلى عشيرة الميادنة، وشوف هلال نسبة إلى عشيرة بني هلال، والشوف الشويزاني نسبة إلى بني الشويزاني 8.
توزّع بني فهد الشويزاني
بالعودة إلى ما ذكره مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» عن عدد رجال العشائر في تيروش، نستنتج أن من كانوا فيها من بني الشويزاني ليسوا فقط فهد وأخوته الستّة، كما نراه، يذكر أن بني نمر وبني روق وبني الشويزاني تقاسموا البلاد، لكنه لا يذكر من القرى التي سكنها بنو الشويزاني سوى تلك التي سكنها أبناء فهد الذي قتل الدرغام وهم أربعة: إبنه فهد، الملقّب بفهد الصغير، والمسمّى على إسمه لأنه ولد بعد وفاته، والثلاثة الآخرون، وهم صاعد وسبع وهمّام. وسكن أبناء فهد الصغير في مجدل بعنا وشانيه والبصيّه (البصّيل) وبنو صاعد في دير القمر والسمقانية وبقعاتا الشوف وجوارها، وبنو سبع في عين زحلتا والبصيّه وكفرقطرة ودير دوريت وبعقلين وجوارها، وبنو همّام في مجدل بعنا والبصّيه عند أقاربهم 9. وسكنت طائفة من بني الشويزاني البرجين والجاهلية وانتقلت طائفة إلى الجبل الأعلى. وإذا استثنينا قرى مجدل بعنا وشانيه والبرجين، فإن سائر القرى واقعة في المنطقة التي نسبت إلى بني الشويزاني، وهي الشوف الشويزاني.
صُحّفت لفظة «الشويزاني» أولاً في اللفظ، ثم في التدوين، فغدت «السويجاني». وأول ذكر للشوف الشويزاني جاء في وثائق الفرنج سنة 1261م، وفيها يحدّد سنيور صيدا (باليان) القرى المقطعة للفرسان التوتونيين، ومنها قرى في ما سمّاه «الشوف الشويزاني»10. وورد في تاريخ إبن سباط نص منشور مرسل من الملك عز الدين إيبك إلى الأمير البحتري التنوخي سعد الدين خضر بن نجم الدين محمد بن حجى بن كرامة بن بحتر، يحّدد إقطاعه، ومنه أربع قرى في «الشوف السويجاني»11. وورد في تاريخ إبن سباط إسم «الشوف السويجاني» في الحديث عن فيضان الأنهر في سنة 909هـ (1503-1504 م)12.
كان الشوف السويجاني يشتمل على القرى التي نزل فيها بنو الشويزاني، والتي ورد ذكرها، ويشتمل أيضاً على قرى لم يذكر مؤلف كتاب «قواعد الآداب حفظ الأنساب» أن بني الشويزاني نزلوا فيها وكان يمتد بين نهر الصفا ورافده نهر الحّمام، وبين نهر الباروك، ويقع بين مناطق الجرد والشوف الحيطي وإقليم الخرّوب. وقد شكل ناحية بإسم «ناحية شوف شويزاني» في أواخر العهد المملوكي، وأوائل العهد العثماني، تضم ستاً وستين قرية ومزرعة. وهذه الناحية شكلت مع الشوف الحيطي ما دعي بإسم «شوف إبن معن» أي الشوف المعني. وما ورد في أحد المراجع، التي تحدّثت عن «شوف إبن معن»، عن وجود شوف ثالث بإسم «شوف شوران» كان نتيجة الخطأ في قراءة شوف شويزاني: فقرئت «شوف شوران». وبعد ذلك أخذت من الشوف الشويزاني قرى عند إحداث مقاطعتين إداريتين جديدتين، هما العرقوب والمناصف، فصار يضم تسع قرى هي بعقلين وعترين وعينبال وغريفه والسمقانية والجديدة والكحلونية ومزرعة الشوف وبيقون، ثم نشأ من بلديات هذه القرى إتحاد بلديات في سنة 1979 بإسم «إتحاد بلديات الشوف السويجاني» يضمّ بلديات القرى المذكورة بإستثناء بيقون التي لم يكن فيها مجلس بلدي، كما يضمّ بلدية عين وزين التي كانت تتبع في عهد المتصرفية لمديرية العرقوب الجنوبي.

” جانبلاط عبد الملك نَصَرَ حيدر الشهابي في معركة عين دارة فأقطعه الجرد وشيّخــــه عليه وكتب له «الأخ العـــزيز»  “

قصر السويجاني
توجد على رأس هضبة قرية الكحلونية الواقعة في الشوف السويجاني أطلال بناء قديم كبير يعرف بقصر السويجاني، تماشياً مع القاعدة المعمول بها، وهي إطلاق إسم القلعة في أكثر الأحيان، وإسم القصر في أقلها، على كل بناءٍ كبير حتى لو كان هيكلاً للعبادة. وهذه الأطلال قسمان: القسم الشمالي، وهو بطول 35 متراً، تبدو أساساته الضخمة، وبقايا جدرانه التي تعلو حوالي المترين، بأحجار كبيرة مشذّبة ، جيدة البناء. والقسم الجنوبي وهو أقل إتساعاً، ولا يظهر منه سوى أساسات لا تعلو عن سطح الأرض. وقد أظهرت أعمال التنقيب في القسم الشمالي بين سنة 2005 وسنة 2013 أنه حصن هلنستي يعود إلى بداية القرن الثالث أو أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، سمّي بقصر السويجاني لأحد الإحتمالين التاليين:
أولاً: النسبة إلى المكان، أي إلى الشوف السويجاني.
ثانياً: النسبة إلى أحد أعيان بني الشويزاني، وهذا مرجَّح أكثر من الإحتمال الأول، إذ إن الحصن يقع في منتصف الطريق الرئيسية بين صيدا وساحلها وبين قب الياس، المعروفة منذ القرون الوسطى بـ «السكة السلطانية»، وهذا العين الشويزاني قد يكون مكلّفاً من المماليك بحراسة هذه الطريق المهمة، والإقامة في الحصن المذكور الذي ربما كان أيضاً خاناً للمسافرين كخان الحصين الواقع بين عاليه وبحمدون في منتصف الطريق الرئيسية بين بيروت وقب الياس. وقد يكون وما حوله من أراض ملكاً لعين من بني الشويزاني يستثمر الأراضي دون أن يكون مكلّفاً بأية مهمة أمنية أو رقابية على الطريق التي تمرّ أمام الحصن المشرف على مناطق واسعة تمتد من صنين شمالاً إلى جهات جزّين جنوباً.13
يقع قصر السويجاني في خراج قرية الكحلونية ، وهو أقرب إليها من سائر القرى المجاورة له، وهي مزرعة الشوف، وعترين، وجديدة الشوف، وبقعاتا التابعة لها، هذا قبل أن يمتدّ العمران من هذه القرى ويصل إلى جوار الحصن . مُسح معظمه في الثمانينيات من القرن العشرين مشاعاً للكحلونية مما يدل على عدم ملكية أحد له في الماضي. وقد كان بعده النسبي عن القرى المجاورة له ، وكبر حجارته، وانتشار المقالع الحجرية حوله بكثرة، السبب الرئيسي في الحفاظ على معالمه وعدم التمادي في السطو على حجارته وإبقاء بعض جدرانه قائمة وإن على علو منخفض .
ومما يلفت هو ان أعمال التنقيب في الجزء الشمالي الشرقي من قصر السويجاني جرت بسهولة وأدت إلى اكتشاف غرفة مهدّمة محروقة ، عُثر فيها بين الرماد والتراب على حلي ومقتنيات برونزية وعلى فخاريات أثبتت أنه حصن هلنستي مما يدل على أن هذا الجزء بقي على وضعه بعد هدمه وإحراقه في أواسط القرن الأول قبل الميلاد ولم تعبث به يد الإنسان كما عبثت بالكثير من المباني القديمة والنواويس الحجرية ، لكن لصوص الآثار عبثوا بجزء من الحصن في الأحداث اللبنانية بين العامين 1975 و 1990 فهدموا بعض قسمه الشرقي وأحدثوا فجوة فيه بحيث بدا مدرّجاً. وما أوقفهم عن متابعة التخريب فيه هو عدم عثورهم على ما يبتغون من الحلي والمقتنيات الأثرية الغالية إضافة إلى سهر بلدية الكحلونية على الحصن والمحافظة عليه . ومن الضروري متابعة التنقيب في القسم الشمالي من الحصن لمعرفة ما إذا كانت الأجزاء التي لم يجرِ فيها التنقيب بقيت على حالها بعد هدمه وإحراقه، كما من الضروري التنقيب في القسم الجنوبي علَّ هذا وذاك يضيئان على من سكنوا الحصن واستعملوه بعد هدمه وإحراقه ، ويوضحان إشكالية تسميته: هل هي نسبة إلى المكان ( الشوف السويجاني ) أم نسبة إلى أحد أعيان أسرة بني الشويزاني .
يذكر في هذا المجال أن بلدية الكحلونية تعمل على استعادة ما أُخذ من أرض الحصن ومُسح ملكاً خاصاً مع الأملاك المجاورة ، وهي تعدُّ بناء صغيراً هو عقد قديم ليصبح متحفاً يُوضع فيه ما يعثر عليه في الحصن، ومما يُذكر أيضاً أن أعمال التنقيب يقوم بها مختصون في علم الآثار، وأن تمويل التنقيب يؤمّنه إتحاد بلديات الشوف السويجاني بالتعاون مع مديرية الآثار .

“هزيمة محمود باشا أبو هرموش في عين دارة أضعفت العائلة لكنها حافظت على مكانتها بين مشـايخ الصف الثاني في الفتــرة اللاحــــقة”

بقايا حصن الشويزاني أثارت اهتمام علماء الآثار وأثبت أنه لعب دورا مهما
بقايا حصن الشويزاني أثارت اهتمام علماء الآثار وأثبت أنه لعب دورا مهما

الأسر المتحدّرة من بني الشويزاني
من الروايات المتناقلة أن آل عبد الملك وآل أبو هرموش وآل حماده ( بعقلين ) وآل أبو حمزة من بني الشويزاني ، وهناك بالتأكيد أسر غيرهم لسنا متأكدين من نسبها إليهم، وأسر لا نعرفها نظراً إلى كثرة القرى التي سكنها بنو الشويزاني، ولإتساع المنطقة الجغرافية المسمّاة بإسمهم. وأهمية الأسر الأربع التي سنتحدث عنها ناتجة من عراقة النسب، ومن بناء أبنائها مجداً جديداً على مجد قديم.
1. آل عبد الملك : ترجم طنّوس الشدباق لمشايخ آل عبد الملك الدروز ، في كتابه «أخبار الأعيان في جبل لبنان» فذكر «أنهم ينتسبون إلى بلاد الحجاز، وأنهم قدموا مع الأمراء التنوخيين وتوطّنوا في الكنيسة في مقاطعة المناصف، ثم انتقلوا إلى عاليه ثم إلى بتاتر وأقاموا فيها فظهر منهم رجل يُسمى جانبلاط .. وسنة 1711 لما فرّ الأمير حيدر الشهابي من أمام معسكر محمود باشا أبي هرموش تبعه الشيخ جانبلاط إلى غزير وإلى الهرمل ثم إلى المتن وحضر واقعة عين دارة فأقطعه مقاطعة الجرد وشيّخه عليها وكتب له الأخ العزيز».14
والشدباق يعني أحياناً بكلمة « التنوخيين « البحتريين التنوخيين أي التنوخيين المناذرة، وهو يخطىء حين يعني بها أحياناً أخرى قبيلة لخم التي ينتسب إليها الملك النعمان إبن ماء السماء 15 الذي يتحدّر منه المناذرة ( آل أرسلان وآل عبد الله وبنو فوارس التنوخيون ) وتبعاً لذلك، ولأنه لا يعيد آل عبد الملك إلى التنوخيين، نستنتج أنهم عنده من أسرة غير منذرية مما يتوافق مع القول إنهم من بني الشويزاني. أما وجودهم في بتاتر، فهو بالتأكيد قبل القرن الثامن عشر الميلادي، وذلك بناءً على الآثار التي تعود إليهم وبخاصة مقبرتهم المدوّن عليها إسم « الشيخ جنبلاط إبن الشيخ فخر الدين إبن عبد الملك »16 .
إن أحد أبناء آل عبد الملك، المؤرّخ عبد المجيد ، يخطّىء المؤرّخون الذين يعيدون أسرته إلى بني الشويزاني ويقول : «إنهم ينسّبون أنفسهم إلى جدّهم الأعلى عبد الملك بن مالك بن بركات بن مسعود بن عون إبن الملك المنذر الخامس آخر ملوك المناذرة في الحيرة ، وعبد الملك المذكور هو أحد الأمراء الذين استدعاهم الخليفة أبو جعفر المنصور وأمرهم بالتوجه للتمركز في جبل لبنان» 17 كما إن المؤرّخ المذكور يعيد آل عبد الملك إلى فرع من المناذرة المتحدّرين من الملك المنذر الخامس هو فرع بني فوارس، ويجعل الأمير معضاد الفوارسي جدهم القديم. 18 لكن عبد الملك بن بركات لا يُذكر إلا في السجل الأرسلاني وهو يذكر فيه كوالد للأمير فوارس الذي ينتسب إليه بنو فوارس وأميرهم المشهور معضاد. وهذا الإسم لا يُذكر في أي مصدر أو مرجع بعد ذلك في ما يتعلق بنسب أية أسرة . وبناءً على هذا تبقى نسبة آل عبد الملك إلى بني الشويزاني هي المرجّحة .
ومما يجدر ذكره أخيراً هو أن آل عبد الملك برزوا بعد موقعة عين دارة في سنة 1711، وطوال عهد سيادة الإقطاع، إحدى أسر مشايخ الدروز الكبار، وهي بالإضافة إليهم، آل جنبلاط وآل عماد وآل نكد وآل تلحوق.
2. آل أبو هرموش : كان آل أبو هرموش يقيمون بحسب أحد المراجع في نيحا الشوف، ومنها انتقل كبيرهم علي إلى السمقانية في العهد الشهابي، وأقام فيها وتوفي بعد عمر مديد 19، وبنى إبنه محمود قصراً فيها فيما بنى إبنه الثاني هزيمة قصراً في بعقلين، هدمهما الأمير حيدر الشهابي بعد انتصاره في موقعة عين دارة. ولا نعلم إذا كانت هناك صلة بين آل أبو هرموش وبين يوسف بن هرموش الذي ذكرت الوثائق العثمانية أن أهالي عين دارة هاجموا في سنة 1564 بقيادته وقيادة محمد بن سيدي المعروف بأبي عرام ، منزل المكلّف بجمع الضرائب من قبل الدولة العثمانية 20. وفي اعتقادنا أن آل أبو هرموش كانوا كلهم أو بعضهم مقيمين أصلاً في السمقانية وبعقلين بدليل إقامة أجدادهم بني الشويزاني فيهما بعد إنتقالهم من تيروش، وبدليل ما يتناقله آل ابو هرموش وهو أنهم كانوا كثراً في السمقانية في زمن محمود ابو هرموش، وأنهم فرغوا من المقاتلين بعد موقعة عين دارة، ولم يبق منهم سوى كبار السن والنساء والأطفال ، وبدليل أن أنسباءهم آل حماده هم من سكان بعقلين، وأن أنسباءهم آل أبو حمزة كانوا مقيمين في السمقانية قبل انتقالهم إلى الخريبة (الشوف). وقد يكون هناك من أقام منهم في نيحا بدليل تصرّفهم بملكيات عقارية في مرج بسري وفي منطقة جزين.21 ولربما كان المقصود بـ «الشيخ أبو هرموش» الوارد ذكره في إحدى نسخ تاريخ فخر الدين للشيخ الخالدي الصفدي، واحداً منهم. وقد توفي الخالدي سنة 1624.
إشتهر آل أبو هرموش ببروز شيخهم محمود، الذي كلّفه الأمير حيدر الشهابي بجباية الأموال من جبل عامل، فتقرّب من والي صيدا، واستحصل منه على لقب «الباشا»، وانقلب على الأمير حيدر، وحاول استعادة الإمارة الدرزية، بإعادة أمراء آل علم الدين اليمنيين الى إمارة الجبل التي فقدها الدروز بموت الامير أحمد المعني بدون عقب، وانتقالها الى الامراء الشهابيين. لكن محمود باشا أبو هرموش هُزم مع اليمنيين في موقعة عين دارة حيث قُتل فيها وبعدها أمراء آل علم الدين، وإنتهى أمره أسيراً، لكنه لم يُقتل إحتراماً للقب الباشوية الذي يحمله، وإنما اكتفى الأمير حيدر بقطع لسانه وإبهاميه. ومنذ ذلك الحين تراجع شأن آل أبو هرموش قليلاً، ومع هذا ظلّت لهم مكانتهم

” آل حماده تفرعوا عن أبو علي مرعي تلميذ الأمير السيد ولعبوا دوراً بارزاً في إمارة بشير الثاني وفي عهد المتصــرفية  “

أرز الشوف كان فاصلا طبيعيا بين شوف بني الشويزاني ومنطقة البقاع وتبدو ثلوج السلسلة الشرقية في الأفق
أرز الشوف كان فاصلا طبيعيا بين شوف بني الشويزاني ومنطقة البقاع وتبدو ثلوج السلسلة الشرقية في الأفق

” الشيخ إسماعيل أبو حمزة شيخ عقل الموحِّدين الدروز كان رجل حلّ وعقد وهو الذي رعى في سنة 1792 الاتفــــاق بين اليزبكيين والجنبلاطيين  “

كمشايخ، وبرز منهم العديد. ولا عجب إن عدّهم المؤرخون من مشايخ الصف الثاني، ويلون في الاهمية، مع أنسبائهم آل ابو حمزة ، مشايخ الصف الاول الذين هم آل جنبلاط و آل عماد، و آل نكد، وآل تلحوق ، وآل عبد الملك 22 .
3. آل حمادة: من الروايات عن آل حمادة أنهم من بني الشويزاني، وأنهم سكنوا في بعقلين بعد نزوحهم من تيروش، وإحدى الروايات تقول إنهم سكنوا الكنيسة. وانتقل كبيرهم الشيخ ابو علي مرعي من بعقلين الى عبيه و التحق بالأمير جمال الدين عبدالله التنوخي الامير السيد (قدّس الله سره)، وغدا من تلاميذه، وكتب عنه بعد مماته. وإليه يعود فضل الإتيان بإحدى مخطوطات الموحِّدين الدروز من القاهرة، بتكليف من الامير السيد. وعندما توفي الشيخ مرعي دُفن في الفساتين (البساتين حالياً)، وعاد أبناؤه الى بعقلين، ومنهم يتحدّر شيوخ آل حمادة، الذي كان لكبيرهم الشيخ حسين دور كبير في عهد الامير بشير الشهابي الثاني، الذي ولاّه على إقليم الخرّوب وهذا الدور سيستمر بعد ذلك على الصعيد السياسي والإداري والديني في متصرفية جبل لبنان، ثم في لبنان الكبير بعد إنشائه في أول أيلول سنة 1920.
4. آل أبو حمزة: كان آل أبو حمزة يقيمون في السمقانية قبل انتقالهم إلى الخريبة في الشوف الحيطي، في أوائل القرن الثامن عشر، إذ من المرجّح أن أول من انتقل منهم هو الشيخ إسماعيل أبو حمزة بدليل أن ضريح والده موجود في السمقانية.
عدّ القس حنانيا المنيّر (1751 – 1823) آل أبو حمزة مع أنسبائهم آل أبو هرموش، من مشايخ الصف الثاني بعد مشايخ الصف الأول من مقاطجيي الدروز، ولكن ليس في تصرفهم مقاطعات ولا رجال مثل مشايخ الصف الأول. وقد أضافوا إلى نفوذهم التقليدي المتأتي من مشخيتهم نفوذاً جديداً متأتياً من المناصب العديدة، ومنها المناصب التي تسلّمها بعض أبنائهم، وأشهرهم منصور في إمارة الجبل 23، ورعى الشيخ إسماعيل أبو حمزة الذي كان شيخ العقّال أو شيخ عقل الموحِّدين الدروز من سنة 1759 إلى سنة 1798 وقد كلّفه في سنة 1763 الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي بالعمل من أجل إحلال الأمير يوسف الشهابي محل عمه الأميرفي سنة 1792 والإتفاق بين اليزبكيين والجنبلاطيين حسب ما تذكر إحدى الوثائق التي كانت موجودة عند الشيخ سعيد خطار أبو حمزة 24. ومن أشهر رجالات آل أبو حمزة الشيخ الزاهد العابد أبو يوسف أمين المتوفّى سنة 1389هـ (1969م)، وله ضريح في الخريبة هو مزار للتبرّك .

حكايات الامثال

حكايـات الأمثال

حكايا الناس والملوك

تعتبر حكايا الملوك من أكثر الأقاصيص التي كانت تحبها العامة وتتناقلها لما كان يرمز إليه الملك من ثروة عظيمة وسطوة وجبروت، فهو الآمر المطاع في كل أمور مملكته وهو المنعم أو المنتقم وهو العادل والكريم أحياناً والظالم والسفيه في أحيان أخرى وقد يكون أيضاً ظالماً وأحمق وفي كل هذه الحالات فإن الناس كانت تنظر إلى الملوك نظرة الرهبة. لذلك ليس صدفة أن القصص الشعبية وحكايا الجدات والرواة كانت غالباً عن الملوك وما يحصل لهم أو ما يحصل للناس معهم، وكانت أكثر الحكايات تشويقاً هي التي كان يتواجه فيها إنسان بسيط من فقراء الناس أو من عامتهم مع الملك وينجح في كسب ودّه بأعمال أو أقوال ذكية أو شجاعة. وقد لعبت تلك القصص أحياناً دوراً تربوياً عند روايتها للأبناء والبنات لأن في معظمها عبرة تنبّه الشخص البسيط إلى أن يكون فطناً وأن لا يخشى الملوك والأقوياء إذا كان لديه ما يسرهم أو يثير إعجابهم.
في هذه الحلقة من قصص الأمثال عدد من قصص الملوك فيها الكثير من العبر تجمع بين الملك وسلطانه وبين أشخاص ضعاف من الرعية لكن حباهم الله بالفطنة فكانت عوناً لهم على الملك وعلى مزاجه المتقلب.

(التحرير)

أصل هذا المثل في ثقافة الإحتجاج الصامت على الضرائب التي غالباً ما كانت ترهق الناس، لكنهم كانوا لا يجرأون على إظهار نقمتهم إلا في حالات الثورات والقلاقل التي كانت تنفجر عندما يبلغ الظلم درجة تفوق احتمال الناس. في بعض الحالات كانت القصة تضيف إلى الدراما شخصية الوزير الحكيم الذي يوفق في نصح الملك، كما يحصل في هذه الحكاية دون أن نعرف إذ كان قد نجح في نصحه أم لا.

يحكى أن ملكاً كان يزيد الضرائب سنة بعد سنة، وينفقها على بناء القصور والضياع وينفق منها أيضاً على البطانة والندماء والمحاسيب حتى عمّ الفقر، وانتشر الخراب، وراح الناس يهجرون قراهم وأملاكهم إلى حيث يذهبون ولا يرجعون.
وفي أحد الأيام نصحه وزيره أن يعتدل في التحصيل، ويقتصد في الإنفاق لافتاً إياه إلى أن الناس تترك الضياع ولن يبقى من يدفع الضرائب إذا افتقر الناس واستمرت هجرة الرعية.. لكن الملك بدل التمعن في النصيحة غضب على وزيره لجرأته وأمر بشنقه ليكون عبرة لمن يفكر بالإعتراض على أوامر الملك. وأتى بوزير سواه، وسأله رأيه في سياسة التحصيل والإنفاق، فأيد الوزير الجديد رأي الوزير القديم فلاقى المصير نفسه . وهكذا أخذ يشنق كل وزير يشير عليه بتقليص الضرائب وخفض الإنفاق، حتى أصبح جميع من له عقل راجح أو رأي سديد من أهل بلاطه يعتذر عن قبول منصب الوزير ويختلق شتى الأسباب حتى لا يلحقه ما لحق بالسابقين من الوزراء.. لكن في أحد الأيام قبل أحد الذين عرض عليهم منصب الوزير بحمل المسؤولية، ومن أول يوم تسلم فيه مهامه هرع إلى الملك وبدأ ينصحه بزيادة الضرائب. قال له:« يا طويل العمر، البلاد بألف خير والضرائب قليلة أمام مستلزمات الحكم، لذلك لا بدّ من زيادة الضرائب المعمول بها أو استحداث ضرائب جديدة»، وأضاف الوزير أنه لا بد من تحصيل مداخيل أكبر لكي يستطيع الملك القيام بواجباته تجاه الرعية ويعظم شأن مملكته . انبسط الملك من الوزير الجديد وقال في نفسه: هذا وزير عاقل ينفعني ويؤكد أن الوزراء الذين تخلصت منهم كانوا غير مخلصين ولا عارفين بشؤون الخزينة.
لكن ذات ليلة استيقظ الملك من نومه على جلبة خفيفة، وكم كانت دهشته كبيرة عندما رأى وزيره المخلص يقف على شرفته الواسعة أمام النافذة التي تطل على غرفة نومه، راعه الأمر وهبّ من فراشه وتوجه نحو وزيره وسأله عن سبب وقوفه في هذه الساعة من الليل قرب النافذة . فقال له الوزير :
ـ أطال الله عمرك يا مولاي ! رأيت في ما يرى النائم بومتين تتحادثان، فراعني ذلك، وخشيت أن يكون خلف مناجاتهما مصيبة . فقال الملك :
ـ وبمَ كانتا تتحدثان ؟
قال الوزير :
ـ قالت البومة الأولى للثانية هل توافقين على أن يكون ابني عريساً لابنتك ؟ . فأجابتها الثانية :
ـ بكل سرور . ولكن مهر ابنتي غال. فقالت الأولى :
ـ وكم تريدين مهراً لابنتك ؟ . قالت الثانية :
ـ ثلاث خرائب لتسرح فيها ابنتي وتمرح . فقالت الأولى :
ـ لك مني مئة خربة « إن طال عمر الملك ستصبح كل البلاد خراباً نرتع فيه كما نشاء لأن الضرايب خرايب». فصار كلام البومة مثلاً يقال في حالة التنديد بالسلطان الذي يجور على الشعب بضرائب لا يستطيع احتمالها.

الملك والوزير والحائك

وحكاية هذا المثل تقلب الموازين فتجعل الملك ووزيره وجهاً لوجه مع حائك عنده من الفطنة والحيلة ما يتمكن بهما من دخول أبواب القصور ونيل المآرب، بل إن هذا الرجل البسيط ينتهي في مقام رفيع بسبب ذكائه. بالطبع هذه القصة وغيرها نسجها العامة كنوع من الأحلام التي يتخيلون فيها أموراً غير واقعية لكنها تفرج عنهم وتعطيهم أملاً وربما تسلّيهم وهذا هو الهدف.
في الرواية أن أحد الملوك خطر على باله في أحد الأيام أن يصدر أمراً غريباً. وقد أرسل المنادين ذات يوم ليعلنوا على الناس أنه وبأمر من الملك بات ممنوعاً العمل في الليل، لأن الملك يريد راحة رعيته ولهذا فقد منع ايضاً النار والنور في البيوت بعد حلول العشاء.
ثم أراد الملك أن يعلم أثر ذلك الأمر على الرعية ومدى التزامهم به فطلب من وزيره أن يصطحبه في جولة ليلية ليرى بنفسه كيف تقبّل الناس ذلك الفرمان.
أثناء الجولة الليلية للملك ووزيره لاحظ الرجلان بصيص نور خلف نافذة أحد البيوت على أطراف المدينة. إقتربا، ونظرا من النافذة فإذا بحائك يجلس وراء نوله يعمل على ضوء الشمعة.
قال الملك للوزير عدّ أنت في سبيلك لأنني أريد أن أدخل على هذا الحائك لوحدي.
انصرف الوزير، فدخل الملك على الحائك. وقف الأخير للترحيب بالملك وقد تعرف عليه على الفور معرباً عن تقديره لبادرة الملك الكريمة بتشريفه في تلك الساعة.
قال له الملك: لم آتِ لزيارتك، بل لأسألك ألم يبلغك أمرنا بمنع النور والنار؟
قال الحائك: بلى وصلني أمركم يا ملك الزمان لكن الضرورة لها أحكام .
قال الملك: ما هي ضرورتك؟
قال له: إن علي أن أجني كل يوم على الأقل أربعة دنانير، وعمل النهار لا يكفيني لذلك فإن عليّ أن أعمل ليلاً لكي أتمكن من تحصيل الدنانير الأربعة.
قال الملك :ماذا تفعل بهذه الدنانير ؟
قال الحائك: دينار أنفقه على حاجتي ودينار أسدّد به ديناً عليّ ودينار أقرضه، ودينار أرمي به في البحر.
قال الملك: دينار تنفقه على حاجتك فهمنا، لكن الدنانير الباقية لم نفهم ماذا تفعل بها بالتحديد.
قال الحائك: يا مولاي ! عندي أب رباني وتعب عليّ، وهو اليوم عاجز وملازم للبيت، وعليّ أن أنفق عليه وأعتبر ذلك بمثابة تسديد لدين، وهذا هو الدينار الثاني. أما الدينار الثالث فإن لي ولداً أقوم بتربيته وتعليمه لعله يكون مرضياً وينفعني في آخرتي، وهذا هو الدينار الثالث أنا أعتبره بمثابة قرض لولدي لعله عندما أكبر يسددني كما أسدد والدي دينه، أما الدينار الرابع يا مولاي: فإن لي بنتاً أتولى تربيتها أيضاً وأنفق عليها في انتظار أن تكبر وعندها سيأتي رجل من الغيب يتزوجها فيأخذها مني ويمشي، وفي هذا فإن إنفاقي على ابنتي كمثل من يرمي ديناره في البحر لأنه على الأرجح لن يأتي من ابنتي نفع بعد أن تصبح جزءاً من عشيرة زوجها.
تعجّب الملك من عقل الحائك وإجاباته، وسر كثيراً منه فناوله كيساً من الدنانير وقال له ـ لكن لي عندك شرط .
قال الحائك:ما هو شرطك يا مولانا ؟
قال الملك: لا تبعِ رخيصاً!
قال له الحائك: لا توصِ حريصاً.
وأضاف الملك: ولا تفعل ذلك إلا بحضور شخصي.
عاد الملك إلى القصر ونادى الوزير وقال له :
هذا الحائك يبدو لي محتالاً، فاذهب وتحرّ لي ما هي قصته؟ فهو يزعم أنه ينتج أربعة دنانير في اليوم، ينفق أحدها ويسدّد ديناً بدينار ويقرض ديناراً ويرمي ديناراً في البحر فما هي حكايته الغريبة يجب أن تأتي لي بها في ثلاثة أيام وإلا فإنني سأقطع رأسك!! .
إكتأب الوزير لهذه المصيبة وهذا الطلب غير المعقول وتحيّر في الطريقة التي يمكن أن يأتي للملك بالجواب على هذه الألغاز، ثم قال بنفسه. ليس لي إلا الحائك فهو من سيرشدني إلى الإجابات.
توجّه إليه في صباح اليوم التالي ودخل حانوته فرحّب به الحائك وسأله عن مراده.
قال الوزير: لا أهلاً، ولا سهلاً، بل أريدك أن تجيبني أولاً الدينار الذي تقرضه لمن ؟ والذي تسدّد فيه ديناً لمن؟ والذي ترميه في البحر لماذا؟
قال الحائك: لا يمكنني أن أجيبك على هذه الأسئلة.
حاول الوزير الضغط عليه دون فائدة، أخيراً رفع سيفه مهدداً الحائك بالقول: إما أن تجيبني وإلا فإنني سأقطع رأسك.
قال الحائك من دون أي وجل: اقطع عنقي إذا شئت لكنني لن أتكلم! مهما فعلت بي فإنني لن أتكلم!!
فكر الوزير بنفسه: إذا قتلت هذا الرجل لن أستفيد شيئاً على العكس الجواب عنده وأنا في حاجة إلى الجواب قبل ثلاثة أيام وإلا فإنني سأخسر رأسي. لا بدّ إذاً من أن أجد طريقة أخرى وهي إغراؤه بالمال.. ثم أخرح كيساً من الدنانير وألقى به في حضن الحائك، وقال له: هل ستتكلم الآن؟ فتح الحائك الكيس فوجده محشواً بالدنانير الذهبية والتي كان مضروباً عليها صورة الملك فبدّل عندها رأيه وقال للوزير: الآن أصبح في إمكاني أن أتكلم.. بالفعل شرح الحائك للوزير سرّ الدنانير الأربعة، وانطلق الأخير عائداً للقصر وقد شعر أنه أنقذ رأسه فعلاً من سيف الملك. دخل عليه وألقى السلام والاحترام ثم قدّم له الحل الذي يطلبه وشرح له قصة الدنانيرالأربعة.
سأل الملك وزيره: من أين أتيت بالحل؟
قال الوزير لقد جئت به بالطبع من الحائك نفسه فهو صاحب القصة.
غضب الملك وبعث في طلب الحائك، الذي جاء على وجه السرعة ليرى أمامه كبار أهل الديوان والقواد والحاشية مجتمعين. أحسّ أن في الأمر خطباً ما لكنه لم يخف ووقف أمام الملك في انتظار أن يعرف ما الحكاية.
قال الملك : لا بدّ أنك تعلم لماذا بعثت في طلبك.
قال له الحائك: أبداً يا مولاي، لكنني رهن إشارتك.
قال الملك: لقد بعثت في طلبك لأنني قررت أن اقطع رأسك .
قال الحائك: خير إن شاء الله يا مولاي. ماذا فعلت لكي أستحق هذا العقاب؟
قال الملك: انت تعلم ما هو الشرط الذي وقع بيننا؟
قال الحائك: نعم يا مولاي لكن حاشا أن أكشف عنه لأحد أو أن أخلّ به
قال الملك: كيف ؟! .
هنا توجه الحائك في كلامه للوزير وقال له: أيها الوزير لقد جئتني لتسألني عن جواب لحكاية الأربعة دنانير، أليس كذلك؟
قال الوزير: نعم .
قال الحائك : وقد رفضت رفضاً باتاً أن أحدثك بالحل فهددتني بالقتل أليس كذلك ؟
قال الوزير : صدقت.
قال الحائك: ورفعت سيفك تريد ضرب عنقي؟
قال الوزير: حقاً
قال الحائك: أتذكر ما كان جوابي؟
قال الوزير: أذكر أنك رفضت رفضاً باتاً أن تكشف لي عن الجواب.
قال الحائك: ماذا فعلت أخيراً وجعلتني أقبل بأن أبوح لك بالجواب؟
قال الوزير: أعطيتك كيساً من الدنانير الذهبية.
قال الحائك: وما هو الرسم المنقوش على هذه الدنانير؟
قال الوزير: منقوش عليها صورة مولانا الملك.
فقال الحائك موجهاً كلامه هذه المرة إلى الملك: يا مولاي ؟! أنا لم أخلّ بالشرط . فأنت قلت لي لا تبع برخيص وأنا لم أبع برخيص، واشترطت علي أن لا أبيع إلا في حضور شخصك، وأنا لم أقبل أن أجيب الوزير إلا بعد أن قدم لي الدنانير ورأيت عليها صورتك فكان هذا بالنسبة لي بمثابة حضور لشخص جلالتكم فقمت عندها بإعطاء الوزير الجواب.
تعجّب الملك من قدرة الحائك، وأخذ بدوره كيساً من الدنانير ودفع به إليه.
بدأ الوزير عندها يشعر بالحسد تجاه هذا الحائك الذي اقتحم القصر عليه وباتت له حظوة عند الملك. فأراد أن يوقع بالحائك فقال للملك:
ـ يا ملك الزمان ! هذا الرجل محتال، ولا يستحق كل هذه الدنانير إلا إذا تمكّن من أن يجيبني على ثلاثة أسئلة فلنر ما هو قدر فطنته وذكائه.
قال الملك: أنا موافق .
بدأ الوزير بسؤال الحائك : أجبني، كم هو عدد نجوم السماء؟
قال الحائك الأمر بسيط، وتوجّه إلى الملك قائلاً:
ـ يا مولاي يلزمني جلد ماعز.
أحضر جلد الماعز فقال الحائك للوزير: عدد نجوم السماء بقدر عدد شعر هذا الجلد، وإن كان عندك أي شك فما عليك إلا أن تعدّ بنفسك..
أسقط بيد الوزير فطرح على الحائك السؤال الثاني:
قال: أين يقع وسط الدنيا؟ .
قال الحائك: وسط الدنيا مكان عرش مولانا الملك . وإن كان لديك شك خذ القياس بنفسك..
سأل الوزير أخيراً: ماذا تعرف عن قدرة الله تعالى؟
قال الحائك:الأمر بسيط أعطني ثيابك وخذ ثيابي.
تردّد الوزير فأمره الملك بأن يفعل.
تبادل الرجلان الثياب، فإذا بالحائك يتوجه صوب كرسي الوزير ويجلس عليه ثم يقول له: الآن يمكنني أن أجيبك: إن الله يعزّ من يشاء ويذل من يشاء ولا مردّ لحكمه.
قال الملك وقد دهش من براعة الحائك: أمرنا أيها الحائك بتعيينك وزيراً لدينا، وأنت أيها الوزير أمرنا لك بجعالة محترمة وسنبعث بك إلى معلم ماهر في السوق لكي يعلمك الحياكة.

وهذه القصة تدور حول مثل معروف هو: يا بيموت الحمار يا بيموت الملك يا بموت أنا . أما الحكاية فهي أن ملكاً كان لديه جحش أبيض يحبه فكان يحتفظ به في قصره، ويشتري له أفخر الزينة والخلاخيل وعقود الياقوت وقد أطلق له الحبل على الغارب، فأخذ يجول في القصر كما يشتهي، ويدخل على الملك بين جلسائه ولم يكن أحد ليستطيع أن يتذمر أو يشكو، فالجحش جحش الملك، وكرامة الجحش من كرامة المملكة .
ولأن قصور الملوك تزدحم بالمتملقين، فقد أخذ ندماء الملك يطرون هذا الجحش، ويشيدون بجماله وذكائه، وقربه من القلوب . وكانوا يبادرون إلى القول حال دخوله إليهم :
ـ خزاة العين عن هالجحش، جحش ولا كل الجحاش .
يا عمي ! مش كل الجحاش جحاش .
ـ مش ناقصو إلا يحكي .
ـ حرام ما يتعلم القراءة . لازم مولانا يخصص له معلم. يعلمه لغة البشر بحيث يقدر أن يخاطبنا أو يفهم علينا عندما نخاطبه. فهذا الجحش يبدو عليه الذكاء وقد لا يكون ذلك عليه صعباً.
وقعت النصيحة الأخيرة موقعاً حسناً عند الملك . فاستدعى معلمي اللغة ووعد بجزيل العطاء لمن يعلم الجحش القراءة والكلام بلغة بني آدم.. إلا أن هؤلاء أنكروا أن يكون ذلك ممكناً، فالجحش جحش، هكذا خلقه الله . ومن ذا الذي يستطيع أن يغير في خلق الله؟
غضب الملك، وأمر بحبسهم جميعاً . ونادى في المملكة مناد: من يستطيع أن يعلم جحش الملك القراءة فإن له جائزة كبيرة . ولم يأت الملك جواب لعدة أيام ثم حضر بعد ذلك إلى قصر الملك شيخ عركته السنون لكنه كان نبيهاً وواثقاً. وقف بين يدي الملك وقال له يا مولاي : إنه لم يحدث منذ قديم الزمان أن وجد حمار يعرف القراءة كما لم يوجد من حاول أن يعلم الحمير القراءة لأن في الأمر صعوبة كبيرة لكنني بعد أن درست طبائع الحمير واستفتيت في أمرهم وجدت أن هناك طريقة لتعليمهم القراءة والنطق بلغة بني آدم، لذلك أقول لجلالتكم أنني مستعد لهذه المهمة.
فسُرّ الملك غاية السرور غير أن الشيخ المسن أكمل قائلاً:
كما شرحت لجلالتكم الأمر صعب للغاية ويتطلب تدريباً كما يتطلب أن يكون الجحش مسروراً على الدوام ومدللاً. لهذا فإنني أحتاج يا مولاي إلى وقت كما أحتاج إلى بعض المصاريف . فقال الملك :
ـ اطلب ما تشاء، ومعك الوقت الذي تريد . فقال الرجل:أحتاج إلى خمس سنوات كي أتمكن من تعليم الجحش، وأحتاج إلى بعض الأغذية والأشربة التي تشحذ ذهن الحمار وتساعده على التركيز والإستظهار ؛ كالجوز واللوز والصنوبر والزنجبيل وشراب البيلسان والعسل والحليب وذلك كل يوم، ولي أمل كبير أن أستطيع إنجاز مهمتي خلال تلك المدة، فأعود إليك وشهادة التخرج في رقبته .
أمر الملك بفتح اعتماد خاص بتعليم الجحش، ووضعه تحت تصرف الرجل . ولما لامه أصدقاؤه ومعارفه لدى خروجه من القصر، على القبول بالمهمة المستحيلة كان جوابه لهم :
« بعد خمس سنوات يا بيموت الملك , يا بيموت الحمار، يا بموت أنا »
وقد روى سلام الراسي الحكاية لكننا أوردناها بصيغة مختلفة..

تحقيق شويّا

بلــــدة شويّـــــا الضاربــة فــي التاريــــخ
الزراعــة أولاً لكــن الميــاه شحيحــة

قلعـــة البســـط بناهـــا الفرنسيـــون إتقـــاء من الثـــوار
وهدمـهـــا الإسرائيليـــون قصفـــاً وكيـــداً

متوسطــــة يتيمـــة ولا مستوصـــف
وثـــــورة الاتصــــالات لــــم تــــدق أبوابهـــا

شويّا هذه البلدة الموغلة في التاريخ تتجلبب بجلباب حرمون الذي ينثر من شموخه على روابيها ومنحدراتها عنفواناً إنجبل به ابناؤها عبر التاريخ ليصدحو ا كرماً ونبلاً وشهامةً تجلت في مقاومة كل غاصب ومحتل لأرض الوطن .

التسمية
بحسب معجم أسماء القرى والبلدات اللبنانية فإن تسمية بلدة «شويّا» تعود مثل الكثير من القرى اللبنانية الجبلية الى السريانية وتعني الكلمة الأرض الممهدة والمعدة للزرع والغرس. وتنطبق التسمية على الامتداد الجغرافي لشويّا، إذ تبدو القرية فعلاً بمثابة منبسط عريض رابض على أقدام جبل الشيخ ولا شك أن أرضها الممهدة كانت في الماضي موقعاً مؤآتياً للزراعة وللسكن وقد عمل الأقدمون على إعمارها بسبب ميزات الموقع وكذلك تربتها الخصبة التي سهّلت قيام النشاطات الزراعية المختلفة وتربية المواشي.

الموقع
تقع بلدة شويّا في قضاء حاصبيا وتتبع ادارياً الى محافظة النبطية وهي تبعد عن العاصمة بيروت 120 كلم وترتفع 1250 م عن سطح البحر، و تتصل بعدد من القرى والبلدات المجاورة، إذ تحدها من الشمال قرى ميمس وعين تنتا والخلوات ومن الغرب عين قنيا وحاصبيا ومن الشرق شبعا ومن الجنوب عين جرفا .
يمكن الوصول اليها عبر طرق عديدة :
طريق بيروت -صيدا – مرجعيون – حاصبيا – شويّا
طريق شتورة – حاصبيا – شويّا
طريق شتورة – راشيا – عين عطا – شبعا – شويّا

أهميتها التاريخية
تعتبر بلدة شويّا من البلدات القديمة الموغلة في التاريخ، وهذا ما تدل عليه المغاور والنواويس الواقعة شرق البلدة والتي تعود الى حقبات تاريخية قديمة. كما ان اتقان الصنع يدل على أنها كانت تنتمي إلى حضارات وممالك مزدهرة. وهناك خمسة نواويس محفورة في الصخر يفصل في ما بينها حاجز صغير وعلى مقربة منها يقع بئر للمياه وهذه الآثار هي رومانية كما توجد بعض الآثار التي يرجّح أنها تعود الى زمن «عنا آيل» اي الى عصور آرامية للزمن السابق للمسيحية، وآيل تعني باللغة الآرامية «الله»، وما يدل على عراقة البلدة في التاريخ اشجار الزيتون المعمرة التي يزيد عمر الكثير منها على 2000 عام، كما توجد بالقرب منها آثار قديمة أيضاً وهي عبارة عن ابراج عسكرية وبقايا معابد ولعل ابرز هذه الابراج البرج الذي يطلق عليه إسم غبريال وقد سمي على إسمه تكريماً للضابط الفرنسي الذي قتل في فترة الإنتداب الفرنسي. واهمية هذا البرج تعود الى كونه مشرفاً على مساحات واسعة تصل الى فلسطين المحتلة وعلى البقاع والسلسلتين الشرقية والغربية. والبرج هو جزء من القلعة القديمة التي اطلق عليها اسم قلعة البسط والتي هدمت بفعل قصف الطيران الاسرائيلي أثناء نشاط المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان الذي استمر حتى العام 1982.
ويذكر مختار البلدة السيد أسعد الشوفي أن «حصن البسط» أو ما كان يُتعارف عليه قديماً بـ «برج البسط» تمّ بناؤه خلال حقبة الإنتداب الفرنسي من حجارة الجبال المجاورة بهدف توفير الحماية للجنود الفرنسيين وتوفير مركز مراقبة وتتبع التحركات التي قد تكون معادية للانتداب في تلك الفترة. واكتسب الموقع أهمية استراتيجية بالنظر إلى المناطق الجغرافية الشاسعة التي يشرف عليها، وكانت القلعة بناء متوسط الحجم لكن كان يتبع لها حزام من الأراضي المنبسطة والبساتين بحيث بلغت المساحة الكلية للموقع 24,000 م2 لكن بعد جلاء الإنتداب الفرنسي أخليت القعلة وبقيت خالية عملياً ومتروكة، باستثناء وجود شخص ربما كان وكيلاً لأصحاب الأرض يدعى ابو جاك كان يهتم بالبساتين، إلا أنه في أواخر سبعينات القرن الماضي وصلت مجموعات فلسطينية مسلحة تمركزت في المكان وأتخذته مقراً لها تنطلق منه في تحركاتها في المنطقة، وبقي الوضع على هذا النحو إلى أن اغار عليه الطيران الحربي الاسرائيلي وقصفه في العام 1976 ودمره بشكل شبه كامل بحيث لم يبق منه إلا بعض الأجزاء التي تم تحديثها وأضيف إليها بناء حديث يستخدم جزء منه مركزاً للمجلس البلدي، وجانب آخر مقراً للكشاف اللبناني، وما تبقى تمّ ضمّه الى بيت الضيعة ، وبذلك اسدل الستار على أحد المعالم التاريخية في البلدة.

سنديانة-الضيعة-1
سنديانة-الضيعة-1

منتزه لأمراء آل شهاب
كانت البلدة في فترة ما مقصداً لأمراء آل شهاب الذين كانوا يقصدونها خصوصاً في فصل الصيف بسبب مناخها البارد، وفي الوقت نفسه قربها الجغرافي من مقرهم السياسي وسكنهم في حاصبيا، إذ إن شويّا لا تبعد سوى سبعة كيلومترات عن المدينة، لكنها ترتفع نحو 1250 متر عن سطح البحر بينما ترتقع حاصبيا نحو 700 متر، وكان الأمراء يقصدون القرية في رحلات الصيد والنزهات، لكنهم وبسبب قربها من حاصبيا لم يجدوا على الأرجح حاجة لبناء بيوت أو قصور لهم فيها.
الوضع السكاني
بسبب غياب الإحصاءات السكانية الرسمية في لبنان منذ زمنٍ طويل بدأت البلدية منذ أشهر قليلة بإجراء إحصاء لعدد السكان وذلك لتقديم وثائق الى وزارة الداخلية تهدف الحصول على آلية انتخاب مختار اضافي في البلدة، وهذا العمل أظهر أن العديد من أبناء البلدة، الذين توفوا منذ زمن، لم يتم اسقاطهم من اللوائح الرسمية ويبلغ عدد السكان تقريباً 2850 نسمة لكن هذا الرقم يفوق على الأرجح عدد السكان المقيمين بصورة دائمة في البلدة. وأظهر المسح السكاني الذي أجرته البلدية أن سكان البلدة يتوزعون على الفئات العمرية التالية :
من عمر يوم حتى 14 سنة 30.5 %
من عمر 14 سنة ولغاية 64 سنة 66.5 %
فوق 64 عاماً 3.1 %

كيف يمكن ان نصنّف السكان بين مقيم ومغترب وهل تشهد البلدة نزوحاً باتجاه المدن ؟
نسبة المقيمين في البدة مرتفعة عند مقارنتها بالقرى والبلدات المجاورة إذ إن 85 % من ابناء شويّا يسكنون في بلدتهم ونسبة قليلة هم الذين يسكنون في المدن الساحلية لضرورات العمل، بينما انتقل عدد من الطلاب إلى بيروت لمتابعة تحصيلهم العلمي، أما نسبة المغتربين فقد كانت وجهة هجرتهم في الماضي نحو كندا واستراليا وبعض دول اميركا الجنوبية، أما اليوم فإن الهجرة إلى المغتربات البعيدة محدودة وما نشهده هو توجّه عدد من الشباب للعمل في دول الخليج العربي .

درج-محفور-على-الصخر-يعود-الى-العصر-الروماني
درج-محفور-على-الصخر-يعود-الى-العصر-الروماني

الثروة المائية
تعتبر مصادر المياه في البلدة ضئيلة ً مقارنة مع حجم المياه المطلوبة للقيام بأعباء الزراعة ولا يوجد سوى مصدر واحد هو المياه التي يتم جرها من بلدة شبعا عبر الهبارية، لتصل الى خزان البلدة الأساسي وهذه يتم توزيعها على كافة منازل البلدة من خلال شبكة المياه الداخلية. واللافت أنه لم يتم حفر أي بئر ارتوازية في البلدة لكن عدداً من السكان لجأوا الى إقامة خزانات إسمنتية لجمع مياه الأمطار في موسم الشتاء ليصار الى استخدامها خلال موسم الشحائح في فصل الصيف لأغراض الإستخدام المنزلي.
ليس من قبيل الصدفة وبسبب شح الموارد المائية الطبيعية أن تكون معظم زراعات شويّا بعلية، وفي صدارة تلك الزراعات الكرمة والصنوبر والزيتون والصبير وغيرها من الزراعات المطرية. أما الزراعات الأخرى كزراعة الخضار الموسمية خلال فصل الصيف فيتم تأمين المياه لها من البركة المجاورة للبلدة أو من «الحافور» وهو عبارة عن بحيرة لتجميع مياه الأمطار في الشتاء يتم استخدامها في موسم الصيف لري المزروعات، ويتم جلب المياه منها بواسطة شاحنات صغيرة مزودة بصهاريج، لكن مياه الحافور غالباً ما تنضب قبل نهاية فصل الصيف ولا يبدو أن استخدام مياهها يتم وفق نظام مداورة أو حصص.

محطات بارزة
تحتفظ بلدة شويّا بذكرى أيام مجيدة في تاريخها منها مشاركة أبنائها في استعادة بلدة حاصبيا مع الثوار الدروز في العام 1860 بقيادة كنج ابو صالحة، ودعم ابناء البلدة في العام 1925 للثورة العربية بقيادة سلطان باشا الأطرش، وقد برز احد مشايخها آنذاك الشيخ ابو يوسف حسين جمّاز الذي كان يتصف بالإقدام والشجاعة بمدّ الثوار ومساعدتهم وهو قدّم أحد أبنائه شهيداً في المعارك مع الفرنسيين.
وقعت البلدة تحت الإحتلال الإسرائيلي لسنوات طوال فعانت الكثير وتحملت كل صنوف القمع ولم ترضخ بل قدمت الكثير من الشهداء في سبيل الدفاع عن الأرض والكرامة إلى ان انجلت تلك الغيمة السوداء وعادت البلدة الى حضن الوطن .

الزراعة والثروة الحيوانية
تعتبر شويّا بلدة زراعية بالدرجة الأولى، وهذا على الرغم من أنّ العاملين في الزراعة لايشكلون النسبة الغالبة من مجموع المقيمين الذين هم في سن العمل، ولكن حتى الذين لا يمارسون الزراعة كنشاط اقتصادي فإن هذا النشاط العريق يعتبر مصدر دخل إضافياً قد يتفاوت في الأهمية لعدد كبير من الاسر المقيمة وقد يغطي بالتالي تكلفة الحاجات الضرورية مما يسمح للأسر بادخار جزء من مداخيلها الأساسية أو استخدامه في أغراض البناء أو تمويل بعض المصالح.

المغارة-التي-سكن-فيها-الشيخ-الفاضل-وتسمى-مغارة-قرف-الشيخ---Copy
المغارة-التي-سكن-فيها-الشيخ-الفاضل-وتسمى-مغارة-قرف-الشيخ—Copy

هيمنة كبار الملاك
تتفاوت مساحات الحيازات الزراعية بين الأسر إلا أنه يلاحظ غلبة الحيازات الكبيرة نسبياً، إذ تشير إحدى الدراسات التي أجريت قبل مدة قصيرة إلى أن 64% من الأسر تمتلك نحو 10% من مساحات الأراضي الزراعية بينما يمتلك 7% فقط من سكان البلدة نحو 50% من الحيازات الزراعية، بينما يستحوذ 29% على 40% من الحيازات الزراعية وهم الفئة الوسطى من ملاك الأراضي.
والسبب في اختلاف هذه النسب، يعود الى اختلاف مساحات الأراضي الزراعية، كما وتختلف هذه النسبة باختلاف أنواع المزروعات وطريقة استثمار هذه الأراضي الزراعية، واستخدام الوسائل الحديثة في الزراعة ونوعية السماد والأدوية المستخدمة.
تهتم بعض الأسر بتربية المواشي والطيور والنحل، وقد دلّت دراسة اجتماعية قام بها باحثون جامعيون أن 32% من أرباب الأسر يمتلكون بعض الماشية أوالطيور وعدد قليل منهم يهتم بتربية النحل، كل ذلك كجزء من الاقتصاد المنزلي وتوفير مداخيل لدعم ميزانية الأسرة، لكن لا توجد مزارع أبقار أو مداجن في القرية..
المهن والحرف
لا توجد صناعة بالمعنى الحقيقي في البلدة حيث تقتصر على بعض المصانع الصغيرة التي تختص بصناعة الألمنيوم والحدادة الإفرنجية ومنشرة صغيرة وجميعها هي فردية وخاصة حيث يقوم اصحابها بتأمين معيشتهم فقط فلا تساهم في توفير فرص عمل إضافية إلا في ما ندر لكن هذه الورش تؤمن احتياجات البلدة من مختلف اللوازم التي يحتاجها الأفراد في تشييد المنازل . ويوجد في البلدة حرفيون يتركزون خصوصاً في خدمات قطاع البناء وأعمال الصيانة مثل الكهرباء والصحية والورقة وأعمال البناء.
أما المرأة فإنها تهتم غالباً بمنزلها وباقتصاد المنزل خصوصاً في موسم الصيف والاستعداد لفترة الشتاء الباردة، فهي مسؤولة عن أعمال المونة وتساهم في تصنيع المنتجات المنزلية وتربية الأولاد ومساعدة الزوج، وهناك بعض النساء اللواتي يعملن في مهنة التعليم التي تسمح بها التقاليد والأعراف الاجتماعية، لكن ليس وارداً أن تعمل المرأة خارج المنطقة.
الواقع الإجتماعي
تعتبر بلدة شويّا من البلدات اللبنانية الريفية التقليدية، وقد شهدت في تاريخها صراعات واضطرابات خصوصاً خلال العهد العثماني والحربين العالميتين والانتداب الفرنسي، كما إنها وجدت نفسها في دوامة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بسبب انتشار المنظمات والأعمال الانتقامية للعدو، ثم جاء الاحتلال الإسرائيلي المباشر وما رافقه من تأثيرات على كافة الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
وقد شهدت القرية بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 تحركاً للحياة السياسية لكن ذلك اتخذ مظهر قيام جماعات حزبية إثر وجودها وتنافسها بشكل مباشر على العلاقات بين أهالي البلدة فحصلت مظاهر تنافر وتوترات، لكن عقّال البلدة وأصحاب الرأي الراجح فيها تمكنوا من معالجة هذه السلبيات. عدا ذلك، لا توجد في بلدة شويّا منظمات حكومية ولا مؤسسات مدنية دائمة ولكن هناك بعض الجمعيات الأهلية.

الصحة والثقافة
تعاني بلدة شويّا كغيرها من البلدات المجاورة، نقصاً في العناية الصحية فلا وجود لعيادات متنوعة ولا مستوصفاً. منذ ثلاث سنوات تقريباً، اتخذت جمعية نور للرعاية الصحية والاجتماعية فرعاً لها في بلدة شويّا، بحيث قدمت بعض المساعدات للأهالي، كما تقوم الجمعية كل شهر تقريباً ببعض الأنشطة الصحية حيث تستدعي أطباء من اختصاصات مختلفة، لمعاينة الأطفال والشيوخ والمرضى من مختلف فئات الأعمار.

” 64 % مـــن الأســـر تمتـــلك نحو 10 % مـــن الأراضي بينـــما يمتـــلك 7 % فقـــط من سكان البلدة نحـــو 50 % “

النواوييس
النواوييس

الواقع التعليمي
يقول الأستاذ منيف ابو سعد إنه بعد استقرار الوضع الأمني والإجتماعي أخذت الدولة تعير التربية والتعليم الإهتمام اللازم فتم افتتاح مدرسة رسمية في البلدة، وشكلت الهيئة التربوية لهذه المدرسة التي بدأت في تقديم خدماتها في العام 1984 حيث تمّ بناء المدرسة الحالية على الحصن العسكري الذي كان يستخدمه الفرنسيون ابان مرحلة الإنتداب على لبنان وسوريا، ولا يوجد سوى مدرسة واحدة في البلدة وهي متوسطة ومختلطة . وقد ألحقت بها مكتبة، ويقارب عدد الطلاب 250 طالباً أكثرهم من ابناء البلدة. لكن هناك بعض العائلات الميسورة التي ترسل أبناءها للتعلم في مدارس خاصة في حاصبيا، كما إن أكثر تلامذة المدرسة يتوجهون إلى حاصبيا عند الانتهاء من مرحلة الدراسة المتوسطة والانتقال إلى المرحلة الثانوية بسبب عدم وجود ثانوية في القرية.

ثورة الإتصالات لم تصل بعد
على الرغم من التغطية الواسعة لخدمات الإنترنت في لبنان، ما زالت بلدة شويّا متأخرة عن هذا التطور، فالخدمات المتوافرة عبر أوجيرو ضعيفة حيث إن الهاتف الثابت وصل الى البلدة في السنوات القليلة الماضية لكنه لم يوفر تغطية شاملة ولم تصل الإنترنت إلى منازل القرية إلا من خلال بعض الافراد الذين يستثمرون خطوطاً داخل البلدة، ويأمل ابناء البلدة أن تقوم الدولة باستكمال مدّ شبكة أوجيرو وتوصيل البلدة بخطوط ADSL الضرورية للتواصل مع الشبكة، وقد باتت الإنترنت مهمة جداً في مجالات العمل والتعليم والبحث والتواصل الاجتماعي ولم تعد مجرد ترف.

النزوح
كما أسلفنا فإن النزوح لا يشكل ظاهرة في البلدة باستثناء توجه بعض الطلاب الذين تخرجوا أو دخلوا مرحلة التعليم الجامعي إلى خارج القرية وقد سعى بعضهم للعمل في أماكن تعليمهم لتحصيل ما قد يساعدهم على تحمل نفقة تعليمهم العالي أو الجامعي، وهناك أيضاً مشكلة الخريجين الذين لا يملكون فكرة عن مجالات العمل المتوافرة وقد يبقى بعضهم بلا عمل مدداً طويلة.
السلطة المحلية
المجلس البلدي في شويّا شأنه شأن سائر المجالس البلدية يسعى الى الإرتقاء بالبلدة وتوفير الخدمات الأساسية. وعن هذا الواقع يحدثنا رئيس البلدية السيد وسام دعيبس:
> ما هي أبرز اهتمامات المجلس البلدي ؟
يعمد المجلس البلدي الى تطوير واقع البلدة وتوفير الخدمات التي تسهل عمل المواطنين وتجميل البلدة وتنظيم نشاطات البناء والإنفاق على الإنارة وغيرها إضافة الى الإهتمام بواقع الشباب وتفعيل دورهم.
> ماهي ابرز انجازات المجلس البلدي ؟
قامت البلدية بتأمين ثلاثة مولدات كهربائية بدعم من الوزير مروان خير الدين وذلك بهدف سد النقص في التيار الكهربائي والتعويض عن ساعات التقنين الطويلة أحياناً، علماً أن الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي يضرّ بالأعمال كما يؤثر على نشاطات الدراسة، أيضاً أصبحت شبكة الصرف الصحي شبه منجزة ونعمل على انجاز الجزء المتبقي منها.
قمنا أيضاً بشق العديد من الطرقات الزراعية وتأهيل عدد منها بالإسمنت بدعم من مجلس الإنماء والإعمار.
كما إننا نعمل على تطوير شبكتي الكهرباء وتوفيرها للبيوت والأبنية الجديدة والتي أقيم بعضها خارج النطاق التاريخي للبلدة مما يتطلب جهداً إضافياً وتكلفة.
> ما هي المشاريع المزمع انجازها خلال الفترة القادمة؟
سوف يتم إنشاء بحيرة لجمع مياه الأمطار بهدف توفير موارد مياه إضافية لري المزروعات، والمشروع يتم بدعم من وزارة الزراعة وتم تكليف المشروع الأخضر بتنفيذه في الفترة القريبة المقبلة ، كما إن العمل جارعلى تطوير ساحة الأفراح في البلدة اضافة الى العديد من المشاريع التي نقوم بدرسها حالياً.
> هل من مطالب؟
نناشد الدولة الإلتفات إلى القرى والبلدات النائية ومساعدتها، وشويّا هي من القرى المهملة ولا تحظى بالدعم الكافي، فهي بحاجة الى مستوصف يخفف عبء انتقال المرضى إلى أماكن خارج البلدة، كما نطلب من وزارة البيئة دفع المستحقات المتوجبة عليها للبلدية في مشروع مستوعبات النفايات، كي لا تتحمل البلدية اعباء اضافية كما نطلب من وزارة الثقافة ان تعمد الى انشاء مكتبة عامة في البلدة وذلك لتعزيز الاهتمام بالثقافة وتوفير حاجة أساسية للطلاب في البلدة.

عائلات بلدة شويّا
الشوفي – ابو سيف – عماد – جماز – بركات – الحذوة – علوان – ابو سعد – دعيبس – ابو نجم – بدوي – الحمرا – داغر – الخطيب – عبود.

الشيخ ماجد أبو سعد
شويّا بلدة القناعة والسرور
في كنف الأرض وخير الطبيعة

يختزن الشيخ ماجد أبو سعد زاداً وافراً من المعارف الروحية والزمنية وهو ينفق الكثير من وقته في توجيه الجيل الجديد وتقديم النصج والإرشاد للشباب طائفاً في القرى والبلدات مستجيباً لطلبات المهتمين بالإستزادة من المعرفة والحصول على الوعظ والتوجيه الصحيح. «الضحى» التقت الشيخ أبو سعد وكان هذا الحوار:
> ما هي أبرز المحطات في تاريخ شويّا؟
يعتبر اختيار الناسك الزاهد الشيخ الفاضل المكنّى بأبي هلال لبلدة شويّا مسكناً لفترة زمنية من اهم هذه المحطات، وقد مكث وقتاً في كهف جنوب البلدة يدعى اليوم كهف الشيخ وقد وصف تلميذه الشيخ ابو علي عبد الملك البلدة بأنها «وارفة الظلال عامرة بالأخيار» وقد كان طيب مناخها الطبيعي مع صفاء جوها الروحي سبباً في اختيار الشيخ الفاضل لها.
ومن الأعلام الذين اشتهروا في تاريح البلدة في اواسط القرن الماضي الشيخ ابو علي محمد دعيبس الذي نهج منهج الزهد والفقر والورع وعكف على عبادة الله عز وجل فكان يقتات بما ينتجه من رزقه وكان يعمد الى توزيع أكثر محاصيله كصدقات للمعوزين والمحتاجين. ومن أبرز المآثر المنقولة عنه ان صبية قصدوا كرمه المغروس بالبطيخ لسرقته ولدى وصولهم صدف وجود الشيخ فهرع الصبية الى الفرار لكن احدهم علق سرواله في سياج الحقل فكان ردّ الشيخ « احترسوا كي لا تصابوا بأذى» فهم فروا من الخوف وربما الخجل من فعلتهم، بينما كان الشيخ حريصاً على أن لا يصابوا بمكروه .
ويتابع الشيخ أبو سعد وصفه لبلدة شويّا فيقول إن معظم سكان البلدة يعيشون عيشة القناعة، ويعتبرونها عيشة السرور وراحة البال فأرضهم بعلية ونتاجهم محدود ويجاهدون لتأمين أكثر مستلزماتهم من الأرض راضين بما قسمه الله لهم، وهم فعلاً أوضح تطبيق للمثل الذي يقول «فلاح مكفي سلطان مخفي»، وهنا يستشهد بقول لقمان الحكيم لولده « يا بني باقة بقل على مائدتك خير من خروف على مائدة غيرك» والمقصود بالبقل الخضار البرية ولا سيما الهندباء البرية .

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

تضامنـــاً مـع السوريين في لبنان

منذ عشرات السنين يعتبر وجود الأخوة السوريين في لبنان عاملاً أساسياً في حركة الاقتصاد اللبناني، فقد هجر اللبنانيون مع الوقت عدداً من المهن اليدوية في الزراعة أو في قطاع البناء ليتوجهوا إلى المغتربات أو ينتقلوا إلى نشاطات التجارة أو الحرف، وحل محلهم مع الوقت عمال وفنيون سوريون تأمنت بفضل وجودهم الورش والاعمال الزراعية وأصبح الكثير من النشاطات البسيطة أو التي تتطلب جهداً جسدياً معتمداً بصورة متزايدة فعلاً على مئات الألوف من العمال الأجانب والذين يأتي في طليعتهم السوريون. وقد بدا هذا الوضع طبيعياً بسبب القرب الجغرافي وبسبب العلاقات الخاصة بين البلدين والتي يمكن فيها للبناني زيارة سوريا وللسوري زيارة لبنان دون الحاجة إلى سمة دخول.

هذا الوضع لم يتغير في الحقيقة رغم الأحداث السورية وما نجم عنها من مآسٍ إنسانية ومشكلات نزوح، فالاقتصاد اللبناني في حاجة إلى مئات الألوف من السوريين الذين يتوزعون على قطاعات البناء والزراعة والعديد من المهن الأخرى. أما النازحون فقضيتهم مختلفة وتحتاج ولا شك إلى دعم عربي ودولي للحكومة للبنانية من أجل الوفاء بواجباتها تجاه هؤلاء الذين يعيشون في أوضاع صعبة للغاية وبسبب ظروف لا دخل لهم بها.

لذلك عندما أصدر الأمن العام اللبناني قراراته المتعلقة بفرض التأشيرة على السوريين وأضاف إليها سلسلة طويلة من الاشتراطات فقد استدعى ذلك على الفور ردود فعل شاملة من السوريين ومن بعض الحكومات الأجنبية، ونشرت في الوقت نفسه مقالات وتعليقات تحدثت عن سوء المعاملة التي يتعرض لها السوريون على الحدود اللبنانية بما في ذلك استخدام الضرب والإهانات والاستهزاء وكسر الهويات السورية على سبيل العقاب ورد الناس عن الحدود بصورة اعتباطية وإدخال تدبير غير مسبوق هو منع السوري من الدخول لسنة أو أكثر (!) عبر إدخال إسمه في قاعدة بيانات الأمن العام .

الحكومة اللبنانية محقة ربما في تذمرها من نقص الدعم الدولي وترك بلد صغير مثل لبنان يقلع شوكه بيديه في موضوع النازحين، لكن المشكلة ظهرت عندما اتخذت الحكومة نفسها موقفاً من السوريين لا يميز بين النازحين وبين من يعملون في لبنان منذ سنوات عديدة والكثير منهم مقيم مع عائلاتهم في شقق مستأجرة في البلدات المختلفة حتى أصبحوا جزءاً من سوق العمل فيها ومن نسيجها الاجتماعي ومن اقتصادها، والسوريون الذين يعملون في لبنان أكثرهم ينفق قسماً من دخله على الأقل في البلد ويخلق بالتالي طلباً على الحاجيات والسلع والخدمات.

لذلك وعندما بدأنا نسمع عن أصدقاء سوريين بعضهم أساتذة في مدارس خاصة وبعضهم مهنيون وحرفيون وقد تمّت أعادتهم إلى سوريا على الحدود أدركنا أن هناك خللاً ما. أحد هؤلاء أخذ معه عقد الإيجار وبطاقة العمل ومع ذلك قالوا له لا يكفي وأعطي لائحة بوثائق وتصديقات كلفته نحو 400 دولار قبل أن يسمح له أن يجرب حظه مرة ثانية ويسمح له بالدخول لكن لمدة أسبوع فقط.!

أحد مظاهر الخلل في السياسة الجديدة استحداث نظام الكفيل، وهذا النظام مستحيل التطبيق على العمالة المؤقتة ويمكن تطبيقه فقط في مؤسسات على عمالها الدائمين المستخدمين بعقود. إن أكثر العمال السوريين لا يمكنهم إيجاد وظائف ثابتة وعملهم موسمي وهم ينتقلون من ورشة إلى أخرى حسب توافر فرص العمل ولا يمكن بالتالي تطبيق نظام الكفيل عليهم، وإذا طبق هذا النظام فإنه سيجبرهم على البحث عن «كفالة» شخص يصبحون رهينته ولا يفيدهم في شيء.

لذلك فالذي سيحدث هو أن السوريين الباقين في لبنان سيتحولون إلى وجود غير منظم لأنهم لن يستطيعوا التقدم في لبنان لتجديد إقامتهم وفق النظام القديم كما إنه لن يمكنهم السفر عبر الحدود لتسوية وضعهم حسب الإجراءات الجديدة مما سيخلق وضعاً صعباً للغاية ويجعلهم رهائن فعلا ويسبب لهم وضعاً إنسانياً غير مقبول.

لذلك نقول إنه لا بد لأي تنظيم لوجود السوريين في لبنان أن يبدأ بالاعتراف بحقوقهم الإنسانية وبحاجة البلد إليهم وإلى جهودهم، وأن يقوم -إذا كان ذلك ممكناً- على التمييز بين النازحين وبين العمال. أما إذا تبين أن ذلك التمييز غير ممكن فيجب الحفاظ على الاتفاقات المعقودة مع سوريا حول حرية انتقال الأشخاص بين البلدين والبحث عن حلول واقعية للأعباء الناجمة عن النزوح أو لبعض المشكلات الأمنية التي قد يعتبرها البعض مرتبطة به. إن السوريين في لبنان مواطنون لهم كرامتهم وهم في حاجة لتضامننا وتفهمنا وليس إلى سياسات تمييز جعلت بعض الصحف الدولية تعيّرنا بالعنصرية وانعدام الشعور الإنساني.

الشيخ ابو علي يوسف البردويل

الشيخ العابد الذي خضع له الطاغية بشير الثاني

سيــرة شيــخ اليقيــن وأســد الديــن
الشيــخ أبو علــي يوســف البردويــل

ترك الاهل والعشيرة شاباً وبحث في قلب جرف صخري
عن خلوة ينقطع فيها إلى الصلاة والمناجاة والتقرب من الله

اختير شيخاً لمشايخ خلوات البياضة ثم شيخ عقل للطائفة
وترك الخلوة والصومعة من أجل مواجهة مظالم الأمير بشير

رفع الامير بشير سيفه ليضرب عنق الشيخ البردويل
فناداه قائلاً:«يا أمير سيفك كبير ولكن سيف الله أكبر»

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُور (سورة الحج:38 )

في سير الصالحين من الموحدين العابدين الذين يزخر بهم تاريخ بني معروف يحتل الشيخ يوسف أبو رسلان (أبو علي يوسف البردويل) من رأس المتن مكاناً مرموقاً بين ثلّة من الأولياء الصالحين، وقد كان ممكناً لهذا الشيخ الزاهد العابد أن يمضي حياته كلها في الخلوة والذكر لولا أن وجد نفسه في عصر من الإضطراب والمظالم التي أحاطت بأخوانه الموحدين وزعاماتهم وأعيانهم على يد الأمير الجائر بشير الشهابي الثاني، فقرر وعملاً بمبدأ حفظ الأخوان أن يترك حياة الإعتكاف وطمأنينة الصومعة وأن يخرج إلى الملأ ذوداً عن حياضه وأرضه وكرامة شعبه، وبسبب مواقفه هذه، فقد وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الأمير بشير الذي قرّر التخلص منه وإعدامه لكن كرامة الشيخ الضعيف عند ربه جعلت السيف يجمد في يد السياف ثم في يد الأمير الغاضب، وجعلت الحاكم الجائر يطأطئ الرأس ويخضع لكرامة هذا الولي الذي لم يخش في الحق لومة لائم.
رغم اشتهار تلك الحادثة وتداولها على مرّ الأجيال فإنها لا تمثل في الحقيقة سوى تتويج لنضال طويل ولمآثر كبيرة قدّمها الشيخ يوسف أبو رسلان إلى مجتمعه وأخوانه، فهذا الشيخ العارف العالم اشتهر ببناء الخلوات وإنفاقه الواسع عليها وبدوره في تقريب المواقف بين أعيان الموحدين والدفاع عن الحقوق وشدّ العزائم، وقد كان من علامات علو مقامه وتعاظم شأنه اختياره بإجماع المشايخ «شيخ مشايخ» خلوات البيَّاضة قبل أن ينتخب شيخ عقل للطائفة ونائباً لشيخ مشايخ الطائفة في عهد الأمير بشير، كما إن الله أراد له أن ينشر مآثره ويعمم فوائد علمه وتقواه فقيض له أن يعيش السنوات الأربع الأخيرة من حياته في بلدة بعقلين بين مشايخ أجلاء أحبوه وأحبهم وأن يتوفاه الله في تلك البلدة العريقة التي تحتضن رفاته ومزاره الذي يشكل مقصداً للمؤمنين من مختلف مناطق لبنان ومن خارجه.
في سياق اهتمامها بسير الصالحين تعرض «الضحى» في ما يلي لسيرة هذا الشيخ العارف على أمل أن يساهم ذلك في التعريف بالصفوة من أهل الله العابدين الذين لم يخل منهم زمان أو مكان والذين يبسطون أنفاس كراماتهم وشفاعتهم على مجتمعنا ويدفعون عنه البلايا ويحفظونه في تقلب الممالك والدهور.

الصومعة-في-بعقلين
الصومعة-في-بعقلين

 

خلوة-راس-النحل-في-بعقلين
خلوة-راس-النحل-في-بعقلين

قال أحد مشايخ الصوفية: «من لم تكن له بدايات محرقة لم تكن له نهايات مشرقة» للدلالة على أن رجال الله يبدأون السير في طرق المجاهدات في سن مبكرة لأن الله يضع في قلوبهم جذوة التقوى والخشية ليقربهم ويؤهلهم لتلقي المعارف وصفاء النفوس. وقد كان الشيخ يوسف ابو رسلان مثالاً على السير المبكر في الطريق إلى الله، إذ ارتحل وهو في ريعان الشباب عن أهله والعشيرة إلى البريّة في خراج رأس المتن وانقطع لسنوات عدّة للعبادة والدرس والتدقيق في علوم الدين زاهداً ناسكاً في خلوة الشقيف الصغيرة في أحضان طبيعة خلابة تبعث الخشوع في النفوس وتشهد على عظمة الخالق، وهي خلوة مازالت قائمة وتستحق الزيارة لمن فاتهم ذلك حتى الآن.
تقع خلوة الشقيف في نهاية خراج رأس المتن عند نهاية السنام الجبلي الذي يشكل جزيرة مستطيلة تبدأ بين بلدتي بيت مري والعبادية، وتنتهي في بلدات قرنايل وفالوغا وحمانا. ويلتقي في أسفل واديها «نهر الجعماني» القادم من سفوح جبل صنين بالرافد الثاني القادم من حمانا عبر وادي لامارتين ليشكل الرافدان معاً نهر بيروت الذي يصبّ في البحر المتوسط.
لا يستطيع المرء الوصول الى خلوة الشقيف الّا عن طريق واحدة تمتد من الغرب الى الشرق في خاصرة صخرات شاهقات محدودبات تشكل في أعلاها مصاطب صخرية ناتئة تظلل الزائر مسافة نحو ثلاثمائة متر، وتقوده فوق علو شاهق يطل منه على جنّة خضراء من غابات الصنوبر والسنديان والأشجار البريّة. إن اللسان لينعقد دهشة أمام هذه الآيات الطبيعية التي تشهد بجلال الخلق وعظمة الرب الذي أحسن كل شيء خلقه سبحانه ذو الجلال والجمال والإكرام. ومن اللافت على أي حال أن جميع أهل الله الذين اختاروا طريق الزهد والتقرب من المولى بالخلوات والذكر اختاروا دوماً أماكن منعزلة عن الناس ومباهج الدنيا فأشادوا خلواتهم البسيطة في وسط الطبيعة والحياة البرية بحيث لا يشغلهم شاغل عن التفكر والتأمل ومجاهدة النفس وبحيث يضطر الناس حتى أقرب المقربين إليهم أن يحترموا رغبتهم في حياة الخلوة والسكون فلا يقطعوا عليهم مجاهداتهم بالزيارات أو الفضول.
إذا نظرنا عن قرب في خصائص ذلك الموقع الذي اختاره الشيخ الشاب لبناء معتكفه النائي فإننا سنلاحظ أنه يمتاز إلى جانب محيط السكينة الذي يظلله بأنه موئل طبيعي دافئ في جوف صخور شاهقة وعملاقة وهو لذلك يصدّ الرياح والعواصف والبرد القارس الذي يهب بزمهريره من الشمال.
بدأ تاريخ خلوة الشقيف منذ مائتي سنة ونيف مع الشيخ أبو يوسف ابو رسلان وقريبه الشيخ ابو علي نعمان، إذ كان هذان الناسكان من أوائل الذين قصدوا ذلك الجرف الصخري الشاهق المسمى «الشقيف» وقد قاما بتشييد الخلوة الأولى واستقرّا فيها متعبدين فترة غير قصيرة في أواخر القرن الثامن عشر.
وقد ظلّت طريق الشقيف حتّى العام 1990 ضيقة وعرة ومخيفة، إذ كان على الراجل إليها ان يمشي بحذر شديد خوف أن تزل قدمه أو يختل توازنه فيهوي إلى الوادي السحيق، وربما كانت وعورة الطريق المفضي إلى الخلوة من الأمور التي عوّل عليها الشيخ البردويل لحماية اعتكافه، ويذكرنا هذا النهج بأسلوب بعض النساك الذين بنوا معابدهم في أعالي صخور يعتبر سلوكها مغامرة حقيقية، أو في مناطق يصعب الوصول إليها على الناس العاديين، لكن المرء لا يمكنه مغالبة الدهشة لهذا النهج في ركوب الخطر من أجل العزلة والانفراد مع الخالق، وقد كان على الشيخ الزاهد ورفيقه أن يقطعا تلك الطريق الخطرة مراراً وأحياناً في الليالي أو في الطقس العاصف.. لكن وبعد مائتي عام وأكثر إستقر رأي المشايخ على أن ما كان سهلاً على أهل ذلك الزمان من الرجال الأشداء لم يعد بالسهولة نفسها على أهل الدعة واليسر من أبناء جيلنا، وقد رغب المشايخ في تعميم الفائدة وجعل الخلوة متاحة للمهتمين بالتعرف عليها والتبرك بالمكان وربما التمتع بأجواء السلام والطمأنينة التي تظلله، فبادروا سواء عبر التبرع بالمال أو بتقديم العمل المباشر أو المواد إلى توسيع الطريق وتعبيدها وبناء السور الواقي، كما أضافوا إلى ذلك إنشاء خلوة جديدة مزوّدة بمرافق صحيّة ومياه الشرب والسياسة،وأصبح وصول السيارات سهلاً لأغراض الضرورة مثل نقل المؤن واللوازم أو نقل بعض المشايخ المسنين.
وبذلك تحوّلت خلوة الشقيف إلى مقرّ عبادة عامر بالمشايخ الذاكرين ومزار للمؤمنين بعد أن كانت مكاناً نائياً للزاهدين المتعبدين. وفي صيف 1991 زار هذه الخلوة المشايخ الأجلاء أبو حسن عارف حلاوي وأبو محمد جواد ولي الدين وأبو ريدان يوسف شهيب، وأبو محمد صالح العنداري وكانوا يمثلون الهيئة الروحية العليا لطائفة الموحدين الدروز اضافة الى عدد كبير من مشايخ الطائفة، وكانت البادرة تحمل مغزى التبرك بالمكان من جهة كما أريد منها تكريس الخلوة من أعلى مرجعية روحية كأحد المزارات والمعالم الروحية البارزة في مجتمع الموحدين.

كان على قاصد «خلوة الشقيف» ان يمشي بحذر شديد على طريق ضيق ومتعرج خوف أن تزلّ قدمه أو يختل توازنــه فيهوي إلى الوادي الســحيق

الإنتقال إلى خلوة الرويسة
بعد أن أمضى سنوات من شبابه في خلوة الشقيف مع قريبه ورفيق خلواته الشيخ أبو علي نعمان قام الأخير ببناء خلوة جديدة انتقل إليها مع الشيخ يوسف في منطقة الرويسة في رأس المتن، واختار الشيخ نعمان مكان الخلوة على رابية صنوبرية جميلة في نهاية البلدة وهي تطل من الغرب على مناطق خلدة والبحر المتوسط وعاليه وبحمدون، وشمالاً على بلدات بيت مري وبرمانا وصولاً إلى بسكنتا وصنين ويشكل هذا الأفق الأزرق والأخضر لوحة طبيعية خلابة ويوفّر بالتالي مناخاً مثالياً للتأمل والاعتكاف والصلاة. وظلت هذه الخلوة مفتوحة تستقبل الساهرين والذاكرين لأكثر من قرن من الزمن، كما إنها بقيت قائمة حتى عهد قريب.

بناؤه خلوة في وسط رأس المتن
بعد فترة، ومع اشتهار أمره بين المؤمنين، تحول اهتمام الشيخ أبو علي يوسف إلى ما يمكن أن يقدمه لأخوانه ليساعدهم على أداء فروض العبادة والاجتماع على الذكر فقرر بناء الخلوة التي عرفت بإسمه في وسط رأس المتن على مقربة من السرايا (مدرسة اوليفر). وقد حرص الشيخ أن يبذل من نفسه ومن ماله ما يمكّن أهل زمانه أيضاً من زيارة مكان للعبادة يكون مفتوحاً في وسط البلدة للجميع. وقد بقيت تلك الخلوة بالفعل عامرة زمناً طويلاً لا يقل عن مئة وعشرين سنة، وكانت تتألف من طبقتين: العلوية للسهر والعبادة للمشايخ الأجاويد، والسفلية لإيواء الأغراب والفقراء وعابري السبيل الذين يمرون في رأس المتن أو يودون المكوث فيها لوقت قصير. وكانت إدارة الخلوة تقدم لهم الطعام والشراب والمبيت على سبيل الخير والثواب. ولا يزال المسنون من أهالي بلدة رأس المتن إذا تحدثوا عن هذه الخلوة قالوا: إذا سأل الغريب عن مكان يؤمه في رأس المتن فكان يأتيه الجواب التالي «ما إلكْ إلا خلوة بيت أبو رسلان».
وقد بلغ من اهتمام الشيخ أبو علي يوسف بالخلوة أن أفرد لها بنداً في وصيته نص على أن تظل مفتوحة من بعده، وطلب في وصيته ان «تبقى الخلوات مفتوحة أمام المقبلين والمؤمنين للصلاة والعبادة: «بحيث يضَمُّوا (أي «يبقوا»)الخلوات مفتوحين إلى الذين يَلفوا (أي يقصدوا المكان) من أهل الخير وسهرتهم منقامة (قائمة) لكافة من يلفي من أهل الضيعة وغيرهم ونقلهم1 منقام ورزقهم مشغول».
يُلاحظ انّ الشيخ كان يرغب في تشجيع أهل الخير من الضيعة ومن خارجها على الحضور الى الخلوات ساعة يشاؤون، وان تقام لهم السهرة والضيافة (النقل).
جدير بالذكر أنّ المؤسسات هي عادة التي تهتم بتأمين المكان والتقديمات الأخرى لمجموعة من الناس، وقلما عثرنا على أفراد مثل الشيخ البردويل يتجهون هذا التوجه الديني والاجتماعي في آن، وربما كان يسر الشيخ والسعة اللذين تمتع بهما جراء أرزاقه الواسعة هما اللذان ساعداه على تحقيق تلك الأهداف وهو الذي بذل كل ماله في سبيل الدين، بينما عاش هو حياة زهد واعتكاف وتقشف بعيدة جداً عن مسرات اليسر والرفاه. .وهذا التوجه ظهر بأجلى معانيه في وصية الشيخ التي وقف فيها معظم أملاكه للخلوات وأماكن العبادة.
واشتهرت خلوات الشيخ البردويل على مدى عشرات السنين بأنها ليست مكاناً للعبادة فحسب، بل موئلاً يستضيف الغرباء والفقراء حتّى عهد قريب ويقدّم لهم المأوى والطعام والشراب. وكان تأمين ذلك يتم من مداخيل الأوقاف الواسعة التي كرّسها الشيخ وقفاً مؤبداً لذلك الغرض ولغيره من أغراض الخير.
وقد أقيمت في مكان خلوة الشيخ البردويل التي درست وتقادم عهدها خلوة جديدة كتب فوق مدخلها الرئيسي«خلوة الشيخ أبو علي يوسف البردويل أبو رسلان».

الطريق-إلى-الخلوة
الطريق-إلى-الخلوة

شيخاً لمشايخ خلوات البيَّاضة
المحطة الثالثة المهمة في مسيرة الشيخ أبو علي يوسف البردويل كانت يوم اختير ليكون شيخ مشايخ البيَّاضة وليرعى شؤون تلك الخلوات ومدرستها التوحيديّة الناشئة وينظّم أحوالها وأوقافها وسجلاتها.
تقع خلوات البيَّاضة على بعد كيلومتر واحد جنوب حاصبيا ويرجع تاريخ إنشائها إلى منتصف القرن الحادي عشر للهجرة، أي منذ حوالي 275 سنة ميلادية، وهي المرجع الديني الأعلى لعموم طائفة الموحدين الدروز ولها مكانتها الرفيعة في قلوب الموحدين في جميع الأقطار. ونظراً إلى ازدهار المكان وكثرة المشايخ وطالبي علوم الدين الذين باتوا يفدون إليها من مختلف المناطق، فقد عمل مشايخ البيَّاضة على وضع نظام جديد لإدارة وضبط الشؤون الدينيّة التعليميّة الجديدة، واتفقوا على أن يكون لها مسؤول أعلى من المشايخ يُعنى بشؤون الخلوات والمقيمين فيها، وأطلقوا عليه لقب «شيخ المشايخ»، وكان أول شيخ مشايخ لخلوات البيَّاضة يتم اختياره بالإجماع هو الشيخ أبو علي يوسف البردويل أبو رسلان.
هكذا كانت انطلاقة تجدد لخلوات البيَّاضة من مدرسة تحت الشجرة الى نظام خاص مستقل بحيث أصبح لها مشايخها وتلامذتها الذين ينزلون في الخلوات لقراءة ودراسة الكتاب الكريم وحفظه والتفقه في أحكامه.

مدخل-مزار-الشيخ-في-رأس-النحل-في-بعقلين
مدخل-مزار-الشيخ-في-رأس-النحل-في-بعقلين

شيخ عقل للموحدين الدروز
بعد سيرة حافلة من الإرتقاء في مسالك العبادة والتقرب من الله تعالى ومن العمل لإعلاء شأن الدين وحفظ الأخوان الموحدين تمّ الإتفاق بين مشايخ الطائفة على اختيار الشيخ أبو علي شيخ عقل للموحدين الدروز وهو موقع بقي فيه لمدّة تناهز العشرين سنة وحتى انتقاله إلى جوار المولى. وقد فرض منصب شيخ العقل على الشيخ أبو يوسف تولي مسؤوليات عامة تتعلق بحماية مصالح الطائفة والدفاع عن أبنائها في مواجهة مظالم الأمير بشير الثاني، وقد أظهرت تلك الحقبة الحساسة في تاريخ الموحدين كيف تحوّل الشيخ الوديع الناسك المعتكف إلى أسد هصور عندما تعلق الأمر بحفظ الأخوان والذود عن كرامات الموحدين وأراضيهم وأرزاقهم التي تعرضت لأقسى حملة من الاعتداءات والاغتصاب والسلب المنظم من قبل الأمير الطاغية وبطانته.
وكان شيخ العقل في تلك الفترة يلعب دوراً مهماً وفعالاً في الحفاظ على تماسك الطائفة ووحدتها في وجه محاولات لبث الفرقة في صفوفها وتعميق الحزبيات وتأليب فريق على آخر. وكان ذلك الدور يتم من خلال التوسط بين الأمراء والأعيان الدروز عند وقوع الخصام فيسعى لإقامة الصلح بين الفرقاء، وكانت لمشيخة العقل في تلك الأمور كلمة مسموعة و«مونة» مقبولة وكانت الجهود غالباً ما تنتهي إلى وأد الفتن وإعادة الوفاق وجمع الصفوف. ونظراً إلى مكانة مشيخة العقل الرفيعة في البلاد كان لا يخرج عن طاعتها أحد من الزعماء أو من عامة الناس، حتّى ان حكام البلاد من الشهابيين ومن سبقهم كانوا يقبّلون يد شيخ العقل بكل احترام وتقدير وعند تشييعه يرافقونه حتّى الباب الخارجي.

” الشيخ أبو حسن عارف حلاوي وكبار مشايخ الطائفة زاروا خلوة الشقيف بعد ترميمها للتبرك ولتكريسها كمعلـــــــم روحي للموحديـــن الدروز  “

ولم يكن يصدر فرمان من الباب العالي إلى حكام إمارة جبل لبنان إلا وكان يوجه أولاً إلى الأمير وبعدها مباشرة إلى شيخ العقل فكانت السلطة العثمانية تنظر إلى من يتولى مشيخة العقل من المشايخ ذوي الرجاحة والحكمة باحترام لأن السلاطين أنفسهم كانوا يعلون من قدر المفتي أو «شيخ الإسلام» في الآستانة، وكان لأهل الطرق الصوفية وشيوخها مكانة رفيعة في المجتمع العثماني وكان السلطان ينفق على إقامة الزوايا الصوفية. وبنفس المعنى فقد كان لشيخ العقل في نظرهم قدر كبير يجعل منه الوسيط أو المرجع الطبيعي الذي يرجع إليه في معالجة الأزمات وحلحلة الأمور المعقدة.
كان شيخ العقل بمثابة إمام وقته، وكان يعاونه في مهامه أربعة من كبار مشايخ الدين كنواب له، وكان هذا التعدد قد استجد في أيام بشير الشهابي الثاني بعد أن ظلت مشيخة العقل موحدة في رجل واحد حتّى الربع الأول من القرن التاسع عشر. وكان من ضمن خطة الأمير بشير شرذمة الطائفة وإضعاف مركز شيخ العقل أو «شيخ العقال» كما كان يسمى لكن النضج الكبير والتقوى وحس المسؤولية لدى كبار مشايخ الدين جعلتهم يتوحدون ضمن مجلس واحد أنشأوه ليضمهم جميعاً وينظم صلاحياتهم ويوحد فتواهم وآراءهم في التحقيق والتدقيق في الأمور الدينيّة. فأحبطوا بذلك مكيدة الأمير بشير بداية، لكنه استمر على دسائسه لقيام شيخ آخر فكان الشيخ احمد امين الدين كآخر شيخ عقل منفرد انتخب في ذلك الوقت.
وكان تنظيم مجلس المشيخة في زمن الشيخ البردويل على الشكل التالي:

صدامه مع الأمير بشير
كان الأمير الشهابي بالغ الدهاء والقسوة، وكان نموذجاً للحاكم الذي يبني ملكه على إزالة كل معارضة أو منافسة محتملة، وعلى تشتيت الخصوم وإفقارهم، وقد كان يعلم أن قاعدة سلطة الزعماء الدروز تقوم على الملكيات الواسعة للأراضي والتي كانت تمثل مصدراً للثروة التي تمول بناء القوة العسكرية والجند والأعوان، لذلك، فقد انصبّ اهتمامه على تنفيذ أكبر برنامج لنزع الملكيات والمصادرة وتشريد الأمراء الدروز وتوزيع أملاكهم على أعوانه ومناصريه. وأدى تحالف الأمير بشير مع الحكم المصري وإبراهيم باشا إلى تزايد حاجة الدولة إلى المال والجند فتم فرض الضرائب الباهظة وصدرت أوامر بنزع السلاح من الجبل وفرض التجنيد بصورة واسعة على كل شاب قادر، وفرّ الكثير من سكان الجبل إلى حوران في سوريا هرباً من مظالم الأمير، وحسب قول للمؤرخ أسد رستم فإنّ سياسة الأمير بشير كانت تقوم دائماً على «تحطيم الرؤوس الكبيرة» حتّى ولو كانوا من الحلفاء والمقربين كما حدث في خلافه مع الشيخ بشير جنبلاط ثم مع منافسيه من الأسرة الشهابية.
لكن ما إن خلا الجو للأمير بشير بعد القضاء على منافسه الشيخ بشير جنبلاط حتى انتقل إلى القسم الأخطر من خطته وهو إضعاف الزعامات الدرزية عموماً وإفقارها ونزع ملكياتها، الأمر الذي خلق حالة من الضنك والاضطهاد وضيق العيش بين الموحدين الدروز. وقد استفز الواقع الذي أنشأه الأمير بشير في الجبل بعد إزالة الشيخ بشير جنبلاط الشيخ الأبي فقرر أن يخرج من صومعته ليصبح شيخاً مقاتلاً بكل معنى الكلمة، وقد قام بذلك عبر مناصرة أصحاب الحقوق والوقوف في وجه رجال الأمير وسياساته الظالمة، ومع اشتداد حملات الاضطهاد أصبح الشيخ يجاهر بنقد الأمير والسلطة الظالمة ويدعو الحاكم إلى أن يلتزم بالعدل بين الناس، وقد وقع عليه بالفعل حمل كبير لأنه في غياب الشيخ بشير جنبلاط والتنكيل بجميع العائلات الإقطاعية الدرزية وجد الشيخ أبو علي يوسف نفسه في وجه مدّ عارم من الأحداث أثرت عليه وأشعلت في صدره غضباً عارماً على الأمير وعهده.
قرّر الأمير بشير الشهابي الثاني أخيراً أن يتخلص من الشيخ أبو علي يوسف، لكنه أرسل قبل ذلك الوسطاء لكي يقنعوا الشيخ الجليل بأن يتوقف عن انتقاد الأمير بشير وأن يلتزم بدل ذلك سياسة الحياد إن لم يكن في إمكانه الانضمام إلى صف الأمير كما فعل عدد لا بأس به من الأمراء والوجهاء والأعيان واللذين كان مقتل الشيخ بشير جنبلاط صدمة كبيرة له، لكن الشيخ البردويل رفض مساعي الوساطة وتمسك بموقفه.

” كان صوت مناجاة الشيخ البردويل يتردد في الكهف الصخري ليلا ويسمعه أهل دير القمر الدروز في القاطع المقابل فشبّههوه بدنين النحل وسُمِّي المكـــان لذلك بـ «رأس النحــل» “

داخل-خلوة-الشيخ
داخل-خلوة-الشيخ

الإستدعاء الى بيت الدين
ردّ الأمير بشير على موقف الأنفة والتحدي الذي اتخذه الشيخ البردويل بأن أرسل الجند وأمرهم بجلبه مكبلاً بالسلاسل بهدف كسر إرادته. ويحكى انّ جند الأمير جاءوا بالشيخ بهذه الحالة فعلاً إلى قصر بيت الدين وجاءوا أيضاً بأشقائه محمود وفارس ومعروف. ولدى مثولهم أمام الأمير بشير سألهم من أنتم؟ فأجابوه نحن أخوة الشيخ يوسف. فقال الأمير سوف أعفو عنكم وانّني اسمح لكم بالعودة إلى المتن إكراماً لهذه العمامة مشيراً إلى عمامة الشيخ يوسف المدوريّة، عندها انتفض الشيخ ورفع العمامة عن رأسه ووضعها جانباً وقال بصوت عالٍ متحدياً الأمير بشير:«يا بشير هائنذا أمامك بدون العمامة فافعل ما تشاء. فالكرامة ليست للعمامة». فاغتاظ الأمير من جرأة الشيخ وصلابته ونَهَرَه بنبرة الحاكم الجائر، وطلب من السجان ان يلقوا به في سجن بيت الدين لينفذ فيه حكم الإعدام في اليوم التالي. فأدخل الشيخ مكبلاً بالحديد إلى سجن القصر وهنا بدأت حكايته مع الأمير بشير ومعجزة الحكم الذي لم ينفذ.

كرامات أذهلت الطاغية
تقول الروايات المتناقلة إنّ الشيخ البردويل استوحى في تلك الليلة من ظلام السجن وقسوة الحكم قصيدة روحانية رائعة أنشدها مناجياً أولياء الدين بأن يهبوا إلى نجدته، ولم يكد ينتهي من تلك القصيدة حتّى استجاب الله لمناجاة وليه وانفكت قيود الحديد عن يديه ورجليه وسقطت على الأرض، وحدثت في تلك اللحظة رجفة (هزة) في أرجاء قصر بيت الدين شعر بها جميع من كانوا داخل القصر.
وفي الأخبار المتناقلة انّه في اليوم التالي طلب الأمير بشير من السيّاف تنفيذ عقوبة الإعدام بالشيخ البردويل. فدنا السيّاف من الشيخ الوقور ذي القامة المديدة واللحية العريضة البيضاء وما كاد يرفع السيف بيمناه ليسلطه على رقبته حتّى شعر أنّ يده قد تجمدت وأصبحت لا تسعفه. فاضطرب واعتذر للأمير عن فشله وارتباكه.
غضب الأمير بشير وطلب من السيّاف أن يتنحى جانباً وقد ساوره الشك بأن هناك خيانة مدبرة هدفها إنقاذ حياة الشيخ أو انّ الشيخ ذا الأملاك الواسعة استماله برشوة، فتقدّم من الشيخ البردويل واستل سيفه من غمده وزمجر قائلاً:«بيدي وسيفي هذا سأقطع رأسه». فناداه الشيخ قائلاً:«يا أمير سيفك كبير ولكن سيف الله أكبر». في تلك اللحظة رفع الأمير بشير يده بالسيف فإذا بيده تجمد ويفشل هو بدوره في أن يهوي بالنصل القاطع على عنق الشيخ الطاهر. عندها أدرك الأمير المتجبِّر أنه لم يكن في الأمر خيانة بل هي كرامة من عند الله تعالى الذي نصر عبده الضعيف وشل يد المعتدي، وأدرك في الوقت نفسه أن هناك سراً ربانياً منعه من أن يمس شعرة من هذا الشيخ الجليل. استخلص الأمير العبرة وقرر العفو عن الشيخ،ثمّ قال له:«يا شيخ يوسف لا ريب انّك من أولياء الله الصالحين وأنا قررت العفو عنك وأريدك أن تبقى عندي في قصر بيت الدين لنتبرك بوجودك وأنا لن اسمح لك بالعودة إلى رأس المتن فاطلب ما تشاء».
لكن الشيخ الزاهد أجاب الأمير بأنه لا يرغب في سكن القصور وطلب أن يسمح له بالإقامة في بعقلين لينصرف إلى الصلاة وعبادة الله. وقال للأمير:«أنا لا أسكن في أملاك الدولة ولا أتناول طعاماً ما لم أكن قد حصلت عليه بتعبي وجهدي» وكان قرار الشيخ أن يتخلّى طوعاً واختياراً عن تناول الأطعمة الطيبة ويستعيض عنها بأوراق الطيّون المرّة ليروض نفسه ويقهر فيها شهوة النفس.
لكن بناءً على طلب الأمير بشير واظب الشيخ البردويل على الحضور إلى قصر بيت الدين قادماً من بعقلين مرّة في الأسبوع، وكان كلّما أبلغ بوصول الشيخ إلى أسفل درج القصر يترك مجلسه ويهبط لملاقاته إجلالاً وتقديراً له. وذات مرة حدثت الملاقاة في حضور بعض رجال الدين الذين لم يرق لهم هذا الاهتمام الخاص وهو تكريم لا يمنحه لأي من رجال الدين الآخرين، لذلك فقد نصح مجالسو الأمير بشير بأنه لا موجب لملاقاة الشيخ بهذا القدر من التبجيل، ويبدو أن الأمير بشير تأثر برأيهم ووعد بأن ينتظره في مجلسه حتّى يدخل في المرة القادمة.. وفي اليوم المحدد من الأسبوع التالي حضر الشيخ كعادته، وما كادت عصاه تطرق الأرض عند درج القصر حتّى هبّ الأمير دون شعور منه وتوجه لملاقاته والترحيب به كالعادة. ولمّا عاد الأمير إلى ديوانه سأله نفس الأشخاص عمّا حلّ به ليتراجع عن وعده، فأجابهم بالقول:«لست ادري ماذا يحدث لي مع هذا الشيخ! انّ بداخله سرّاً ربانياً فرض عليَّ بالأمس العفو عنه، واليوم أمرني لملاقاته والإحتفاء به».

مراكز-تأمل--بناها-الزهاد-التاويون-في-الصين-وهي-معلقة-وتشبه-صومعة-الشقيف
مراكز-تأمل–بناها-الزهاد-التاويون-في-الصين-وهي-معلقة-وتشبه-صومعة-الشقيف

” دهش الامير بشير للكرامة التي منّ الله بها على الشيخ البردويل فعفا عنه وعرض عليه البقاء عنده في القصر فردّ الشــيخ: لا أحب ســــكن القصـور ولا آكـــــل إلا من تعب يدي “

خلواته في الصومعة
في حِمَى أهل بعقلين، وخاصة آل حمادة وآل أبي عجرم، عاش الشيخ أبو علي يوسف البردويل السنوات الأربع الأخيرة من حياته في بعقلين (1825 – 1828) وقد قضى معظمها منفرداً زاهداً مثابراً على تلاوة الصلاة والمعلوم الشريف، وكان يمضي قسماً من خلواته داخل صومعة صخريّة منفرداً وفي بعض الأحيان مع الشيخ الجليل أبو علي باز. وتقع الصومعة الصخرية على كتف الوادي الذي يفصل بين بعقلين ودير القمر، وقد اختارها الشيخ بسبب قربها من البلدة ومن الخلوة التي تقع الآن إلى جانب مزاره، ولكن في الوقت نفسه بسبب بعدها عن الأنظار فوجدها تصلح للخلوة. والصومعة أقرب إلى كهف طبيعي صغير يتمثل سقفه في صخرة منبسطة وسميكة تظلل ما تحتها، وقد بني تحت السقف جدار شبه دائري بسيط فتكوَّن بذلك ركن صغير لا تزيد مساحته على المتر مربع أو المترين. وكان الشيخ يمضي الليل أحياناً في الصلاة والمناجاة بصوته الرخيم الذي كان يتردد في الوادي ويسمعه أهل دير القمر في القاطع المقابل، وكانوا في معظمهم يومها من الموحدين الدروز، وكانت مناجاة الشيخ وتلاواته، وبسبب اتساع الوادي، تصلهم من البعيد على شكل دنين بحيث شبهوه بدنين النحل، فكان ذلك هو السبب في تسمية المنطقة تلك «رأس النحل». وكان الشيخ يمضي بعض أوقاته في الخلوة التي سميت في ما بعد خلوة رأس النحل، وهي تقع فوق الكهف وعلى مسافة قصيرة منه، كما كان يمضي أوقاتاً في خلوات كفر حصيد وخلوة الشيخ رافع بو حاطوم حمادة.

وفاته ووصيته
قبل انتقاله إلى جوار ربه بخمسة أشهر حرّر الشيخ يوسف أبو رسلان وصيته التي أوقف فيها أملاكه الواسعة وجميع ما تملكه يديه من حطام الدنيا الفانية من توت وسليخ وكرم وحرف (29 عقاراً) وعمار وأثاث ودواب وذهب وفضة ونحاس لتكون لخلوات رأس المتن وخلوات رأس النحل (بعقلين) وقفاً مؤبداً موطداً لأهل الخير وعباد الله الصالحين إلى يوم القيامة.
وافته المنية في بعقلين عن عمر يناهز السبعة والستين عاماً، وقد بنى له الشيخ ابو قاسم حسين حماده ضريحاً قرب خلوات رأس النحل ونُقِش على شاهد ضريحه النص التالي:
انّا لله وانّا اليه راجعون
دُرج بالوفاة الى رحمة الله تعالى العالم العلامة والعمدة الفهامة قدوة المحققين ورئيس المدققين زين الخلّان وبهجة العصر والزمان المرحوم الشيخ يوسف ابو رسلان تغمده الله بالرحمة والرضوان وأسكنه فسيح الجنان. وكانت وفاته يوم الثلاثاء تسعة عشر خَلَتْ من ربيع الثاني ألف ومائتين وأربعة وأربعين هـ.
وقد أصبح الضريح مزاراً يقصده الناس من مختلف المناطق ومن خارج لبنان للتبرك وتقديم النذورات، وذلك لما بات معروفاً من سيرة هذا الشيخ ومآثره وعلو مقامه وكان من محبة المؤمنين للشيخ البردويل أنهم كانوا يستخدمون في ذكره لقب السيّد أو «سيدنا الشيخ» وقد كان بالفعل سيداً على نفسه وعلى أغراض الدنيا وزخرفها فجعله الله تعالى سيداً على الأمراء وأخضع له رؤوس الملوك.

بعض ما جاء في مقدمة وصيته
قبل وفاته بخمسة أشهر ونيف كتب الشيخ يوسف البردويل وصيته بخط يده وهو في بعقلين في شهر ذي القعدة سنة 1243 هجرية (1828 ميلادية) على ورقة بطول 85 سنتمتراً وعرض 17 سنتمتراً واستهلها بهذه المقدمة:

«بسم الله الرحمن الرحيم، سبحانك يا أول بلا بداية وآخر بلا نهاية سألتك يا مولاي المغفرة والهداية إلى موجبات رضاك بجاه من خلقته لكل شيء غاية. الحمد لله العليّ المتعال المنزّه عن الزوال والانتقال الذي لم يزل وما زال المتفضل بالعفو والجود والحلم والكمال المتصف بالتقديس والتسبيح والوجود والتنزيه والجلال وصلى الله على المصطفى الهادي المكرم المِفضال ذي الشرف والفخر والكمال وعلى صحبه وأنصاره والآل على ممر الشهور والسنين والأيام والليال، أنه ولي الإجابة والأفضال.
فإنه لما كان لكل ابتداء انتهاء، سبحان من هو قاهر عبيده بالموت وهو حي لا يموت، وهو لما كان بتاريخ نهار السبت في العشر الأول من شهر ذي القعدة سنة ثلاث وأربعين ومئتين وألف 1243 هـ. يا رب عِين في ما يرضيك بجاه سيد المرسلين ورغبة في رضا الرب الغفور الكريم المعين باليقين الصادق والرجا الثابت في عفو ربي ومعبودي الحليم الكريم الجليل على العبد المذنب الخاطي العاجز الحقير الذليل المفتقر بكلية الاضطرار وحقيقة التوسل بالاعتذار إلى وجود عفو مولاه ومواهب فيض رضاه بشفاعة صفيه وأنبيائه بجاه عفوه وكرمه ومن والاه ونرجو من مشايخنا وساداتنا وإخواننا وأخواتنا بروان (المقصود «إبراء») الذمة لما لهم من الفضل والأيادي علينا وحسن الظن والرحمة».

الشاعر القروي

رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي)

شاعر الثورة السورية الكبرى

كان مجاهداً بالشعر اللاذع ضد الانتداب الفرنسي
وخلّد بقصائده الرائعة ملامح الموحدين الدروز

عاف التجارة والمال وكرّس حياته وشعره
لاستنهاض العرب للوحدة وقتال المستعمر

إعتبر نفسه مسيحياً ومسلماً وأوصى
بالصلاة على جثمانه من شيخ وكاهن

منع الفرنسيون قصائده فتداولها الناس سراً
وحرموه من جنسيته ومن حق العودة إلى الوطن

يعتبر رشيد سليم الخوري اللبناني المولد الشاعر الأول للقضية العربية وقد منحها كل حياته جهاداً وأدباً وشعراً سواء في وطنه سوريا ولبنان أم في المهجر البرازيلي،وقد كتب القروي بصورة خاصة في حب الأوطان وحب الأرض وأنشد الطبيعة وسحرها كما عبّر عن مواجده وحياته الصعبة وحنينه للوطن في أعذب شعر وأكثر القصائد استثارة للمشاعر ، لكن أكثر ما جعل اسم الشاعر القروي يطير في الآفاق ويصبح رمزاً لمرحلة بكاملها كان ولا شك شعره الوطني المناهض للإستعمار الفرنسي والداعي للوحدة العربية. وبسبب كرهه للإستعمار تلقف الشاعر أحداث الثورة السورية الكبرى في العام 1925 باعتزاز وحماس منقطع النظير، ورغم اغترابه في البرازيل فقد تمكن القروي دوماً من أن يلتقط مغازي تلك الثورة الرائدة ولحظاتها المصيرية وأن يعيش انتصاراتها وآلامها وأن يخلدها في قصائد هي غاية في البلاغة والقوة والحرارة حتى اعتبر رشيد سليم الخوري بحق شاعر الثورة السورية بلا منازع وراعيها وسندها وداعيتها في الوطن والمغتربات.
رغم دوره الكبير في تخليد الثورة السورية الكبرى وفي الكفاح الوطني ضد المستعمر الفرنسي، فإن أجيالاً بكاملها من الشباب اللبنانيين ربما لم يقرأوا عن الشاعر القروي ربما بسبب إهماله المقصود من البرامج المدرسية ولم يطلعوا بالتالي على قصائده الرائعة خصوصاً تلك التي سطّر فيها أعظم المدائح في المقاتلين الدروز الأبطال وفي قائدهم سلطان باشا الأطرش، وقد كتب القروي بحماس وإعجاب ومحبة عن الموحدين الدروز وأكبر تضحياتهم وكتب بدهشة واعتزاز عن بسالتهم واحتقارهم للموت وإنجازاتهم العظيمة في وجه فرنسا التي كانت ثاني أكبر قوة عظمى في العالم آنذاك. لذلك، ومن أجل سدّ هذا النقص تعرض مجلة «الضحى» في ما يلي سيرة موجزة للشاعر الكبير رشيد سليم الخوري وسنعرض بعدها لأهم القصائد التي نظّمها في الثورة السورية وأبطالها وقائدها سلطان.

سيرة نضالية حافلة
ولد رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) عام 1887 في قرية البربارة الواقعة بالقرب من مدينة جبيل التاريخية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في لبنان، وتلقى تعليمه في بيروت وطرابلس وزحلة وسوق الغرب، واشتغل بعدها في التدريس مدة سبع سنوات. عاش الشاعر الشاب أواخر القرن التاسع عشر ونظم الشعر وهو شاب، وبسبب ذلك كان من بين الألقاب التي أطلقت عليه لقب «شاعر القرنين»، لكن الشاعر القروي عاش في تلك الفترة الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، وكانت حركة الهجرة إلى الأميركيتين قد تسارعت فكانت البواخر ترسو في ميناء بيروت لتنقل المهاجرين من فقراء لبنان وسورية إلى المغتربات في القارات البعيدة، ويبدو أن الشاعر اعتبر أن لا مستقبل له في وطنه فقرر الهجرة إلى البرازيل.
وفي ديوانه الشعري الكبير يصف الشاعر القروي تلك الفترة من حياته فيقول إنه أبحر برفقة أخيه قيصر (سمي في ما بعد «الشاعر المدني» في معارضة لتسمية أخيه)عام 1913 متجهاً إلى البرازيل، وذلك بعد تلقيه دعوة من عمه «اسكندر» القبطان في الجيش البرازيلي مرفق معها المال اللازم للرحلة وكان ذلك قبل سنة من اندلاع الحرب العالمية الأولى وما ستجره من مآس ومجاعات على شعب لبنان.
وصل رشيد سليم الخوري البرازيل سنة 1913 وبدأ كغيره من المهاجرين في تجارة «الكشّة» وهي صندوق يحوي بضائع مختلفة لأغراض المنازل وحاول التجارة في ريو دي جانيرو ثم انتقل إلى ساو باولو لكن التوفيق لم يحالفه فتنقل عندها بين مهن مختلفة منها التعليم في المدارس وفي البيوت ثم في تمثيل بعض المحلات والصناعات في الولايات المتحدة، لكن حياته بقيت عموماً حياة ضنك وعيش كفاف.
وقد يكون أحد أسباب فشل القروي في التجارة أنه شاعر مبدع ومثقف حساس ومتحمس جداً للقضية العربية، فكان لا يترك مناسبة أو تجمعاً للمغتربين دون أن ينبري مستخدماً شعره القوي في الدفاع عن القضية العربية. أخيراً استقر المقام به في مدينة «صنبول» التي كانت مركزاً للثقافة المهجرية في البرازيل، وقد صدرت فيها صحف عربية وأنشئت أندية وأقيمت الحفلات الخيرية والوطنية ومما لا شك فيه أن الشاعر القروي انشغل عن التجارة وجمع المال باعتلاء المنابر للدفاع عن القضية العربية وإلقاء القصائد وجمع التبرعات للمجاهدين في الوطن نتيجة تعلقه الشديد بالعروبة وكرهه للانتداب الفرنسي.
إتهمه بعض المغتربين اللبنانيين بالتنكر لوطنه بسبب ميوله العربية، وعندما اندلعت الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش سنة 1925 وبدأت أنباء انتصارات المقاتلين الدروز تصل إلى المهاجر التهبت حماسة الشاعر القروي الذي نظم أجمل قصائده في مدحها ومدح أبطالها وفي هجاء المستعمر الفرنسي. وقد كان لشعره المتفجر كرامة وكرهاً للمستعمر أثر هائل بحيث أخاف سلطة الانتداب وكانت قصائده النارية تقرأ في السر ويتم تداولها نسخاً بين الناس في ظل الحكم الفرنسي لأن العثور على شعر القروي في يد أي مواطن لبناني أو سوري كان يعتبر جريمة عقوبتها السجن.
أخيراً وبعد أن تعاظمت شهرة الشاعر القروي وتأثيره قررت السلطة المنتدبة ربما بتحريض من بعض الجهات المحلية حرمانه من الجنسية السورية واللبنانية ومن الحق في العودة إلى وطنه، وقد سقطت تلك العقوبة مع استقلال سورية في العام 1943 لكن الشاعر القروي بقي في المهجر متابعاً نشاطه الثقافي في «العصبة الأندلسية» وإنتاجه الشعري إلى أن تحققت الوحدة بين مصر وسوريا في ظل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وكان لذلك الحدث وقع كبير على الشاعر الذي شهد حلمه بالوحدة العربية يتحقق بين اثنتين من أكبر دول العالم العربي فقرر لذلك العودة إلى سورية ليعيش مرحلة الوحدة ويشارك فيها وكان عندها قد تجاوز السبعين من عمره، وتحققت للقروي أيضاً فرصة اللقاء بسلطان باشا الأطرش البطل العربي الذي طالما نظم القصائد الحماسية في مدحه ومدح رجاله المجاهدين من بني معروف.
عاد القروي الى وطنه بعد خمس وأربعين سنة في يوليو 1958 وأقام في قريته البربارة، ثم عاد أخيراً الى البرازيل وبقي يتردد بين المهجر وبلده لبنان الذي أحبه إلى أن توفاه الله عام 1984 عن عمر قارب
الـ 97 عاماً.
أصدر القروي سبعة دواوين شعرية منها الرشيديات والقرويات والأعاصير واللاميات الثلاث. ثم جمع شعره كله في ديوان كبير سماه «ديوان القروي» ظهر عام 1952م في 926 صفحة من القطع الكبير. وله كتاب بإسم «أدب اللامبالاة» أدب الشماتة والعقوق بـ 32 صفحة من الحجم الصغير، طبعه في سان باولو عام 1957.

الشاعر القروي
الشاعر القروي

وصيته الفريدة
تعتبر الوصية التي اختتم بها الشاعر القروي حياته الحافلة من أبرز الآثار التي تركها وعكست رؤيته الإنسانية الجامعة وتعريفه لنفسه باعتباره ليس مسيحياً فقط بل مسيحياً ومؤمناً بالإسلام وكان هذا في نظر الكثيرين موقف غير مسبوق خصوصاً في لبنان المنقسم طائفياً.
ومما جاء في وصية الشاعر القروي أنه طلب فيها أن يصلي على جثمانه شيخ وكاهن، وأن تقتصر مراسم الجنازة على تلاوة فاتحة القرآن الكريم والصلاة المسيحية، كما طلب أن ينصب على قبره شاهد خشبي متين في رأسه صليب وهلال متعانقان كرمز لتآخي الديانتين الإسلامية والمسيحية في المشرق العربي وعلى سبيل التأكيد من قبل الشاعر على أن المسيحية والإسلام في نظره كلاهما دين سماوي يدعو إلى رب واحد وإلى قيم الإيمان والمحبة والمعروف وأنه لا يجوز أبداً الفصل بينهما بالفرقة والتناحر.

آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق
آثار القصف الفرنسي للأحياء الشرقية القديمة في دمشق

الشاعر الناسك
اشتهر عن الشاعر القروي أنه رفض حب امرأة انكليزية تدعى مود وأجابها في بيت شعر جاء فيه:
«حــــرام علي هـــــــواك
وفي وطني صيحة للجهاد!
وقد أعجبه نضال المهاتما غاندي في الهند ودعوته إلى مقاطعة البضائع الانكليزية فقرر أن يحرّم على نفسه لبس الجوخ الانكليزي بعد أن غدرت بريطانيا بالعرب.
ورفض شراء منزل له في البرازيل وقال: إن أمنيتي بعد هذه السن التي بلغتها هي قبر في وطني لا مقر في غربتي.
وعندما اشتدت حاجته إلى المال باع أعز ما يملك: عوده وكتبه. واعتذر عن قبول حـوالة مالية بقيمة 200 جنيه مصري من الشيخ الباقـــوري، وزير الأوقاف المصري، ثم طبع كراساً يحتوي على ثلاث قصائد هي اللاميات الثلاث ورصد ريعها لنصرة فلسطين.

قصائد في مدح الثورة السورية وأبطالها

قضية أدهم خنجر
خرقت السلطة الفرنسية أهم الأعراف العربية في إجارة الملهوف واعتقلوا أدهم خنجر وهو ثائر لبناني جنوبي كان الفرنسيون يلاحقونه لاشتراكه في محاولة قتل الجنرال غورو. كان هذا الثائر قد أتى مستجيراً بسلطان في بلدته القريا عام 1922، وقبل أن يصل إلى دارة سلطان عرفه في شارع البلدة أحد الجنود اللبنانيين في القريا الذين كانوا مكلفين بمراقبة تحرّكات سلطان، وكان الأخير يومها غائباً عن القريّا في زيارة لقرية أم الرمان عند أحد رفاق جهاده حمد البربور.
تم اعتقال أدهم خنجر في غياب سلطان عن داره، ونقله الفرنسيون سريعاً إلى السويداء، ولما عاد سلطان إلى القريا وعلم بالأمر هبّ مع نفر من رجاله وزحفوا على السويداء لإنقاذ الضيف، ضيفه، ومما جاء في ديوان القروي ص 308، في وصف موقف سلطان من ذلك الحدث، أن الصحف الغربية وصفت بإعجاب عظيم زحف سلطان الأطرش برجاله إلى السويداء لإنقاذ الأسير الذي قبضت عليه السلطة الفرنسية خارقة حرمة الضيافة العربية المشهورة، وإلتقاء البطل العربي ( سلطان ) والتنك ( الدبابة) وهجومه عليها تحت وابل الرصاص وتعطيلها بعد قتل قبطانها ومعاونه بحد السيف. وهنا قصيدة الشاعر القروي حول تلك الحادثة»

تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926
تنفيذ جكم الإعدام بعدد من مجاهدي الثورة في ساحة المرجة في دمشق سنة 1926

سلطان والانتصار لأدهم خنجر
خففت لنجدة العــــــــاني سريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا غضــــــــوبـــــــــــــــاً لـــــــــــــــو رآك الليـــــــــــــــث ريعــــــــــــــــــــا
وحولك من بني معروف جمــــــــــــــــــــــــــــــــعٌ بهـــــــــــــــم ــ وبدونهـــــــــــــــم ــ تفني الجموعــــــــــــــــــا
كأنـــــــــــك قـــائدٌ منــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم هضــــــــابـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تَبِعْـــــــــــــــنَ إلـــــــــــــــى الـــــــــــــــوغى جبلاً منيعـــــــــــا
تَخِذتَهمـــــــــــو لــــــــــــــــدى الجُلّى سيوفــــــــــــــــــــــــــــــــا لهـــــــــــــــا لعـــــــــــــــنَ الـــفرنســـــــــــــــــيّ الـــــــــــــــدروعـــــــــــــــــــــا
وأيُّ دريئــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ تَعصــــــــــــــــــــــــــى حُسامــــــــاً تـــــــــــــــعـــــــــــــــوّدَ فـــــــــــــــي يمينــــــــــــــــــــكَ أن يطيعــــــــــــــــــــــــا
ألم يلبــــــــــــــــــــــــــس عــــــــــــــــِداك التنــكَ درعــــــــاً فَسَلْهـــــــــــــــم هـــــــــــــــل وقى لهـــــــــــــــمُ ضلوعــــــــــــــا
أغرت عليه تلقـــــــــــــــــى النـــــــــــــــــــارَ بــــــــــــــــــــــــرداً ويـــــــــــــــرميهـــــــــــــــــــا الـــــــــــــــذي يرمـــــــــــــــي هَلوعــــــــــــــا
فطاشت عنك جازعــــــــةً ولو لــــــــــــــــــــم تهـــــــــــــــشّ لهـــــــــــــــا لحاولـــــــــــــــــــت الـــــــــرجــوعـــــــــــــــا
ومُذْ هطَلَ الرصاص عليكَ سحّاً كـــــــــــــــوسمِـــــــــــــــيٍّ جليــــــــــــــــــتَ بــــــــــــــــــــــه ربيعــــــــــــــــــــــا
زعقتَ بمثل فرخِ النسر طِـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرفٍ يُجَـــــــــــــــنّ إذا رأى سهــــــــــــــــــــلاً وسيعـــــــــــــــــــــــــــــــا
يحنّ إلـــــــــــى الوغـــــــــــــــــــــــــــــــــــى تحنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانَ أمٍّ بحضـــــــــــــــن غريبـــــــــــــــةٍ تركــــــــت رضيعـــــــــــــــا
فطــــــــــــــــار لهـــــــــــا كأنّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك مستـــــقـــــــــــــــــــــــــــلّ جوانـــــــــــــــحَ شاعـــــــــــــــرٍ ذكـــــــــــــــر الربوعــــــــــــــــــــــــــــا
ولما صرت من مُهَــــــــــــــــــــــــجِ الأعــــــــــــــــــــــــادي بحيـــــــــــــــث تذيـــــــــــــــقهـــــا السّـــــــــــــــمَ النقيعـــــــــــــــــــــــا
وثبتَ إلى سنــــــــــــــــــــــــــــــــام التنك وثبــــــــــــــــــــــــــــاً عجيبــــــــــــــــــاً علّـــــــــــــــمَ النســـــــــــــــر الوقوعــــــــــــــــــــــــا
وكهربت البطاحَ بحــــــــــــــــــــــــدّ عَضــــــــــــــــْب بهرتَ بــه العـــــــــــــــدى فهَـــــــــــــــوَوْا ركوعـــــــــــــــا
كــــــــأنّ به إلى الأفرنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك جوعــــــــــــــــــــــــــــاً وسيفُكَ مثلُ ضيفكَ لــــــن يجوعـــــــــــــــا
تكفّــــــــــــــــــــــــــــــــــل للثرى بــــــــــــــــالخصــــــــــــــــــــــــــــب لمّـــــــــــا هفـــــــــــــــا برقــــــــــــــــــاً فــــــــــــأمـــــــــــــــطرهـــــــــــــــم نجيعــــــــــــــــــــا
وفجّــــــر للدمــــــــــــــــــــــاء بهـــــــــــــــــــــــــــــــم عيونــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً تجـــــــــــــــاري مـــــــــــــــن عيونهـــــــــــــــمُ الــــدموعــــــــــــــــــا
فخرّ الجند فوق التنــــــــــــــــــــــــك صرعى وخـــــــــــــــرّ التنـــــــــــــــكُ تحتهمــــــــو صريعـــــــــــــــــــــــــــــــــــا
فيالكِ غـــــارةٌ لـــــــــــــــو لـــــــــــــــــــــــــــــــــــــم تذعهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أعـــــــــــــــاديـــــــــــــــنـــــــــــــــــا لكـــــــــــــــذّبنــــــــــــــــــــا المذيـــــــعـــــــــــــــــــــــــــــــــا
ويا لكَ « أطرشــــاً» لمّا دُعينــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لثــــــــــــــــــــــأرٍ كـــــــــــــــانَ أسمعنــــــا جميعــــــــــــــــــا!!

هذا العنفوان الشعري لدى القروي هو انطباع لتلك البطولات التي سطّرها بنو معروف في جهادهم عام 1925م، من أجل الاستقلال في سوريا ولبنان، تلك الحقيقة التاريخية التي يشهد بها الدكتور عمر فروخ، وتلك المعارك التي ألهمت الشاعر القروي قصيدته المشهورة بعنوان«الاستقلال حق لاهبة» ومما جاء فيها:

إن ضاع حقّك لم يضع حقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــّان لـــــــــــــــك في نجاد السيف حقٌّ ثـــــــــــــــــانِ
ما مات حقّ فتىً له زَندٌ، لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه كـــــــــــــــفٌّ لهــــــــــــــــــا سيــــــــــــــــــفٌ لـــــــــــــــه حـــــــــــــــــــــدّان
فابعث سيوف الهند من أغمادها تبعث بهـــــــــــــــا الموتـــــــــــــــى مـــــــــن الأكفــــــــــــــان
مازال هذا العلـــــج يحسب أننــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بـــــــــــــــقـــــــــــــــــــرٌ تُـــــــــــــــدِرّ عـــــــــــــــليـــــــــــــــــــــــه بـــــــــــــــالألبـــــــــــــــــــــان
حتى استفاق على الزئير وجلدُهُ كالطِّمـــــــــــــــرِ تحت مخالـــــــــــــــب المُـــــــــــــــرّان
من قمح حورانَ أراد وليمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً فأتــــــــــاه ســــمُّ المـــــــــــــــــوت مـــــــــــــــن حـــــــــــــــوران
صاح: المروءة يافرنجُ» فليس لــــــــــــــي فـــــــــــــــي صـــــــــدّ غـــــــــارات الــــدروز يـدان
عهدي بهم في السلم حملانـــاً فَوا رُعبـــــــــــــــاهُ بـــــعدهمـــــــــــــــو مـــــــــــــــن الحُمــــــــــــــــــلان
لِله منظـرُهم إذا هزجـــــوا وقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــد هـــــــــــــــزّوا الـــــــــــــــرمـــــاح لـــــــــــــــغارةٍ وطـــــــــــــــعـــــــــــــــــانِ
يلقَوْنَ« مِتْرَليوزَنا» بصدورهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ويكـــــــــــــــافحون «التنكَ» بــــــالأبــــــــــــــــــدانِ
متهافتين على الردى وشعارهـــــــــــــــــــــــم اليــــومَ أفضــــــــلُ مـــــــــــــــن غَـــــــــــــــدٍ يـــــــــــــــا فـــــــــــــــــانِ
ونساؤهم لو تشهدون نســــاءَهــــــــــــــــــــــم في الحرب حاملةً على الشجعـانِ
كالمـــــــاءِ أعذبُ ما يكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون وإنّهُ لَأشدُّ مـــــــــــــــا يسطو علـــــــــــــــى النيــــــــــــــــــرانِ
ينفخنَ في أشبالهـــــنّ حماســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةً تَثِــــــــبُ الصـــــــــــدورُ لهـــــــــــا مـــــــــــن الغليــــــــــــان
فكأنّهم لبَســوا بهـــــــــــــــنّ جوانحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً طـــــــــــاروا بهـــــــــــا للحـــــــــــــــربِ كــــالعُقــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ

ولكن القروي وقد ذكر بطولات بني معروف الموحّدين فهو لن ينسى أن يشيد بقائدهم الذي يتركه للقارئ لُغزاً يفاجئنا به فيبوح بسرّ اسمه في آخر القصيدة حيث يقول:

ولئن نسيتُ فلستُ أنسى بينهــــــــــــــم رجلَ الرجـــــــــــــــــالِ وفارسَ الفرســــــــــــــــان
وحُلاحلَ الحربِ الذي يغشى الوغى ووراءَهُ نَـــــــــــــــفَـــــــــــــــــــرٌ مـــــــــــــــن الـــــــــــــــفتيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانِ
فكأنّهـــــم منـــــه مكـــــــــــــــانَ قنــــــاتِــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وكـــــــــــــــأنـــــــــــــــه منهــــــــــــــــــــم مكـــــــــــــــانُ سِنـــــــــــــــــــــــــــــــــان
يرمي بهم قلب الوطيس كأنهـــــــــــــــــــــــــــــــــم حِمَمُ الحمـــــــام قُــــــــذفـــــــــــــــنَ مـــــــن بُركــــــــــــــــــانِ
يُفني الرّجالَ بأحدَبٍ ومُقَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوّمٍ ضدّيـــــــــــــــن فـــــــــــــــي اللبـــــــــــــــاتِ يـــــــــــــــلتقيـــــــــــــــــــــــــان
ويكادُ يفترسُ العدوَّ جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوادُه فكــــــــــأنّـــــــــــــــهُ أسَـــــــــــــــدٌ علـــــــــــــــى ســـــــــرحـــــــــــــــان

قد كُفيتُ به سؤالَ النـــــــــــــــــــــــــــــــــاسِ من تعني وهل أعني سوى سلطان؟!!

ويعتب الشاعر القروي على لبنان ويهيب باللبنانيين أن يثوروا وهو يرى الجواب الشافي للاحتلال الفرنسي في تلك الثورة السورية الكبرى. يقول القروي:

لبنانُ يا لبنانُ بل ما ضــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرّنــــــي لـــــــــــــــو قلـــتُ يـــــــــــــــا بلـــــداً بـــــــــــــــلا ســـــــكـــــــــــــــانِ
خفَضَتْ جبالك شامخاتِ رؤوسها بــــــــــــــالعارِ واندكّـــــــــــــــت إلـــــــــــــــى الأركـــــــــــــــــــانِ
تشكــــــــــــــــــــــو من الأديانِ تتّهمُ السّــــوي ولَأنـــــــــــــــتَ أنـــــــــــــــتَ الـــــــــــــــعبـــــــــــــــدُ للأديـــــــــــــــــــــــانِ
إن كــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان للدين الدروز تعصّبـــوا أرِنــــــــــــا التعصّـــــــــــــــبَ أنـــــــــــــــتَ للأوطـــــــــــــــــــان
حورانُ هبّ إلى الحسام كأنّمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا هو وحدَهُ العــــاني وأنــــــــتَ الـــــــهاني؟
أين التراثُ تراثُ أبطال الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى أيـــــــــــــن البقيّــــــــــــــــةُ مـــــــــــــن بنـــــــــــــي غسّـــــــــــــانِ؟

الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية
الملك-فيصل-الأول-عند-إعلان-الحكومة-العربية-في-سورية

بطل الصحراء
بطــــــــــــلَ الشـــــامِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودةً لبــــــــــــــــــــــــــــلادِكْ تَصلــــــــــــحُ الشــــــــــــامُ مَوْطِنــــــــــــاً لمــــــــــــعــــــــــــــــــــــادِك
عُطّلَت ساحَةُ الجهادِ من الآسادِ لمـــــــــــــــــــــّا انــــــــــــــــــــــزويــــــــــــــــــــــــتَ مــــــــــــــــــــــــع آســـــــــــــــــــــــــــــــادِكْ
وجلا العزّ عن رُبى جنّةِ الخُلـــــــــــــــــــــــــــدِ فــــــــــــآبــــــــــــت صحــــــــــــراء بعــــــــــــد بِـــــــــــــعــــــــــــــــادِك

بلبل الشعر خلّ عنك الخيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالا تتمنّــــــــــــــــــــــــى عــــــــــــلــــــــــــى الــــــــــــزمــــــــــــان المحــــــــــــــــالا
أيَّ نصــــــــــــرٍ ترجـــــــــــــوهُ أيَّ فَخـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٍ لبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلادٍ تــــــــــــــــــــــــــــــــــــجــــــــــــــــــــوِّعُ الأبطـــــــــــــــــــــــــــــــــــالا
أوَ لــــــــــــم نبــــــــــــذلِ النفـــــوس فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداءً عــــــــــــن لئــــــــــــامٍ لا يبــــــــــــذلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون المــــــالا؟

صارِعِ التّنْكَ، سَرِّ عنكَ فخَلفَ البحرِ جُنْدٌ للحــــــــقِّ مــــــــــــن أجنـــــــــــــــادِكْ
لا يَضِركَ العُبدانُ ما دمتَ حُــــــــــــــــــــــرّاً قــد جعلْــــــــــــتَ الأحرارَ مــــــــــــن عُبّــادِك
قد أردتَ استقلالَ شعبِكَ لكــــــــــــــنَّ مُــــــــــــــــــــــــرادَ الأيّــــــــــــــــــــــــــــــــامِ غــــــــــــيـــــــــــــــــــــرُ مُــــــــــــــــــــــــــرادِكْ
أيُّهـــــــــــــــــــــا المُبعَــــــــــــدُ المُـــــــــــــــــــزَوّدُ عـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــِـــــــــــــــزّاً أيــــــــــــن للمتـــــــــــــــرَفــــــــــــينَ فضــــلَــــــــــــــــــــــــــــــــــةُ زادِك؟
يــــــــا شريداً عن البـــــلادِ طريــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداً أنــــــــــــــت فــــــــــــي كــــــــــــلّ معبــدٍ مــــــــــــن بــلادك
كـلّ مافي أقلامنا من مضـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاءٍ مستــمــــــــــــدٌّ مــــــــــــن مرهَفــــــــــــــاتِ حِــــــدادك
كلّ سبقٍ في شعرِنا وانتصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارٌ هــــــــــــو مــــــــــــن ملهمـــــــــــــات خيــــــــــــلِ طرادكْ
كل ما في صدورنا من لهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــبٍ هــــــــــــو إضـــــــــــــــرامُ وَرْيُــــــــــــهُ مــــــــــــن زنــــــــــــــــــــــــادِك
كلُّ مـــــــــا في هُتافِنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا من دَوِيٍّ هــــــــــــو تــــــــــــرجيـــــــــــــــعُ نبضـــةٍ مــــــــــــن فــــــــــــؤادِك
كلُّ مــــــــــــــــــــــــا في آثارنا من خلـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودٍ هــــــــــــو تــــــــــــاريــــــــــــخُ ساعةٍ مــــــــــــن جــهـــادك
كــلُّ أمجادنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بناتُــــــــــــكَ يــــــــــــــــــــــــــــــــــا من قــــــــــــد أضفــــــــــــتَ المنفـى إلى أمجادِك
أيّهــــــــــــا المُنجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدُ المحاويــــــــــــجَ عارٌ أن نُصِــــــــــــمَّ الأسمــــــــــــاعَ عــــــــــــن إنجــــــــــادك
لو فرشنـــــــــــا لك الجفونَ مهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاداً وجعلنــــــــــــا الأهـدابَ حشوَ وِسادِك
ما جزيناكَ ساعةً مــــن ليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالٍ بِــــــــــــتَّ عنّــــــــــــا علــــــــــــى حِــــرابِ سُهـــادِك
كلُّ حُرٍّ فداكَ يا فاديَ الشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــامِ وأولادُه فـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدى أولادك

لمن المآدب
(عندما يصبح الخبز أغلى من الذهب)
لم ينس سلطان باشا الأطرش جميل الشاعر القروي، ولا جميل أولئك الوطنيين الغيورين الذين ساندوا الثوار في المنفى، وقد جاء في كتاب«أحداث الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش 1925 ــ 1927 (ص312»)، مايلي:«غير أن إخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسوا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا، بل كانوا يتحمّلون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا ( أي الخيام التي كان الثوّار يأوون إليها)، بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا … ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا، وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر، فنضطر إلى التهام أوراق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفيما كنا نواجه أمثال هذه الأزمة الحادة، وإذا بالسادة: شكري القوّتلي والحاج عثمان الشرباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدّمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة «صُرّة» من الليرات الذهبية. فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من الانفعال، فتناول قبضة منها ونثرها أمامهم، وخاطبهم بحدّة قائلاً:
« إن هذا الذهب كلّه لايساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال، أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء! ».

شاعر الثورة يلبّي النداء
في عام 1934 أقامت الجالية العربية في مدينة بيونس ايرس عاصمة الأرجنتين مأدبة سخية له ولرفيقه الياس فرحات، واغتنم الشاعر الفرصة لإلقاء قصيدة حماسية استنفر بها مشاعر المدعوّين لمساعدة أطفال الثوار الجياع والعطاشى في منافي نجد من أرض المملكة العربية السعودية، بعيداً عن أوطانهم. ولما انتهى من القصيدة ألقى بريال على المائدة وأتبعه رفيقه فرحات بمثله فهطلت الأوراق المالية من كل صوب واجتمع للمنكوبين مبلغ غير زهيد.
يقول القروي في تلك القصيدة التي حملت عنوان:

لمن المآدب
لِمَنِ المآدبُ حولها الأضيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ وعـــلامَ هــــــــــــذا البــــــــــــذلُ والإســــــــــــــــــــــــرافُ
وَمَنِ الملوكُ الفاتحون بأرضـــــــــــــــــــــــــــــــــكم يُسعــــــــــــى عليهــــــــــــم بــــــــــــالطّلا ويُطـــــــــــــــــــافُ
يا عُصبَةً الخُلُقِ الكريمِ وإنّهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا لَشهــــــــــــادَةٌ يقضــــــــــــي بــــــــــــهــــــــــــا الإنصــــــــــــــافُ
عبَثاً تحاول كفَّ كفّكَ عن نـــــــــــــدىً إنّ الــــــــــــكـــــــــــــــريمَ مُبَــــــــــــــــــــــــذّرٌ مِـــــــــــــتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلافُ
القانعيــــــن مــــــــــــن الحيــــــــــــــاة ببُلغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــَةٍ هذي الجفــــــــــــانُ تحفُّهــــــــــــــــــــــــنَّ صِحــــــــــــافُ
ألطائـــــرَينِ غِناهمـــا بغِناهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــلقــــــــــــى فــــــــــــراخٌ حــــــــــــتفُهــــــــــــا وخِـــــــــــــــرافُ
خَلُّوا المطـــاعِمَ للذينَ قلوبــهـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــم ورؤوسهــــــــــــم ونــــــــــــفوسهــــــــــــم أجـــــــــــــــوافُ
واللهِ ما ظفــــِرَتْ يدايَ بلقمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ إلاّ عــــــــــــــــرانــــــــــــيَ خاطــــــــــــرٌ رجّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــافُ
وتمثّلت لي في المضارب صِبيَـــــــــــــةٌ خُمــــــــــــصُ البطــــــــــــونِ كــــــــــــأنّهــــــــــــم أطيــافُ
لهمُ الصّحارى والمجاعَةُ والصّدى ولنـــــــا النــــــــــــدى والخمــــــــــــرُ والأريــــــــــــــــــــــــافُ
أشبالُ من نثرَ الكتائبَ سيفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــُــهُ السباســــــــــــبَ رُمحُــــــــــــه الــــــــــــرّعّــــــــــــــــــــــــــــــافُ
أنجــالُ من كانت تروحُ وتغتــــــــــــــــــــــــــــــدي كالنمــلِ حــــــــــــولَ خِوانــــــــــــه الأضيــــــــــــافُ
أطفال سلطانٍ تجوعُ وطالــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمــــــا شبعــــــــــــــــت بفضــــــــــــل فطــــــــــــــــــــورهِ الآلافُ
حَلِفٌ عليـــــكم لا يذاقُ طعامُكـــــــــم والحــــــــــــــــــــــــرُّ لــــــــــــم تُنقَـــــض لــــــــــــهُ أحـــــــــــــــــــــلافُ
وَقْـــــــــفٌ لأبطالِ الجهـــــــــادِ عشاؤكــــــــــــــــــم وأعيــــــــــــذكـــــم أن تؤكــــــــــــــــــــــــلَ الأوقـــــــــــــــــــــــافُ
نِعـــــــــمَ الزكـــــــــاة عــــــــــــــــــن الرفــــــــــــــــــاهِ ضـــــــــريبةٌ ليسَت تُحِــــــــــــسُّ بحملــهــــــــــــا الأكتــــــــــــــافُ
سلمانُ قم وافتحْ جرابَكَ للنّــــــــــــــدى فــــــــــــعلــــى يــــــــــــــــديــــــــــــكَ يُقَــــــــــــدَّمُ الإسعـــــــــــــــــافُ

في عيد الفطر
اغتنم الشاعر القروي بعد ذلك مناسبة مأدبة أقيمت احتفاء بعيد الفطر فذكّر الصائمين رمضان بصيام الزعيم الوطني الهندي، غاندي؛ ذلك الصيام الإحتجاجي الذي مارسه معترضاً على احتلال البريطانيين لبلاده، فأخاف الإنكليز، يقول القروي في قصيدته المعنونة بـ

عيد الفطر
صياماً إلى أن يفطرَ السيفُ بالدّمِ وصبراً إلى أن يصدح الحقّ يافمي
أفِطرٌ وأحرار الحمى في مجاعـــــــــــةٍ وعيدٌ وأبطــــــــــــال الجهــــــــــــادِ بمـــــــــأتمِ ؟!
بلادك قدّمــــــــــها على كلّ ملـــــــــّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــةٍ ومن أجلها أفطِر ومن أجلهــــا صُمِ
أُكَرّمُ هذا العيدَ تكـــريمَ شاعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرٍ يتيــــــــــــهُ بــــــــــــآيــــــــــــاتِ النّبـــــــــيّ المــــــــــــُعظّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمِ
ولكنّني أصبــــــو إلى عيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــدِ أُمّـــــــــــةٍ مُحرّرةِ الأعناقِ مـــــــــــن رِقِّ أعجمي
إلى عَلَمٍ من نسجِ عيسى وأحمدٍ و»آمنةٌ» في ظلّهِ أُختُ «مريــــمِ»
هَبوني َعيداً يجعلُ العُرْبَ أُمـــــــــــــــــــــــــــــــــــّةً وسيروا بجثماني على ديـــــــنِ بَرهمِ
فقد مَزّقت هذي المذاهبُ شملَنا وقد حَطّمتنا بــــــــــــــــــــــــين نـــــــــابٍ ومَنســــــمِ
سلامٌ على كُــــــفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرٍ يوَحّــــــــــــــــــــــدُ بيننا وأهلاً وسهــــلاً بعــــــــــــدهُ بــــــــــــجهنّــــــــــــــــمِ!!

وفي الحفلة التأبينية التي أُقيمت تكريماً للدكتور المجاهد خليل سعادة سنة 1934 أرّخ الشاعر الحدث بهذه الأبيات:
علـــــــــــــى جَــــدَثِ البطولــــــةِ قــــف حزينــــــــاً وحــــيِّ شهيـــــــــدهـــــــــــا والــــــــــــعيـــــنُ ثَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــرَّهْ
فـــــــــــكـــــــــــــم لِـــــــــــيَـــــــراعِـــــــــــــهِ زأراتِ لــــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــــــــــثٍ صـــــــــــداهــــــــــــــــــــــا رنّ فــــــــــــــــــــــــــي أذن المــجــــــرّه
نـــــــــــطـــــــــــاســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيٌّ أديـــــــــــبٌ عــــــــــــــــــــــــاش حرّاً ومات لـــكـــــــي تـــــــــــعيــشَ الـــــــــــشــامُ حُــرّه
يمـــــــــــين الحــــــــــــــــــــــقّ فـــــــــــي ســـــــــــفر المعـــــــالـــــــــــــــــــــــــــــي بــــــــــــــــــــــدع مــــــــــــــــــــــؤرّخيه تــــــــــــــــــــــخـــــــــــــطّ ذكــــــــــره

وهاهو الشاعر في قصيدته أبا الأحرار التي يخاطب فيها الدكتور سعادة الذي توفّي على أثر صومٍ اختياري طويل، وهو يهدّد الفرنسيين المحتلّين للشام بفرسان الجبل، يقول:
ألا قـــــــــــل للّــــــــــذيــــــــــــــــن طــــــــــــــــــــــغـــوا رويـــــــــــــــــــــــــــــــــداً فــــــــــــــــــــــلِلْأيّــــــــامِ والـــــــــــدّوَلِ انــــــــــــــــــــــقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلابُ
سنـــــــــقـــــــــــتلـــــكــــــــــــــــــــــم ونحييــكـــــــــــــــــــــــــم إلــــــى أنْ يُــــــــــمَزّقَ عــــــــــــــــــــــن عيونِكــــــــــــــــــــــمُ الحجـــــــابُ
وكـــــــــــم كـــــــــــفٍّ يـــــــــــطيــــــرُ بـــــــــــهــــــــــــــــــــــــا صــــــــــوابٌ وأخرى يُستَــــــــــــــعادُ بـــــــــــهـــــــــــا الصــــــــــــــوابُ
غَــــــــــــــــــــــداةَ نــــــــــــــــــــــروّعُ الــــــــــــــــــــــدنيـــــــــــــــــا بِـــــــــــــــــــــــــــــــــجِـــــــــــنٍّ علــــــى صَــــــهَـــــــواتِـــــــــــهـــــــــــا شبــــّوا وشابـــــوا
إذ اهـــــــــــبّــــــــــــــــــــــوا إلــــــــــــــــــــــى الغـــــاراتِ غارت وِهاداً تحتَ زَحـــــــــــــفِهمُ الهضـــــــــــــــــــــابُ
وللتــــــــــــــــــــــاريــــــــــــــــــــــخِ رُجعـــــــــــى ثـــــــــــمّ يـــــــــــطـــــــــمــــــــــــو ويــــــــــــــــــــــجتـــــازُ العُبــــــابَ لنـــــــــــــــــــــــــــــــــا عُبــــــــــــــــــابُ
ويـــــــــــجرفـــــــــــكـــــــــــم مـــــــــــن الصـــــحـــــراء سَيْــلٌ لـه في شاطئ الشام» اضطرابُ»
لقـد طال الحســـــــــــابُ وعـــــــــــــــــــــــــــــن قريـــــــبٍ يُـــــــــــصَـــــــفّــــــــــــــــــَى بــــــــــــــــــــــالمـــــهـــــــــــنّــــــــــــــــــــــدةِ الحســـــــابُ

هذا هو رشيد سليم الخوري، الشاعر القروي، شاعر الثورة السورية الكبرى الوفي، والصوت الصادح بدور بني معروف في ميادينها…
وبعد هذا فليس غريباً أن يتلطّف الأمير شكيب أرسلان بعد أن تأثر بشعر القروي فقال مُقَرضاً إيّاه بقصيدة طويلة وردت على هامش ديوان القروي ص482، نقتطف منها:
قـــــــــــل للقصــــــــائـــــــــــــــــــــــد كــــــــــلّـــهـنّ تـــــــــــــــــــــــــــــــــذلّلــــــــــــــــــــــــي لــــــلشـــــــاعر القــــرويّ وســـــــــــــــــــــط المحــــــفلِ
وتَـــــــــــوَسّـــــــــــدي الغبــــــــــــــــــــــراءَ عنــــــــدَ قريضهِ وضعـــي جبــاهَكِ في مكـــــانِ الأرجُـلِ
مـــــــــــن قــــــــــــــــــــــالَ إنّي قــــــــــــد رأيــــــتُ نظيــــــــــــــــــــرَهُ بــــــــــــــــــــــجميـــع أمّـــــــــــةِ يــــــــــــــــــعـربٍ لــــم يــــــــــــــــــــــعـــدلِ
حِكَـــــــــــمٌ كمــــــــــــا انفلق الصبـــاح وحجّــةٌ أضحت تقول لطلعةِ الشمـــس اخجلي
مـــــــــــا زلتُ أنشدها وبي من سحرهــا مثــــل الغـــرامِ يهيجُ فـــي قلـــــــــــبِ الخـــــلي

ومما جاء في ديوانه (ص897) أنه رأى في المنام أنه التقى سلطان الأطرش ولم يخاطبه بلقبه (الباشا)، بل وقيل إنّ أحدهم نبّهه إلى ذلك أثناء لقاء الشاعر بسلطان القائد العام للثورة نفسه، فما كان من الشاعر إلاّ أن أنشده هذين البيتين،
سلطــــــــــــــــــــــانُ يــــــــــــــــــــــاسيــــــفَ الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــى المســـــــــــــــــــــــــــــــــلولِ والسّــــــــــــــــــــــهمِ المُراشـــــــــــــــــــــــــــــــــا
عِــــــــــــــــــــــش للـــــــــــجهـــــــــــادِ وذكـــــــــــرك الميمــــــــــــــــــــــونُ للتــــــــــــــــــــــــــــــــاريـــــــــــــــــــــــــــــــــخِ عـــــــــــــــــــــــــــــــــاشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
حاشــــــــــــــــــــــا لِمثلــــــــــــــــــــــي أن يُصَغّــــــــــــــــــــــرَ مــــــــــــــــــــــن مقــــــــــــــــــــــامــــــــــــــــــــــكَ ألــــــــــــــــــــــفُ حـــــــــــاشــــــــــــــــــــــا
إن كنــــــــــــــــــــــتَ سلطــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــــاً فكيفَ يـــــــــــجـــــــــــوزُ أن أدعـــــــــــوكَ بـــــــــــاشــــــــــــــــــــــــا؟!

الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش
الشاعر القروي في زيارة سلطان باشا الاطرش

 

مواجهة طريفة بين الشاعر القروي وسلطان باشا
من القصص التي دارت بين القروي وسلطان باشا الأطرش قبل وفاتهما بعدة شهور، وكان الإثنان قد تجاوزا التسعين…
قال القروي: يا سلطان أنا أرسلت لك قصيدة كذا عام 1925 وقصيدة كذا عام 26 وأرسلت لك مجموعة من القصائد وأنتم مع إخوانكم الثوار في صحراء نَجْد في المنفى ولم يردني أي جواب.
أجاب الباشا: كانت تصلني قصائد ويقرأها الشباب ومعظمها أصبح يدرس في مدارس الوطن، ما عدا تلك القصيدة التي كسرت بها خاطر الإنكليزية سامحك الله.
هنا تساءل الحضور عن القصة فكانت إشارة إلى لقاء الشاعر القروي مع الحسناء مود البريطانية التي أعجبت به، فتخلص منها معتذراً بسبب ما يفعله أهلها بأهله من مظالم . وقال يومها شعراً:
ولو لم تكوني فرنجيـــــة
لكنت سعادتي قبل ســـعاد
ولكن حرام علــي الهوى
وفي أمتي صيحة للجهـــاد
هنا علّق الباشا بتحبب وقال: «أما كان يمكن أن ترضيها بالتي هي أحسن ونحن هنا نكفيك واجب مقارعة أهلها المستعمرين في ديارنا» فضحك الجميع.

الزراعة الكيماوية

أيتها الزراعة الكيماوية
ماذا فعلتِ بكوكب الأرض؟

تربة الأرض أخذت الطبيعة في تكوينها ملايين السنين
لكن الزراعة الكثيفة والكيماوية تميتها في سنوات قليلة

التربة أصل الحياة في الكون وملعقة واحدة منها
تحتوي 40 ملياراً من الكائنات المجهرية المفيدة

المبيدات الحشرية والفطرية تُتلف الجهاز العصبي
وهي عامل مسبب للسرطان والعقم وتشوه الأجنة

القيمة المقدرة لمبيعات المنتجات العضوية في العالم
بلغت في العام 2010 حوالي 94.2 مليار دولار

الزراعة الكيماوية تقتل أرضنا، تبيد كل معالم الحياة في تربتنا. هذه التربة التي احتاجت آلاف السنين لكي تتطور وتكتسب عناصر الخصوبة والحياة والبكتيريات النافعة نجح نظام الزراعة المكثفة ذات المحصول الواحد والمعتمدة بشدة على المبيدات والأسمدة الكيماوية في إفقارها وتعقيم الكثير من عناصرها الحيوية الأساسية من أجل بقاء الأرض ومن عليها.
لكن العالم في حاجة ملّحة وشديدة إلى هذه التربة وإلى أراض خصبة يمكن زرعها وإنبات الغذاء فيها إلى الأرض، لماذا؟ لأن سكان الأرض في ازدياد ولأن مستوى معيشة أكثرهم في تحسّن سنة بعد سنة. لقد كانت الصين والهند تعتبران بلدين فقيرين قبل عقدين من الزمن لكنهما برزتا الآن كعملاقين اقتصاديين وأدى ذلك إلى ارتفاع مستوى دخل الأفراد فيهما، ومع تحسّن دخل الناس يزداد طلبهم على كل أنواع الغذاء والأطعمة وهذا ما جعل الطلب على السلع الغذائية يتضاعف في العالم وأدى قبل أعوام إلى أزمة غذاء رفعت أسعار السلع الغذائية بصورة غير مسبوقة.
إذا أخذنا بآخر النماذج الإحصائية الدقيقة، فإن عدد سكان الكرة الأرضية سيصل إلى نحو 11 مليار نسمة في نهاية القرن الواحد والعشرين، وبالطبع فإن إطعام هذا العدد الهائل من الناس يحتاج إلى نمط من الزراعة مختلف تماماً عن الأنماط المدمرة التي سيطرت على مناطق كثيرة في الكرة الأرضية وما زالت تزيل كل سنة مساحات هائلة من أراضيها الصالحة للزراعة.
هذا العام وحده قدرت مساحات الأراضي الزراعية التي اختفت من على سطح الأرض بسبب عوامل التعرية والانجراف وتآكل التربة بنحو خمسة ملايين هكتار أي ما يعادل خمس مرات مساحة بلد مثل لبنان. لنتخيل أن مساحة بهذا الحجم تختفي من على وجه الأرض كل سنة فإلى أين سيتجه مصيرنا كجنس بشري؟
ما هي طبيعة المخاطر التي تطرحها الزراعة الكيماوية وتهدّد حياتنا واستمرارنا كجنس؟ هل ما زال لدينا وقت لوقف المسار الكارثي، وكيف يمكن للزراعة العضوية أن تساهم في إنقاذ الأرض ومن عليها؟

جوهر الأزمة التي تهدّد مصير البشرية الآن يمكن تلخيصه ببساطة بأنه التدهور المتسارع لنوعية التربة وعلة النطاق الكوني من جراء استخدام زراعات المحصول الواحد وتعميم استخدام الأسمدة الكيماوية والمبيدات فضلاً عن المقامرة الهائلة المتمثلة بتعديل الخصائص الجينية أو الوراثية للكثير من النباتات والحيوانات من دون أن يكون هناك أي قدر من التقييم العلمي للمخاطر الطويلة الأمد الناجمة عن هذا الأسلوب.
من أجل فهم أفضل لطبيعة المخاطر التي تتهدّد تربة الأرض يجب أولاً أن نعرّف عن التربة نفسها وعن تكوينها وكيف تعمل في إطار دورة الحياة على الكرة الأرضية.

ماذا نعرف عن تربة الأرض؟
إن معظم الكرة الأرضية مكوّنة من صخور صماء صلبة لا يمكن أن تنتج الغذاء . أما الغطاء الترابي الذي نستخدمه لكي ننتج غذاءنا فإن نحو 75% منه هو عبارة عن أتربة محمولة مثل الأتربة التي تنقلها الريح، وفقط 25% من هذا الغطاء الترابي يتكون في مكانه، وبسبب الظروف الكثيرة التي تؤثر في تكوّن التربة فإن تربة الأرض بطبيعتها شديدة وتختلف خصائصها بين منطقة ومنطقة، لكن الجماعات البشرية تعلمت مع الزمن كيف تكيِّف أنماط عيشها وزراعاتها مع أنماط التربة التي تعيش عليها فباتت تعرف بالتجربة أي تربة تصلح لأي نوع من الأشجار أو أي نوع من المحاصيل، كما إنها تعلمت عموماً كيف تعطي للتربة فترة الراحة اللازمة لتجديد عناصرها الغذائية وصحتها، وهذا المبدأ ألغته الزراعة المكثفة وحاولت الأرض تعويض عناصرها الغذائية عن طريق التسميد المستمر والزائد عن الحدّ في كثير من الأحيان.

التربة بيئة حية
تبدأ التربة بالتكوّن من مصدر معدني مثل الصخور المتآكلة والطمي الجليدي وطمي الأنهار ولا سيما عند فيضانها، وكذلك الصهارة البركانية والرمال وغيرها. أما المكونات العضوية التي تضاف إلى هذا الخليط فمع الزمن فقد تكون حية أو غير حية، وكذلك أوراق الأشجار المتساقطة، الحيوانات النافقة والكائنات الحية الدقيقية كلها تقوم مع الزمن بإغناء تركيبة التربة بالكربون الضروري للحياة النباتية.
تتألف التربة الصحيحة من 50% من مكونات صلبة و50% من هواء وماء،لكن هذا المزيج هو عالم يضج بالحياة، إذ تعيش فيه مئات أنواع الحشرات الصغيرة والديدان الخيطية والبوروتوزوا فهو عالم كامل من الكائنات الصغيرة والبكتيريا والكائنات المجهرية والتي أكثرها أصغر من رأس الدبوس لكنها بالملايين.
إن المكونات المجهرية للتربة هي من الكثافة والتنوع ما زلنا نجهل ما يقل عن 70 أو 80% منها ويقدر أن ملعقة واحدة من التراب تحتوي على نحو 50 مليار ميكروب ونحو 90% من النباتات تتغذى من كائنات ميكروبية mycorrhizae وهي نوع من النموات الفطرية التي تساعد في نقل المغذيات الموجودة في التربة إلى جذور النباتات.
إلا أن هناك أيضاً الآلاف من الميكروبات الأخرى التي تلعب دورها أيضاً في ما سماه أحد الباحثين البيئيين «سمفونية الأرض». وفي دراسة لجامعة نورث كارولاينا صدرت في العام الماضي أثبت الباحثون أنه ومع تكون الحياة في التربة فإن المكونات الحية التي تسكنها تبدأ بفتح أقنية وأنفاق دقيقية تؤدي إلى تحسين تهوئة التربة وصرف المياه بينما تسبح الديدان دقيقية والبروتوزوا في الغشاء المائي الدقيق المتكون حول ذرات التربة وتتغذى بالبكتيريا وتقوم حشرات العث المتناهية الصغر mites بالتهام النموات الفطرية بينما تقوم الأخيرة بتفكيك المكونات العضوية للتربة. وعن هذا الطريق تساعد تلك الكائنات في تحرير المغذيات الأساسية وثاني أوكسيد الكربون، كما إنها تلعب دوراً رئيسياً في دورة تثبيت النيتروجين والفوسفور وإزالة النيترات وتثبيت التربة وإغنائها بالمعادن، لكن هذه الكائنات المجهرية في حاجة دائمة إلى المادة العضوية وإلا فإن عددها سيتراجع بسرعة وسيؤثر ذلك على خصوبة التربة وإنتاجيتها.
هذه البيئة النابضة بالحياة تهاجمها الزراعة الحديثة والكيماوية بلا هوادة وتُسهم بذلك في تعقيم التربة وشيخوختها بسرعة كبيرة، حتى إن بعض العلماء يعتقدون أن التربة التي يمكن أن تبقى نابضة بالحياة لملايين السنين يتم إفقارها وتحويلها إلى تربة لا حياة فيها بسبب زراعة الصنف الواحد Monoculture في بضع سنين لا غير. والمأساة الحقيقية هي أن هذه التربة ستأخذ مئات وربما آلاف السنين للتعافي واستعادة حيويتها مجدداً. وهذا شرط وضع حداً لعملية الاستنزاف البربرية القائمة.

” التربة الصحية تتألف من 50 % مكونات صلبة و 50 % ماء وهواء لكنها تضج دائماً بملايين الكائنات الصغيرة والنمــوّات الفطــرية والمغذيات  “

ماذا فعلت الزراعة الكيماوية؟
تؤدي الزراعة الكيماوية والتي تستخدم المعدات الثقيلة إلى تكوّن تربة مشبعة بالماء ومرصوصة بسبب عمل الآليات وتصبح هذه التربة بذلك سريعة التأثر بعوامل الجرف والتعرية. لقد فقدت البشرية نحو ثلث الأراضي الصالحة للزراعة على هذا النحو في أقل من نصف قرن من الزراعة الكثيفة.
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ هناك أيضاً المضار والأخطار التي تمثلها الزراعة الكيماوية على صحتنا وصحة أطفالنا. وعلى سبيل المثال فإنه ومن أصل 800 الف من المواد الكيماوية المستخدمة في العالم فإن بضعة مئات فقط تتم إخضاعها لاختبارات السلامة بينما لا نعرف حقيقة ما هي الآثار البعيدة لاستخدام آلاف المنتجات الباقية والتي تستقر أكثريتها في التربة وفي مجاري المياه، فتدمر المكونات العضوية والحيوية للتربة وتشجع في المقابل على تكاثر الفطريات والميكروبات الضارة. وهذه الكيماويات ليس فقط تقوم بتدمير التربة بل إنها في الوقت نفسه تقتل النحل والفراشات وجزءاً كبيراً من الغطاء الزهري ومن المخلوقات الحيوانية. ورغم أن نحو 60% من البيئة العالمية أصبحت على شفير الإنهيار، ومع ذلك فإن الصناعة الكيماوية والشركات الزراعية الكبرى ما زالت تتجاهل تماماً حجم الكارثة.

الدرس
الدرس الأهم الذي بدأ العقلاء يستخلصونه من كل هذه النتائج هو أن حل مشكلة الغذاء في العالم لن يتم من خلال التركيز على إنتاج المزيد وبأي وسيلة ممكنة بل في توجيه الاهتمام إلى أصل الأصول وهو صحة التربة في المدى الطويل لأن صحة التربة هي التي ستضمن إنتاج الغذاء بما يكفي لإطعام البشرية التي يزداد عددها بإطراد، أما إذا تردّت التربة واستمر زوال مساحات إضافية كل عام من الأراضي الصالحة للزراعة فإننا أمام مستقبل قاتم لا يعلم إلا الله أبعاده ونتائجه المتوقعة على البشرية.
لقد أصبح مؤكداً أن الزراعة الحديثة تدمّر تربة الكوكب وتحدث خللاً جوهرياً في تكوينها، والتربة هي أعظم كنوز الأرض التي لا يوجد بديل عنها فهي ولّادة معظم الحياة النباتية وبالتالي الحياة الحيوانية على هذا الكوكب، هي نقطة تلاقي علم الأحياء بالجيولوجيا، وهي الغلاف الحيوي للكرة الأرضية. لكن، ما فعله معظم المعنيين بالزراعة الحديثة وما زالوا هو أنهم أعلنوا الحرب على التربة بالأسلحة الكيماوية وبزراعة المنتج الواحد، وتناسوا أن ما يفعلونه هو انتحار على مستوى الجنس البشريّ.

ما هي الزراعة الكيماوية؟
تستخدم بعض المواد الكيماوية في الزراعة لإنتاج الأغذية على مستوى العالم. وفي البداية، قُدمت المبيدات والأسمدة الكيماوية للمزارعين بحجة أنها توفّر وسيلة ثورية لزيادة منتوج وجودة المحاصيل الزراعية، لكن هذا الهدف القصير المدى خلّف وراءه تربة زراعية متآكلة وفقيرة، بالإضافة إلى مياه جوفية ملوّثة وإلى تراجع مقاومة النباتات للأمراض والطفيليات الضارة على المدى الطويل.

كيماويات سامة في غذائنا!
تعتبر معظم أنواع المواد الكيماوية المستخدمة في الزراعة من النوع السام، ومنها :
الإترازين: رغم أن هذه المادة قد لا تستخدم أثناء الزراعة بسبب منع استخدامها، إلا أنها لاتزال تستعمل في بعض الدول للقضاء على الأعشاب الدغلية وهذه المادة مدرجة على اللائحة الحمراء للمبيدات الخطرة جداً على البيئة، كما تعدّ مسببة للسرطان عند الإنسان.
الديكارب: ينتمي هذا النوع من المبيدات إلى مجموعة الكاربامايتس، وقد منع استعمالها في العديد من البلدان كاليابان والسويد وبلدان أخرى. وقد أكّدت منظمة الصحة العالمية خطورة هذه المادة على صحة الإنسان، وكذلك أثبتت الدراسات تأثيرها على جهاز المناعة. لكن وللأسف، لا تزال بعض الدول تستخدمها في بعض المحاصيل الزراعية مثل القنبيط.
بينوميل: يستعمل في العديد من المحاصيل كالحبوب والخضار والفواكه. له قدرة على مكافحة الفطريات، وتصنفه منظمة حماية البيئة بأنه أحد مسببات السرطان عند الإنسان ويؤدي أيضاً إلى تسمم بعض الكائنات غير المستهدفة، كالطيور وبعض الحشرات.
كابتان: تستعمل هذه المادة في بعض الدول في حماية محاصيل الفاكهة. وقد وجدت ترسبات منها في الفراولة والتفاح، وتصنفها منظمة حماية البيئة بأنها تسبب السرطان، وقد منع استعمالها في أميركا على بعض أنواع الخضر والفواكه.
كاباريل: تنتمي هذه المادة إلى مجموعة كاربوميت، وقد صنفتها الحكومة البريطانية بأنها مسببة للسرطان وحُدِّد استخدامها ومع ذلك فقد وجدت ترسبات من هذه المادة في التفاح وبعض الفواكه الأخرى.
كلورفيفاينفوس: تمّ تطوير هذه المادة الكيماوية خلال الحرب العالمية الثانية، لإنتاج غاز الأعصاب الذي يضرب الجهاز العصبي. وتؤكد منظمة الصحة العالمية بأنها خطرة للغاية. ومع ذلك، لا تزال تستخدم لدى بعض الدول في القمح والخضروات الجذرية. وقد اكتشفت إحدى الدراسات ترسبات هذه المادة في الجزر بنسبة تفوق النسب المسموح بها بـ 25 مرة.
لينداين: تنتمي هذه المادة إلى مجموعة تدعى اوركانوكلورينز. وقد سبّب استخدام هذه المادة جدالات كثيرة، حيث تعدّ معطلاً للهرمونات وتتركز في الأنسجة الدهنية، وتزداد فاعليتها السمية، وتبقى في البيئة لمدة طويلة بعد استعمالها. وقد تمّ الربط بين هذه المادة وسرطان الثدي وأمراض فقر الدم وقد منع استخدامها في العديد من البلدان، وظهرت آثارها في الحليب والأجبان لأنها تستخدم في إنتاج الحبوب والشعير.
مالاثيان: تستخدم هذه المادة الكيماوية لقتل العديد من الآفات، لذلك انتشر استخدامها مع كثير من أصناف الفاكهة والخضار. وتصنف هذه المادة ضمن اللائحة الحمراء التي تمثل خطراً على البيئة.
هل يمكن إزالة المواد الكيماوية من الأغذية الزراعية عند غسلها؟!
الحشرات يمكن إزالتها من الخضروات الورقية باتباع الطرق الصحيحة في غسلها، لكن لا يمكن للمستهلك شراء محاصيل من السوق تكون خالية من الملوثات الكيماوية، أو إزالتها بطرق الغسيل الاعتيادية. ورغم أن إزالة القشرة لبعض أنواع الفواكه والخضروات تقلل من خطورة التلوث بالمواد الكيماوية، إلا أن عدم الاستخدام الصحيح للمبيدات، ولا سيما «الجهازية» منها قد يؤدي إلى وجود التلوث في بنية الخلية داخل الفواكه والخضروات. ومن الناحية النظرية، يفترض بأن الاستخدام الصحيح للمواد الكيماوية يجعلها تختفي عند موعد القطاف وهذا ما نقضته إحدى الدراسات العالمية عام 1996 إذ أثبتت وجود ترسبات من المبيدات في 41% من الفواكه والخضر التي تمت معاينتها.

آثار مدمرة
إن تلوث الأراضي الزراعية بالمبيدات يؤدي إلى تلوث خطر في منتجاتها الزراعية وتدهور نوعية التربة والمياه التي تمرّ بها. وتنتقل تلك الخطورة إلى الإنسان والحيوانات التي يتم تناول لحمها حيث إن المبيدات الحشرية تؤثر بيولوجياً على الشخص المصاب وبخاصة على الكبد الذي قد يصاب بالتليّف بسبب تراكم سموم المبيدات الحشرية وقد تسبب هذه المبيدات تلف الجهاز العصبي أو السرطانات المختلفة، كما قد تؤثر على الأجنة عند المرأة الحامل أو تسبب العقم عند الإنسان
وقد تتسرب المبيدات الحشرية إلى الجسم عند تناول لحوم الأغنام والأبقار والجمال التي تمت تغذيتها بالأعلاف والشعير الملوث بالمبيدات، كما إن تلوث الأنهار والبحيرات بالمبيدات الحشرية قد ينقل هذه المبيدات إلى الطيور والأسماك ومن ثم تنتقل إلى الإنسان كما حصل عندما تلوثت بحيرات كثيرة بالمبيد الحشري الخطير (DDT) وانتقل هذا المبيد إلى الأسماك والطيور التي تناولها الإنسان.

ضحايا بالآلاف
في مقاطعة جيانغسو Jiangsu الصينية يُصاب نحو 27 الف شخص سنوياً بالتسمّم نتيجة المبيدات الكيماوية 10% منهم يموتون. وقدّر أحد التقارير الصادرة عام 1997 من الأكاديمية الوطنية للعلوم (أميركا) بأن المبيدات الكيماوية قد تكون السبب الرئيسي في 1.4 مليون حالة سرطان بين الأميركيين، بينما يعتبر التسمم بالمبيدات الكيماوية من قبل المزارعين في كاليفورنيا الحالة المرضية الأكثر شيوعاً في تلك الولاية.
إن نظرة سريعة إلى الخريطة التي تظهر المساحات الزراعية التي لم تعد صالحة بسبب التلوث وتدهور التربة تظهر أننا على خط انحداري خطير وأنه لم تعد هناك فرصة طويلة لبقاء الأرض كما عرفناها إذا استمرّ التداول بالمبيدات الكيماوية في المجال الزراعي على وتائره الحالية. وعندما نأخذ في الاعتبار أن 1% فقط من المبيدات المرشوشة على النباتات تصل الى الحشرات التي صممت لقتلها، حينها سنفهم ماذا تفعل النسبة الباقية (99%) بالهواء والتربة والمياه والغذاء التي تلوّثها. فالكيماويات المرشوشة فوق المزارع تساهم في تلويث المياه الجوفية، وتزيد من نسبة التعرية، وتجرّد التربة من الحيوية، كما تقتل الحياة البريّة التي تعتبر مهمة في إكمال دورة الحياة. لكن رغم هذا كله، فقد وجد معظم المزارعين أن شراء الكيماويات ورشّها في مزارعهم أسهل بكثير من إجهاد أنفسهم في استيعاب آلية عمل الزراعة العضوية أو الطبيعية. والجميع يفضّل الطريق الأسهل. وفي كل عام، تساهم الوسائل الزراعية العصرية في تدمير القدرة الحيوية الطويلة الأمد للحقول الزراعية على إنتاج الأغذية الصحّية والطبيعية، حيث إن ما يعادل 90% من المزارعين (98% في أميركا وحدها) يلجأون إلى الأدوية الكيماوية، أكانت سماداً أو مبيدات. ويُقدّر «مجلس الدفاع عن المصادر الطبيعية» في الولايات المتحدة The Natural Resources Defense Council بأن حوالي 450 الف طن من المبيدات الكيماوية تُستخدم في المزارع الأميركية سنوياً، كما كشف مركز البحوث الاقتصادية Economic Research Service في أميركا بأن 25 مليون طن من السماد الكيماوي يلقى بها في الأراضي الأميركية (وحدها) سنوياً.

التسميد الكيماوي عدو للتربة!
يلجأ المزارعون الى التسميد بغرض الحصول على أكبر كمية من المحصول وعلى أحسن نوعية، وبالتالى تعظيم الدخل. والتسميد يشكل حوالي 50% من العملية الزراعية برمتها لذلك نجد ان هناك ميلاً لدى المزارعين الى اضافة كميات زائدة من الاسمدة إلى التربة دون الالتزام بالمعايير الموصى بها أو بتوقيت أو طرائق الاستخدام المنصوص عليها في الإرشادات.
وعلى الرغم من أن الاستخدام الصحيح للأسمدة يؤدي الى الحصول على انتاج أفضل فإن الاستخدام الزائد عن الحد الموصى به يؤدي الى مضار على المحصول ويترك آثاراً سلبية على البيئة نتيجة إحداث تراكمات مختلفة من المواد الكيماوية وحدوث تفاعلات جانبية عديدة على البيئة والتربة، كما إن الزيادة عن الحد المقرر تؤدي الى زيادة النمو الخضري للنبات وخفض المحصول ومستوى الجودة وتضعف مناعة النبات وقدرته على مقاومة الآفات والأمراض فضلاً عن هدر كميات كبيرة من الاسمدة مما يؤدي الى رفع تكاليف الانتاج من دون مبرر. بالإضافة الى ذلك، فالكميات الزائدة عن الحاجة تؤدي الى تلوث المياه الجوفية التي غالباً ما تستخدم لأغراض الشرب للإنسان والحيوانات أو لري المزروعات .
ومن أجل فهم التأثيرات السلبية للإستخدام المفرط للأسمدة تقسّم الأسمدة الرئيسية الى ثلاثة، وهي الأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية والبوتاسية لتبيان تأثيراتها السلبية على البيئة.

الأسمدة النيتروجينية
هي أكثر انواع الأسمدة استعمالاً لأهميتها الحيوية وتأثيراتها الايجابية السريعة والملحوظة على مختلف انواع النباتات. لكن الإفراط فى اضافتها يؤدي الى وصول النترات (وهي الصورة الشائعة للسماد النيتروجيني) بمعدّلات عالية الى المياه الجوفية، او الى مياه الصرف الزراعي التي غالباً ما تصل الى مصادر مياه الشرب والري). وفي حالة احتوائها على النترات بتركيز يزيد على 40 ملغم لكل لتر من المياه تتحول النترات في الأمعاء الآدمي وخصوصاً عند الأطفال الى مادة كيماوية يطلق عليها إسم «نتريت» وهي مادة ذات تأثير سلبي على كريات الدم الحمراء، الأمر الذي قد يسبب الاصابة بسرطان الدم. كما إن التركيز العالي للنترات فى مياه الشرب يسبب مرض السرطان في المعدة والأمعاء.. وتسبب هذه المادة تسمم الأبقار التي تسقى بها أو تتغذى بالأعلاف الخضراء التي رويت بالمياه الملوثة بالنترات.
كذلك فإن الكميات الزائدة من التسميد النيتروجيني يؤدي الى أن يتجه النبات الى النمو الخضري على حساب المحصول الثمري فيتأخر النضج ويقل المحصول. ويصبح النبات غضاً طرياً سهل الانكسار عند تعرضه للرياح، ويصير أكثر عرضة للإصابة بالآفات والأمراض.
أما في حالة وصول مياه الصرف الزراعي الذي يحتوي على نسب عالية من النترات الى مياه البحيرات والمستنقعات الراكدة، فستنمو الطفيليات والطحالب المائية وغيرها ويطلق عليها ظاهرة البترنة وهي تؤدي الى استنفاذ الاوكسيجين من المياه، وتشجع نمو الكائنات اللاهوائية anaerobic وبقاء المادة العضوية في صورتها المختزلة في هذه الظروف دون تحلل وتستمر في التراكم فتعطي مركبات سامة للكائنات الحية ومنها الاسماك، كما وتؤدي الى انتشار الحشائش المائية في المصارف مما يسبب إعاقة جريان المياه وخلق أضرار فيها ما يستوجب تطهير تلك القنوات خوفاً من انسدادها ما يكبّد الدول خسائر مالية كبيرة.

خارطة تآكل تربة الأرض
خارطة تآكل تربة الأرض

الأسمدة الفوسفاتية
يكون الفوسفور العنصر الاساسي لها ويتميز بقدرته العالية على الارتباط بحبيبات التربة وترسبه على شكل مركبات كيماوية غير عضوية، ومن ثم ينتقل مع جريان المياه السطحية نتيجة عملية انجراف التربة فيشكل خطراً ملحوظاً على متناولي هذه المياه، كما إنه يساعد او يسرع في حدوث ظاهرة التصحر. وزيادة الفسفور في التربة تعمل على إحداث خلل في التوازن الغذائي بين العناصر الغذائية في النباتات مما يقلل من انتاجيتها.

أزمة فوسفات
وبوتاس في الأفق؟

في مقال نشر في العام 2012 كتب جرمي غرانثام في مجلة Nature مقالاً توقع فيه حصول أزمة نقص عالمي خطيرة في مادتي الفوسفات والبوتاس.
ولفت الكاتب إلى أنه وعلى عكس النيتروجين فإن الفوسفات والبوتاس لا يمكن تصنيعهما كيماوياً، لذلك فإن الاستخدام الواسع النطاق لهما في الزراعة الكثيفة يمكن أن يهدد بتناقص كبير في الكميات المتوافرة منهما قبل مضي وقت طويل، وهو أمر قد يهدد الزراعة الحديثة فعلاً. وحسب غراهام فإن مادتي الفوسفات والبوتاس ليس فقط لا يمكن تصنيعهما بل لا يوجد بديل لهما لتنمية الإنتاج النباتي. ويتم استخراج المادتين من مناجم في الارض، وتحتوي بلدان الاتحاد السوفياتي سابقاً وكندا على 70% من الاحتياط العالمي من البوتاس بينما تحتوي المغرب وحدها على 85 % من الفوسفات في العالم. وتساءل غرانثام: ما الذي سيحصل عندما تبدأ هاتان المادتان بالنفاد؟ الجواب البسيط في نظرالكاتب، أن العالم قد يتعرض لمجاعة والحل لذلك هو في الاستخدام العقلاني للأسمدة الفوسفاتية والبوتاسية وبالتالي إحداث خفض كبير في وتيرة استخدامها الحالي.

الاسمدة البوتاسية، لا تختلف التأثيرات السلبية لها عن تأثيرات الأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية لأن البوتاسيوم يعدّ عنصراً متحركاً وغير مستقر في التربة، وهو اكثر حركة من الفوسفور وأقل من النتروجين. لذا، فإن امكانية تسرّبه الى مياه الصرف عالية وتشكل خطراً ملحوظاً على المياه. ونظراً إلى أن الأسمدة البوتاسية قليلة الاستخدام في الزراعة من قبل المزارعين على عكس الأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية، فإن تأثيراتها السلبية تكون قليلة جداً كذلك فإن زيادة الأسمدة البوتاسية في التربة تؤدي الى عدم انتظام الضغط الأوسموزي في محلول التربة والنبات، وبالتالي قلة قدرة الجذور على امتصاص العناصر الغذائية المضافة عن طريق التسميد وهنا ترتفع الملوحة مما يخلق اضراراً للنبات ويترتب على ذلك فقدان مقدرة النبات على الاحتفاظ بالمياه واصابته بالذبول، كما يمكن أن يتعرض النبات للاصابة بالآفات المرضية والحشرية. ولأن البوتاسيوم يكون مرافقاً للنترات عند تسربها الى اعماق التربة فإن خطر اصابة الانسان او الحيوان بالتسمم من مياه الشرب يصبح مرتفعاً جداً.
لهذه الأسباب، فإن الاستخدام المكثف والمفرط للأسمدة في الزراعة يؤدي الى تراكم العناصر الثقيلة في التربة وبخاصة عنصر الكادميوم الموجود في الأسمدة الفوسفاتية بصورة طبيعية، حيث يترك هذا العنصر أضراراً صحية على الانسان والحيوان بسبب امكانية امتصاصه من قبل النبات وتسربه إلى غذاء الانسان أو أعلاف الحيوانات.

عودوا إلى الزراعة العضوية
كان الإنسان والحيوان يأكلان من الطبيعة طعامهما ويلقيان بفضلاتهما في الأرض كما إن الحيوانات بعد أن تموت تتحلل أجسامها، وهاتان آليتان كانتا تضمنان تسميد الأرض وتغذيتها بالعناصر والمواد العضوية. وبنفس الطريقة كانت النباتات تنمو وتموت وتتحلل أنسجتها فوق التربة. ومن خلال هذه الدورة الحياتية للكائنات الحية كانت تتم الزراعة التقليدية والطبيعية. ولما بدأت الزراعة الدورية كانت الأرض تغل محاصيلها لعدة سنوات. وعندما تقفر وتنضب مواردها، كان الإنسان يتجه لأرض جديدة ليزرعها. لكنه عندما اكتشف الأسمدة العضوية والكيماوية الصناعية إستخدمها لتحسين إنتاجية التربة ومضاعفة محاصيلها من مساحة الأرض نفسها. فأصبحت الأسمدة الكيماوية أسهل وأقل كلفة من الأسمدة الطبيعية، إلا أنها تعرض التربة للتجريف والتعرية، مما جعل العالم يطالب بالعودة للزراعة التقليدية بالمخصبات الطبيعية. لكن من سيضمن أخلاقيات المنتجين وتقيدهم بوسائل الزراعة العضوية وأساليبها؟ فالمشكلة هي في كيفية الحصول على البذور القديمة قبل أن يتم تهجينها أو معالجتها أو تغيير صفاتها الوراثية.
ما هي الزراعة العضوية؟
كلمة عضوية في الكيمياء هو علم من فروعها ويقصد به المركبات المكونة من الكربون والتي أصلها نباتي أو حيواني، منها ماهو موجود بالطبيعة أو ما يصنع، إضافة الى المواد العضوية كالطعام والبلاستيك والنفط وغيرها من المواد التي عند احتراقها تعطينا كربوناً أسود.
في الزراعة العضوية يمنع استعمال الكيماويات بشتى أنواعها في جميع مراحل النمو، إلا أن المنتجات العضوية لا تخلو تماماً من التعرض للكيماويات عن غير قصد لأنه لا توجد حواجز طبيعية تمنع وصولها إلى المزارع العضوية سواء من المياه المستخدمة للري أو الهواء إلا أنها رغم هذا لا تضر بالبيئة. أما الزراعة المكثفة بالمبيدات فهي تستنزف التربة وتبيد الكائنات الحية والحشرات فيها، كما تقضي على الطيور وتدمر بيئة الحيوانات التي تعيش قربها. وقد تتسرب هذه الكيماويات عبر التربة للمياه الجوفية. في المقابل، فإن الزراعة العضوية من دون مبيدات تزيد الحياة البرية وأنواع الطيور والفراشات مما يجعلها تحافظ على التنوع الحيوي للكائنات الحية في بيئاتها فيتحقق التوازن البيئي مع تحسين نوعية التربة، كما إن كثرة الإقبال على شراء المنتجات العضوية الغذائية تزيد من تدعيم هذه الزراعة المتنامية.
يستغرق تحويل الأراضي الزراعية التقليدية إلى عضوية سنتين على الأقل لتطهيرها من المبيدات والكيماويات. لكن بالنظر إلى إدمان التربة على الأسمدة الكيماوية فإنها قد تصاب بأعراض «فقر دم» بمجرد رفع الأسمدة عنها والتوجه إلى الزراعة التي تستخدم فقط الأسمدة العضوية، ومن أجل مساعدة التربة في الفترة الانتقالية يقوم المزارع العضوي بزراعة محاصيل تخصيب (أسمدة خضراء) الهدف منها زيادة خصوبة التربة ومساعدتها على استعادة حيويتها الماضية، ومن هذه المحاصيل المخصبة نبات البرسيم.
يزداد حجم التصدير لهذه الأطعمة العضوية ويزداد الإقبال عليها عالمياً رغم أن معظم الدول المنتجة لهذه الأطعمة تخفي بعض الحقائق وتسمح مؤخراً بختم شهادات على عبواتها لتؤكد بأنها عضوية لترويجها. وبحسب مجلة Nature فإن المبيعات السنوية للصناعات الغذائية العضوية تزداد بمعدل 20 % سنوياً. لكن الخوف من تسلل جينات غريبة للمحاصيل أصبح مقلقاً للعلماء، وهو احتمال وارد الوقوع ولا يمكن تفاديه أو تجنّبه بسهولة ولاسيما من الكائنات المعدّلة وراثياً لأن الزراعة العضوية للنباتات رغم عزلتها النسبية عن الزراعات الكثيفة لا يمكنها تجنب الحشرات والطيور والهواء.
رغم هذه المخاوف فقد حققت المنتجات الزراعية العضوية انتشاراً وتنامياً ملحوظين في السنوات الأخيرة في الكثير من دول العالم، وأصبح إقبال المستهلكين على المنتجات العضوية يفوق بكثير ما كان متوقعاً ليس فقط في الدول المتقدمة بل في جميع أنحاء العالم. فقد أصبح المنتج العضوي عنصراً مهماً في استراتيجيات الاستثمار الزراعي في كثير من الدول. وتوضح الإحصاءات الزيادة المطردة في المساحات المزروعة بالنظام العضوي في العالم منذ عام 2002 وحتى عام 2006، حيث تضاعفت المساحة في قارة أفريقيا ستة أضعاف وفي قارة آسيا ستة أضعاف وفي قارة أميركا الجنوبية 1.36 ضعف وفي القارة الأوروبية 1.27 ضعف. ويعكس التزايد المستمر في القيمة الاقتصادية للمنتجات العضوية في العالم مقدار ما تناله هذه النظم من اهتمامات المستهلكين حيث تقدّر القيمة المقدرة للمنتجات العضوية في عام 2010 حوالي 94.2 مليار دولار.

مثال للزراعة الطبيعية الصديقة للأرض- حقول الأرز في إحدى قرى جنوب الصين
مثال للزراعة الطبيعية الصديقة للأرض- حقول الأرز في إحدى قرى جنوب الصين

خلاصة
من أجل حماية الصحة العامة ونوعية الحياة بدأ الكثير من بلدان العالم في السنوات الأخيرة يتجه إلى العمل بمبادئ الزراعة العضوية التي لا يدخل فيها استخدام المركبات المصنعة مثل المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية والهرمونات والمواد الحافظة، والتي هي في الواقع سموم نتناولها يومياً في غذائنا ونطعم منها أبناءنا. وهذه المبيدات الصناعية تدمر صحتنا وثبت تسببها في كثير من الأمراض الخطيرة مثل الفشل الكلوي وتليف الكبد وسرطان الكبد… والزراعة العضوية هي نظام حيوي مأخوذ من الطبيعة لا يعتمد على أية إضافات كيماوية أو هرمونية، مما يعني أن العمل بها سوف يحدّ من التلوث البيئي، كما إنه سوف يحسن تدريجياً من صحة الأفراد ومن الثروة الزراعية على المدى الطويل، لذا فإن المنتجات العضوية المتوافقة مع معايير السلامة العضوية تعتبر أهم ركائز الوقاية الصحية والمحافظة على البيئة في الدول حول العالم.

الفوائد البيئية والاقتصادية للزراعة العضوية
في تقرير لمنظمة الزراعة العالمية

الزراعة العضوية الأمل الوحيد بإنقاذ الأرض
.الزراعة العضوية الأمل الوحيد بإنقاذ الأرض

في وثيقة صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة العالمية (فاو) قدمت المنظمة تعريفاً علمياً موجزاً ومن أهم مرجع زراعي في العالم لفوائد الزراعة العضوية على الشكل التالي:

الاستدامة في المدى الطويل
الكثير من التغييرات الملاحظة في البيئة تعتبر طويلة الأجل وتحدث ببطء مع مرور الوقت. وتدرس الزراعة العضوية التأثيرات المتوسطة والطويلة الأجل لتدخل الإنسان والصناعة في النظم الايكولوجية الزراعية. وتهدف الزراعة العضوية إلى إنتاج الأغذية مع إيجاد توازن ايكولوجي يسهم في تلافي مشكلات خصوبة التربة والآفات (التي تسببت بها الزراعة التقليدية ولا سيما الكثيفة) وتتخذ الزراعة العضوية منهجاً استباقياً بحيث تركز على الاحتياط للمشكلات قبل ظهورها.
صحة التربة
تعتبر أساليب بناء التربة مثل استخدام الدورات المحصولية والزراعة البيئية ومحاصيل التخصيب Cover crops والأسمدة العضوية عوامل تشجع على تكاثر الكائنات الحية المفيدة وتؤدي إلى تحسين تكوين التربة وقوامها، كما إنها تؤدي إلى إقامة نظم استغلال أكثر استقراراً وأكثر ملاءمة للبيئة. وفي المقابل تؤدي أساليب الزراعة العضوية إلى تسريع دورة المغذيات والطاقة وتعزز قدرة التربة على الاحتفاظ بالمغذيات والمياه، والتعويض بالتالي عن عدم استخدام الأسمدة المعدنية أو الكيماوية. ويمكن لأساليب الإدارة في الزراعة العضوية أن تقوم بدور هام في مكافحة تعرية التربة، فهي تساهم في خفض احتمالات التعرض لعوامل التعرية، وفي زيادة التنوع البيولوجي للتربة، وتقلل فاقد المغذيات مما يساعد على المحافظة على إنتاجية التربة وتعزيزها. ويتم عادة تعويض ما تفقده التربة من مغذيات من موارد متجددة مستمرة محل تلك المزروعة وهي مغذيات ضرورية في بعض الأحيان لإغناء التربة العضوية بالبوتاس والفوسفات والكالسيوم والمغنيزيوم والعناصر المغذية من المصادر الخارجية.

سلامة المياه
يعتبر تلوث مجاري المياه الجوفية بالأسمدة والمبيدات الكيماوية مشكلة كبيرة في كثير من المناطق الزراعية. ونظراً إلى أن استخدام هذه المواد محظور في الزراعة العضوية، فإنها تستبدل بالأسمدة العضوية (مثل الكومبوست وروث الحيوانات والسماد الأخضر) ومن خلال استخدام قدر أكبر من التنوع البيولوجي (من حيث الأصناف المزروعة والغطاء النباتي الدائم)، وتعزيز قوام التربة وقابلية التربة لصرف المياه. وتؤدي النظم العضوية إلى قدرة أفضل للتربة على الاحتفاظ بالمغذيات، مما يساعد في إحداث خفض كبير في مخاطر تلوث المياه الجوفية. وفي بعض المناطق حيث يعتبر التلوث مشكلة حقيقية، يجري بشدة (كما حصل من قبل حكومتي فرنسا وألمانيا) تشجيع الزراعة العضوية باعتبارها من التدابير المهمة لمعالجة الموقف.

سلامة الهواء
تقلل الزراعة العضوية من استخدام الطاقة غير المتجددة من خلال خفض الاحتياجات من الكيماويات الزراعية (والتي يتطلب انتاجها استهلاك كميات كبيرة من الوقود الأحفوري). وتسهم الزراعة العضوية في التخفيف من تأثيرات ظاهرة ارتفاع حرارة جو الأرض أو ما يسمى بـ «الاحتباس الحراري» من خلال قدرتها على استيعاب وتثبيت الكربون في التربة، كما إن الكثير من أساليب الإدارة التي تستخدمها الزراعة العضوية (مثل تقليل الحراثة إلى أدنى حد ممكن، وزيادة استخدام البقول المثبتة للنيتروجين) يساعد على عودة الكربون إلى التربة مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وتوفير الظروف المؤاتية لتخزين الكربون بدل بقائه حراً في الجو.

التنوع البيولوجي
يعتبر ممارسو الزراعة العضوية من أهم العاملين على حفظ التنوع البيولوجي على جميع المستويات. فعلى مستوى الجينات، تفضل البذور والسلالات التقليدية المكيفة لزيادة مقاومتها للأمراض وصمودها أمام الإجهاد المناخي. وعلى مستوى الأنواع، تؤدي التوليفة المتنوعة من النباتات والحيوانات إلى توافر الدوران الأمثل للمغذيات والطاقة اللازمين للإنتاج الزراعي. وعلى مستوى النظام الايكولوجي، فإن المحافظة على المناطق الطبيعية داخل وحول الحقول العضوية وفي غياب المدخلات الكيماوية تؤدي إلى توفير بيئات حاضنة مناسبة للحياة البرية بينما يقلل الاستخدام المتكرر للأصناف المستخدمة في تخصيب التربة من تآكل التنوع البيولوجي الزراعي مما يؤدي إلى توافر «بنك» طبيعي من الجينات السليمة، وهذا هو الأساس الذي يعتمد عليه لضمان زراعة غذائية سليمة وقوية في المستقبل. ويؤدي اجتذاب المواد الكيماوية في المناطق العضوية إلى الحفاظ على التنوع الحيواني والنباتي والكائنات البرية (مثل الطيور) والكائنات المفيدة للنظم العضوية مثل النحل وحشرات التلقيح الأخرى والأعداء الطبيعيين للآفات.

الكائنات المعدلة وراثياً GMO
لا يسمح باستخدام الكائنات المعدلة جينياً أو وراثياً في النظم العضوية خلال أية مرحلة من مراحل إنتاج الأغذية العضوية أو مناولتها. ونظراً إلى أنه لم تفهم تماماً حتى الآن التأثيرات المحتملة لهذه الكائنات على البيئة والصحة، فإن الزراعة العضوية تتخذ منهجاً وقائياً وتختار تشجيع التنوع البيولوجي الطبيعي. ولذا فإن استمارات البيانات العضوية التي تستخدم لمنح شهادات المصادقة على المنتجات العضوية يجب أن تحمل تأكيداً على أن الكائنات المعدّلة جينياً لم تستخدم عن عمد في إنتاج وتصنيع المنتجات العضوية وهذا أمر لا يمكن ضمانه في المنتجات التقليدية نظراً إلى أن وضع بطاقات البيانات التي تشير إلى وجود كائنات محورة وراثياً في المنتجات الغذائية لم يدخل بعد موضع التطبيق في معظم البلدان، غير أنه مع إزدياد استخدام الكائنات المعدلة وراثياً في الزراعة التقليدية ونتيجة لطريقة نقل هذه الكائنات في البيئة (ومن خلال حبوب اللقاح) فإن الزراعة العضوية قد لا تستطيع دوماً اجتناب التلوث بخصائص المنتجات المعدلة جينياً إلى هذا الحد أو ذاك.

الفوائد الايكولوجية
يوفّر تأثير الزراعة العضوية على الموارد الطبيعية ظروفاً مؤاتية للتفاعلات داخل النظام الايكولوجي الزراعي التي تعتبر حيوية لكل من الإنتاج الزراعي وصيانة الطبيعة. وتشمل الفوائد الايكولوجية المستمرة تكوين التربة وتكيفها، وتثبيت التربة، وإعادة استخدام المياه العادية وامتصاص الكربون، ودوران المغذيات، وحماية الأعداء الطبيعيين للآفات، وحشرات التلقيح، والبيئات الطبيعية الحاضنة. ويقوم المستهلك باختياره للمنتجات العضوية باستخدام قوته الشرائية في دعم نظم الزراعة الأقل تلويثاً، ومهما اعتبر أن تكلفة المنتجات العضوية أعلى نسبياً فإنها في الحقيقة أرخص في النهاية إذا أخذ في الاعتبار ما توفره من مشاكل بيئية ومخاطر على الأرض والحياة البشرية وهي مخاطر يحتاج التعامل معها إلى تكلفة هائلة لا تحتسب الآن في تكلفة الزراعة التقليدية.

الخبيزة صيدلية الحديقة

الخبيــزة صيدليـة الحديقــة
مفيــدة من أزهارهــا إلــى جذورهـا

كانت العشبــة المفضّلــة لفيثاغــوراس
والإمبراطــور شارلمــان زيــن بهــا قصــوره

علاج فعّال للسعال والتهاب اللوزتين والقصبات الهوائية
ودراسات أثبتت نفعها في خفض الدم وحمايتها للقلب

أهل الجبل يصنعون من أوراقها الغضة طبقاً لذيذاً
ويحتفظون بأزهارها وأوراقها في صيدلية الشتاء

قيمتها الغذائية أقرب إلى السبانخ وهي غنية جداً
بالمعادن والفيتامينات والأحماض المضادة للتأكسد

لنبات الخبيزة في بلادنا ولاسيما في الجبل ذكرعلى كل شفة ولسان. وهذه النبتة التي تجمع بين المكانة العالية تظهر أيضاً تواضعاً وبساطة فهي تنبت الى جانب الطرقات وفي الزوايا المهملة للأرض، وقد يعتبرها البعض إزعاجاً أو عشبة تعترض زراعات الخضرة فيقتلعونها وفي هذا هم يرتكبون خطأ كبيراً لأنهم يرمون جانباً نبتة عظيمة الشأن يمكنهم تناولها كطعام شهي، كما يمكنهم التداوي بها وبكل أجزائها مما لا يحصى عدده من الأمراض والأعراض.
أهم ما في نبتة الخبيزة أنها نبتة برية أي أنها تنبت بأمر الله دون أن يحتاج أحدنا الى زرعها أو الاهتمام بها أو ريها وهي لذلك تتمتع بكل خصائص النباتات البرية من حيث كونها عضوية لم تخالطها الأسمدة أو المبيدات كما إنها لهذا السبب تتمتع بخواص مركّزة وفوائد كبيرة إذا تمّ تناولها كطعام أو كعلاج.
أعرف أشخاصاً بحثوا عنها في أرضهم فلم يجدوها فجاءوا في موسم الصيف ببذورها الجافة وهي التي تنبت على رؤوس الفروع في نهاية موسم الإزهار ووزعوا تلك البذور في زوايا الأرض والأماكن التي لن يطالها الحرث أو أعمال التثليم والزرع في الربيع. وبعد سنتين نمت نبتات الخبيزة وأصبحت مستوطنة في كل الأمكنة وفرحوا بها لأنها مصدر غذاء عظيم الشأن محبوبة من كثير من ربات البيوت اللواتي يطبخنها مع البصل والحمص ويصنعن منها طبقاً شهياً ومفيداً.
الجميل في الأمر أن الخبيزة تدبر أمرها بعد ذلك وتتكاثر بنشر بذورها في مجاري الريح فتنتشر وستراها بعد ذلك تنبت في كل الأمكنة، لكن إذا خشيت من توسعها في مناطق الزرع فما عليك إلا أن تقتلع الزائد منها قبل أن تنمو كثيراً لأن للخبيزة جذراً طويلاً وعنيداً يضرب عميقاً في الأرض بحيث يحتاج اقتلاعها إلى جهد أحياناً، لكن انتبه إلى أن لهذا الجذر فوائد صحية كثيرة.
وإذا كان لديك أي شك في أهمية هذه النبتة البرية فاعلم أن فيثاغوراس الحكيم واظب عليها وكان يعتبرها نباتاً مقدساً يهدئ الأعصاب، ويزيل التوتر والشهوة. أما الإمبراطور شارلمان فقد أمر بزرعها في حدائق الإمبراطورية لتزيينها، وكان الرومان يعتبرونها علاجاً لكل الأمراض، وكثير من العرب عرفوا ما فيها من فوائد عظيمة وسعوا إلى جمعها وطبخها بسبب طعمها المتميز.

تصنيفها العلمي
تعتبر الخبيزة من الفصيلة الخبازية، وهي نبات عشبي يجنى (ويزرع أحياناً) بهدف جمع ورقه الغض وتناوله مطبوخاً، وطبق الخبيزة مع الحمص أو بدونه يعتبر من ركائز المطبخ الجبلي، لكن الخبيزة نبات طبي بمعنى أنه يستعمل في مداواة الأدواء والكثير من الأعراض، وبسبب ميزاته العلاجية العديدة فقد اهتم العلم به وتحول إلى موضوع دائم للدرس في البلدان الآسيوية وفي الهند وفي الدول الغربية أيضاً.
يتراوح ارتفاع النبتة ما بين 30 و50 سنتمتراً وقد يصل في مرحلة الإزهار إلى ما يقارب المتر. أوراق الخبيزة مستديرة أو كلوية الشكل، غائرة التفصيص ذات حواف مسننة ولها عنق طويل. أما الأزهار فصغيرة ذات لون بنفسجي إلى زهري وهي تظهرمتجمعة في آباط الأوراق:
تعرف الخبيزة بأسماء أخرى حسب المناطق أو البلدان ومن هذه الأسماء الرقمية والخبيز والخبازة والخبازي والخباز، وقد عرفت الفوائد الصحية للخبيزة من أقدم الأزمان فحرص أجدادنا على جمعها من البراري وطبخها أو غلي أوراقها لمعالجة السعال والالتهابات، أما الأجزاء المستخدمة طبياً من النبتة فهي الجذر والأوراق والأزهار التي لم تتفتح. بسبب فعاليتها الموضعية في معالجة الأورام والتهيجات وكان الكثيرون يستخدمونها لعمل لبخات بعد عجنها توضع على الصدر أو الظهر أو على المكان المصاب.

الخبيرزة-يمكن-أن-تشكل-موردا-اقتصاديا.-هنا-أرض-في-شمال-لبنان-زرعت-بالنبتة-وبدأ-استغلالها
الخبيرزة-يمكن-أن-تشكل-موردا-اقتصاديا.-هنا-أرض-في-شمال-لبنان-زرعت-بالنبتة-وبدأ-استغلالها

موطنها الأصلي
تنمو الخبيزة بكثرة في المروج والغابات وعلى جوانب الطرق، وتنتشر في الوديان والمزارع وحول المنازل وسفوح الجبال، ويقل وجودها في أعالي الجبال، ويعتقد أن موطنها أوروبا والمناطق المتاخمة لها في آسيا مثل بلاد فارس وتركيا وبلاد الشام واليونان وقبرص، وتنبت الخبيزة في البراري لكنها تزرع لأجل أوراقها التي تطهى كالسبانخ أو كالهندباء وتستعمل أوراقها الغضّة طازجة في السلطة في جنوب فرنسا.
تنمو الخبيزة وتصلح زراعتها في مختلف أنواع التربة لكنها تحب التربة الطينية ويبدأ محصولها في كانون الأول وقد يمتد حتى أواخر فصل الربيع لكن مع ارتفاع حرارة الجو وجفاف الارض تبدأ أوراق الخبيزة بالجفاف وقد تتلون بصفرة تدل على أن النبتة لم تعد صالحة للإستهلاك، إلا بالطبع كعلف لدجاجات البيت. وعادة تبدأ النبتة بالإزهار في مطلع الربيع ويتكاثر زهرها مع ارتفاع درجات الحرارة وتتحول الزهرات إلى عبوات بزرية جافة في أول الصيف. لذلك فإن نبتة الخبيزة يناسبها أكثر الجو البارد المعتدل، ويتراوح المجال الحراري الأمثل لازدهار نبتة الخبيزة ما بين 15 و20 درجة مئوية.
الخبيزة من الخضراوات الغنية بالفيتامينات والمعادن ويمكن تشبيه محتواها الغذائي إلى حد كبير بمحتوى السبانخ، فهي غنية جداً بالمعادن مثل الماغنيزيوم والكالسيوم والنحاس والمانغانيز والحديد والصوديوم والزنك كما إنها غنية أيضاً بالفيتامين K الذي بدأت تظهر أهميته وبالفيتامين C وبفيتامينات B المختلفة . وتحتوي النبتة على حوامض أمينية مثل الستياريك أسيد Stearic acid واللينوليك LInolic acid واللينولينيك Linolenic acid والأولييك Oleic acid والبالميتيك Palmitic acid والأراشيديك Arachidic acid وعدد آخر من الأحماض الأمينية المضادة للتأكسد.
ويقول التركماني: إن الخبيزة إذا طبخت بدهن وضمدت بها الأورام الحادثة في المثانة والكلى نفعت، كما إن ورق الخبيزة مع زيت الزيتون ينفع من حرق النار، كما يمضغ الورق لتليين الصدر وإفراز اللبن ودر الحليب لدى المرأة المرضع كما إن النبتة تعالج كسل الكبد وضعف إنتاج المرارة، ويستخدم منقوع الزهر لمعالجة أمراض الكلى والمثانة.
قال داود الأنطاكي عن الخبيزة إنها تلين وتطفئ اللهب والصفراء وتنفع من الحكة والجرب وقروح الأمعاء وخشونة القصبة، وحرقة البول والسدد وأوجاع الطحال، واليرقان.
ويقول بوليس: إن الجذور تمضغ أو تدعك بها اللثة لعلاج تقرحاتها، ومستحلب الأزهار والأفرع المثمرة يستعمل كغرغرة لخواصها المضادة للالتهاب وكمليِّن للجهاز الهضمي مما يخفف آلام القولون.
ويقول قدامة: إن الامبراطور الروماني نيرون كان يشرب منقوعها يومياً، ويفخر بجمال بشرته، والخبيزة مع النشاء تفيد في علاج قروح الشرج، كما إن الغسل بمغلي الأوراق يلطف احتقانات الرحم، لذلك كثير من النساء استخدمن ماءها كغسول.

علاج للأمراض الصدرية
للخبيزة فوائد كثيرة منها أنها تساعد في علاج النزلات المعوية والإصابات الصدرية، والتهاب الحلق واللوزتين وعلاج آلام الأسنان، ويعرف نبات الخبيزة بتطهيره للبلعوم والحنجرة والقصبة وطرد البلغم من الغشاء المخاطي في الرئتين، وتفيد الخبيزة كمدر للبول وكمطهر للمثانة، كما إنها تقلّل من نشاط ديدان الإسكارس لإنها تشل حركتها لكن يحتاج الأمر إلى تناول شربة مسهلة بعدها لاستكمال طرد الدودة من الأمعاء.

الأزهار المجففة
تخزّن أزهار الخبيزة بعد تجفيفها، ويصنع من مسحوقها منقوع حار مسكن لآلام الحلق، ويستعمل كغرغرة للبلعوم وأوراقها مفيدة للجلد، وتستعمل في صنع الكريمات التي تغذي البشرة وتزيل التجاعيد، كما إنها تستعمل في صناعة الصابون والشامبو، وتعالج التوتر النفسي واعتلال المزاج ومهدئة للأعصاب، وتساعد في تخفيف البدانة الناتجة عن كثرة الطعام التي يسببها التوتر النفسي عند بعض المرضى.

الجذور
تعتبر جذور الخبيزة نافعة في بعض الأعراض المزعجة كالتبول المؤلم وآلام المسالك البولية، وتستهلك الجذور كنقيع حيث تغلى مع الماء ثم تشرب، وقد تؤكل طازجة كما إنها تلين البطن وتدر البول وبخاصة القضبان دون الأوراق، لكن يجب الحذر من الخبيزة التي تنبت في أماكن تحتوي على النفايات.

الخبيزة في الدراسات العلمية
أثبتت دراسة طبية حديثة نشرتها مجلة “الطب العشبي” أن أزهار نبات الخبيزة تقلل ضغط الدم الشرياني، لذلك ينصح باستخدامها لمرضى الضغط، وبيّنت البحوث أيضاً أن الخبيزة تحتوي على عناصر علاجية أهمها مضادات الأكسدة التي تضيف فوائد وقائية لجهاز القلب الوعائي، وتحمي عضلة القلب والأوعية الدموية من التلف التأكسدي، وثبت أن عناصر الخبيزة تمنع أكسدة الكوليسترول الشحمي المنخفض الكثافة LDL الذي يسبّب الاصابة بمرض القلب وانسداد الشرايين. والأكسدة هي تأثير كيميائي تسبّبه مجموعات غير مستقرة من ذرات الاوكسيجين “الأساسية الحرة” Free Radicals ما يؤدي إلى تدمير الخلايا.
كما إن سلامة استخدامها وعدم تسببها في تأثيرات جانبية سلبية جعلاها علاجاً ممكناً لحالات ارتفاع الضغط المعتدلة والتي لا تتطلب علاجات مستمرة ومتابعة طبية دائمة.

صحن الخبيزة اللذيذ بالبصل وزيت الزيتون 2
صحن الخبيزة اللذيذ بالبصل وزيت الزيتون 2

أهم الميزات الغذائية للخبيزة

مدرّة للبول
مضادة للتأكسد
مضاد للإلتهابات
نافعة لمعالجة التهاب المجاري البولية
تعطي بشرة ناعمة
مفيدة في معالجة قرحات المعدة والأمعاء والمغص
تساعد في خفض ضغط الدم
تنشط الكبد
تطرد البلغم من الجسم
تساعد في علاج السعال والتهاب الشعب الهوائية

شراب الخبيزة وضغط الدم
أجريت دراسة من قبل مؤسسة أبحاث علمية في مدينة بوسطن الاميركية أظهرت أن شرب شاي الأعشاب الذي يحتوي على نبات الخبيزة يمكن أن يساعد على خفض الضغط الشرياني لدى شاربه، ولاحظ الباحثون أن ضغط الدم الانبساطي Diastolic انخفض بحوالي عشر نقاط على الأقل عند 79% من الأشخاص الذين تناولوا شاي الخبيزة، مقابل 84 % عند من تعاطوا العقاقير الطبية، ما يؤكد أن الشاي المصنوع من خلاصة زهور الخبيزة فعّال في تقليل ضغط الدم الشرياني عند الأشخاص المصابين بحالة بسيطة إلى متوسطة من ارتفاع الضغط.
والجدير بالذكر أن ضغط الدم يعتبرعالياً إذا تجاوزت قراءاته العليا والسفلى أكثر من 140/ 85 وأن ارتفاع ضغط الدم هو حالة شائعة في البلدان المتقدمة، ويؤثر على 20% من البالغين فيها. وتقول الدكتورة دايان ماكي من جامعة تافتس ببوسطن والمشرفة على الدراسة، إن معظم أنواع شاي الأعشاب المستخدم في الولايات المتحدة الأميركية تحتوي على نبات الخبيزة في تركيبتها وشربها اليومي من قبل أشخاص كان لديهم قياس الضغط الشرياني في معدّله الأعلى (الطبيعي) فجعلهم يستفيدون ويشهدون انخفاضه بعد مرور ستة أسابيع من استخدام شاي النبتة. وقد عرضت الدكتورة ماكي لنتائج أبحاثها خلال اجتماع جمعية القلب الأميركية شارحة النتائج التي حصلت عليها عبر متابعة عن قرب لـ 605 أشخاص شملتهم الدراسة. وأكدت ماكي أن شرب هذا النوع من الشاي أنقص من مستوى الضغط الشرياني الانقباضي Systolic وهو الرقم الأعلى في القياس وذلك بنسبة وصلت إلى سبع نقاط، بالمقارنة مع أشخاص أعطوا نوعاً عادياً من الشاي فلم يتجاوز هذا التغيير نقطة واحدة. وقد يعتبر البعض أن النقاط السبع هذه ليست تغيراً كبيراً إلا أن استمرار هذه الفائدة على المدى الطويل يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الوقاية من أمراض القلب والجلطات، كما يشار إلى أن نسبة الانخفاض هذه قد تماثل في بعض الأحيان تلك النسبة التي تنتج عن استخدام بعض أدوية الضغط التقليدية، مع فارق أن هذه العقاقير قد تكون لها آثار جانبية تؤثر على باقي أعضاء الجسم.

الخبيرة في صناعة الأدوية
يهتم الطب الحديث بالخبيزة لمحاولة الاستفادة من هذا النبات كشاي مثلاً أو الاستفادة منه فى إنتاج بعض أصناف الأدوية، ومن أهم الأبحاث التي وضعت عن الخبيزة وفوائدها تلك التي قام بها معهد الكيمياء الحيوية في تايوان على خلاصة أزهار الخبيزة، والتي أثبتت أنها تقلل من مستويات الكوليسترول في الدم وتحمي القلب والشرايين من الأمراض، كما اكتشف تقرير أعدّه علماء صينيون أن نبات الخبيزة يساعد في أي نظام متكامل لمعالجة وهن القلب.
وأكّد بحث جديد نشر في صحيفة علم الأغذية والزراعة أن مستخلص الخبيزة لها منافع في معالجة ضغط الدم العالي ومشاكل الكبد.
جذور الخبيزة
جذور الخبيزة غنية بالصمغ المفيد، والذي يصنع منه شراب مغلي يفيد في إدرار البول وتهدئة المسالك البولية. تحتوي جذور الخبيزة على مادة سائلة بيضاء تسيل كلما قطع الجذر، وذلك لطبيعة الفلافونويدات الموجودة فيها وهذه المادة هي عادة شديدة المرورة إلا أنها نافعة في معالجة مرض السكري وأعراض ضعف القلب وآلام الظهر، أي أن المركبات المرة الموجودة في النبات تتمتع بخصائص علاجية.

تغذية الطفل
الخبيزة يمكن أن تدخل في تغذية الطفل الذي يزيد عمره على السنة ويبدأ بتناول بعض الأطعمة العادية وذلك على شكل حساء أو بمزجها مع طعام خفيف مثل الأرز أو البطاطا المسلوقة وهي تساعد على تقوية جهاز المناعة كما تحمي الجهاز الهضمي للطفل ويمكن لمنقوعها أن يعطى بالرضاعة كعلاج لحالات المغص المعوي لكن يشترط اتباع نظام غذائي سليم للطفل بحيث لا يتم تشجيعه على تناول السكاكر أو رقائق البطاطا وغيرها من الأطعمة المصنعة المخربة لصحة الكبار فكيف بصحة صغار السن.

استعمال الأوراق
تستعمل أوراق الخبيزة كمطهرة وقاتلة لبعض البكتيريا والفطريات، وللاستعمال تؤخذ الأوراق وتفرم أو تقطع أو يمكن عجنها وتطبخ على النار لفترة مناسبة، ويتم تناولها بعد ذلك للتخلص من الالتهابات أو الآلام. البعض يقوم أيضاً بمضغ أوراق الخبيزة لأنها تساعد على الهضم وتريح القولون، وتستعمل استعمالاً خارجياً لالتهاب الجفن والرمد, والدمامل, ولسعات الحشرات, والبواسير.
لكن أحد أكثر الإستخدامات الشائعة لأوراق الخبيزة هو استخدام مستخلص الأوراق كغسول للجروح والقروح, أو عمل مرهم كريم أو كمادة لتهدئة التهابات الجلد. فالخبيزة أفضل مطهر للبشرة حيث مفعولها القوي المطهر، وتستخدم الخبيزة في عمل بعض صبغات الشعر.

نبتة-خبيزة-يابسة-وتبدو-انتفاخات-البذور-على-طول-امتداد-الأغصان
نبتة-خبيزة-يابسة-وتبدو-انتفاخات-البذور-على-طول-امتداد-الأغصان

 

العدد 11