الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

سيّد الإعتدال والحـــوار

تربطني بالسيّد هاني فحص علاقة قديمة تعود إلى منتصف التسعينيات، وحدث أن اختلفنا في الرأي حول قضايا راهنة، لكنه كان دائماً يتمسّك بالحوار، ولم يتوقف مرة عن التواصل سواء أكانت الآراء متفقة أم مختلفة، وهذه واحدة من ميزاته العديدة.

فَقَد لبنان برحيله علماً من أعلام الحداثة والتنوير في زمن الظلمات والعتمة الفكريّة. هو قامة وطنية كبيرة ترجح بين الإنسانية والقومية والعروبة والإسلام، تفتح منافذ الحداثة من دون أن تقفل أبواب التراث، تنادي بالتجديد وتحافظ على التقليد.

غزير الإنتاج والكتابة، يتنقل بالقارئ بين الأسطر من فكرة إلى فكرة بسلاسة وهدوء من دون أن يغفل إمكان استفزازه بمواقف جريئة ندر أن صدرت عن رجل دين في عصرٍ تشوّهت فيه المعالم الدينية، وارتدى التطرف لباس الدين مفككاً معانيه الأساسية في التسامح والمحبة والتعايش.

متقدّم هو في نظرته للدين والدنيا. كلماته الرشيقة تفتح أبواب العقل وكأنه مسكون بإبن رشد الذي ألفّ مرجعاً هاماً بعنوان: «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال» في مسعى عقلي، مبني على الوعي والإدراك، للجمع بين العقل والدين والقول إنهما لا يتناقضان بل يتكاملان.

فالإيمان العقلاني قد يكون أحد مرتكزات تفكير السيد هاني فحص الذي يرغب دائماً في إعلاء شأن العقل، رافضاً الفهم الضرير لمكونات الفقه الديني من دون العمل البحثي والعقلي الجدي على مختلف المستويات.
يبحث دائماً عن المشتركات والمساحات التي تجمع بين الثنائيات، يأسف لأن يكون المتداول من الأديان والمذاهب هو المستوى التكفيري فيها، ولو أنه يملك مفهوماً قاموسياً وفقهياً لمسألة التكفير.

يرى أن كل جماعة فيها من فئة التكفيريين ومن فئة الحواريين طارحاً السؤال الأهم: كيف نُغلب أهل الحوار على التكفيريين؟ هو الذي قال يوماً: “الطائفة اختيار ثقافي.”

لطالما إلتزم السيد هاني فحص بنهج الإعتدال رغم إدراكه أن «الاعتدال صعب ومكلف، وكلما دفعت الثمن، أحسست بنور الإعتدال وجماله»، على حدّ وصفه. ومع أهمية هذا الإعتدال، فإنه يمتلك الوضوح في الرؤية تجاه قضايا في غاية الحساسية والتعقيد، فيقول مثلاً: «ليس لدي إيمان بالعصمة أمام المقامات»، وهذا القول ينطوي على الكثير من الجرأة والشجاعة في الزمن الذي تحوّل فيه الكثير من «القيمين» على الدين (أو الذين يدعون هذا الدور على الأقل) لا يقبلون نقاشاً أو رأياً مغايراً. فأن يصدر هذا الموقف عن رجل دين معمم، فهذه مسألة مهمة للغاية يجدر التوقف عندها.

حذر دائماً من ضرورة الابتعاد عن الإقصاء لقوى سياسية تحمل مشروع الإسلام السياسي، لكنه دعاها في الوقت ذاته كي لا تعيد إنتاج أخطائها مراراً وتكراراً مثلما حدث في مصر. وقال في هذا الأمر:«الشمولية مهلكة، والإسلام السياسي إذا لم ينتبه إلى نفسه، سوف يلحق بالشيوعيين».

رامي الريِّس

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

كُلّ حِزبٍ بما لَديهِم فرحون

الدول المعاصرة المتقدمة في أميركا وأوروبا وجنوب آسيا منهمكة في العمل والتقدم التكنولوجي والإنتاج. وفي تلك الدول، التي يفتقر كثير منها إلى الثروات الطبيعية التي نمتلكها، نشهد رخاءً اقتصادياً يترافق مع أعلى معدلات التعليم والمهارات والإبداع، وحكومات مستقرة نسبياً واستقراراً سياسياً ونمواً اقتصادياً متواصلاً. وقد أصبحت تلك الدول هي اليوم التي تبيعنا إنتاجها وسلعها المختلفة، علماً أننا أصبحنا نستورد معظم ما نحتاجه في حياتنا من الخارج، وخصوصاً الغذاء، والعالم العربي هو أكبر مستورد للغذاء في العالم ولا ينتج إلا نسبة محدودة مما يستهلكه.
في المقابل، ها هي الصين التي كانت بلداً متأخراً قبل ثلاثة عقود من الزمن، قد أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، بل إنها وبسبب تقدمها العلمي ومهارات شعبها وانكبابه على العمل أصبحت «مصنع العالم» بكل معنى الكلمة، وقلما توجد الآن في السوق منتجات تقنية أو صناعية حديثة إلا وكتب عليها «صنع في الصين».

في العالم الإسلامي الصورة مغايرة تماماً مع الأسف، إذ بدل التركيز على التعليم وبناء الاقتصاد المتين وتحقيق الازدهار للمواطنين، فإننا نرى حروباً داخلية وفتناً هائلة تحرق نيرانها الأخضر واليابس، وقد أمعنت تلك الفتن المتنقلة تمزيقاً في بلداننا حتى أصبح الكثير منها منقسماً على ذاته، إما على أساس طائفي أو مذهبي أو قبلي أو مناطقي، وفي بعض البلدان استيقظت بعض الأقليات لتطالب أيضاً بحقوقها وبكيانها فزادت رقعة الانقسام تعقيداً واتسعت الأزمات واستفحلت، ونجم عنها اضطراب المجتمع وشلل الاقتصاد وتفاقم البطالة والفقر.

وبالطبع مع انهيار النظام العام وتراجع دور الدولة الناظم لعلاقات الأفراد والجماعات، تزدهر مع الوقت الجماعات الفوضوية أو المتطرفة ويسود حكم الغوغاء والرعاع بل المجرمين أحياناً، وقد بتنا نشهد في بعض الحالات منظمات وأحزاباً كثيرة تتصارع في ما بينها على تقاسم المغانم، كأنّ الهدف في الكثير من الحالات لم يعد التغيير السياسي أو خير المواطنين، بل بسط النفوذ على الأرض حتى لو أدى ذلك إلى أسوأ النتائج بالنسبة للبلد وللناس.
إلى جانب هذا التمزق الداخلي، هناك الانقسامات المذهبية بل المواجهات المذهبية العنيفة، والتي جعلت عالم الإسلام دولاً ومحاور يقاتل بعضها بعضاً بقوة الانفعال والأحقاد والنزوات الرعناء، والكل يعلم أن الفتن والحروب لا تؤدي إلا إلى الخراب وليس فيها منتصر أبداً. إن الحمقى فقط هم الذين يعتقدون أن الحروب المذهبية يمكن أن تحقق نتائج إيجابية أو يمكن أن تجلب نصراً أو غلبة، لأن من طبيعة تلك الحروب أنها يمكن أن تمتد مئة سنة وأكثر (كما حصل في بعض الحروب الدينية في أوروبا في القرون السالفة)، وهي تنتهي بتدمير كل شيء وبخسارة للكل.

لاحظوا أن البلدان الإسلامية الممزقة أو المتناحرة في ما بينها حباها الله تعالى بموارد هائلة طبيعية وثروات، بل فضلها على بقية دول العالم لهذه الجهة، وقد كان في إمكان هذه الدول أن تركز على الإدارة الحكيمة لتلك الموارد فتسعد شعبها وتعزز اقتصادها وتجعل من قوتها سنداً وقوة للمسلمين في مواجهة المخاطر الكبيرة، التي تهدد وجودهم على أكثر من جبهة ولا سيما في فلسطين.

لكننا بدل العمل على الاتحاد في وجه الأخطار نوفر على الخصوم والحاقدين الكثير من الجهد فنحقق لهم بأيدينا ما كانوا دوماً يحلمون به ألا وهو تجزئة العالم الإسلامي وتقطيع أوصاله حتى لا يعود يخشى منه أبداً. بل أكثر من ذلك، عندما يصبح عالم المسلمين في الحالة التي نراها اليوم، فإن الهيمنة عليه بلداً بعد آخر ومنطقة بعد منطقة لن تكون مسألة صعبة. فلا نلومن «الاستعمار» ولا الغربيين ولا الدول الكبرى أو حتى إسرائيل، التي من الطبيعي أن تحاول تفريقنا ويهمها أن لا تهدأ الحروب الداخلية والفتن حولها، بل لنلُم أنفسنا وقد أصبحنا في عالم الإسلام ليس فقط 70 فرقة، بل مئات الفرق والشراذم، والعالم يتفرج علينا محتاراً في أمرنا وما نفعله لبلداننا ومجتمعاتنا من منكر وخراب.
يخبر الله تعالى في كتابه العزيز – الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها – عن هذا الأمر في الآية الكريمة إذ يقول جل من قائل:

}فَتَقَطَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{ (المؤمنون :53)
صدق الله العظيم

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

والله يدعو
إلى دار السلام

}وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{ (الذاريات:56)

للذين يتقاتلون ويسفكون الدماء شرقاً وغرباً نسوق هذه الآية الكريمة لعلّها تكون عامل إيقاظ للنفوس الضالة والغرائز المنفلتة من عقالها، كما ينفلت السيل العرم في أودية الاخضرار. ما هي غاية الرب جلّ وعلا من الخلق؟ وما هو التكليف الأسمى الذي كُلّف به بنو آدم؟ إنه أولاً وأخيراً أن ينصرفوا إلى عبادته وأن يسعوا إلى معرفته أو على الأقل لمعرفة كنه وجودهم وسر التكريم العظيم الذي مَنّ الله به عليهم عندما أعلن الإنسان خليفة له في الأرض وكرّمه، بل رفعه فوق درجة الملائكة، فدعاهم لأن يسجدوا له.

ولا توجد في هذه الحياة البائسة المثقلة بالهموم والابتلاءات غاية تسمو على تلك التي دعا الله عباده إلى طريقها. قال لهم لقد خلقتكم من تراب لكني نفخت فيكم من روحي (أي من خزائن علمي)، ومننت عليكم بكل شيء وسخرت لكم ما في السماوات والأرض جميعاً لكي لا يكون الرزق هماً لكم فيصرفكم عن سلوك الطريق القويم المفضي إلى عتبة خالقكم حيث انبلاج الحقائق والأنوار والسعادة الأبدية.

يقول جل من قائل في كتابه العزيز: }وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم{(يونس:25). وهنا يبلغ الخالق عباده ثانية الغاية من خلقه. إنه يدعو إلى دار السلام، أي إلى طمأنينة القلب في كنفه والأنس به، وإلى المودة والسلم بين البشر لكي يهنأ الجميع بالنعم الظاهرة والباطنة التي خصهم بها، ولكي يكون السلم والأمان معاً بيئة العبادة والذكر وفعل الخيرات.

نورد هذه الحقائق الأساسية ونطرح السؤال: في أي كتاب أو شريعة دعا الله عباده إلى ما يفعلونه الآن بعضهم ببعض بلا شفقة أو رحمة؟ وأي منا يمكن أن يأتي بتعليم رسول أو نبي أو ولي صالح أو حكيم فيه دعوة لما نشاهده هذه الايام في بلدان كثيرة من أعتى صنوف العنف وظلم الإنسان لأخيه الإنسان؟ وإذا كان كل ما يجري لا يوجد له أي مبرر أو مسوغ ديني أو شرعي، فبإسم من أو ماذا ترتكب كل هذه المظالم؟ ومن أجل أي قضية يحصل كل هذا السفك للدماء الغزيرة لا فرق في ضحاياها بين شيخ مسن أو طفل، امرأة أو صبي، مذنب أو بريء؟

لقد توعد الله تعالى من يقتل أياً من عباده ظلماً وعداوناً بعذاب أليم، وهو القائل: }وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً{ (النساء:93) وهو يضيف في التنبيه إلى أؤلئك الذين يُكفِّرون الناس ويصدرون الأحكام عليهم من دون علم أو شرعة أو كتاب }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا{ (النساء: 94)

وجاء في حديث قدسي رواه الرسول (ص) عن ربه قوله تعالى: “لقد حرَّمت الظلم على نفسي فلا تظالموا”، أي أن الحق الذي يعلم ما في نفس الإنسان من نزعات، وما قد يتعرض له من غواية الشيطان وأحابيله، يحذر بني آدم من عاقبة الظلم مقدماً ذاته القدسية كمثال ونموذج بالقول: لقد حرمت الظلم على نفسي”، أي أنه وهو الذي عرّف عن نفسه بأنه }فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ{ (هود: 107) وأنه
}لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل{ُ (الأنبياء: 23) لم يتردد في أن يعلن لعباده أنه وضع قيداً على الربوبية نفسها، وهذا القيد الوحيد هو تحريم الظلم، وهذا القول مجازي وتعليمي بالطبع لأن الظلم مخالف لطبيعة الربوبية، ولأن الرب العظيم الذي له الأسماء الحسنى لا يمكن أن يكون الظلم بين أسمائه أو صفاته على الإطلاق.

ليست الغاية من هذا الكلام أن يكون لنا تأويل أو فهم معين لما يجري في بلداننا من قلاقل وفتن واضطرابات، ونحن نلتزم منذ الصدور موقف الابتعاد عن المواضيع السياسية، آملين أن تنحصر مهمتنا وخدمتنا المتواضعة في الدعوة إلى الخير وإلى سبل الله تعالى، وهذا لـ }مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا{ (الفرقان: 57). أما طرق الشيطان فكثيرة، بل لا حصر لها هذه الأيام، نعوذ بربنا جلّ وعلا من شر أنفسنا ونسأله بحرارة الطلب والتذلل أن لا يجعلنا من أهل الظلم، وأن يلهمنا تقوانا وأن يهدينا إلى سراط مستقيم.

الصفحة الأخيرة

الندم

حياة الإنسان قصيرة لكن قلما يَنتبِه لذلك إلا بعد فوات الأوان.

في هذه الأيام كل شيء موجّه لاستدراج الفئة الشابة من الناس. يصنعون لهم ما لا يحصى من الأشياء ويدفعونهم دفعاً وبشتى الوسائل للغرق في دوامة الأغراض والارتهانات. بعض الشباب ينتبه أحياناً إلى أنه يُساق مثل الخراف ويحاول امتلاك زمام نفسه لكنه لا يلبث أن يسلّم بأن ما كان قد كان وأن دولاب الحضارة المادية لا يمكن وقفه.

تكاثرت الأغراض وثقلت وطأتها على الناس الذين من أجل الاستحواذ عليها يبذلون النهار والليل ويضحون بساعات النوم ويركضون في كل اتجاه. لكن مَن مِن أهل الزمان يسأل نفسه ولو لربع ساعة في اليوم : من أنا؟ ولماذا خلقت في هذا الوجود اللانهائي؟ ما هي علاقتي بخالقي الذي أوجدني وأوجد كل شيء؟
– ماذا تعلّمت من الحياة؟
درست إدارة الأعمال؟
– وماذا غير ذلك؟
عملت في الخليج وتزوجت
لكنك الآن في أواخر الأربعينات أو مطلع الخمسينات والزمن يركض، هل هيّأت شيئاً آخر لراحة نفسك؟
مازال هناك وقت وسنرى في ما بعد، الآن أنا مشغول كثيراً ولا وقت لدي للتفكير بهذه الأمور.

هذه هي حال أهل الزمان خصوصاً الشباب الذي يعيش الواحد منهم ليومه كما لو أنه سيعيش أبداً. وعندما تمرّ السنون ويبدأ بياض الشيب يرتسم في مفرق الرأس ويجتاز الرجل أو المرأة الخمسين من العمر حتى تبدأ الاستفاقة المرة. لقد مضى زمان الفتوة أو الجمال وهجم الوقت هجمة واحدة على الجسد والفكر. عندها يستفيق المرء على حقيقة أنه سيفنى وفي وقت أقرب مما كان يظن. يتحول كبرياء الماضي والثقة اللامتناهية بالغد إلى خوف من الغد وتصبح ساعات النوم مختلطة برؤى مفزعة أوبظلمة المجهول وتصبح كل سنة جديدة تمرّ مثل خطوة أخرى نحو خط النهاية.

عندها ربما يفتح البعض منّا أعينهم على حقيقة أنهم “عبيد زوال” -على حد قول عقالنا- وأنهم باتوا أقرب إلى باب الخروج من هذه الفانية منهم إلى الباب الذي دخلوا منه. بعض الذين أوتوا القدرة على التمييز والهداية يشعرون عندها بأنهم مثل لا شيء لأن حياتهم كلها وكل ما جمعوا وفعلوا أصبح وراءهم لكن دون أن يكون أمام ناظريهم شيء واضح عن ما هو آتٍ.

ربنا جلّ وعلا يشرح حال الكثيرين في الآية الكريمة }نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ{ (التوبة:67) والمقصود أنه جعلهم منسيين في غفلتهم لأن المولى العزيز منزّه عن نقيصة النسيان. والمنسيون هم الذين يستفيقون متأخرين على حقيقة أن حياتهم مرّت كالشهاب أو كـ “يوم أو بعض يوم” فيجدون أنفسهم وحيدين وبلا أي زاد عندما يكونون في أمسّ الحاجة إلى زاد يعينهم على رحلة العودة إلى خالقهم. ذلك أنهم أضاعوا حياتهم القصيرة باللغو والمتع والمعاصي وبلغوا أعتاب الحضرة صفر اليدين إلا من أوزار الماضي. يومئذٍ يغشى الإنسان حال من الندم والأسف على ما سلف، ويجعله الله يرى بعض أعماله ويدرك سيئاته ربما ليسهل له أمر التوبة وطلب العفو والإقرار بالذنوب. }يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28){(الفرقان).

وهذه أيضاً ساعة التوسل لأن الإنسان الضعيف الخاوي الوفاض سيتوسل لخالقه أن يعطيه فرصة جديدة لعلّه يصلح بعض ما أفسده في حياة الغفلة وهو ينظر بخوف كبير إلى ما تبقى من الأيام (وقد يكون قليلاً) يقول }رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ { (المنافقون: 10).

هذه ساعة الندم التي سيصلها الكثيرون عاجلاً أم آجلاً عندما يبدأ وجودهم بالشحوب وتضعف قواهم ويجدون أن الدنيا التي ركضوا وراءها تنسل من بين أيديهم كما ينسل الدخان من بين الأصابع. لذلك فإن الله تعالى حبا بعبيده الغافلين وإشفاقاً عليهم أمر رسوله الكريم بأن {ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55).

لكن هل من يذكر الآن ؟ وهل من إذا ذُكِّروا استمعوا إلى التذكير فوجلت قلوبهم وتابوا وأصلحوا }أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا{؟ (محمّد: 24).

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

والليل إذا سجى

نعيش في زمن ضاعت فيه الحدود بين حق الفرد وحقوق الجماعة بين ممارسة الحرية الشخصية واحترام حرية الآخرين، وعندما تخترق الفردية المنفلتة من أي ضابط اجتماعي أو إنساني حياة الآخرين فتعكر صفوها تصبح بكل بساطة عدواناً، وفي غياب الدولة وحكم القانون يصبح كل فرد أو جهة مهما صغرت مرجعية في حد ذاتها ترسم حدود فعلها تعسفاً محضاً وتشرِّع لنفسها وما على الآخرين بكل بساطة سوى الرضوخ.

مناسبة هذا الكلام استفحال ظاهرة الضجيج وفتح مكبرات الصوت في الأماكن المفتوحة وبعض الصالات التي تأخذ على عاتقها تنظيم سهرات الأعراس والحفلات من كل نوع، وقد قلبت هذه الدكاكين الفوضوية ليل الجبل الهادئ إلى صخب مرهق يصم الآذان، وينطلق في جميع الاتجاهات ليمزق ستر الليل ويفسد سمر السامرين وسكون العابدين وطمأنينتهم في زوايا البيوت والملتقيات، رغم أن القانون يشترط الترخيص لإقامة الحفلات في الأماكن المفتوحة كما يشترط الالتزام بوقف المذياع بعد الحادية عشرة ليلا،ً فإن القانون المطبّق الآن هو شريعة الغاب فلا أحد يهتم بالحصول على ترخيص أو يلتزم وقتاً معيناً لوقف مكبرات الصوت، وقد أصبحنا فعلاً في حيرة حول ما يمكن فعله لوقف هذه “الغزوة” وهذا التلوث المتزايد بالضجيج في بيئة الجبل، الذي يُعتبر الهدوء والسكينة من أهم مكوناته التقليدية بل وأهم عناصر النوعية العالية للحياة التي يتمتع بها سكانه وزواره على السواء.

بعض الناس الذين قرروا كسب رزقهم بهذا النوع من النشاطات يعتقدون فعلاً أن في إمكانهم ومن حقهم أن يقضُّوا مضجع منطقة بكاملها ساعة يشاؤون وأينما يشاؤون. ونقول “أينما” يشاؤون لأن الجبل بكامله أصبح مباحاً ومشرعاً لكل من يمتلك مجموعة كراسي ومكبرات صوت ومذياع، إذ لا توجد مناطق لا يُسمح فيها مثلاً بإقامة الحفلات في الأماكن المفتوحة كما في بيروت التي تخصص شوارع معينة لنشاط المقاهي والسهر (في مكان مقفل) دون غيرها وتبقي على عناصر الشرطة والأمن في المكان لرصد أي تجاوزات وتلقي الشكاوى وقمع المخالفات.

ما تتجاهله دكاكين الضجيج هذه هو أن الليل ليس ملكاً خاصاً ولا مشاعاً بل هو مثل الهواء والماء “حق” من حقوق الجماعة لا بدّ من تنظيم الانتفاع به كما ينظم الانتفاع بالفضاء والأرض والمياه. وكما أن من غير المسموح أن يعتدي إنسان على الطريق العام أو يستولي على مياه نبع ماء أو أن ينفث الملوثات الكيميائية في الهواء، كذلك من غير المسموح أن يستولي أي كان على الليل وسكونه فيلحقه بعمله أو تجارته في وقت يحتاج الناس الليل، وبعد العمل المضني في النهار، للإخلاد إلى الراحة أو التسامر أو الاستغراق في نوم مطمئن. وقد جاء في الكتاب الكريم }وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا{(النبأ: 10 و11)، أي أن المولى جل وعلا جعل النهار للكسب بينما خصص الليل لراحة الإنسان كما جعل ربعه الأخير وقتاً للعبادة والذكر والتقرب من الله.

السؤال المهم هنا هو بالطبع: من هي الجهة المسؤولة عن وقف هذا التعدي المتمادي؟ نعتقد أن المسؤولية مشتركة بين البلديات والدولة والجمعيات الأهلية، إذ يمكن للبلديات أن تأخذ على عاتقها وضع تشريعات واضحة لتنظيم الحفلات في الأماكن المفتوحة والإصرار على عدم تجاوز الصوت حاجزاً معيناً (بوحدة الضجيج أو Decibel) وأن يُمنع بتاتاً الاستمرار في استخدام مكبرات الصوت بعد الساعة الحادية عشرة ليلاً وفي الأماكن المرخصة، والتي تستوفي الشروط فقط. كما أن قوى الأمن الساهرة مشكورة على أمن الناس يمكنها تطبيق القانون بجدية، مع الثقة التامة بأن قرى الجبل ومجتمعه المدني يدعمانها في أي إجراءات تستهدف وقف الفوضى الحالية.

أخيراً، فإن الجمعيات الأهلية يمكنها أخذ المبادرة للتعاون من أجل إطلاق حملة “أعيدوا لنا ليلنا”، والتي تعتزم “الضحى” تقديم المساعدة لها بشتى السُبل الممكنة ابتداءً من العدد المقبل، وكذلك عبر الموقع الشبكي الذي سيخصص مساحة بارزة لهذه الحملة فور انطلاقة هذا الموقع قريباً جداً بإذن الله. فتابعونا.

الصفحة الاخيرة

الصفحة الاخيرة

قايـين

لماذا يلجأ بعض الناس إلى النميمة؟ ولِمَ يضيعون وقتهم في نقل الأخبار السيئة وهدم الوفاق وأجواء العمل والخوض في وحول هذه الدنيا؟ ما يظن هذا البعض أنّه صانع، وإلى أي مبادئ في المسلك القويم وخصاله يستندون وأي قضية يخدمون في اعتقادهم؟

النميمة من أسوأ الخصال البشرية، وهي من معدن الأخلاق الضدية لأن الضد يتربص بالناس على الدوام ويؤذيه العمل الصالح ويقض مضجعه الوفاق والتآخي فلا يني يوسوس لهذا ويحرك غرائز ذاك حتى يقوم الشجار وينفرط عقد الجماعة وينهدم العمل وتزول البركة. عندها فقط يفرح الضد في سره وهو الذي يؤذيه مشهد الوفاق وقيام الصلح بين الناس.

النميمة بنت الحسد وبنت الفشل كما أنها لا يمكن أن تأتي من سالك في طريق تربية النفس وتزكيتها، ومن لا ينزّه نفسه عن هذه الكبيرة وما يشابهها لا أمل له مهما اعتقد في نفسه من العلم أن يتقدم خطوة واحدة على طريق المعرفة أو أن يقترب من أعتاب الحق المطهرة، فهذه السلاسل الثقيلة تقيد رجليه وتجره إلى الخلف على الدوام. لماذا؟ لأن هذا المرء منصرف في الغالب عن عيوبه إلى عيوب الناس، وعن التقرب من الله بالعمل الصالح إلى محاولة رفع شأنه على حساب الحط من قدر الآخرين. والسالك الحق زاهد في كل مظاهر الدنيا ولا وقت لديه للنظر شمالاً أو يميناً بل نظره الدائم مركز على قلبه، وعلى ما يقيده من أهواء وخصال ضدية، وما يؤخر سيره من أوزار النفس ومكرها.

ولا يوجد مرض من أمراض القلب أخطر على الإنسان من أن يتوهم أنه أفضل من الآخرين أو أنه أحق منهم بما قسم الله من حظوظ دنيوية أو معنوية. وقد بلغ من سلطان هذا المرض على النفس أن الله تعالى أظهر لنا أنه كان في أصل النشأة البشرية كما ترمز إليه قصة قتل قايين لأخيه هابيل. وقد ثارت حفيظة قايين لأن السماء تقبلت قرباناً من أخيه ولم تتقبله منه. ولم يتفكر قايين في الأسباب التي جعلت قربانه مردوداً ولم يسع ليجد السبب في نيته أو قلبه. لم يجد الخصم في نفسه بل وجده في أخيه فقتله شفاء لغليل النفس الأمارة الحاسدة. ومنذ ذلك الزمن بات شيء كثير من نفس قايين ورعونته موجوداً في كل إنسان، كأن في كل منّا نحن البشر في جميع الأزمنة قايين وهابيل في آن، وكما لو أن ازدواج الطاقات والملكات في النفس يمكن تلخيصه بهذه الثنائية التي قام عليها الخلق وما زال.

إنه بلاء عام لا سيما في هذه الأيام التي غلبت فيه قوى الفردية والتميز والسباق على كسب الجاه الفارغ دينياً كان أو دنيوياً على نفوس الكثيرين. وها نحن نرى فتنة قايين قائمة على نحو أعم في ما شجر بين الناس من خلافات وأحقاد وتكبر وتجبر وما أحدثوه ويحدثونه يومياً من فتن واقتتال وفوضى. وقد أمرهم الله تعالى بواجب المحبة والتآخي في كل الأزمان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13) ولم يقل الحق تعالى لتخاصموا أو لتقاتلوا بل لتعارفوا أي لتحابوا ولتتآخوا.

لكن مهما كان من أمر صعوبات زماننا فإن واجبنا هو أن نتابع ما نقوم به بجد وسكينة، وأن نتحلى في الوقت نفسه بروح المسامحة فلا نلتفت إلى من يسيء إلينا، بل أكثر من ذلك إن علينا أن نرى في ما قد ينزل علينا من سهام الناس ابتلاء وامتحاناً للصبر أو ربما كفارة عن أخطائنا السابقة، ومن حسن ستر الله على العبد أحياناً أن يرى الناس بعض العيوب الصغيرة وأن ينشغلوا بها ولا يرون العيوب الأكبر وهي عيوب خفيه لا يراها إلا السالك الصادق في نفسه، وهذه العيوب هي أشد وطأة عليه من كلام يقال هنا أو هناك. والحمد الله الذي خفف عنا فسلط علينا بلاء الناس وأعاننا على بلاء أنفسنا.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

«فلما فرحوا … أخذناهم بغتة»

«التغيير». لا يوجد اليوم في قاموس الناس، مثقفيهم وعامتهم، ما هو أكثر استعمالاً من هذه الكلمة. ولا يبدأ حديث في صالون أو في مجموع إلا ويبرز بعضهم ليحرك لسانه بهذه الكلمة فإذا بالأعناق تهتز وتنحني بالموافقة وينشأ على الفور بين المتحاورين تفاهم على حاجتنا الماسة إلى «التغيير»
كأن بشر هذا الزمان وقد تقطعت جذورهم وانحلت شخصيتهم في كيمياء الحضارة المادية والاستهلاكية فقدوا من جراء ذلك حس الاكتفاء والطمأنينة فباتوا جرياً مع وتيرة الزمن في بحث لاهث لا ينقطع عن شيء جديد يداوون به حس الحرمان والخواء الروحي والوحشة والقلق العميق من قادم الأيام. هؤلاء الذين هم في الأصل ضحية التغييرات السريعة التي أذهلت وجودهم وزعزعت أفكارهم ومعتقداتهم وقضت على استقرارهم، يبحثون عن الدواء في الداء نفسه كمن يضيع طريقه وسط نفق مظلم فيقرر التوغل أكثر معتقدا بأن النفق موصول في طرفه الآخر بعالم النور، فإذا به يحثّ الخطى مبتعدا عن نقطة ارتكازه أكثر فأكثر داخل النفق الذي لا آخر له ولا بديل من ظلمته إلا المزيد من الظلمة والضياع. وحتى وإن سعى هذا المسافر التعس لأن يعود القهقرى من حيث أتى حالت العتمة والشعب الكثيرة للنفق بينه وبين أن يعرف طريق العودة إلى عالم الضياء.

عاش الناس على سوية الفطرة والبساطة آلاف السنين وترعرعوا في كنف الطبيعة يأكلون من خيرها ويحمدون الله تعالى على وفير إنعامه فكانت حياتهم البسيطة نعمة حقيقية لأنها كانت في تناغم تام مع الأرض ومع قوانين الاستدامة التي ترعى الكون. كانوا مستقرين في قراهم لا يبرحونها إلا لتجارة أو سبب جلل، وكان في هذا الاستقرار منفعة لهم ومنفعة للأرض التي يعيشون عليها ويخدمونها على مدار العام. كان العمل في الأرض هو الغذاء وهو الصحة البدنية والروحية وهو الصلاة اليومية الحقيقية وكان اجتماع الأسرة الواسعة تجديد يومي لروابط البشر في حاجة الواحد منهم للآخر ولقانون التعاون على العيش وصنوف الدهر وكانت هذه الحاجة المتبادلة في أساس روابط المحبة بين الناس. في الوقت نفسه كان مجتمع العمل والتعاضد الأوسع هو المدرسة التي يتعلم فيها الأحداث اليافعون أصول السلوك وأسس الأخلاق القويمة والتقوى ويتربون فيها على مهنة الرجولة حتى إذا اكتملت أهليتهم واجتازوا اختبار النضج والعقل دُعوا -عندما يكون الزمن قد دار دورة- إلى تسلم الراية من السابقين.

في ذلك الزمان-كان يقول المعلم الشهيد كمال جنبلاط- «كانت قوى الجذب هي الغالبة في الكون» أي القوى المتسببة من طاقة الحياة والتي تجعل الكائنات كلها من جماد وبشر وحيوان ونبات تنجذب إلى المركز وتحافظ (كما تحافظ الذرة) عن ذلك الطريق على اتزانها وتماسك أجزائها، ومن ذلك أيضاً ينبع السلام والسعادة لأهل الأرض. ولا شيء يعبِّر عن قوة الجذب هذه أكثر من المحبة أو الحب الشامل الذي هو لحمة الكون وسداه ومحور توازنه. أما في زمن التفكك وما قد يطلق عليه البعض نهاية الدور، فإن قوى الجذب -حسب المعلم أيضاً- تضعف لتقوى قوى التنافر و”الضدّية”، حتى إذا حصلت لهذه الغلبة بدأت عناصر الوجود بالتفكُّك تدريجياً إيذاناً بانهيار الحياة كما عرفناها، واختتام دورة كاملة في التاريخ الأبدي لهذا الوجود الذي يحير العقول.

هناك آية جميلة في القرآن الكريم تلخص تلك القاعدة الكونية، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام:44)، إن الخالق ينبئ في محكم كتابه عن الحالة التي ستؤخذ فيها حضارة البشر بغتة وهي حالة يكون العالم قد امتلأ فيها بكل أنواع المتاع والمتع ويكون الناس قد غرقوا فعلاً في لجة الأغراض التي تستعبد نفوسهم وتدفعهم إلى شتى صنوف العداوة والغفلة وقسوة القلب. وقد فرح الناس كثيراً، بل ثملوا وأضاعوا عقولهم في هذه الملاهي والمقتنيات التي نزلت عليهم وعلى رأسها أدوات القتل والقوة الغاشمة والتكنولوجيا، وحتى الأطفال أصبحت لهم حصة من آخر مخترعات “القتل الافتراضي” بألعاب الفيديو أو “تقنيات الثرثرة” وقتل الوقت التي يلهون بها مع الكبار.

الشيء الأكيد هو أن مغزى الآية قائم في حياتنا اليوم، ليس فقط في الغفلة والغرق في لجة الإنكار والأنانية والاستكبار، بل هو في تسارع التفكُّك الكوني على كل صعيد نتيجة غلبة قوى النفور والتباعد على قوى الجذب. وها هي الشراسة -بل قل التوحش ونزعة الافتراس- التي يقتل بها الناس بعضهم البعض وذئبية المشاعر والأحقاد، وها هو عنف الطبيعة الذي يتفجر براكين وزلازل وفيضانات وأعاصير، وها هو عبوس البيئة الحانية وتبدل الفصول وغور الأمطار وربما قريباً ظهور عواصف شمسية مدمرة، ها هو كل ذلك يرسل إلينا نذراً واضحة بأن السقوط يتسارع، وبأنَّ علينا أن نستقيم وأن نصحِّح قلوبنا وسلوكنا قبل فوات الأوان.

الصفحة الأخيرة – فلما فرحوا .. أخذناهم بغتة

«فلما فرحوا … أخذناهم بغتة»

«التغيير». لا يوجد اليوم في قاموس الناس، مثقفيهم وعامتهم، ما هو أكثر استعمالاً من هذه الكلمة. ولا يبدأ حديث في صالون أو في مجموع إلا ويبرز بعضهم ليحرك لسانه بهذه الكلمة فإذا بالأعناق تهتز وتنحني بالموافقة وينشأ على الفور بين المتحاورين تفاهم على حاجتنا الماسة إلى «التغيير»كأن بشر هذا الزمان وقد تقطعت جذورهم وانحلت شخصيتهم في كيمياء الحضارة المادية والاستهلاكية فقدوا من جراء ذلك حس الاكتفاء والطمأنينة فباتوا جرياً مع وتيرة الزمن في بحث لاهث لا ينقطع عن شيء جديد يداوون به حس الحرمان والخواء الروحي والوحشة والقلق العميق من قادم الأيام. هؤلاء الذين هم في الأصل ضحية التغييرات السريعة التي أذهلت وجودهم وزعزعت أفكارهم ومعتقداتهم وقضت على استقرارهم، يبحثون عن الدواء في الداء نفسه كمن يضيع طريقه وسط نفق مظلم فيقرر التوغل أكثر معتقدا بأن النفق موصول في طرفه الآخر بعالم النور، فإذا به يحثّ الخطى مبتعدا عن نقطة ارتكازه أكثر فأكثر داخل النفق الذي لا آخر له ولا بديل من ظلمته إلا المزيد من الظلمة والضياع. وحتى وإن سعى هذا المسافر التعس لأن يعود القهقرى من حيث أتى حالت العتمة والشعب الكثيرة للنفق بينه وبين أن يعرف طريق العودة إلى عالم الضياء. عاش الناس على سوية الفطرة والبساطة آلاف السنين وترعرعوا في كنف الطبيعة يأكلون من خيرها ويحمدون الله تعالى على وفير إنعامه فكانت حياتهم البسيطة نعمة حقيقية لأنها كانت في تناغم تام مع الأرض ومع قوانين الاستدامة التي ترعى الكون. كانوا مستقرين في قراهم لا يبرحونها إلا لتجارة أو سبب جلل، وكان في هذا الاستقرار منفعة لهم ومنفعة للأرض التي يعيشون عليها ويخدمونها على مدار العام. كان العمل في الأرض هو الغذاء وهو الصحة البدنية والروحية وهو الصلاة اليومية الحقيقية وكان اجتماع الأسرة الواسعة تجديد يومي لروابط البشر في حاجة الواحد منهم للآخر ولقانون التعاون على العيش وصنوف الدهر وكانت هذه الحاجة المتبادلة في أساس روابط المحبة بين الناس. في الوقت نفسه كان مجتمع العمل والتعاضد الأوسع هو المدرسة التي يتعلم فيها الأحداث اليافعون أصول السلوك وأسس الأخلاق القويمة والتقوى ويتربون فيها على مهنة الرجولة حتى إذا اكتملت أهليتهم واجتازوا اختبار النضج والعقل دُعوا -عندما يكون الزمن قد دار دورة- إلى تسلم الراية من السابقين. في ذلك الزمان-كان يقول المعلم الشهيد كمال جنبلاط- «كانت قوى الجذب هي الغالبة في الكون» أي القوى المتسببة من طاقة الحياة والتي تجعل الكائنات كلها من جماد وبشر وحيوان ونبات تنجذب إلى المركز وتحافظ (كما تحافظ الذرة) عن ذلك الطريق على اتزانها وتماسك أجزائها، ومن ذلك أيضاً ينبع السلام والسعادة لأهل الأرض. ولا شيء يعبِّر عن قوة الجذب هذه أكثر من المحبة أو الحب الشامل الذي هو لحمة الكون وسداه ومحور توازنه. أما في زمن التفكك وما قد يطلق عليه البعض نهاية الدور، فإن قوى الجذب -حسب المعلم أيضاً- تضعف لتقوى قوى التنافر و”الضدّية”، حتى إذا حصلت لهذه الغلبة بدأت عناصر الوجود بالتفكُّك تدريجياً إيذاناً بانهيار الحياة كما عرفناها، واختتام دورة كاملة في التاريخ الأبدي لهذا الوجود الذي يحير العقول. هناك آية جميلة في القرآن الكريم تلخص تلك القاعدة الكونية، وهي قوله تعالى: «فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ» (الأنعام:44)، إن الخالق ينبئ في محكم كتابه عن الحالة التي ستؤخذ فيها حضارة البشر بغتة وهي حالة يكون العالم قد امتلأ فيها بكل أنواع المتاع والمتع ويكون الناس قد غرقوا فعلاً في لجة الأغراض التي تستعبد نفوسهم وتدفعهم إلى شتى صنوف العداوة والغفلة وقسوة القلب. وقد فرح الناس كثيراً، بل ثملوا وأضاعوا عقولهم في هذه الملاهي والمقتنيات التي نزلت عليهم وعلى رأسها أدوات القتل والقوة الغاشمة والتكنولوجيا، وحتى الأطفال أصبحت لهم حصة من آخر مخترعات “القتل الافتراضي” بألعاب الفيديو أو “تقنيات الثرثرة” وقتل الوقت التي يلهون بها مع الكبار.الشيء الأكيد هو أن مغزى الآية قائم في حياتنا اليوم، ليس فقط في الغفلة والغرق في لجة الإنكار والأنانية والاستكبار، بل هو في تسارع التفكُّك الكوني على كل صعيد نتيجة غلبة قوى النفور والتباعد على قوى الجذب. وها هي الشراسة -بل قل التوحش ونزعة الافتراس- التي يقتل بها الناس بعضهم البعض وذئبية المشاعر والأحقاد، وها هو عنف الطبيعة الذي يتفجر براكين وزلازل وفيضانات وأعاصير، وها هو عبوس البيئة الحانية وتبدل الفصول وغور الأمطار وربما قريباً ظهور عواصف شمسية مدمرة، ها هو كل ذلك يرسل إلينا نذراً واضحة بأن السقوط يتسارع، وبأنَّ علينا أن نستقيم وأن نصحِّح قلوبنا وسلوكنا قبل فوات الأوان.

صفحة أخيرة