السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 18, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

القاضي والنقاب

“القاضي والنقاب” للدكتورة عايدة الجوهري

عن قاض فذ وابنته المكافحة لعتـــق المـــرأة فـي السنـــوات الأخيرة لزمن الدولة العثمانية

يتأرجح كتاب الدكتورة عايدة الجوهري “القاضي والنقاب” بين كتابة السيرة وبين تحليل التاريخ الاجتماعي لمنطقة بلاد الشام في فترة انتقالية دقيقة شهدت آخر مراحل الدولة العثمانية واندلاع الحرب العالمية الأولى ثم التغييرات المزلزلة التي ضربت بلدان المنطقة بعد الحرب وإزالة الدولة العثمانية عملياً من الوجود.
أما السيرة فهي تتناول شخصية فريدة في تاريخ القضاء العثماني ثم اللبناني (فترتا الانتداب والاستقلال) هو القاضي سعيد زين الدين. لقد انكبّت المؤلفة على تدقيق وتحقيق الوقائع والتواريخ والوثائق فعادت إلى الصحافة اليومية في القرن التاسع عشر ومطلع القرن وأضافت معارفها التاريخية والاجتماعية الواسعة بهدف تقديم وصف تفصيلي وجامع في آن واحد لتلك الشخصية الفذّة في إطارها الزمني والجغرافي السياسي. بسبب هذا المجهود قدّمت الدكتورة الجوهري مساهمة مهمة تعين على تتبع وفهم سيرة القاضي زين الدين ومواقفه والآثار التي تركها في كل بلد تسلّم فيه مناصب قضائية، وعرفنا من الكتاب قدر المثالية التي كان يتمتع بها والاعتزاز بعمله وبإستقلاليته واستقامته في أمور العدل وإحقاق الحقوق، إلى حدّ تحذيره لجمال باشا من التدخل في شؤون عمله والقضاء عموماً. ولا بدّ لمن يطلع على الكتاب أن يشعر فعلاً بالفخر لهذا التاريخ الناصع لرجل يكاد يقترب بصمت ودون ضوضاء من أبطال القصص الشعبية، وهو بالفعل عومل كبطل شعبي فتظاهر أهل القدس يتقدمهم المفتي ووجوه العائلات المقدسية احتجاجاً على قيام الآستانة بنقله من مدينتهم، وفي حلب تنصب أقواس النصر وتنشر المقالات في الصحف وتعلق اليافطات للترحيب بقدوم القاضي زين الدين الذي كانت سمعته تسبقه إلى أي مدينة يتم تعيينه فيها.
من ميزات الدكتورة الجوهري، إضافة إلى ذكائها ونضجها الفكري، نزاهة علمية وأمانة في عرض الوقائع دون تدخل من أفكارها هي أو ما تشتهي أن تراه. ونحن أمام مؤرخة وباحثة لا تبدو مهتمة بدفع أي أجندة مواقف أو قناعات بل التنقيب وعرض الوقائع، وفي هذا أظهرت الجوهري في كتاب “القاضي والنقاب” درجة كبيرة من جدية الباحث وصرفت على الأرجح وقتاً طويلاً في جمع مادتها وتحقيقها ثم كتابتها وترتيبها. لكن حماس الدكتورة الجوهري للتحقيق التاريخي جعلها في النهاية تراكم مادة ثرية فعلاً أكثرها جديد وغير منشور بهذا الاتساق والسلاسة والوضوح.
وبينما يتعلق الكثير من تلك المادة بخدمة الهدف الأصلي وهو عرض سيرة القاضي سعيد زين الدين وابنته نظيرة فإن الكثير من تلك المادة تناول الفترة الزمنية الواسعة التي عاش فيها القاضي بكل تفاصيلها وتحولاتها المثيرة. ولذلك نعتقد أن الدكتورة الجوهري انتهت من بحوثها وتنقيبها بمادة ضخمة يمكن أن تكون أساساً لعدة كتب لكن المؤلفة غلبت ميلها إلى تقديم مادة تاريخية غنية وممتعة على “الاستخدام الاقتصادي” لمادة البحث، فكان أن أصبحت لدينا في النهاية مجموعة كتب في كتاب. واحد عن سيرة القاضي زين الدين وآخر عن سيرة ابنته نظيرة التي خاضت، بدعم من والدها التقدمي التفكير، معركة الحجاب ورفع نير سوء الفهم والتحجر الفكري عن كاهل المرأة وقدراتها وإنسانيتها وهذا هو السبب في تسمية الكتاب “القاضي والحجاب”. وهناك مادة لأكثر من كتاب في شق البحث المتعلق بتداعي بنيان الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وقد أضاءت المؤلفة بدقة على تلك الفترة بما في ذلك الإصلاحات التي أدخلتها الدولة العثمانية في محاولات يائسة لرد شبح الزوال، واللافت هو اعتراف المؤلفة بشجاعة بفضل السلطان عبد الحميد في إدخال أكثر الإصلاحات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية جذرية في التاريخ الأخير للسلطنة وهي صورة تناقض تماماً الصورة النمطية المعادية التي لفقها بعض أدعياء الغرب والمفتونين بالإستعمار الأوروبي.
على سبيل الختام، نقول إن كتاب الدكتورة الجوهري جاد وممتع في آن ويفتح الأعين على حقائق جديدة في التاريخ المضطرب لمنطقتنا. إنه في نظرنا إضافة لا بدّ منها إلى مكتبة أي مثقف أو باحث في التاريخ الاجتماعي للبنان وبلاد الشام.

ر.ح.

السلطان محمد الفاتح

السلطان محمد الفاتح

مؤسس الإمبراطورية العثمانية

لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ
الرسول محمد (ص)

جمع بين الورع والثقافة والإدارة والعبقرية العسكرية
فأزال الدولة البيزنطية وأرعب روما والممالك الأوروبية

كان شيخه الكوراني يخاطبه بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده
وكان يقول له «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط»

أعطى لنصارى القسطنطينية حرية العبادة واختيار رؤسائهم
والحكم في قضاياهم وأبقى لهم نصف الكنائس في المدينة

أعدّ لفتح القسطنطينية بكل عناية فاهتم بالمدافع وإحكام الحصار
والأسطول البحري لكن سلاحه الأول كان مرافقة العلماء للجيش

أغلق المدافعون عن القسطنطينية الممر البحري بالسلاسل
فنقل الفاتح سفنه بجرها على اليابسة فصعق البيزنطيون

كلّف رجال دين نصارى رسمياً مهمة التجوال في أنحاء الدولة،
ومراقبة إدارة الدولة ومدى إحقاق العدل بين الناس في المحاكم

عند ذكر الفاتحين العظام الذين بدّلوا وجه التاريخ يبرز ذكر السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح) كواحد من القلّة النادرة من صنف هؤلاء الفاتحين، وهو الذي لم يكن سنه يتجاوز الرابعة والعشرين عندما تمكّن من سحق الإمبراطورية البيزنطية وإزالتها من الوجود، وقد درس محمد الفاتح على أيدي أولياء صوفية كبار مثل المولى شمس الدين الكوراني والمولى زيرك والقطب الصوفي الشهير آق شمس الدين. فمن هو السلطان محمد الفاتح وما هو الأثر الذي تركه على مسار الدولة العثمانية والعالم الإسلامي والإنسانية؟

«محمد الفاتح» أو «محمد الثاني» هو السلطان العثماني السابع في سلسلة آل عثمان، وهو محمد بن مراد بك بن محمد بك بن بايزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان، يُلقب بالفاتح وأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً نجح خلالها، من خلال فتح القسطنطينية، في افتتاح تاريخ جديد للدولة العثمانية وعزّز مكانة الإسلام وهيبته في العالم.
نشأ في كنف أبيه السلطان مراد الثاني الذي أهلّه ليكون جديراً بالسلطنة، إذ علّمه علوم الدولة وعلوم الشريعة والعلوم الحديثة فحفظ القرآن وقرأ الحديث وتعلّم الفقه، كما درس الرياضيّات وعلم الفلك، إضافةً إلى إتقان فنون الحرب والقتال، كما تدرّب على إدارة شؤون الدولة، إذ تولّى السلطة على منطقة أماسيا في السلطنة، وكان ما زال في الحادية عشرة من عمره. وفي هذا ما يذكّر بتجربة الاسكندر الأكبر الذي ولّاه أبوه حكم مقدونيا كوكيل له وهو كان لا يزال في سن الخامسة عشرة. ورث عن أبيه الجلد والشجاعة والصبر والمعرفة بأمور القتال وتشرّب منه روح الإسلام لاسيما عبر الشيوخ الأقطاب الذين انتدبهم والده لتربيته، وكان إلى عبقريته العسكرية عالي الثقافة ومحباً للعلم والعلماء، وكان يتحدث عدداً من اللغات إلى جانب اللغة التركية، وهي: الفرنسية، اللاتينية، اليونانية، الصربية، الفارسية، العربية، والعبرية.
كان محمد الفاتح مهتماً بدراسة التاريخ، مغرماً بقراءة سير العظماء. تميّز بثقته الكبيرة بنفسه وبقدرته على تحمّل المشاق، ندر أن أدى صلاته خارج المسجد وسلك كل طريق تُقرِّبُه إلى الله جلّ وعلا، كان طموحاً محباً للتفوّق. وإلى جانب هذا كلّه، كان متواضعاً محباً للعلماء ورجال الأدب بالإضافة إلى الفنون وخاصةً الرسم، وكان يتذوّق الأدب ويحفظ الشعر وينشده، ولعلّ أكثر ما ميّزه هو حياته البسيطة فقد كان عدواً للترف وللعادات المعقّدة، مائدته بسيطة نادراً ما تخلو من العلماء والأدباء.

إخبار الرسول (ص) عنه
من أهم الكرامات التي حظي بها محمد الفاتح، السلطان المؤمن، هو أن رسول الله (ص) مدحه ضمناً في حديث صحيح ورد في مسند ابن حنبل تنبأ فيه بفتح القسطنطينية وقد جاء فيه:
} حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَسَمِعْتُهُ أَنَا مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالَ حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، قَالَ حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَعَافِرِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ الْخَثْعَمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ{
أسبغ الحديث النبوي الذي تنبأ بفتح القسطنطينية وامتدح الأمير الذي سيفتحها وجيشه هالة من الجلال والاحترام على شخص الفاتح عندما تمّ الفتح وتحقق ما جاء في إخبار الرسول (ص) على يده، إذ تمكّن السلطان الشاب بنصر من الله من تحقيق أعظم إنجاز في تاريخ الإسلام منذ الفتوحات الأولى، فأسقط بذلك تلك المدينة العظيمة والمحصّنة التي صمدت أكثر من ثمانية قرون لأكثر من 11 محاولة لفتحها على يد الخلفاء المسلمين المتعاقبين، وهي كانت تحوّلت إلى شوكة في خاصرة الدولة العثمانية الصاعدة ومصدر متاعب لها. وقد أدى فتح القسطنطينية إلى القضاء نهائياً على الدولة البيزنطية بعد أن استمرّت أحد عشر قرناً ونيف، وبلغ من أهمية الحدث في نظر العديد من المؤرخين أنهم اعتبروه خاتمة العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، ويعتبر فتح القسطنطينية عند الأتراك فاتحة ما أسموه بـ «عصر الملوك» إذ تحوّلت الدولة العثمانية في عهد الفاتح ومع زوال بيزنطة من سلطنة إلى إمبراطورية قبل أن تبلغ ذروتها من القوة والمجد والرقي في عهد سليمان القانوني ابن حفيد محمد الفاتح في القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تابع السلطان محمد بعد ذلك فتوحاته في آسيا، فوحّد ممالك الأناضول، وتوغّل في أوروبا حتى بلغراد ويبدو أنه كان في طريقه إلى روما مقر البابوية لولا أن الموت عاجله وهو منشغل بإعداد حملة عسكرية ضخمة أبقى تفاصيلها كلها سراً حتى عن أقرب المقربين إليه.

كتب لوالده الزاهد طالباً منه العودة لتحمــّـل مسؤولياته قائلاً: إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش

مولده ونشأته
وُلد محمد الثاني، للسلطان مراد الثاني في مدينة أدرنة، عاصمة الدولة العثمانية فجر يوم الأحد بتاريخ 26 رجب سنة 833 هـ الموافق 20 أبريل من سنة 1429 م ، وعندما بلغ سن الحادية عشرة، أرسله والده السلطان، كما كانت عليه عادة الحكّام العثمانيين، إلى أماسيا ليكون حاكماً عليها وليبدأ في اكتساب الخبرات اللازمة لحكم دولة بقوة واتساع الإمبراطورية العثمانية. وقد مارس محمد الأعمال السلطانية في حياة أبيه، وكان منذ تلك الفترة يعايش ويتابع صراع المسلمين مع الدولة البيزنطية وقد استوعب مع الوقت أن بقاء بيزنطة والقسطنطينية أصبح عقبة لا بدّ من إزالتها إذا أريد للدولة العثمانية القوية أن تحقق طموحاتها وتبسط سيادتها على العالم القديم حتى تخوم الصين والهند. وكان السلطان مطلعاً اطلاعاً وافياً على المحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية المختلفة.

الشيخ فوق الأمير
وخلال الفترة التي قضاها حاكماً على أماسيا، أرسل السلطان مراد الثاني إليه عدداً من المعلمين بهدف الإشراف على تعليمه وتربيته وفق المبادئ الإسلامية لكنه وهو الأمير الصغير المعتد بقوته لم يمتثل لأمرهم، ولم يقرأ شيئاً، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، الأمر الذي كان يُعد ذا أهمية كبرى في تكوين ملوك بني عثمان، عندها طلب السلطان مراد أن يأتوا له برجل ذي مهابة وحدة، فذكر له المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، فجعله معلماً لولده وأعطاه قضيباً يضربه به إذا خالف أمره، فذهب إليه، ودخل عليه والقضيب بيده، فقال: «أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري»، فضحك السلطان اليافع من ذلك الكلام، فضربه المولى الكوراني في ذلك المجلس ضرباً شديداً، حتى خاف منه السلطان محمد، وخضع لهيبته وقد ساهم ذلك في تحقيقه تقدماً كبيراً وسريعاً في حفظ القرآن الكريم والتضلّع بالعلوم الشرعية في مدة يسيرة.

تربية إسلامية وتقوى
هذه التربية الإسلامية على يد ذلك الولي الصالح كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية محمد الفاتح، إذ جعلت منه مسلماً مؤمناً ملتزماً بحدود الشريعة، مقيداً بالأوامر والنواهي، معظماً لها ومدافعاً عن إجراءات تطبيقها، فتأثر بالعلماء الربانيين، وبشكل خاص معلمه مولاه «الكوراني» وانتهج منهجهم. ثم برز دور الشيخ العارف الصوفي «آق شمس الدين» في تكوين شخصية محمد الفاتح وقد بث فيه منذ صغره أمرين هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، وإخباره دوماً منذ صغره بأنه هو الأمير المقصود بالحديث النبوي، وقد جعل ذلك محمد الثاني مؤمناً حقاً بأنه أصطفي من الله تعالى لإنجاز ذلك الفتح، وأنه هو المقصود على الأرجح بحديث الرسول (ص) حول فتح القسطنطينية.

اعتلاؤه العرش للمرة الأولى
في 13 يوليو سنة 1444 أبرم السلطان مراد الثاني معاهدة سلام مع إمارة قرمان بالأناضول، وعقب ذلك توفي أكبر أولاد السلطان واسمه علاء الدين، فحزن عليه والده حزناً شديداً وسئم الحياة، فتنازل عن الملك لابنه محمد البالغ من العمر أربع عشرة سنة، وسافر إلى ولاية أيدين للإقامة بعيداً عن هموم الدنيا وغمها، لكنه لم يمكث في خلوته بضعة أشهر حتى أتاه خبر غدر المجر وإغارتهم على بلاد البلغار غير مراعين شروط الهدنة اعتماداً على تغرير الكاردينال «سيزاريني»، مندوب البابا، وإفهامه لملك المجر أن عدم رعاية الذمة والعهود مع المسلمين لا تُعد حنثًاً ولا نقضاً.
وكان السلطان محمد الثاني قد كتب إلى والده يطلب منه العودة للقيام بمسؤولية حكم وإدارة السلطنة تحسباً لوقوع معركة مع المجر، إلا أن مراد رفض هذا الطلب. فردّ محمد الثاني الفاتح: «إن كنت أنت السلطان فتعالَ وقف على قيادة جيشك ودولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش». وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة فارنا، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ 10 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1444.
يُقال بأن عودة السلطان مراد الثاني إلى الحكم كان سببها أيضاً الضغط الذي مارسه عليه الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي لم يكن مولعاً بحكم محمد الثاني، بما أن الأخير كان متأثراً بمعلمه المولى «الكوراني» ويتخذ منه قدوة، وكان الكوراني على خلاف مع الباشا.

ولايته الأولى في مانيسا
انتقل السلطان محمد الثاني إلى مانيسا الواقعة بغرب الأناضول بعد ثورة الإنكشارية عليه، وبعد أن جمعهم والده وانتقل لخوض حروبه في أوروبا. ولا توجد معلومات وافية عمّا قام به السلطان محمد في الفترة التي قضاها في مدينة مانيسا. وكان السلطان مراد الثاني قد عاد إلى عزلته مرة أخرى بعد أن انتصر على المجر واستخلص مدينة فارنا منهم، لكنه لم يلبث فيها هذه المرة أيضاً، لأن عساكر الإنكشارية ازدروا ملكهم الفتى محمد الثاني وعصوه ونهبوا مدينة أدرنة عاصمة الدولة، فرجع إليهم السلطان مراد الثاني في أوائل سنة 1445 وأخمد فتنتهم. وخوفاً من رجوعهم إلى إقلاق راحة الدولة، أراد أن يشغلهم بالحرب، فأغار على بلاد اليونان والصرب طيلة سنواته الباقية، وفتح عدداً من المدن والإمارات وضمها إلى الدولة العثمانية.
قام محمد الفاتح خلال المدة التي قضاها في مانيسا، بضرب النقود السلجوقية بإسمه، وفي أغسطس أو سبتمبر من سنة 1449، توفيت والدته، وبعد ذلك بسنة، أي في 1450، أبرم والده صلحاً مع «اسكندر بك الألباني وكان الأخير قد تظاهر بالإسلام وأظهر الإخلاص للسلطان حتى قرّبه إليه، ثم انقلب عليه أثناء انشغاله بمحاربة الصرب والمجر، وبعد عدد من المعارك رأى السلطان الذي كان منشغلاً بالفتوحات مصالحة الأمير المتمرد ريثما يفرغ من حملاته تلك فيعود إلى معالجة ما كان هذا يحدثه من فوضى واضطراب».

الجيش العثماني يتدفق على المدينة المحاصرة بعد انهيار دفاعاتها
الجيش العثماني يتدفق على المدينة المحاصرة بعد انهيار دفاعاتها

اعتلاؤه العرش للمرة الثانية
عاد السلطان مراد الثاني إلى أدرنة، عاصمة ممالكه ليُجهز جيوشاً جديدة كافية لقمع الثائر على الدولة، «اسكندر بك»، لكنه توفي في يوم 7 شباط/ فبراير سنة 1451، وما أن وصلت أنباء وفاة السلطان إلى ابنه محمد الثاني، حتى ركب فوراً وعاد إلى أدرنة حيث توّج سلطاناً للمرة الثانية في 19 شباط/ فبراير من السنة نفسها، وأقام جنازة لوالده الراحل وأمر بنقل الجثمان إلى مدينة بورصة لدفنه بها.
عندما تولّى محمد الثاني الملك خلفاً لوالده لم يكن قد بقي خارج سلطانه في آسيا الصغرى إلا جزء من بلاد القرمان ومدينة «سينوب» ومملكة طرابزون الروميّة. وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها. وكان إقليم «موره» مجزءاً بين البنادقة وإمارات صغيرة عدة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية. أضف إلى ذلك بلاد البشناق المستقلة، والصرب التابعة للدولة العثمانية تبعية سيادية؛ أما ما بقي من شبه جزيرة البلقان كان داخلاً تحت سلطة الدولة كذلك.

السلطان-محمد-الفاتح-يشرف-على-نقل-سفن-الأسطول-العثماني-عبر-اليابسة-متجاوزا-إغلاق-المدافعين-لمدخل-البوسفور
السلطان-محمد-الفاتح-يشرف-على-نقل-سفن-الأسطول-العثماني-عبر-اليابسة-متجاوزا-إغلاق-المدافعين-لمدخل-البوسفور

الإعداد لفتح القسطنطينية
أخذ السلطان محمد الثاني، بعد وفاة والده، يستعد لفتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق، فبذل بداية الأمر جهوداً عظيمة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون جندي، وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عني عناية خاصة بتدريب الجيش على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهله للغزو الحاسم المنتظر، كما أعتنى الفاتح بإعداد قواته إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وكان يذكرهم دوماً بثناء الرسول (ص) على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لإنتشار العلماء بين الجنود ومرافقتهم لهم في المعارك أثر كبير في تقوية عزائمهم.
أراد السلطان، قبل أن يبدأ الحملة الفاصلة لفتح القسطنطينية أن يُحصّن مضيق البوسفور بما يقطع الطريق المائي لإمداد المدينة من مملكة طرابزون، وذلك بأن يُقيم قلعة على شاطئ المضيق في أضيق نقطة من الجانب الأوروبي منه مقابل القلعة التي أسست في عهد السلطان بايزيد في البر الآسيوي. ولمّا بلغ إمبراطور الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يُقررها، فرفض الفاتح طلبه وأصرّ على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأطلق عليها إسم «قلعة روملي حصار» ، وأصبحت القلعتان متقابلتين، ولا يفصل بينهما سوى 660 متراً، تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربه وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة. كما فرض السلطان رسوماً على كل سفينة تمرّ في مجال المدافع العثمانية المنصوبة في القلعة، وكان أن رفضت إحدى سفن البندقية التوقّف رغم إرسال العثمانيين لها عدداً من الإشارات، فتمّ إغراقها بطلقة مدفعية واحدة فقط.
اعتنى السلطان عناية خاصة بجمع الأسلحة اللازمة لفتح القسطنطينية، ومن أهمها المدافع، التي أخذت اهتماماً خاصاً منه، حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى أوربان كان بارعاً في صناعة المدافع، فأحسن استقباله ووفّر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية. تمكّن هذا المهندس من تصميم وتصنيع العديد من المدافع الضخمة كان على رأسها «المدفع السلطاني» المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها.
ويُضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها من دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة، وقد ذُكر أن السفن التي أعدّت لهذا الأمر بلغت مائة وثمانين سفينة في أقل تقدير، وقد ذكرت مصادر أخرى أنها قاربت الثلاثمائة سفينة.

معاهدات لكسب الوقت
عمل الفاتح قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غالاطا المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع جنوة والبندقية، وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن المدينة.
في الوقت الذي كان السلطان يعد العدة للفتح، حاول الإمبراطور البيزنطي جاهداً ثنيه عن هدفه، بتقديم الأموال والهدايا المختلفة إليه، وبمحاولة رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره، ولكن السلطان كان عازماً على تنفيذ مخططه ولم تثنِه هذه الأمور عن هدفه، ولما رأى الإمبراطور البيزنطي شدة عزيمة السلطان على تنفيذ هدفه عمد إلى طلب المساعدات من مختلف الدول والمدن الأوروبية وعلى رأسها البابا وهو الرئيس الروحي للكنيسة الكاثوليكية في العالم، وهذا على الرغم من العداء التاريخي الشديد بين روما وبين الكنيسة البيزنطية، وقد اضطر الإمبراطور لمجاملة البابا والتقرّب إليه بأن أظهر له استعداده للعمل على توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، وكان موقف الإمبراطور البيزنطي يائساً بالفعل لكي يقدم مثل تلك التنازلات التي لم يكن شعبه أو كنيسته موافقة عليها. ويبدو أن البابا وجد في التهديد الوشيك للقسطنطينية فرصة تاريخية لمدّ نفوذ الفاتيكان شرقاً، وهو قام لذلك بإرسال مندوب منه إلى المدينة فخطب في كنيسة آيا صوفيا ودعا للبابا وأعلن توحيد الكنيستين، إلا أن تدخل روما على تلك الصورة أغضب جمهور الأرثوذكس في المدينة، وجعلهم يقومون بحركة مضادة لهذا العمل الإمبراطوري الكاثوليكي المشترك، حتى قال أحد زعماء الكنيسة الأرثوذكسية: «إنني أفضل أن أشاهد في ديار البيزنط عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية» .

أقنعه شيخه بأنه هو المقصود بحديث الرسول (ص) عن فتح القسطنطينية فبث هذا الإيمان في جنوده وضباطه وسار على رأسهم وأثبت صدق النبوءة

الإمبراطور قسطنطين ينظر من فوق حصون القسطنطينية إلى الحشود الهائلة لجيش السلطان محمد الفاتح
الإمبراطور قسطنطين ينظر من فوق حصون القسطنطينية إلى الحشود الهائلة لجيش السلطان محمد الفاتح
صدمة أوروبا بسقوط القسطنطينية
سبّب سقوط القسطنطينية في أيدي المسلمين صدمة عنيفة للعالم الأوروبي المسيحي والذي اعتاد على اعتبار هذه المدينة مقدسة لا تعادلها في القدسية إلا مدينة  القدس التي كانت قد أصبحت منذ العهد الراشدي مدينة إسلامية. وقد اعتبر سقوط المدينة بعد صمودها ثمانية قرون بمثابة أمر يعصى على التصديق ليس فقط لأنه أزال من الوجود معقل المسيحية في الشرق، بل لأنه يفتح الطريق أمام تقدم المسلمين في أوروبا نفسها. لذلك فقد فجّر الفتح الإسلامي للمدينة عاصفة من الخوف والمرارة انعكست بمناخ لا مثيل له من الكراهية للإسلام وبموجات تحريض وتعبئة بدت وكأنّها تستهدف إحياء مناخ العصبية والجهاد المقدس الذي رافق الحملات الصليبية. وقد بذل الأمراء ورجال الإكلير والشعراء والأدباء كل ما في وسعهم لتأجيج براكين الغضب في نفوس الأوروبيين ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادوا إلى نبذ الخلافات والحزازات والتوحد ضد العثمانيين. وكان البابا نيقولا الخامس أشد الناس تأثراً بنبأ سقوط القسطنطينية، وقد عمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمراً عُقد في روما، أعلنت فيه الدول المشاركة عزمها على التعاون في ما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتحقق إلا أن الموت عاجل البابا في 25 مارس سنة 1455 أي بعد سنتين تقريباً من سقوط القسطنطينية.

السلطان يخطب في الجيش
في تلك الأثناء كان السلطان محمد الفاتح قد بدأ في تسريع استعداداته للحرب الفاصلة فقام أولاً بتمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة عبرها إلى القسطنطينية. كما قام السلطان بتحريك المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، وخلال مدة شهرين تمّ تركيزها كلها كما تمت حمايتها بقسم الجيش، ثم وصلت بعد ذلك الجيوش العثمانية التي كان يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس 6 أبريل 1453.
صبيحة اليوم التالي جمع السلطان جيوشه المتعددة الألوية والبيارق وكانوا قرابة مائتين وخمسين ألف جندي أي ربع مليون، فخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكّرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين، وقد ردّ الجيش على الخطبة بصيحات تهليل وتكبير مدوية وعلّت في أرجاء المعسكر أناشيد حماسية عبّرت عن تحرق الجيش لبدء الهجوم.
مع اكتمال حشد الجيوش كان السلطان قد أحكم الحصار على المدينة بجنوده من ناحية البرّ، وبأسطوله من ناحية البحر، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية مدفعية وضع بها المدافع الجسيمة التي صنعها أوربان، والتي قيل بأنها كانت تقذف كرات هائلة من الحجارة إلى مسافة ميل، ومن الأمور العجيبة التي حصلت أثناء الحصار أن قوات السلطان وقادته اكتشفوا في أثناء الحصار قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري الذي استشهد حين حاصر القسطنطينية في سنة 52 هـ أثناء خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي. وقد اعتبر السلطان هذا الاكتشاف فأل خير وهو سيعود ليقيم فوق المكان جامعاً مهيباً يعتبر من أكبر جوامع اسطنبول.
وفي هذا الوقت كان البيزنطيون قد قاموا بسدّ مداخل ميناء القسطنطينية بسلاسل حديدية غليظة حالت بين السفن العثمانية والوصول إلى القرن الذهبي، بل دمرت كل سفينة حاولت الدنو والاقتراب، إلا أن الأسطول العثماني نجح على الرغم من ذلك في الاستيلاء على جزر الأمراء في بحر مرمرة، فاستنجد الإمبراطور قسطنطين، آخر ملوك الروم، بأوروبا، فلبّى طلبه أهالي جنوة وأرسلوا له إمدادات مكونة من خمس سفن، وكان يقودها القائد الجنوي جوستنياني يُرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروبية متعددة، فأتى هذا القائد بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فاعترضته السفن العثمانية ونشبت بينهما معركة هائلة في يوم 21 أبريل، 1453 انتهت بإفلات جوستنياني وتمكّنه من دخوله الميناء بعد أن رفع المحاصَرون السلاسل الحديدية ثم أعادوها بعد مرور السفن الأوروبية كما كانت.
حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلاسل الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، إلا أنها لم تنجح في ذلك، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة. عندها أخذ السلطان يُفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برّاً وبحراً، فخطرت في باله فكرة غريبة هي أن يتم جر المراكب العثمانية في حركة التفافية عبر طريق بري، بحيث يتم تجاوز السلاسل الموضوعة لمنعها من دخول المضيق وإنزالها في مكان متقدم من المضيق خلف القوات البحرية المدافعة. وقد وتمّ هذا الأمر المستغرب بأن مهدت الأرض وسويت في ساعات قليلة وجيء بألواح من الخشب دهنت بالزيت والشحم، ثم وضعت على الطريق الممهد بطريقة من السهل انزلاق السفن عليها وجرها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من البيزنطيين.
استيقظ أهل المدينة صباح يوم 22 نيسان/ أبريل وفوجئوا بالسفن العثمانية وهي تسيطر على ذلك المعبر المائي، ولم يعد هناك حاجز مائي بين المدافعين عن القسطنطينية وبين الجنود العثمانيين. وقد عبّر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال: «ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الفاتح يحوّل الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر».
أيقن المحاصرون عندها أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم، لكنهم صمموا مع ذلك على الدفاع عن مدينتهم ربما بسبب آمال ضعيفة أن تصلهم إمدادات كبيرة من أوروبا إن هم تمكنوا من تأخير الهجوم العثماني، إلا أن السلطان محمد الفاتح الذي أصبح واثقاً من النصر سعى الى اجتناب إراقة الدماء فبعث إلى الإمبراطور قسطنطين برسالة دعاه فيها إلى تسليم المدينة سلماً، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى. وأعطى السلطان الفاتح الخيار لأهل المدينة بالبقاء فيها أو الرحيل عنها. ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إلى التسليم وأصرّ آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور إلى رأي القائلين بالقتال، وهو قام برد رسول الفاتح مع رسالة قال فيها إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم، وأنه يرضى أن يدفع له الجزية، أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها حتى آخر نفس في حياته، فإما أن يحفظ عرشه أو يُدفن تحت أسوارها. ولما وصل جواب الإمبراطور البيزنطي إلى الفاتح قال: «حسناً عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو يكون لي فيها قبر».

كان لشدة اهتمامه بالتعليم يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ويحضر الصفوف كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة مجانياً

قصر-توبكابي---الوردة-الحمراء---في-اسطنبول
قصر-توبكابي—الوردة-الحمراء—في-اسطنبول

الهجوم الحاسم
عند الساعة الواحدة صباحاً من يوم الثلاثاء 29 مايو، 1453 بدأ الهجوم العام على المدينة، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فج وأعملوا السيف في مَنْ عارضهم واحتلوا المدينة شيئاً فشيئاً إلى أن سقطت بأيديهم، بعد 53 يوماً من الحصار، أما الإمبراطور قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه كما وعد، ولم يهرب أو يتخاذل. ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أمره بمنع كل اعتداء، فساد الأمن حالاً. ثم توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القساوسة والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف المسيحيون داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بأن يؤذن في الكنيسة بالصلاة إعلاناً بجعلها مسجداً. وقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينيين الذين لهم حق الحكم في النظر بالقضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع. ثم قام بجمع رجال الدين المسيحيين لينتخبوا بطريركاً لهم، فاختاروا جورجيوس كورتيسيوس سكولاريوس وأعطاهم نصف الكنائس الموجودة في المدينة، أما النصف الآخر فجعله جوامع للمسلمين. وبتمام فتح المدينة، نقل السلطان محمد مركز العاصمة إليها، وسُميت «إسلامبول»، أي «تخت الإسلام» أو «مدينة الإسلام» .

سياسة الفاتح المتسامحة
بعد تمام النصر والفتح، إتخذ السلطان لقب «الفاتح» و«قيصر الروم»، وذلك بإعتبار أن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل مركز الحكم إليها سنة 330 بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكانت للسلطان رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيراً من أسلافه، كالسلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات.
يذكر أن السلطان أمر بعد سقوط القسطنطينية بحبس الصدر الأعظم «خليل جندرلي باشا»، الذي اتهم أثناء حصار المدينة بالتعامل مع العدو أو تلقيه رشوة منه لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين يوماً وسُملت عيناه، ثم حُكم عليه بالإعدام فأعدم.
السلطان يوسّع رقعة الدولة
بعد إتمامه لترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وتحصينها، أمر السلطان ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري، جرت العادة في ما بعد أن يتقلّد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد، ثم سافر بجنوده لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد موره، لكن لم ينتظر أميراها «دمتريوس» و«توماس»، أخوا قسطنطين، قدومه، بل أرسلا إليه يُخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوكا. فقبل السلطان ذلك، وغيّر وجهته قاصداً بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري، الملقب «بالفارس الأبيض»، وردّ عن الصرب مقدمة الجيوش العثمانية، إلا أن الصرب لم يرغبوا في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون حكم المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقاً. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنوياً ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة 1454.
وفي السنة التالية أعاد السلطان الكرّة على الصرب من جديد، بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومرّ بجيوشه من جنوب تلك البلاد إلى شمالها من دون أن يلقى أقل معارضة حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب وحاصرها من جهة البر والنهر. وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها بشراسة فقرر السلطان رفع عنها الحصار سنة 1455. لكن ورغم عدم تمكّن العثمانيين من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم أصابوا هونياد بجراح بليغة توفي بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يوماً. ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم «محمود باشا» لإتمام فتح بلاد الصرب فأتمّ فتحها من سنة 1458 إلى سنة 1460.
وفي هذه الأثناء تمّ فتح بلاد موره. ففي سنة 1458 فتح السلطان مدينة «كورنته» وما جاورها من بلاد اليونان حتى جرّد «طوماس باليولوج»، أخا قسطنطين، من جميع بلاده ولم يترك إقليم موره لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية. وبمجرّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار طوماس وحارب الأتراك وأخاه معاً، فاستنجد دمتريوس بالسلطان فرجع بجيش عرمرم ولم يعد حتى تمّ فتح إقليم موره سنة 1460 فهرب طوماس إلى إيطاليا، ونُفي دمتريوس في إحدى جزر الأرخبيل. وفي ذلك الوقت فُتحت جزر تاسوس والبروس وغيرهما من جزر بحر الروم.

التوسّع في آسيا الصغرى
بعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحاً مع إسكندر بك وترك له إقليمي ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه من دون أن يُعلم أحداً بوجهته في أوائل سنة1461، فهاجم أولاً ميناء بلدة أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجّاراً يُحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرّض لأموالهم أو لأرواحهم، فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب. ثم أرسل إلى «اسفنديار»، أمير مدينة سينوب، يطلب منه تسليم بلاده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصار الميناء، فسلمها إليه الأمير وأقطعه السلطان أراضي واسعة بأقليم «بيثينيا» مكافأة له على خضوعه، ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها من دون مقاومة شديدة وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.

وفي سنة 1464، أراد ملك المجر استعادة البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفاً من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.
في سنة 1463 أشعل البنادقة حركة عصيان على الدولة العثمانية، لكنهم لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد موره من دون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد موره من دون فائدة.

البابا يدعوه إلى الدين المسيحي
بعد ذلك حاول البابا «بيوس الثاني» بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية النجاح في أحد بأمرين. وهو اختار أولاً سبيل الإغراءات فأرسل خطاباً إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله قسطنطين الأول الروماني وكلوفيس ووعده بأنه سيكفر عنه خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصاً، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكاً بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول بعث المشروع الصليبي في نفوس النصارى، شعوباً وملوكاً، قادة وجنوداً، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروبا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة، عاجل الموت البابا بعد ذلك بفترة قصيرة.

لقد حول محمد الفاتح اليابسة إلى بحار وجعل سفنه تبحر فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق بهذا العمل الإسكندر الأكبر
(قائد بيزنطي)

فتح القسطنطينية عام 1453
فتح القسطنطينية عام 1453

الفاتح يلحق الهزيمة بالمغول
بعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا، حوّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى ووجد سبيلاً سهلاً للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحق، ولكونه كان لديه إخوة لأب أكبر منه سناً، يرغب كل منهم بالحكم بطبيعة الأمر، تدخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحق وهزمه وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة اسكندر بك، الذي كان ما زال على قيد الحياة آنذاك، فانتهز الأمير إسحق غياب السلطان وعاود الكرّة على قونية، عاصمة القرمان، لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد، فرجع إليه السلطان وقهره. وليستريح باله من هذه الجهة أيضاً، ضمّ إمارة قرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.
وبعد ذلك بقليل زحف أوزون حسن ، سلطان دولة الخروف الأبيض، وهو أحد خلفاء تيمورلنك، الذي كان سلطانه ممتداً على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهري جيحون والفرات، وفتح مدينة «توقات» عنوة ونهب أهلها. فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرّار وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناضول، و مصطفى باشا حاكم القرمان، يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوّ، فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش «أوزون حسن» على حدود إقليم الحميد، وهزماه شر هزيمة في معركة بالقرب من مدينة إرزينجان. وبعدها، في أواخر صيف سنة 1473، سار إليه السلطان نفسه ومعه مائة ألف جندي وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة كَنجه، ولم يعد «أوزون حسن» لمحاربة الدولة العثمانية بعد ذلك، إذ أن هذه المعركة كانت قد قضت على سلطة دولته، ولم يعد للعثمانيين من عدو لجهة الشرق، حتى بروز الشاه إسماعيل الصفوي والدولة الصفوية في وقت لاحق، وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا روما وأمير نابولي، وكان النصر فيها دائماً للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم.

مواجهة دولة البندقية
وفي سنة 1477 أغار السلطان على بلاد البنادقة ووصل إلى إقليم «فريولي» بعد أن مرّ بإقليميّ «كرواتيا» و «دالماسيا » ، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا. بعد ذلك، وبسبب الضغط المستمر للمدفعية العثمانية قرر البنادقة عقد صلح جديد مع السلطان تنازلوا بموجبه عن ميناء إشقودره الاستراتيجي مقابل بعض الامتيازات التجارية، وتمّ الصلح بين الفريقين على ذلك ووقعت بينهما معاهدة في يوم 28 كانون الثاني/يناير سنة 1479 وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية لفرض نفسها كطرف في جنوب القارة الأوروبية، إذ كانت جمهورية البندقية حينذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يُعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوة.

تنظيمات السلطان الفاتح للدولة
في موازاة اهتمامه بالفتوحات وتوسيع رقعة الإمبراطورية العثمانية أظهر السلطان محمد الفاتح كفاءة كبيرة في تنظيم الدولة عبر الاهتمام بالاقتصاد والجيش والإدارة والمالية والصحة العامة والأمن والقضاء وغيرها من شؤون الدولة لكن السلطان أولى في الوقت نفسه اهتماماً خاصاً بتعزيز الدين الإسلامي فبنى الجوامع والمعاهد الدينية ورصد لها الأوقاف واهتم بالعلماء وقربهم، ونبع اهتمام السلطان بالجانب الديني من تحول الإمبراطورية العثمانية رسمياً إلى دولة الخلافة والسلطان إلى خليفة المسلمين أو «أمير المؤمنين»، كما نبع من اقتناعه الشديد بأن التزام الدين الحنيف من كل فئات المجتمع ولا سيما الحكام يوفّر للدولة التوفيق والنصر من الله جلّ جلاله.
إصلاحات رائدة لنظام التعليم
كان أول ما فعله السلطان محمد الفاتح هو الاهتمام بنظام ومؤسسات التعليم بحيث يوفر أساس قوة الدولة وحيويتها، وهو بدأ بإعادة هيكلة هذا القطاع وترتيب المدارس درجات ومراحل مع وضع المناهج لها، وجرى تحديد العلوم والمواد التي تُدرّس في كل مرحلة، ووَضَعَ لها نظاماً واضحاً.
فرض السلطان إجراء الامتحانات الدقيقة لتقرير انتقال الطالب إلى المرحلة التالية، وكان ربما يحضر امتحانات الطلبة ويزور المدارس ولا يأنف من سماع الدروس التي يلقيها الأساتذة، ولا يبخل بالعطاء للنابغين من الأساتذة والطلبة، كما أنه جعل التعليم في كافة مدارس الدولة بالمجان، وكانت المواد التي تدرس في تلك المدارس: التفسير والحديث والفقه والأدب والبلاغة وعلوم اللغة والهندسة، وأنشأ إلى جانب مسجده الذي بناه بالقسطنطينية ثماني مدارس على كل جانب من جوانب المسجد يتوسطها صحن فسيح، وفيها يقضي الطالب المرحلة الأخيرة من دراسته، وألحقت بهذه المدارس مساكن للطلبة ينامون فيها ويأكلون طعامهم ووضعت لهم منحة مالية شهرية، وأنشأ إلى جانبها مكتبة خاصة وكان يُشترط في الرجل الذي يتولّى أمانة هذه المكتبة أن يكون من أهل العلم والتقوى، متبحراً في أسماء الكتب والمؤلفين، وكانت مناهج المدارس تتضمن نظام التخصص، فكان للعلوم النقلية والنظرية قسم خاص وللعلوم التطبيقية قسم خاص أيضاً.
من أبرز مآثره أيضاً تقريبه للعلماء ورفع قدرهم وتشجيعهم على العمل والإنتاج، بدل التواكل، وبذله لهم الأموال والعطايا والمنح والهدايا وتكريمهم غاية الإكرام.
وقد كان من مكانة شيخه المربّي أحمد الكوراني أنه كان يخاطب السلطان بإسمه ولا ينحني له، ولا يقبّل يده بل يصافحه مصافحة، وكان لا يأتي إلى السلطان إلا إذا أرسل إليه، وكان يقول له: «مطعمك حرام وملبسك حرام فعليك بالاحتياط». وكذلك بالنسبة للشيخ «آق شمس الدين» الذي درّس السلطان محمد الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الزمن، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات العربية، والفارسية والتركية، وكذلك في مجال العلوم العلمية من الرياضيات والفلك والتاريخ والحرب، وكان الشيخ آق ضمن العلماء الذين أشرفوا على السلطان محمد عندما تولّى إمارة «أماسيا» ليتدرّب على إدارة الولاية، وأصول الحكم. واستطاع الشيخ آق شمس الدين أن يقنع الأمير الصغير بأنه المقصود بالحديث النبوي: «لتفتحنَّ القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش».
وكان الشيخ آق شمس الدين أول من ألقى خطبة الجمعة في مسجد آيا صوفيا. وكان السلطان محمد الفاتح يحب شيخه شمس الدين حباً عظيماً، وكانت له مكانة كبيرة في نفسه وقد بيّن السلطان لمن حوله – بعد الفتح-: «إنكم ترونني فرحاً، فرحي ليس فقط لفتح هذه القلعة إن فرحي يتمثل في وجود شيخ عزيز الجانب، في عهدي، هو مؤدبي الشيخ آق شمس الدين». وعبّر السلطان عن مهابته لشيخه في حديث له مع وزيره «محمود باشا»، حيث قال: «إن احترامي للشيخ آق شمس الدين، احترام غير اختياري. إنني أشعر وأنا إلى جانبه بالانفعال والرهبة».

مدفع سلطاني عثماني مماثل للمدفع الذي استخدم عند حصار القسطنطينية. تمّ صب هذا المدفع عام1464، وهو الآن موجود في متحف الترسانة الملكية البريطانية

دعم حركة الترجمة والتأليف ونشر المعرفة بتعميم المكتبات العامة وأنشأ في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت

اهتمامه بالثقافة والشعر
كان السلطان الفاتح شاعراً موهوباً، وكان له اهتمام شديد بالأدب عامة والشعر خاصة، وكان يصاحب الشعراء ويصطفيهم، واستوزر الكثير منهم، وكان في بلاطه ثلاثون شاعراً يتناول كل منهم راتباً شهرياً قدره ألف درهم، وكان مع هذا ينكر على الشعراء التبذل والمجون والدعارة ويعاقب من يخرج عن الآداب بالسجن أو يطرده من بلاده. وكان الفاتح يكتب أشعاره بإسم «عوني»، ويُعدّ أوّل شاعر سلطاني اتخذ لنفسه إسماً مستعاراً. وللفاتح ديوان باللغة التركية معظمه في الغزل.
أتقن السلطان اللغة اليونانية وست لغات أخرى وكان عمره لا يتجاوز الـ 21 عاماً، أي في السنة التي فتح فيها القسطنطينية، وقد أمر بنقل العديد من الآثار المكتوبة باليونانية واللاتينية والعربية والفارسية إلى اللغة التركية، ونقل إلى التركية كتاب التصريف في الطب للزهراوي، وعندما وجد كتاب بطليموس في الجغرافيا وخريطة له طلب من العالم الرومي «جورج أميروتزوس» وابنه أن يقوما بترجمته إلى العربية وإعادة رسم الخريطة باللغتين العربية واليونانية، وكافأهما على هذا العمل بعطايا واسعة، وقام العلامة القوشجي بتأليف كتاب بالفارسية ونقله للعربية وأهداه للفاتح.
كما كان مهتماً باللغة العربية فقد طلب من المدرّسين بالمدارس الثماني أن يجمعوا بين الكتب الستة في تدريسهم وبين علم اللغة كالصحاح.. ودعم الفاتح حركة الترجمة والتأليف لنشر المعارف بين رعاياه بالإكثار من نشر المكتبات العامة وأنشأ له في قصره خزانة خاصة احتوت على غرائب الكتب والعلوم، وكان فيها اثنا عشر ألف مجلد عندما احترقت.
اهتمامه بصحة رعايا الدولة
كان السلطان محمد الفاتح مغرماً ببناء المعاهد والقصور والمستشفيات والخانات والحمامات والأسواق الكبيرة والحدائق العامة، وأدخل المياه إلى المدينة بواسطة قناطر خاصة. شجع الوزراء وكبار رجال الدولة والأغنياء والأعيان على تشييد المباني وإنشاء الدكاكين والحمامات وجميع أشكال العمران التي تعطي المدن بهاء ورونقاً، واهتم بالعاصمة إسلامبول اهتماماً خاصاً، وكان حريصاً على أن يجعلها «أجمل عواصم العالم» و«حاضرة العلوم والفنون».
الكثير من العمران انتشر في عهد الفاتح ، واهتم بدور الشفاء، ووضع لها نظاماً مثالياً في غاية الروعة والدقة والجمال، فقد كان يعهد بكل دار من هذه الدور إلى طبيب – ثم زيد إلى اثنين – من حذاق الأطباء من أي جنس كان، يعاونهما كحّال وجراح وصيدلي وجماعة من الخدم والبوابين، وكان يُشترط في جميع المشتغلين بالمستشفى أن يكونوا من ذوي القناعة والشفقة والإنسانية، ووجب على الأطباء أن يعودوا المرضى مرتين في اليوم، وأن لا تصرف الأدوية للمرضى إلا بعد التدقيق من إعدادها، وكان يشترط في طباخ المستشفى أن يكون عارفاً بطهي الأطعمة والأصناف التي توافق المرضى منها، وكان العلاج والأدوية في هذه المستشفيات بالمجان ويغشاها جميع الناس من دون تمييز بين أجناسهم وأديانهم.
ولعلّ أبرز آثار السلطان العمرانية هو قصر الباب العالي الذي أمر بالبدء ببنائه قرابة عقد الستينات من القرن الخامس عشر، إضافة إلى مسجده الذي حمل اسمه، وآيا صوفيا بطبيعة الحال التي أمر بتحويلها من كنيسة إلى مسجد.

الاهتمام بالتجارة والصناعة
اهتم السلطان محمد الفاتح بالتجارة والصناعة وعمل على إنعاشهما بجميع الوسائل والعوامل والأسباب وكان العثمانيون على دراية واسعة بالأسواق العالمية، وبالطرق البحرية والبرية وطوروا الطرق القديمة، وأنشأوا الجسور الجديدة مما سهّل حركة التجارة في جميع أجزاء الدولة، واضطرت الدول الأجنبية لمسايسة الدولة العثمانية ليمارس رعاياها حرفة التجارة في الموانئ المهمة العديدة في ظل الراية العثمانية. كان من أثر السياسة العامة للدولة في مجال التجارة والصناعة أن عمّ الرخاء وساد اليسر والرفاهية في جميع أرجاء الدولة، وأصبحت للدولة عملتها الذهبية المتميزة، ولم تهمل الدولة إنشاء دور الصناعة ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقامت القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية في البلاد.

سنّ القوانين وتنظيم إدارة الدولة
عمل السلطان محمد الفاتح على تطوير دولته؛ ولذلك فقد سنّ القوانين حتى يستطيع أن ينظم شؤون الإدارة المحلية في دولته، وكانت تلك القوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية. وضع السلطان الفاتح أنظمة جديدة سار عليها من جاء بعده، فأطلق على الحكومة العثمانية اسم «الباب العالي» وجعل لها أربعة أركان، هم الصدر الأعظم وقاضي العسكر والدفتردار والنيشانجي. وشكل السلطان محمد لجنة من خيار العلماء لتشرف على وضع «قانون نامه» المستمد من الشريعة المذكورة وجعله أساساً لحكم دولته، وكان هذا القانون مكوناً من ثلاثة أبواب، يتعلق بمناصب الموظفين وببعض التقاليد وما يجب أن يتخذ من التشريفات والاحتفالات السلطانية، وهو يقرر كذلك العقوبات والغرامات، ونص صراحة على جعل الدولة حكومة إسلامية قائمة على تفوق العنصر الإسلامي أياً كان أصله وجنسه، وقد استمرت المبادئ الأساسية لهذا القانون سارية المفعول في الدولة العثمانية حتى سنة 1839.
إهتم محمد الفاتح بوضع القوانين التي تنظم علاقة السكان من غير المسلمين بالدولة ومع جيرانهم من المسلمين، ومع الدولة التي تحكمهم وترعاهم، وأشاع العدل بين رعيته، وجدّ في ملاحقة اللصوص وقطّاع الطرق، وأجرى عليهم أحكام الإسلام، فاستتب الأمن وسادت الطمأنينة في ربوع الدولة العثمانية. وعندما كانت الدولة تعلن الجهاد وتدعو أمراء الولايات وأمراء الألوية، كان عليهم أن يلبوا الدعوة ويشتركوا في الحرب بفرسان يجهزونهم تجهيزاً تاماً، وذلك حسب نسب مبينة، فكانوا يجهزون فارساً كامل السلاح قادراً على القتال عن كل خمسة آلاف آقجة من إيراد اقطاعه، فإذا كان إيراد إقطاعه خمسمائة ألف آقجة مثلاً كان عليه أن يشترك بمائة فارس، وكان جنود الإيالات مؤلفة من مشاة وفرسان، وكان المشاة تحت قيادة وإدارة باشوات الإيالات وبكوات الألوية. قام محمد الفاتح بحركة تطهير واسعة لكل الموظفين القدماء غير الأكفاء وجعل مكانهم الأكفاء، واتخذ الكفاءة وحدها أساساً في اختيار رجاله ومعاونيه وولاته.

رسم للسلطان محمد الفاتح وهو يشم زهرة
رسم للسلطان محمد الفاتح وهو يشم زهرة

فرمان سلطاني بحماية المسيحيين

في سنة 1462، وبعد إخضاع السلطان الفاتح لبلاد البوسنة قام بإصدار فرمان يتعلق بحماية الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد من أي اضطهاد أو ظلم، بسبب معتقداتهم الدينية، وما زال ذلك الفرمان يعتبر نموذجاً على سياسة التسامح التي طبقها العثمانيون على الأقليات المسيحية في جميع البلدان التي فتحوها. وفي ما يلي نص الفرمان.

“ بسم الله الرحمن الرحيم
أنا السلطان محمد خان الفاتح،
أعلن للعالم أجمع أن،
أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن: لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية. وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة.
لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيراً، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم !
لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم !
وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية.
وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين أجمعين، بأنه لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !”

اسطنبول اليوم
اسطنبول اليوم

جعل العلاج والأدوية في مستشفيات الدولة بالمجان للجميع دون تمييز وكان يفرض على الأطباء عيادة مرضاهم مرتين في اليوم

تعزيز عديد وأسلحة بالجيش
تميّز عصر السلطان محمد الفاتح إلى جانب قوة الجيش البشرية وتفوقه العددي، بإنشاءات عسكرية عديدة متنوعة، فأقام دور الصناعة العسكرية لسدّ احتياجات الجيش من الملابس والسروج والدروع ومصانع الذخيرة والأسلحة، وأقام القلاع والحصون في المواقع ذات الأهمية العسكرية، وكانت هناك تشكيلات متنوعة في تمام الدقة وحسن التنظيم من فرسان ومشاة ومدفعية وفرق مساعدة، تمد القوات المحاربة بما تحتاجه من وقود وغذاء وعلف للحيوان وإعداد صناديق الذخيرة حتى ميدان القتال.
كان هناك صنف من الجنود يسمى، «لغمجية» وظيفته الحفر للألغام وحفر الأنفاق تحت الأرض أثناء محاصرة القلعة المراد الاستيلاء عليها، وكذلك السقاؤون كان عليهم تزويد الجنود بالماء. تطورت الجامعة العسكرية في زمن الفاتح وأصبحت تخرج الدفعات المتتالية من المهندسين والأطباء والبيطريين وعلماء الطبيعيات والمساحات، وكانت تمد الجيش بالفنيين المتخصصين. استحق معه أن يعده المؤرخون مؤسس الأسطول البحري العثماني، ولقد استفاد من الدول التي وصلت إلى مستوى رفيع في صناعة الأساطيل مثل الجمهوريات الإيطالية وبخاصة البندقية وجنوة، أقوى الدول البحرية في ذلك الوقت.

تنظيم القضاء
إن إقامة العدل بين الناس كان من واجبات السلاطين العثمانيين، وكان السلطان محمد شأنه في ذلك شأن من سلف من آبائه – شديد الحرص على إجراء العدالة في أجزاء دولته، ولكي يتأكد من هذا الأمر كان يرسل بين الحين والحين إلى بعض رجال الدين من النصارى بالتجوال والتطواف في أنحاء الدولة، ويمنحهم مرسوماً مكتوباً يبين مهمتهم وسلطتهم المطلقة في التنقيب والتحري والاستقصاء لكي يطلعوا كيف تُساس أمور الدولة وكيف يجري ميزان العدل بين الناس في المحاكم، وقد أُعطي هؤلاء المبعوثون الحرية الكاملة في النقد وتسجيل ما يرون ثم يرفعون ذلك كله إلى السلطان.
كانت تقارير هؤلاء المبعوثين المسيحيين تشيد دائماً بحسن سير المحاكم وإجراء العدل بالحق والدقة بين الناس من دون محاباة أو تمييز، وكان السلطان الفاتح عند خروجه إلى الغزوات يتوقف في بعض الأقاليم وينصب خيامه ليجلس بنفسه للمظالم ويرفع إليه من شاء من الناس شكواه ومظلمته. اعتنى الفاتح بوجه خاص برجال القضاء الذين يتولون الحكم والفصل في أمور الناس، فلا يكفي في هؤلاء أن يكونوا من المتضلعين في الفقه والشريعة والاتصاف بالنزاهة والاستقامة وحسب، بل لا بدّ إلى جانب ذلك أن يكونوا موضع محبة وتقدير بين الناس، وأن تتكفل الدولة بحوائجهم المادية حتى تسد طرق الإغراء والرشوة، فوسع لهم الفاتح في عيشهم كل التوسعة، وأحاط منصبهم بحالة مهيبة من الحرمة والقداسة والحماية. أما القاضي المرتشي فلم يكن له عند الفاتح من جزاء غير القتل.
كان السلطان الفاتح – رغم اشتغاله بالجهاد والغزوات – إلا أنه كان يتتبع كل ما يجري في أرجاء دولته بيقظة واهتمام، وأعانه على ذلك ما حباه الله من ذكاء قوي وبصيرة نفاذة وذاكرة حافظة وجسم قوي، وكان كثيراً ما ينزل بالليل إلى الطرقات والدروب ليتعرف على أحوال الناس بنفسه ويستمع إلى شكاواهم بنفسه، كما ساعده على معرفة أحوال الناس جهاز أمن الدولة الذي كان يجمع المعلومات والأخبار التي لها علاقة بالسلطنة وترفع إلى السلطان الذي كان يحرص على دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها.

وفاته
قاد السلطان حملة لم يحدد وجهتها، لأنه كان شديد الحرص على عدم كشف مخططاته العسكرية حتى لأقرب وأعز قواده. وقد قال في هذا الصدد عندما سُئل مرة: «لو عرفته شعرة من لحيتي لقلعتها»، لكنّ المؤرخين يخمنون بأنها كانت إلى إيطاليا. لكن السلطان مرض وتوفى قبل تمكنه من السير فيها يوم 3 مايو سنة 1481 عن ثلاث وخمسين سنة بعد أن حكم لمدة 31 عاماً قضاها في حروب متواصلة للفتح وتقوية الدولة وتعميرها، وأتم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وجميع ممالك وأقاليم آسيا الصغرى والصرب والبشناق وألبانيا، وحقق كثيراً من المنجزات الإدارية الداخلية التي سارت بدولته على درب الازدهار ومهدت الطريق أمام السلاطين اللاحقين ليركزوا على توسيع الدولة وفتح أقاليم جديدة. ومن مآثره أيضاً وضعه أول مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية، أي العين بالعين والسنّ بالسنّ، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمّها السلطان سليمان القانوني لاحقاً.
دُفن السلطان في المدفن المخصص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسسها في الآستانة، وترك للأجيال سمعة مهيبة في العالمين الإسلامي والمسيحي على حد سواء.

 

سيف-السلطان-محمد-الفاتح-في-قصر-الباب-العالي
سيف-السلطان-محمد-الفاتح-في-قصر-الباب-العالي

وصيّته لابنه:

هذه هي الوصية التي سجّلها السلطان محمد الفاتح لابنه بايزيد وهو على فراش الموت:

«ها أنذا أموت، ولكنني غير آسف لأنني تارك خلفاً مثلك. كن عادلاً صالحاً رحيماً، وابسط على الرعية حمايتك من دون تمييز، واعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض، قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها. وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تبدّد، وإياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتَهم، وابذل إكرامك للمستحقين .
وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
حذار حذار لا يغرَّنَّك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.
خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذِ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو، وأكثر من قدر اللزوم فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك».

القهوة

القهـــوة المُـــرّة

في تراث الجزيرة وبلاد الشام

محــــور الحيــــاة اليوميــــة للجماعــة
وجلســة لهــا وظائفهــا وفنونهــا وآدابهــا

جلسة القهوة هي ملتقى الضيوف وساحة التعارف والتوادد، واشتراك الجميع بالهمّ العام والخاص والتعاون على إيجاد الحلول للمشكلات العامة والخاصّة، وإبداء الــرأي في تصرفات الافــــراد وتقييمها ونقــدها

من الأمثال الشعبية بشأنها: السادة للسادات والحلوة للستات، والقهوة يمين ولو كان أبو زيد (الهلالي) يسار

تــــدار على الرجـــال بكميـــة قليلة في قعر الفنجان لتشاؤم العرب من ملء الفنجان، وإذا قدّمت للنساء -وهو نادر- ملأوا الفنجان لاعتقادهم بعدم قناعة المرأة بالقليل !!

البعض يسميها القهوة المرّة والبعض الآخر القهوة العربية، وهي أيضاً القهوة البدوية أو بكل بساطة هي “القهوة”، التي مثلت لعقود طويلة وربما قرون المادّة الأبرز للإجتماع العربي وللثقافة والسياسة والشعر والغناء. فالقهوة كما اكتشف العرب هي لغة تواصل وهي ربما ركن الثالوث الاجتماعي العربي: السيف والضيف والكيف.
السيف وهو إرث الرجولة والبطولة في الذود عن الحمى وعن الشرف.
الضيف وهو ركن القيم الرفيعة لمجتمع الكرم والنخوة والسخاء.
أما الكيف فهو جلسة الراحة والتباسط في مجلس العشيرة أو البلدة، والتي كانت المدرسة الحقيقية التي يتم عبرها تناقل التراث والقيم من جيل إلى جيل، وبالتالي تأمين بقاء الجماعة في الزمن ودوام ازدهارها.
في هذا الثالوث الاجتماعي لعبت القهوة العربية على الدوام دوراً أساسياً، ولم يكن صدفة أن يكون تراجع تقليد القهوة العربية قد ترافق مع تغييرات اجتماعية عميقة، كان أبرزها تراجع القيم العربية الأصيلة وتقليد المجلس أو المضافة ودوره، وكذلك تراجع موقع الزعامات المحلية وتأثيرها، فضلاً عن الغزو الاستهلاكي الغربي الذي حلّ محل القهوة العربية ودورها الاجتماعي، مما أسس لمقهى الرصيف وتقاليد القهوة الغربية بأسمائها وعلاماتها الكثيرة.
في هذا المقال، محاولة لتسليط ضوء كاشف على تاريخ القهوة العربية والدور الخطير الذي لعبته جلسات القهوة في الاجتماع العربي لقرون. وسيكتشف القارئ أن القهوة العربية جزء أساسي من التاريخ العريق والغني لبلاد الشام والجزيرة، وأنها تراث وآداب وفن، وأنها عالم كامل قائم بذاته له مكوناته وأدواته وصناعاته وأوقاته وفنونه. وبطبيعة الحال، فإن هدف المقال لا ينفصل عن الهدف الذي سعت إليه “االضحى” على الدوام وهو العمل لصون تراثنا العربي الإسلامي وحمايته ومحاولة إحيائه قدر الإمكان والحؤول دون طمسه تحت سيل النفايات الثقافية والاستهلاكية التي ترد علينا من كل صوب في هذا الزمن الصعب.
فما هي القهوة العربية، وما هي قصتها، وما هي قصة المجتمع العربي والمشرقي معها؟
يتفق أكثر المؤرخين على أن أصل القهوة من الحبشة، وأنها انتشرت بواسطة القوافل عن طريق اليمن في البلاد العربية، ومنها إلى جاوا في أندونيسيا وسيلان (سريلانكا حالياً)، ولم تعرف القهوة في أوروبا حتى أواخر القرن الثامن عشر وهي انتقلت عبر المهاجرين الأوروبيين، بعد ذلك إلى جمايكا وجزر الهند الغربية لتحط رحالها في البرازيل، حيث ينبت في الوقت الحاضر أكثر حاصلات البن في العالم.

أول مقهى في الشرق فتح في إسطنبول في مطلع القــرن السادس عشر وفي إنكلترا سنة 1652

القهوة في التاريخ
وقد ذكرت القهوة في العالم الإسلامي للمرة الاولى في القرن الخامس عشر للميلاد، وجاء في تاريخ ابن العماد ( شذرات الذهب في أخبار من ذهب ) أن أبا بكر بن عبد الله الشاذلي ابتكر صنعها من البن المجلوب من اليمن، فرأى أنها تجلب السهر، وتنشط على العبادة فأرشد أتباعه إلى استعمالها فانتشرت في البلاد العربية في مطلع القرن العاشر الهجري، فحرّمها بعض المشايخ مثل شهاب الدين العيناوي الشافعي، وأحمد بن عبد الحق السنباطي، لكن عارضهم في ذلك أعلام كبار مثل النجم القرني الذي قال بتحليلها، والشيخ أبو الحسن البكري المصري الشافعي من آل أبي بكر الصديق رضي الله وهو ممن اتفق على ولايته وبلوغه رتبة الاجتهاد، وقد سئل عن شرب القهوة وذكر له أن المغاربة يحرّمونها فقال: كيف تدعى بالحرام وأنا أشرب منها.
وفتح أول محل لشرب القهوة في اسطنبول في مطلع القرن السادس عشر، وفي إنكلترا فتح أول مكان لتقديم القهوة سنة 1652، وأخذت كلمة القهوة في اللاتينية والإنكليزية وغيرهما من اللغات من أصلها العربي. أما في العربية فقال بعض القدماء إنها سميت بذلك لأنها تقهي شاربها عن الطعام أي تذهب بشهوته.
اعتبرت القهوة عند العرب رمزاً من رموز الكرم والتباهي وعنوان الضيافة، بل أحد أرفع أوجه التكريم للضيف، وحظيت لذلك بالاحترام عند معدّيها وشاربيها على حدٍّ سواء، ونتجت عن ذلك ثقافة متكاملة تشمل عملية وأساليب تقديم القهوة في مختلف المناسبات الاجتماعية من استقبال وأفراح وأتراح.

تقاليد وآداب القهوة
بسبب دورها الأساسي في العلاقات، أصبحت لتقديم القهوة وتناولها تقاليد وآداب تراعى بدقة، ومنها مثلاً أن صاحب البيت هو أول من يشربها للتأكد من أنها جيدة الصنع قبل تقديمها للضيوف، ومن التقاليد العربية المتّبعة في طلب يد الابنة للزواج أن يعرض أهل العريس عن شرب القهوة، ويضعون الفناجين على الأرض بانتظار الجواب، وعندما يتوافقون، تدار فناجين القهوة، ويبدو أن مراسم الزواج عند الأردنيين (السلط) وفي الجزيرة السورية، تقضي أن يمتنع أهل الخطيب عن شرب القهوة إلى أن يقول لهم والد العريس: اشربوا قهوتكم… (إلي جيتوا فيه أبشروا بيه)
وتقدّم القهوة المرّة في مناسبات العزاء وينبغي عند الانتهاء من ارتشافها: الترحّم على المتوفى، ويتحاشون كلمة (دايم) تطيراً من استمرار الموت فيهم، والعرب، عموماً يفاخرون بشربها وتقديمها للضيوف عند قدومهم للترحيب بهم وعند وداعهم، كما تعدّ جزءاً مهماً من حياة الرجولة وعامل ربط بين أبناء الجماعة الذين يعقدون لها المجالس التي تسمى بالشبة، القهوة، الديوانية، الديوان، والربعة والمضافة، وقالوا شعراً بديعاً هذا منه:
الكـــيف ما هو كيـــف شـــربَ السجـــــــارة
يــــــا شاربيــــــن التتــــــن ما انتم على خيــــــر
الكـــيف فنجـــان قهـــوة وهمّك تـــــــــوارى
من دلّــــــــــــةٍ منصـــوبـــــــــة للخطــــاطيــــــــــــر

جرش-القهوة-بواسطة-المهاج-مرحلة-أساسية
جرش-القهوة-بواسطة-المهاج-مرحلة-أساسية

لغة اجتماعية
كما من آدابها أن تقدم وقوفاً، لكن الجلوس أمام الضيف ومناولته الفنجان يعتبران من أكبر درجات الإكرام والتبجيل، واعتاد القائم على خدمة القهوة الجلوس أمام الضيف ذي الشأن وتكسير الفناجين أمامه للدلالة على أن لا أحد يستحق الشرب فيها بعده، وقد يناوله عطاءً سخياً لقاء هذا الصنيع ولا سيما إذا كان في حضرة أقرانه، لكن لا يجوز العطاء لصاحب المضافة بل ويعدّ العطاء هنا إهانة له، وعلى من يقدّم القهوة أن يمسك بالدلة في اليد اليسرى ويقدم الفنجان باليد اليمنى، ولا يجلس ابداً حتى ينتهي الجميع.
جرت العادة أيضاً أن يقدّم الماء قبل القهوة لأنه لا يجوز طلب الماء بعد شربها مباشرة، وإن طلب الضيف الماء فهذا يعني أن القهوة غير جيدة. ومن تقاليد تقديم القهوة العربية أن الأولوية في تقديمها في مجلس قبلي هي للكريم الجواد، إذ لا يمكن لأحد أن يتقدم عليه، ويليه في حق تقديم القهوة الفارس الشجاع وأصحاب الوقفات والصولات المشهودة.
لكن يلاحظ وجود مفارقة واختلاف في ارتباط القهوة وتناولها بعادة التدخين. ففي حين يكثر تعاطي التبغ وملازمته للقهوة، في بلاد الشام والمغرب والنيل نجده ينحسر إلى أدنى مستوياته في الخليج العربي، إذ يحل محله هنا التمر الفاخر الذي يقدم مع القهوة ويعتبر مكملاً لها.
ويهتمون كثيراً بجودة القهوة فتثور ثائرة المضيف إذا أخبره أحد أن قهوته فيها خلل أو تغيّر في مذاقها، ويعبّرون عن ذلك بقولهم: (قهوتك صايدة) ولكن بمودّة ودون أن يشعر بالكلام، أحد، لأن القهوة لا تعاب علينا مهما كانت، وإن أعابها أحد فإن عليه إثبات ذلك، ولا بدّ في هذه الحالة أن يغيّر المضيف قهوته حالاً ويستبدلها بأخرى.
ويستحسن إضافة فنجان آخر للضيف في حال انتهائه من الشرب، خوفاً من أن يكون قد خجل من طلب المزيد، وهذا غاية في الكرم عند أهالي البادية، عند سكب القهوة وتقديمها للضيوف يجب أن تبدأ من اليمين، أو تبدأ بالضيف مباشرة. والمتعارف عليه أنك تصبّ القهوة حتى يقول الضيف (كفى) ويعبر عن ذلك بقوله: (بس) أو (كافي) أو (اكرم) أو دايم، أو بهز فنجان القهوة. ومن مهارة صبّ القهوة أن تحدث صوتاً خفيفاً نتيجة ملامسة الفنجان للدلة. وكان يقصد بهذه الحركة تنبيه الضيف إذا كان سارحاً، أو متكئاً لأنه لا يجوز تناول القهوة أثناء الإضجاع ويمكن تجاوز من لا يعتدل في جلوسه عند قدوم القهوة، ومن لا يجلس باعتدال لتناول القهوة فإنه لا يرغب بالشرب إلا إن كان شيخاً مسناً أو مريضاً، ولا يلحّون على غير الراغب بالشرب بإيماءة بسيطة برأسه أو يده. ومن مهارة شرب القهوة أن يهز الشارب الفنجان يميناً وشمالاً حتى تبرد القهوة ويتم ارتشافها بسرعة. وقد بلغ من احترام البدو والعرب في السابق للقهوة أنه إذا كان لأحدهم طلب عند المضيف، كأن يضع فنجانه وهو مليء بالقهوة على الأرض ولا يشربه، فيلاحظ المضيف ذلك، فيبادره بالسؤال: (ما حاجتك)؟ فإذا قضاها له، أمره بشرب قهوته اعتزازاً بنفسه. وإذا امتنع الضيف عن شرب القهوة وتجاهله المضيف ولم يسأله ما طلبه، فإن ذلك يعدّ عيباً كبيراً في حقه، وينتشر أمر هذا الخبر في القبيلة. وأصحاب الحقوق عادة يحترمون هذه العادات فلا يبالغون في المطالب، ولا يطلبون ما يشق تحقيقه، كما لا يجوز وضع الفنجان على الأرض بعد الشرب لأن ذلك تترتب عليه مسؤوليات منها أنه يهم بالعطاء للقهوجي، فيقولون(من رمى الفنجان يملاه ) ويعدّ احتواء القهوة رمزاً للكرم، والكرماء، والمفاخرة.
وليست القهوة للسلم فقط بل تستخدم للحروب. فكافة القبائل في السابق، إذا حدث بينها شجار أو معارك طاحنة وأعجز إحدى القبائل بطل معين، كان شيخ العشيرة يجتمع بأفرادها ويقول: (من يشرب فنجان فلان، ويشير بذلك للبطل الآنف الذكر)؟ (أي: من يتكفل به أثناء المعركة، ويقتله)؟ فيقول أشجع أفراد القبيلة: (أنا أشرب فنجانه)، وبذلك يقطع على نفسه عهداً أمام الجميع بأن يقتل ذلك البطل أو يُقتل هو في المعركة، وأي عار يجلبه هذا الرجل على قبيلته إذا لم ينفذ وعده!، هكذا تحوّلت القهوة من رمز للألفة والسلام إلى نذير حرب ودمار.

جلسة-قهوة-عربية
جلسة-قهوة-عربية

دورها الاجتماعي والسياسي
ما هو سرّ استمرار القهوة ولا سيما المرّة منها في حياة الناس بهذه الصورة؟
الجواب بسيط وهو يتركّز في حالة الاجتماع التي تحققها جلسة القهوة ( قهوة الصبح، وقهوة العصر) في الربعة ( المضافة )، إذ أنه حول جلسة القهوة تعقد جلسات التقاضي أمام العارفة (القاضي) وفيها ينشد الشعراء أشعارهم، ويروي الناس قصصهم أو ينقلون أخبار القبائل والمراعي والكلأ. وفي الربعة تعقد صفقات البيع والشراء، وهي ملتقى الضيوف وساحة التعارف والتوادد، واشتراك الجميع بالهمّ العام والخاص والتعاون على إيجاد الحلول للمشكلات العامة والخاصّة، وإبداء الرأي في تصرفات الفرد وتقييمها ونقدها، وتعبّر الأبيات التالية عن تجسيد الأدب الشعبي لمثل هذه المجالس ودورها في صوغ نمط الاجتماع القبلي.
يا بو (علي) طيرَ الهوى خبَّث َالبال الطير نكري والحباري جليلـــــة
ودّك مع حومـــــة الطيـر فنجــــــال مع مجلس ٍما بُه نفوس ٍ ثجـيلة
مع هذا وِلِـْـد عم ٍ وهذا وِلـْـد خـــال مع خـــــويّ ما تبـــــدَّل بغيـــره
لعبت القهوة دوراً محورياً في ترسيخ الحياة الاجتماعية العربية ونبذ الفردية وتوطيد أواصر الجماعة، فضلاً عن ترسيخ الوعي الاجتماعي لدى الاجيال الطالعة التي ترتاد مجالسها، بإعتبار أن المجالس مدارس كما يقال، كما أسهمت القهوة في بلورة مكونات السلوك القويم في البيئة العربية التقليدية، وقد يكون فنجان القهوة الذي قد لا يزيد على بضع نُقط من شراب مرّ المذاق سبباً في صفح، أو صلح، وفي أجوائه الطيبة يمكن تجاوز الخصومات وفض المنازعات، ومن أجله قد تنشب حروب أو تنتهي، وهكذا خطبة النساء، والتجاوز عن الثأر، والتنازل عن الحقوق، وإذا كنّا قد أسهبنا في طقوس القهوة وسننها فإن شعوراً عارماً ينتابنا بأننا نعيش عصراً تتعرض فيه ثقافتنا العربية وتقاليدنا الأصيلة إلى غزو ثقافي كاسح يستهدف تدمير خصوصيتنا وتبديل نمط حياتنا ونظرتنا إلى تاريخنا وتراثنا ومعارفنا بما يسهل استيعابنا في منظومة القيم المادية والاستهلاكية الغربية. ومن أولى نتائج هذا الغزو ما نراه من تآكل علاقة أجيالنا الطالعة، الأمر الذي يجعل منها هدفاً لحملات التغريب والتبشير بالقيم الغربية الفاسدة.
لهذا السبب، فإننا نعتقد بأهمية توثيق تراثنا الشعبي وحفظه بإعتباره المكوّن الأهم لثقافتنا ومستودعاً للإختبارات والمعارف التي كونت ثقافتنا وشخصيتنا. ومن واجب كل أبناء المجتمع لذلك أن يعتبروا مختلف أوجه حياتهم اليومية، صغرت أم كبرت، من القيمة بمكان، لأن التمسك بثقافتنا وإرثنا الفريد هو السبيل الوحيد للحفاظ على هويتنا ووجودنا وكرامتنا بين الأمم.

صنع-القهوة-العربية-نشاط-أساسي-في-حياة-عرب-البادية
صنع-القهوة-العربية-نشاط-أساسي-في-حياة-عرب-البادية

 

الأولوية في تقديمها في مجلس القبيلة هي للكريم الجواد ويليه في حق القهوة الفارس الشجاع وأصحاب الوقفات والصولات لا يجوز

تناول القهوة أثناء الإضجاع ويمكن تجاوز من لا يعتدل في جلوسه لأن معناه هو أنه لا يرغب بالشرب

يمسك الساقي دلة القهوة باليسار ويقدم الفنجان لضيوفه باليمين
يمسك الساقي دلة القهوة باليسار ويقدم الفنجان لضيوفه باليمين

الأمثال الشعبية في القهوة
فوِّت رحلة مصر ولا تفوِّت قهوة العصر. اعتاد الناس في القرى ارتياد الديوان (المضافة) يومياً عند الصباح، وتسمى قهوة الصبح، وعند العصر وتسمى قهوة العصر.
قهوتكم مشروبة، وهي عبارة شكر تقال في معرض رفض مهذب لفنجان قهوة يعرض داخل المنزل.
قهوتكم مشروبة ووجوهكم مقلوبة. تقال في سياق معاتبة من يستقبل ضيفه بطريقة غير لائقة بعكس ما جرت عليه العادة.
القهوة يمين ولو كان أبو زيد (الهلالي) يسار
أول القهوة خصّ ثم قص. وهذا المثل يعني أن من الممكن تجاوز الجميع والبدء بصبّ القهوة للضيف، قبل تقديمها للعموم. لكن لا يجوز لشارب القهوة مناولة الفنجان لجليسه كما هو الحال في الماء، لأن الفنجان مخصوص له بالذات
دخان بلا قهوة راعي بلا فروة. (مثل فلسطيني)
السادة للسادات والحلوة للستات. أي أن القهوة السادة (المرّة) تدار بفناجين رقيقة (عربية) وبكميات قليلة في قعر الفنجان لتشاؤمهم من ملء الفنجان. وهي لا تقدّم عادة للنساء: فإذا قدّمت لهنّ قاموا بملء الفنجان لاعتقادهم عدم قناعة المرأة بالقليل.
عادة يقوم بإعداد القهوة رجل مختص بذلك، ويلخص أدوار إعدادها المثل القائل: القهوة حِمّاصها لطيف ودَقّاقها خفيف، وشرَّابها كَييف.
القهوة بالرويش والنار بالحرفيش. أي أن القهوة، وهي بالبكرج تحتاج إلى (الرويش) أو الرماد الساخن المختلف عن نار الحطب السريع الاتقاد، والمسمى (حرفيش) الذي يتم تقليبه بواسطة الماشة.
حبوب البن خرش اجرشها جرش واطبخها هرش (بمعنى لفترة طويلة) والسكب بالفنجان دور الغرش( العملة القديمة بمعنى القليل).
أول فنجان للضيف، والثاني للسيف، والثالث للكيف وقد راعت الأمثال الشعبية العربية عموماً عادة صبّ القهوة وتقديمها باليد اليمنى للجالسين ثلاث مرات في فترات متقطعة أثناء الجلسة.

محمد السموري

طقــوس وأدوات وآنيــة خاصــة

تحضير القهوة في بادية الأردن وتبدو عدة القهوة والدلات المختلفة الحجم على النار
تحضير القهوة في بادية الأردن وتبدو عدة القهوة والدلات المختلفة الحجم على النار

للقهوة العربية طقوس وأدوات وآنية خاصة بها عند العرب ولا سيما أهل البادية وقبائل بلاد الشام، إذ يسمى الإبريق النحاسي الذي تقدم بواسطته “الدلّة”، وهذه قد يتنافس أهل الضيافة في اقتناء أفضلها وأغلاها ثمناً، وقد يوصي عليها بعضهم في بلدان بعيدة وبأسعار باهظة طمعاً في السمعة والجاه، وقد اشتهر بصناعتها أهل الشام والعراق الذين كثيراً ما يزينون “الدلّة “بنقوش مستوحاة من تراثهم وبيئتهم؛ فهذه الدلال الشامية تتزين بصور الطيور، كما أن “الدلة” تحمل في رأسها صورة طائر يتّجه رأسه نحو مصبّ القهوة، بينما تحمل “الدلة” في الخليج صورة جوهرة تعبيراً عن تجارتهم مع الشرق أو الصيد البحري.

صنعة لها أسرارها
تحمّص القهوة أولاً على النار بواسطة إناء معدني مقعر يسمى (المحماسة) وتحرّك القهوة حتى تنضج جميع جهاتها بواسطة محراكين من الحديد يشبهان الملعقة الطويلة، ثم تطحن القهوة بواسطة إناء معدني يسمّى “النجر” أو “المهباش” (المهباج) وبعد غلي الماء توضع القهوة في إناء لطبخها وتنقل منه إلى الثنوة لتهيئتها لدلّة أخرى أصغر منها إسمها البكر ومن البكر تنقل إلى المصب، أي أن طبخ القهوة يتم على ثلاث مراحل، وقد يستغرق في جبل العرب ساعات طويلة فعلاً وسهراً على جودة التحضير من مرحلة إلى التالية.
أما أدوات عمل القهوة كما تعرف في الخليج العربي فهي:
المحماس: وتوضع فيه حبوب البن الأخضر لتحميصها إلى الدرجة المطلوبة.
المخباط: ويستخدم لتقليب حبوب القهوة عند تحميصها بحيث تنضج كلها بصورة متكافئة.
المنحاز: ويصنع من الخشب أو الحديد أو النحاس ويعرف أيضاً بالهاشمي ويستخدم في دق حبوب القهوة.
الفنجان: ويستخدم لشربها.
السلة أو المعاميل: وهي مجموع أدوات عمل القهوة من محماس وقدور ودلال وفناجين وغيرها.
الكوار: ويطلق عليه أيضاً اسم “المنقل” أو ( المنكلة ) بلهجة أهل الخليج وهو وعاء معدني يوضع فيه الجمر، ويستخدم لإبقاء القهوة ساخنة.
الرشاد: وهو عبارة عن الأداة التي تستخدم في الدق والتنعيم.
الدلال: ومفردها دلّة، وهي معروفة منذ القدم في صناعة القهوة العربية وتقديمها، وكانت تصنع من الفخار، وهي عادة ما تكون ذات رأس عريض ومقدمة عالية. وتنقسم الدلال تبعاً لاستخداماتها المختلفة إلى ثلاثة أنواع:
الخمرة: وهي أكبر حجماً من دلال القهوة العادية، وتوضع دائماً فوق الجمر على الكوار وفيها الماء الساخن وما تبقّى من بقايا الهيل والبن.
الملكمة: وهي الدلّة المتوسطة الحجم، والتي يتم فيها تلقيم القهوة بعد نقل جزء من الماء الساخن من الدلة الكبيرة ( الخمرة ) فيرفع البن من قاعها، ويقال:( لكم ) القهوة معلومة أي جهّزها تمهيداً لصنعها.
المزلة: هي أصغر الدلال المستخدمة في عمل القهوة، وتستخدم بعد طبخ القهوة في الدلة المتوسطة، حيث يصبّ فيها صافي القهوة، ويقال ( زل ) القهوة، ثم يوضع بها الهيل، وتستخدم لتقديم القهوة حيث تصبّ في الفناجين.
ويمكن ترك قليل من القهوة القديمة واستعمالها كـ “خميرة” للقهوة الجديدة، وهناك قناعة تامّة لدى معديها وشاربيها على حدّ سواء أن الجراثيم لا تعيش في القهوة لكثافتها العالية ومرارتها واستمرار غليانها، فهي تسخن إلى درجة الغليان مرتين في الأحوال العادية( قهوة الصبح وقهوة العصر)، وكلما قَدِم ضيف جديد لذا لا ضير من بقائها أياماً عدة، والقهوة لا يطيب طعمها إن لم يكن ماؤها من أجود المياه وأنظفها فتتوقف جودتها على جودة الماء، وكان البدو يحرصون على حفظ الماء الخاص للقهوة في قربة خاصة، وللماء نسبة معلومة إلى نسبة البن فلا يجب أن يزيد الماء عن معدل معين، ولا البن، وإلا فإن القهوة سيكون فيها عيب وقد يلمحه بسرعة بعض الضيوف من الذوّاقة.

القهوة لا يطيب طعمها إن لم يكن ماؤها من أجود المياه وأنظفها وكان البدو يحرصون على حفظ الماء الخاص للقهوة في قربــة خاصة

للقهوة فوائد صحية جمة
والعربيّة المرّة أفضلها

الهيل فاتح للشهية مقاوم للحرقة يطهر الفم من الميكروبات
يرفع المعنويات ويساعد في تسكين نوبات السعال الجاف

على عكس الانطباع الذي شاع لبعض الوقت عن مضار القهوة، فقد أثبتت الدراسات العلمية الأخيرة أن من يتناولون القهوة بشكل منتظم يحصلون على فوائد صحية جمة ليس أقلها زيادة مقاومة الجسم لأنواع عدة من السرطانات.

أظهرت دراسة أجراها علماء الأمراض العصبية في جامعة لشبونة في أوائل سنة 2010 أن القهوة يمكن أن تقي من تدهور الجهاز العصبي الذي يصاحب الاضطرابات العقلية والشيخوخة، واكتشف الباحثون أن تناول حوالي 3 فناجين من القهوة يومياً على مدى طويل أدى بالفعل الى الوقاية من تدهور الذاكرة.
كما أظهرت دراسة أميركية حديثة أن تناول ثلاثة فناجين من القهوة يومياً يحمل فوائد كبيرة للقلب والأوعية الدموية، لكن الدراسة نفسها أظهرت أن الفوائد الصحية للقهوة تبدأ بالتضاؤل إذا زاد عدد الفناجين التي يتم تناولها يومياً على ثلاثة.
وحتى وقت قريب كان الانطباع السائد هو أن القهوة تزيد من مخاطر الإصابة بالأزمات القلبية وأمراض الشريان التاجي، لكن الدراسات الحديثة أثبتت أن العكس هو الصحيح، فقد ذكرت دراسة أجريت في كلية الطب في جامعة هارفارد سنة 2009 أن تناول القهوة يقلل من احتمالات الإصابة بأزمة قلبية.
وتعتبر القهوة المصدر الأول لمضادات الأكسدة عند الكبار، وهي بالتالي تساعد على منع تدمير الخلايا، وفقاً لدراسة قامت بها جامعة سكرانتون في ولاية بنسلفانيا الأميركية وتساعد المواد المضادة للأكسدة على منع تدمير الخلايا والوقاية من الاضطرابات المصاحبة للشيخوخة، إذ يحتوي فنجان القهوة الواحد على العديد من المركبات العضوية وغير العضوية مثل مركبات الفينول وميلانودين ودايتربين، كما تحتوي حبات القهوة على حمض الكلوروجينيك الذي يساعد على الهضم وفقاً لدراسة نشرت في مجلة التغذية الإكلينيكية.

فوائد القهوة العربية
تزيد القهوة العربية على فوائد القهوة المبيّنة في هذه الدراسة، وذلك بسبب المطيَّبات والتوابل مثل الزنجبيل والقرنفل والزعفران التي تضاف عليها وتحتوي جميعاً على فوائد صحية.
إلا أن أبرز الفوائد الإضافية في القهوة العربية يعود الفضل فيه إلى حب الهيل، إذ وبالإضافة الى اكساب القهوة العربية الطعم الزكي الذي باتت تعرف فيه في العالم، فإن الأبحاث الأخيرة أثبتت أن الزيوت الطيارة ذات الرائحة العطرية في بذور الهيل لها خاصية ابطال مفعول الكافيين على الجسم. ومن المعروف أن بن القهوة العربية الأشقر يحتوي على كمية من الكافيين تفوق ما يحتويه البن الأكثر تحميصاً (الغامق).
ويعتبر الهيل أحد اقدم المنتجات التي استخدمت في معالجة الأمراض، وهو ما دلّت عليه مدوّنات الطب اليوناني القديم. وفي العديد من مناطق العالم، ينصح الطب الطبيعي بتناول الهيل لمعالجة أعراض وحالات عدة قد تصيب الجسم، فهو فاتح للشهية وطارد للغازات في البطن، كما أنه علاج لحرقة المعدة، وهو مفيد في تنظيف الفم من الميكروبات وفي مداواة التهابات الفم ومنع تكوّن الرائحة غير المحببة فيه.
ويساعد الهيل على رفع الحالة المعنوية ويحسّن المزاج ويخلص من الشعور بالاكتئاب، كما أنه يخفف من أعراض التهاب الجهاز التنفسي في طرد البلغم وتسكين نوبات السعال الجاف، وكثيرون يشيرون الى قدرته على مقاومة الميكروبات.

للقهوة-العربية-فوائدها-الكثيرةa
للقهوة-العربية-فوائدها-الكثيرةa

القهوة هي المصدر الأول لمضادات الأكسدة عند الكبار وهي تساعد على منع تدمير الخلايا، وتنشط الذاكرة وتقي من الاضطرابات المصاحبة للشيخوخة

القهوة العربية في الشعر الشعبي

يفوح منها عبير الهيل إن سُكبت فتنعش القلب من ندٍّ ومن طيبِ

تحتل القهوة في الإرث الشعبي لمجتمعات بلاد الشام والجزيرة العربية مكانة خاصة جعلت منها عامل إلهام لشعراء العامية والفصحى على مرّ العصور. وقد استخدم شعراء العرب شعرهم للتغني بمحامد القهوة وطيب مذاقها وآدابها وجلساتها ودورها الاجتماعي، أو لشرح أساليب صنعها وتقديمها، وغير ذلك من تفاصيل تراثها الغنيّ. في ما يلي عرض لبعض ما يتضمّنه الأثر الشعري العربي في موضوع القهوة (المرّة) وتدعى القهوة العربية أيضاً.

عمار حسين أبو عمار (*)

في كون القهوة العربية رمز الكرم والضيافة في كافة المناسبات ولا تكتمل الضيافة إلا بتقديمها قال الشاعر:
ضيــــــــــوف علينــــــــــا بدجة الليل طبــــــــــــــــــــة زاد أن تقهــــــــــــــــــــووا بعــــــــــــــــــــد لعــــــــــــــــــــب الرباني

وهي مادة شيقة تغنّى بها الشعراء في المضافات والدواوين والربعة والمقعد والمسحاب. قال الشاعر:
يــــــــــــــــــــــــــــــا محــــــــــلا الفنجان بفـــــــــــــي وظلال بــــــــــــــــــــربعــــــــــة مــــــــــــــــــــا بهــــــــــــــــــــــــــــــا نفــــــــــــــــــــوس ثقيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــله

وغالباً تهيّأ القهوة في الصباح بإشراف الرجال في أغلب الأحيان ولها أنواع متعددة وأفضلها العدنية والبرازيلية والكولومبية وأنواع أخرى، ويضاف للقهوة الهيل ( الهال ) كما يضيف البعض في أنحاء الجزيرة العربية الزعفران أو القرنفل ( المسمار ) أو العنبر أو جوزة الطيب. ويقول الشاعر:
أدعي بها المسمار والهيل مسحوق وإن زدتــــــــــــــــــــــــــــــها مــــــــــن عنبر البن لا بــــــــــــــــــــــــــــــاس

ودلالة على تكريم الأبطال والكرماء عندما تقدم يقال هذا فنجان الكريم والبطل الشجاع الذي يستحق التكريم وتجدد بعد الصباح تكريماً للضيوف، وتقدم على اليمين. وقال الشاعر:
صبه على اللي تدفق السمن يمناه وهــــــــــــــــــــاب مــــــــــــــــــــا له بالســــــــــنين الشحوحــــــــــــــــــــي

وللقهوة العربية دور كبير اجتماعي وسياسي أحياناً إذ بها تعقد الرايات، وتكم السايات، وتقضى الحاجات. وقال الشاعر:
يا سارياً عند الفجر عرج وشوف ديارنا الهيل والبن والعطر نقري بها زوارنا

ومجلس القهوة العربية مجلس كرم وسخاء وانفتاح تدور فيه الفناجين مثنى وثلاث لا يتعب المضيف من متابعة جلسائه بكل حواسه مبالغة في الكرم واحترام الضيوف وإعطائهم حقوق الضيف، وهي مقدسة في أعراف العرب وشيمهم. وقد قال الشاعر:
نفرح إذا كثروا المسايير وضيــــــــــوف لــــــــــــــــــــو صــــــــــــــــــــار دورتهــــــــــــــــــــم ثمانــــــــــين فنجــــــــــــــــــــان

كما أن القهوة العربية صناعة دقيقة لها أسرارها وفنونها خصوصاً في ما يتعلق باختيار نوع البن وطريقة التحميص والطحن (الجرش) والطبخ وصولاً إلى تهيئة المزيج الأخير المعد للضيوف، وغالباً ما يقدمها صاحب المضافة أو أحد مساعديه بشيء كثير من التهيّب في انتظار عبارات الاستحسان من الضيوف، وخوفاً من أن يعيب عليه أحد قهوته. قال الشاعر منبهاً إلى أهمية الاحتياط الشديد عند تحضير القهوة:
أياك وأيّا الني وأصحى من الحراق وبالك تكون بعاجل الحمس مرهوق

وآخر يقول:
احمس ثلاث يا نديمي على ساق ريحه على جمر الغضا يفضح السوق

يعدّ المهباش ( المهباج ) أو النجر من أبرز أدوات القهوة العربية، وهو مصنوع غالباً من خشب البطم وهو الأجود أو من بعض أنواع الأخشاب الأخرى، وله يد من نفس الخشب، وهو مجوف من الوسط لسحن القهوة. قال الشاعر:
يا خوي هات النجر دني المعاميل ابن الكــــــــــــــــــــرام اللــــــــــــــــــــي ولا لو حشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمها

وقال آخر:
بنجر به المهباج بالصوت خفاق يجلب لك القصيان البعيدين دقة خفوقه
أي أن دقه المنتظم يُنبئ أبناء الحي والجيران بقدوم الضيوف، ويدعوهم لشرب القهوة.
يحتاج صنع القهوة العربية إلى مجموعة من الدلال (جمع دلّة) أكبرها يستخدم لغلي التشريبه وتسمى عند البعض ( دلّة النقوع)، بينما تستخدم الثانية وهي أصغر حجماً لتلقيم القهوة قبل “زلِّها” أي تصفيتها في الدلّة الثالثة (الأصغر) تمهيداً لإضافة الهيل والتوابل الأخرى وتقديمها للضيوف. وقد وصف أحد الشعراء دِلال القهوة بقوله:
دلال فوق النار دوماً جواليس وإكرامــــــــــــــــــــهن حقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً علينــــــــــــــــــــــــــــــا لزومـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وأفضل أنواع الدلال الشامي ( صالحاني ).والبغدادي يقول أحد الشعراء معبراً عن عبق القهوة التي تلاقي رائحتها القادم:
يفوح منها عبير الهيل إن سُكبت فتنعــــــــــــــــــــش القلــــــــــــــــــــب من نــــــــــدٍّ ومن طيــــــــــبِ

الاسكندر

رسالة الاسكندر الأكبر

أراد من حربه على الفرس أن تكون
«الحرب التي تنهي كل الحروب»

تضمّنت الحلقة الأولى من هذا البحث عرضاً لمسيرة وسجايا الاسكندر الأكبر كملك وكفاتح للعالم القديم. وهي مسيرة تجعل منه ظاهرة لم تتكرر في التاريخ الإنساني، إذ تمكّن ملك شاب في مطلع العشرينات من عمره وفي غضون أربع سنوات من تدمير الإمبراطورية الفارسية التي هيمنت لأكثر من 230 عاماً على العالم القديم كله، وامتد ملكها من مقدونيا غرباً ومصر جنوباً وحتى جبال الهندوس شرقاً. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة سنتطرق إلى أهمية الرسالة الفلسفية والأخلاقية للاسكندر وللثورة الهائلة التي أنجزها في فترة وجيزة في البلدان التي أخضعها، فكان بذلك من صنف نادر من الملوك الذين أرفقوا الفتوحات بالإصلاح وخاضوا الحروب ليس بهدف تعظيم الملك واستعباد الشعوب أو نهب ثرواتها بل تحقيقاً لرؤية متوقدة تقوم على نشر قيم الفضيلة والعدل والتآخي الإنساني.

الاسكنـــدر أظهـــر كمـــلك الاحتـــرام لآلهـــة الإغريــــــق
لكنــــــه أظهــــــر في خصالــــــه كـــل صفـــات المؤمـــن والحكيـــم

كرّمـــه القـــرآن الكريـــم تحـــت اســـم ذي القرنيــــــن
واعتبــــــره ملكــــــاً صالحــــــاً يكلمــــــه الله ويفــــــوض إليــــــه أحكامــــــاً

التقــــــى في الهنــــــد المئــــــات من أمثــــــال ديوجينــــــوس
ووجــــــد شعوبــــــاً لا تقــــــل في حضارتهــــــا عن اليونــــــان

الأباطــــــرة الرومــــــان سعــــــوا لفــــــرض المسيحيــــــة ونواميسهــــــا
والتقليــــــل من أهميــــــة الارث الهيلينــــــي ومدارســــــه الحكميــــــة

الاسكنـــدر اختلـــف عـــن أرسطـــو ووافــــــق زينــــــون الرواقــــــي
فـــي سعيــــــه لإنشــــــاء حضــــــارة إنسانيــــــة واحــــــدة ومتآخيــــــة

علاقـــة أرسطـــو بالاسكنـــدر اقتصـــرت علـــى سنـــوات الدراســـة
وأثـــر عليهـــا انشغـــال المـــلك بالحـــروب والفيلســـوف بأكاديميتـــه

اهتـــم كثيـــراً بدراســـة الطـــب والنباتـــات علـــى يـــد أرسطـــو
وكـــان يصـــف ويصـــنع الـــدواء للمرضـــى مـــن أصحـــابه

من أبرز أقواله: أفضِّل أن أتفوق على الآخرين بالمعرفة والكمال
على أن أتفوق عليهم بجبروتي واتساع ملكي

كتـــاب «سر الأســـرار» أو رسائـــل أرسطـــو إلـــى الاسكنـــدر
وضـــع بالعربية فـــي القـــرن العاشـــر ولا علاقـــة لـــه بأرسطـــو

لقد جرى التركيز في تأريخ حياة الاسكندر الأكبر على شخصيته وإنجازاته كفاتح وكقائد عسكري ولم يتم إعطاء ما يكفي من الاهتمام لشخصيته كملك حكيم وكرسول إصلاح للبشرية. ويعود ذلك إلى سبب أساسي هو أن العالم الغربي وبعد تحوّل جوستنيان إلى العقيدة المسيحية سعى إلى فرض العقيدة الجديدة ونواميسها ومؤسساتها. ولهذا السبب فقد جرى منذ ذلك الوقت التقليل من أهمية الإرث الهائل الذي أطلقته الحضارة الهيلينية -وكذلك المصرية القديمة- بمدارسها الفلسفية وبمذاهبها الروحية المختلفة الثرية والمتسامحة، هذه المدارس التي يعود العالم اليوم ليستكشف بحارها مجدداً ويغوص في أعماقها وأسرارها، في وقت تعرضت فيه العقائد الرسمية إلى التأخر والجمود وفقدت الكثير من قدرتها على التأثير في الجانب الروحي والمعنوي لحياة البشر.
بالطبع إحدى الصعوبات في فهم العقيدة الحقيقية للاسكندر أنه من جهة، لم يكتب ولم يصدر عنه ما يكفي من الأقوال التي نقلت عنه، وتمثّل بالتالي، زاداً كافياً لفهم شخصيته الحميمة المتخفية وراء مظهر الحرب والشجاعة والفتوحات، إلا أن على من يريد الإحاطة بشخصية الاسكندر وفكره أن يتمعن في مسار حياته وخصوصاً مواقفه وأعماله التي سجّلها المقربون ثم المؤرخون الذين جاؤوا بعده. وهذا ما يؤكده بلوتارك الذي أشار في كتابه (موراليا) إلى أن الكلام الذي صدر عن الاسكندر أو أسلوب حياته وأفعاله أو التوجيه الذي كان يعطيه لجيشه وقواده وللمحيطين به، كل هذه العناصر تؤكد أنه كان فيلسوفاً ومالكاً لأسرار الحكمة، إضافة إلى ما اصطفاه به الله من سلطان وأيّده به من شرف ونصر على الأمم كلها.
بل أن بلوتارك اعتبر أن مهمة الاسكندر في الإصلاح البشري كانت أصعب من مهمة فلاسفة الأكاديمية لأن هؤلاء تحدثوا إلى مجموعات محدودة متجانسة وبلغتها، بينما تمكّن الاسكندر من أن يتحدث إلى شعوب عديدة متنافرة في ثقافاتها وبعضها متأخر جداً في عاداته، وأن يجتذب تلك الشعوب إلى قيم الحضارة الإنسانية وأن يصلح أخلاقها وقوانينها وأساليبها في الحكم. ويعطي أمثلة على ذلك منها، أن الاسكندر أقنع شعوب آسيا باحترام الرابطة الزوجية وعلّم سكان أراكوزيا (افغانستان حالياً) كيف يحرثون الأرض، كما علّم شعوباً متأخرة في آسيا كيف يحترمون أهلهم ولا يقتلونهم، والفرس كيف يقدسون أمهاتهم فلا يأخذونهن زوجات، وعلّم شعوب آسيا الوسطى كيف يدفنون موتاهم. وقد أنشأ الاسكندر خلال الفترة الوجيزة لملكه 70 مدينة في مختلف أنحاء العالم القديم وعيّن المفكرين والقانونيين والقادة على الأمصار الجديدة بهدف نشر قيم العدل والأخلاق التي اعتبرها أساس التحضر والاجتماع الإنساني.
رسالة العالمية
يلاحظ بلوتارك أن الاسكندر اتّخذ طريقاً مختلفاً عن أرسطو ونظريته في تفوق الجنس اليوناني ووافق أكثر نظرة زينون الرواقي الذي اقترح في كتابه «الجمهورية» بناء نظام عالمي يكون البشر فيه جميعاً إخوة، «كما لو كانوا قطيع خراف يشترك في المرعى الواحد». ومن أجل حفظ هذا الكون المتآخي اقترح زينون في كتابه تطبيق نظام قانوني واحد على مختلف شعوب أهل الأرض، بحيث تكون تلك الشعوب إنسانية واحدة بل مجتمعاً سياسياً واحداً.
وقد نظر الاسكندر إلى نفسه باعتباره مرسلاً بإرادة سماوية من أجل توحيد الإنسانية، لذلك فإن الذين كانوا يقاومون فكرته كان يهزمهم في ساحة القتال ثم يدعوهم إلى أن يكونوا جزءاً من رؤيته الكونية.
دعا الاسكندر رعايا مملكته الكبيرة جميعاً لأن يعتبروا الأرض كلها وطنهم وأن يعتبروا المملكة الجديدة حماهم والإطار الطبيعي لأمنهم ولإزدهار حياتهم وحياة الأجيال التالية. وفي مصر استقبل الاسكندر استقبال الفاتحين بسبب نقمة المصريين على الفرس، بسبب الضرائب الباهظة التي فرضوها عليهم، وكذلك بسبب عدم تعاملهم بالاحترام المطلوب مع عقيدتهم وشعائرهم ومقدساتهم.
واعتبر الاسكندر أن ما يجب أن يميّز اليوناني عن الآخرين ليس اللباس ولا السيف ولا الدرع بل هو الفضيلة. أما الأجنبي عن المملكة الجديدة فليس الفارسي ولا الهندوسي ولا البختياري بل هو الإنسان الجائر والمفتقد للفضائل الإنسانية. أما مقومات الحياة الأخرى مثل الطعام والشراب والزواج وأسلوب الحياة فيجب أن ينظر إليها كثقافة واحدة يشترك فيها الجميع عبر روابط الزواج والأولاد.
بعد قليل من إسقاطه للإمبراطورية الفارسية، قام الاسكندر بترتيب زواج نحو 10 آلاف من ضباطه وجنوده إلى نساء ينتمين إلى البلاد التي فتحها، وخصوصاً بلاد فارس، وهو سمح للجنود أن يعودوا إلى مقدونيا، لكنه احتفظ بزوجاتهم في بلدانهن، وكان يأمل أن يتشكل من الأولاد الذين سيولدون من تلك الزيجات المختلطة جيش يكون هو الأساس الذي ستبنى عليه الإمبراطورية الموحدة (أو ما يمكن اعتباره الكومنولث العالمي) وصفاتها الجامعة الجديدة.
وعندما كان في إيسوس، وبعد أسبوع من نصره الحاسم على جيوش داريوس نصب الاسكندر خيمة ضخمة حوّلها إلى مسرح لزواج جماعي بين مائة من قواده ومائة من نساء فارسيات. وقد نقل بلوتارك في كتابه عن حياة الاسكندر صورة حيّة عن أجواء ذلك الاحتفال، الذي أقيم على أثر المعركة، إذ قام الاسكندر بنفسه باصطحاب المحتفى بهم وكان أول من أطلق نشيد الزفاف ووجهه يطفح بشراً. وقد كتب ديماراتوس الكورنثي في ما بعد في تعليق على ذلك المشهد نقداً لاذعاً لأباطرة الفرس الذين أضاعوا عمرهم والموارد الهائلة في محاولة ربط أوروبا بآسيا عبر جسر فوق مضيق الدردنيل. «أخاطبك الآن أيها الملك الأحمق قورش الذي أنفق الجهود العقيمة والموارد في سبيل إنشاء جسر ضخم على الهلسبونت (الدردنيل حالياً). ألا فلتنظرجيداً!!، ذلك هو أسلوب الملوك الحكماء في جمع آسيا وأوروبا. ليس بصفوف الجسور الخشبية العائمة ولا بواسطة الأربطة الجامدة التي لا حياة فيها، بل عبر الرابطة العفيفة للزواج والفرح المشترك والأولاد هم يجمعون الشعوب بعضها إلى بعض.
بناءً على ذلك، اعتبر بلوتارك أن رسالة الإصلاح وحكمة الفيلسوف كانتا الدافع الأساسي لحملة الاسكندر الآسيوية وليس مجرد فتح الأمصار. لأنه «قاد رجاله وتحمل أقصى المخاطر والمشقات ليس من أجل أن يكسب لنفسه حياة العظمة والثراء، بل من أجل أن يحقق التوافق بين البشر ويفرض السلم ووحدة المصالح بينهم»، أي أنه أراد من حربه أن تكون الحرب التي تنهي كل الحروب. ولهذا السبب، فإن الاسكندر لم يتصرف مع الشعوب التي قهرها عسكرياً كتصرف الغازي أو تصرف الطغاة الذين يدمرون وينهبون، وقد كان ذلك الأسلوب شائعاً في الحروب في زمنه، لكنه حافظ على تلك البلاد كما لو كانت جزءاً من مملكته الموحدة وسعى فعلاً الى نشر الحضارة فيها وإسعادها وإصلاح شأنها، وبالتالي زرع الخير وبركات لا تمّحى في حياتها ومستقبل أجيالها.

كان يعلّي من قيم الشجاعة واحتقار الموت والشرف وزجر النفس وضبط أهوائها، وكان مقلاً في الطعام يهب الكثيـــر للآخرين ولا يبقي لنفســـــه إلا القلــــيل

الإسكندر-الأكبر-يدخل-بابل-
الإسكندر-الأكبر-يدخل-بابل-

أحد الأمثلة الساطعة التي تضرب على التوجه البعيد النظر الذي أظهره الاسكندر فور سيطرته على أكثر العالم القديم، هو محاولته التقريب بين الحضارتين اليونانية والفارسية بوسائط مختلفة منها (إضافة إلى تشجيع الزواج المختلط) التقريب في طريقة اللباس بما يؤدي إلى ظهوره هو كملك للفرس واليونانيين في آن. ويذكر ديودوروس سيكولوس أن الاسكندر «ارتدى قفطاناً ملكياً فارسياً ولبس تحته الثوب الفارسي الأبيض وألقى عليه الوشاح وكل ما عداه باستثناء السروال والسترة ذات الأكمام الطويلة، ثم أعطى لقواده عباءات ذات حواشٍ باللون الأحمر الفارسي كما ألبس خيله الأطقم والأسرجة الفارسية. وعبّر الاسكندر بذلك عن احترام لثقافة الشعب الذي بات الملك المطلق عليه. ويبدو أن سياسات الاسكندر هذه لاقت قبولاً كبيراً في الوسط الفارسي الذي قبله فعلاً كملك، إلا أنها اصطدمت كما يبدو بالتصلب المقدوني واليوناني وتمسك الكثيرين من أركان الاسكندر بالثقافة الهيلينية ورفضهم إخضاعها لتسويات تنتقص من صفائها. وسيكون الجدل حول هذه الأمور من بين أسباب الخلافات بين الاسكندر وبين عدد من أعوانه والمقربين منه، بل إنه سيؤدي في وقت ما إلى ما اعتبره الاسكندر مؤامرات استهدفته وانتهت بمحاكمات وبإعدام عدد من قواده، وبعض الذين كانوا مقربين منه.

فتوحات-الاسكندر-الأكبر-وإمبراطوريته
فتوحات-الاسكندر-الأكبر-وإمبراطوريته

عقيدة الاسكندر
على الرغم من وجود نوع من «العقيدة الرسمية» للمجتمع، فإن العصر اليوناني زاخر بالأمثلة على وجود تنوّع في العقائد والتفكير الديني استفاد من مناخ الحرية الفكرية وحرية الاجتهاد التي جعلت لكل فيلسوف في ما بعد مدرسة ونظرية في الوجود والكون وطبيعة القوة التي تحكمه. قد نشأ اتصال أكيد بين العديد من فلاسفة الإغريق وبين فكرة التوحيد، خصوصاً بسبب تأثير أفكار الحكمة المصرية، إلا أن المجتمع الإغريقي، كغيره من المجتمعات القديمة كان يضم من جهة عقائد العامة، والتي تركّزت على منظومة الآلهة التي بنيت حولها الميثولوجيا الإغريقية، إلا أنه ترك المجال واسعاً من جهة ثانية لنشوء مدارس التفكر والتأمل الميتافيزيقي في الوجود وأسراره، وهذه المدارس أنجبت حكماء وفلاسفة توصلوا إلى التوحيد عن طريق التأمل العقلي، ومن بين هؤلاء حكماء عظام مثل فيثاغوراس وسقراط واللذين يعتبر إختبارهما أقرب شيء إلى الاختبار الحكمي أو الصوفي الذي توصل إليه أعلام للتوحيد برزوا في تقليد الفيدانتا الهندوسية أو التاوية الصينية أو التصوف المسيحي والإسلامي.
ومن الملفت فعلاً أن يكون حكماء مثل فيثاغوراس قد حرصوا على كتم عقيدتهم وتعليمهم التوحيدي بسبب تناقضه مع عقائد العامة، أما سقراط الذي اتبع منهج الحوارات من أجل نشر حقائق «التصوف الإغريقي» إذا صحّ التعبير، فقد جاهر كما يبدو ببعض آرائه وتعرض من جراء ذلك لحملة من غوغاء أثينا أدت إلى الحكم عليه بالموت بتهمة «زعزعة عقائد الأجيال الشابة». وتعرض فيثاغوراس نفسه في حياته إلى حملات اضطهاد، كما تعرض أتباعه من بعده إلى محنة حقيقية اضطرتهم إلى ستر عقائدهم وتداولها سراً قروناً من الزمن. لكن يستنتج من النفوذ الكبير الذي كان للفيثاغورسية لوقت طويل في اليونان القديمة، وكذلك لشعبية المعلم سقراط ثم تلميذه أفلاطون أن فكرة التوحيد بمعناها الصوفي لم تكن غريبة عن أوساط النخبة وإن كانت بعيدة عن عقيدة العامة. لكن التوحيد في اليونان القديمة اتخذ منحى فلسفياً، وكان نتاج التفكر والتأمل والحوارات الجدلية للنخبة، وهو في أحسن حالاته لم يكن سوى عقيدة أقلية وليس ديناً.
في هذا الإطار، طرح السؤال تكراراً حول عقيدة الاسكندر وجاء الجواب غالباً أنه كان «وثنياً»، وأنه كان يعبد آلهة الإغريق. ولا يوجد بين العديد من المصادر الغربية من قدّم صورة مقنعة عن عقيدة الاسكندر باستثناء ما روي عن احترامه الشديد لآلهة الإغريق ولمعتقداتهم. وبالطبع ينسجم تصنيف الاسكندر هذا مع التعميم الذي نشأ بسبب قيام المسيحية بين ما هو قبل ميلاد ورسالة السيد المسيح وبين ما جاء بعده. فالتعريف هنا تاريخي أكثر منه تعريف محدد لمعتقدات الاسكندر التي لا يوجد دليل تاريخي يمكن أن يوضح حقيقتها.
فمن جهة، كان مشروع الاسكندر الذي استهدف توحيد الممالك اليونانية تحت رايته يتطلب الضرورة منه أن يظهر كل الاحترام لمعتقدات العامة، ولا يوجد في هذا الموقف المتعقل ما يشير بأي حال إلى ما كان يجول في ضمير الملك أو إلى قناعاته الخاصة. أضف إلى ذلك أن الاسكندر في سعيه إلى توحيد شعوب مملكته الواسعة أظهر الاحترام نفسه لثقافة الفرس والشعوب التي قهرها، ومن المؤكد أنه لم يكن ليفرض عليها تبديل معتقداتها، وكان سيظهر الاحترام لتلك المعتقدات. لكن وفي ما عدا احترامه لمعتقدات العامة، فإن كل ما ظهر من الاسكندر يدلّ على أنه كان متقدماً جداً في تفكيره، وأنه كان بالدرجة الأولى محباً للحكمة، متعلقاً بالزهد والصالحين. وقد كان أول ما فعله بعد اعتلاء العرش ليس تقديم القرابين أو عقد الاحتفالات الطقسية، بل زيارة الحكيم الزاهد ديوجينوس والاجتماع به على قارعة الطريق، حيث كان يجعل منزله صندوقاً خشبياً صغيراً. ومن الصعب أن لا يرى المرء في تلك المبادرة إشارة مهمة من الاسكندر على احترامه للحكمة وعلى تعلّقه بها، وهو الذي أعرب عن احترامه الشديد لهذا الزاهد مخاطباً إياه بالقول: «لو لم أكن الاسكندر لكنت ديوجينوس». وقد شرح بلوتارك معنى هذا القول الاسكندري بالقول إن الملك عقد مقارنة بين ديوجينوس الزاهد لكن الذي لا يستفيد من علمه إلا قليل وبين الرسالة التي أعدته الأقدار لها، وهي نشر الخير والصلاح في العالم عن طريق العمل والفتوحات وتعليم المجتمعات.
والواقع أن حكمة الاسكندر وروحانيته المكتملة تجسدتا بالدرجة الأولى في سيرته وأعماله وفي خصاله، كما تجسدتا أيضاً في التعليم الذي أعطاه سواء بالقول أو بالمثال. وقد نقل عنه أنه كان يعطي أهمية كبيرة لقيم الشجاعة واحتقار الموت والشرف وزجر النفس وضبط أهوائها والتضحية بالذات، وأنه كان مقلاً في الطعام وكريماً يهب الكثير للآخرين، ولا يبقي لنفسه إلا القليل، كما أنه عرف باجتنابه أعمال المجون التي كانت شائعة بين معاصريه وعفته في التعامل مع النساء.
وعرف بأنه دمث الخلق، نزيه في التعامل، وفيّ لأصحابه، كريم من دون تبذير، قاطع وسريع في تنفيذ ما يعزم عليه، وكان شريفاً يرتفع بسمو وكبرياء فوق الصغائر ودناءات النفوس. وقد كان سلوكه ملكياً في كل مناسبة وكان حليماً صبوراً، لكن كان في قوته ومهابته مثل أسد هصور. كما أنه كان عنيفاً في معاملة الأشرار، رحيماً في التعامل مع البائس والمضطر. وفي كل ما يتعلق باهتمامات البطولة والقتال والنصر في المعارك كان الاسكندر شعلة من حماس ملتهب وقوة جسدية خارقة لكنه في الوقت نفسه لم يكن مهتماً بتعظيم نفسه كما كانت حال ابيه الملك فيليب، كما أنه لم يكن ليعبأ كثيراً بأبطال القوة الجسدية ومنافسات الرياضة بقدر ما كان يرسل ماله لتكريم كتّاب المسرح والموسيقيين والممثلين. وقد كان يتحمس لأي شكل من أشكال الصيد أو المبارزة على الخيل لكنه لم يشجع ابداً ألعاباً عنيفة مثل الملاكمة أو لعبة المصارعة الحرة.

لوحة-فسيفساء-وجدت-في-أطلال-مدينة-بومبي-الإيطالية-تظهر-الاسكندر-مهاجما-وداريوس-الخائف-يستعد-للانسحاب
لوحة-فسيفساء-وجدت-في-أطلال-مدينة-بومبي-الإيطالية-تظهر-الاسكندر-مهاجما-وداريوس-الخائف-يستعد-للانسحاب

إضافة إلى شجاعته الاسطورية، فإن أهم عناصر شخصيته الملكية كانت الرقي والتواضع الطبيعي. وقد كان الاسكندر مهذباً ولبقاً يجانب اللغو ويكتفي أحياناً بموقف المستمع. ولم يكن به أي ميل لإظهار قوته أو للطغيان، وقد كان يوماً بين الحضور لمباراة بين فرقتين مسرحيتين مشهورتين في اليونان وقد صوتت لجنة التحكيم، كما يبدو للفرقة التي لم يكن يؤيدها الاسكندر وخسرت الفرقة التي يرعاها. وقد علّق الملك بعد ذلك أنه كان يفضل خسارة نصف مملكته على أن تخسر تلك الفرقة التي كان يفضلها، أي أن الاسكندر الذي دانت له الأرض قبل ببساطة قرار لجنة التحكيم ولم يحاول أبداً التدخل لصالح الفرقة التي كان يميل إليها.

شهامة في الحروب
في حروبه مع الفرس، أظهر الاسكندر أعلى درجات الشهامة والأدب في التعامل مع الخصوم فهو مثلاً أمر بترتيب مراسم دفن واحدة لقتلى الفرس والمقدونيين بعد معركة غرانيكوس، وهي الأولى التي واجه فيها الجيش الفارسي وأوقع به خسائر كبيرة، كما أنه أظهر خصاله النبيلة في التعامل مع عائلة داريوس التي وقعت في الأسر خلال معركة أيسوس بعد فرار الملك الفارسي. إذ جرت معاملة أفرادها معاملة الملوك مع كثير من الرفق والتبجيل، وقد أدت تلك العلاقة إلى قيام رابطة محبة قوية بين أسرة الملك الفارسي والاسكندر إلى حد أن والدة داريوس سيسيغامبيس رفضت الطعام وماتت من الحزن بعد أيام فقط من تلقيها نبأ موت الاسكندر.
عندما أعجب ببروكسانا ابنة أحد أمراء فارس الآسيوية والذي قهره الاسكندر، لم يلجأ الملك إلى استرقاقها وقد أصبح ملك العالم وكانت هي علمياً أسيرته بل عرض أن يتزوجها. كذلك عندما بلغ المكان الذي قتل فيه داريوس ووجد الملك القتيل وقد اخترقت جسده الرماح لم يكن ردّ فعله العفوي التعبير عن أي مظهر من مظاهر الفرح بنهاية خصمه الذي خاض الحروب القاسية لإلحاق الهزيمة به، بل كان أن خلع بمهابة وحزن رداءه وغطى به جسد الملك المسجى، وهو استتبع ذلك بإعطاء أرفع مظاهر التكريم للملك الصريع وترتيب جنازة ملكية له وضمان دفنه في عاصمة مملكته في برسبوليس.
يشير المؤرخون أيضاً إلى أن الاسكندر استنكر اقتراحاً من قواده بشن هجوم ليلي على معسكر داريوس الثالث عشية المعركة الفاصلة في غاوغاميلا (أربيل كردستان حالياً)، إذ أنه اعتبره يناقض مبدأ الشرف وإعطاء الخصم فرصة متكافئة للمواجهة في ميدان القتال (قارن ذلك بأخلاق الحروب والسياسة في أيامنا)، كما أنه قمع بشدة بعد أن دانت له مملكة فارس أي محاولات من الجاليات اليونانية التي كانت تعيش في الإمبراطورية الفارسية للانتقام من الفرس أو الافتئات عليهم وعلى حقوقهم.
والواقع أن هناك ما لا يحصى من الروايات التي تظهر شخصية الاسكندر الفذة والآسرة للقلوب، ومن السهل لذلك لأي متابع أن يرى في هذه الصفات والمناقب خصالاً لا يتمتع بها إلا النادر من أهل الحكمة والحصافة والرشاد، وهي بالتالي لا بد أنها تقدم أوضح مؤشر على حقيقة إيمان الاسكندر وسره الذي لم يطلع عليه أهل زمانه. لكن أحدى كرامات الاسكندر أن الإرادة الربانية ستمن على هذا الملك الحكيم في ما بعد بأعظم تكريم، إذ سيرد ذكره في القرآن الكريم في سورة الكهف مشاراً إليه بـ «ذي القرنين». وهو اسم اتفق أكثر المجتهدين والمفسرين وكتّاب السيرة وعلى رأسهم ابن هشام على أنه الاسكندر المقدوني. وقد أشار القرآن الكريم إلى «ذي القرنين» بعبارات جعلت المفسرين يعتبرونه ولياً إذ جاء فيها تأكيد الله جل وعلا على التأييد الذي منحه للملك } إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا{ (الكهف:84) قبل أن يشير المولى جل وعلا إليه بصيغة المخاطبة وبلغة الوحي إذ قال } قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا{ (الكهف:86) وهذا شرف ما بعده شرف لم يحظَ به إلا بعض الأنبياء من الذين خاطبهم الله في القرآن مباشرة أو وحياً. وفي هذه الآية يفوض الله لمن يعتقد أنه الاسكندر الأكبر أن يقرر أسلوب التعامل مع ذلك الشعب الذي يذكر القرآن الكريم أن ذا القرنين صادفه في مسيرته بين مشرق الأرض ومغربها.
صحيح أن تعيين هوية الملك الذي أشار إليه القرآن الكريم بإسم «ذي القرنين» بقي عرضة للاجتهاد، إذ قال بعضهم إنه قورش الكبير أو إنه ملك يمني من حمير أو غير ذلك لكن أكثر المجتهدين والمفسرين الذين يعتمد عليهم مالوا إلى اعتبار أن المقصود بـ « ذي القرنين» ليس سوى الفاتح المقدوني. وفي ضوء ذلك، فإن الاسكندر الأكبر يصبح في تعريف القرآن، ليس فقط مؤمناً، بل ملكاً مختاراً ومقرباً. وقد ذكر ابن هشام أن تسمية الاسكندر بـ «ذي القرنين» اعتبرت إشارة إلى فتحه للعالم بشرقه وغربه أو امتداد ملكه بين أوروبا من جهة والقارة الآسيوية من جهة مقابلة.

علاقة الاسكندر بمعلمه أرسطو
لم يكن الملك فيليب ليصرف وقتاً على تربية ولده الاسكندر، وذلك بسبب انشغاله الدائم بالحروب والحملات الخارجية. لذلك قرر أن يعهد به إلى الفيلسوف أرسطو الذي كان بدوره تلميذاً لأفلاطون الحكيم، علماً أن افلاطون كان من أبرز مريدي المعلم سقراط، وبهذا المعنى فقد كان الاسكندر متصلاً بسلسلة فريدة من سلاسل الحكمة والمعارف بدأت بسقراط ثم بأفلاطون ثم بأرسطو. هذه السلسلة من الحكمة التي ضمت بعض أعظم حكماء العصور صبت عند الاسكندر في تواتر يكتسب في حد ذاته دلالة كبيرة ويشير إلى عظمة الرجل.

مقبرة-قورش-مؤسس-الإمبراطورية-الفارسية
مقبرة-قورش-مؤسس-الإمبراطورية-الفارسية

الصفات والخصال التي أظهرها لا يتمتع بها إلا النادر من أهل الحكمة وهي تقدم أوضح مؤشر على حقيقة إيمان الاسكندر وسرّه الذي لم يطلع عليه أهل زمانه

مرحلة الدراسة
درس الاسكندر على يد أستاذه في مييزا في مقدونيا مع عدد من الأمراء وأبناء النبلاء الذين سيصبح قسم منهم أصدقاءه وجنرالات في جيشه ويطلق عليهم اسم «الرفاق»، كما سيرتقي بعضهم ليصبحوا حكّاماً وملوكاً في ما بعد. وبالنظر إلى طبيعة التلامذة الذين أرسلوا بهدف إعدادهم للحكم فقد كانت المادة التي يقدمها الفيلسوف اليوناني مادة كلاسيكية ومتفقة مع ما كان مطلوباً لتهيئة طلابه للحياة العامة، ولم تكن علاقة أرسطو بتلامذته بالتالي كتلك التي نشأت بين حكماء اليونان ومريديهم. كما أن المادة التي درسها أرسطو لم تكن الفلسفة مادتها الأولى بل كانت مجموعة من العلوم التي تضمنت السياسة والأخلاق والرياضيات والدين وعلم الفلك والمنطق والشعر والبلاغة، وكان فن الخطابة والجدال المنطقي (دحض الحجة بالحجة) من أهم الفنون التي يتم تدريب حكّام المستقبل على إتقانها.
ويبدو أن اهتمام الاسكندر تركز على فرع خاص من العلوم هو العلوم الطبيعية والطب الذي كان أرسطو أحد أساطينه وهو أعدّ كتاباً عن عالم الحيوان وآخر عن عالم النبات، ولم يكن اهتمام الأمير الشاب بالطب ترفاً فكرياً بل بغرض عملي، إذ أن الاسكندر تعلم الطب وكان طيلة حياته يصف الأدوية ويصنعها للمرضى من أصدقائه ومعارفه. وعندما بدأ الاسكندر حملته على آسيا، فإنه كان متأثراً بأرسطو، فقد حرص على أن يصطحب معه مجموعة كبيرة من علماء الحيوان والنبات والذين عادوا من آسيا بمعلومات ونماذج ساعدت في تحقيق كشوفات علمية مهمة على أصعدة علم الحياة والزراعة والطب.
مكث الاسكندر في مدرسة أرسطو ثلاث سنوات إلا أن والده اضطر سنة 340 ق.م. للتوجه على رأس حملة عسكرية لإخضاع إحدى الممالك المتمردة شمال شرق مقدونيا (Thrace)، لهذا فقد طلب الملك فيليب من ابنه ذي الستة عشر ربيعاً قطع دراسته والعودة إلى بيلا عاصمة المملكة ليشغل منصب نائب الملك والحاكم الفعلي للمملكة أثناء غيابه.

الفيلسوف-أرسطو-أشرف-على-الاسكندر-الشاب-لكن-الملك-احتفظ-بشخصيته-وآرائه-المستقلة
الفيلسوف-أرسطو-أشرف-على-الاسكندر-الشاب-لكن-الملك-احتفظ-بشخصيته-وآرائه-المستقلة

بين الملك والفيلسوف
بالنظر لإقامته القصيرة في مدرسة أرسطو وطبيعة البرنامج الذي خضع له مع زملاء له، فقد نشأ تباين بين المؤرخين في تقدير حجم التأثير الذي مارسه المعلم على تلميذه فمنهم من يعتقد أن أرسطو مارس تأثيراً مهماً على الاسكندر خصوصاً في مجال علم السياسة وإدارة الدولة والمنطق وبصورة عامة في العديد من النواحي التي ساعدت على تكوين رؤيته للعالم. وقد بلغ من تعلق الاسكندر بمعلمه أرسطو أن اعتبره بمثابة والده الروحي وهو كان يعقد المقارنة دوماً بالقول إن والده الطبيعي منحه الحياة بينما ساعده أرسطو على أن يعيش تلك الحياة بصورة أفضل.
إلا أن من المؤرخين من يعتقد أن السنوات الثلاث التي قضاها الملك الشاب في مييزا وإن كانت قد زودته بنظرة إلى العلوم الأساسية والنظرية التي كان يدرِّسها أرسطو، إلا أنها لم تكن العامل الأساسي في تكوين شخصيته الفذة، وهو الذي كان أظهر علامات العبقرية والتفرد منذ صغره. حجة هذا الفريق أن الشجاعة المذهلة للاسكندر في الحروب واحتقاره للموت وخصاله الملكية الرفيعة وعبقريته العسكرية لم تكن نتيجة الدرس في كتب، بل كانت ملكات طبيعية ولدت معه وتفتحت بسرعة ربما في سياق القدر الذي كتب له أن يلعبه في مسيرة البشرية. إلا أن العامل الأهم الذي اعتبره المؤرخون دليلاً على استقلال الملك بآرائه عن معلمه هو التباين بين نظرة السيادة اليونانية التي تبنّاها الفيلسوف وبين النظرة العالمية للاسكندر. إذ اعتبر أرسطو كغيره من الفلاسفة اليونانيين في زمانه أن اليونان هي النموذج الوحيد للحضارة الإنسانية في العالم بينما نظر إلى الشعوب الأخرى باعتبارها من صنف البرابرة الذين لا يوجد لهم أي اهتمام بما يتعدى الحاجات الطبيعية الأساسية والبعيدين بالتالي عن أي فهم للشؤون الروحية والفكرية السامية التي بنيت عليها الحضارة الهيلينية. وبناء على تلك النظرة فقد اعتبر أرسطو أن تلك الشعوب ليست مؤهلة لأن تمارس حقوق المواطنة أو أن تمنح مؤسسات كالتي تقوم عليها حضارة اليونان، ولهذا فهو نصح تلميذه الاسكندر بأن يميّز في المعاملة بين اليونانيين وبين «الشعوب البربرية» التي أخضعها فيكون ملكاً على اليونانيين يعاملهم كأصدقاء وكمواطنين ويكون حاكماً مستبداً على البرابرة الذين يتم إخضاعهم. ويشير بلوتارك إلى أن الاسكندر افترق عن معلمه في هذا الشأن إذ كان قد طور آنذاك رؤيته السباقة لمجتمع عالمي واحد يسوده السلام وتدار أموره بعقلانية واحدة وقوانين واحدة وعدالة لا تفرق بين يوناني وأجنبي.

تأثير كتاب «سر الأسرار»
تختلف الصورة السابقة بالطبع عن النظرة التي استقرت لفترة طويلة عن العلاقة الوثيقة بين أرسطو والاسكندر وخصوصاً تأثير الأول على الثاني. وهي صورة تعود ربما وبالدرجة الأولى إلى عامل تاريخي هو التأثير الذي مارسه الكتاب المعروف بإسم «سر الأسرار» أو «السياسة والفراسة في تدبير الرئاسة» في التصور العام للعلاقة بين الرجلين. والكتاب المشار إليه موضوع، وقد نسب عدة قرون إلى أرسطوطاليس وتمّ تداوله بلغات عديدة باعتباره رسائل بعث بها الفيلسوف اليوناني إلى «تلميذه قائد اليونان الأكبر الاسكندر ذي القرنين». ويتضمن الكتاب الكثير من العلوم والفروع التي يفترض أن أرسطو سطرها خصيصاً لتلميذه وخصوصاً في السياسة وإدارة الحكم وجاء في مقدمة الناسخ أن الاسكندر «استوزر أرسطو وارتضاه واستخلصه واصطفاه»، كما جاء فيه أن الاسكندر تمكن من أن يسود العالم بسبب أنه اتبع رأي الفيلسوف «فلم يخالف له قولاً ولم يعصِ له أمراً»، وبالطبع فإن هذا التقديم للكتاب وحده كافٍ ليجعل من الاسكندر تلميذاً نجيباً للفيلسوف بل صنيعة له وتابعاً.
لكن من المتفق عليه أن كتاب «سر الأسرار» الذي لا يوجد له أصل باليونانية منحول ولا صلة له بالتالي بالفيلسوف اليوناني. وقد وضع الأصل باللغة العربية في القرن العاشر الميلادي وظهرت أول ترجمة لاتينية له عن العربية في منتصف القرن الثاني عشر. لكن على الرغم من ذلك، فإن نسبة الكتاب إلى أرسطو جعلت له تأثيراً كبيراً في القرون الوسطى فترجم إلى اللاتينية أولاً ثم إلى العديد من اللغات الغربية. إلا أن الاهتمام به ضعف كثيراً منذ منتصف القرن السادس عشر بعد أن تأكد أنه موضوع.
أضف إلى ما سبق أن تواصل الاسكندر مع أستاذه توقف بعد قليل من اعتلاء الملك لعرش مقدونيا وبدء حملته الآسيوية المضنية، إذ أن الاسكندر انشغل بالتحضير للحملة بينما غادر أرسطو مقدونيا إلى أثينا بهدف تأسيس أكاديميته (ليسيوم) سنة 335 ق.م. أي بعد سنة فقط من اعتلاء الاسكندر لعرش مقدونيا سنة 336 ق.م. وهو لن يجتمع به أبداً بعد ذلك طيلة الفترة الأهم من حياته وهي الحروب الآسيوية التي ستمتد لـ 12 عاماً وحتى وفاة الملك المقدوني سنة 323 ق.م. وبهذا المعنى، فإن الاسكندر الذي أمضى بقية حياته في الجبهات لم يكن ممكناً له أن يستوزر أرسطو، ولهذا فإن المعروف من تأثير الفيلسوف على الاسكندر هو ما يتصل بمرحلة التعليم التي خضع لها الأمير الشاب في صباه. فضلاً عن ذلك، فإن العلاقة بين الرجلين أثر عليها أيضاً النضج السريع الذي اكتسبه الملك الفاتح خلال حملاته واحتكاكه بمختلف أنواع الشعوب وتعرفه على المدى الشاسع لجغرافية آسيا، وقد أدت تلك الاختبارات إلى إغناء الرؤية المستقلة التي كانت للاسكندر، والتي ازدادت نضجاً ووضوحاً مع الزمن.

 

كتاب سر الأسرار المنسوب لأرسطو
كتاب سر الأسرار المنسوب لأرسطو

سر الاسكندر
اعتبر الاسكندر في زمنه ظاهرة تعلو على الطبيعة الإنسانية فقدسه معاصروه من اليونانيين، كما فعلت ذلك أيضاً بعض الشعوب التي أخضعها الملك. وقد اتسع تقديس الاسكندر بعد وفاته ليدخل في العقائد اليهودية والمسيحية، كما اعتبر ذكره المطول في سورة الكهف من القرآن الكريم تثبيتاً لمكانته كمرسل أو كحاكم صالح تعهدت إليه الإرادة الربانية بأعمال محددة في خدمة العباد. واختلطت العقائد الشعبية حول قداسة الاسكندر بعدد كبير من القصص الشعبية التي نسب للاسكندر شتى الخوارق وحوّلته إلى بطل اسطوري، وقد جمعت تلك القصص مع الوقت تحت عنوان «قصة الاسكندر» Alexander Romance، وانتشرت بلغات عدة بما في ذلك العربية تحت اسم «قصة الاسكندر».
وبغض النظر عمّا نسج حوله من قصص بعد حياته، فإن الاسكندر اعتبر أسطورة حيّة في زمانه، كما اعتبر فتحه للعالم القديم بتخومه الشاسعة وتنوع جغرافيته وشعوبه بجيش صغير نسبياً، وفي مدة قصيرة، نوعاً من الخوارق أيضاً. لكن اللافت هو أن حياة الاسكندر تضمنت حسب التدوين التاريخي أسراراً وعلامات عززت المعتقد الشعبي الذي اعتبره رجلاً من رجال الله مؤيداً ومبعوثاً لمهمة معينة وليكون آية للعالمين.
فقد ذكر أن والدته حلمت قبل ولادته أنها تمسك بشهاب من نار في يدها كما حلم والده الملك فيليب أنه وضع ختماً على جسد زوجته وكان الختم عندما تأمله في المنام على شكل وجه أسد. وقد سأل الملك عن مغزى هذا الحلم فقال له بعضهم أن عليه الانتباه لزوجته أولمبياس، لكن أحد مفسري الأحلام المقربين منه أنبأه أن معنى الحلم هو أن زوجته تحمل طفلاً ذكراً سيكون مضرب مثل في الشجاعة والبطولة.
وذكر المؤرخون أن أبرز ما اشتهر به الاسكندر هو الرائحة الزكية لجسده ولثيابه، والتي كانت تفوق في أثرها عبق المسك أو العنبر، وقد حار المقربون من الملك في تفسير سر تلك الرائحة التي لم تفارقه وقد عزاها بعضهم الى طبعه الحار الذي يحرق كل الخبائث، بينما اعتبرها البعض الآخر بكل بساطة علامة على صفاته الملكية وعلى كرامة من السماء تشير بها إلى مقامه وإلى اصطفائه على غيره من البشر.
وقد تخللت حياة الاسكندر أحداث اعتبرت في حدّ ذاتها علامات ملغزة مثل إخضاعه بسهولة وبسلوك ماهر وحكيم للحصان المتمرد بوسيفالوس، وكان بعد صغيراً مما اعتبر إشارة إلى شخصية استثنائية من حيث الشجاعة والحكمة والقوة والتأثير. ثم هناك زيارته بعد اعتلائه العرش للحكيم ديوجينوس ثم ذهابه إلى غورديوم وقطع العقدة الغوردية بسيفه ثم سفره وحيداً على ظهر باخرة إلى مضيق هلسبونت مفتتحاً الحملة على آسيا برمية رمح من الباخرة باتجاه اليابسة، ثم زيارته إلى أطلال طروادة ووضعه أكليلاً على قبر البطل أخيلوس ثم سفره إلى أعالي مصر وسط مخاطر الصحراء لزيارة معبد آمون المصري، حيث أخبره الكهنة أنه سيسود على آسيا والعالم. وذكرت الروايات أن الاسكندر أكرم من القدرة بمطر غزير رافق رحلته وخفف عنه قيظ الصحراء، كما أنه أرشِد إلى طريق المعبد عبر الصحارى بواسطة سرب من الغربان الذي بقي يطير أمامه إلى أن بلغ وجهته.
وأظهر الاسكندر قوى خارقة عقلية مثل قدرته على أن ينادي 3000 من جنوده وقواده كلٌّ باسمه، هناك أخيراً معجزة بقاء الاسكندر على قيد الحياة رغم عشرات المعارك التي خاضها والجراح الخطرة التي تعرض لها. لكن أعظم كرامات الاسكندر التي اعتبرت دليلاً على تأييد كبير له من القدرة كانت شجاعته الاسطورية واحتقاره للموت وانطلاقه بكل حماس لمقارعة الصناديد وأبطال الجيوش، وهو في مقدمة الجيش مرتدياً لباساً مميزاً جعل التعرف عليه ومحاولة قتله سهلين على خصومه. ثم هناك أخيراً ما روي أنه وقبل ساعات من الملحمة الشرسة والفاصلة مع داريوس في غاوغاميلا ذهب إلى خيمته حيث وجده قواده يغط في نوم عميق وهو ما اعتبر في حد ذاته مأثرة عجيبة تدل على إيمان أو يقين بالنصر صعب على كثيرين إيجاد تفسير له في ذلك الزمن.

مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا--االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا–االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها

نذر موته في بابل
كما أن حياة الاسكندر أحيطت بالأسرار، فإن موته أيضاً رافقته ظواهر وأسرار ذات دلالة. فهو عندما أمر جيوشه سنة 323 ق.م. بالاستعداد للتوجه إلى بابل، قابله في الطريق بعض كهنة الكلدان ونصحوه بعدم دخول المدينة لأن ذلك سيترافق بخطر على حياته، كما نُصِح الملك بأن دخول المدينة ووجهه يقابل مغرب الشمس علامة نحس لأنه يشير إلى غروب شمس مملكته، وهو نصح لذلك بدخول المدينة من جهة يواجه فيها مشرق الشمس، وهو ما فعله إلا أن تلك الناحية كانت زاخرة بالمستنقعات وصعبة المسالك ويبدو أنها كانت أيضاً زاخرة بالبعوض وهو أحد الأسباب التي قال العلماء إنها قد تفسر إصابة الاسكندر بالملاريا بعد أيام فقط من دخوله بابل.
تلتقي نبوءة الكهنة الكلدانيين مع نبوءة أخرى حصلت في الفترة نفسها تقريباً من أحد زهاد الهنود العراة المدعو كالانوس. وكان الاسكندر التقى كما يبدو في مناطق الهند النائية بزهاد وحكماء يعيشون في العراء أو الكهوف ويقتاتون مما تجود به الأرض من غذاء، وهو ما جعله يدرك أكثر أن شعوب تلك المناطق ليسوا برابرة بل لديهم إرث غني جداً من الحياة الروحية والحكمة، وأن لديهم بالتالي ما لا يحصى من الحالات من أمثال ديوجينوس اليوناني.
أحد هؤلاء الذين التقاهم كان من منطقة البنجاب وكان قديساً وحكيماً وقد طلب منه الاسكندر أن يرافقه في طريق العودة إلى بابل وأن يبقى في جواره. وفي طريق العودة وكان الاسكندر لايزال بعيداً عن بابل ولم يقرر بعد التوجه إليها أخذ هذا الزاهد الغريب المسمى كالانوس قراراً فاجأ الاسكندر وحاشيته إذ أنبأ الملك بأنه بات كهلاً لا يرجى منه شيء وأنه قرر وضع حد لحياته الدنيوية بواسطة النار. وعبثاً سعى الاسكندر لإقناعه لكن الرجل أصر وقام جنود الاسكندر بناء على طلب الرجل بإعداد محرقة كبيرة تم إيقادها ثم مضى الزاهد الهندوسي إليها رابط الجأش وكان وفقاً لتقاليد مذهبه قد طلى جسده كله بالرماد وجلس وسط النيران كما لو أنه يجلس في هواء عليل حتى اندمج بالحريق واضمحل تدريجياً أمام الأعين المشدوهة للحاضرين. لكن اللافت أن الزاهد الهندوسي قال للاسكندر وهو يتجه صوب النار: «سنلتقي في بابل». وقد حيّرت كلمة الحكيم الهندوسي الحاضرين ولم يفهم مغزاها. لكن وفاة الاسكندر بعد قليل من دخوله بابل اعتبرت تفسيراً كما اعتبرت دليلاً على أن الحكيم كان يعلم غيوب الأمور وأنه تنبّأ بموت الاسكندر في بابل وأراد أن يترك إشارة إليها قبل أن يفارق جسده في سعير النار.

أكثر المجتهدين والمفسرين وكتاب السيرة وعلى رأسهم ابن هشام اتفقوا على أن الاسكندر هو الذي كرّمــــــه القرآن الكــريم بإسـم «ذي القرنين»

لوحة-تخيلية-تظهر-المعلم-أرسطو-يلقي-دروسه-على-الاسكندر-الشاب
لوحة-تخيلية-تظهر-المعلم-أرسطو-يلقي-دروسه-على-الاسكندر-الشاب

خاتمة
توافق أكثر المؤرخين على أنه لو قيض للاسكندر أن يعيش عمراً كاملاً فإن وجه البشرية كان ربما تغيّر إلى الأبد، ذلك أن الاسكندر الأكبر تمكن في سنوات معدودة من أن يحدث ثورة في حضارة العالم فهو فتح الممالك ووحدها وسعى الى مزج الأعراق وأسس المدن ونشر الثقافات وأسس لقيم جديدة في الفضيلة والتآخي البشري، لذلك وبسبب طاقاته الهائلة وعزيمته الجبارة وحكمته وحصافته فإن الاسكندر لو عاش حياة مديدة كان في إمكانه أن يبدل في وجه البسيطة ما يعجز عن تصوره أي إنسان وأن يجعل فيها نظاماً حضارياً جديداً ومديداً.
لكن لله الحكمة البالغة وهو القائل
} ولو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ{
(هود: 118)
}لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ{ (المائدة 48). لقد كان الاسكندر متحركاً بحس الرسالة والدور التاريخي وكان يعتقد واثقاً أن لديه من الإدراك والوسائل لتحقيق تلك الرؤية السباقة لكن كان من الواضح أن لله في خلقه أمراً آخر، ولهذا السبب ربما فإن هذا البطل الذي خاض أقسى المعارك وأخضع العالم ولم تقوَ عليه السيوف والنبال مات شاباً في أوج انتصاراته على يد بعوضة (بمرض يعتقد أنه الملاريا) ولم يقيّض له بالتالي أن يرى تحقق حلم البشرية الواحدة، وفي ذلك عبرة وتذكير من الله جل وعلا بأنه فعّال لما يريد وإنه هو الذي } يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ{ (السجدة:25).

من أقوال الاسكندر الأكبر الخالدة

أنني أفضل أن أتفوق على الآخرين بالمعرفة والكمال على أن أتفوق عليهم بجبروتي واتساع ملكي.
لا يوجد مستحيل لذاك الذي يبذل جهده.
قالها وهو يتقدم صفوف الجنود في الهجوم على قلعة محصّنة
إن من أشد أنواع العبودية على الإنسان هو الارتهان لسهولة العيش وأن الأخلاق الملكية هي أخلاق العمل والجدّ.
في تعليق له على انغماس بعض أصحابه في الرفاهية ومتعها
مخاطباً الأموات والقتلى بعد معركة شيرونا التي انتصر فيها الجيش المقدوني على تحالف الممالك اليونانية:
أيتها الأرواح اللطيفة للأموات، لست أنا من يتحمل مسؤولية مصيركم البائس والمرير بل هي الخصومة الملعونة التي تجعل الشعوب الشقيقة تقاتل بعضها بعضاً. لا أشعر بالسعادة لهذا الانتصار بل على العكس إنني كنت سأسعد لو رأيتكم جميعاً واقفين إلى جانبي باعتبارنا أمة عظيمة توحدها اللغة والدم والنظرة الواحدة للكون.
لست ممن يأخذ النصر خلسة أو يسرقه.
قالها رداً على اقتراح قائد جيشه بارمنيو شنّ غارة ليلية على معسكر داريوس بهدف كسب المبادرة وتشتيت الجيش الفارسي قبل طلوع شمس يوم القتال.
عندما وصلته رسالة من داريوس يعرض عليه تقاسم مملكته مقابل عقد الصلح وإعادة أسرته الأسيرة إليه، نصحه قائده بارمنيو بقبول العرض قائلاً: لو كنت الاسكندر لقبلت العرض. وقد ردّ الملك على الفور: وأنا لو كنت بارمنيو لقبلت العرض!!. وفي هذا الجواب المفحم إشارة إلى الفارق بين الملك صاحب الرسالة والرؤية والشجاعة وبين القائد العسكري المفتقد لجسارة وبصيرة الملوك.
عندما دعاه أصدقاؤه، وكان بعد أميراً فتياً، لدخول المباراة الأولمبية وقد كان أسرع أقرانه في الجري، أجاب الاسكندر على ذلك بأن سأل: هل الذين سينافسونني في المباراة ملوك؟ فلما أجيب بالنفي قال إن سباقاً كهذا لن يكون عادلاً لأني لو ربحت فسيكون ذلك فوزاً على أحد عامة الناس وإن خسرت فسيكون ذلك خسارة لملك.
قبل معركة أيسوس توجه الاسكندر إلى جيشه بهذه الكلمات:
«إن خصومنا الميديين والفرس هم رجال اعتادوا عبر القرون حياة الرفاه والنعومة أما نحن المقدونيين فقد تربينا منذ أجيال في المدرسة الصعبة للمخاطر والحروب، أضف إلى ذلك أننا قوم أحرار أما هم فمن صنف العبيد. صحيح أن هناك يونانيين يقاتلون في صفوفهم لكن شتان بين القضية التي يقاتلون من أجلها وهي المال والقليل منه وبين قضيتنا التي نذرنا لها أنفسنا وهي قضية اليونان. إن جيشنا الذي يضم أقوى وأصلب المحاربين في أوروبا سيجد في مواجهته جيوشاً هشة ضعيفة العزيمة،كما أن جيشكم هو بقيادة الاسكندر أما جيشهم فقائده داريوس!!»
لأنني اخترت أن يكون هدفي دمج ما هو أجنبي بما هو يوناني وأن أفتح القارات وأنقل إليها روح الحضارة وأن استكشف أقاصي الأرض والبحار وأن أوسع حدود مقدونيا باتجاه المحيطات البعيدة وأن أنشر وأعمم بركات الحضارة اليونانية وعدالتها على جميع الأمم، فإنني لم أقبل الجلوس الهانئ في نعم السلطة والثروات بل اخترت أن اتشبه بتقشف ديوجينوس الحكيم وقوة وصلابة هرقل وأن اتبع خطى برسيوس وديونيسيوس وهو الأب الروحي لعائلتي. وكلي أمل بأن أرى اليونانيين المنتصرين يحتفلون في بقاع الهند ويحيون تقاليدنا الرائعة بين قبائل وشعوب القوقاز وما وراءها.
مر بتمثال لمؤسس الإمبراطورية الفارسية قورش الكبير سقط أرضاً فخاطبه بالقول: هل أخلفك ورائي وأتركك ملقياً على الأرض بسبب الحملة التي جردتها على اليونان أم هل أرفعك وأعيدك إلى مكانك بسبب عدلك وما اشتهرت به من فضائل؟
اقترح عليه أحد المعماريين إنشاء مدينة بإسم الاسكندر في مكان اعتبره غير مناسب لأنه يقضي على بقعة خضراء وجميلة قال:
إنني أقدر عالياً تصميمك وقد سررت فعلاً به لكنني أخشى أن من سيجد مدينتك هذه في المكان المبين سيحكم عليَّ بالشطط و بسوء التقدير. إذ أنه كما أن الطفل الرضيع لا يمكنه العيش من دون حليب الأم أو أن ينمو ليبلغ المراحل التالية من الحياة، كذلك فإنه لا يمكن لمدينة أن تزدهر وتحيا من دون الحقول الخضراء والبساتين التي تدفع الثمار إلى داخل أسوارها.

هنا-جلس-الإسكندر-للدرس-مع-أرسطو
هنا-جلس-الإسكندر-للدرس-مع-أرسطو
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا--االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها
مدينة-ناوزا-هي-الاسم-الحديث-لبلدة-مييزا–االتي-أنشأ-أرسطو-مدرسته-بالقرب-منها

1 التطبيقات المنزلية للطاقة البديلة

التطبيقات المنزلية للطاقة البديلة

حلـــــول اقتصاديـــــة وصديقـــــة للبيئـــــة
تؤمـــــن الطاقـــــة المستديمـــــة للمنـــــزل

في هذا العدد سوف نقوم بدراسة وتجهيز أحد البيوت الجبلية بالطاقة الكهربائية عبر تزويدها بألواح شمسية وبتوربين هوائي على أن يفي ذلك بحاجة المستهلك لتغطية مصروفه اليومي الضروري من الطاقة الكهربائية. ونشدّد على كلمة الضروري لأن أكثر الناس يستهلكون من الطاقة ربما ضعف ما يحتاجونه نتيجة الهدر أو البذخ الفارغ ولو أنهم بحثوا عن تقنيات ووسائل توفير الطاقة لأدى ذلك حتماً إلى خفض الاستهلاك بصورة كبيرة وربما بأكثر من النصف.
نشير إلى أن الحالة التي نعرضها هنا هي لمنزل ما زال بعيداً عن اقرب نقطة لشبكة الكهرباء، وهذا إضافة إلى كون صاحب المنزل من أصدقاء البيئة ويرغب بأن يقدم نموذجاً عملياً يشجّع الناس على تبني حلول الطاقة البديلة والمساهمة بالتالي في تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تنتجها المولدات العاملة على المازوت أو البنزين. أضف إلى ذلك الرغبة في التخلص من الضجيج والأدخنة الضارة والمنفِّرة التي تصدر عن المولدات وتوفير التكلفة العالية للمحروقات بما في ذلك المازوت. أخيراً فإن صاحب المنزل الذي ندرسه يعتقد بأن الحصول على نظام للطاقة الكهربائية يعمل بطاقة الشمس والرياح يحقق له «الأمن الكهربائي» بحيث لا يكون مصدر الطاقة الذي يستمتعون به مرتهناً بأي تقلبات أو عوامل خارجية وهذه العوامل كثيرة وغالباً ما نشهد أمثلة عليها في لبنان. وبالطبع فإن ميزة الاستقلال الكهربائي مهمة لجميع قاطني الجبال الذين يحتاجون إلى تأمين مقومات العيش في جميع الظروف خصوصاً مع احتمال تفاقم معضلة التقنين أو حصول انقطاع في توافر المحروقات في حال وقوع أزمات تموين أو حالات تعتيم مشابهة لما أصاب البلد أثناء عدوان تموز 2006.

متطلبات أساسية
يحتاج إدخال نظام للطاقة البديلة إلى عملية تقييم ودرس أولية تستهدف تعيين كمية الطاقة التي يحتاجها المنزل ثم اختيار المكونات المثلى التي تسمح لهذا النظام بتوفير الطاقة المتوقعة منه في جميع الظروف المناخية.
والخطوة الأولى في نطاق عملية التقييم يجب أن تكون زيارة الموقع لتفحص مسارب الهواء في المكان ولمعرفة ما إذا كانت هناك أي تكوينات طبيعية أو غابات أو أبنية قريبة تعيق حركة الرياح. ومن ثم يجب القيام بتحديد المكان الأنسب لتركيب الطاقة الشمسية وهي الجهة الجنوبية حيث لا توجد أي أشياء تظلل المكان أو تعيق وصول أشعة الشمس باستمرار إلى الألواح الفوتوفولطية. بعد ذلك نقوم بتحديد الحاجة الكهربائية للمستهلك ثم تحديد اللوازم الكهربائية منخفضة المصروف التي تسمح بعمل النظام براحة تامة ودون تعرضه لضغوط السحب التي قد لا يتحملها. ومن الأمثلة على اللوازم الموفرة للطاقة أنظمة الإضاءة العاملة بنظام LED أو نظام DLP (وهو الأحدث والأكثر توفيراً) أو البراد المصمم خصيصاً لتوفير الطاقة بحيث لا يتعدى مصروفه الـ 0.6 أمبير في الساعة، ومن الأمثلة أيضا التلفاز العامل بشاشة LED و LCD الذي لا يتعدى مصروفه 75 واط في الساعة في مقابل التلفاز التقليدي الذي يصرف 300 واط على الأقل في الساعة أي أربعة أضعاف مصروف التلفاز الموفر للطاقة. ولكي نعرف كمية الطاقة المطلوبة لتأمين حاجات المنزل من الكهرباء يجب تحديد نوع الأجهزة اللازمة وعددها ومصروفها ومدة استعمالها خلال النهار أو الليل وهي كالتالي:
1. لمبات توفير عدد 10 تصرف 300 واط في الساعة، في حال استعملت لمدة 7 ساعات في اليوم فإن مصروفها الإجمالي يكون 2100 واط في اليوم.
2. براد Economy يصرف 130 واط في الساعة، وفي حال تمّ تشغيله لمدة 15 ساعة في اليوم يصرف 1950 واط .
3. تلفاز بشاشة LED يصرف 75 واط وجهاز استقبال Receiver يصرف 15 واط في الساعة، لمدة 7 ساعات يومياً مما يجعل المصروف الإجمالي للتلفاز 630 واط.
4. مكواة Economy تصرف 200 واط بالساعة لمدة 3 ساعات أسبوعيا أو نحو 600 واط في الأسبوع ونحو 85 واط في اليوم.
5. جهاز كمبيوتر محمول يصرف 20 واط، يشحن لمدة 6 ساعات في اليوم، يصرف 120 واط.
6. نشاف شعر، مثقاب Drill، ومروحة، مصروفات متفرقة مختلفة = 750 واط في اليوم.
طبعاً هناك المزيد من الأجهزة الكهربائية ما زالت ناقصة كالتبريد(المكيّف) في فصل الصيف والتدفئة في فصل الشتاء. ولكن في هذه الحالة تتم التدفئة عبر الحطب أو عبر تركيب توربين هوائي يعمل في فصل الشتاء كثيراً لكثرة وجود عواصف تجعل من التوربينات تدور بسرعة لتنتج كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية، أما التبريد فيتم عبر المراوح المجهزة برذاذ المياه ذات المصروف القليل.
كما ترون في هذه الدراسة فإن إجمالي المصروف اليومي لهذا المنزل بلغ حوالي 5635 واط ، طبعاً هناك بعض اللوازم الكهربائية التي لا تستعمل يومياً كالغسالة مثلاً ولكن يمكن شراء غسالة صغيرة بطاقة 300 واط لا تصرف المياه والكهرباء كالغسالات الأوتوماتيكية.
من أجل تأمين هذه الحاجة تمّ تركيب أربعة ألواح فوتوفولطية بقوة 230 واط لكل منها، وهذه الألواح يمكنها شحن أربع بطاريات بقوة 250 أمبير للواحدة، وسيتم لاحقاً الاستعانة بتوربين هوائي بقوة 1500 واط يستخدم في فصل الشتاء أو عند هبوب الرياح وتراجع ضوء الشمس بسبب الغيوم الكثيفة والأمطار والضباب، وهذا مع العلم أن المنزل موضوع البحث يقع في ممر هوائي على قمة جبل مواجهة للبحر وهو على علو يزيد على 1000 متر عن سطح البحر.
إن أربع بطاريات موصلة مع بعضها البعض قادرة على تخزين ما يعادل 12000 واط أي أن هذه البطاريات قد تكفي حاجة هذا المنزل لمدة يومين أو على الأقل في حال تمّ فصلها عن الطاقتين الشمسية والهوائية، وهذا الاحتياط يساعد في المحافظة على قوة التيار الكهربائي في حال ضعفت التوربينات الهوائية أو انخفضت الطاقة الشمسية في فصل الشتاء، كما أنه يساعد في إراحة البطاريات باستخدام نصف كمية الأمبير المطلوبة وهذا يساعد في زيادة عمرها الافتراضي.
أما مجمل الإنتاج الكهربائي فسيتم عن طريق الطاقتين الهوائية والشمسية بشكل دائم ومستمر، فما أن تطلع الشمس حتى تبدأ عملية إنتاج الكهرباء من الخلايا الشمسية وتنضم إليها الطاقة الهوائية والتي بدورها قد تستمر في إنتاج الكهرباء في الليل كما في النهار.
هذا النظام يستعمل في المنازل البعيدة عن الشبكة الكهربائية وكلفته حوالي 12000 دولار أميركي . أما البيوت المتصلة بالشبكة العامة فتكون أقل تكلفة لسبب بسيط هو أن شحن البطاريات يتم عبر توصيلها بكهرباء لبنان. ولكن لسوء الحظ هناك انقطاع كثير بالتيار لأسباب التقنين ولأعطال فنية كثيرة وخصوصا في فصل الشتاء. لذا يضطر المواطن إلى أن يشتري مولدا خاصا له يستعمله عند الحاجة أو يشترك مع آخرين في مولد عام قريب في المسافة من المنزل، وكل هذا يؤدي إلى زيادة المصروف الشهري من شراء محروقات للمولد الخاص أو دفع الاشتراك الشهري لصاحب المولد العام، علما أن أسعار المحروقات كلها في ارتفاع مستمر. على العكس من ذلك فإن تركيب نظام يعمل بالطاقة الشمسية وحدها أو بطاقتي الشمس والرياح يتم بتكلفة تنخفض سنة بعد سنة بسبب تقدم التقنيات وزيادة فعالية الخلايا الشمسية، كما أنه وبعد تركيبه لا يكلف أي مصاريف جارية إطلاقاً.
لذلك وبدلاً من شراء مولد خاص وتحمّل تكلفة المازوت والصيانة واستهلاك المولد في سنوات قليلة وبدلاً من الاشتراك في مولد عام وتكبّد تكلفة الاشتراك كل شهر فإن الحل الأفضل يكون بتجهيز منزلنا بنظام للطاقة البديلة يريحنا من العناء ويريح سماءنا من الأدخنة السوداء الملوثة.

تراجع تكلفة الطاقة البديلة وتطور جيل المصابيح والأدوات المنزلية الموفرة للطاقة يجعلان من الطاقة البديلة حلا أفضل من الاشتراك أو اقتناء المولدات الخاصة

الخطوات المطلوبة لتشغيل نظام الطاقة البديلة
1. يجب استبدال ادواتنا الكهربائية ذات المصروف العالي بأدوات منخفضة المصروف. فعلى سبيل المثال بدلاً من استعمال التلفاز التقليدي الذي يصرف 400 واط نستبدله بشاشة بنفس المقاس تعمل بنظام LED تصرف 75 واط وهكذا دواليك….
2. نستبدل السخان الكهربائي بنظام تسخين المياه على الطاقة الشمسية .
3. بعد كل هذه التجهيزات يصبح تيار بطاقة 5 إلى 10 أمبير كافياً لتزويد منزلنا بالطاقة الكهربائية .
4. نقوم أخيراً باستبدال المولد والاشتراك بجهاز UPS أو APS اللذين يعملان فوراً عند انقطاع التيار. وهذا الجهاز يتم توصيله على الشبكة ويمكن شحن البطاريات عبر شركة كهرباء لبنان أو عبر ألواح فوتوفولطية أو توربين هوائي، وهذا إذا كان صاحب المنزل قادراً على توفير هذا الاستثمار. نشير إلى أن تكلفة تركيب جهاز UPS أوAPS بقدرة 10 أمبير وبنظام sine wave وكذلك تكلفة البطاريات اللازمة له وربطه بشبكة المنزل لا يتعدى الـ 1500 دولار أميركي، وهذا المبلغ يعادل تكلفة الاشتراك في مولد لمدة سنة.
على سبيل الاستنتاج نقول بأن الجدوى الاقتصادية في تركيب أجهزة كهربائية مؤكدة ضمن شرط معينة، كما أن ربط شبكة المنزل بالأجهزة المذكورة قد يوفر على أصحاب المنازل حوالي 70 % من فاتورة الكهرباء الإجمالية، وهذا بالإضافة إلى حماية البيئة في المدينة والقرية لما تؤديه تلك الأجهزة من فائدة في توفير الطاقة النظيفة والصامتة ومكافحة التلوث والضجيج خصوصاً التلوث والضجيج اللذين يلازمان عمل القسم الأكبر من الموتورات.

أبرز ميزات أنظمة الطاقة البديلة العاملة على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح

تكلفة نظام الطاقة البديلة تدفع مرة واحدة وهي عبارة عن تكلفة الألواح الشمسية أو المروحة الهوائية والبطاريات وأجهزة التحكم وجهاز التغذية UPS والكابلات الكهربائية.
لا يتطلب تشغيل النظام أي مصاريف جارية كما هي الحال مع اشتراك المولد العام أو تكلفة المازوت عند اقتناء المولدات الخاصة
في حال اختيار الأجهزة ذات النوعية الجيدة وإتباع تعليمات التشغيل بدقة فإن النظام لا يحتاج إلى صيانة لسنوات طويلة.
يتمتع نظام الطاقة البديلة بمرونة كبيرة وبإمكان التكيف مع القدرة المالية للمستهلك، إذ يمكن تركيب نظام بتكلفة لا تزيد على 3000 دولار لتأمين الإضاءة الدائمة لبيت واسع بالإضافة الى التلفزيون والكمبيوترات المحمولة.
يمكن زيادة الطاقة المولدة من نظام الطاقة البديلة في أي وقت عبر زيادة الألواح الشمسية أو إضافة توربين هوائي أو مضاعفة عدد البطاريات.
من الضروري تكملة نظام الطاقة البديلة بتركيب سخان للماء على الطاقة الشمسية لأن ذلك يوفّر قدراً كبيراً من الطاقة الكهربائية التي تذهب لتسخين قارورة المياه الساخنة، ويذكر أن تكلفة جهاز تسخين المياه على الطاقة الشمسية تتراوح بين 600 و1000 دولار.
أهم شيء في هذا النظام أن المستهلك سيتمتع بطاقة كهربائية نظيفة ومن دون ضجيج المحرك أو رائحة المازوت 24 ساعة على 24 ساعة وطيلة أيام السنة صيفا وشتاءً.

السلطان عبد الحميد الثاني

السلطان عبد الحميد الثاني

آخـر حماة الخلافة وأرض فلسطين

قال عنه الأفغاني: “ لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم”
ووضعه المؤرخون في مصاف السلاطين العظام للمرحلة الذهبية

صارع ببسالة دول الغرب التي تكالبت لتناهب دولة المسلمين
وكاد ينجح لولا الانقلاب الطوراني الماسوني للعام 1909

هرتزل الصهيوني حاول رشوته لفتح باب الهجرة إلى فلسطين
فرفض بإباء ورَدَّ بتشديد القيود على إقامة السيَّاح اليهود

سئل جمال الدين الأفغاني مرة عن رأيه في السلطان عبد الحميد الثاني وكان يجالسه كثيراً فقال:”إن السلطان عبد الحميد لو وزن بأربعة من نوابغ العصر لرجحهم: ذكاء ودهاء وسياسة”، هذه كانت صورة الرجل في عيني المفكِّر الإسلامي النهضوي، لكن في نظر الدول الغربية التي كانت تعدّ لاقتسام الإمبراطورية العثمانية الضعيفة؛ فقد كان السلطان عبد الحميد خصماً عنيداً حاول أن يبدّل الضعف الذي كان قد ألمّ بالسلطنة إلى قوة مستعادة عبر مجموعة كبيرة من المبادرات التي وظّف فيها جهده ووقته ودهاءه السياسي وصبره وغطت كافة المجالات. لكن مما يؤسف له ومما سبب الحزن لهذا السلطان المجاهد هو أن قسماً من مواطني الدولة من عرب ومن أقليات سارع في الانضمام إلى الجهود التي رمت لتقويض الدولة وكان له نصيب كبير في تعميم الحرب الإعلامية والنفسية التي شنت على الخلافة وعلى السلطنة من قبل وسائل الإعلام الغربية، حتى نشأ أدب متكامل شعبي وتاريخ موضوع يقوم كله على تسفيه وتشويه تلك الفترة المهمة من جهاد العرب والمسلمين ضد الحملة الشرسة لتحطيم آخر الخلافات الإسلامية وتمزيق أوصالها.
فمن هو السلطان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء-السلاطين للدولة العلية؟ وما هو الدور المهم الذي لعبه إبان حكمه الطويل نسبياً (-1876 1908)؟ وما هي أبرز العوامل التي أدت إلى انهيار الخلافة وفتح الطريق أمام الغزو اليهودي لفلسطين؟

لقد كتبت المجلدات عن الشخصية الغنية والمثيرة للسلطان عبد الحميد الثاني واتفق العديد ممن كتبوا عنه أنه عُرف بالصمت ودوام التفكُّر والعمل الشاق والبُعد عن اللهو ومداومة الصلاة والأذكار والاحترام الشديد للعلماء والأولياء الصالحين من مشايخ السلوك، كما عُرف بالبساطة الشديدة وكان رائداً في إصلاح الإدارات وقمع الفساد وعمارة الجوامع وتطوير التعليم، كما كان الداعية الأول لوحدة المسلمين تحت علم الخلافة والخصم الأكبر لأطماع اليهود في فلسطين، ويعود له الفضل الكبير في الإدارة المالية الرصينة والمحافظة على أموال الدولة حتى أنه تمكّن في عهده من الوفاء بالقسم الأكبر من ديونها، وساعده ذلك في مقاومة ضغوط الدول الأوروبية التي استخدمت مديونية السلطنة لإضعافها عبر إصدار ما سمي بلغة الصلف الغربي “الإذعانات” Capitulations ثم “التنظيمات” التي استهدفت تشجيع الأقليات التي عاشت بأمان وازدهار طيلة عقود في ظل التسامح المستمر للدولة للتمرُّد عليها.
في ظل تلك الإنجازات المهمة والصمود غير المتوقَّع للسلطان لجأت الدول الأوروبية إلى أسلوبين متكاملين: فهي من جهة قامت بتنظيم حملات إعلامية وديبلوماسية استهدفت تشويه سمعة السلطنة والسلطان نفسه، كما سعت من جهة ثانية إلى زعزعة الدولة العثمانية من الداخل وذلك عبر تشجيع العناصر المتأثرة بالغرب والعلمانية على تسريع جهودها للتخلص من السلطنة والخلافة وتحريض الأقليات المختلفة على التمرد والثورة. وكان الهدف من تلك السياسات إضعاف السلطنة وشل قدرتها على المقاومة وفي الوقت نفسه توفير الذرائع السياسية و”الأخلاقية”، لما اعتبره بعض المؤرخين حربا صليبية متجددة وتهيئة الرأي العام الدولي للتسريع في تمزيق أوصال السلطنة وفي الوقت نفسه إطلاق العنان للهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وكان قدّر السلطان عبد الحميد الثاني أن يكون الشاهد الحي على آخر أيام السلطنة العثمانية التي حكمت قسماً كبيراً من العالم القديم أكثر من ستة قرون متواصلة، كما أنه سيشهد في ما بعد وقبل وفاته في العام 1918 النهاية الفعلية للخلافة الإسلامية التي التي استمرت بلا انقطاع كمؤسسة منذ الخلفاء الراشدين كما كان هذا السلطان العثماني العزيز وقوي الشكيمة الشاهد المتألم على بدايات الاستيطان اليهودي لفلسطين بدعم وتشجيع من الدول الأوروبية ولا سيما بريطانيا.
أمام هذه الهجمة الشرسة حاول السلطان عبد الحميد الثاني بكل ما أوتي من وسائل، تحقيق مجموعة من الأهداف التي بدت شبه مستحيلة ويتطلب العمل عليها بالفعل إرادة فولاذية وحنكة ودهاء وظروفاً مؤاتية، لكن المؤرخين المنصفين شهدوا للسلطان بأنه وعلى الرغم من المخاطر واختلال موازين القوى لصالح الدول الغربية، نجح في استعادة بعض المبادرة وفي وقف التدهور وتحقيق مجموعة من الإنجازات الكبرى وأنه كان بالفعل سلطاناً عثمانياً يمكن مقارنته بالسلاطين العظماء للمرحلة الذهبية للسلطنة، وإن كانت الظروف التي عاش فيها لم تساعد على إبراز الصفات العلية التي تمتع بها وطبعت عهده.
وربما كان أبلغ دليل على النجاح غير المتوقع الذي حققه السلطان عبد الحميد الثاني في تأخير المسار الانحداري للسلطنة هو شعور المفاجأة ثم الاستياء الكبير والسخط الذي أظهرته القوى الاستعمارية في أوروبا طيلة العهد الطويل للسلطان عبد الحميد الثاني والذي لم يتوقع أحد أن يؤدي اعتلاؤه العرش إلى تغيير اللعبة وتجمع مقاومة حقيقية لمخططات الاستعمار الأوروبي. وفوجئت أوروبا بشكل خاص بالعزيمة التي أظهرها السلطان الشاب ثم بكفاءته وتصميمه على الدفاع عن السلطنة وولاياتها وعن دار الإسلام ومكانة المسلمين بصورة أعم. وردَّت الدول الأوروبية بتنظيم أكبر حملة للتشهير الشخصي وتشويه الحقائق في تاريخ المنطقة، حتى بات السلطان الشخصية المفضلة لرسامي الكاريكاتور في الصحف الأوروبية، ولاسيما الفرنسية منها، وجرى استغلال أحداث مثل المذابح بين البلغار المسلمين والمسيحيين لتصوير عبد الحميد بصورة الديكتاتور الأحمق والسفاح المتعطِّش للدماء وأطلق عليه لقب”السلطان الأحمر”أي المخضب بدماء الأبرياء خصوصاً المسيحيين من أبناء السلطنة وكان الهدف الأبعد لتلك الحملات ليس التشهير بالسلطان فحسب، بل الحط من قدر العثمانيين والمسلمين وبدت موجة التعبئة تلك مشابهة لتلك الصور التي تم الترويج المحموم لها في الممالك الأوروبية قبل الحملات الصليبية حول المسلمين “البرابرة” الذين يقتلون المسيحيين، كما أن هذا النوع من الحملات سينفذ لاحقا من قبل الإعلام الصهيوني نفسه وعلى نطاق عالمي لاستدرار العطف وتبرير الزحف اليهودي على فلسطين.
ومما يؤسف له أن هذه الموجة كانت من القوة والتنظيم بحيث طاولت بتأثيرها العديد من رعايا السلطنة ومثقفيها، وخصوصاً أنصار الدعوات القومية والاستقلالية وبعض أقطاب الأقليات المسيحية والمؤرخين وقد كان هؤلاء جميعاً بحاجة الى تبرير دعوات الانفصال عن الدولة الإسلامية وتأييد عمليات التفتيت وفرز الكيانات الجديدة التي وقعت على الفور تحت سيطرة الاستعمار الغربي. وبسبب قوة تلك الحملات، فقد انتشر الكثير من تلك الأحكام الظالمة ورسخ في أذهان العامة كما لو أنها كانت حقائق، بل إن الكثير من آثار تلك الحملة تسلل إلى الأدب وإلى برامج التعليم والصحافة وتمت تربية أجيال متعاقبة من العرب على كره العثمانيين واعتبار الغرب صديقاً مخلصاً أعطى فرصة التحرر والتقدّم لشعوب المنطقة.

هاجس الدفاع عن الخلافة

اهتم عبد الحميد اهتماماً بالغاً بأن يرد للخلافة هيبتها التي كانت لها في صدر الإسلام. وكان سلاطين الدولة العثمانية قد حملوا في القرنين الأخيرين اللقب المزدوج، وهو “الخليفة-السلطان”، وقد أبقى لهم هذا الأمر الولاية الدينية على سكان الولايات العثمانية جميعها حتى تلك التي انسلخت عن الدولة انسلاخاً سافراً ورسمياً أو انسلاخاً مستتراً ومقنعاً باسم الاحتلال المؤقت. واستهدف عبد الحميد الثاني من إحياء الخلافة وإعادة مكانتها، ليس فقط تعزيز الأساس الإسلامي للخلافة وتأكيد الهوية المشرقية للأتراك ولشعوب الدولة، بل أراد أن يتخذ منها قوة دافعة توصله إلى وقف التمدد الغربي في أراضي الإسلام والسلطنة. لذلك حرص على أن يقرن اسمه بالألقاب الدينية التي يقرن بها اسم الخليفة مثل أمير المؤمنين، وخادم الحرمين الشريفين، وغير ذلك. كما أنه فضل أن يكون لاسم “دار الخلافة” الصدارة على الاسمين الآخرين للعاصمة مثل اسطنبول أو الأستانة. وقد نص الدستور الذي أصدره في العام 1876 في مادته الثالثة على تأكيد قيام “الخلافة الإسلامية الجليلة” في بيت آل عثمان.

من أقوال جمال الدين الأفغاني
في السلطان عبد الحميد

رأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو مُعدّ لكلِّ هوّة تطرأ على الملك، مخرجاً وسلماً، وأعظم ما أدهشني، ما أعدَّه من خفي الوسائل وأمضى العوامل، كي لا تتفق أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عياناً محسوساً أن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن إلاَّ بخراب يعمّ الممالك الأوروبية بأسرها .
ويقول: “أما ما رأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العِدَّة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحُسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني إلى مدِّ يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالماً علم اليقين، أنَّ الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء إضعافها وتجزئتها، وفي الأخير ازدرادها واحدة بعد أخرى، إلاَّ بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم”.

كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-يسخر-من-السلطان-الذي-في-كل-يوم-يخسر-جزءا-من-الإمبراطوريه
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-آخر-معاد-للسلطان
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من--القتل
كرتون-فرنسي-يصف-عهد-عبد-الحميد-بـ-30-عاما-من–القتل

إحياء الخلافة وحماية لغة القرآن

فور اعتلائه العرش أمر عبد الحميد الثاني بقمع كل مظاهر الفجور في الحريم السلطاني قمعاً شديداً، وأحاط شخصه بعلماء الدين وأنشأ معهداً لتدريب الوعاظ وكان يبعث بهم فور تخرّجهم من هذا المعهد إلى أدنى وأقصى بلاد الإسلام لينشروا الأنباء الحسنة عن الخليفة ويشيدوا بورعه ويبشِّروا بحركة الجامعة الإسلامية وإعادة أمجاد الدولة كما كان حالها في صدر الإسلام، كما أعان الصحف لتقوم بدورها في نشر الدعاية له كخليفة وأنشأ المجلات والدوريات، كما كان يوجّه الدعوات إلى زعماء المسلمين وكبار رجال الفكر الإسلامي لزيارة اسطنبول ويستضيفهم رغبة في توثيق الصلات معهم وتعزيز حضوره في العالم الإسلامي.
وبإشراف منه خصصت مبالغ وفيرة جداً لإصلاح المساجد داخل الدولة وخارجها تمكيناً لها من أداء رسالتها، وزيدت مرتبات ومعاشات علماء الدين وموظفي المساجد وأقيمت معاهد ومدارس إسلامية، وأصدر أوامره بزيادة الاهتمام بالأعياد الإسلامية وشتى المناسبات الدينية عند حلولها على مدى العام. وأدخلت المواد الدينية الإسلامية واللغة العربية على مناهج الدراسة في المدارس المدنية للتشجيع على استخدام اللغة العربية في المجالات الثقافية والإدارية. وهذا على الرغم من أن كوجوك محمد سعيد باشا الصدر الأعظم حاول أن يثنيه عن رغبته في جعل اللغة العربية في مركز مساو للغة التركية كلغة رسمية للدولة. وبتوجيه من السلطات منعت الحكومة إطلاق الترجمة الأوروبية للأسماء العربية والتركية على أسماء الشوارع والمباني العامة.

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

كافح باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فانتقم اليهود بأن جعلوا يهودياً يرافق ضبَّاط الانقلاب ويسلِّمه بنفسه قرار العزل

ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني
ضريح-السلطان-عبد-الحميد-الثاني

 

استراتيجية عبد الحميد

على الرغم من اعتلائه العرش في السن الرابعة والثلاثين فإن السلطان عبد الحميد سيكشف مع الوقت عن كفاءات كبيرة وشخصية قوية وحنكة وفهم تام للظروف المحيطة به. لكن السلطان الشاب لم يكن فقط يتمتع بالذكاء الشديد والإلمام التام بشؤون الحكم وبالوضع الدولي المحيط، بل كان، وهذا هو الأهم، رجل عمل يصرف النهار بطوله وجزءاً من الليل للسهر على شؤون السلطنة وتدبير أمر الدفاع عنها وعن مصالحها ولم يكن بالتالي يضيِّع وقته في الملاهي والفراغ الذي انشغل به بعض السابقين. وهذا التلازم بين الذكاء السياسي وإرادة العمل والكفاح هو وحده الذي يفسر تمكّن عبد الحميد من وقف التدهور والقتال التراجعي لحماية ما تبقى من الإمبراطورية. وكان السلطان من الواقعية بحيث اقتنع بأن لا مفرّ من خسارة ولايات عدة أمام زحف الذئاب الجائعة من أوروبا، لكنه لم يستسلم لهذه الحتمية بل قرر في الوقت نفسه السعي لتوطيد الأجزاء الباقية من السلطنة عبر الديبلوماسية واستغلال تناقضات الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه تدعيم الوضع الداخلي للسلطنة وتعزيز العلاقة مع الولايات، ولا سيما العربية التي باتت العمق الأهم للدولة بعد الخسائر المتتالية في البلقان.
لكن الهم الأول للسلطان عبد الحميد تركّز في المرحلة الأولى على وقف خطر “الإصلاحيين” الذين كانوا قد أصبحوا واجهة للدول الأوروبية وكذلك للمحافل الماسونية والجمعيات اليهودية التي كانت تتحين الفرصة لغزو فلسطين، وهو أمر لم يكن ممكناً من دون إضعاف السلطنة ونشر الفوضى في الدولة العثمانية.

تجربة قصيرة في البرلمانية

ومعروف أن الإصلاحيين بقيادة مدحت باشا كانوا قد اشترطوا لنقل الخلافة إلى عبد الحميد الثاني أن يقوم فور تسلُّمه للملك بإصدار دستور للبلاد يجعل السلطان مقيداً ببرلمان منتخب وبالوزارة. يومها قبل عبد الحميد ذلك الشرط، لكنه على الأرجح لم يكن مقتنعاً بهذا التركيز على الدستور وإدخال البرلمان في وقت كانت القوات الروسية تعسكر على مشارف اسطنبول وكانت معنويات البلاد متدنية جدياً ليس فقط بسبب الهزائم وخسارة معظم الولايات البلقانية، بل أيضاً بفعل الوضع المالي المتردي للدولة، لكن السلطان المحنك قبل بإجراءات الانتخابات التي أنجبت برلماناً سادته المشاحنات والخطب الرنانة، وكما كان متوقعاً فإن بعض النواب بدأوا يتطاولون على السلطان وأركان الدولة والجيش، الأمر الذي اعتبره عبد الحميد الثاني تهديداً لمعنويات الجيش والشعب في فترة حرجة جداً من حياة السلطنة. وانتهى الأمر بتعليق الحياة البرلمانية (وليس الدستور).
ويشير المؤرخون المنصفون إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني لم يكن مستبداً أو معادياً لأفكار الإصلاح، وأنه على العكس نت ذلك كان مقتنعاً بضرورة تحديث النظام والإدارة، لكنه استنتج وفي ضوء ما شاهده من اختبار التجربة البرلمانية أنها فشلت في معالجة التحديات الداهمة التي تواجه السلطنة وأنها على الأقل سابقة لأوانها. وكان السلطان مقتنعاً بقدرته على أن يدفع بنفسه عجلة الإصلاح وأن يدافع في الوقت نفسه عن وجود السلطنة وهيبتها وملكها من دون الحاجة للتعامل مع العوائق الدستورية والنزاعات والانقسامات التي تثيرها أي حياة برلمانية. وفعلياً فقد شهدت الدولة العثمانية على يد عبد الحميد الثاني، وفي ظل صيغة الحُكم الملكي المستنير أو صيغة السلطان – الخليفة، دفعات كبيرة من الإصلاحات لم تشهد لها مثيلاً في أي وقت. وشملت تلك الإصلاحات النهوض بالزراعة وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة خصوصاً مع الولايات المجاورة، وإصلاح القضاء والخدمة المدنية وتأهيل الإداريين والتعليم التقني أو المهني والتعليم العسكري وإنشاء جامعة اسطنبول، والاهتمام بالرعاية الصحية للمواطنين، وتطوير أنظمة المواصلات الحديدية والبرية وتطوير شبكة الاتصالات البرقية والبريدية والبحرية، وإرسال البعثات التعليمية والتدريبية إلى شتى الدول الأوروبية، واستقدام البعثات العسكرية من أوروبا وتعزيز الجيش والأسطول. أضف إلى تلك الإنجازات، تمكّن السلطان عبد الحميد، ونتيجة الإدارة الرشيدة لمالية الدولة، من خفض مديونية الدولة العثمانية إلى حدود مقبولة جداً ولم تعد تشكل عبئاً على كاهل الخزانة. وهذا الإنجاز في حدّ ذاته ساعد الدولة على التحرر من الكثير من الضغوط السياسة عليها، وعزَّز موقع السلطان التفاوضي والديبلوماسي تجاه الدول الغربية.

الخلافة والغزو الغربي

في كل تلك الإصلاحات والإنجازات كان السلطان يتصرَّف كخليفة بالمعنى الإسلامي، وهو وإن لم يصرّح بذلك بوضوح، كان مؤمناً إيماناً حقيقياً بصيغة الخلافة ونظام الشورى. وأظهرت الأيام أن السلطان كان منسجماً مع نفسه وقناعاته عندما التزم جانب الشرع وصيغة الخلافة التي حافظ عليه المسلمون منذ عهد الخلفاء الراشدين، ورفض استبدالها بالصيغة البرلمانية الغريبة عن المجتمع الإسلامي، والغريبة أيضاً عن تركيبة الدولة العثمانية التي كانت رابطة عريضة لأمم وشعوب، بل وأديان، وليست بلداً متجانساً على شكل الدول الأوروبية المسيحية آنذاك.
وكان السلطان بصورة خاصة يشعر بالأسى إزاء ما رآه من انجراف قطاعات من المجتمع العثماني لتقليد الدول الأوروبية والخلط بين الاكتساب المفيد، مثل اكتساب العلوم والتقنيات، وبين التقليد الأجوف الذي روّج له بعض المنبهرين بالغرب، والذي بدأ يطاول تبديل نظام الحياة كله، اللباس والعمارة والأثاث والسلوك، بل وصل الأمر ببعض أنصار الغرب العثمانيين إلى المطالبة بحلق اللحى، بل جعل بعضهم من هذا المطلب معادلاً للإصلاح الدستوري. وسنرى في ما بعد أن مخاوف السلطان عبد الحميد كانت في محلها، لأن هذه النزعات الإصلاحية المتطرفة انتهت فعلاً إلى إنكار التاريخ الإسلامي العريق للدولة العثمانية، خصوصاً خلال حكم أتاتورك، والذي ضمّ خلاصة الفكرة الإصلاحية القائمة على اختيار النموذج الغربي والتخلي عن الإسلام والإرث الإسلامي للسلطنة، ثم قطع الصلة في ما بعد باللغة العربية، بل باللغة العثمانية الكلاسيكية التي كانت زاخرة بالمفردات العربية والإسلامية. وعلى العكس من ذلك كان إيمان السلطان عبد الحميد بالخلافة والرسالة التاريخية لبني عثمان الدافع الأول في محاولته لتعزيز الوحدة بين شعوب الدولة من خلال إطلاق الجامعة الإسلامية والانفتاح على الإصلاحيين الإسلاميين من أمثال: نامق كمال وجمال الدين الأفغاني اللذان سعيا لتطوير الدولة العثمانية من ضمن الحفاظ على الخلافة وعلى حقيقتها الإسلامية. وكان هؤلاء النهضويون الإسلاميون قادرين على تحديد أسباب الضعف الحقيقية للدولة الإسلامية، لكن مع التمييز في الوقت نفسه بين الإصلاحات التي تقوي السلطنة والخلافة، وهي إصلاحات من الداخل وبين الإصلاحات المصممة لإضعافها وهدمها.

تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية
تيودور-هرتزل-فشل-في-إقناع-السلطان-عبد-الحميد-بفتح-باب-الهجرة-اليهودية

مقاومة طلائع الغزو اليهودي

ارتبط تحرُّك الجماعات اليهودية باتجاه فلسطين في آواخر القرن التاسع عشر الميلادي ارتباطاً وثيقاً بحالة الضعف التي كانت قد ألمَّت بالدولة الإسلامية الجامعة، التي تمثلت في السلطنة العثمانية وشروع الدول الأوروبية في العمل على تفتيتها والانقضاض عليها. وكان تشجيع الأقليات الدينية المسيحية في الغالب ثم تحريك الأقليات القومية العربية والأرمينية والصربية وبعهدها القومية التركية (الطورانية) وغيرها، أحد الأسلحة الفعّالة التي استخدمتها الدول الأوروبية في تفتيت الإمبراطورية تسهيلاً لتمزيقها وتقاسم امتداداتها الجغرافية التي غطت على الأقل ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.
لم يغب هذا التطور التاريخي عن انتباه الجماعات اليهودية في أوروبا، التي رأت فيه فرصتها السانحة للبدء في تنفيذ حلم راود هذه الجماعات على مدى الزمن، والمتمثل بحلم العودة إلى فلسطين. وقد وضع اليهود أنفسهم في مصاف الأقليات الباقية التي تطالب بحصتها من تركة الدولة العثمانية، وبينما كانت الأقليات الباقية الدينية أو القومية تطالب بالاستقلال السياسي عن السلطنة، فإن اليهود الذين كانوا موزَّعين في القارات وفي بلدان السلطنة رسموا لأنفسهم مطلباً مختلفاً يعكس خصوصيتهم ويلبي أحلامهم، إذ وجهوا اهتمامهم لأن تكون الأسلاب التي يحصلون عليها من تمزيق السلطنة عبارة عن فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وذلك تمهيداً بالطبع لما حلموا بأن يمثل انبعاث الدولة اليهودية مجدداً ووضع حدّ لمرحلة التيه الطويل الذي تعرضوا له منذ الخروج الأخير على يد بابل. وبالطبع ساعدت عوامل إضافية على تحفيز اليهود، وخصوصاً الروس، للهجرة إلى فلسطين مثل الاضطهاد الذي اشتد عليهم في روسيا بعد اتهامهم بالاشتراك في تدبير مؤامرة اغتيال اسكندر الثاني، قيصر روسيا في العام 1881. وقد توجه اليهود الروس إلى فلسطين لأنهم لم يجدوا في أوروبا ملاذاً آمناً بسبب الاضطهاد الذي كان يقع عليهم هناك، وأيضاً بسبب ما كان معروفاً عن بلاد السلطنة من تسامح يتيح لكافة الأقليات القومية والدينية العيش فيها بسلام وتآخٍ.
من جهتها رأت الدول الأوروبية في تشجيع الهجرة إلى فلسطين نوعاً من التملُّق لأثرياء اليهود الذين كانوا يمدِّون خزائنها بالمال ويمارسون نفوذاً متزايداً في الحياة العامة وإسهاماً في تفتيت السلطنة؛ كما وجدت فيه حلاً غير مباشر للتخفيف من ضغط الأقليات اليهودية في بلدانها. ولعبت الإمبراطورية البريطانية في هذا المجال دوراً خطيراً بسبب مبدأ الاستعماري الشهير غلادستون الذي كان يضمر حقداً على السلطنة، وعلى الوجود الإسلامي في أوروبا وغيره من الساسة الانكليز، مثل رئيس الوزراء اليهودي دزرائيلي، ثم اللورد بلفور صاحب الوعد الشهير بتأسيس كيان قومي ليهود العالم في فلسطين العربية.
إن أحد أبرز الأمثلة على شخصية السلطان عبد الحميد ورؤيته السياسية الواضحة لدور السلطنة ومسؤولياتها، هو مقاومته الحازمة لمشاريع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وللتدخلات الأوروبية التي كانت بدأت تضغط لدعم التسلل اليهودي. وعلى الرغم من أن عبد الحميد الثاني كان مدركاً للموقف شبه اليائس للسلطنة، وهو الذي كان يشهد يومياً على التقطيع التدريجي لأوصالها وتناهب ممتلكاتها، فإن ذلك لم يوهنه أو يفت في عضده، إذ استمرت مقاومته لليهود طيلة فترة حكمه الطويل، فأخذت أشكالاً مختلفة وضع فيها عبد الحميد الثاني كل هيبته الشخصية ودهائه، وما كان قد تبقَّى من نفوذ السلطنة ووزنها وقدرتها على المناورة الديبلوماسية لصد التسلل اليهودي إلى فلسطين. ولم يكن موقف هذا السلطان الفذ من هجرة اليهود من منطلق ديني فحسب، بل كان منسجماً مع رؤية متكاملة لرسالة السلطنة ومسؤوليات الخلافة في حماية أرض الإسلام والدفاع عن مقدساته تجاه ما بدا له بمثابة نسخة جديدة من الحروب الصليبية التي تستهدف السيطرة على الشرق وإذلال شعوبه. ومعروف أن السلطان تلقى عروضاً سخية جداً من اليهود وزعمائهم للتضحية بفلسطين العربية، سواء برشوته شخصياً أو بالمساعدة على تسديد كافة ديون السلطنة، لكنه رفضها بإباء واحتقار لأصحابها، بينما كان بعض قادة العرب يرون في ضعف الدولة وتزايد وطأة المؤامرات الأوروبية عليها فرصة للانقلاب عليها بالتعاون مع هؤلاء الأوروبيين طمعاً في ما زيّن في أعينهم على أنه استقلال وعروش، ليتحوَّل بعد ذلك إلى انتداب واحتلال ووصاية ما زالت تبعاتها ماثلة إلى اليوم، وإن تبدَّل الأوصياء حسب المكان والزمان.
لقد كافح السلطان عبد الحميد باستماتة لوقف التسلل اليهودي إلى فلسطين، فأصدر فرمانات عدة حدد فيها إقامة الزوَّار اليهود إلى فلسطين وحرّم بيع الأراضي إلى اليهود حتى ولو كانوا عثمانيين، ثم حوّل فلسطين من ولاية إلى متصرفية ليجعلها تابعة مباشرة للسلطان بحيث يمكنه مراقبة ما يجري فيها يومياً، كما منع السلطان إنشاء جامعة عبرية في القدس. لكن على الرغم من كل هذه الجهود كان تسلل اليهود إلى فلسطين يقوى يوماً بعد يوم، وتكثفت الحركة بصورة خاصة تحت قيادة ليون بنسكر الروسي الذي وضع عملياً أسس الاستيطان اليهودي وفكرة الدولة اليهودية بدعم أوروبي قبل أن يتلقف هذه الفكرة السياسي اليهودي تيودور هرتزل ليحوّلها في “مؤتمر بازل 1897” إلى حركة ليهود العالم باتجاه فلسطين.

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

    كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية
كان مقتنعاً بأنَّه من الأفضل أن يتولَّى هو بنفسه دفع عجلة الإصلاح والدفاع عن وجود
السلطنة بدلاً من الرضوخ وفي ظروف خطرة للعوائق الدستورية

كــــان هاجســــه في الداخــــل وقــــف أنصــــار الغــــرب ومناهضــــي السلطنــــة، وفــــي الخــــارج حماية الخلافة وفلسطيــــن والوحــــدة الإسلاميــــة

جواب السلطان وانتقام اليهود

معروف أن تيودور هرتزل سعى لمقابلة السلطان عبد الحميد مرتين وأنه عرض عليه في إحداهما رشوة شخصية، إضافة إلى مساعدة اليهود له على الوفاء بكافة ديون السلطنة، مقابل السماح لهم بإنشاء كيان يهودي في فلسطين. وقد سجل هرتزل نفسه في مذكراته هذا الجواب التاريخي الذي بعثه السلطان عبر مساعد هرتزل على النحو التالي:
“انصحوا هرتزل بألا يبذل أي مساع إضافية في هذا الشأن، إذ إنني لا أستطيع التخلي عن شبر واحد من الأرض فهي ليست ملكاً شخصياً لي بل ملك لشعبي، ولقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت إمبراطوريتي يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حي فإن عمل المبضع في جسدي لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرَت من إمبراطوريتي. وهذا أمر لن يكون. إنني لا أستطيع أن أوافق على تشريح أجسادنا ونحن أحياء”.
هذا الرد الحاسم من السلطان عبد الحميد يقدِّم أبلغ الأدلة على أمر أساسي طالما تجاهله بعض المؤرخين العرب، وهو أن التآمر الغربي على الدولة العثمانية لم يكن فقط بقصد وضع اليد على أرض الخلافة الواسعة وتناهبها، بل كان أحد أهدافه تمهيد السبيل لقيام إسرائيل. وبالفعل فإنَّ رد السلطان كان أشبه بالنبوءة، لأنه كان يشعر فعلاً بتكاثف المؤامرات عليه ويعلم بحدسه أن هذه القوى العالمية الهائلة ستنال يوماً من الإمبراطورية، وأن ذلك سيكون بمثابة المقدمة للغزو اليهودي لفلسطين. وقد نالت تلك القوى أخيراً منه عبر انقلاب جماعة الاتحاد والترقي واليهود والماسونية الدولية عليه في العام 1908 ثمَّ عزله في العام التالي. وهي حادثة مؤلمة بصورة خاصة لأن اليهود تعمَّدوا أن يكون بين أعضاء الوفد الذي أبلغه قرار العزل اليهودي قره صو الذي كان حضر مفاوضات هرتزل مع السلطان وعروضه له، كما سمع رفض السلطان القاطع لتلك العروض. وكأن قره صو ومن خلفه أرادوا أن يشمتوا بسلطان المسلمين ليقولوا له لقد رفضت عروضنا وها نحن نسلِّمك قرار العزل لنريك من هو الأقوى. وكان التأثير الماسوني في الانقلاب العسكري واضحاً في الشعارات التي تبنَّاها أبطاله وهي «الحرية، الإخاء والمساواة»، وهي شعارات الحركة الماسونية.
يذكر أن السلطان عبد الحميد تعرّض قبل ذلك، ونتيجة لجهاده، لمؤامرتين يهوديتين: الأولى، سعت إلى خلعه بعد سنتين من توليه العرش؛ وتمت الثانية، والأكثر جرأة بزعامة رئيس المحفل الماسوني سكالييري لكنها فشلت؛ كما دبَّر اليهود مؤامرة لاغتياله أثناء خروجه من صلاة الجمعة عن طريق سيارة وضعت فيها متفجرة، لكن السلطان نجا من الحادث.
يروي المؤرِّخ التركي أورخان محمد علي هذا المشهد المؤلم لخلع السلطان عبد الحميد على النحو التالي: «دخل الوفد مع الميرالاي غالب بك على السلطان الذي استقبلهم واقفاً، وبادره أسعد باشا قائلاً له: لقد أتينا من قبل مجلس المبعوثان، وهناك فتوى شرعية شريفة، إنَّ الأمة قد عزلتك، ولكن حياتك في آمان. فاعترض السلطان على كلمة «العزل»، وفضَّل استعمال كلمة «الحل». ثم تلا قوله تعالى من سورة يس : }ذلك تقدير العزيز العليم{. ثم التفت إلى الوفد مشيراً إلى «قره صو» اليهودي قائلاً: «ألم تجدوا شخصاً آخر غير هذا اليهودي لكي تبلِّغوا خليفة المسلمين قرار الحل؟».

العرس القروي

“الضحى” تدعو لمبادرة أهلية لإحياء تقاليد العرس القروي وإلى صندوق لتشجيع العرسان على التزام الصيغة الأصيلة والتراثية لحفل الزفاف

بعض أهم العناصر والمقومات التي جعلت منهم جماعة تحظى بالاهتمام والاحترام (احترام الذات واحترام الآخرين) في هذا المشرق. لقد جرى التركيز على موضوع الهوية على اعتباره أمراً متعلِّقاً بالعقيدة لكن على الرغم من أهمية ذلك، فإن العقيدة أمر فلسفي أو ضميري، بينما تقوم الهوية بالدرجة الأولى على مكونات وتصرفات ثقافية واجتماعية بالدرجة الأولى، كما تستند إلى مؤسسات “التدريب على الهوية” Initiation مثل التعليم والتنشئة الأخلاقية في الصغر واستكشاف الطبيعة والعلاقة بالأرض ومجالس المذاكرة، كما أن من أهم مكوناتها أيضاً مؤسسات ثقافية مثل حفل الزفاف.
لذلك، وعندما يقال أن حفل “العرس” هو تعبير عن الهوية والثقافة فهذا يعني في الوقت نفسه أن تردي وتقهقر هذه المناسبة من دورها الأصلي لا بدّ أن يعتبر جرحاً كبيراً في الهوية وأحد الأشكال التي نعاين فيها تقهقر المجتمع الدرزي وخسارته للكثير من
عناصر المناعة والقوة.
حقيقة الأمر أن حفل الزواج العفوي والزاخر بالعنفوان وتعبيرات المودة والرجولة والمحبة بين الإخوان، انحط وعلى مدى عقدين أو ثلاثة من الزمن إلى مسرحيات دخيلة ومملة يسلّم فيها أطراف الحفل أنفسهم ومالهم، بل وكل تفاصيل ما سيجري في يومهم العظيم إلى شركات ومبرمجين ومصممين ومزينين ومحلات وشركات سيارات ومصممي ألعاب نارية وغيرها، ومن أجل هذه المسرحية المكلفة والتي غالباً ما يستدين بعض العرسان من أجل الوفاء بمتطلباتها، ينكب الجميع لأشهر طويلة على دراسة الخطة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة والهم الأول في رأسهم هو كيف سيتم “إخراج” وتمثيل “مسرحية العرس” بما يرضي الجمهور ويجعل من الحفل والسهرة حديث الناس وموضوعاً لإعجابهم وتعليقاتهم. وهناك قصص لا نهاية لها لما تفتَّقت عنه مخيلة مخططي الأعراس أحياناً من ابتكارات وأفكار مدهشة، لكن القليل يتسرب بعد ذلك عن الأزمات وحالات الأرق التي تسبب بها الإنفاق غير المحسوب للعروسين عندما “تذهب السكرة وتأتي الفكرة” في اليوم التالي مع تسلّم الفواتير.
هناك شيء بسيط يؤمن به أهل الفطرة والحس السليم في مجتمعنا وهو أن الله مع الجماعة وأنه يحب للناس أن يفرحوا ويتآزروا، كما أنه لا يحب التباهي الفارغ والذي يولد التحاسد “إن الله لا يحب كل مختال فخور” (لقمان:18) كما أن المولى جل وعلا يكره التبذير ويحذِّر منه “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” (الإسراء:27). وهو يحب للناس أن يفرحوا مع التقوى لا أن يسوقهم الفرح في دروب الطيش وترك الآداب. وقد كان توافر هذه الميزات في العرس الدرزي سببا لنزول البركة فكانت بضعة قصعات من الهريسة أو ذبيحة خروف تكفي القرية وتفيض عنها. أما الآن فإن كل هذا الإنفاق وهذا الكرم الاستعراضي لا يجلب السعادة لأحد (باستثناء وكالات تخطيط الأعراس بالطبع والمزينين النسائيين ومحلات الهدايا وغيرهم) لأنه إنفاق بقصد المباهاة وليس إعطاء الفرح للناس، وهو في غالب الأحيان غير مبارك في الحقيقة وكثير من المشايخ سيتأبون على الأرجح من تناول شيء من طعام تلك المناسبات.
لقد وصل ما ينفق في تلك الأعراس الصيفية شديدة البذخ عند الأثرياء والقاصمة للظهر عند محدودي الدخل بضعة ملايين من الدولارات سنوياً، لكنه كما قلنا إنفاق استهلاكي عديم البركة غالباً وسقيم في تعبيراته وصلته بإرث الموحِّدين وبمفهوم”الفرح” كما عرفه مجتمعنا لمئات السنين. وعلى ذكر الإنفاق الباذخ نورد هنا مفارقة بليغة هي افتقاد مناسبات الأعراس الصاخبة لأعمال الصدقة والخير كجزء من المناسبة وكسبيل لنيل البركة والتوفيق للعريسين.
وعلينا أن نفكّر في ما تمثله تلك المناسبات التي تنفق فيها الألوف وأحياناً عشرات الألوف أو حتى مئات الألوف من الأموال، من أجل إحياء يوم واحد أو سهرة. علينا أن نفكر ونسأل أنفسنا ألا يمكن في هذا الجو من الإنفاق بلا حساب أن يتخلل حفل الزفاف مثلاً الإعلان في السهرة من قِبل العريسين أو أهلهما عن تخصيص تبرّع معين لمؤسسات الخير والرعاية الاجتماعية؟ ألا يمكن ومن أجل استعادة بعض الدور الاجتماعي للعرس أن يصبح مثل هذا العمل تقليداً محموداً ويشجّع عليه بدل التركيز فقط على استعراض أشكال المصاغ والحلي الثمينة المقدمة للعروس، أو لفت الأنظار إلى ثوب الزفاف باهظ الثمن والألعاب النارية التي تحول الألوف من الدولارات وللحظات معدودة إلى بارود مشتعل ودخان؟ أليس استذكار أصحاب الحاجات وإظهار روح التضامن في مناسبات الفرح هذه من صلب روحية حفظ الإخوان، وإعلاء قيم الغيرية والمشاركة بين أبناء الطائفة؟ هذا النوع من المبادرات سيرحّب به الموحِّدون الدروز ويقدرونه في نهاية الأمر، وعلى الشباب القادر الذي يخطط لحفل زفافه في هذه الفترة أن يضع هذا الأمر في الاعتبار، إذ إنه بمجرد أن يوجد نفر ممن يدخلون تقليد الصدقة أو الزكاة في الأعراس فإنه من المرجّح أن يتحوَّل ذلك إلى عُرف وإلى مصدر مهم للموارد والعناية كما وسينال أول المبادرين إلى إدخال هذا التقليد الفضل والأجر الكبير. ونحن مستعدون في المجلة للتنويه بهذه المبادرات وإفراد سجل خاص
للتنويه بأصحابها ومكرماتهم.

إضافة إلى ما سبق فإننا نطلق في هذا المقال مبادرة لإحياء تقاليد العرس الدرزي، يشارك فيها بعض حكماء الطائفة وعقالها وفنانوها الشعبيون وأنديتها الثقافية ومؤسساتها وبلدياتها وهيئاتها الأهلية على أن يكون الهدف التشجيع على تصويب مسار حفل الزفاف بصورة تعيد له دوره الاجتماعي وبعده الثقافي في الوقت نفسه الذي تعيد ابتكاره كمناسبة للفرح وإعلاء قيم الأصالة والمشاركة الحقيقية للناس.
يهمنا التأكيد على أن الهدف من المبادرة ليس ممارسة أية وصاية ثقافية على الناس، فهم أحرار في ما يختارونه، لكن الهدف هو المساهمة في وقف هذا التسابق المكلف على الاستعراضات الفارغة والمملة، وذلك عبر اقتراح بدائل جذّابة وأنجح حتى في تحقيق غرض أصحابها. ولا نعتقد أن التفكير في إعادة ابتكار العرس الدرزي أو “الفرح” سيؤثر على تجارات بعض الناس أو يصيب سوق الأعراس ولوازمها بالكساد، لأن إحياء العرس الدرزي سيخلق اقتصاداً جديداً يتجه لتوفير متطلبات هذا النوع المختلف من المناسبات، ونحن نقترح أن يتم ربط الأعراس والهدايا المقدمة بتشجيع بعض أنواع الحِرف والصناعات المنزلية التقليدية التي تصبح هي الممون الأول لتلك المناسبات، سواء الهدايا التي تقدم للعروسين أم الهدايا والتذكارات التي تقدم للمدعوين. ولا حاجة للتفصيل في هذا المجال لكن المهم هو العمل على قيام مؤسسة أهلية ثقافية لإحياء العرس الدرزي تتولى تقييم الوضع الحالي واقتراح البدائل وكذلك إنشاء صندوق مالي محدد الأغراض لرعاية تلك المبادرة، وربما وفي مرحلة أولى تقديم حوافز ودعم مالي للعرسان الذين ينضوون تحت لوائها ويعرضون تنظيم أفراحهم وفق المنظور الذي يعيد الاعتبار لهوية الموحِّدين ويعيد البهجة للمحتفين في أعراسهم.

العرس في راشيا وحاصبيا

العرس في راشيا وحاصبيا

حسرة على اندثار العرس القروي وأفراحه

وخروج المجوز والدبكة ومشاركة الناس

يتذكَّر المواطنون في منطقتي راشيا وحاصبيا أعراساً مضت بكثير من الحسرة. كانت المنطقة حتى عقدين ربما من الزمن ما زالت مصانة من منتجات المدنية المعاصرة وغزو الاستهلاك وقيم المباهاة. وكان الناس يتابعون إرث الأجداد في مناسبات الفرح، ويعيشون سعادة حقيقية في العرس القروي، الذي كان فعلاً مناسبة جامعة وفرصة للتعبير عن مشاعر المحبة والتآخي، وتأكيد قيم الرجولة التي يقوم عليها كيان الطائفة عبر الأجيال.
ماذا حدث إذاً حتى تبدَّلت الأوضاع؟ كيف قَبِلَ الناس خروج الدبكة والمجوز والعزيمة وتحدِّي رفع «العمدة”، وأخلوا بدلاً من ذلك بدعاً ومبتكرات، ليس فقط لا علاقة لها بالتراث، بل هي أيضاً مرهقة لأهل المناسبة، وباتت تُشكِّل عبئاً يدفع البعض لتأخير الزواج بانتظار أن يتدبَّر التكلفة فيجرؤ على دخول الميدان.

يتذكَّر الأستاذ نعمان الساحلي، مدير ثانوية الكفير الرسمية، كيف كان العرس مناسبة جامعة فعلاً يشارك فيها حتى رجال الدين الذين كان لهم القسط الأول في إجراء عقد الزواج، لكنهم كانوا أيضاً يتقدَّمون أهل العريس وأصدقاءه في المسيرة نحو منزل والد العروس، لتسير خلفهم مجموعة من الشباب بالحداء والأهازيج والتصفيق يرافقهم العريس والأهل والأصحاب.
كان أصدقاء العريس يأخذونه إلى مكان يُعرف بـ “جرن العريس”،حيث يشذِّب شعره ويستحمّ ليرتدي سروالاً جديداً، وغالباً ما يكون هذا السروال قد لبسه من قبل عرسان سابقون في البلدة، وكانت هذه الاستعدادات تتم على وقع الأهازيج والردّات السائدة آنذاك وتُعرف بـ “الترويدة”:
طلَّت الخيل وطلَّينا بأولها وإن أدبرت الخيل مكسّرها الرجاجيمة
وبعد الإنتهاء من ارتداء العريس لثيابه الجديدة، يقول أحد الشبان ردَّة حداء ما زالت تتردَّد حتى اليوم تقال لشقيق العريس:

فــــــــــــلان كــــــــــرّب عالفــــــــــرس عريسنــــــــــا جهــــــــــازو خلــــــــــص
يـــــا نجــــــوم بــــــي أعلــــــى سمــــا عـــــــــــــالأرض تعملــــــــــو حــــــــــرس
قبل استلام يد العروس كانت عائلتها تأتي بـ “العَمدة”، وهي عبارة عن جرن حجري لا يقل وزنه عن 50 كيلوغراماً وتضعه أمام العريس وتطلب منه أن يرفعه، وذلك لإثبات جدارته بالحصول على عروسهم، وتالياً أهليته للتقرُّب منهم والانتساب إليهم بالمصاهرة. وكانت هذه إحدى اللحظات الأكثر دراماتيكية وإثارة في حفل الزفاف، لأنَّ العريس يصبح في داخل حلقة واسعة من الشباب والكبار الذين يترقَّبون قيامه برفع الجرن. فإن قام بذلك علّت الأهازيج وهلَّل الجميع، وخصوصاً وفد عائلة العريس الذين يعتزون بالإنجاز الذي “بيض وجههم”، وعندها يتم تسليم العروس للعريس بكل طيبة خاطر. لكن كان العريس في بعض الحالات يفشل في رفع “العمدة”، وكان ذلك يعتبر نكسة لا بدّ من مواجهتها بسرعة. وكان ذلك يتم عبر التدخُّل الفوري لأحد المقرَّبين منه لإنقاذه من الموقف. وغالباً ما كان العريس غير الواثق من قدرته على التحدِّي يصطحب معه مجموعة من الشبان المعروفين بقوة البأس والذين يكون على أحدهم القيام بهذه المهمة إذا دعت الحاجة، لكن على الشاب أن يكون من عائلة العريس وليس أي شخص آخر. لأن المهم هو المعنى الرمزي لهذا الاختبار لدى أهل العروس، وهو أن العائلة التي تُصاهرنا عندها “رجال” يمكن أن يهبُّوا إلى نصرتها عند الحاجة.

وهل حدث أن تراجع أهل العريس عن تسليم العروس في حال فشل العريس في رفع الجرن؟
نعم، يجيب الأستاذ الساحلي. مضيفاً: “حدث ذلك لكن في حالات قليلة عندما كان أهل العروس يمثلون أسرة عريقة أو ذات عنفوان وبأس، ولم يكونوا لذلك ليقبلوا أن يكون صهرهم العتيد أقل منهم شأناً في ميدان المروءة والفروسية، لأن “الصهر سند الظهر”، كما يقال. كما أن مجتمع الموحِّدين كان يقوم على مكارم الأخلاق وقيم الرجولة والشرف والعِفَّة والبنية الجسدية على اعتبار أن الأسر كانت تتخيَّر في أنسابها القَوي والعفيف، لأنها كانت ترى في ذلك ضمانة الحصول على ذرية قوية وصالحة تنتفع بها الجماعة في أوقات الحرب كما في أوقات السلم.
بعد وصول العروس إلى منزل العريس كان يأخذ بيدها ويبارك له الحضور. وعندها يدعو أهل العريس جميع الحضور إلى تناول الطعام، وغالباً ما كانت أرض الدار هي المائدة، فكان الخوان يوضع على الأرض ويجلس الناس متربعين أو على ركبهم لتناول طعام الفرح، وبعدها تبدأ التهاني ويعقد الشباب حلقات الدبكة ويتبارى بعضهم في غناء المعنّى والعتابا والميجانا. وهذه المشاركة غالباً ما كانت تغذِّي المواهب عند الناس في قول الشعر والمحافظة على تلك العادات. وكان العرس يستمرُّ أسبوعاً كاملاً يبدأ بـ “التعليلة” ليلة الجمعة ويستمر على امتداد الأسبوع، بحيث تشهد كل ليلة حلقات الدبكة والغناء والحداء والفرح على وقع المنجيرة والمجوز، وهي آلة طربية من القصب غالباً ما كانت ترتبط بالرعاة الذين كانوا يسلون أنفسهم بالعزف عليها وسط الطبيعة الخلاَّبة”.

كيف ينظر الأستاذ الساحلي إلى أعراس اليوم؟
يقول متنهداً: “شتّان ما بين الأمس واليوم! لقد زال الكثير من معالم العرس كما كنا نعرفه، وذلك بعد أن بدأ الناس يسيرون في ركب القيم المستوردة وحضارة المادة والتباهي، ويتخلون في سبيل تلك القشور عن العادات الشرقية والعربية، سواء في الشكل أم في المضمون. وقد تحوَّل العرس اليوم إلى حدث باهت لا روح فيه، وحلّت الموسيقى الصاخبة محل حنين المنجيرة وحلقات الرقص العفوي، وحلًت المطاعم بدل الولائم أو العزائم، وحلّ اللبس الغريب وغير المحتشم محل اللباس الراقي للأزمنة السابقة، وأخذت فِرَق الزفة وحركاتها البهلوانية محلَّ حلقات الدبكة الشعبية، وبات الفرح اليوم عبارة عن مهرجان يجلس فيه الناس على الكراسي بلا أية مشاركة أو دور حقيقي في المناسبة.

محمود فارس غزالي، الذي يقترب من عامه الـ 90، يعتبر أن أعراسنا أصبحت مناسبة جوفاء تهيمن عليها المزايدات والمظاهر الفارغة وتُلقي أعباءً كثيرة على كاهل العريس، الذي غالباً ما يرزح بسببها تحت وطأة الدين لإرضاء الناس.
يذكر غزالي كيف كان “جهاز العروس” في الماضي بسيطاً يوضع كله في صندوق يُعرف بـ “صندوق العروس” أو” الصندوق المطعّم”، وقد كان دولاب الثياب (الخزانة) في تلك الأيام غير معروف. وكانت العَمدة (أي تحدي رفع الجرن) هي التي تقرر معدن الرجال وأهليتهم لنيل العروس، بينما أصبح الشخص يأخذ عروسه هذه الأيام لا شروط إلاَّ

شرط أن يكون لديه المال”.
يضيف غزالي أن جميع أبناء القرية كانوا يشاركون بعضهم بدافع المحبة، ولم يكن في المنازل البسيطة سوى إنتاج المنقول ( الزبيب والجوز واللوز والتين) وكانت الهدية هذا النحو، أي من حاضر البيت، فكان أصحاب المواشي المقتدرين مثلاً يقدِّمون للعريس أحد رؤوس الماشية ليصار إلى ذبحها وطهيها لتقدم إلى المعازيم؛ كما كانت الحلوة أو “التحلاية” بعد الغداء من إنتاج البيت (رز بحليب)، أما اليوم فقد أصبحت الهدية من وحي العصر شاملة بذلك الأدوات الكهربائية وصولاً إلى ضيافة البوظة.
من التقاليد المهمة والجميلة التي اندثرت “ليلة النقوط”، النقوط حين كان يصار إلى جمع المال للعريس من قِبَل الحاضرين كلٌّ حسب قدرته مع حفظ سجل بتلك التبرُّعات التي تصبح بمثابة “دين” على العريس عليه أن يوفيه إلى من يتزوَّج بعده من الحاضرين أو من أبنائهم. ومن التقاليد التي ذهبت أيضاً “الشوبشة”، حيث يقوم الأهل والأصدقاء بتقديم المال أو الذهب إلى العروس. أما اليوم، فقد أصبح سيد الموقف رقم حساب العريس في المصرف”.

السيد صالح نوفل، رئيس بلدية الكفير، يضيف القول بأن “نكهة الأعراس” اختلفت كثيراً. فالطبلة والمنجيرة والمجوز تلاشت لحساب آلات موسيقية مستوردة، أو موسيقى معلبة وصاخبة أو مبتذلة، و”هو ما يجعل بلدة الكفير تحنُّ إلى الماضي الذي يكاد يصبح صورة
شاحبة في الذاكرة”.

يقول: “إن المشاركة في العرس أصبحت اليوم رمزية ومن قبيل “المسايرة” أو الواجب، وقد تقلَّص عدد المحتفين، كما تحوّل الحفل إلى حفل لا يلائم مجتمعنا، حتى أننا نكاد نفقد تراثنا الشعبي الذي عاش معنا لمئات السنين”. وأخطر ما حصل في رأس رئيس بلدية الكفير هو الارتفاع الكبير في تكلفة العرس، حيث نرى متوسطي الحال يتماثلون بالميسورين والأغنياء فيلجأون إلى بيع بعض الممتلكات الثابتة لتغطية تكلفة العرس. وهذا الواقع قد يستدعي إقامة أعراس جماعية تساعد على خفض التكلفة.

وختم بمطالبة السلطة الدينية لو تستطيع أن تكبح هذا الإفراط لما لقراراتها من رضى وقبول.

الأستاذ عامر عامر، من الخلوات حاصبيا، يستهجن “دخول الموسيقى الأجنبية إلى حياة الريف”، كما يلاحظ شيوع الاختلاط والكثير من البدع التي جعلت هناك انقساماً في المجتمع أزاء العرس بعد أن كانت المشاركة عمومية، بما في ذلك رجال الدين الذين كانوا يشاركون في حلقة الدبكة”. يضيف القول: “إن المزايدات أدخلت الناس في مرحلة الإفراط، إذ كانت مأدبة الغداء في السابق تقام من حواضر بيت الفلاح وكذلك “الضيافة”، حيث كانت مأدبة الطعام تمدّ أمام الناس على الأرض والكل يشارك. أما اليوم فإنَّ الميسورين الذين يزايدون في تقديم الضيافة والطعام، والكثيرون منهم يهدفون إلى إبراز ثرائهم وكسب الجاه، لكن هذا الأمر ينعكس سلباً على ذوي الدخل المحدود الذين يسعون إلى التماثل بهم”.

السيد حسن مدَّاح الذي ينظّم الشعر ويلقيه بدافع المحبة في المناسبات، وخصوصاً الأفراح، يقول عن أعراس اليوم: “رزق الله على أيام زمان” عندما كان أبناء منطقتنا فلاحين بمعظمهم والإمكانات المادية متواضعة، لأن تلك الأيام كانت تسودها المحبة والإلفة والنخوة. أما اليوم فإنهم يحاولون دفن ذاكرتنا وإخراجنا من ذواتنا وهويتنا”. مضيفاً: “في الماضي كان فرح العريس هو أيضاً فرح الناس، أما الآن فأصبحنا نأتي بمن يفرح عن الناس حيث تقوم فرق الزفَّة بتمثيل ما يفترض أن يقوم به أهل العريس وأصدقاؤه”. وأكد أنه يريد لحفل زفاف ابنه أن يكون على وقع التراث وبمشاركة ومباركة رجال الدين، وأن يسير الناس لجلب العروس على وقع الحدا والحوربة، بعيداً عن هذه البهرجة المزيَّفة والمصطنعة التي تبعدنا عن أصالتنا وتراثنا، لافتاً إلى أن إحدى أهم نتائج تدهور العرس الدرزي الأصيل، هو أننا خسرنا مشاركة المشايخ ومباركتهم للمناسبة، وقد باتوا يتجنَّبون حضور تلك المناسبات لأنهم لا يريدون أن يكونوا شهوداً على ما يحدث، خصوصاً زوال الحياء ومشاهد الفوضى بين النساء والرجال سواء في حلقات الدبكة أو الرقص، ناهيك عن المُسكرات التي لا يتوانى البعض عن تقديمها في المناسبة.
وختم بهذه الأبيات من الشعر:
الأفــــــراح نحن كلنـــــــــا نريدهــــــــا منمشي مثل ما قال عنها سيدها
بدنــــا المشايـــخ بالفـــرح يتدخَّلـــــوا حتــى عوايدنـــا القديمة نعيدهـــا

مجتمع الموحدين.

مخطوط نسب الأمراء الشهابيين وأخبارهم

ما برحت “الدار التقدميّة”، ترفعُ رسالة الثقافة والمعرفة والتراث، وتوسّعُ الاختيار ليشمل جميع أبوابِ المعارف.
وما زالت تُخرّجُ كتُبَ الفِكر، والسياسة، والأدب، والفلسفة، والتاريخ، والسيرةِ والاجتماع، وسواها من ثمرات العقول، خدمةً للأجيال الناشئة، وما يعرض لها في مجتمعها الحاضر ومستقبلها الطالع.
فالكتاب الذي تُعنى “الدار التقدميّة” بنشره، هو الروحيّةُ في هيكل الوطن، والانسانية في معنى الأُمّة، وإن شئتَ قُل هو الرأيُ المثقّف، والانفتاح الواعي، والفكر المستقلّ.
ومن الكتب التي صدرت حديثاً عن “الدار التقدميّة” مخطوط تاريخيٌّ نفيس من محفوظات الصديق الأستاذ محمود صافي، (مدير “الدار التقدميّة”)، عنوان هذا المخطوط: “نَسَب الأُمراء الشهابيين وأخبارهم في بلادِ حوران ووادي التَيم ولبنان”. وقد نَسَخه بيده الأمير نجيب محمد سليم الشهابي.
أصدرت الدار هذا الكتاب المخطوط، لمعرفتها أنَّ “التاريخ في ظاهره إخبار، وفي باطنه نظَرٌ وتحقيقٌ وتعليل، وعِلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها”، كما قالَ “ابن خلدون”، فضلاً عن أنَّ التراث ركنٌ من أركان العملية الإبداعية، التي “تقفُ فيها على أحوال ما قبلك، مِنَ الأيام والأجيال، وما بَعدك”.
يبدأ المخطوط بجدّ الشهابيين الأوّل، وهو مالك الملقّب بـ شهاب، ويعود نسبه إلى نزار بن معدّ بن عدنان، جَدّ العرب المستعربة في بلاد الحجاز، ويذكر بالأسماء أولاد عدنان، ليصل إلى عبد مناف، وهاشم، أجداد الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، تثبيتاً لجذور الشهابية في الإسلام، ثمَّ يرتفع من عدنان بالتفصيل إلى سام بن نوح، أوّل الرُّسُل وثاني الأنبياء بَعدَ آدم.
ويستعرض الكاتب في الصفحات الأولى مِنَ المخطوط أسماءَ الأُمراء الشهابيين جميعاً، بما يشبه شجرة الأُسرة، كاملةً مِن فجر الإسلام، إلى قيام نظام القائمقاميتين في لبنان، ثم يعرض للهجرة النبويّة سنة 622م، على اعتبارها التاريخ الفاصل الذي انتقل بعده الشهابيون من شبه الجزيرة العربية؛ وأمّا قيامهم في بلاد حوران فكان في القرن الثالث عشر للميلاد. ويروي الكاتب وقائع الشهابيين مع الإفرنج وانتصارهم عليهم، مستعرضاً علاقة الأمراء الشهابيين بالسلطان صلاح الدين الأيوبي (1138 – 1193)، الذي كانَ حصن الشرق في وجه غزوات الإفرنج لبلادنا، مستفيضاً في وصف الروابط الوثيقة بين الشهابيين والأيوبيين، كقوله، كان الملك صلاح الدين يعتمد عليهم في الحروب (ويجعلهم أمامَ عساكره)، مما دفع بـ صلاح الدين الأيوبي إلى أن (يخلع على الأمير منقذ الشهابي خلع الولاية على البلاد..)
وروى الكاتب، أنَّ فتوح القسطنطينيّة سنة 1453، جرّت في أيام الأمير أحمد الشهابي (نسيب الأمير ملحم المعني، أمير جبل الشوف) مُلمِّحاً إلى المصاهرة المتبادلة بين آل معن وآل شهاب، زواج الأمير محمد الشهابي من ابنة الأمير يوسف المعني، وزواج الأمير يوسف بن يونس المعني من ابنة الأمير مُنقذ  الشهابي). وقد خلف الشهابيون المعنيين في حكم لبنان (1697 – 1841)، بعد مؤتمر السمقانية الشهير.
يخبر الكاتب في مخطوطه عن وصول المغول إلى الشام سنة 1260 م ويسرد بتفصيلٍ دقيق وغنيّ، مراعياً فيه التسلسل التاريخي، وصول السلطان سليم الأوّل (العثماني) إلى أبواب حلب، ثمَّ انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق سنة 1516، وقيامه بمكافأة الأمراء الشهابيين وإقطاع أميرهم منصور شهاب بلاد وادي التيم.
وهذا ويأتي المخطوط على ذِكر الأمراء من آل تنوخ وآل علم الدين وآل جمال الدين، ويعزوهم إلى أبٍ واحدٍ هو “بُحْتُر”.
تناول الجزء الثاني من الكتاب “قيام الأمراء آل شهاب بوادي التيم إلى تملُّكهم في ديار جبل لبنان، وذِكر أخبارهم التي تولوا فيها”، ومنها صفاتهم وعدالتهم في رعيّتهم، ومعاملتهم لسائر أمراء لبنان، ومعاملة العثمانيين الخاصة لهم، وحدب ولاة بني عثمان عليهم، وفي هذا الجزء، ذِكر المراكز الإدارية والعسكرية التي تولاّها الأُمراء الشهابيون، وغيرهم من أمراء البلاد. مع تفصيل دقيق للتقسيمات الإدارية في لبنان يومذاك، وللعادات والتقاليد والإعراب المُتّبَعة في المعاملات والتحريرات والمراتب الاجتماعية، مع ذِكر أسماء الأماكن وعدد الجيوش في كلِّ وقعةٍ، ممَّا يدلّ على تمكّن الكاتب من موضوعه، ومعرفته بأدقِّ تفاصيله.
ولم ينسَ الكاتبُ الجغرافيا. ففي المخطوط تعريفٌ بأنهار لبنان، ووصف بعض أوديته وقُراه وبقاعه، وسردٌ مُفصَّل لتاريخه وأحداثه السياسية والأمنية، وإلتفات إلى المعارك المفصلية، مثل معركة عين داره بين القيسيّة واليمنيّة سنة (1711) وكثير غيرها، وسرد ما جرى في زمن العثمانيين من تحالفات، وما وقع بين ذوي الشأن مِن دسائس ونزاعات، وتحالفاتٍ وعهود، حتى كاد، مؤلِّف هذا المخطوط، لا يترك شاردة إلاّ قَيّدها، ولا حادثة إلاّ سرَدها، كقوله: }ثم أُحْضِرَ محمود باشا أبو هرموش، فقُطع رأسُ لسانه، وباهميه (إبهاميه)، ولم يقتله (الأمير حيدر) لأنه لم تكن العادة جارية بقتل مشايخ بلاد الشوف{. وقوله : }وفَرَّ الأمير يوسف ابن الأمير ملحم بأخوته وأهله إلى قرية المختارة… فنزل عند الشيخ علي جنبلاط{، وسواها مما لا يَفي هذا التعليق به.
ولعلّ هذا الكتاب – المخطوط ، تضمّن من “الأسماء، والرسائل والخطابات والفرامانات” والأقوال نثراً وشعراً، ما لم يتضمَّنه كتاب، في ما أعرف، من كتبُ تاريخ لبنان.
وجاء في آخر المخطوط }نبذة من تاريخ جودت باشا بحروفها، وذِكر كيفيّة إدارة جبل لبنان، الماضية والحاضرة ، وأصول حكامه ورسومهم القديمة، وعدد أهاليه وأقسامهم{.
يقع المخطوط في 438 صفحة، قياس 24 × 17 سنتم، مجلّد بغلافٍ فاخر، خالٍ من الفصول والأبواب والفهارس، واضح الخط شَيِّقُ السَرد، سليم اللُغة، يُعتبر – بحق – مصدراً من بين أهم مصادر التاريخ اللبنانية، الحافل بالحركات والأحداث.

التدخين ذلك الانتحار البطيء

لماذا يلهثُ المُدخِّن؟
ولماذا يُقلع البعض ثمَّ يعودون؟كثيراً ما يطرح السؤال: كيف يمكن لأيِّ إنسان عاقل أن يُدخل إلى رئتيه كلَّ يوم من أيام حياته هذا الكوكتيل الغريب والمُخيف من الأدخنة والغازَّات السَّامة والمواد الكيميائية والمُضافات الصناعية، وهو يبتسم ويمرح. لاحظوا أنَّ السيجارة لا يُدخِّنها الناس المكتئبون فقط، بل في الغالب إنَّها المُكمِّل الضروري –عند المُدمنين –  للأوقات المرحة، ولاسيَّما أنَّها رفيقة القهوة أو الكحول، أو هي خاتمة المائدة الشهية.قبل سنوات طويلة لم يكن العالم يعرف ما الذي تخبئه السيجارة، وقد جعل الإعلان التجاري منها صنواً للسعادة والمرح، بل إنَّ أحد الإعلانات يقدِّمها على أنَّها رفيقة رُعاة البقر في حِلِّهم وترحالهم وسط الطبيعة الخلاَّبة.
السؤال الأهم لماذا يستمرُّ المُدخِّنون في أخذ هذا السمّ بجرعات يومية على الرغم من علمهم بمحاذيره، وعلى الرغم من أنَّ العالم كلّه تحوَّل ضدَّ التدخين وبدأ يعامله كوباء اجتماعي وخطر على الصحة العامة، فيمنعه بصورة تدريجية في كلِّ الأماكن المغلقة؟ ولماذا يواجه السَّاعون لترك السيجارة الصعوبة المتكرِّرة التي تجعلهم يعودون إليها بأقوى من السابق؟ 

النيكوتين

الجواب البسيط هو النيكوتين الذي يشكِّل المادة الرئيسية في السجائر.
كيف يعمل النيكوتين على المُدخِّن، وما هو السبب في تأثيره الإدماني؟
يعمل النيكوتين على عدد من الدوائر الكهربائية في الدماغ فيحرِّضها على زيادة إفراز مادة الدوبامين التي تمنح المُدخِّن الشعور بالنشوة. وهذه المادة يفرزها الدماغ عادة بعد ممارسة أنشطة مُعيَّنة مثل: الرياضة، أو الجنس، أو أكل الأطعمة الغنيّة بالماغنيسيوم. لكن تأثير مادة الدوبامين يبقى لبضعة ثوان فقط، فما يلبث الجسم أن يفرز مادة المونوامين أوكسيدايس monoamineoxidase-MAO التي تقوم بتكسير مادة الدوبامين، وبالتالي المحافظة على معدلها الطبيعي في الدماغ. لكن أحد خصائص النيكوتين هو أنه يعمل على كبح مفعول الـ MAO، ما يعني بقاء مادة الدوبامين في الدماغ لفترة أطول، وبالتالي استمرار شعورنا بـ “لذة” السيجارة.

ولكن للأسف، فمع مرور الوقت يصبح جسم المُدخِّن أقل قابلية للاستجابة لمادة النيكوتين، ما يتطلَّب زيادة عدد السجائر للوصول إلى الإحساس نفسه الذي كان من الممكن الوصول إليه بتدخين سيجارة واحدة.  والخبر الجيّد في هذا المجال أنَّ مادة النيكوتين تختفي من الجسم في غضون 24 ساعة، ولهذا نجد أنَّ غالبية المُدخِّنين يستمتعون بتدخين أول سيجارة لهم وينخفض الإحساس بتأثير النيكوتين مع مرور ساعات النهار لأنَّ الجسم يكون قد أصبح مشبّعاً به، تماماً كما يحدث مع مدمني المُخدَّرات الذين يحتاجون إلى جُرعات متزايدة ليصلوا إلى الشعور بمفعول المُخدِّر. إنّ تأثير مادة النيكوتين شبيه بتأثير مادة الكوكايين، التي تعمل أيضاً على

لماذا “يلهث” المُدخِّن عند الركض؟

قد يكون السبب في إصابة القلب وتضيق الرئتين من جرَّاء التدخين لمدة طويلة، أو غير ذلك من أمراض الجهاز التنفُّسي التي تنجم عن التدخين. لكن السبب المباشر هو أنَّ دخان السيجارة يحتوي على أول أوكسيد الكربون CO الذي يُقلِّل من مقدرة كريات الدم الحمراء على نقل الأوكسجين لأنَّ هذا الغاز السَّام يتَّحد بالأوكسجين ليعطي ثاني أوكسيد الكربون CO2 ويحرم الدم بالتالي من توزيعه على خلايا الجسم التي هي في أمسِّ الحاجة إليه.

 

لماذا “يلهث” المُدخِّن عند الركض؟

قد يكون السبب في إصابة القلب وتضيق الرئتين من جرَّاء التدخين لمدة طويلة، أو غير ذلك من أمراض الجهاز التنفُّسي التي تنجم عن التدخين. لكن السبب المباشر هو أنَّ دخان السيجارة يحتوي على أول أوكسيد الكربون CO الذي يُقلِّل من مقدرة كريات الدم الحمراء على نقل الأوكسجين لأنَّ هذا الغاز السَّام يتَّحد بالأوكسجين ليعطي ثاني أوكسيد الكربون CO2 ويحرم الدم بالتالي من توزيعه على خلايا الجسم التي هي في أمسِّ الحاجة إليه.

 

أهمُّ الآثار الصحيَّة للتدخين

تشمل الآثار الصحية التي يتعرَّض لها المُدخِّنون ما يلي:

  • ازدياد احتمال الإصابة بأمراض القلب وتصلُّب الشرايين
  • ازدياد احتمال الإصابة بعدد من أنواع السرطان
  • نقص في كميَّة الدم التي تغذِّي الأطراف
  • دوار، غثيان، ضيق التنفُّس، سُعال مزمن
  • رائحة فم كريهة، اصفرار الأظافر والأسنان
  • انخفاض مناعة الجسم
  • العجز الجنسي
  • مخاطر تراجع الخصوبة والعُقم
  • مخاطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفُّسي والانسداد الرئوي
  • ازدياد الإصابة بالقرحة
  • وظهور التجاعيد في عمر مبكر.

 

تسويق شيطاني

أحد أهمّ الأسباب في ترسّخ الإدمان على التدخين، ليس فقط مادة النيكوتين (وهي المادة المُخدِّرة في التبغ)، بل يمكن ردَّه أيضاً إلى استراتيجيات الترويج الفعّالة التي تنفِّذها شركات تصنيع السجائر على مستوى الكرة الأرضية. إنَّ صناعة التبغ تعتمد على مبدأ مُخيف هو أنَّ “كل مدمن هو زبون لمدى الحياة، بغضِّ النظر عن قصر هذه الحياة أو طولها”. ولهذا السبب تعتمد صناعة التبغ على إقامة علاقة وثيقة بين التدخين والنجاح والقبول الإجتماعي، وهي تستخدم في ذلك أناساً مشهورين كنجوم السينما والمسرح، والأخطر من ذلك رياضيين مشهورين ما يعطي انطباعاً بأنَّ التدخين لا يتعارض ويؤثِّر على الصحَّة. إنَّ حملات الإعلان هذه تستهدف بشكل مباشر المراهقين، وذلك لما يمثِّلون من مادة مطواعة يسهل التأثير عليها، هذا من الناحية النفسية، أما مبدأ الربح والخسارة فيعمل على جعل الناس مدمني سجائر لأطول مُدَّة ممكنة ما يتطلَّب أن يبدأوا التدخين في عُمر مُبكر؛ كما أنَّ حملات الإعلان تستخدم منع بعض الدول لبيع الدخان لمن هم دون سن الثامنة عشرة بشكل فعّال لحثِّ المراهقين على التدخين لما يمثِّله من عنوان للرجولة عند الذكور، وعنوان للإثارة والبلوغ عند الإناث.

 

4000 عنصر كيميائي في دخان السيجارة

بالإضافة إلى الدور الرئيسي الذي تلعبه مادة النيكوتين في الإدمان على السجائر، فهي مادة مسرطنة وسامة، بل ثبت أنها تستخدم كمكوِّن أساسي في عدد من المُبيدات. وهناك مئات الأطفال أُصيبوا بالتسمُّم جرَّاء أكل السجائر التي غالباً ما تُترك في متناول الأطفال. والنيكوتين ليست المادة الوحيدة السَّامة في السيجارة، فقد أثبتت الدراسات أنَّ هنالك ما لا يقل عن 4000 مُركب كيميائي يمتزج بدخان السيجارة الذي نُدخله إلى الرئتين، كما أنَّ شركات التبغ تستخدم نحو 600 مادة مُضافة في “تنكيه” وتحسين خصائص احتراق التبغ والكثير منها تُصنَّف كسموم كيميائية (راجع: “حقائق عن السيجارة”).
ثمَّ هناك القطران الموجود في ورق السجائر، والذي يتسبَّب بتكوين طبقة من الصمغ على الرئة، وهناك الزرنيخ والفورمالديهايد وهي مادة سَّامة جدَاً، وتؤدِّي إلى تقرُّحات في الجهاز التنفُّسي وفي العيون، وهذا بالإضافة إلى كونها مادة مُسرطنة.

  • يحتوي دخان السيجارة على 4000 عنصر كيميائي، 43 منها مُصنَّفة كعناصر مُسبِّبة للسرطان، و400 منها مُصنَّفة كسموم أو ذات سمية ملحوظة، وهذه الأخيرة
  • تشمل النيكوتين وأول أوكسيد الكربون والفورمالديهايد والأمونيا وسيانيد الهيدروجين والزرنيخ والـ د.د.ت.
  • عندما يُحبّ المُدخِّن “نَفس” من سيجارته، فإنَّ النيكوتين الذي يحتويه دُخَّانها يصل إلى الدماغ في ست ثوان فقط.
  • آخر “نفس” من السيجارة يحتوي على ضُعف كميَّة القطران التي يحتويها أول “نفس”، علماً أنَّ القطران يتجمَّع على جدار الرئتين ويتراكم مع الزمن.
  • معظم العناصر الكيميائية التي يستنشقها المُدخِّن تبقى في الرئتين، وكلَّما زاد الاستنشاق زادت اللذَّة التي تشعر بها وزاد بالتالي التخريب البطيء للرئتين والضرر الشامل اللاحق بمختلف أعضاء الجسم.
  • تُقدِّم شركات تصنيع التبغ إلى الحكومة الأميركية معلومات مُفصَّلة عن المحتويات الكيميائية الموجودة في التبغ، لكن ضمن اتفاق يحظِّر على تلك الحكومة الكشف عنها بحجَّة الحفاظ على “الأسرار التقنية والتجارية” للشركات المُنتِجة.
  • يؤكِّد كافة خبراء الصحَّة أنَّ فلتر السيجارة لا يفيد حقيقة لأنه لا يحجز مادة النيكوتين السَّامة، ولأنَّ شركات التبغ تُضيف إلى الفلتر ما يجعله في حدِّ ذاته مؤذياً للصحة، وذلك من خلال استخدام مُضافات مُحسِّنة للطعم Additives معظمها يشتبه في كونه يُسبِّب السرطان.
  • أحد العناصر المُستخدمة في السيجارة هو مادة كيميائية مشابه جداً لوقود الصواريخ، وأمَّا وظيفة هذه المادة فهي أن تجعل تبغ السيجارة يحترق بحرارة عالية جداً، الأمر الذي يسمح للنيكوتين في التحوّل إلى بخار بحيث يمكن للرئتين امتصاصه بسرعة وسهولة. (من أجل تكوين
    فكرة علمية عن العناصر السَّامة والخطرة المُضافة إلى سيجارتك
  • الدخان الذي يتصاعد من السيجارة يحتوي فقط على 8-5 في المئة من مجموعة الغازات التي تنجم عن حرق التبغ، إذ إنَّ النسبة الباقية لا تُرى بالعين المُجرّدة وهي تحتوي على غازات سامَّة مثل: أول أوكسيد الكربون، الفورمالديهايد، الأكرولين، سيانيد الهيدروجين، وأكسيد النيتروجين.
    يؤدِّي احتراق التبغ إلى توليد 150 مليار جُزَيء من القطران بكلِّ بوصة مُكعَّبة من التبغ. وقد نقل باحثون عن أبحاث أجرتها شركة “آر.جي. رينولدز توباكو” أنَّ دخَّان السيجارة أكثر تركيزاً بـ 10 آلاف مرة من دخَّان السيارات في ساحة الزحام.
  • أظهرت دراسة علمية جرت في الولايات المتحدة الأميركية أنَّ نسبة 42 في المئة فقط من الرجال المُدخِّنين يصلون إلى سن الـ 73 عاماً مقارنة بنسبة 78 في المئة من الرجال غير المُدخِّنين.
    تُقدَّر ميزانية الإعلان والترويج للسجائر التي أنفقتها الشركات المُصنِّعة نحو 6 إلى 7 مليارات دولار.
  • يُقدَّر الدخل الإجمالي لشركات تصنيع السجائر ما بين 30 و35 مليار دولار، وقد تراجع هذا الدخل في الدول الغربية بسبب حملات مكافحة التدخين، إلاَّ أنه يتزايد باستمرار في العالم الثالث وبسبب اجتذاب المزيد من النساء والأحداث.
  • تكبَّدت الميزانية الأميركية في العام 1993 نحو 50 مليار دولار، وذلك كتكلفة مباشرة لمعالجة الآثار الصحيَّة الناجمة عن التدخين في الولايات المتحدة الأميركية.
  • احتمالات وفاة المُدخِّنين بسرطان الرئة هو 22 ضعفاً (والنساء 12 ضعفاً)، احتمال وفاة أولئك الذين لم يُدخِّنوا في حياتهم..
  • يموت 400,000 شخص سنوياً في الولايات المتحدة جرَّاء الأمراض الناجمة عن التدخين.

سلطان باشا الأطرش فــــــي شخصيـــتـــــه وصفــاتــــــه

كثيراً ما نطرح التساؤل التالي: لماذا نتذكَّر الرموز الوطنية ونتعلَّق بهم مهما باعد الزمن بيننا وبينهم؟ هل لأنَّ القادة البارزين باتوا اليوم قلائل، أم لأنَّ عند الإنسان حنيناً إلى الماضي، أم للأمرين معاً؟ من هذه الرموز سلطان باشا الأطرش، الذي صار في ذمّة الله منذ آذار 1982، ولكننا ما زلنا ، في جهادنا ضدَّ العدو الإسرائيلي والمطامع الأجنبية، وفي ليلنا العربي الطويل، نستضيء بلمعان سيوف جهاده، وفي مسلكنا الإجتماعي وسلوكنا السياسي نسترشد بمواقفه ونقتدي به في أعماله وصفاته.

محطات جهاد سلطان الأساسية هي باختصار كُلِّي: اشتراكه في الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين ضد الأتراك في سنة 1916، بحيث كان أحد قادتها، وأول من دخل منهم دمشق ورفع العلم العربي فيها، وموقفه المعارض للانتداب الفرنسي ولإنشاء الدويلة الدرزية في جبل العرب (جبل حوران وجبل الدروز سابقاً) في إطار سياسة التجزئة الاستعمارية، وثورته الأولى ضد الفرنسيين في 21 تموز 1922، وإعلانه الثورة السورية الكبرى في 21 تموز 1925 وقيادته لها، وتمرّده على رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، الذي كان السبب الرئيس في إسقاطه سنة 1954. لذا لُقِّبَ بـ “قائد الثورات السورية” باعتراف الجميع. وقد اضطر إلى ترك البلاد 3 مرات، وحُكِمَ بالإعدام غيابياً مرَّات عدة.
أن يصبح سلطان قائداً للثورات السورية، ورمزاً وطنياً وقومياً، فهذان أمران لا يأتيان عفواً، بل هما نتيجةٌ طبيعية لانجازات صنعها، ولمؤهلات وصفات تحلّى بها، جعلته يتميّز ويسمو، ويحظَى بالمكانة المرموقة في حياته، وبالخلود بعد مماته. لم يكن رجل فكر وعلم وثقافة، ولم يحصل من التعلُّم إلاَّ على الجزء اليسير، إذا إنَّ قِلَّة المدارس في جبل العرب، وتَتَابُع الحوادث والأعمال العسكرية فيه، حالا دون دخوله المدرسة في طفولته وفتوَّته. ومن حسنات السيئات أنه اكتسب المعلومات الأساسية في القراءة والكتابة والحساب بعد سن التاسعة عشرة إبَّان تلقِّيه الدروس في أثناء الخدمة الإجبارية في الجيش العثماني في منطقة الروملّي في البلقان. وقد عوّض عن العلوم المدرسية بثقافةٍ حياتية توفَّرت له في مضافات جبل العرب، التي تشبه المدارس، لأنَّها تفسح المجال واسعاً أمام تفجّر مواهب الفصاحة والموسيقى والشعر، وأمام معرفة القصص الشهيرة والأمثال والحِكَم والأدب الشعبي وسِيَر العُظماء. كما عوّض عنها بما اكتسبه من التجارب في الحقل الاجتماعي والسياسي. ومع ذلك ظلَّ مستواه الثقافي دون مستواه كقائد.
اشتهر سلطان كقائد عسكري أكثر منه قائداً سياسياً، إلاَّ أنَّ خبرته العسكرية هي أيضاً، كثقافته وعلومه، لم تأتِ من تعلّمه في معهد حربي، وإنَّما اكتسبها من ميادين الفروسية في جبل العرب، ومن القِتَال الفعلي إلى جانب والده ضدَّ الأتراك، ومن الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني. ثمَّ توسّعت خبرته بفضل المعارك التي خاضها في ثوراته. فهو في الحرب خريج التجارب الميدانية لا النظريات، كما هو في الثقافة خريج مدرسة الحياة لا المدرسة التقليدية. وفي كلا الأمرين جاءت خبرته نتيجة الممارسة لا نتيجة الاعداد. وهما لم يكونا كافيين لصنع رمزيته، بل إنَّ تأثيرهما في ذلك كان أقلّ من تأثير مميِّزاتٍ وصفاتٍ أهّلته للقيادة، ولاتِّخاذ المواقف التاريخية، ومواجهة التحدِّيات الصعبة.
أول ما يتبادر إلى الذهن هو شخصية سلطان، أي تكوين جسمه، وهيئته التي شكَّلت ما يُسمّى اليوم “الكاريزما”. إنه ربع القامة مع ميل إلى الطول، عريض المنكبين، ذو وجه واسع، وعنق قصير، وأنف ضخم، وعينين صغيرتين زرقاوين تغوران في الوجه ذي البشرة الحنطية، وذقن نافرة مستديرة، وشاربين عريضين منسدلين فوق الشفة والذقن، كان يسوّيهما في شبابه وعند التصوير، فيصبحان كسيفين مسلولين في استقامة. هذه الأوصاف مجتمعةً، مضافاً إليها القوة التي تشعُّ من عينيه، وملامح الرجولة البادية عليه، وصوته الجهوري الأجش الذي يبعث الخوف، خصوصاً عند الغضب، هي التي أعطته الهيبة والوقار، وفرضت على الآخرين تهيّبه. لقد أخذ تكوينه الجسدي الصلب من البيئة الطبيعية، ومن صخور الجبل البركانية ورسوخه شامخاً في حوران. وظلَّ يحتفظ بهذه الصلابة وبقدر وافر من الحيوية حتى أواخر حياته، مع انحناءة بسيطة في الظهر لكثرة ما أثقلت كاهله السنون وأعباء الجهاد.
هذا التكوين الجسدي الصلب كان وعاءً لنَفْسٍ كبيرة. وهذا المظهر المادي كان يشتمل على قوَّة روحية فاعلة، وصفات سامية مستمدَّة من البيئة الثقافية لسُكَّان الجبل الموحِّدين الدروز، المتمسِّكين بالعادات والتقاليد العربية الأصيلة، وبصنع المعروف الذي لُقِّبوا به “بني معروف”. وأبناء الحسب والنسب يجهدون أن يسيروا على خُطى السلف، وأن يكونوا مثالاً للآخرين.
سلك سلطان منذ الصغر المسلك الصالح الذي بلغ حدَّ الصرامة في اعتماد الحشمة، إذ إنه لم يتعلَّم السباحة كأترابه في البُرك المكشوفة، لأنها تستوجب خلع ثيابه وظهوره عارياً أمام الأعين. ولم يسفّ في كلامه أو يبتذل، ولم يدخّن ويشرب المُسكرات، ولم يتعاطَ الميسر. وكان الزوج العفيف. وهذه أمور مطلوبة من كلِّ إمرئ في المجتمع الدرزي المحافظ، المتميِّز بمكارم الأخلاق، إلاَّ أنَّها مطلوبة على الأخص من المتديّنين. لذا عمل سلطان بموجب التعاليم الدينية قبل أن يعتّم في الثمانينات من عمره ويصبح من رجال الدين. كان محافظاً يتشبّث بالتراث والجذور والأصول، ويؤمن بالتطوّر التدريجي المعتمد على القديم، ويرفض أن تأتي الحداثة على الأصيل والجميل من العادات والتقاليد. ومع انفتاحه على الآخر، وتجاوزه للفئوية والمناطقية في الأمور الوطنية والقومية، كان غيوراً على مصلحة أبناء عشيرته وطائفته ومنطقته.
تميَّز سلطان بصدق اللسان، والصدق في القول والعمل والإيمان أول المبادئ التي يدعو إليها مذهب التوحيد الدزري. وكان مستقيماً في العمل الإجتماعي والعمل السياسي، يؤمن بالفعل لا بالقول، وبجدوى العمل العسكري مع المستعمر والمحتلّ أكثر من جدوى العمل السياسي. فبادرة وطنية عملية أفضل عنده من ألف خُطبةٍ رنَّانة؛ ودويُّ رصاصة تطلق على العدو أفضل من هدير وصيحات آلاف المتظاهرين والمحتجِّين. فالمستعمرُ والمحتلُّ والقويُّ الغاشم لا يفهمون إلاَّ لغة القوَّة. وكان متواضعاً، إلاَّ في الحالات التي تتطلَّب اتِّخاذ موقف رسمي ومعنوي، وتلك التي تتطلَّب أن يظهر بشممه وترفّعه. وَرث التواضع عن والده الذي رفض أن يكنّى به، أي “أبو سلطان” كونه  الابن البكر، فكنّي بابنه الثاني علي تيمُّناً بهذا الإسم الكريم.
سلطان أكثر قادة الثُوَّار تواضعاً، وأقلُّهم كلاماً. فهو كثير التفكير، قليل الكلام. حديثه لا يأتي باستعمال الضمير “أنا”، بل الضمير “نحن”، واستعمال صيغة الجمع. فالثورات التي اشترك فيها وقادها، هي ثورات العرب والسوريين. والمجاهدون هم الذين قاتلوا وضحّوا وأبادوا وشتَّتوا الأعداء. والانتصارات هي من صُنعهم جميعاً، وهو واحد منهم. وقد عبّر عن ذلك بجوابه على باحث ألحَّ عليه بتبيان دوره، فقال: “كنتُ واحداً من الدروز. كنتُ واحداً من المجاهدين”. فإذا كان له فضل قيادة الثورات، فلمن استجابوا لها أفضال القتال والتضحيات وتحمُّل الخسائر. وهو ما كان يستطيع أن يفعل شيئاً لولا الجموع المؤمنة والمجاهدة من كلِّ أنحاء سورية ولبنان عامة، ومن الموحِّدين الدروز خاصة، الذين كان يعتبرهم العِمَاد والأساس للثورات التي قام بها. وقد ظلَّ، بما وهبه الله من صفاء ذهن وذاكرة قوية، يتذكَّر أسماء معظم المجاهدين، وتفاصيل ما جرى معه ومعهم، وهذا دليل على أنَّ ما عايشه وصنعه وعاناه بقي منغرزاً في ذاته وروحه، وكأنه جزء منه.
الثورية من المزايا الأساسية، بل المزية الأولى التي صنعت رمزية سلطان. إنَّها شعور بوجوب إحقاق الحقّ، وإقرار العدل، ورفع الظلم، وتصحيح الخطأ، ووقف التعدِّي من أيِّ جهة أتى. وهي مزية طُبع

عليها سلطان بالنظرة، إذ كان يغضب ويثور جراء رؤية الأخطاء والشواذات، والأفعال والأقوال التي يرى فيها اهانة له أو لعشيرته وقومه. وعندها تجحظ عيناه، ويزداد العبوس والتقطيب بين حاجبيه، ويرتقص شارباه، وتعلو نبرة صوته الأجشّ، فيخيف بهيئته وصوته، ويمتنع على الرجال الجسورين التطلُّع إليه، ومتابعة الحديث معه. وثوريته غذّتها عوامل عديدة تمثَّلت في ما سمعه من مظالم الدولة العثمانية التي كانت تحمل أبناء الجبل على الثورة، وفي ما شاهده، وهو في الخامسة من عمره، من إجراءات حملة القائد العثماني، ممدوح باشا، حين اصطحبه والده معه أثناء حضوره لمقابلة هذا القائد، كما غذَّتها مشاركته إلى جانب والده في قتال حملة سامي باشا الفاروقي في سنة 1910، وأخذه بالقوَّة مُجنَّداً في الجيش العثماني إلى الروملي، حيث تعرّف على أقوام ثائرين كقومه ضدَّ الظلم، وشنقُ الأتراك والده ظلماً في ساحة المرجة بدمشق. وكما ارتسمت في ذهنه صورة التركي الظالم الذي وجّه الحملات العديدة إلى الجبل، وصورة المصري الظالم الذي

 

 وجه إليه 4 حملات، وسمّم المياه ليسرّع في تسليم أبنائه الثائرين، هكذا تغذّت عنده روحية الثائر تخلُّصاً من الظلم، وطلباً للحرية والعيش الكريم، فاشترك في  الثورة التي أعلنها الشريف حسين، وقام بثورتين على الفرنسيين، وبانتفاضة ضد أديب الشيشكلي.
والشجاعة هي التي حوّلت ثورية سلطان من مجال الإحساس إلى مجال العمل. فالغضب من الظلم إذا ظلَّ كامناً في النَفْس، يعتمل ويغلي داخل الإنسان، قد يؤذيه، لكنه إذا انفجر، وتجسّد في ردَّة فعل، يردُّ أذى الظالم، ويأخذ الحقّ منه. والآراء والأفكار تبقى رؤى وهواجس إذا لم تتجسّد في كلام أو عمل، والقرارات الصائبة تبقى كلاماً في الهواء، أو حِبراً على الورق، إن لم تقترن بشجاعة التنفيذ. كان سلطان يتميَّز بشجاعة الرأي والفكر والقلب، أي بالقدرة على قول ما يفكِّر به، والمبادرة إلى تنفيذ ما يعزم عليه، مؤمناً بأنَّ من خَشِيَ بشراً مثله سلط عليه. كما كان يتميَّز بشجاعة الجسد، وهي عنده ميزة وراثية برزت في طفولته في تجارب عدَّة، منها تغلّبه على مجموعة من أترابه وضعه عمه فايز في مواجهة معهم. أخذ الشجاعة من أسرته وعشيرته آل الأطرش، ومن قومه الدروز الجبليين الأشدَّاء، الذين نجحوا في مواجهة صعوبات الطبيعة وأخطار الأعداء وشتّى التحدِّيات، الذين يكرّمون الشُجاع ويحتقرون الجبان، ويؤمنون بالقدر وبالأجَل المحتوم، وبأن ابن تسعة لا يموت ابن عشرة، إذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. لذا لا يأتي الموت، بحسب اعتقادهم، من عنف القتال وكثرة الأعداء، وهو لا يمثِّل في رمية سهم، أو ط

 

عنة سيف، أو رصاص بندقية، أو شظية مدفع، بل يمثل في سهم القدر ونهاية العمر المكتوب. هذا الإيمان يخلق منهم مقاتلين أشدَّاء شجعاناً، يقتحمون س

 

اح الوغى غير هيّابين، وهو الذي زاد من شجاعة سلطان الموروثة فكان المُقاتل الذي لا يهاب الأعداء مهما كثروا، ولا يخشى الموت. وقد روى شهود عيان قصصاً كثيرة عنه، منها أنه كان يتابع القراءة في كتاب أو كتابة رسالة إبَّان قصفٍ يلجأ من حوله إلى الإحتماء، وكان يتابع السير في أرض مكشوفة إبَّان ملاحقة الطيران الفرنسي له بالقصف، فيما مرافقوه يفتِّشون عن مكان آمن. فإذا كانت الشجاعة عند الموحِّدين صفة شبه عامة، فإنَّها عند سلطان موجودة بنسبة كبيرة تحمل على القول إنه أشجع هؤلاء الشُجعان، بحسب ما وُصف به جدُّه إسماعيل من قِبَل الرَّحالة بورتر، الذي زاره أواسط القرن التاسع عشر.

والإقدام هو أحد وجوه الشجاعة وتجلِّياتها. وقد كان سلطان، على الرغم من اتِّصافه بالحذر، لا يتردَّد عن اتِّخاذ المواقف الخطيرة والقرارات المصيرية، ويقدم عندما يُحجم الآخرون أو يتردَّدون. وبفضل إقدامه تحوّل من زعيم أقلّ شأناً، في الأساس، من زعماء الجبل الأربعة الكبار، سليم ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش، إلى زعيم أكبر منهم شأناً، وإلى قائد فعلي لجبل العرب، وأحد كبار رجالات سورية. فهو لم يتردَّد عن استعمال القوَّة لاستعادة أراضٍ لقريته (القريّا) وضع أهل بصرى الشام أيديهم عليها، يوم كان الجبل ضعيفاً يتجنَّب الحوادث بعد حملة سامي باشا

وإذا كان أفضل تعريف للوطنية، بين أواخر العهد العثماني ونهاية عهد الإنتداب الفرنسي، بأنها رفض للاحتلال، ومقاومته تحت راية التحرُّر والاستقلال، فإنَّ سلطان رمز لها. ووطنيته الصادقة لا تبرز في قيامه بالثورات، بقدر ما تبرز في الغاية منها. فهو لم يثر من أجل مصلحة شخصي

ة تتمثَّل بجمع المال، أو بتسلًّم المناصب، بل ثار من أجل الاستقلال، والثأر للشرف المهان، ولاستعادة الكرامة المهدورة والسيادة المفقودة. ولو كان هدفه المال لجنى منه الكثير، ولو كانت المراكز لحصل منها على المهم والكبير. إنه بعكس قادة الثورات في العالم، الذين توصَّل معظمهم إلى السلطة، أو إلى تسلُّم المناصب العالية، لم يطمح إلى تسلُّم الحُكم، بل كان يعزف عن تسلُّم المناصب التي تُعرض عليه، ويترك أمر تسيير شؤون البلاد أمانة في أعناق السياسيين. إن أحسنوا التصرُّف فهو معهم، وإن

 

أساؤوا فهو ضدّهم. وقد صرّح أنَّ قيامه بالجهاد “ليس لطلبِ أمر، أم لكسب شهرة، أم لمطامع دنيوية”.
ومن مزايا سلطان الزُّهد وبساطة العيش. وكبار القوم يزدادون كِبَراً بزُهدهم وتواضعهم، وأغنياؤهم يزدادون غنى باعتمادهم بساطة العيش. وهو في زُهده وبساطة عيشه يشبه كمال جنبلاط وغاندي والخليفة عُمر بن الخطَّاب. كان بيته مسكناً عادياً كمعظم بيوت قريته، مؤلَّفاً من طبقة واحدة، هو عبارة عن مضافة، هي قاعة استقبال جانبية، وبضع غرف للسكن والمنامة. وقد فضّل سكناه على سكن دار في دمشق قدَّمتها له الحكومة السورية تقديراً لجهاده. ولم يركب السيارة الفخمة التي أُهديت له، بل كان ينتقل مع أبناء قريته في حافلة لإداء واجبات التعزية والتهنئة، ولحضور المناسبات التي يُدعى

 

 إليها، وكان يتفقَّدهم واحداً واحد، ولا يأخذ محله إلاَّ بعد اكتمال حضورهم. وقد اعتمَّ في أواخر حياته، فكان يتعبَّد في خلوة صغيرة كتب على بابها “يقيني بالله يقيني”، وينام فيها على بساط رثٍّ عتيق. وكان يقنع من القوت بما يقيت، ومن الملبس بما يليق. وكما كان كريم النَفْسِ كان كريم اليد مضيافاً بحسب التقاليد العربية السائدة

 

في الجبل، وإنما دون إسراف وبعيداً عن حُبِّ الجاه. لم يكن في بيته خدم، فزوجته وبناته هنَّ اللواتي يتولينَّ الشؤون المنزلية. عبّر عن زُهده وقِلَّة ما يملك بالقول في وصيته: “أمَّا ما خلّفته من رزق ومال، فهو زُهد فلاح متواضع”.
كان سلطان محباً للأرض، ومحباً للعمل فيها. حُبُّه لأرضه الخاصة ولأرض قريته قاده إلى امتشاق السلاح لاستعادة ما أخذه أهل بصرى. وحُبُّه لأرض بلاده قاده مع حُبِّ الحريَّة والاستقلال للقيام بالثورات من أجل تحريرها، وتطهيرها من رجس الأجنبي. فالأرض عنده مقدّسة ومباركة، والعمل فيها شرف كبير، والجهاد من أجلها شرف أكبر؛ وكثيراً ما شوهد في أرضه في حزحز، مستلقياً على الأرض، أو جالساً على صخرة يتأمَّل. وحين أتاه رئيس الجمهورية السورية أديب الشيشكلي، احتار أين يجلس، فقال له: “اقعد يا أديب على الأرض. نحن افترشناها طوال خمس عشرة سنة من الجهاد”. وكثيراً ما كان يُقلِّم الأشجار، ويساعد الفلاَّحين في حراثة الأرض، فيشاهده زوَّاره، وفيهم الصحفيون الأجانب والعرب، مُمسكاً بالمحراث، فيعجبون لقائد كبير يتحوَّل في حقله إلى فلاَّحٍ يُسهم بيده الخشنة في تفجير خيرات الأرض. ولقد قال الفيلسوف ميخائيل نعيمه: “إنَّ اليد العاملة الخشنة تُصافح يد الله، فيما اليدُ الناعمة تُصافح يد إبليس”. ويد سلطان الخشنة من العمل في الأرض، والخشنة من الجهاد من أجل الحفاظ على الأرض، وتحقيق حرِّية ساكنيها، صافحت يد الله.

نداء الروح في عالم صاخب

في ظلِّ الفراغ الروحي المتعاظم أو الآخذ بظاهر الدين من دون لبِّه وجوهره الحقيقي، لا بُدَّ لـ “مجلة الضُحى” من لعب دور أساسي في ثقافة التوحيد ومناقبه وآدابه. وكم من الناس أصبح الدِّين عندهم تعلّقاً بالأماني وجموداً في الفِكر وتقصيراً في السعي؛ وما الفراغُ الذي نعيشه اليوم إلاَّ نتيجة لابتعادنا عن ينابيع التوحيد وتقصيرنا في العمل بالآية الكريمة: “وقُل ربِّي زدني عِلماً”. ولا بُدَّ لذلك من العمل على تعريف الموحِّدين بكنوز الإيمان والاختبار الروحي الكوني والتحقّق. هذه الكنوز الذي وصلتنا من كلِّ صوبٍ، وتؤكِّد لنا كلَّ يوم أنَّ اختبار التوحيد شامل لجميع البشر، وأنَّ الله تعالى لم ينسَ من فضل هديه ونعمه الروحية حضارة أو شعباً، ولا بد لنا بالتالي من التطلع بقلوب مفتوحة إلى منابع التوحيد وقيمه ومسالكه خصوصاً في محيطنا والتراث الهائل لشركائنا في الإيمان والإسلام.

إنها الرسالة المستمرة منذ أن وجد البشر، إنها رسالة الموحدين السابقين في كل زمان، رسالة فيثاغوروس وسقراط  وأفلاطون ورسالة هرمس الهرامسة وشعيب التوراة ويسوع الحق وحوارييه والإسلام الحنيف وكتاب الله المعجز والرسول الكريم وسيرته والصحابة الكرام وشمائلهم والأركان وشمس سلمان الفارسي التي لا تغيب، إلى عصر النور والحياة، وهو الدور الفاطمي والقاهرة المعزية، ونجومها الزاهرة، ودار الحكمة، والمليون مجلد في ذاك الزمان، واكتمال بدر التوحيد ورسالته الخالدة.

هؤلاء هم الموحدون الدروز، المسلمون المؤمنون، وهذا هو تراثهم، فأين نحن اليوم من هذا التراث؟ وهل يمكن لمن هم من أشرف الخلق أن يسيروا في هذه الحياة على غير هدى غير مدركين لحقيقتهم وللرسالة التي كلفوا بها بل شرفوا بها وبحملها؟ وما الذي يعرفه موحدو هذه الفترة الصعبة من أسرار وحقيقة مسلك التوحيد الذي كان في أصل وجودنا وتقاليدنا كما كان دوماً ميزان أعمالنا والقوة الدافعة عند الملمات في صراعنا. وكم ناضل السابقون منا وكم من الأثمان الغالية دفعوا حفظاً لهذه الكنوز ولهذا المسلك الشريف والسامي في الحياة؟

إنه التوحيد، الذي استعصى سره على أعظم العقول وفق قول أحد الحكماء

“إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد، تناهت إلى الحيرة.”

أو كقول أحد حكماء المسلك، بأن التوحيد إسقاط الياءات، أي لا تقول لي، وبي ومني، وإلي بل جاهد لمحو الثنائية حتى لا يبقى إلا الواحد. والغائص في بحار التوحيد لا يزداد على مر الأوقات إلا عطشاً. وهل أجمل من وصف البسطامي حالة القلق والعطش والفناء عن الذات، والاحتراق في لهب المحبة والوجد حيث يقول :

عجبت لمن يقول ذكرت إلفي      وهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتــك ثم أحيـــــا      فكم أحيا عليك وكم أمـوت
شربت الحب كأسـاً بعد كأس      فما نفد الشراب وما رويت

” إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بأن لهم الجنة “، والجنة في حقيقتها تتجاوز أنهار اللبن والعسل الرمزية إلى تجلي الحقيقة في نفوس المستعلين والمتطهرين، في رحاب الدعوة الإلهية الهادية المهدية. وقد قال فيهم جعفر بن محمد:

“إنما المؤمنون أخوة أبوهم النور أي العقل وأمهم الرحمة أي النفس “.

هذه لمحات في معنى التوحيد نرجو أن  نقدمها في هذا الباب إلى السالكين والشباب، وهذا الجيل الجديد الذي انجذب معظمه ويا للأسف إلى كل مادي محسوس، والسعيد من جعل الحكمة لقلبه مسكناً، وجعل طلبها عنده أزكى مغنماً، فيغمر ذاته الشريفة عندها شعور الغبطة الناجم عن معرفة النفس، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.

عليك بالنفس تستكمل فضائلها     فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

أو كقول جلال الدين الرومي :

وتزعـم انـك جـرم صغيــــــر      وفيك انطـوى العالـــم الأكبـــر

أو كصرخة الحلاج في معراج شهادته وأمام مرآة كينونته الإلهية :

 وأي الأرض تخلو منك حتى             تعالـوا يطلبونـك في السـمـاء
تراهـم ينظرون إليـك جهـراً       وهم لا يبصرونـك من عمـاءً

وختــاماً،

إنه  نداء من القلب لتعودوا إلى الينابيع، إلى مصادر الحكمة، إلى رسائل العقل وتقبل النفس وانبثاق الكلمة، إلى حيث اليقظة والصحائف البيض وتجدد الحياة، بنعمة العقيدة الشريفة لمستحقيها، فعلى من اصطفاه المولى بشيراً ونذيراً وهادياً ورسولاً، وعلى إخوانه الأطهار الأخيار ألف صلاة وسلام، وإلى كل العارفين والمريدين والعاملين تحية التوحيد.

مقالات ثقافية