زمــــن الفَـــــــرُّوج
يجد القارئ في باب “الإرشاد الزراعي” في هذا العدد من “الضحى” موضوعاً مفيداً عن تربية الدجاج البيتي. لاحظوا الوصف. فنحن لا نتحدث عن تشغيل المداجن وملحقاتها بل عن “الدجاج البيتي” لماذا؟ لأن هذا الجانب الأساسي من حياة القرية واقتصاد الأسرة يتجه إلى الزوال مع ما نراه يزول يوماً بعد يوم من مقومات الحياة السليمة لتحل محله حياة فقيرة خطرة شاحبة تحولنا فيها من أناس ذوي تراث وثقافة وتاريخ وأسلوب حياة إلى مستهلكين أو الأصح “متسوقين”. سيطرة “الفَرُّوج” النمطي وزوال “الدجاجة” الزاهية الألوان وصيصانها من الدور والحدائق الخلفية للبيوت عنوانان عريضان لموت مجتمع ولسير سريع الخطى نحو المجهول.
لذلك، فإن لنشر موضوع كامل عن تربية الدجاج البيتي وفوائده رمزية يجب أن لا تخفى على القارئ الحصيف، لأنه شكل من أشكال النصح أو التذكير الطويل النفس هدفه ليس بالضرورة العودة إلى الماضي (فهذا الأمر بات بعيد المنال) ولكن توفير المعلومات المفيدة لمن يشاء أن يتّبع سبيل العيش الصحي لنفسه ولأسرته لكنه لا يعرف ربما من أين يبدأ لأن الكثير من ثقافة العيش الطبيعي وخبراته اضمحلت بسبب عدم استخدامها وعدم تناقلها من الأولين إلى الأجيال الجديدة. ونحن لا نريد أن نلعن الظلام بل أن نضيء شمعة وأن نحيي الأمل بإعادة إنتاج ثقافة العيش الطبيعي والصحة الجسدية والنفسية لنا ولأطفالنا. هذا هو الهدف من إفراد المجلة منذ اليوم الأول لإعادة إصدارها بصيغتها الجديدة حيزاً مهماً لباب الزراعة وكذلك الصحة والغذاء.
كثيرون منا ممن تجاوزوا سناً معينة يذكر ولا شك كيف كان الناس يفيقون على أعمالهم باكراً (لم يكونوا اخترعوا التلفزيون!)على صياح الديوك في الحي أو في مزرب البيت، وكان ديك البيت يصيح فتردّ عليه ديوك كثيرة في البلدة ليشكل الكل سمفونية من صياحات متنوعة في موسيقاها وأسلوبها كأنما لكل ديك شخصية وميزة يتفاخر بها على الباقين. كانت تلك أيام البركة عندما كانت الدجاجة من المقتنيات المحببة والعزيزة على أهل البيت يعرفونها حق معرفة ويطعمونها ويبيتونها في المساء. الذين رافقوا تلك الفترة من الزمن لم يروا في حياتهم ربما “فروجاً” منتوفاً في دكان أو سوبرماركت فهذه المناظر جدَّت بعد ذلك في الخمسينات والستينات عندما كبرت المدن ولم تعد هناك وسيلة لتموين سكانها بالدجاج إلا بتوسيع الإنتاج واتباع الوسائل الحديثة ومنها المزارع الكبيرة والمسالخ والأعلاف المصنّعة بهدف الإنضاج السريع للدجاج الأمر الذي يخفض تكلفته على المربي (حيث العلف يمثل التكلفة الأهم) ويجعل ممكناً بيع الفروج بأسعار تكون مناسبة حتى لأصحاب الدخل المحدود.
منذ ذلك الزمان حصل إنقلاب كبير إذ تحوّل الجميع تقريباً – بمن في ذلك سكان القرى من الذين كان أهلهم يربُّون الدجاج البلدي- عن تربية الدجاج في المنزل إلى “تسوُّق” الفَرُّوج في السوبرماركت وكذلك البيض، وأصبح “فروج” المزارع الطري العديم الطعم والمحشو بهرمونات النمو والمضادات الحيوية والرخيص الثمن “زينة الموائد”. يذكر أهلنا أن طهي دجاجة بلدية في الحي كان يتحول إلى خبر في البلدة لأن رائحتها الزكية كانت تنتشر بين المنازل، أما الآن فلا رائحة ولا طعماً ولكن جري وراء السهولة فالجميع في عجلة من أمرهم، ولا يعرف أحد السبب.
لكن لكل عمل نقوم به نتائج، وفي ميزان العقل كل ما يخالف الطبيعة وشرعتها الأزلية لا بدّ أن يرتدّ على الناس عاجلاً أم آجلاً بأوخم العواقب، وها هو حصاد ما نزرعه يرتسم أمام أعيننا في هذه الحالة المخيفة من الأمراض والسقم والكآبة والذبول البطيء؛ الناظر إلينا من بعيد يدهش لمنظر الخلق الشارد في كل اتجاه غير مستقر على حال، ولهذا التفكك في الروابط الإنسانية وهذا العنف واستمراء الحرام والغش حتى بين أهل البيت الواحد. من أين أتى كل هذا؟ من ترك الأرض التي هي جزء من العبادة وتوازن الجسد والروح، ومن إهمال إرث السلف الصالح وسيرتهم وكنوز الحكمة التي ورثناها منهم وهذه الكنوز يلقي بها منكرو هذه الأيام وجهَّاله خلفهم ويستصغرونها مثلما فعل المنكرون للحق قبلهم في كل زمان وأوان إذ قالوا عنه وعن آياته “أساطير الأولين”. إنه زمن “الفَرُّوج ..إفرحوا أيها الآكلون!!
الحلقة المفقودة في أزمة النفايات
في شوارع بعض قرى الجبل إرتفعت يافطات تحثّ المواطنين على المساهمة في حل مشكلة النفايات وعلى الأخص القيام بفرز نفايات المنازل ومن تلك اليافطات ”فرز النفايات دليل حضارة” أو “فرز النفايات دليل رقيّ” وغير ذلك. لكن عدا تعليق اليافطات لم نشهد حراكاً حقيقياً على صعيد مجتمع الجبل لجعل المواطن شريكاً فاعلاً في حل هذه المعضلة التي تبدأ في بيته وفي الأسلوب الذي يتعامل به مع نفاياته هو، ولا توجد نفايات في الشوارع إلا من نتاج الناس والأسلوب الذي اعتادوا أن يطبقوه في التخلص منها.
طبعاً وكما اتضح فإن الحل المقتصر على الجمع والنقل والطمر بلغ نهاية صلاحيته ولم يعد الاستمرار به سهلاً، لأن الناس خصوصاً تلك التي تعيش بالقرب من المطامر لم يعد في إمكانها أن تحتمل أكثر فنزلت إلى الشارع واعترضت وحصلت اجتماعات ولقاءات وقدمت خططاً أبرزها خطة الوزير أكرم شهيِّب التي تقترح تبسيط المشكلة عبر اهتمام كل منطقة بنفاياتها مع تركيز على تشغيل معامل الفرز والبحث في الوقت نفسه عن أماكن مناسبة لإيجاد “مطامر صحيّة” تكون بديلاً عن تلك المشكو منها.
لكن رغم كل ما أذيع، ليس واضحاً إذا كانت النزاعات السياسية وحالة الشلل التي تغرق فيها البلد ستمكّن أصحاب المبادرات من جمع الأصوات المتنافرة حول موقف واحد يضع خاتمة للأزمة. هذا من جهة، من جهة ثانية فإن تعطّل الدولة، يعني أن كل ما يبحث من حلول لا يتعدى كونه من نوع “عالج الحاضر بالحاضر” دون وجود رؤية بعيدة الأمد تتضمن مثلاً تعميم عملية فرز النفايات في المصدر أي في المنازل والمؤسسات، كما هي الحال في دول العالم المتحضرة. وهذه النقطة مهمة ونعتبرها من أهم مسؤوليات المجالس البلدية، ولا يوجد بين مسؤوليات المجلس البلدي ما يفوق مسؤوليته في تأمين نظافة البلدة وصحة المواطن. لكننا الى حد الآن لم نلاحظ أي حراك حقيقي على مستوى البلديات يستهدف طرح مبادرات إيجابية في عملية إدارة معضلة النفايات. فعدا تعليق بعض اليافطات لم نعلم أن رئيس بلدية أو مجلساً بلدياً نظم اجتماعاً واحداً لأهل البلدة بهدف التباحث في نظافتها وتدريب المواطنين على عمليات فرز النفايات في المصدر. ونحن نعتقد أنه من المفروض رفع موضوع فرز النفايات إلى مستوى التكليف البلدي مثله مثل رسوم المسقّفات أو الرسوم على المياه أو إضاءة الشوارع أو غيرها من الخدمات. وإذا كان المواطن بسبب نقص الوعي يتوقع من جهات بعيدة أن تنقل نفاياته على علّاتها، فإنه لا يجوز للهيئات المحلية أن يكون لها نفس الموقف التواكلي وأن تعتبر الموضوع موضوع مطمر صحي أو معالجة أو حرق أو أي أمر آخر.
وفي حال إلزام المواطن بالتخلص من النفايات العضوية بطريقة التخمير Composting في أرضه وبالتالي عدم قبول استلام نفايات عضوية من البيوت الواقعة في البلدات الجبلية، فإن أكثر من 70 % من مشكلة النفايات في قرى الجبل تكون قد حُلَّت هذا باستثناء بعض أحياء المدن الجبلية التي يعيش سكانها في الشقق ولا تتوافر بالتالي لهم أرض زراعية قريبة. وفي حال إلزام المواطنين بتخمير نفاياتهم المنزلية فإن ما قد يرد إلى مراكز تجميع النفايات (وفرزها) من مواد غير عضوية مثل الكرتون والزجاج والمعادن والبلاستيك لا تثير مشكلة بل سنجد جهات كثيرة راغبة في شراء النفايات غير العضوية ومحاولة تدويرها.
المجالس البلدية هي أهم أدوات الحكم المحلي ومن منظور إصلاح اللامركزية الإدارية الذي هو مطلب تقدمي ووطني لا يمكن قيام حكم محلي من دون تحمل المجالس البلدية لأدوار جديدة تتضمن التواصل الدائم مع أهل البلدة ودعوة المواطن لأن يتحمل مسؤولياته، ومن أهم الفرص لوضع ذلك المفهوم الجديد والمتقدم للحكم المحلي موضع التطبيق هو إنطلاق مبادرات أهلية تقودها المجالس البلدية بالتعاون مع لجان يتم إنشاؤها في القرى وبعض المتخصصين من أجل تطوير أسلوب جديد وفاعل لإدارة النفايات المنزلية أو التجارية أو غيرها بالإستناد إلى مبدأ الفرز في المصدر وتفريق النفايات العضوية عن النفايات الصلبة غير العضوية.
إننا نطرح وجهة النظر هذه ونأمل من البلديات أن تستجيب وأن تفتتح أسلوباً جديداً مبادراً للتعامل مع مشاكل البلدات والمواطنين، ونحن في انتظار أصحاب الهمم وعلى أتمّ الاستعداد للإضاءة على أي مبادرة بلدية أو أي نشاط حقيقي يخدم الناس ويضرب مثلاً في الخدمة العامة ما زلنا نفتقده بشكل كبير.