الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, نيسان 29, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

معركة مسيفرة

معركة المسيفرة

(كما رواها أحد الجنود الفرنسيين المشاركين فيها)

شهادة عسكري فرنسي عن بطولات تفوق الوصف
سطرها الثوار في أصعب معارك الثورة السورية

كان الدروز يقاتلون وهم جرحى، إلى آخر طلقة
ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية

بعد المعركة، خسائر الثوار كانت جسيمة

تعتبر معركة المسيفرة بين أكبر وأشرس المعارك التي خاضها مجاهدو الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، وقد انتهت تلك المعركة بهزيمة للثوار وخسائر فادحة في الأرواح قدرت بنحو 250 قتيلاً وسقط عشرات الجرحي دون أن يتمكن الثوار من نقلهم فأجهز الفرنسيون عليهم. لكن معركة المسيفرة التي كانت قراراً غير حكيم من بعض المجاهدين المتحمسين ورغم معارضة واضحة من سلطان باشا الأطرش (الذي أدرك بخبرته العسكرية صعوبة الأرض وانكشافها) دخلت التاريخ من باب آخر هو حجم البطولات الأسطورية التي سطرها المجاهدون في وجه جيش أوروبي متفوق جداً عليهم في كل شيء ولاسيما عديد الجيش والأسلحة الرشاشة والثقيلة والمدفعية والطيران فضلاً عن الاستراتيجيا الحربية، وكانت شجاعة المقاتلين الدروز من النوع الذي لا يبالي بشيء ويقبل على الموت بإحساس الذاهب إلى نزهة، وقد عدّها البعض في ما بعد أقرب إلى التهور والحماس غير المنضبط بخطة حقيقية للنصر.
وإذا كان هناك أي شك في أن الدروز بالغوا في رواية البطولات التي سطروها في المسيفرة فإن رواية العسكري الفرنسي غوتيه الذي يعدّ الاستاذ نبيل أبو صعب ترجمة لكتابه «الفرقة الأجنبية» تقدّم تصويراً حياً من الخصم نفسه لتلك البطولات التي فاقت الوصف فعلاً بشهادة الجندي الفرنسي الذي شارك فيها.
رغم ذلك وكما سيتبين من رواية غوتيه عن هذه الملحمة المرعبة فإن الدروز كانوا من دون أن يدركوا على شفا الانتصار فعلاً لأن الفرنسيين المتمترسين خلف أعشاش الرشاشات (وكانوا فعلاً أكثر من أوقع القتلى والجرحى في صفوف المجاهدين) كانوا قد فقدوا معظم ذخيرتهم في انتظار النجدة الموعودة من غاملان وكانوا بدأوا يتحضرون لنهاية مروعة على يد الثوار في ما لو أدرك هؤلاء أن ذخيرتهم نفدت فعلاً وأن الطريق أصبح مفتوحاً أمام هجوم نهائي كاسح.
كان الجنود والضباط الفرنسيون في البدء واثقين جداً من تحصيناتهم بل كانوا مغتبطين بحجم القتل الذي كانوا يوقعونه في المهاجمين المندفعين كالأعصار في كل اتجاه على خيولهم أو زحفاً على بطونهم أو انقضاضاً على المتاريس التي تصليهم النار، كان المجاهدون الدروز في نظر هذا الجيش النظامي كائنات غريبة متوحشة تستحق القتل وليس أناس ذوو كرامة يدافعون عن وجودهم واستقلالهم، لذلك وكما يتبين من رواية غوتيه فإن الفرنسيين كانوا في متاريسهم المحصنة «يتسلون» بقتل المهاجمين ويتهكمون كما لو كانوا في حفلة صيد. وحسب مؤلف كتاب معركة المسيفرة الفرنسي فإن ذخائر الفرنسيين كانت فعلاً على وشك النفاد وأنهم بدأوا يخافون من أن يلحظ الدروز تراجع وتيرة إطلاق النار من جانبهم توفيراً للذخيرة وان يدركوا الوضع البائس الحقيقي للمدافعين فينزلون عليهم كالسيل ويبيدونهم عن آخرهم، بل إن الفرنسيين بدوا كما لو أنهم يعدون أنفسهم لتلك اللحظة الرهيبة عندما فوجئوا هم بانسحاب المقاتلين الدروز فقد بلغتهم أنباء تقدم جيش غاملان لفك الحصار عن القوة الفرنسية في المسيفرة فخشوا أن يقعوا بين نارين، نار المدافعين ونار الجيش الزاحف لنجدة القوة المحاصرة.
لهذا السبب ربما اعتبر المجاهد عبد الرحمن الشهبندر معركة المسيفرة «انتصاراً» لأن الدروز في نظره خاضوا فيها معركة ضارية زاخرة بالبطولات ولأنهم كانوا على وشك أن يقضوا على القوة الفرنسية لولا أنهم اتخذوا في اللحظة الأخيرة قراراً بالإنسحاب، لكن الشهبندر انفرد في رأيه عن كثيرين مثل الدكتور حسن البعيني من الذين اعتبروا موقعة المسيفرة نكسة لمجاهدي الثورة خصوصاً وأنها جاءت بعد نحو ستة أسابيع فقط من انتصار معركة المزرعة الساحق على الفرنسيين.

المعركة
كنا قد أمضينا ثمانية أيام في معسكر غزالة عندما تلقينا الأمر بالإنتقال إلى المسيفرة. كان المطلوب أن نقيم فيها مركزاً متقدماً وأن نصمد فيها بأي ثمن، وقد بتنا الآن مع سريتي الفرقة الأجنبية اللتين انضممنا إليهما في غزالة، نشكل كتيبة. ثمانية عشر كيلومتراً من السير في البلد متتبعين قمم الهضاب، نمشي وسط الغبار محمّلين بأمتعتنا الثقيلة تحت شمس حارقة وفي خط سير محروم من قطرة ماء.
تختلف المسيفرة تماماً عن غزالة فنحن هنا في قلب المنطقة غير الخاضعة. لم تكن القرية سوى تجمع محزن لمنازل بسطوح مستوية حول مسجد مركزي. سكانها القلائل البائسون الذين لم يهربوا كانوا ينظرون إلينا خفية، وسرعان ما سنعلم أنهم يضعون يدهم بيد العدو وبأنهم يزودون الجواسيس الدروز بكل التفاصيل المتعلقة بتحركاتنا وبأعدادنا وعتادنا.
كان الماء يُنقل إلينا من مكان بعيد بواسطة قافلة من الجمال، وكان أسوأ ماء شربته في حياتي، آسناً ونتناً، وكنا حينما يبلغ بنا العطش أشده، نقوم بتصفيته بمناديلنا – حيث كنا نجد عليها بعض الديدان. ما إن وصلنا حتى جلجلت الصرخة المخيفة : «إلى الأسوار ! «
هذه المرة، لن نقيم سوراً وحيداً كما هو الحال في بصرى، بل ستة معسكرات صغيرة متباينة والتي ستحيط بالقرية تماماً بالإضافة إلى معسكر في الوسط. وسوف تُرتب هذه المعسكرات بطريقة تستطيع معها تبادل الدعم في حال الهجوم، وكل معسكر تدافع عنه فصيلتان، بينما سيستقر القائد وهيئة أركان الكتيبة في منزل حصين مبني من الحجارة بالقرب من المسجد، في حين أن سرية الخيالة التي ترافقنا – من فرقة الخيالة الأجنبية، المؤلفة بغالبيتها من القوزاق – سوف تقيم في القرية ذاتها. وبالقدر ذاته تشكل المعسكرات وحدات مستقلة ويجب أن تسهر على أمنها الخاص. فعلى كل مدافع من خلف فتحة رمايته أن يحمي جبهة من خمسة أمتار تقريباً. وبسبب النقص في الأسلاك الشائكة، لن نستطيع مدَّ إلا شبكة رفيعة جداً منها خارج المتراس.
أية مهمة صعبة كانت مهمة بناء الأسوار! كان الطقس حاراً جداً ولم يكن لدينا إلا القليل جداً من الماء، أما الظل فلا وجود له في أي مكان، وحتى داخل الخيمة كان سعيراً حقيقياً. كانت الحصة اليومية من المياه أربع مطرات من سائل آسن وفاسد تحدثت عنه سابقاً. وبما أن نصف الكمية كان يذهب إلى المطبخ فلم يكن يبقى لكل رجل إلا أربعة لترات من الماء يومياً لأجل شربه وغسيله والعناية بعتاده، لم نعد نحلق ذقوننا أو نغتسل مطلقاً. وفي الواقع كنا نفقد نصف الماء في محاولة تصفيته. وسرعان ما أصبح منظرنا مخيفاً بذقوننا الشائكة وشعورنا الطويلة. كان الهواء محمّلاً دائماً بالغبار، كنا نعيش وسط القذارة، لكن بنادقنا كانت مصانة بشكل رائع.
بعد انجاز بناء المعسكر صدرت الأوامر بإعداد مهبط للطيران، فكان ينبغي أن نقتلع الحجارة لمسافة طويلة ونردم الحفر، كنا ونحن المتعبين والعراة حتى الخصر نبدو كقطاع الطرق.
ومن موقعنا، كنا نرى بوضوح موقع السويداء المحاصر بعيداً جداً في الجبل. وما بدا لي، أول مرة، نقطة مضيئة تحت ضوء الشمس، يأخذ اليوم شكل مدينة قوية ترفع فوق إحدى القمم أسوارها العالية. في الوسط القلعة المحاصرة، عالية وبيضاء تحت الراية الثلاثية الألوان، وهذه لا تبدو بالنسبة الى موقعنا أوسع من منديل جيب يخفق مع النسيم بما يشبه الفرح. كنا على اتصال دائم مع الحامية، نهاراً بواسطة المبرقة الشمسية، وليلاً بواسطة منارة ومضية. كنا نستطيع ونحن نعمل، تتبع الإشارات. ولكننا، ونحن الجنود مرتبة، كنا نجهل معاني كل هذه الرسائل، لكننا كنا نعرف أن المدافعين محاصرون حصاراً شديداً وكنا نتخيل المراحل المأساوية – نفتقد الماء أو الغذاء، الجرحى يُحتضرون الخ. . . . وكانت الرسائل تستدعي أحياناً استنفاراً مباشراً، إذ تنطلق من غزالة طائرات قاذفة، تمرّ من فوق رؤوسنا وتذهب لتحوم فوق الموقع، وترمي قذائفها حول القلعة. عندئذ تختفي المدينة والقلعة وسط عواصف من الغبار والدخان ترتفع نحو السماء.
غداة وصول الكتيبة إلى المسيفرة، قمنا باستطلاعنا الأول، ثمة هضبة تواجه معسكرنا، وكانت قنابل طيارينا قد دمرت قرية على السفح المعاكس. كان على مفرزة ما الوصول إلى تلك القرية ومراقبة تحركات العدو. كان الاستطلاع يضم سرية (التاسعة عشرة) وسرية من الخيالة. أما السرية التاسعة والعشرون فقد ظلت في المعسكر.
وما إن اجتازت المفرزة القمة حتى لم نعد نعرف ما الذي يحصل. فقد سمعنا فجأة إطلاق نار كثيف، ثم كانت عودة الاستطلاع حاملين عدة جرحى، وحُمِّلت جثةُ رقيب فوق سرج حصان بالعرض، فقد صادفوا فريقاً قوياً من الأعداء ووقعت معركة حامية. وقد رفض الملازم أول الذي كان يقود المجموعة بحكمة دفع المعركة إلى مدى أبعد وأن يورط رجاله فيها إلى النهاية. وقد قتل الرقيب على الفور فوق ظهر حصانه برصاصة في الرأس. دفناه بعيداً قليلاً عن المعسكر، ووضعنا صليباً بسيطاً على القبر تعلوه قبعته العسكرية.
هذه الطلعة أثارت حماسنا: شعرنا أنها الحرب جدياً. زادت الحراسة ثلاثة أضعاف ونام رماة الرشاشات بالقرب منها ونمت مثل بقية الجنود أسفل السور عند فتحة الرمي الخاصة بي، سلاحي فوق ذراعي، وكمية من القنابل اليدوية عند قدميَّ.
كنا ننام دائماً هكذا، البندقية مربوطة بالذراع، لأن الدروز كانوا ذوي مهارة لا مثيل لها، وتصل الجرأة بهم حد التسلل زحفاً تحت جنح الظلام إلى قلب المعسكرات لينتزعوا بندقية أحد النيام المطمأنين، ثم يختفون بعد ذلك مع غنيمتهم، وليس دون أن يحزّوا تماماً، عنق المسروق. لم نكن نكتفي فقط بإدخال الذراع في الحمالة، بل كنا ننام بالمعنى الحرفي فوق أسلحتنا.
السور المنخفض والمبني على عجل كان يأوي فصيلتين من الكتيبة ورشاشين أي حوالي سبعين مقاتلاً. وكان كل معقل من المعاقل الأخرى محمياً بعدد مساو من المقاتلين. في القرية، القائد وأركان قيادته كانوا يتحصنون في منزل حجري محاط بشبكة من الأسلاك الشائكة بالقرب من المسجد، وكان للخيالة معقلهم الخاص. في الإجمال، ستمائة رجل على الأكثر.
عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً، اعتقد رقيب، كان يقوم بجولة على المواقع المتقدمة، أنه سمع دحرجة حجر على السفح الذي يتجه نحو معسكرنا. وضع أذنه على الأرض، وتبين ما يشبه الضجة: أحجار تتدحرج، وجمال ترغي، فأطلق صيحة:« إلى السلاح !».
وطارت الصرخة من فم إلى فم. نهضنا، بنادقنا في فتحات الرمي، كنا ننتظر مستعدين في عتمة ليل جليدي.

بلدة المسيفرة اليوم
بلدة المسيفرة اليوم

في البداية لاشيء
في الليلة السابقة، جرى استنفارنا خطأً. فقد أطلق شاب برتغالي، لا أطول من جزمة، متخلف عقلياً، وهدفه المزاح، صيحة التحذير أثناء نوبته، أطلق رصاصة من بندقيته. فهرع الجميع إلى المتاريس، وأُطلقت القنابل المضيئة، كل ذلك كان بسبب كلب مسكين، هرب يجر ساقه.
واعتقدنا أن الأمر ذاته سيتكرر هذه الليلة، وبدأ الرجال، من بين أسنانهم، ينهالون بأوصاف غير لائقة على أسلاف ذاك الذي أيقظهم. « أقطع يدي إن كانت ستقع أصغر معركة ! « كنت أفكر، في اللحظة ذاتها اخترق الظلمة بريق وأزّت رصاصة فوق رأسي. وفجأة، اشتعل الليل بوميض الطلقات النارية، وغردت سحب من القذائف فوق المعسكر أو انزلقت ناعقة فوق المتاريس. واستطعنا أن نرى في ضوء قنبلة مضيئة، أن سفح التلة والسهل الذي يفصلنا عنها، أي كل الأرض أمامنا اختفت تحت سيل من الأشباح الصامتين، الذين أفرغنا فيهم مخازن بنادقنا، وما إن أدركوا أن القنبلة المضيئة كشفت أمرهم حتى انفجروا في صيحات وحشية.
ونحن أيضاً، أخذنا نصرخ. في المعركة يصرخ المرء دون أن يعرف لماذا. في البداية كنت عصبياً، فالبندقية تحتوي على دافع يجب إعادته للخلف من أجل ملء المخزن، وبعد أن أطلقت رصاصاتي الثماني الأمر الذي لا يستغرق وقتاً طويلاً، أردت إعادة تعبئة المخزن، لكنني نسيت الزر، كل خرطوشة كنت أضعها في بيت الطلقات كانت تُقذف نحو الخارج، أدركت غلطتي أخيراً وبفعل احتدام وهيجان المعركة، كنت أطلق، وأطلق إلى أن صار أستون البندقية يحرق أصابعي. كنت أظن نفسي صامتاً تماماً، ومع ذلك فما زلت أرى الملازم اول فيرنو يقترب مني ويدعوني لعدم الصراخ عالياً مقدماً لي هذه الملاحظة المحقة :«عندما تصرخ على هذا النحو فإنك تدل العدو على موقعك».
كانت المعركة في البداية شديدة الغموض، فالقليل جداً من القذائف المضيئة أطلقت والعتمة حالكة جداً. ولأن العتمة كانت تخططها طلقات العدو بخطوط مضيئة، فقد كنا نردّ باتجاه مصادر تلك الخطوط. وقد نجحت مجموعة من الأعداء في شق طريقها بين المعسكرات واجتاحت القرية. صمد المعسكر المركزي ومقر هيئة القيادة بقوة لكن مقر الفرسان تمّ اقتحامه وجرى ذبح الحامية المؤلفة من تسعة وعشرين قوزاقياً والاستيلاء على جياد سرية الفرسان.
يمكن أن تستولي على الجياد إما أن تقودها خارجاً فهذه قصة أخرى. حينما كان القبليون المتوحشون يعدون عبر أزقة القرية كان الفجر قد بدأ ينشر ضوءه المخضر وبدأنا نرى عبره. الحصان أضخم من رجل ويعرض لأن يكون هدفاً آخر، فكنا نصوب نيران أسلحتنا نحو الأشباح المرئية مع طلوع الضوء. صحيح أنها خيولنا لكن قلما همنا ذلك، فبعد سقوط الحيوان كنا نصوب على الفارس الذي سقط عن ظهره. بالتأكيد تمكن بعضهم من الإفلات من رمينا المتواصل، على الرغم من انشغالنا بأخوتهم الذين كانوا يمطروننا من فوق التلة بوابل من النيران.
طلع النهار تقريباً، وساد جو من السكون. في معقلنا الصغير، أفضل الرماة فقط ظلوا متشبثين بفتحات رميهم حيث كانوا يتبادلون إطلاق النار مع رماة منعزلين، في حين أننا خلدنا نحن الآخرون، إلى الراحة جالسين مستندين إلى المتراس وقد ظن بعض الجنود الجدد أن المعركة انتهت. في الواقع، لم تكن تلك إلا مناوشة بسيطة، مناورة ابتدائية، والتي لاقت بالنسبة الى المهاجمين نصيباً وافراً من النجاح لأنها جعلتنا من دون خيالة.
في اللحظة التي انبلج فيها ضوء النهار تماماً، دوّت مجدداً صرخة « إلى السلاح! » وهرعنا إلى فتحات إطلاق النار.
المشهد الذي ينتظرنا كان خارقاً وقادراً على إثارة الرعب فينا لو لم تكن نشوة المعركة قد أثملتنا سلفاً. فمن أعلاه إلى أسفله، كان سفح الهضبة كله مغطى بموج متلاطم من الدروز الذي بدا وكأنه يسحب الأرض معه في مدّه الجارف. كانوا، ما بين فارس وراجل، خمسة آلاف على الأقل. وكان المشاة يسيرون في المقدمة، تتبعهم مباشرة الخيالة المستعدون للهجوم من خلال الفتحات ما بين المشاة لاستثمار النجاح. كانوا جميعهم يحملون عتاد معركة خفيفاً، دون برنس، فقط جلباب قصير، غطاء رأس ملون يخفق خلف الرقبة. كانوا يلوحون بأسلحتهم ويتقدمون هادرين، يتقدمهم الأمير محاطاً بأربع رايات سوداء واسعة.
حسبت، بداية، أنني أحلم. كان الأمير في المقدمة وسط أربع رايات سوداء، فوق حصان أصيل، يحمل أسلحة تعود للقرون الوسطى: زرد وخوذة مشبكة، كما نرى في المتاحف – أسلحة استخدمت ربما منذ قرون عديدة في الحرب ضد الصليبيين الفرنجة!
وعلى الرغم من دويّ الرشاشات وفرقعة بنادق الليل، فإن مدّ المهاجمين ظل يتمدد بموجات متلاحقة وحملوا بحماس شديد وهم يزأرون مثل الجن: «لا إله إلا الله ! لا إله إلا الله !»
كان هجومهم يشمل كل المعسكرات لكن بدا لنا أنه علينا وحدنا، على معقلنا الصغير ورجاله الستين أو السبعين، تنقضُّ هذه الآلاف من المتحمسين، لم يكونوا مجرد متحمسين، في نهاية المطاف، إذ لم تكن تنقصهم البنادق الجيدة، والذخائر الممتازة وقنابل ألمانية على شكل يد الهاون، يخال للمرء أنه يشهد مباراة بكرة القدم : فثمة سلسلة من الهجمات المتكررة التي لم تترك لنا الوقت لالتقاط أنفاسنا. ومن دون انقطاع، كان زبد أمواج الهجمات ينتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا. كنت أطلق إلى أن تصبح بندقيتي حارقة وتدخن بين يديَّ، عند ذلك أتركها لأقذف القنابل اليدوية بانتظار أن تبرد ثانية.
في غضون ذلك، استطعت أن ألمح مشهداً غريباً ومهيباً. لم يؤد الهجوم الأول إلى الاستيلاء على أيٍّ من مواقعنا، لكنه أوصل المهاجمين حتى القرية على يميننا. تقريباً في وسط القرية، ومن جهتنا كانت تقوم تلعة خندق مشكلّة موقعاً متميزاً. ومثل موجة تتدفق نحو الشاطئ تسلق الأمير الربوة مع راياته السوداء الأربع. هناك، وبعد أن جعل حصانه يدور واقفاً على قائمتيه الخلفيتين أخذ موقعه في مواجهتنا بينما كان حراسه يقومون بغرس الرايات بقوة في الهضبة، تعبيراً عن احتلال نهائي لها. ثم ترجل، وتسلم، هادئاً، تحت الرايات الخفاقة، إدارة المعركة. وسرعان ما امتلأت السطوح المستوية بالرماة المنفردين الذين كانوا يخرقوّننا بالطلقات التي لم نكن نستطيع الرد عليها، لأننا كنا مشغولين بالتصدي للهجمات القادمة من السهل.
من دون انقطاع، كانت الموجات تتلو الموجات، وكان المنحدر الذي يسهل اندفاعهم مزروعاً بالصخور ومحصناً بالحيطان الواطئة التي كان الخصم يلوذ خلفها قبل القفزة الأخيرة في العراء. كالسيل الكبير كان الدروز يهبطون السفح من حجر إلى حجر ومن حائط إلى حائط ليندفعوا بأقصى جهدهم حتى قاعدة متاريسنا، على الرغم من نيراننا القاتلة وقد مات بعضهم في ظلها حرفيا. وقد وجدنا، بعد انتهاء المعركة، أحد هؤلاء المتعصبين متشبثاً ميتاً على المتراس ذاته. إذ لا بدّ أنه هاجم، ودون أي سلاح بيده، مربض الرشاشات، وقضى ويديه المتشنجتين تتعلقان بالحافة الداخلية للمتراس، وكان المتراس مغطى ببقايا دماغه المتناثرة من جمجمته، وقد أحصينا على الجسد المتشنج ثلاثين جرحاً واضحاً.
تمَّ ذلك بعد المعركة بالطبع.
في وطيس المعركة، لم نكن نشغل البال بأي شيء ولم نكن نلقي بالاً للقتلى، فالأحياء هم من كانوا يستأثرون بكل اهتمامنا. فالمدُّ غير المنقطع يهدد في كل لحظة باكتساحنا. لقد كان حصننا الصغير (وهو سور بسيط من الحجر بارتفاع صدر الرجل، مبني على عجل في العشية، ويدافع عنه حوالي سبعين رجلاً تقريباً) يشبه زورقاً صغيراً يتأرجح فوق بحر هائج.
استخدمنا بنادقنا إلى أن وصل المهاجمون إلى مسافة قريبة جداً، عندئذ انحنينا لالتقاط القنابل اليدوية عند أقدامنا ورميها عن كثب على الأعداء، وخلال فترات السكون القصيرة ظل الدروز يطلقون متحصنين خلف الصخور أو الحيطان الواطئة – التي كان أحدها لا يبعد أكثر من عشرين متراً عنا. ثبتنا على طرف أستون البندقية قمع الفوهة الذي يتيح إطلاق القنابل اليدوية وأزحناهم من خلف ملاجئهم، مع دوي الإنفجارات الرهيبة التي كانت تطوح أحياناً في الهواء بأذرع وسيقان مختلطة مع التراب والحجارة. لقد كانت الجلجلة مرعبة: طقطقة رشاشينا التي لم تنقطع ، أزيز رصاص البنادق، صفير القذائف المنزلقة، دوي القنابل اليدوية المرعب ، ودائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينية مبهمة تتعلق بالعذابات الشديدة التي تنتظرنا. وفي المقابل كنا نشتمهم بكل العبارات واللغات المختلفة ونتحداهم للحضور إلى معسكرنا لنريهم ماذا سنفعل بهم.

الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين
الجنرال موريس غاملان على غلاف مجلة تايم . قاد بنفسه حملة لإنقاذ الحامية الفرنسية في المسيفرة كان لها أثر في انسحاب المجاهدين

“كانت الهجمات المتلاحقة تنتهي بالموت على بعد خطوات من أسوارنا، وكنت أطلق النار إلى أن تصبح بندقيتـي حارقة وتدخن بين يديَّ”

شيئاً فشيئاً، بدأنا نظهر هدوءاً أكثر، وصار الأداء أفضل. كنت أصرخ دون أن أنتبه إلى أن جاء الملازم أول ونبهني للأمر. رميت في هذه اللحظة نظرة خاطفة نحو بودنيي، وهو مجند جديد مثلي، فكان يطلق النيران، وبأعصاب هادئة، من زاوية إحدى تحصينات المدخل، والسيجارة في فمه، فأشعلت انا السيجارة بدوري. ودائماً، بعد ذلك، ظلت السيجارة في فمي. أحيانا، قد يكون عقب سيجارة منطفئ. في ذلك اليوم تزودت بست علب من التبغ وكان كل الرفاق يدخنون وهم يقاتلون.
وبدا أن الوضع بات ميؤوساً منه أكثر فأكثر. صحيح أننا أنقذنا حصننا الصغير، لكننا لم نستطع منع عصابات المتوحشين من الوصول إلى داخل القرية التي امتلأت بهم الآن. وهناك رماة يعتلون السطوح ويمطروننا برصاصهم دون أن نستطيع الرد عليهم، لأنه يتحتم علينا أساساً مواجهة الهجمات المنطلقة من الهضبة أو من السهل، وكانت طوابير المهاجمين المندفعة من أزقة القرية تتحد مع تلك التي كانت تهبط من المرتفعات، ونحن لم نكن نوفر جهداً. فعندما كانت البنادق تحرق أيدينا كنا نرمي القنابل ريثما تبرد ثانية.
وحينما كانت نيراننا تصدّ هجوماً كان الدروز يتراجعون إلى خلف الحجارة والحيطان الواطئة ويوجهون نحونا نيراناً غزيرة. وما إن يرتاحوا قليلاً حتى يستعيدوا حماسهم ومع نخوات قادتهم يندفعون ثانية بعزيمة متجددة، وهكذا لساعات وساعات. وكنا نسمع في القرية فلول الفوج يدافعون شبراً شبراً عن المنازل التي تحصنوا فيها. أما المقر المحصن لهيئة القيادة فكان يطلق النار من جميع فتحات الإطلاق فيه. وكانت الصرخات المخيفة تجعلنا نخشى أحياناً أن يكون القائد وهيئة القيادة قد تمّ اجتياحهم وذبحهم. وكنا ندرك، للحظات، أن المعاقل الأخرى لا تزال صامدة، هي أيضاً -زوارق مسكينة تتراقص وسط المحيط. لكن، في غالب الأحيان، لم نكن نرى إلا ما كان يجري قريباً جداً منا – ومرات عديدة، كانت عيون مقلوبة غارقة تعاني سكرات الموت. وقد استغرقت بعض الوقت قبل أن أعي الواقع تماماً. في البداية، اعتقدت أنني كنت لا أحسن التسديد، لكنني لاحظت أن هؤلاء المتعصبين يستمرون في الهجوم على الرغم من جراحهم ليسقطوا ميتين على أسلاكنا الشائكة. ولم يكن حتى الجرحى منهم يتوقفون عن القتال. فعلى الرغم من جراحهم القاتلة، كانوا يستمرون في إطلاق النار لائذين خلف صخرة، أو حتى في العراء، يطلقون حتى نزعهم الأخير.
عندما تبهرك معركة بين رجلين فإنك تنسى أحياناً المعركة العامة. أتذكر درزياً لم أتمكن من قتله إلا بعد وقت طويل وجهد جهيد. فقد كان يمتطي أحد خيولنا المستولى عليها، كان يعدو منحنياً فوق عرف الحصان مثل هندي أحمر. وبدوت عاجزاً عن إصابته. كنت أطلق عليه دون توقف، ويبدو، دون جدوى. أخيراً، سددت نحو الحصان فأرديته، لكن الدرزي الذي كان سليماً كما يبدو، اختطف بندقيته وأخذ يزحف بأسرع ما يمكنه نحو ملاذ ما. كانت رصاصاتي تثير الغبار من حوله – هل كنت عديم الخبرة إلى هذه الدرجة ؟ لكن مشيته تباطأت أكثر فأكثر: لقد ضبطته، مع ذلك فقد استمر في الزحف حتى انتهى إلى الاختفاء خلف صخرة، وأطلق نحوي، في الحال، رصاصة مسّت وجهي. ومن مكمنه، لم يتوقف عن تسديد ناره نحوي. ركّبت على بندقيتي قمع إطلاق القنابل وأطلقت، في المرة الثالثة، سقطت القنبلة خلف الصخرة تماماً، فأثار الانفجار المرعب بركاناً من التراب والدخان، وعرفت هذه المرة أنني نلت منه.
أتذكر أيضا دقيقة عشتها كما لو كنت في حلم. فقد خرجت فجأة، من أحد الأسوار الحجرية على بعد حوالي ثلاثين متراً على الأكثر، مجموعة صغيرة من عشرة دروز تقريباً وشنّت هجوماً عنيفاً ومزمجراً ومباشراً نحو فتحتي. ما شل قدرتي تقريباً هو أنهم كانوا جميعاً شيوخاً فانين، وكانت لحاهم تصل إلى ما دون أحزمتهم، وعلى الرغم من نيراننا المتضافرة، فإن هؤلاء الغريبين ظلوا يتقدمون، يحرسهم سحر ما. كنت أطلق دون جدوى، وأطلق دون توقف، كنت كما لو كنت أطلق النار على أشباح. ولم تكن نيران جيراني من اليمين ومن اليسار أكثر فاعلية. ووصل المسنون إلى شبكة أسلاكنا الشائكة التي يرثى لها – هي كل ما استطعنا مدّه مساء الأمس – وحاولوا اجتيازها، وعلى حين غرة تهاووا جميعاً. لا شك أنهم كانوا يتلقون الرصاص منذ انطلاقهم من مخبأهم، وأراهن على أن عدداً منهم ماتوا واقفين أثناء هجومهم. وها هم يتمددون الآن متكومين بعد أن كتمنا اختلاجاتهم الأخيرة بعدد من القنابل.
ولأن الذهن كان مشدوداً نحو الخارج لم يكن لدينا الوقت بالتأكيد لملاحظة ما الذي كان يجري داخل المعسكر. أرى ثانية مع ذلك، وبأكبر قدر من الوضوح، القامة النحيلة، والكتفين المتهدلين للملازم أول فيرنو، وجهه المحفوف بذقن لم تحلق منذ عدة أيام، يتنقل ببرود منتصباً مستخفاً بكل ملجأ، يد في جيبه والأخرى تقبض على مسدس آلي ضخم. يصل ويقف خلفك ويشير إلى الرجال الذين يكون من المناسب أن تصرعهم، وحين تنجح في عملك، يربت برفق على كتفك، قائلاً بلهجة راضية : « حلو، إصابة جيدة !» ثم ينتقل إلى آخر، في غضون ذلك يصعد إلى المتراس ويفرغ رشيشه. المساعد الأول كان يتجول بالطريقة ذاتها موجهاً الرمي نحو الجهات الأشد خطراً والتي تأتي منها النيران الأشد إزعاجاً، وكان ضعيفاً أمام القنابل اليدوية، بدلاً من الرشيش كان يحمل حفنة من القنابل يلقيها هو بنفسه حينما توشك الأمور أن تسوء، وحينما يبدو أن الهجوم لا يمكن التصدي له، أو بكل بساطة لتمضية الوقت بين حديثين مع الرجال.
كان المسعف –لم يكن عندنا إلا مسعف واحد– قد حفر مركز إسعاف وسط المعسكر في ظل سور من الصناديق. كان يجتاز البقعة التي أصابها الرصاص لينقل الجرحى ويجرهم إلى حفرته.

“كان هناك دائماً الهدير المرعب: «لا إله إلا الله! لا إله إلا الله»! التي كان إيقاعها يملأ الجو تتبعه أناشيد دينيــة عن العذاب الشــديد الذي ينتــــظرنا”

دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة
دبابة فرنسية من الطراز الذي كان مستخدما إبان معركة المسيفرة

ثم حمل عتاده وجاء مزمجراً يقاتل إلى جانبنا: فأخو الرحمة تحول في الحال إلى شخص فظّ متعطش للدماء. كانت أطقم الرشاشات ترمي بلا انقطاع، وكانوا يعانون من النيران المركزة للرماة المتمركزين فوق السطوح.
حتى الآن كنت أقاتل وإلى يساري الإيطالي مورغاردي وعازف البوق بوهل، وثمة ألماني إلى يميني. وكان كل واحد منا يدافع عن جبهة من خمسة أمتار تقريباً. كنا نقاتل منذ ساعة تقريباً عندما وصل الرقيب راث. كان يقف خلفنا ويوجه طلقاتنا. وخلال إحدى الهجمات، سقطت قنبلة درزية مصنوعة في ألمانيا، عامودياً على السور، وسط المجموعة التي كنا نشكّلها.
رأيت مورغاردي غارقاً في سحابة من دخان أسود، أطلق صرخة، رفع يده إلى عينيه وسقط على الأرض جثة هامدة، وقد انُتزعت قبةُ الجمجمة وانكشف دماغه. الرقيب راث سقط هو أيضاً وأخذ يزحف، مسربلاً بالدم ومصاباً بجرح خطير. بوهل إلى يميني كان ينزف من جرح في الرأس لكنه ظل متشبثاً بموقعه بشراسة.
كان عنف الانفجار قد أطار البندقية من بين يدي. انحنيت لالتقاطها فلاحظت أن عقبها قد تطاير شظايا. وهكذا، فإن جاري إلى اليسار قُتل، وجاري إلى اليمين جُرح، خلفنا، أصيب الرقيب إصابة بالغة، بندقيتي دُمرت، بينما لم أصب أنا بخدش. التقطت بندقية مورغاردي وبدأت بإطلاق النار لأدافع عن جبهة زادت اتساعاً.
أصرّ عازف البوق بوهل لبعض الوقت على البقاء في موقعه على الرغم من الدم الذي كان يسيل على وجهه ويمنعه من الرؤية. عاد المسعف، بعد أن وضع راث في مكان آمن في مركز الإسعاف، لأخذ عازف البوق بوهل على الرغم من احتجاجاته ومقاومته. اختطفت عندئذ بندقيته، أفضل بندقية في الفصيل كله، بندقية جديدة تقريباً كان بوهل يصونها كما حدقة عينه. للحظة، كنت، وسط هذه المعمعة، سعيداً مثل طفل حصل للتو على لعبة جديدة.
بعد مغادرة مورغاردي و بوهل اتفقت مع باريسي صغير يدعى فيري، كان يقف إلى يساري، على إعادة تقسيم الجبهة في ما بيننا نحن الاثنين، الجبهة التي كان يدافع عنها أربعة مقاتلين حتى الآن. كنا نذهب من فتحة إطلاق إلى أخرى لكي نخدع رماة الأعداء وسرعان ما شكلنا فريقاً ممتازاً. كان فيري من سكان ضاحية مونمارتر، كان قصيراً ومربوعاً، وكان القتال يجعله مسعوراً، عيناه جاحظتان، وشارباه منفوشان، كان يكافح بلا كلل، رشيقاً مثل سنجاب – باختصار، كان مقاتلاً رائعاً. بخصوص البندقية، لا يعرف إلا الرمي القاتل، وهو رامي قنابل يدوية لا يقهر، وحركاته سريعة كالبرق، كما ظل سلارسكي، وهو بولوني جريح، لا يستطيع الوقوف على قدميه والرمي، ظل طوعاً إلى جانبنا، جالساً على الأرض، يمرر لنا الخرطوش والقنابل ويكمل الفريق بصورة مدهشة.
لاحظت أيضاً كيف تتفاعل مع المعركة طبائع القوميات المختلفة. فالفرنسيون – مثل صديقي الباريسي الصغير – يبدون ممتلئين حماسة واندفاعاً، لكن تحت مظهر التأثر الشديد، في وطيس المعركة، يظلون في أعماقهم باردين برودة الفولاذ. الألمان يواجهون كل شيء بهدوء أحمق ويتشبثون بعنف ببندقيتهم بقدر ما يتشبثون بصاحبتهم. الروس، قدريون، ولا ينشغلون بالحياة أكثر مما ينشغلون بالموت. أما في ما يتعلق بالطبع الأميركي، فقد كان لدي من الأعمال أكثر مما كان يسمح لي الاهتمام به.
أعود إلى قصتي. سيمون، المساعد الأول تلقى رصاصة في ذراعه الأيمن. تابع، لامباليا بجرحه، جولته وتوجيه رمينا ولأنه لم يعد يستطيع رمي القنابل، فقد تزود برشيش خفيف كان يتسلى من وقت الى آخر بشده إلى كتفه بذراعه الأيسر. الرقيب فيشر، ألماني، أصيب بطلقة في رأسه، ظل يحتضر لفترة طويلة، كان يفتح فمه ويغلقه مثل سمكة أُخرجت من الماء. ضابط آخر، الرقيب الألماني كريريخ، جُرح بطريقة جعلته لمدة طويلة مثار مزاح الفصيل. فقد كان يقف خلف المتراس، كان يوجه أمراً حينما دخلت رصاصة درزية فمه وخرجت من خده الأيمن. ظل واقفاً، يشتم ويبصق بعض أسنانه وحطام فكِّه، رافضاً قبول مساعدة المسعف، قبضته ممدودة نحو العدو، ومصراً على الاستمرار في القتال. وقد لزم ليس أقل من ثلاثة رجال لأخذه إلى مركز الإسعاف، وكم مزحنا معه، منذئذ، بسبب هذه الرصاصة التي ابتلعها وهو يفتح فمه لتوجيه أمر ما.
وكان هناك أيضاً الكثير من الأمور المحزنة. أحد جنود الفرقة والذي أُصيب في صدره، قضى النهار بطوله ليموت، ممدداً فوق التراب. جاء من فصيل آخر قبل الهجوم تماماً، ولم يتعرف إليه أحد. بين حين وآخر، في الوقت الذي كنا نظن أنه فارق الحياة، كان أحدنا يسمعه يغمغم يقترب منه زاحفاً عبر منطقة القصف ليسأله ما الذي يريده و كان الماء باستمرار هو ما يريد: « ماء، ماء ! « ظل يكرر. كان لدينا القليل جداً من الماء، وكنا نموت عطشاً بالمعنى الحرفي. لكن كان هناك دائماً من يُجلسه، يسنده، ويسقيه من مطرته، ثم يعود زاحفاً إلى موقعه. استمر النزف طيلة النهار: كان نزفاً داخلياً يفرغه ببطء من كل دمه. في كل مرة اعتقدنا أنه مات فعلاً، كانت شفتاه تتحركان حركة ضعيفة والرفيق الذي كان يصل إليه زاحفاً كان يسمع الشكوى ذاتها دائماً : «ماء، ماء ! «وهكذا طوال النهار لقد استغرق اثنتي عشرة ساعة ليموت.
نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ( كنا نقاتل منذ الثالثة صباحاً)، توقف العدو، بعد أن صدته نيراننا، فتوقف القتال. إذ توقفت الهجمات الجماعية واكتفى الدروز بالرمي من خلف حجر أو حائط قصير أو من فوق السطوح المستوية.
وبينما ظل أفضل الرماة يحرسون المتراس، خلدنا نحن للراحة متمددين عند أسفل السور. لقد كنا مرهقين بشكل فظيع، وكنا ونحن عراة حتى الخصر، نشبه القراصنة. انقطعنا عن البئر التي كانت تقع في الجهة الأخرى من القرية ولا يمكن الوصول إليها. لم يبق لدينا إلا القليل جداً من الماء في مطراتنا وقد جعلنا العطش مسعورين تقريباً. استكشف الملازم فيرنو الصناديق التي استخدمها المسعف لحماية مركز الإسعاف المعدّ على عجل، فوجد القليل من الماء بين احتياطي الطعام القليل فعمل على توزيعه. وتطوع هيرشكورن، الشاب الفرنسي، للذهاب لإحضار بعض النبيذ. فزحف تحت نيران الرماة من القرية، يحمل سطلاً كتانياً في كل يد، حتى البرميل، ثم عاد بسطليه المليئين تقريباً. وحصل كل رجل على ربعية نبيذ شربها في الحال.
في أثناء هذا الوقت، ركّز رماة النخبة كامل انتباههم على قناصة العدو الذين كانوا قد أهملوا أمرهم كثيراً لسبب بديهي. هؤلاء القناصون الماهرون هم هيرشكورن، فرنسي، بريكس، نمساوي – سيقتل في رساس – ، قسطانوفيتش، روسي أكثرهم طولاً، بولز، ألزاسي، الألماني كوبه، و فيري الباريسي الصغير من مونمارتر، رفيقي في المعركة. وكان هؤلاء كلهم جنوداً قدامى أمضوا ما بين خمس وعشر سنوات في الخدمة وهم فخورون بمهارتهم، ولا يبددون ذخيرتهم هباء. كانوا لا يطلقون إلا إذا رأوا، وكانوا يصيبون هدفهم في كل طلقة، والرجل الذي يصيبونه لا بد رجل ميت.
انضممت إليهم بعد أن تناولت طعامي وسعينا لإجلاء الدروز عن سطوح القرية. لم يكن من السهل إصابتهم لأنهم كانوا دائبي الحركة، لا يظهرون إلا ليقفزوا من سطح إلى آخر. ومع ذلك فقد كان رفاقي ينجحون في إصابتهم إذ كنا نرى عندئذ جثثاً تتدحرج أو أذرعاً تومئ عند حافة سطح مثل دمى مسرح العرائس.
ويقترح أحدهم بأن «نسقط» الأمير. صحيح أن حصانه قد اقتيد بعيداً، لكنه هو نفسه لا يزال واقفاً فوق التلة، محاطاً بحرسه، بينما تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. وافترضت أن الإتيكيت أو آداب السلوك لا تسمح لحراس الشرف لأي أمير أن يبحثوا عن مخبأ لهم ، لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى بتعويذاتهم، أو التعصب الذي يبقيهم هناك. وتحت النيران المحكمة للمونمارتري الصغير وقسطانوفيتش وهيرشكورن وكل الرماة المهرة والكثيرين غيرهم الذين بذلوا أقصى ما لديهم، بدأ الحراس يتساقطون واحداً تلو الآخر. لقد قاوموا جيداً رغم ذلك بمن فيهم الأمير الشبيه بأسلحته بقطعة في متحف. وعندما أصيب بدوره تردد لحظة قبل أن ينهار لم يبق على الهضبة إلا أجساد مختلجة تحت خفقان الرايات الأربع السوداء.
فجأة، تفاقم الوضع سوءاً. فقد تفقد الملازم فيرنو مخزون الذخائر وأصدر الأمر بتوفير رصاصاتنا، ثم جاء هو نفسه يتفقدنا:« اقتصدوا، وحتى كونوا مقترين بطلقاتكم ولا تطلقوها دون جدوى، فقط لتقتلوا. في حالة الهجوم، انتظروا إلى أن يصبح العدو قريباً جداً، فلم يعد لدينا ذخائر.»
يا لها من أخبار مفرحة، في وقت طفق فيه الدروز يستعدون لتجديد هجماتهم! في هذه اللحظة، ثمة هدير في الأجواء يشير إلى وصول سبع أو ثماني طائرات ترمي القنابل على الدروز، ثم تهبط أكثر وترشّ أرض المعركة برشاشاتها. نحن نعرف أن هذا مثير للانطباع أكثر مما هو فعال على الأرض. التصق المحليون بالصخور أو بالحيطان الواطئة، وقوسوا ظهورهم كما تفعل القطط تحت المطر. بعد ذلك رسمت الطائرات دورات أكثر فأكثر انخفاضاً طارت فوق معسكرنا في حين كنا نحن نصرخ مثل المجانين ملوحين بقبعاتنا. والآن وهي تختفي شيئاً فشيئاً في البعيد، متجهة نحو غزالة، نعرف أنها استطاعت تقدير خطورة حالتنا، وأنها بعد عدة دقائق سوف تقدم تقريرها إلى القيادة العامة، سوف يتم إرسال تعزيزات من غزالة. وحسبَنا عشرين كيلومتراً من المسير، أي أن النجدة يمكن أن تصل عند الساعة الرابعة، الساعة الرابعة! لقد بدا ذلك بعيداً بشكل مرعب! وأدركنا أن قدرنا هو رهن لعبة حظ حيث يتعلق الأمر بالعمل على إطالة عمر طلقاتنا الأخيرة حتى وصول التعزيزات. بيد أن الهجوم بدأ ووضع حداً لحساباتنا.

القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين
القائد سلطان باشا الأطرش عارض الهجوم الذي انتهى بخسائر كبيرة للمجاهدين

 

“دون أدنى شك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونـــــا ً”

أيّا ً يكن المُخطط الذي رمى بالدروز إلى الأمام، من الهضبة المواجهة، فإنه يمتلك ذكاء مرهفاً ويعرف كيف يستخلص العبر من التجربة. فالهجوم الأول مع الفجر شنته فرق في تشكيلات متراصة تركت فيها نيرانناً آثاراً رهيبة. طريقة الهجوم هذه تغيرت. التلة الطويلة الممتدة ما بين الجبال ومعسكرنا التي تنتشر الحملة فوقها تقطعها تماماً حيطان حجرية واطئة، تفصل ما بين الحقول وتشكل وقت السلم أسواراً لحماية أغنام الفلاحين. هذه المرة كان الدروز يستخدمون كل غطاء ممكن. وحدات صغيرة في تشكيل منتشر تلقي بنفسها خلف أحد هذه الحيطان، تطلق النار لبعض الوقت، ثم تندفع أو تزحف نحو الملجأ الأقرب. هكذا كان آلاف المهاجمين يتقدمون غير مرئيين تقريباً مثل نهر تحت الأرض.
كنا حريصين على تنفيذ الأوامر التي يقتضيها الوضع، وكنا نوفر خرطوشنا، ولا نطلق إلا ببطء شديد وحرص أشدّ. معظم الأحيان لم نكن نلمح إلا شكلاً غامضاً يقفز من حجر إلى حجر وكان الباريسي الصغير، الذي لا يزال إلى يساري – بات القطاع المولجون بحمايته واسعاً جداً – يسقط بعض الدروز «على الطائر».
عند أسفل التلة، تمتد مساحة مكشوفة من الأرض يجب اجتيازها قبل الوصول إلينا. حينما صار الدروز فيها فتحنا عليهم ناراً في منتهى العنف دون أن نهتم للذخائر المستهلكة. وقد سقط بعض المهاجمين فوق الأسلاك الشائكة، وحتى عند أسفل متراسنا. عندها كان يجب أن ترى الباريسي الصغير. صحيح أنه كان يرمي بشكل جيد من البندقية، لكن لا مثيل له في رمي القنابل اليدوية. كان الناجون من الهجمات المشتتة يحاولون أن يقاتلوا متراجعين ويختبئون خلف الجدران الأقرب. كان صاحبي الباريسي يحدد موضعهم بعناية ويزيحهم منه برميهم بالقنابل:« ممتاز!» كان يهتف كل مرة. «ممتاز! ».
حينما لم يعد العدو شديد التهديد، التفتنا إلى القناصة الجاثمين فوق سطوح القرية، إلى يميننا. كانوا يتصيدوننا من الأعلى على مهل كان يستحيل أن تفلت منهم. على العكس من هجمات السهل، التي كانت أسوارنا تحمينا منها، وكنا نطلق مختبئين خلف فتحات الرمي، مع خطر أن ينقضّ علينا مع ذلك هجوم نهائي، ويسحقنا في معقلنا الصغير.
كانت الساعات تمضي، مرهقة، في قتال دون توقف، تحت شمس قائظة، وسط الفرقعة والموت والدماء، وقد قلّت ذخائرنا. وسألنا بعضنا بعضاً كم بلغت الساعة. أخيراً حلت الساعة الرابعة، الوقت المحدد في أذهاننا لوصول التعزيزات، واحسرتاه ! لم يصل أي دعم، ولم يتغير شيء. ظل الدروز يطلقون دون توقف. وظل الجحيم ذاته. الساعة الرابعة والنصف. بدأ الرجال يجدّفون بمرارة. ألن يصل الدعم إذاً؟ كان الملازم الأول ينقّب، قلقاً، الأفق بمنظاره من جهة غزالة. هجوم جديد ينطلق من القرية؛ نصدّه. الدروز الجرحى المتناثرون في أرض المعركة يستمرون في إطلاق النار، فنجهز عليهم واحداً واحداً، بعناية دون أن نضيّع طلقة. لكن الذخيرة استُهلكت تدريجياً، على الرغم من الإطلاق المتباطئ، وكان الملازم يرفع أغلب الأحيان منظاره نحو غزالة، لكنه لم ير شيئاً يأتي من غزالة.
تجاوزت الساعة الرابعة بوقت طويل، ودائماً من دون أن تصل التعزيزات. يحصي الملازم الذخيرة للمرة الأخيرة، وللمرة الأخيرة يتفحص الأفق، ثم يطلب منا أن نغرز حرابنا في الأرض.
جرّد كل منا حربته من جرابها وغرزها في التراب إلى جانبه،

“كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك”

لتكون تحت يده وليثبتها على نهاية أستون بندقيته، عند تلقي الأمر الأخير حينما سيبدأ الفصل الأخير. أخرج الملازم ذخائر الاحتياطي الأقصى ووزعها على الجميع. وأُخرجت جميع الرشاشات من المعركة، وانتُزعت الطلقات من أشرطتها وجرى تقاسمها أيضاً. حينما انتهى كل ذلك كان معي خمس وعشرون طلقة، بينما كان البعض لا يمتلك نصف هذا العدد، وكان كل منا يملك بعض القنابل اليدوية. وظلت حرابنا المغروزة في متناول أيدينا تنتظر تثبيتها على البنادق، حينما سيصبح العدو في المعسكر وتبدأ معركة المجابهة بالسلاح الأبيض النهائية. وراجت على طول السور كلمة السر التالية: « احتفظ بآخر طلقة لنفسك!» فقد قاتل كل جنود الفرقة القدامى في المغرب ورأوا كيف عُذبَ جرحاهم. وليس من المؤكد أن الأمر سيكون كذلك مع الدروز، لكنهم لا يريدون تجريب حظهم.
وكأن الدروز أدركوا وضعنا الميؤوس، فقد أخذوا يتجمعون من أجل الهجوم الحاسم وكنا نسمعهم عبر أزقة القرية، يصرخون، يهزجون، ويهيجون بجنون رداً على تحريض قادتهم. خلف الحيطان فوق الهضبة، كان يجري الاستعداد ذاته. وكان المشايخ ينتقلون من جماعة إلى جماعة فترتفع النخوات من كل مكان. وبدأ الفرسان المتجمعون خلف المشاة، فوق قمة الهضبة تقريباً، وبعد أن انتظروا ساعتهم هذه طوال النهار، يتشكلون تشكيلاً قتالياً ويهبطون السفح ببطء.
توقفنا عن الرد على نيرانهم نهائياً، ثم تركنا بعض الحراس فقط عند فتحات الرمي لتحذيرنا عند بدء الهجوم النهائي. وجلسنا عند أسفل السور نتروّح بقبعاتنا، غير مبالين تحت قصف كان عنفه دعوة أكيدة للرد عليه. كنا نستند بظهورنا إلى المتراس نتهوى وكأن العدو غير موجود محتفظين برصاصاتنا الثمينة ونعد أنفسنا بربع ساعة أخير سنلعبه بحماس شديد.
هذه السلبية، وهذا الصمت، هما ربما، من ولّدا الشك، والخوف من الوقوع في كمين وأخّرا طلقة الخلاص. ودون أدنى ظل من الشك، لو هجم الدروز في تلك اللحظة لما كنا نستطيع الصمود ولكان الخيالة بعد أن يجتازوا كالإعصار سورنا الضعيف، محقونا. لكنهم ظلوا هناك في المرتفعات مستمرين في تحركهم البطيء، بينما كان المشاة منهم يحمسون أنفسهم بالصراخ وبالأهازيج.
إذاً كنا جالسين نتهوّى، حينما أصخنا السمع فجأة، ننظر في وجوه بعضنا بعضاً.
خلفنا، من الجهة المقابلة للهجوم، كانت فرقة ممتدة طويلاً تتسلق نحو إحدى القمم. ومن خلف هذه القمة، البعيدة، كان يصلنا صوت مخمّد، موسيقى خافتة، صوت معدني، ثمة نافخو أبواق هناك! إنهم يدقون نفير الهجوم، بنغمات متسارعة، رشيقة، أخاذة :«إلى الأمام ! » .
يرتفع الصوت ويصبح أكثر وضوحاً. كان يتدفق من فونوغراف ويصبح حقيقياً، يقترب، يتصاعد تدريجياً، ننتفض واقفين مطلقين صرخة قوية. خلف القمة، هناك، أبعد قليلاً، لكن أقرب فأقرب دائماً، كانت الأبواق تردد نشيدها: «إلى الأمام! إلى الأمام! إلى الأمام ! » .
ثم يبدأ إطلاق النار وطقطقة الرشاشات. يسّرع الخيالة الدروز من حركتهم نحو الأمام. فجأة، تسقط مع صفير طويل قذيفة مدفع من عيار 45 مم في قلب معسكرنا تماماً وتنفجر دون أن تجرح أحدا. أهلاً وسهلاً، استقبلت بداية بضحكات صاخبة» هل يحسبون الذين هناك أننا متنا؟ « ندمدم ساخطين. الآن سيل من القذائف كما لو أن بطارية مدفعية تحُكم رميها.
في هذه الأثناء، يضاعف نافخو الأبواق المتجمعون في مكان ما خلف القمة، من صخبهم: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام !» كان الصوت يتضح أكثر، ويزداد قوة، ويقترب أكثر: «إلى الأمام ! إلى الأمام ! إلى الأمام! إلى الأمام ! »
وفجأة، تحيط بالقمة، في تشكيل منتشر، كتيبة الرماة الجزائريين الثامنة عشرة التي جاءت من غزالة في سير حثيث لنجدتنا. هبطت التلة، وكنست الدروز. خلف الكتيبة لا تزال الأبواق تصدح، تصدح بجنون :» إلى الأمام! إلى الأمام !إلى الأمام! على الأمام ! «
كان الرماة بهيئاتهم الفخمة، واقفين حيناً، منبطحين حيناً آخر، يتقدمون بطريقة لا تقاوم. وكما الدروز، كانوا هم أيضاً يرفعون، وهم يتقدمون، صلاواتهم إلى الله. لكن هذا الإله الذي كانوا يضرعون إليه كان إلهاً فرنسياً، ذا فرق عسكرية منتظمة ومزودة بالرشاشات، في حين أن الدروز المساكين كانوا يتوجهون بنداء واهن إلى إله فارغ اليدين. اجتاح الرماة الآن السهل، وأولئك الذين واجهوا القرية دخلوها وبدأت المجزرة، منزلاً منزلاً، بينما انتشر الآخرون يميناً ويساراً وتسلقوا الهضبة التي شنّ الدروز عبرها هجومهم ولاذوا بالفرار.
بعد أن أطلقنا على الهاربين، في تبادل مسعور لإطلاق النار، رصاصاتنا الأخيرة والثمينة، فتحنا أبواب معسكرنا وتجولنا متسكعين، وأيدينا في جيوبنا.

ما بعد المعركة
ترك الدروز عند انسحابهم قوة لحماية مؤخرتهم ظلت تقاتل بعنف. وقد خاض دروز القرية الذين انقطعوا عن جماعتهم، ساعات طويلة من القتال الدامي : وكان على الرماة، وقد حلّ الليل، متابعة تقدمهم البطيء من بيت الى بيت. كنا نسمع صوت إطلاق النار، والصرخات ونتخيل بسهولة كيف يدور هذا القتال بالسلاح الأبيض حيث لن يرحم فيه أحد أحداً.
أثناء الليل، تمّ تزويدنا بالأقوات والمياه والذخائر واستعاد المعسكر حياته المألوفة. في تلك الليلة، اتخذت الحراسة طابعاً مأساوياً. ففي كل لحظة كانت بضع طلقات نارية، وصرخة، قادمة من جهة القرية، تخبرنا أن الإبادة المرعبة، لكنها الضرورية، ما تزال مستمرة في العتمة. وفي كل لحظة، يبرز شبح : إنه أحد الدروز الناجين من المجزرة ويسعى للحاق بأخوته. لكن عبثاً، لأن طلقات من جميع الجهات سرعان ما تمزق الظل، ويتلاشى الشبح في العدم.
خارج ساعات الحراسة، نغرق منهكين في سبات عميق. ولم تحمل الشمس الطالعة الراحة لنا. فهناك الكثير مما يجب القيام به بعد كل معركة. وقد لاحظت، مع ذلك، أن الجنود المسنين يستيقظون متوقعين حصول أمر ممتع جعل فتحات خياشيمهم تتراقص. وعرفت في ما بعد أنه الأمل بالنهب. من المؤكد، أن العمل لا يعدم بعد المعركة، لكن ليس لجمع الغنائم في ما لو كانت تُراعى أصول القتال.
كنا نبدو كالفزاعات وكانت عيوننا المحتقنة بالدم تغمض من التعب وكان يغطينا مزيج من الغبار والدم وكانت ثيابنا ممزقة، ولم يكن لدينا لا الوقت ولا الوسائل للحصول على شيء من النظافة لأن الحصة الفردية من الماء قد جرى تقليصها أكثر من أي وقت مضى بسبب وصول التعزيزات. عند توزيع مهمات السخرة، كُلفتُ بالموتى، موتانا نحن، داخل المعسكر.
تفقدت إذاً ثياب الموتى من جنودنا الذين سقطوا وهم يقاتلون. أخرجنا من جيوبهم وجمعنا كل تذكاراتهم الفقيرة: مطاو، غلايين، أوراق، وفتشنا أيضاً أمتعتهم. ووضعنا الكل في علب صغيرة سوف يجري إرسالها إلى أسرهم مع قصة موتهم -قصة الهجوم المرعب تحت الشمس الحارقة- أخيراً تمّ نقل الجثث في سيارات شاحنة إلى مقبرة غزالة.
كُلفتُ بعد ذلك بسخرة التموين، فعملت حمالاً، أنقل اللحوم والبطاطا والبصل والفاصولياء ! وبما أنني كنت أطول وأقوى من بقية الجنود فكان يُحكم عليّ غالباً بهذه السخرة الكريهة، السخرة التي يحمل المرء فيها حقاً أثقل الأحمال. وفي الوضع الراهن، كان لهذه السخرة جانبها الحسن وهو إتاحة الفرجة، لذلك جعلتها تطول إلى أقصى وقت ممكن.
ما ظهر لعينيَّ جلياً، بداية، هو العدد الكبير لجثث القتلى الدروز. فقد كانت معزولة في أرض مكشوفة، وكانت مكومة خلف الحيطان والمخابئ مثل ثلج دفعته الريح. وكان يجب أن تروا بأعينكم لتصدقوا. ففي كل لحظة، كان أحدنا يصرخ: هذه كومة جديدة من الأموات خلف هذا الحائط.
في القرية، كان ثمة استعداد قوي بناء على أمر العقيد قائد فوج الرماة الثامن عشر – منقذنا. فقد أمر العقيد أندريا بأن تُصَّفَ كل جثث الأعداء خارج القرية وحولها كلها لتكون درساً قاسياً، وعقاباً لهذه القرية الخائنة التي كانت ادعت الخضوع فتظاهرت بقبول السلطة الفرنسية ودفعت الضريبة، استعان الرماة بأسرى الدروز وتركوا لهم المهمات الأصعب. فالجثث التي أنزلت من فوق السطوح أو رفعت من الخانات( أو الأقبية ) سُحبت عبر أزقة القرية حتى مكان العرض المشؤوم. وفي الوقت ذاته، حُمّلت بقايا التسعة والعشرين جندياً قوزاقياً الذين فاجأهم الدروز وذبحوهم، في شاحنات وأُرسلت إلى غزالة. كذلك سُحبت جيف الأحصنة التي ذبحت في الإسطبلات إلى خارج القرية لتضاف إلى الصفِّ المرعب.
كان اسرى الدروز يعرفون المصير المرسوم لهم وقد ماتوا برباطة جأش، دون أن يرتجفوا أو أن يطلبوا الرحمــة.
هذا العمل أُوكل كما أسلفت إلى الأسرى الدروز، وتحت رقابة الرماة. سمعنا في ما بعد أصوات رشقات داخل القرية. وقد عرفت آنذاك أنه بعد أن أنهى الأسرى عملهم جرى رميهم بالرصاص عن آخرهم بناء على أمر قائد فوج الرماة.
ولا يسعني إلا تقديم تفسير لهذا التصرف. كانت القرية قد خضعت، وأكدت صداقتها، لذا فلا بدّ من النظر إلى هجومها على أنه خيانة. ومن جهة أخرى، فإن الدروز لا يرحمون أحداً وبالتالي لا ينتظرون الرحمة من أحد. فهم يتابعون القتال، حتى وهم جرحى، إلى آخر طلقة لديهم، ليقاتلوا بعدها بالسلاح الأبيض حتى النهاية. كنت الشاهد كذلك على مأساة رهيبة أخرى ارتكبها نصف – مجنون. جندي ألماني، رامي رشاش في السرية الخامسة عشرة، كان «زميله» قد قُتل أثناء المعركة الليلية. ظل طيلة الصباح يقّلب وجوه ثأره. عند الظهر، ملأ مطرته ماء، وحشا مسدسه وقام بجولة في ميدان المعركة، كان يعثر أحياناً بين جثث القتلى على درزي جريح. كان هذا المعتوه يقترب مظهراً كل علامات التعاطف، يُجلس المسكين، يسنده ويقدم له مطرته. وفي اللحظة ذاتها التي يمسك فيها الجريح، الهاذي عطشاً، الوعاء بلهفة، يقوم الآخر بتفجير دماغه بطلقة من مسدسه.
وقد مرَّ وقت طويل قبل أن ينتبه أحدهم للأمر، وأن يلحق أحد الرقباء بالجندي ويعيده. ولن يتمَّ له ذلك بسهولة: فقد لزم زمرة كاملة للسيطرة على المجنون الهائج الذي كان يزبد مسعوراً لأنه لم يستطع أن يثأر لزميله كما يشتهي.
لم يظل زملائي عاطلين عن العمل خلال هذا الوقت. فقد عرفوا، وهم المجربون، كيف يبذلون نشاطاً زاخراً بالوعود – وبالنتائج. فمن المتبع أن يتمَّ بعد كل معركة جمع أسلحة الأعداء المقتولين، لكي لا يستفيد منها الأحياء من رفاقهم.
لم يكن يكفي جمع البنادق، بل يجب عدم ترك أي سلاح مثل المسدسات والخناجر، وحتى المطاوي الصغيرة، الأمر الذي يقتضي زيارة جيوب الأموات. فإذا ما ساعد الحظ يمكن للمرء أن يجد شيئاً آخر، ومن هنا نجاح هذه السخرة لدى ملعوني سريتي العجائز، لذا كنت تراهم يعودون إلى المعسكر محملين بالغنيمة: خناجر دمشقية، سيوف، تحف مختلفة، ساعات وقطع نقدية – كانوا يعرضونها بالدور، بفرح الأطفال!. وكان ديلابورت، صديقي «أبو» المطرتين الذي أنقذني بمهارة كبيرة من تلك الورطة في غزالة، أكثرهم سعادة، على الرغم من أن هيرشكورن وبولز قد حققا نجاحاً كبيراً من جهتهما، وأن سيلفيستر بودنيي، المجند الجديد، لم يكن أداؤه ضعيفاً بالنسبة الى مبتدئ. فقد عثر ديلابورت على مال مدفون في إحدى زوايا الخان: قطع نقدية وجواهر تبلغ قيمتها أكثر من خمسة آلاف فرنك. ولأشهر عديدة، وحيثما أُتيحت له الفرصة، فإنه سيثمل ببذخ ملوكي إلى أن بدد تماماً كل ما كان ربحه على الريق، ذات صباح.
لكن البطل الحقيقي كان صديقي فلوري، الباريسي الصغير الذي قاتل طوال الليل إلى جانبي، فقد كان أنموذجياً تماماً، إذ انطلق في حملته مدفوعاً بالرغبة في تحقيق مجده الشخصي أكثر مما كان مدفوعاً بالطمع بالربح. عاد في المساء محملاً مثل جمل، يجر بجهد بالغ غنيمته : ست بنادق خلفه، وترسانة من السيوف والخناجر وعلى وجه الخصوص البيارق السوداء العتيدة التي قاتل الأمير تحتها حتى الموت.
وقد أثار فعله هذا إعجاب الملازم فيرنو أيما إعجاب، فقدم للفرنسي الصغير نصف مطرة من النبيذ. وسرعان ما أجهز فلوري على جائزته تماماً، وكان محمر الوجه، مترنحاً، عندما دخل إلى المعسكر الكولونيل اندريا، قائد فوج الرماة الثامن عشر الذي كان قد جاء لنجدتنا، ليقوم بزيارة قصيرة لنا. وفي الحال، جمع فلوري، مملوءاً بالحماسة الساذجة التي يبثها النبيذ في طبع خشن، راياته وتوجه نحو الكولونيل مباشرة، قائلاً: « صباح الخير، مون كولونيل» وأضاف قائلاً بصيغة المخاطب المفرد وبلا تكلف: «شفْ لي هذه، مون كولونيل، أليست ظريفة راياتي هذه ؟» فردّ العقيد ضاحكاً: «آه بلى! إنها فعلاً ظريفة وأنت جندي شجاع» وتوجه إلينا: «صباح الخير أيها الجنود، هل كل شيء على ما يرام؟ فيجيب الباريسي الصغير نيابة عنا جميعاً -نحن على أحسن حال، وأنت تعلم، إذا كنت تريد المزيد منها، فما عليك إلا أن تخبرنا». ابتسم العقيد، ثم وقف باستعداد، وقدم لنا التحية الرسمية وتابع جولته ضاحكاً في سره.
في ذلك المساء نعمنا فعلاً بقسط وافر من الراحة. فقد كانت الليلة السابقة مضطربة، مليئة بالصراخ والتحذيرات، وبطلقات نارية يطلقها الرماة على ظلال هاربة. لقد نمنا هذه المرة بفضل الهدوء النسبي نوماً عميقاً.
عندما استيقظنا وجدنا أننا أصبحنا أبطال المعسكر. كانت التعزيزات تتدفق دون انقطاع، وتقوم بحفر الخنادق، كان ثمة تحرك كبير يجري التحضير له. بطاريات مدفعية، قوافل من الشاحنات أو من الجمال تجوب السهل، وكذلك فرق من مختلف صنوف الأسلحة : صباحيون، رماة، قناصة، سنغاليون، فوج سورية والأنصار – فرسان سوريون وحتى فرسان روس من مسلمين شراكسة بقبعات من الفرو. وكانت هناك أيضاً بطاريتا مدفعية من عيار 75 مم مع جنود مدفعية فرنسيين، وبطارية مدفعية جبلية وسدنتها من الملاغاش.
وكنا، وسط كل هذه الفرق، نتفاخر، متسخين: ذقون طويلة، صدور عارية، مسربلين بمزيج من التراب والدم والعرق، وكيبية مائلة نحو الأذن. وقد جاء عقداء وجنرالات لمشاهدتنا : فقد أصبحنا أُلهية المعسكر. لقد حملت الجمال الماء من الآبار الواقعة على بعد عشرة كيلومترات وملأت الخزان الإسمنتي الكبير القريب من القرية، لكن بسبب كثرة القادمين الجدد، ظل الماء شديد الندرة وظل نصيب الفرد اليومي منه قليلاً جداً كما كان يوم المعركة. ولكي لا نبدده كنا لا نغتسل، مفاخرين – وبتُّ أدركُ الأمر اليوم – بسلوكنا الغريب. وقد جاء المجندون الجدد القادمون من فرنسا مع وحدات المدفعية، لمشاهدتنا وكانوا مشدوهين. كنا نروي لهم قصصاً مرعبة ونبيعهم بعض التذكارات. كان الجميع راغبين في ذلك لكن بعضهم فقط كانوا يمتلكون النقود. فقد بعنا سيفاً قديماً بسبعين فرنكاً، وخنجراً بعشرين، لقد اغتنى نهابو السرية.
كنا سعداء بالمغادرة. ففي كل مكان كانوا يكيلون لنا الكثير من الإطراء. وكانت صحف دمشق تروي عن معركتنا قصصاً غزيرة وحماسية ونوَّه الجنرال ساراي بكل الكتيبة على مستوى الجيش ونوّه تنويهاً خاصاً بالسرية التاسعة والعشرين القديمة والصلبة، بينما كنا نعيش نحن متسخين بثياب رثة وسط ركام من الجثث. فأكوام الدروز التي تغطي السهل، والصف المأساوي لإرعاب الخونة عند مدخل القرية، وجيف الأحصنة، كان كل ذلك يسهم في جعل الهواء غير صالح للتنفس.
ألا تقومون إذاً بدفن القتلى من الأعداء؟ سألني أحدهم. فأجبت: لا. وذلك لسبب وجيه هو أن القيام بذلك كان مستحيلاً. فالحملة – ومثل كل حملة استعمارية – كانت مزودة بقوات لا تتناسب مطلقاً مع الهدف الذي ينبغي تحقيقه لدرجة أننا لم نكن نستطيع دفن موتانا نحن إلا بجهد كبير، فما بالك بجثث الأعداء. كانت وحدات المؤخرة تقوم بحرقها حينما تمتلك الوسائل المناسبة.
وماذا عن الجرحى؟ يضيف أحدهم. لم نكن نهتم كذلك بجرحى الأعداء، بسبب استحالة القيام بذلك مطلقاً. فسيارات الإسعاف كانت لا تكاد تكفي لنقل رجالنا. كان الدروز يموتون في أماكنهم أو في الزوايا التي كانوا يزحفون نحوها، من دون أية مساعدة.
يضاف إلى ذلك، أنها كانت حرباً ضارية. فمن الذي اتخذ هذا الإجراء الرهيب؟ أنا لا أعرفه، لكنه كان إجراء ساري المفعول عند دخولنا في المعركة. لم يكن الدرزي ليرحم أحداً وهو لا يطلب الرحمة من أحد. فعلى الرغم من جرحه العميق يستمر في إطلاق النار حتى الخرطوشة الأخيرة، ثم يطعنك بعد ذلك بخنجره، وعندما لا تعود لديه القوة لفعل أي شيء، يموت – ونحن كنا نتركه يموت. تلك كانت طريقتنا في القتال، وحينما أنظر إلى الخلف، أقدر، وحتى الآن أيضاً، أنها كانت الطريقة الوحيدة الممكنة.
كنا إذاً سعداء للخلاص من ركام الجثث، وقد طُرد سكان القرية منها نهائياً، لأنهم شاركوا العدو وناصروه. نحن إذاً، كنا ندير ظهرنا لمكان خال من السكان ومشؤوم، عند انطلاقنا لنجدة حامية السويداء.
ترجمته حالياً.

المسيفرة اليوم
المسيفرة اليوم

” كان قائدهم فوق التلة، محاطاً بحرسه، تخفق الرايات السوداء الكبيرة فوق رأسه. لا أحد غير الله وحده يعرف مدى الاحتقار الغريب لنا وللموت، والإيمان الأعمى الذي كان يبقيهم هناك  “

ام الرمان

أم الرمان ملجأ الأحرار

تناوب عليها الهجر والخراب عبر العصور
وأعمرها الموحدون الدروز وحموا حياضها

60 من فرسان القرية الأشداء كانوا يرابطون دوماً تحسّباً لرد أي غزو مفاجئ من أطراف البـــــــاديـة

أولم فارس بن جبر لزعيم غزاة وِلد علي وذبح له النعاج
فأغمدت السيوف وفرشت الموائد وحقنت الدماء

تقع قرية أم الرمان في القسم الجنوب الغربي من محافظة السويداء، وتبعد جنوباً عن مدينة السويداء مركز المحافظة نحو 37 كيلومتراً، على ارتفاع 1160م فوق سطح البحر عند وسط القرية تقريباً، على سفح هضبة ذات تربة زراعية خصبة متحلّلة من البازلت تغلب عليها الوعورة، وتنحدر أراضيها انحداراً تدرّجياً لطيفاً باتجاه الغرب نحو أراضي بلدة ذيبين التي تعتبر أراضيها السهلية امتداداً لسهل حوران ضمن محافظة السويداء. أما باتجاه الجنوب، فيكون الإنحدار أشدّ ميلاً باتجاه الحدود الأردنية التي تبعد عنها نحو عشرة كيلو مترات، تلك الحدود التي أقرّتها معاهدة «سايكس بيكو» عام 1916 وقد اقتطع بموجب تلك المعاهدة من أراضي أم الرمان الزراعية نحو 5500 دونم ضُمّت إلى أراضي شرق الأردن.
تتبع أم الرمان إدارياً لناحية ذيبين التي تقع إلى الغرب منها على مسافة نحو سبعة كيلو مترات أما مساحة القرية العامة فتبلغ نحو 63000 دونم،(أي نحو63 كلم مربع).
أم الرمان في التاريخ
لم تحظَ قرية أم الرمان بدراسة آثارية من قبل دائرة الآثار في محافظة السويداء، إذ لم يُشر إليها صاحب كتاب الآثار في محافظة السويداء ومدير آثارها في حينه عام 1997 الدكتور علي أبو عساف، على الرغم من وجود عدة معالم ظاهرة للعيان فيها، وكان قد أشار إلى تلك المعالم رحالة عابرون سبق لهم أن زاروا القرية بعشرات السنين، واكتفى المؤلف يومها بذكر مغارة بركانية ( مغارة الهوّة) تقع في مجالها الزراعي إلى الشمال من القرية بنحو كيلومترين، كما تحدث عن آثار القرى الخربة التي تقع في خراجها.

مضافة آل الهادي قديمة أعيد عمرانها
مضافة آل الهادي قديمة أعيد عمرانها

وفي تقرير مترجم عن الإنكليزية نحو عام 1900 ورد ما يفيد بأن أم الرمان قرية كبيرة يسكنها الدروز، وأنه فيها منزلان أو ثلاثة مغرقة في القدم، ثم جرى عليها تعديلات، وذكر التقرير أنه ينتصب أمام مضافة الشيخ عامودان يعودان إلى العصر المسيحي( أي البيزنطي ــ الغساني)، وإلى جانبهما ركيزة حجرية ملقاة على الأرض تشبه النمط السائد في بصرى، وهذا يدلّ أن القرية كانت عامرة آنذاك، أي قبل نحو ألف وسبعمائة عام، وفي حقيقة الأمر، فإن التحضّر الجدّي في جبل حوران، كان قد سبق الحكم الروماني لسوريا عام 63 ق.م، والعصر المسيحي والغساني في زمن البيزنطيين، إذ يعود إلى عصور الأنباط، وهم قوم من قدامى العرب كانوا قد اتخذوا من صلخد وبصرى قاعدتين حضريتين لهم قبل ميلاد المسيح.
وفي الوسط القديم للقرية لا تزال الآثار التي تعود إلى العهد البيزنطي ماثلة من خلال بقايا كنيسة يدعونها بـ « القيسارية»، ومن المؤكد أن العديد من الآثار في القرية تعرضت للسطو من قبل لصوص الآثار، ويذكر المعمرون أنه توجد لوحة فسيفساء مطمورة في قيسارية قديمة هي اليوم ملك للشيخ نصر معروف.
وفي المساحة العقارية من الأراضي الزراعية التابعة للقرية، تتواجد آثار لخمس قرى خربة، أهمّها: الخرائب، ( الخريّب)، وهي آثار لبلدة كانت عامرة منذ عصر الأنباط وما تلاهم حتى ظهور الإسلام، وقد تعرّضت آثارها للتخريب والنهب ولم تزل!!
لكن الخراب طاول أم الرمان في ما بعد، ويبدو أن انشغال العرب المسلمين في الفتوحات التي امتدت من كاشغر على حدود الصين شرقاً، وإلى ما وراء جبال البيرينيه بين إسبانيا وفرنسا غرباً في العهد الأموي ساهم في التخفيف من التوطن في سائر جبل حوران في ذلك العصر، على الرغم من اهتمام بعض أمراء بني أمية بـ« جبل الريان». فالسويداء مثلاً كانت إقطاعة لعبد العزيز بن مروان، وقد ورثها عنه ابنه الخليفة عمر بن عبد العزيز غير أن البلاد عادت لتشهد توسّعاً للتوطن من جديد برزت سماته أكثر وضوحاً في العهد الأيوبي والمملوكي… ولكنها رجعت إلى الخراب إبان العهد العثماني في بلاد الشام ومصر في القرن السابع عشر، واشتد هذا الخراب في ما بعد ليصل إلى حالة من الخراب الشامل عام 1810م، كما يذكر المستشرق بيركهاردت المكلّف باستطلاع المنطقة العربية من قبل بريطانيا.

“برك المياه التاريخية غُطيت جدرانها البازلتية بالإسمنت! وأكثر آثار العصــــور الغـــابرة جرى نهبها عبر السـنين”

أهمّ الزراعات في أمّ الرمّان

1. القمح: ويشغل ما مساحته 7,000 دونم، وتتراوح إنتاجية الدونم ما بين: 120 و30 كلغ بحسب تساقطات الأمطار.
2. الشعير: مساحته 5,000 دونم، وكما القمح تتذبذب إنتاجيته بحسب الأمطار.
3. الحمّص: مساحته نحو 6,000 دونم، وإنتاجيته ما بين 20 إلى 50 كلغ بالدونم سنويا .
4. الزيتون: مساحته نحو 1,000 دونم، بالإضافة لما يزرع في حدائق المنازل وعدد أشجاره نحو 11,000شجرة،
5. اللوز: مساحته نحو 800 دونم، وأشجاره نحو4,000 شجرة.

أم الرمّان أصلاً: ريمونا
يذكر المستشرق الأميركي بتلر الذي زار المنطقة في منتصف القرن التاسع عشر بأن إسم «ريمونا»، كان يطلق على أم الرمان في أيام الرومان، ولعلّ إسم «أم الرمان» جاء من كثرة أشجار الرمان في العصور الغابرة في القرية، لكننا لا نرى أثراً لثمرة رمان واحدة منحوتة في آثار القرية، بل هناك أثر لعنقود عنب منحوت بفنية متقنة من العصر البيزنطي ــ الغساني، لا يزال ماثلاً في سقف البناء الأثري المعروف بـ « قاعة الشيخ في أم الرمان»، في دار آل الأطرش، وهذا يرجّح أن إسم أم الرمان قد يكون محوّراً من الإسم القديم للقرية« ريمونا».
وفي العصر القديم كان في القرية ست برك لجمع مياه الشتاء لأيام الجفاف في الصيف والخريف، ولم تزل أربع من تلك البرك بحالة جيدة، لكن حصل تسرّع في عملية ترميمها، إذ تمّ استخدام الإسمنت لتغطية الجدران، الأمر الذي أخفى الحجر البازلتي الأثري المميز والمقصوب بعناية، وبالتالي جمالية الجدران وأضاع بالتالي الكثير من قيمتها الأثرية.
وفي القرية عدد من الآبار التي كانت مخصصة لجمع المياه التي كانت وإلى عهد قريب تُستجر من أعالي قمم جبل العرب على مسافة نحو خمسة وعشرين كيلو متراً لملء مناهل القرية، ومن الثابت أن ثلاثاً من تلك الآبار تعود لعصور الأنباط، أي لما قبل نحو ألفي عام، ذلك أن سقوفها سابقة للزمن الذي صار فيه الإنسان يستعمل الأقواس الحجرية في السقوف ، ولم تزل تلك الآبار بحالة جيدة.

إعمار أم الرمان
ظل الخراب يرين على أم الرمان قروناً، وذلك يعود لأسباب أبرزها إنعدام الأمن بسبب غياب سلطة الدولة العثمانية آنذاك على المناطق البعيدة عن دمشق عاصمة الولاية، وشيوع تقاليد الغزو البدوية التي كانت تهدّد الحواضر حتى القريبة منها من مركز الولاية، وسنوات الجفاف التي تتكرر عامين كل عشر سنوات استناداً إلى الدراسات المناخية، تضاف إلى ذلك موجات الجراد التي كانت تجتاح المنطقة بين فترة وأخرى.
آل النبواني
كان آل النبواني الذين يعودون بأصولهم إلى آل البتديني الذين نزحوا من موطنهم في بيت الدين وسكنوا في أواخر القرن الثامن عشر قرية كفرنبرخ القريبة منها، وفي ما بعد ارتحل بعضهم إلى قرية «نبيا» القريبة من قطنا، كما يشير يحيى عمار في كتابه «الأصول والأنساب» (ص 32 و 33)، ومنها لحقت بهم كنية «النبواني»، ومن ثمّ ارتحلت العائلة إلى جبل حوران، وهم أول عائلة معروفية حاولت التوطن في أم الرمان نحو عام 1845م، لكنهم لم يلبثوا أن تعرّضوا لمحاولة غزو من ابن سمير شيخ قبيلة ولد علي، وكانت قبيلته من القبائل الأقوى في البادية وسائر جنوب دمشق.

.

قاعة الشيخ الأثرية منذ نحو 1600 عام
قاعة الشيخ الأثرية منذ نحو 1600 عام
منظر عام للقرية من جهة الجنوب
منظر عام للقرية من جهة الجنوب

 

 

 

 

 

 

 

 

نذر مواجهة فمسالمة
سكن القاطنون الجدد في دار الشيخ الحالية، تلك الدار القديمة التي تعود بعض غرفها الأقدم والبئر القريبة منها لعصر الأنباط، أما القاعة البرجية المؤلّفة من طابقين فوق الأرض وآخر تحتهما فمن الأرجح أنها تعود إلى العصر الروماني البيزنطي ــ الغساني، ولم تزل معظم معالمها ماثلة إلى يومنا هذا.
كان عدد الغزاة أربعة عشر خيالاً بسلاحهم، أما آل النبواني فكانوا ثلاثة أخوة ومعهم خالهم سلمان الهادي. أصعدوا نساءهم وأطفالهم إلى سطح مبنى القاعة الذي يرتفع نحو عشرة أمتارعن سطح الأرض، وأوصوهم أن يرموا بأنفسهم إلى الأرض إن هم هزموا أمام الغزاة، وكلفوا أحد الفتية اليافعين أن يرمي الأنثى التي لا ترمي بنفسها إلى الأرض لكي لا تؤخذ سبية.
كانت المواجهة جنوب خرائب القرية، على بعد قليل من الدار التي احتمت بها النسوة والأطفال ومواشي العائلة من ماعز وأغنام ودواب نقل.
من جانب آخر، وضع كبيرهم، فارس بن جبر، خطة أولى بديلة للمواجهة القتالية مع المهاجمين، إذ تقدّم من عقيد الغزو، ابن سمير، وقال له:
ــ «أيش تبغى منّا؟، أنا عازمك ضيف أنت وربعك، واللي انت عليه انت عليه»، كان فارس يريد تجنّب مواجهة انتحارية.
قبل زعيم الغزو دعوة فارس على طعامه، وكان في ذلك بادرة طيّبة وحقن لدماء كانت ستهدر لو رُفضت دعوته.
نكس الرجال طبنجاتهم، وأغمدوا سيوفهم وتقدّموا إلى بيت مضيفهم الذي انعطف إلى زريبة مواشيه يذبح لهم المزيد من الذبائح لإطعامهم. قال ابن سمير مستغرباً ومُكْبِراً لما يفعله فارس:«الله، الدرزي عثا بحلاله».

كانت النسوة اللواتي احتمين بالسطح العالي قد نزلن بعد أن رأين أمناً، وأخذن يصنعن الطعام للذين كانوا قبل قليل غزاة وأصبحوا ضيوفاً لا بدّ من إطعامهم…
بعد أن أكل الضيوف طعام فارس الطيب، قال ابن سمير:«يا فارس من هذا فعله لن يؤخذ (أي لن يُعتدى عليه)، أنا أضع حدّاً بيني وبينك، مسيل الماء جنوب القرية وغربها، وكل ما يتعدّاه هافٍ(أي منهوب ولا يحق لك أن تسأل عنه).
لم يتردد فارس بقبول الحل الذي وضعه الرجل الأقوى، وتهادى الرجلان، وكانت هدية ابن سمير لفارس سيفاً، وخرزة حيّة (فقرة من عظم الأفعى يحكّونها مع الحليب في طاس ويقال إنّ الحليب عندها قد يشفي من عضة الأفعى).
رغم هذا السلم الهش فإن إقامة آل النبواني في أم الرمان بقيت محفوفة بالأخطار، لأن البادية إلى الجنوب من البلدة مرتع للقبائل، والسيطرة للأقوى، والغزو البدوي والنهب حالة تكاد تكون يومية في ذلك الزمن حيث لا دولة إلاّ في دمشق والحواضر الكبرى من الولاية، فاضطر النباونة للرحيل إلى قرية عنز شرق أم الرمان بنحو سبعة كيلو مترات، وعنز لها سور يحتمى به، وهناك تجمع من أبناء عمومتهم يقوون بهم، وعادت أم الرمان خربة لا يجرؤ الناس على سكانها.

العودة للعمران
بعد فترة من ارتحال النباونة من أم الرمان، نحو عام 1849 عند منتصف القرن التاسع عشر، جرت المصالحة المعروفة في القريا بين اسماعيل الأطرش ومن معه من بني معروف من جهة، وابن سمير وقبيلته (وِلْدْ علي) من جهة أُخرى، وعلى أثرها توسع التوطن في المقرن القبلي من الجبل، بعد أن أصبح الموحّدون أكثر عدداً وأوفر قوة، وخفّ أثر الغزوات البدوية، وكُلّف الشيخ حمد (إبن شقيق اسماعيل الأطرش الشيخ الأقوى آنذاك في الجبل وصهره) ليكون شيخاً في أم الرمان، وهكذا عُمّرت أم الرمان بقدوم عدد من العائلات المعروفية، ومن ثمّ عاد بعض آل النبواني إلى البلدة.

جانب من دار الشيخ سلمان الأطرش. استقدم لبنائها بنائين شويريين من لبنان. وللأيام دولات.._
جانب من دار الشيخ سلمان الأطرش. استقدم لبنائها بنائين شويريين من لبنان. وللأيام دولات.._

أبرز عائلات أم الرمّان
من العائلات التي سكنت أم الرمان في ذلك الزمن إلى جانب آل الأطرش، والعنتير (أصلاً من آل شجاع)، وآل البربور والنبواني والهادي وآل ملاّك الذين كانوا حملة بيرق أم الرمان ( منهم أجود ملاّك)، قبل أن يعودوا إلى قريتهم الأولى(عين قني بين المختارة وعماطور) في لبنان، وأبو فخر، والمِنْوِر(أصلاً عزام)، وفليحان وأبوطافش وجابر وأبو خير( وهؤلاء ينتمون لآل أبوشقرا) ومعروف (أصلاً آل سيف وأبوعلوان) وجريرة والعقباني والعاقل وآل أبوعاصي (حملوا بيرق أم الرمان بعد آل ملاّك)، ويقظان والحرفوش ( أصلاً من بعقلين) وعزّام وطربيه والشاهين والمغربي (من كفرسلوان في جبل لبنان) والحسنية ( من عين وزين في جبل لبنان) وأبوشقرا، وكحل
( أصلاً : حاطوم) وآل شنيف وقد رجعوا إلى لبنان، وآل أبو طريّة وقد نزحوا إلى الأردن، وآل سيف وقد نزحوا إلى المجيمر ومصاد.
وإلى جانب العائلات المعروفية، وبعد أن أصبحت المنطقة أكثر أمناً، قدمت إلى أم الرمان عائلات مسيحية غسانية الأصل منها آل العودي، والندفة وعصفور والياس واللابد والجابر، بالإضافة إلى آل الحْمود السنّة.( والمسيحيون والسنة هم أصلاً من أهل سهل حوران القدامى) ومن العائلات السنية التي سكنت أم الرمان بعد توطن الموحّدين بها آل الصبيحي وصنيج وقد ارتحلوا منها إلى جهات حوران ودمشق منذ نحو مائة عام.

دور كبير في الثورات الوطنية
منذ أعيد إعمارها على يد بني معروف الموحّدين، كان لأهل أم الرمّان دور فاعل في تثبيت التوطن الحضري في القسم الجنوب الغربي من الجبل الذي طاله الخراب قروناً، وقد أقام أهل أم الرمّان علاقات تحالف مع بدو الجبل والبادية القريبة كقبائل الشنابلة والمساعيد والعظامات والسردية والعيسى وبني صخر ضد الغزوات التي كانت تمارسها قبائل الصحراء أو بعض النهابين منها، وكانت هذه الخطة الجادة قد تم إرساؤها في الجبل منذ توطن بني معروف في ربوعه على يد الشيوخ الحمدانيين، والشيخ اسماعيل الأطرش وذويه من بعده. وعلى قمة تل الشيح جنوب أم الرمّان بنحو 7 كلم، والمشرف على البادية الأردنية كانت ترابط مجموعة من فرسان القرية يصل عددهم إلى الستين فارساً أحياناً تحسّباً لرد أي غزو مفاجئ قد تسوقه إليهم البوادي المحيطة.
وفي الثورات المتعاقبة على الاستبداد العثماني، حيث يشير الدكتور حسن أمين البعيني في ص220 من كتابه «جبل العرب، صفحات من تاريخ الموحّدين الدروز» إلى تجلّي ذلك الاستبداد في» تصرفات القادة العثمانيين وفسق بعضهم وتكاثر طلباتهم غير المعقولة». لهذه الأسباب وما شابهها حدثت مواجهات في المقرن القبلي من الجبل بين بني معروف والعثمانيين عشية القرن التاسع عشر، وفيها تمكّن مجاهدو أم الرمّان من أسر 31 جندياً عثمانياً في معركة خراب عرمان عام 1896م، وقد جيء بهم إلى مضافة شيخ القرية أبو قاسم حمد الأطرش، وأطلق سراحهم في ما بعد.

” رغم مصادقة ابن سمير بقيت إقامة آل النبواني في أم الرمان محفوفة بالأخطار، لأن البادية إلى الجنوب من البلدة بقيت مرتعاً للقبـــائل والســــيطرة للأقوى  “

ملجأ الثوار
إلى أم الرمان في مطلع القرن العشرين، كان يلجأ رجال الجمعيات العربية الذين يئسوا من إمكانية إصلاح الدولة العثمانية المتهاوية مثل أعضاء الجمعيات العربية والثوار الهاربين من ملاحقات السلطات، ومن أحكام جمال باشا السفاح التي استندت إلى سياسة التتريك واضطهاد العرب وغيرهم من شعوب الامبراطورية العثمانية. ومن أبرز هؤلاء طلال حريذين ومطلق المذيب من زعماء سهل حوران، ونسيب البكري وعبد الرحمن الشهبندر من زعماء دمشق.
وفي مضافة حمد البربور ومضافة قاسم النبواني وجد هؤلاء الأحرار حمى لهم بعيداً عن يد الظلم العثماني، كما وصل متخفياً ضمن قافلة من الجمال ومعه زوجته وابنته؛ برفقة ابراهيم علي العاقل قادماً من دمشق الصحافي الغزاوي حمدي الحسيني؛الذي أصبح بعدها صديقاً حميماً لبني معروف، وقد ارتبط بعلاقة مودة بالصحافي والمجاهد المعروفي اللبناني عجاج نويهض الذي يصفه في ص 95 من مذكّراته «ستون عاماً مع القافلة العربية» بأنه «قلعة وطنية» وكان له في ما بعد دور بارز في فلسطين في مناهضة الإنكليز واليهود. كان الحسيني هارباً من سيف جمال باشا، وقد شُنق من أقربائه الشيخ أحمد عارف الحسيني مفتي غزة، وذلك على مرأى من ولده الضابط مصطفى الحسيني، ثم أعدموا الابن بعده رمياً بالرصاص.(ص 176 من المذكرات)، وقد نزل الحسيني في مضافة آل العاقل في أم الرمان، وأفرد له بيت (لم يزل قائماً إلى يومنا هذا)، أقام فيه مع أسرته إلى أن خرج الحكم العثماني من بلاد الشام ودخلت جحافل الاستعمار الفرنسي والبريطاني.
تمت عمليات لجوء أولئك النخبة من الثوار إلى أم الرمّان وحيث لكل عائلة مضافة أو أكثر كانت بمثابة فنادق مجانية للقادمين إليها، وكان استقبال المعارضين والأحرار يتم بالتنسيق مع سلطان باشا الذي كان يدرك أن الأتراك الطورانيين الذين قضوا على السلطنة العثمانية وتخلوا عن رابطة الإسلام كانوا يؤججون مشاعر التعصب التركي الطوراني ولم يكونوا يكنون للعرب إلا مشاعر الغطرسة والإستعلاء القومي.
شهداء الثورة
يذكر الشاعر صالح عمار أبو الحسن، وهو المعروف بالشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى أسماء شهداء قرية أم الرمّان، وكذلك أشار إليهم سعيد الصغير في ص 536 من كتابه «بنو معروف في التاريخ»، وهم حمد وأجود ونصار وأحمد ومحمود ونهاد البربور، وهاني وابراهيم وسليم وسلمان أبوخير، وسليمان وسعيد وداود وفارس أبوطافش وحسن جابر وحمد النبواني، وهلال وهاني الهادي وفارس ونسيب وأسعد معروف، وحسين ونواف ويوسف ومحمد العقباني، وسليمان جريرة، وعلي الحمّود، وسليمان أبو شهدة، ووحيد ونسيب المغربي وابراهيم العاقل وعلي الشعراني، وسليمان أبوعاصي، ومحمد النجم عمّار، وحسن وحمود الشاهين، وعقيل الجودي وعطالله العودي وحنّا الرحال (وهؤلاء الثلاثة شهداء مسيحيون)، ويوسف عامر ومحمد منذر وسليمان مزهر وعوض الحْمود (من آل الحمود السنّة)، ذكره توفيق الصفدي ص 342 من كتابه «جنوب الشام، صدى الإنسان والسنديان».
وفي معركة أم الرمّان عام 1926 استشهد بنتيجة القصف المدفعي، وانهيار المنزل على الأسرة زوجة سليم جودية وأولاده الأربعة، ولا تزال آثار الدمار ماثلة في بعض الدور القديمة من القرية إلى يومنا هذا… وفي ما بعد وعلى أثر عدوان الشيشكلي على الجبل عام 1954 استشهد أحد أبرز أبطال الثورة السورية الكبرى الملقّب بدبابة الدروز، وهو أبو حمد سلمان الأطرش شيخ قرية أم الرمّان المشهور بكرمه وجوده إلى جانب شجاعته الفائقة في معارك بني معروف.
ويشيد الشاعر صالح عمار بجهاد أهالي قرية أم الرمّان في تلك الثورة وتسابقهم إلى ساحة الحرب (الكون)، فيقول:
بأم الرمّان سباع رابي بوسط غاب شجعان من حرب الأعادي ما تهاب
ان ثارت الهـــــيجا وعلاّ غْبـــــــــــــارها يتســـابقوا عَ الكــون شبّــان وشباب

الوضع البلدي
يبلغ عدد سكان أمّ الرمّان نحو 3780 نسمة، ثلاثة أرباعهم من الموحّدين ونحو ثلثهم من المسيحيين الأورثوذكس. ويبلغ عدد المساكن في القرية نحو500 مسكن، وتبلغ مساحة المخطط التنظيمي 280 هكتاراً، من أصل 6300 هكتار هي المساحة الإجمالية للقرية، وأطوال شوارعها على المخطط نحو 50 كلم، المنفذ منها نحو 25 كلم، وتقوم البلدية بإدارة أعمال النظافة في القرية ونقل النفايات على مدار أربعة أيام أسبوعياً بواسطة جرار خاص بالبلدية إلى مكبّ يبعد جنوباً عن القرية نحو 6 كلم باتجاه الحدود الأردنية، وذلك بهدف الحفاظ على النظافة العامة وسلامة البيئة في أم الرمان، إلى جانب الخدمات البيئية والعمرانية الأُخرى، ويرأس بلدية القرية حالياً الأستاذ مروان أبو طافش، وهو يقول إن النظافة من معايير حضارة الشعوب ونحن نرتقي بالخدمة الممتازة التي يقوم بها عمال النظافة في قريتنا».

الوضع التربوي
في القرية مدرسة ابتدائية واحدة، وتحمل إسم الشهيد يوسف العودي، من مسيحيي أم الرمان، وقد استشهد في حرب حزيران عام 1967، ويبلغ عدد تلاميذها 168 تلميذاً وتلميذة، وعدد العاملين التربويين فيها 21 منهم 6 في الإدارة والباقون معلمات، أما المدرسة الإعدادية فتحمل إسم الشهيد نسيم الهادي، ويبلغ عدد تلاميذها 186 تلميذاً وتلميذة، والموظفون التربويون فيها 26 موظفاً وموظفة، منهم 10 إداريون، و16 مدرّساً ومدرّسة، كما توجد في القرية روضة للأطفال من سن الثالثة حتى الخامسة.
وفي القرية متخرّجون من تخصصات متنوعة علمية وأدبية 100 مجاز جامعي، و200 خرّيج معهد فوق ثانوي (ذكور وإناث)، و500 موظف وموظفة يعملون في وظائف في الدولة، و1000 شخص يعملون في الزراعة والأعمال الحرة.

المركز الصحي
أُنشئ في القرية مركز صحي حكومي، يقدّم الخدمات الصحية المجانية لروّاده، ويعمل فيه نحو 20 موظفاً وموظفة من أبناء القرية، منهم 16 من الإناث يعملن في اختصاصات مختلفة، كالصيدلة والتمريض لتقديم الخدمات الطبية والإسعافات الأولية وتضميد الجروح وتقديم أدوية السكري والأمراض الالتهابية والمسكنات وقياس الضغط، والقبالة حيث تتم زيارات دورية للإشراف على صحة الحوامل، كما يعمل في المركز ثلاثة أطباء أسنان.

الوضع الزراعي
تبلغ المساحة العامة لعقار القرية نحو 63500 دونم، منها 600 غابة محمية مزروعة بالصنوبر المثمر والكينا واللوز والسرو، على ارتفاع نحو1250م فوق سطح البحر على الطريق باتجاه الرافقة ــ صلخد، وتشرف مديرية الزراعة على حمايتها من التعدي بواسطة 8 حرّاس يتناوبون على حمايتها وسقيها.
وتبلغ مساحة المستثمر من عقار القرية في الزراعات البعلية المختلفة 34000 دونم، مساحة المشجّر منها نحو 2000 دونم، وقد تراجعت زراعة العنب في العقود الأخيرة بسبب تعاقب سنوات الجفاف، أما ما تبقّى فيتم استزراعه حسب الدورة الثلاثية: ثلث للقمح والشعير، ومثله للحمص والبقوليات، وآخر سبات للراحة.

الوضع المائي
تتذبذب كميات الأمطار بشكل ملحوظ من عام إلى آخر على أطراف جبل العرب حيث تقع قرية أم الرمّان على الهامش الجنوب الغربي منه، واستناداً إلى مقياس التهطال السنوي على مدى 16 عاماً فإن المتوسط السنوي بلغ 219.3 ملم ولكن التفاوت الكبير بين المتساقطات المطرية بين عام وآخر يؤثر سلباً على انتظام ونوعية المحاصيل الزراعية في البلدة. ففي عام 1999 كانت كمية الأمطار السنوية الهاطلة 70 ملم فقط وهذه كمية لا تفي بالحاجة، فالشعير يلزمه كحد أدنى مثلاً 125 ملم من المطر، يضاف إلى ذلك عدم توزّع المتساقط المطري على أشهر الشتاء والربيع، الأمر الذي يضرّ بالمحصول السنوي. وبهذا فإن الزراعة في أم الرمّان وسائر القرى الواقعة على محيط جبل العرب تعاني من عدم ثبات كميات الأمطار السنوية وتفاوت الكميات في الشهور الماطرة. هذا بالإضافة إلى قلّتها في سنين عديدة عن المعدل العام المناسب لزراعة القمح وهو 250 ملم بالسنة. يضاف إلى كل ذلك عدم وجود زراعة تعتمد على الري لعدم وجود مياه جارية أو آبار أرتوازية ذات غزارة تفي بحاجات زراعة مروية وقد عمدت الدولة في العقد المنصرم إلى حفر آبار إرتوازية على أعماق تتجاوز 600 م وتأمين مياه الري لأعداد من المزارعين بحيث تكون حصة كل مزارع ما يكفي لري ثلاثة دونمات.
هذا، ونجد في الحدائق المنزلية والكروم نحو1,000 شجرة تين، 400 شجرة فستق حلبي، و300 شجرة تفاح، 50 شجرة توت شامي.

عمود أثري منقول من مكانه القديم أمام القاعة الأثرية.._
عمود أثري منقول من مكانه القديم أمام القاعة الأثرية.._

لثروة الحيوانية
إن موقع أم الرمّان المتصل بالبادية الأردنية من جهة الجنوب، وبالمرتفعات الجبلية من الشمال والشمال الشرقي حتّم توجه مزارعيها إلى تربية الماعز والأغنام على هامش الزراعة، وذلك لتوفّر الأراضي الواسعة والمراعي، هذا، وتبلغ أعداد الأغنام المرباة في القرية نحو 3,000 رأس، والماعز نحو 1,200، والأبقار من الأنواع المحسّنة 60 بقرة حلوب متوسط إنتاج الواحدة منها سنوياً نحو 3,500 كلغ.
الدواجن: من دجاج وحبش عددها 2.000 طير.
ويتم العمل بالأرض اعتماداً على الآلات الزراعية الحديثة، إذ يبلغ عدد الجرارات في القرية 40 جراراً تتراوح قوة كل منها ما بين 28 و70 حصاناً، بالإضافة إلى 70 محراثاً آلياً يدوياً يدار باليد (فرّامة) و80 مرشّة يدوية ومرشة آلية، لرش أشجار الحدائق والكروم، وتقوم الدولة برش المحاصيل الحقلية عند اللزوم بالطائرات الزراعية.
وفي القرية درّاستان آليتان، وحصادة آلية واحدة.
الوحدة الإرشادية الزراعية: يعمل بها 19 موظفاً وموظفة، منهم مهندسون زراعيون: 3، ومراقبون زراعيون :2، كتبة:2، سائق جرار:3، مستخدمون: 3، حارس ليلي:1، طبيب بيطري: 1، مراقب بيطري: 3، وفيها دراجتان ناريتان لتنقل الموظفين المختصين في الحيز الزراعي للقرية.
الأماكن الدينية: في القرية مجلس للموحّدين الدروز، ومدرّج عام لإحياء المآتم مشترك لكل أهالي البلدة، وفيها كنيسة للمسيحيين من طائفة الروم الأورثوذكس.

الشيخ يوسف العيسمي

المجاهد يوسف العيسمي

رجل المهمات وسفير الثورة

أوفده القائد سلطان إلى مصر لاستنهاض التأييد للثورة
وفاوض السعوديين لتأمين إقامة الثوار في البر السعودي

سُرّ أمير الشعراء أحمد شوقي بزيارة المجاهد العيسمي
وقال له :«يستحق الدروز أن يُخَلّد التاريخ أعمالهم المجيدة»

إبراهيم العاقل

عرّف به المؤلّف والمؤرخ السوري أدهم آل جندي، صاحب كتاب «تاريخ الثورات السورية في عهد الانتداب الفرنسي» الصادر سنة1960 بما يلي:» هو المناضل المجاهد الوطني المعروف الشيخ يوسف حمد العيسمي، ولد في قرية امتان ورغم ما يملكه من أملاك واسعة يستثمرها بالأعمال الزراعية فإنها لم تشغله عن واجباته الوطنية، فقد اشتهر بالنضال والكفاح الوطني ضد الفرنسيين المستعمرين منذ وطأت أقدامهم البلاد.
ولما اندلعت نيران الثورة السورية كان من أركانها البارزين وخاض معاركها الوطنية ببطولة وإقدام. ومن السجايا التي امتاز بها هذا المجاهد الكبير أنه لم يستسلم بعد انتهاء الثورة بل آثر النزوح مع زعيمه سلطان باشا الأطرش حيث شاطره الحياة المرّة في وادي السرحان وكفاه شرفاً واعتزازاً أنه كان ولا يزال موضع ثقة القائد العام لما اتصف به من أمانة وإخلاص وتضحية، وقد كلّفه بمهام خاصة بالمجاهدين فسافر إلى مصر وفلسطين وقام بمهمته على أكمل وجه.
وفي عام 1937 عاد مع المجاهدين إلى وطنه وأسهم في الأعمال الشعبية وكان من المناوئين المعارضين لحكم الشيشكلي وتعرّض للملاحقة والتنكيل كغيره من المعارضين».
فمن هو المجاهد يوسف العيسمي؟ وما هي النضالات التي خاضها في معارك الثورة السورية الكبرى؟ وما هي طبيعة الدور الذي اضطلع به في تلك الأحداث التاريخية ثم في مرحلة الاستقلال؟

مهمة إلى مصر
بالنظر إلى تضييق الإنكليز والفرنسيين المتزايد على الثوار السوريين الذين اضطروا للجوء إلى الأردن في صيف1927 اتصل سلطان باشا الأطرش بالأمير علي بن محمد بطّاح معتمد الملك عبد العزيز آل سعود على «قريّات الملح» في وادي السرحان ( من أراضي المملكة العربية السعودية)، وكان سلطان في تلك الأيام الحرجة راغباً في أخذ موافقة الملك السعودي على لجوء الثوار إلى مملكته، لأنها بنظره دولة عربية لا يرتفع في سمائها علم دولة محتلة في ذلك الحين. يقول سلطان في ص 327 من كتاب «أحداث الثورة السورية الكبرى»، بأن الأمير السعودي ابن بطاح» وافانا برسالة جوابية، بعثها مع جراد بن ضبيعان الشراري، أبدى لنا رغبته في الاتصال بنا والتفاهم معنا، وكان طبيعياً أن نبحث عن مأمن لنا ولأفراد أسرنا في حمى الأسرة السعودية».
ولتجنّب المحذور، والإيغال بهم أكثر في الأراضي السعودية، يقول سلطان:«قررنا إيفاد يوسف العيسمي لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز، وإعطائه الأدلة الثابتة على حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وآدابه، فحاول الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر» .
في مصر رفضت السلطات السعودية السماح له بدخول المملكة بدعوى أنه شخص غير مرغوب فيه، لكن العيسمي تابع نشاطه واتصالاته لحشد الدعم المصري للثورة والتقى بالعديد من قادة البلاد، لكنه اصطدم في بداية جولته بموقف غير ودي من الثورة من قبل الأمير عمر طوسون أحد الأمراء النافذين وعضو الاسرة المالكة في مصر. وكان ابن طوسون مثقفاً درس التاريخ والجغرافيا والزراعة والتأليف وعلم الآثار، وكان قلقاً من الهجمة الأوروبية على الدولة العثمانية، ويعتبر السلطنة مقر الخلافة الإسلامية المهدّد وكان نشطاً بالتالي في تأييدها وتأييد الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار الأوروبي، لذلك فقد بذل جهوداً كبيرة في جمع التبرعات لثورة الأمير عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، ضد الفرنسيين، لكنه لسبب ما كان يحمله في صدره من ضغينة ضدّ دروز الجبل فإنه – في موقف نمّ عن تناقض كبير- رفض دعم الثورة السورية الكبرى ضد المستعمر نفسه ربما لكونها بقيادة سلطان باشا الأطرش والأسرة التي قاومت المصريين في السابق وقتلت الآلاف منهم أثناء الحملة المصرية على سوريا ولبنان، ولهذا السبب فقد وضع الأمير مؤلفاً بعنوان «محاربة الجنود المصرية للدروز في حوران» على سبيل التوثيق لتلك الفترة.
هنا تذكر الأحاديث المتداولة في الجبل أن مواجهة حصلت بين الأمير المصري والعيسمي بسبب كلام قاله عمر طوسون ضد الموحدين الدروز، وهو كلام استدعى رداً قاسياً من العيسمي مبعوث سلطان باشا إلى مصر. وتقول الروايات إن المواجهة حصلت أثناء مأدبة دعا إليها رئيس وزراء مصر مصطفى النحّاس باشا لتكريم العيسمي كممثل لسلطان باشا ولتكريم الثورة السورية، لكننا لم نجد مصادر تاريخية مستقلة توضح ملابسات حصول الحادثة، كما إن سلطان باشا الأطرش في مذكراته لم يشر إلى مواجهة بين الأمير والعيسمي وإن كان ذكر أن طوسون لم يتجاوب مع طلب العيسمي تقديم مصر مساعدات للثوار في نضالهم ضد المحتل الفرنسي. لكن مهما كانت حقيقة ما جرى فإن الرواية أريد بها إظهار قوة شخصية العيسمي وجرأته في الدفاع عن قضية الثورة السورية وكذلك حنكته الدبلوماسية والتي جعلت سلطان باشا يختاره للسفر إلى مصر وإلى المملكة السعودية.
يقول زيد سلمان النجم في ص 113 من كتابه» أحداث منسية وأبطال مجهولون»، إنّ العيسمي استغل وجوده آنذاك في مصر ليشرح للمسؤولين المصريين الظروف الصعبة التي يتعرّض لها الثوار في منفاهم الصحراوي في وادي السرحان، وكان يرافقه حينها الصحافيان اللبنانيان تيسير ذبيان، وعباس المصفي، ومن الزعماء المصريين الذين قابلهم في القاهرة مصطفى النحاس باشا، رئيس وزراء مصر آنذاك، وأحمد زكي باشا، وعلي الطاهر، كما زار أمير الشعراء أحمد شوقي، ونقل إليه شكر القائد العام والثوار على قصيدته العصماء» نكبة دمشق»، وعلى إشادته بثوار بني معروف حيث يقول:
ومــــــــــــــــــــــــا كــــــــــــــــــــــــــــان الـــــــــــــــــــدروز قبيـــــــــــــــــــلَ شـــــــــــــــــــــرٍّ وإن أُخِــــــــــــــــــــــذوا بـــــما لـــــــــــــــــــم يستحقّــــــــــــــــــــــوا
ولـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــن ذادةٌ وقُــــــــــــــــــــــــراةُ ضيــــــــــــــــــــفٍ كينبوع الصـــفـــــــــــــــا خشنـــــــــــــــــــوا ورقّـــــــــــــــــــوا
لهــــــــــــــــــــــــــم جبــــــــــــــــــــــــــــــلٌ أشـــــــــــــــمّ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه شــعـــــــــــــافٌ مواردُ في السحاب الجــــــــــــــون بُلـــــــــــــــــــقُ
لــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــلّ لـــبـــــــــــــــــــوءةٍ ولــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكـــــــــــــــــــــلّ شــبـــــــــــــــــــلٍ نـــــــــــــضـــــــــــــــــــــالٌ دون غـــــــــــــــــــابتــــــــــــــــــــــه ورشـــــــــــــــــــقُ
كـــــــــــــــــــأنّ مـــــــــــــــــــن السّـمـــــــــــــــــــَواَلِ فيـــــــــــــــــــه شيئــــــــــــــــــــــــــــاً فـــــكـــــــــــــــــــلُّ جهاتـــــــــــــــــــه شــــــــــــــــرفٌ وخُلـــــــــــــــــــقُ
وقد سُرّ شوقي بزيارة العيسمي، وقال له: «يستحق الدروز، المدافعون عن وطنهم وشرف أمتهم، أن يهتم بهم الأدباء والمؤرّخون، وأن يُخَلّد التاريخ أعمالهم المجيدة».
ساهمت زيارة العيسمي الى مصر في شرح الأحوال الصعبة والمريرة التي يواجهها الثوار وقادتهم في المنفى الصحراوي في وادي السرحان، وقد تجاوب أحرار مصر فتنادوا إلى دعم المجاهدين وأرسلوا بتبرّعاتهم للثوار السوريين واللبنانيين، الذين كانوا برفقة سلطان عن طريق فلسطين، بواسطة الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس.
ومع أن السلطات السعودية لم تسمح للعيسمي بدخول المملكة عبر مصر لإتمام مهمته، إلاّ أنه اجتمع مع المجاهد شكري القوتلي الذي كان في القاهرة آنذاك، وقد بادر القوتلي على أثر ذلك بالسفر إلى السعودية، وفي هذا الصّدد، يقول سلطان باشا بأن القوتلي اجتمع بالملك عبد العزيز، والتمس منه «وقف الإجراءات المتخذة ضدّنا وعدم التضييق علينا وإعطاءنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده».
وهكذا، نجحت وفادة العيسمي إلى مصر، وكان للمجاهد شكري القوتلي فضل في إيصالها إلى غايتها.
في تلك الآونة أخذت البرقيات تتوالى على الملك عبد العزيز بن سعود، من سوريا، وعدد من الأقطار العربية، تأييداً لوساطة القوّتلي، ومن أبرز تلك البرقيات، برقية من هاشم الأتاسي، وقد ورد فيها:«إن معاملة سلطان الأطرش، القائد العام للثورة السورية، ورفاقه المجاهدين بالحسنى، لمن الواجبات التي تمليها علينا روابطنا الدينية والقومية، نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم، وأن تعملوا على حفظ حياتهم، وصيانة كرامتهم، ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة».

مصطفى النحاس باشا كان متعاطفا مع الثورة السورية
مصطفى النحاس باشا كان متعاطفا مع الثورة .السورية

من هم آل العيسمي؟
يتحدر المجاهد يوسف العيسمي من عائلة كريمة هاجرت من جنوب لبنان في بلدة الكفير إلى بلدة أمتان في جبل العرب، وآل العيسمي والعائلة منتشرة في لبنان وسوريا، كمعظم عائلات جبل العرب، وقد جاء في الجزء الأول من كتاب الأصول والأنساب ليحيى عمار، ص 138 أنهم «كانوا في قديمهم من سكان قرية عيسم القريبة من قطنا في الجمهورية العربية السورية، ومنهم من ارتحل إلى جهات حوران ــ السهل ــ وسكنوا هناك في قرية داعل الحورانية، هذا الفصيل عاد إلى مذهب السنة، ومنهم جماعات ارتحلت إلى وادي التيم وسكنوا حاصبيا، ومنهم من ارتحل إلى الغوطة ــ غوطة دمشق ــ وسكن الأشرفية.
ارتحل اجدادهم من وادي التيم إلى جبل الدروز وما زال هناك خلوة قائمة في البياضة قرب حاصبيا، تحمل إسم الشيخ أبو حسن وهبي العيسمي.
تاريخ من الجهاد
في قرية أمتان، شرق صلخد، ولد يوسف حمد العيسمي، نحو عام 1885، كان أبوه حمد من الثوار البارزين الذين قاوموا حملات الجيوش العثمانية على الجبل في أواخر القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، كما كان حمد العيسمي أحد قادة حركة العامية الثانية التي انطلقت من المقرن الشرقي في الجبل عام 1888، ضد مشايخ آل الأطرش، وقد أدت تلك الحركة إلى إصلاح نظام الملكية في قرى الجبل وتنازل مشايخ الطرشان عن حصتهم التاريخية من الأراضي للفلاحين. فصارت الثُّمن بدلاً من الربع، وكما جرى إلغاء حق الشيخ بترحيل الفلاح الذي يخالفه من القرية.
يذكر الأستاذ الباحث محمد جابر في كتابه «أركان الثورة السورية الكبرى 1925 ــ 1927» (ص 281) أن يوسف العيسمي شارك في معارك المواجهة ضد الحملة العثمانية التي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910، وكان أحد فرسان الجبل الذين أوفدهم سلطان إلى العقبة الأردنية عام 1917، دعماً للجيش العربي بقيادة فيصل بن الحسين.
وفي 30 أيلول عام 1918 كان يوسف العيسمي، في طليعة فرسان بني معروف الذين دخلوا دمشق ورفعوا العلم العربي فوق دار الحكومة فيها، وذلك قبل وصول الجيش الفيصلي إليها، وقبل دخول الجيش البريطاني الذي كان يقوده الجنرال اللنبي وقد أثار سبق فرسان بني معروف له إلى دمشق حنقه الشديد.
ويذكر المجاهد علي عبيد، في مذكراته، بأنه في عام 1920 وعلى أثر احتلال الفرنسيين لسوريا، عُقِد اجتماع كبير ترأسه الضابط والسياسي، اللبناني العروبي، رشيد طليع، وأقسم المجتمعون يمين الإخلاص للوطن، والعمل على التمهيد للثورة على الاحتلال الفرنسي، وكان يوسف العسيمي أحد أولئك المجتمعين..
كان سلطان يثق بيوسف العيسمي الذي كان أحد المقرّبين الذين يعتمد على مساندتهم، لما كان له من مزايا كان أبرزها الجمع بين صواب الرأي وشجاعة الفارس، وقد كان العيسمي الشاب في طليعة فرسان بني معروف المحاربين، الذين أرسلهم سلطان باشا لملاقاة الجيش العربي في العقبة بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، ويروي المهندس كمال العيسمي أن الشريف فيصل أعجب بحصافة العيسمي وحنكته فلقبّه بـ «أبي مسلم»، نسبة إلى الداهية أبي مسلم الخراساني الذي كان من أبرز الممهدين لصعود حكم بني العباس وإسقاط حكم الأمويين.
ويذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه « سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى»، أن يوسف العيسمي كان جزءاً من حلقة يرأسها سلطان ورشيد طليع. يقول الدكتور البعيني:«إن اتصالات سلطان انحسرت مع خارج الجبل برشيد طليع رئيس وزراء الأردن سابقاً
( الذي ترك منصبه ليلتحق بالثورة)، وكان يطلع أيضاً على المحادثات السرّية التي تدور حول الأوضاع في سوريا، وضرورة إشعال نار الثورة بين زعماء دمشقيين وزعماء من الجبل يقيمون في دمشق و يزورونها وهم حمد ونسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش، ويوسف العيسمي، إلاّ أن قرار الثورة وتاريخ البدء بها لم يكونا مجال بحث بين سلطان باشا وبين أحد، بل كانا رهناً بتطوّر الأوضاع ، ورهن إرادته وحده».
في ذلك الوقت الذي كان يحتاج لاتصالات مكثفة مع زعماء دمشق وفي طليعتهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، كان العيسمي ناشطاً في اجتماعات سرية تعقد بين موفدي سلطان، يذكرهم الدكتور البعيني ص 211، وهم «نسيب وعبد الغفار ومتعب الأطرش ويوسف العيسمي».
في الحادي والعشرين من أيار عام 1921 اختير اثنان وأربعون وجيهاً نواباً في أول مجلس نيابي في دولة جبل الدروز، في حكومة رئسها الأمير سليم الأطرش، كان من بينهم يوسف العيسمي. وفي عام 1923 أقسم العيسمي يمين الولاء لمبادئ الثورة المرتقبة ضد الاستعمار الفرنسي ، في أحد الاجتماعات السرية التي رئسها سلطان الأطرش. وفي عام 1925 نقل رسالة خطية من رشيد طليع في فلسطين، وفي ضمنها مساعدة مالية من مغتربي سوريا في المهجر الأميركي إلى سلطان باشا الأطرش في جبل الدروز تتعلّق بالثورة ضد الفرنسيين؛ ورد ذكر ذلك في ص 65 من مذكرات المؤرخ والكاتب عجاج نويهض.

“الأمير المصري إبن طوسون رفض دعم الثورة السورية بسبب محاربة الدروز لأجداده محمد علي وإبراهيم باشا”

الأمير عمر طوسون كان حاملا لضغينة ضد المجاخدين بسبب قتال أجدادهم لجيوش إبراهيم باشا في سوريا -2
الأمير عمر طوسون كان حاملا لضغينة ضد المجاخدين بسبب قتال أجدادهم لجيوش إبراهيم باشا في سوريا -2

حصافة ورجولة
كان من أوّليات اهتمام الفرنسيين بعد احتلالهم سورية، سحب الذهب من أيدي السوريين وتبديله بعملة ورقية، وفي تلك الفترة من حكم كاربييه للجبل، وكان هذا يعتمد على جواسيس من معلّمي المدارس وظّفهم لينقلوا له خفايا الناس وأسرارهم، عَلِمَ بأن عليّاً ابن شيخ قرية امتان المرحوم مصطفى الأطرش ورث عن أبيه مائة وخمسين ألف ليرة ذهبية عثمانية.
أقدم كاربييه على زيارة امتان، وحاول إقناع علي الشاب بتبديل الذهب بالعملة الورقية، كما طلب إلى أهالي القرية المجتمعين في مضافة الشيخ تبديل ما لديهم من ذهب بالورق الفرنسي، وكان يوسف العيسمي في مقدمة الرافضين لمطلب كاربييه، ولم يكتفِ بذلك بل طلب من كاربييه أن يقوم بدفع حصة جبل الدروز من ضريبة الجمارك حسب اتفاقية (أبو فخر ــ دو كيه) المتفق عليها مع فرنسا عام 1921، ولم تلتزم بها إدارته، واتهمه بالخداع وسلب أموال الناس بعملية تبديل العملة، فاستشاط كاربييه غضباً منه، وغضب هو بدوره من كاربييه، وخرج من المضافة ساخطاً مسرعاً إلى منزله، لحق به ابراهيم العيسمي ابن عمه، فوجده قد أعدّ فرسه وسلاحه، كان ابراهيم يعرف مدى صلف كاربييه الذي كان يفاخر بأنه امبراطور جبل الدروز، ولكنه يدرك أن يوسف، وقد غضب فلا بدّ من ثورته…
وبالفعل امتطى العيسمي فرسه وتوجّه إلى الساحة أمام منزل الشيخ علي مصطفى الأطرش، هناك التقى بجماعة من الرجال كان كاربييه قد أرسلهم للتوسط لديه ليعود، وقد أوضح لهم أنه سيأخذ برأيه. كان الفرنسي يدرك أن خصمه في ذلك المجلس هو أحد محرّكي الرأي العام في منطقته.
في ميدان القرية، أمام مضافة الشيخ، ترجّل يوسف، وناول مقود فرسه وبارودته لإبن عمه الذي كان يتبعه، وهدّأ من غضبة نفسه، كان الرجل داهية بحق، قادراً على التحكم بزمام ثورته عند اللزوم. دخل المضافة مع الوسطاء، وجلس في الجانب المواجه للحاكم الفرنسي، كاربييه، كان الصمت مطبقاً في مضافة الشيخ علي الأطرش الذي لم يزل فتى بعد، ولكنه بنباهته أدرك أنه لا بدّ من كسر الصمت الذي غشى على المجتمعين. أمر بتقديم ضيافة بسيطة من الحلوى، هي عبارة عن البسكويت والراحة بادئاً بالحاكم الضيف.
تناول كاربييه مكعّبين من الراحة ورصّهما بين قرصين من البسكويت، بحيث صارا كلاًّ متماسكاً، ومشى إلى العيسمي، ثم جلس إلى جانبه، وقدم إليه سندويشة الحلوى، فاعتذر، لكنه ألحّ عليه ليسترضيه، فتناولها منه، ولم يأكلها كما تقضي عادة الضيافة. وأراد كاربييه التخفيف من التوتر المسيطر على المجلس، فقال له مراوغاً: إن موضوع تبديل الذهب بالعملة الورقية قد تجاوزناه، أما حصة الجبل من المكوس، فلا تعودن إلى ذكرها لأن لها شأناً آخر.
لم يكن الموقف يحتمل سجالاً مع كاربييه، ويقول الدكتور حسن البعيني في كتابه إن يوسف العيسمي كان يدرك بذكائه أن أي موقف عنيف في وجه خصمه حينها كان مخالفة لما قرره سلطان باشا وإن قرار الثورة رهن بتطور الأوضاع ونضجها ، ورهن إرادة القائد العام سلطان وحده.
ومما ذكره الباحث محمد جابر في ص 284 من سيرة العيسمي أنه قبيل الثورة بقليل اعتقل مع رفيق جهاد آخر له، هو علي الملحم من قرية ملح، وكانت التهمة قيامهما بنشاط سياسي ضد كاربييه…
وعندما قرر سلطان القيام بالثورة في 17 تموز 1925 واتجه بصحبة نخبة من فرسان القريّا إلى بكا حيث كان صياح الأطرش شيخها ينتظره مع فرسان منها واجتمع له عدد من المجاهدين من قرى مجاورة ومرّ هؤلاء بقرى عنز ثم المشقوق، ومنها اتجهوا إلى امتان متجنّبين المرور بصلخد، وكانت تلك حركة تعبوية ذكية، فصلخد قائمقامية تتواجد فيها قوة فرنسية تتشدّد في مراقبة البلدة، فاتجه إلى امتان ليؤمن عدداً أكبر من الفرسان لتحريرها. في تلك المرحلة الدقيقة لعب يوسف العيسمي دوراً مهماً في حشد التأييد لقرار سلطان إعلان الثورة وأظهر فعالية كبيرة على الأرض.

المقرن الشرقي مقرن الصّولات
يذكر سلطان في عرضه لأحداث الثورة ص101 أنه« عندما اتجهنا من امتان إلى قرية ملح لم يكن عددنا قد تجاوز الثلاثين خيّالاً، وقد استقبلهم اثنان من قادة الرأي في ملح هما علي الملحم وخليل الباسط، وكان في القرية سريّة تعدادها نحو مائة خيّال من الحرس الفرنسي السيار، يقول« لكي نرهب القوة، ونستثير النخوة في نفوس الأهالي، فقد عقدنا في ميدان القرية حلبة سباق، وراح بعض فرساننا يتصايحون أثناء الطراد ( سباق الفرسان)، ويطلقون الرصاص في الفضاء.. فلم تمضِ دقائق معدودة حتى خرج نساء القرية ورجالها لاستقبالنا والبيرق يخفق بألوانه».
لم يعبأ نورمان برسل سلطان، أبلغهم بواسطة ترجمانه السوري الملازم يوسف الصايغ، وبصلف المستعمر، وهو منبطح في خيمته ومعه بعض ضباط الحملة، دون أن يعدّل من جلسته :«سألقي القبض على سلطان وأعوانه، وأعيد الأمن إلى نصابه في سائر أنحاء الجبل خلال بضعة أيام!…».ولما نصحه أسعد مرشد شيخ قرية الكفر بقوله: «إنني أنصحك يا حضرة القائد بصدق وأمانة أن تغادر المكان قبل وصول سلطان ورجاله لأن قوتك هذه لا تستطيع أن تقف طويلاً في وجه الثوار». ثارت ثائرته، وقال:» ألا تعلم أن عندنا من السلاح والذخيرة هنا ما نحارب به الدروز ثلاثة أشهر؟! من هم هؤلاء العصاة الذين تخوّفنا بهم؟!.. إن الملازم يوسف الصايغ هذا يستطيع أن يسوق الدروز بعصاه من الصورة الكبيرة شمالاً إلى العانات جنوباً!»
وهنا التفت نورمان إلى رسل سلطان وقال: «اذهبوا إلى سلطان وقولوا له: إنني بانتظاره على أحرّ من الجمر في هذا المكان».

“قاتل العيسمي ببطولة في معركة تل الخروف وهاجم على رأس مجموعة فرسان موقعاً معادياً وأخمد نيـــرانه”

يوسف العيسمي ( أبو لْوَيْ)
في معركة«الكفر» 21 تموز 1925، كانت المواجهة الحربية الأولى مع جيش فرنسي حديث، تشكّل هاجساً مقلقاً للثوار الذين كانوا نحو خمسمائة مقاتل بينهم بعض الفرسان من بدو الجبل، أكثرهم كما روى قائدهم سلطان لا يحمل من السلاح سوى السيوف والمُدى، والبلطات. أما البنادق فكان أحدثها من النوع الإنكليزي، والألماني الطويل والقصير والعثماني القديم بأنواعه. لذا، فقد ابتدع العيسمي رسالة من خياله، وحمّلها لبدوي جريء شقّ صفوف المجاهدين المتجمهرين في موقع العَيِّنْ، وتقدّم من سلطان ليبلغه إياها بصوت جهوري، قائلاً :«إن 200 مقاتل من بدو ابن لوي رهن إشارتكم للإلتحاق بالثورة، وكان يوسف العيسمي بين الجمهور، فأثارت هذه الرسالة حماسة الثوار، ومنذ ذلك الحين عُرف يوسف العيسمي بـ«أبو لوي».
في ذلك اليوم، وكما ذكر محمد جابر في سيرة العيسمي ص 285، أنّ الرجل كان في طليعة المهاجمين أثناء الهجوم الصاعق من أعلى التلة المطلة من جهة الشرق على موقع رماة الرشاشات حيث اشتبكوا معهم بالسلاح الأبيض، وتدحرجت رؤوس كثيرة للأعداء.
ولم يتخلّف بعدها عن معارك الثورة اللاحقة إذ اشترك في معركة بصر الحرير، في 31 تموز، وكانت هذه المعركة قاسية الوقع على الثوار الذين اضطروا إلى التراجع أمام حملة ميشو الزاحفة بأحدث أسلحة ذلك العصر.
وفي اليوم التالي لمعركة بصر الحرير، شارك في موقعة تل الخروف جنوب قرية الدور، التي كانت مكيدة وقع فيها الثوار، يقول فيها سلطان:«لعب التهور وعدم الحذر من خطط العدو الماكرة لعبتهما الخطيرة في استنزاف قوتنا وذخيرة أملنا في النصر، فقتل عدد من فرساننا المشهورين».
في تلك الموقعة سقط نحو ثلاثين شهيداً، إذ وقع الفرسان بشرك كمائن أُعدّت لهم، شرق التلّة الصغيرة بعد أن تراجعت خيّالة العدو متظاهرة بالهزيمة أمام غارة فرسان الثوار الذين وقعوا ضحية عدد كبير من القناصة ورماة الرشاشات الذين كمنوا خلف متاريس حصينة، يذكر سلطان بأنه:«انصبّ عليهم الرصاص كإنصباب المطر».
كان يوسف العيسمي واحداً من فرسان تلك الموقعة، ومما جاء في سيرته أنه حين تكاثفت النيران لم يعد يحتمل الإنتظار، وكان ممتطياً جواده، فانتزع البيرق من يدّ حامله فهد العيسمي، وكرّ على موقع مقابل للعدو، فتبعه فرسان امتان (كان المقاتلون يتوزعون مجموعات بحسب قراهم)، فأخمدوا نيران ذلك الموقع، وكان ممن استشهدوا حوله : حسين ملاعب ونجم أبوسعيد، ورغم ما حل بالثوار من مصيبة في ذلك اليوم، فقد تمكّن بعض الفرسان من خرق خط الخنادق والتحصينات التي أقامها الجيش الفرنسي عند أقدام تل الخروف وصعدوا بخيولهم إلى قمة التل الذي كان يتمركز فيها مقرّ إدارة العمليات القتالية، ومن هؤلاء أجود البربور أخ حمد الذي استشهد على تلك القمة! وبتاريخ 2 و3 آب شارك العيسمي في معركة المزرعة المظفرة التي حقق فيها الثوار نصراً ساحقاً على القوات الفرنسية.

العيسمي في موقعة العادلية
شارك المجاهد العيسمي في موقعة العادلية التي جرت في أواخر آب، وهي موقعة لم تبلغ المرجو منها، لأن القوات التي وعد بها القادة الدمشقيون لم تحضر الى المكان المتفق عليه، وهكذا وجد ثوار الجبل أنفسهم في سهل مكشوف، في مواجهة قوات فرنسية مدعومة بالمدفعية والطائرات تلاحقهم على ارتفاع منخفض بقنابلها ومدافعها الرشاشة، وتسد عليهم طريق دمشق، ومع ذلك فقد أخذ الثوار مواقع لهم على السفوح، وانزلوا بخيالة الفرنسيين خسائر كبيرة، في حين سقط منهم نحو خمسين شهيداً، وعدد من الجرحى، ومع كل ذلك فقد تمكّن حوالي مائة فارس من فرسان الحملة من الوصول إلى الغوطة حيث تغلغلوا في بعض قراها وبساتينها الكثيفة الأشجار، فيما تراجع الباقون إلى حدود الجبل مما يلي قرية براق…
في تلك الفترة من عام 1925، كُلّف يوسف العيسمي وكل من نصري سليم وذوقان حاطوم وشخص من آل أبي صعب، من قبل سلطان باشا، بالاتصال بالأمير عادل أرسلان والمذاكرة معه بأمور تتصل بنشاط الثورة وآفاقها السياسية. ولا بدّ أن ذلك أعطى نتيجة إيجابية، إذ يقول سلطان باشا في ص 133 إنه «في تلك الأثناء بدأت النجدات تصل إلينا تباعاً من أخواننا في لبنان، ومن مناطق أخرى، فكان على رأس القادمين منهم الأمير عادل أرسلان، ورشيد طليع والعقيد فؤاد سليم، الذين أفادوا الثورة بخبراتهم ومؤهلاتهم العالية، واشتد بهم أزرنا إثر انضمامهم إلى هيئة أركان القيادة العليا للثورة».
وبحكم موقعه في هيئة أركان الثورة، كان العيسمي رائداً في النشاط السياسي، وبطلاً يتقدم المقاتلين في معارك القتال التصادمي، يذكر محمد جابر، ص 287 من سيرة ذلك المجاهد، أنه في 17 أيلول من عام 1925 اشترك في معركة المسيفرة، واستناداً إلى رواية المجاهد محمود خليفة العيسمي «أنه كرّ على مواقع العدو مرات عديدة ونحن معه، وأوقعنا بها خسائر كبيرة، وأثناء الانسحاب عاد إلى موقع كان قد سمع فيه أنين جريح، فحمله أمامه على جواده وأوصله إلى قرية أم ولد وسلّمه الى من يتكفّل به، كما اشترك في معركة السويداء الأولى والثانية عام 1925.
وعندما قررت قيادة الثورة إبعاد الأُسر والمواشي، وإخلاء القرى والانتقال إلى منطقتي اللجاة والصفاة، انعقد مؤتمر في خربة عيون قرب صلخد، واتخذ قرار بمفاوضة الحكومة الأردنية بهدف الحصول على موافقتها لاستقبال بعض أسر الثوار داخل الأردن، وقد كُلّف العيسمي بترؤس الوفد الذي توجّه إلى عمان لهذا الغرض، ونجح في مهمته تلك.

أحد قادة المجاهدين مع سلاحه
أحد قادة المجاهدين مع سلاحه

شهادة الصحافة المصرية
في بطولات الثورة السورية
كان المجاهد يوسف العيسمي شريكاً في تلك الثورة التي أثبت ثوارها جدارة أذهلت معاصريهم، ويذكر سعيد الصغير في كتابه «بنو معروف في التاريخ» شهادة مجلة المصوّر المصرية في تلك الثورة التي تحمّل بنو معروف عبئها الأكبر. قالت المجلة بعد أن خبت نار الثورة وتمت السيطرة على الفرنسيين:
« إن الدروز لم تهدأ ثورتهم لأنهم هزموا في الميدان، بل لأن السلاح لم يعد متوفّراً لديهم بعد أن نازلوا الجيش الفرنسي في معركة المزرعة الكبرى التي هي من الطراز الأول، وفي 16 معركة كبيرة و62 معركة صغيرة، ما عدا المناوشات والمطاردات العادية.
وهم حاصروا المدن والقلاع والحصون ثلاثين مرّة، واشترك في محاربتهم من الجانب الفرنسي عشر قادة كبار برتبة جنرال على رأسهم ساراي وهو برتبة قائد جيش، وهاجموا الدبابات في أكثر من 40 موقعة وفي شوارع دمشق (كان ثوار الجبل قد دخلوا إلى العاصمة دمشق وقاتلوا الفرنسيين فيها)، وكبّدوا العدوّ خسائر كثيرة بالأرواح والسلاح»،
وقد خسر الجيش الفرنسي 30 ألف مقاتل نتيجة المقاومة البطولية للموحدين الدروز في الجبل الأشمّ.

الجيش الفرنسي يهدم بيته في امتان
يقول الجنرال أندريا في مذكراته في خصوص احتلال قواته لصلخد القريبة من امتان:«جمع سلطان أشدّ محاربي الجبل تحت السلاح، فأصبح لزاماً علينا أن نخوض معارك قاسية، وأن نمرّ بجيشنا في سائر أنحاء الجبل، وقد نصل صلخد قاعدة الجنوب في الرابع من حزيران… حملتنا الزاحفة التي كان يبدو منظرها مهيباً، وهي تشكل ذلك المستطيل من البشر( الجيش) والحيوانات بطول ثلاثة كيلو مترات وعرض كيلو مترين، في وسطه المدفعية والتموين ومختلف التجهيزات» حقّاً إنه جيش دولة عظمى».
وفي تلك المعركة على أبواب صلخد، قاتل يوسف العيسمي ببسالة. القوة الفرنسية كانت متفوقة عدة وعدداً وتمكّنت من احتلال صلخد، ومن ثم تابعت طريقها شرقاً فاحتلت امتان، قريته، وعاقبه الجنرال أندريا بتدمير داره…

وفادة إلى الملك فيصل
كانت داره في امتان قد هدمت على يد القوات الفرنسية انتقاماً منه، إلا أنه لم يستسلم وشارك بعد هدم داره في معارك اللجاة عام 1926، وكان واحداً من جماعة من الثوار استولت على قطار للفرنسيين وأحرقته، ونظراً إلى جدارته في المحافل فقد كان أحد أعضاء وفد مؤلف من بعض رجال الثورة البارزين ومنهم الدكتور عبد الرحمن الشهبندر ونسيب البكري ونزيه المؤيد العظم وعقلة القطامي وعلي عبيد، والأمير حسن الأطرش ومتعب الأطرش وسلامة الأطرش وعلي الأطرش (شقيق سلطان) لمقابلة الملك فيصل الأول ملك العراق عند عبور الأردن متجهاً إلى أوروبا، لعرض المطالب السورية في المحافل الأوروبية.
وفي 23 آب من العام نفسه شارك يوسف العيسمي في معركة «قَيْصَما» التي أوقع خلالها الثوار هزيمة كبيرة بالفرنسيين ثم في معركة أبو زريق وفي موقع «جبَيّة» جنوب قرية العانات وفيها تمكّن الثوار بقيادة سلطان باشا من دحر تلك الحملة التي كان عديدها 1500 مقاتل.

النزوح إلى الصحراء السعودية
بعد انحسار الأعمال القتالية للثورة السورية على الفرنسيين ظل العيسمي وفيّاً لقيم تلك الثورة، إذ إنه قرر في صيف سنة 1927 النزوح مع سلطان باشا والمجاهدين السوريين واللبنانيين الذين رفضوا الاستسلام من الأزرق في الأراضي الأردنية إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية بعد أخذ موافقة الملك عبد العزيز آل سعود،
وعندما نزل الثوار في موقع النبك الصحراوي من وادي السرحان اختيرالعيسمي عضواً إلى جانب محمد باشا عز الدين، وعلي عبيد وعبد القادر آغا سكّر، وسلامة النجم الأطرش، في اللجنة العليا للمنكوبين التي رئسها الأمير عادل أرسلان، ويذكر سلطان باشا أنه كان من أعضاء اللجنة المالية التي شُكّلت في الحديثة ( المنفى)، والمؤلّفة من «حسين مرشد، كنج شلغين، عبد الكريم عامر، يوسف العيسمي، ونايف العطواني»،( المؤرّخ البعيني: مسيرة قائد، ص 363) ولما كان يوسف العيسمي شخصية مرموقة، فقد لفت نظر الشاعر والمجاهد السوري خير الدين الزركلي عندما زار الثوار في منفاهم ذاك، فوصفه:«أبو حمد يوسف العيسمي من أكابر دروز الجبل، ومن شجعانهم ومن شعرائهم، وأهل الرأي فيهم، وهو عضو اللجنة العليا»، ويصف الزركلي سُرى الليل بصحبة العيسمي فيقول:«واستهدينا ببروج السماء التي كان يحسن البدو والدروز معرفة منازلها. فكان العيسمي يعيّن لنا وجهة السير جاعلاً الثريّا عن يمينه ومستهدياً بنجوم أُخرى».
في عام 1928 كلّفه القائد العام بالذهاب إلى مصر بهدف محاولة حلّ الخلافات بين قادة الأحزاب السورية اللاجئين إليها.

الرحيل مع سلطان باشا إلى الحديثة
كان يوسف العيسمي مقرباً من سلطان، وهذا ما نلمسه في ص 332 من «أحداث الثورة»، إذ يذكر « كنا نتحاشى الصدام في تلك الأثناء مع قوات الأمن السعودية التي أخذت تشعرنا من جديد بشدة مراقبتها لنا… مما جعلني أوثر الإنتقال إلى الحديثة في صيف عام 1929 مع فريق من المجاهدين، كان في جملتهم: حسن وعبد الكريم عامر، عقلة القطامي، حسين مرشد، يوسف العيسمي، شكيب وهاب، هلال عز الدين، ناصر حمشو، علي محرز، كنج شلغين، نايف وفارس وجابر أبو لطيف، حسين وابراهيم وهزاع العطواني، سليم الدبيسي وولداه مزيد وجدعان، إبراهيم ومهنا ويوسف الدبيسي، نجم وأسد وفضل الله عماشة، محمد المعاز، محمود منذر، نجيب ملاعب، فارس أبو محمود، فايز الحمصي فرحان زيتونة، درويش وسلمان طربيه، عبطان النجم، نايف وعباس البلعوس، وأقاربي من الطرشان، وغيرهم».
وفي ذلك العام أوفده القائد العام إلى عمان بمهمة البحث واتخاذ الموقف المناسب من طلب الملك عبد العزيز ابن سعود ترحيل الثوار من الحديثة إلى عمق السعودية بهدف إبعادهم عن الحدود الأردنية، ومن ثم أوفده إلى الحجاز لمقابلة الملك السعودي لإقناعه بالعودة عن طلب الترحيل الآنف ذكره إلى داخل المملكة، أو مغادرة الأراضي السعودية، فسافر عن طريق مصر، لكن السلطات السعودية رفضت السماح له بدخول المملكة، بدعوى أنه شخص غير مرغوب فيه، ولعلّ ذلك عائد لكونه من المنتمين إلى حزب الشعب الذي يرأسه الشهبندر، المناوئ لحزب الإستقلال المقرّب من السعودية…
وقد ذكر صياح النبواني أنه في 30 حزيران عام 1929 وصل إلى النبك من وادي السرحان ( منفى الثوار في حينه)، السيد يوسف العيسمي عائداً من مصر بعد غياب سبعة أشهر وأن سلطان الأطرش كان قد كلّفه بأن يتكلّم بإسمه، بتفويض منه، لأجل فضّ الخلافات بين حزبي الشعب والإستقلال…

ضد الدولة الطائفية
يذكر محمد جابر، ص 298 من «أركان الثورة السورية الكبرى» (استناداً إلى أوراق المجاهد فضل الله النجم الأطرش)، أن العيسمي، وبسبب من تضارب آراء أهالي الجبل بشأن موضوع انفصال (جبل الدروز) عن سورية، أو انضمامه إليها، كتب مقالة في 11/12 من عام 1931، رفض فيها الإنفصال وأيّد الوحدة السورية، مستنكراً التجزئة الطوائفية التي كان الفرنسيون يعملون عليها مع مؤيدين محلّيين… ولا شك أنه في موقفه ذاك دلّ على بعد نظره كرجل حرب وسياسة ووطنية.

يوسف العيسمي، عودة الثوار إلى الأردن
نزل يوسف العيسمي في السلط برفقة فريق من الثوار هم حسن وعبد الكريم عامر وحسين مرشد وعلي عبيد وعلي الملحم وقاسم أبو خير ومحمد النبواني وغيرهم…
واستمرت إقامته في الأردن إلى 19 أيار من عام 1937، حيث عاد إلى الوطن عن طريق درعا ــ دمشق، برفقة سلطان باشا الأطرش ورفاقه المجاهدين.
ويذكر سلطان باشا في ص 250 من «أحداث الثورة» أنه في يوم الأحد23 أيار غادر الثوار دمشق إلى السويداء عن طريق الشيخ مسكين ــ إزرع، وعلى طول ذلك الطريق استقبلهم الأهالي عام 1937في كل قرية من قرى سهل حوران والجبل المحاذية لذلك الطريق، وكانوا يضطرون الى التوقف أثناء عبورهم لذلك الطريق لتناول القهوة والمرطّبات، والاستماع إلى القصائد الزجلية وخطب الخطباء وكلمات الترحيب…
ولما كانت وحدة البلاد السورية تمثّل هماً من هموم أولئك الثوار الذين قاتلوا الفرنسيين من أجلها، وفي طليعتهم العيسمي، فإن ما رآه سلطان على حدود الجبل مع حوران من بقايا نصب إسمنتي يذكّر بالتجزئة التي اصطنعها الفرنسيون اثناء تسلّطهم المطلق على البلاد جعله يطلب التوقف عند ذلك النصب ليساعدهم بدوره على إزالة بعض المعالم من بقايا ذلك النصب المشؤوم …
وعندما وصل المجاهد أبو حمد يوسف العيسمي إلى بلدته امتان «استقبله أهل قريته استقبالاً رائعاً» على حد تعبير محمد جابر صاحب سيرته، ولم يكتف العيسمي في المساهمة بالنشاط الاجتماعي، فالرجل وطني وله طموحات اجتماعية، فقد اسهم في نشاطات الحركة الشعبية في الجبل (بغض النظر على أن تلك الحركة لها مالها، وعليها ما عليها)، وتسامى العيسمي فوق ما تركته الحركة الشعبية من إرث انقسامي في تأجيج النزاع المحلّي في الجبل، وظل قريباً من سلطان باشا في حراكه الوطني، فكان من أعضاء الوفد الذي مثّل الجبل في مؤتمر حمص للقوى الوطنية، وقرأ كلمة الإفتتاح باعتباره ممثلاً لسلطان باشا الأطرش.
وإبان الحكم التعسفي لأديب الشيشكلي صدر بحقه حكم بالإعدام، ولكنه ظل يعمل سرّاً ضد حكم الدكتاتور، إلى حين سقوطه عام 1954.
وقد ذكره أدهم الجندي في ص 243 بقوله:«أسهم يوسف العيسمي بعد عودته إلى الوطن في الأعمال الشعبية في عهد العدوان الفرنسي وكان من المناوئين المعارضين لحكم الشيشكلي، وتعرّض للملاحقة كغيره من المعارضين، وفي تأبينه قال سلطان باشا كلمات قليلة لكنها ذات دلالة تشير إلى دوره التاريخي في الجهاد الوطني، وهي مايلي:« أبو حمد علم انطوى، وسيف أغمد، وله فضل كبير في الثورة».

فرسان المجاهدين في الطريق إلى إحدى الموقعات مع الفرنسيين
فرسان المجاهدين في الطريق إلى إحدى الموقعات مع الفرنسيين

احتفالات كبرى في دمشق
بعودة سلطان ورفاقه من المنفى
في ص 249، يصف سلطان باشا استقبال دمشق للمجاهدين الذين كان المجاهد يوسف العيسمي في طليعتهم إلى جانبه، فهو واحد من أركان الثورة السورية الكبرى،يقول في ص 349 من « أحداث الثورة:» لقد كان استقبالنا في العاصمة الأموية منقطع النظير، إذ يعجز الإنسان عن وصف شوارعها المزدانة بأبهى حلّة من أقواس النصر، وأنوار المصابيح الكهربائية الساطعة، وفاخر السجاد، وبمئات الآلاف من المواطنين والمواطنات الذين كانوا يموجون فيها ويرددون الأناشيد الوطنية والهتافات المدوية بحياة المجاهدين!..»
نزل الثوار في فندق الشرق ( أوريان بالاس)، بضيافة الحكومة السورية، وانقضى يوم الخميس وهم يستقبلون الوفود التي قدمت للترحيب بهم والسلام عليهم، من مختلف أحياء مدينة دمشق، ومن سائر أنحاء البلاد.
وفي صباح اليوم التالي، الحادي والعشرين من أيار، وكان يوم الجمعة، قاموا بأداء فريضة صلاة الجمعة بصحبة فخامة رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي، وأركان الدولة وأعيان المدينة، تبع ذلك احتفال الحكومة بهم رسمياً بدار البلدية…

مذكرات سلطان باشا

من مذكرات سلطان باشا الأطرش

معاناة المجاهدين في وادي السرحان

الملك عبد العزيز منح حمايته لنا بعد أن اطمأن
إلى عدم مساندتنا خصـــــوم الأسرة السعودية

عرضت بريطانيا علينا وقف الثورة فقلنا: «حرية شعبنا أولاً ولو أردنــا عيش القصور لكنا صالحـــنا الفرنسيين»

تعرض «الضحى» في ما يلي لفصل مهم من كتاب سلطان باشا الأطرش «أحداث الثورة السورية الكبرى» يتعلق بصورة خاصة بالظروف الصعبة التي عاشها المجاهدون في المنفى والصعوبات التي واجهتهم نتيجة للإتفاق الفرنسي البريطاني على تقاسم المنطقة، إذ أدى ذلك إلى التضييق عليهم في المنفى الأردني ما اضطرهم إلى استئذان الملك عبد العزيز آل سعود الإنتقال إلى وادي السرحان في المملكة السعودية حيث كان عليهم أن يواجهوا قيظ الصحراء ونقص الأمطار والمرعى وأن يقتاتوا أحياناً من بعض النباتات والأعشاب الصحراوية عند نقص التموين، وكان على المجاهدين أيضاً مواجهة خطر غزوات البدو، إلا أنهم كانوا قد اعطوا حق الإحتفاظ بسلاحهم للدفاع عن أنفسهم وعن نسائهم وأطفالهم من جرّاء أخطار من هذا النوع.
لكن إقامة الثوار في السعودية بدت محفوفة بتحرشات من قبائل بدو المنطقة التي لم تتخلّص بعد من تقاليد الغزو والثارات القديمة، ومع أن سلطان باشا كان حريصاً على أن يظل بمنأى عن النزاع التاريخي بين الهاشميين والسعوديين، إلاّ أن السعوديين كانوا يتخوّفون من احتمال ميل القائد العام إلى أخصامهم الهاشميين، وهو الذي كان قد انضم إليهم في الثورة العربية ضد العثمانيين عام 1916، وبسبب تخوّف السعوديين من ذلك الامر فقد سعوا إلى ترحيل المجاهدين عن وادي السرحان (القريب من الأردن الذي كان قد أصبح هاشمياً) إلى عمق البر السعودي ، بل إن السلطة السعودية أبلغت سلطان باشا في أحد الأوقات بضرورة تسليم المجاهدين لسلاحهم، وهو ما رفضه قائد الثورة السورية بإصرار، وقد تبع ذلك مفاوضات شارك فيها مستشار الملك عبد العزيز إبن بلدة عبيه فؤاد حمزة وتدخل شخصيات عربية مثل المناضل شكري القوتلي (أصبح رئيس الجمهورية السورية في ما بعد) وهاشم الأتاسي (كذلك أصبح رئيساً لجمهورية سوريا) وأدت تلك المساعي والمفاوضات إلى طمأنة الملك عبد العزيز إلى نوايا الثوار وولائهم للمملكة، وأدى ذلك إلى استقرار العلاقة مع السلطة السعودية واستقرار المجاهدين في وادي السرحان حتى صدور العفو الفرنسي وعودتهم إلى سوريا عودة مظفرة في العام 1937 أي بعد عشر سنوات من حياة المنفى القاسية.
في ما يلي رواية سلطان باشا الأطرش لتلك المرحلة الدقيقة من مسيرة الثورة السورية الكبرى.

عندما طلبت بريطانيا المسيطرة على الأردن ترحيلنا منها قلنا إننا مستعدون أن نلبي رغبتكم, شريطة إعطائنا مهلة كافية نتمكن خلالها من إتمام عملية نقل نسائنا وأطفالنا ومواشينا إلى مكان آخر مناسب جاء جواب المعتمد البريطاني بالموافقة على طلبنا, ولكنه اقترح علينا مقابلته بالأزرق لبحث أمور هامة تتعلق بالموضوع نفسه, فانتقلنا من فورنا إلى الأزرق وجرت المقابلة في جلسة دامت نحو ساعتين, حاول خلالها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتسليم للأمر الواقع من دون قيد أو شرط, ومما عرضه علينا في نهاية الجلسة وضمن لنا تحقيقه دون أبطأ قوله (أن حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفل بتقديم قصر خاص لإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة) فأجبته شكراً وقلت له:إن سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنا بقينا في دورنا الرحبة واستجبنا لدعوة الفرنسيين المتكررة بالاستسلام:
إن طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلا على أساس صلح مشرف تتحقق به المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخص بحرية الشعب واستقلال البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبية عنها.
القوتلي يتوسط مع السعودية
وفي أعقاب المقابلة إتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم وشرحت لهم ما آلت إليه أخيراً أوضاعنا بالأردن فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الإتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوتلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية من أجل التفاوض مع جلالة الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلاده لاجئين سياسيين.
إعتذر الملك بادئ ذي بدء عن قبول الطلب لكنه عاد فأعلن موافقته وأرسل إلينا برقية جاء فيها:
كانت مشاهد رحيل الثوار وعائلاتهم من الأزرق في صيف 1927 مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانية، وقد ارتضوا بإباء وشمم أن يفارقوا الديار التي كانوا يستأنسون بسكانها قريباً من الأهل والأحبة في ربوع الجبل فسارت قوافلهم المؤلفة من نحو اكثر من الف نسمة باتجاه العمري جنوباً, بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد، الذين قرروا العودة إلى الجبل إثر صدور قرار المفوض السامي (بونسو) بالعفو عنهم وعددهم نحو ثلاثة آلاف نسمة.
في العمري علم الإنكليز أن المملكة العربية السعودية قد وافقت على إقامتنا في ربوعها فأرسلوا إلينا وفداً برئاسة الكولونيل (سترا فورد) للتفاوض معنا من اجل عودتنا إلى الأزرق, فرفضنا عرضهم هذا وقلنا لرئيس وفدهم: لم تعد لنا رغبة في العودة لأنكم لا تحترمون العهود وسوف نقيم بالصحراء التي خرج منها أجدادنا. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتع بحريتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأمم علينا وصيّرتم الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن.
مكثنا في العمري فترة قصيرة ثم انتقلنا إلى غدير الحصيدات (يقع على بعد 20 كيلو متراً عن النبك بوادي السرحان) حيث بتنا ليلة واحدة وفي اليوم التالي توجّهنا إلى (النبك) بوادي السرحان وبرفقتنا مجاهدون من الجبل وكان عددهم 232 مجاهداً بالإضافة الى سبعين مجاهداً من لبنان والمجموع كان 302 مجاهد مع اسرهم وكان المجموع 1360 نفساً، وكان على رأس مجاهدي لبنان والإقليم الذين ارتحلوا معنا الأمير عادل ارسلان.
وصلنا إلى النبك بوادي السرحان في أواخر شهر تموز عام 1927 وجدنا الأرض صحراوية مقفرة، ما خلا نبع ماء عذب يسمى (جوخه) وبضع من أشجار النخيل تضفي على المنطقة جمالاً طبيعياً أخاذاً تبعث بالنفس بتمردها على الجفاف المسيطر- من إرادة المقاومة وعزيمة الصمود.
كان نزولي في الجهة الشرقية من المكان حيث جاورني أقربائي وفريق من المجاهدين ونزل في الجهة الغربية منه رفاقنا الآخرون بينهم الأمير عادل ارسلان، محمد عز الدين، علي عبيد، قاسم أبو خير، وعلي الملحم والمسافة الفاصلة بين الحيين لا تزيد على ثلاثمائة متر.
لقد آوينا أنفسنا في الخيام القليلة التي كانت بحوزتنا ثم اضطر الكثيرون منا إلى استخدام قطع (اللبن) الذي صنعوه من التراب لبناء مساكنهم البدائية الصغيرة واستيراد خشب الحور والقصب بأسعار باهضة من عمان لسقفها.كان علينا أن نتآلف مع المناخ الصحراوي في حياتنا اليومية, وان نعيش متاعب البادية وشقاءها, إلى جانب المتعة بصفائها وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، وأكثر ما كنا نعاني منه في الفصول الإنتقالية (الربيع والخريف) رياح السموم الهوجاء التي تهب عادة من الشرق والجنوب الشرقي فتبدّل من معالم الأرض وتغدو الرؤية خلالها مستحيلة, ثم تكاد عملية التنفس تتعطل لدى الإنسان والحيوان على حد سواء بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء والتي كانت تكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان. استطاع بعضنا استخراج الماء بالحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيل والماشية, واحتطبنا من نباتات (الرّتم) لمواجهة برد الليالي، وكنا نقتات بورق (الطرقة) و(القطف) وثمر (الاصمع) وكل هذا عندما يضعف المدد ويتأخر التموين.
أما الأغنام التي كان أطفالنا بحاجة ماسة إلى لبنها فكانت لا تجد أمامها سوى الحمض والشيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع, تشاركها في الرعية الخيول والإبل التي لم يبق في حوزتنا سوى العدد القليل منها.

موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937
موكب الثوار العائدين في دمشق عام 1937

“عرض الكولونيل الإنكليزي السماح للثوار بالعودة إلى الأردن فقال له سلطان : نفضل العيش في الصحراء التي انطلق منها أجدادنا لأنكـــــم لا تحترمـون العهود “

معاملة كريمة من السلطة السعودية
وبعد أن مضى على إقامتنا حوالي الستة أشهر في وادي السرحان عوملنا خلالها من قبل ممثلي السلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة معاملة طيبة ولقينا من حفاوة استقبالهم وكرم أخلاقهم ما لا يمكن نسيانه مدى الأيام. قدم إلينا الأمير سليمان الشنيفي مندوباً من العاهل السعودي فرحبنا به واكرمنا وفادته ثم فاجأنا بقوله: (امرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها لجمعه وتسليمه ثلاثة أيام) فأجبته قائلاً:سلاحنا شرفنا أيها الأمير فهل من المعقول أن نسلم به ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظروف القاسية والأحوال السيئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة. قال: (إنني مأمور بهذه المهمة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال) وعندئذ قلت له بحزم وتصميم:
«لا نسلّم سلاحنا ما دام فينا عرق ينبض، لقد كنا نتوقع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضد الفرنسيين لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرضونا بالتالي لخطر الغزوات البدوية المألوفة في هذه الأرض القفراء»
وبعد أن تكونت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه فجاءت التعليمات بالإتفاق عليه معنا على ما يلي:
1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحق نقله ضمن المنطقة من دون معارضة.
2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأي نشاط يخل بالأمن أو يخالف الأنظمة والقوانين المعمول بها في المملكة.
وفيما كنا نعمل على إقامة علاقات حسن جوار مع العشائر بالمنطقة حاول شبيب بن كعير شيخ عشيرة السرحان أن يستغل ظروفنا الراهنة فرفض تأدية الحق الذي كان لآل عطا الله عليه قبل نشوب الثورة وكنا نحن كفلاء عقد راية الصلح الذي تم وقتذاك بين الفريقين بل حاول أن يتحدانا بقوله (إذا كنتم تعتقدون أنكم تستطيعون أن تتصرفوا هنا في وادي السرحان كما لو كنتم في الجبل فذلك خطأ فادح ووهم كبير يجب أن تتبينوه!) فاضطررنا بعد أن رفض نصح الناصحين إلى احتجاز فرسه ووضع القيد في رجليه إلى أن اعترف بالحق ودفعه إلى صاحبه وهو ثمن بعير (جمل).
لقد كنا نشعر باستمرار أن العراقيل توضع في طريق تمويننا والخطر يتهدد وجودنا في كل لحظة من قبل العشائر المجاورة، فذات يوم أوقف علي عبيد في عمان بأمر من القائد البريطاني (غلوب باشا) وكان مكلفاً بشراء لوازم الثوار وإعاشتهم ولم يطلق سراحه إلا بعد بضعة أيام غير أن أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرت بنا بل كانوا يتحملون المشاق في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين، ولكن مع اهتمامهم الشديد بنا وزيارة العديد منهم لنا، فقد كان شبح المجاعة يطل علينا بين حين وآخر فنضطر إلى إلتهام ورق النبات ريثما تصل الإعاشة إلينا من عمان وبعض المدن الأخرى. وفي ما كنا نواجه تلك الأزمة الحادة، إذا بالسادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشربالي والحاج أديب خير وعادل العظمة يصلون إلى منازلنا ويقدمون إلينا الإعانات المجموعة بإسم الثورة (صرة) من الليرات الذهبية فلم يتمالك المير عادل ارسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها بحدة أمامهم وخاطبهم قائلاً: إن الذهب كله لا يتساوى مع رغيف واحد ينقذ حياة الذين يتضورون جوعاً منذ أيام، وخصوصاً النسوة المرضعات والأطفال. أرجعوه معكم لأننا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء. وعلى الرغم من أن أولئك الأخوان لم يكونوا على علم بأننا وصلنا الى تلك الدرجة من العوز والفقر فقد تأثروا غاية التأثر وطيبوا خاطر الأمير وقرروا أن يبقى السيد القوتلي عندنا لنتباحث في إيجاد حل لمثل هذه الأزمة المعيشية التي كنا نعاني منها، في حين عاد العظمة والشرباتي وأديب خير من فورهم إلى عمان ليرجعوا في اليوم التالي ومعهم عدة سيارات مليئة بأكياس الطحين والمواد الغذائية الأخرى التي وزعت بالتساوي على اسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى مقادير العلف للماشية والدواب.

سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو
سلطان يستعرض الثوار الذين احتفظوا بأسبحتهم في وادي السرحان خوفا من هجمات البدو

نجاح سياسي في سوريا
لقد كانت أخبار ما يجري في سوريا ترد إلينا تباعاً في الصحف أو عن طريق من كان يزورنا ويتفقد أحوالنا من الأخوان. فمن تلك الأخبار قيام الكتلة الوطنية على أنقاض حزبي الشعب والاستقلال اللذين كان اكثر أعضائهما خارج الوطن. يوم ذاك وقد انتمى إليها بعض المستقلين وكذلك موافقة المفوض السامي (بونسو) على انتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد فتراجع بذلك عن شروط المفوضية السابقة التي كانت تقضي باستلام الثوار قبل البحث بهذه الأمور وقد فاز مرشحو الكتلة الوطنية بأكثرية مقاعد الجمعية في الانتخابات ثم حصلوا على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة وضع الدستور، ولكن ما إن انتهت هذه اللجنة من وضع مشروع الدستور وتقرر موعد عرضه على الهيئة العامة للجمعية في 7 آب 1928 حتى تدخل المفوض السامي وطلب حذف ست مواد منه والتي لها أهميتها البالغة في تأكيد وحدة البلاد واستقلالها. ولما رفضت الجمعية طلبه في الجلسة المنعقدة بتاريخ 10 آب 1928 اصدر قراراً بتأجيل جلساتها لمدة ثلاثة أشهر ثم انتهى به الأمر إلى تعطيلها إلى أجل غير مسمى، فذلك ما آثار اهتمامنا وجعلنا نوجّه دعوة إلى المجاهدين المقيمين في مصر والأردن لحضور المؤتمر الوطني الذي قررنا عقده بوادي السرحان في 25 تشرين الأول عام 1928 حضره معنا عدد كبير من المجاهدين الذين قدموا من الأردن وفلسطين وخاطبتهم في كلمة الافتتاح قائلاً (وليعلم المستعمرون أن المناورات والمؤتمرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إن الشعب مصمم على الصمود وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية، وكلما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياً في البلاد ازددنا نحن تمسكاً بحقوقنا المشروعة والعمل والصبر على مكاره التشرد والحرمان).

أنباء مقلقة عن غزوة قبلية
ومن الحوادث المروعة التي عشناها بوادي السرحان وكان لها أثر بالغ في نفوس الثوار الحادثة التالية:
خرجت مبكراً من منزلي صبيحة أحد أيام الربيع قاصداً التنزه في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات (الرنم) والأنصع وإذا بإعرابي يقطع البادية على ذلول فلما رآني توجه نحوي وحيّاني وقال: أريد رؤية سلطان قلت له (ماذا تبغي من سلطان تكلم وأنا أوصل أخبارك أليه) قال أنا قاصد سلطان بالذات واحب أن أراه بعيني أكلمه بنفسي قلت له تكلم أنا سلطان. فنزل عن ذلوله وصافحني بحرارة وقال مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أن فرحان بن مشهور (من شيوخ عنزة الرولا) قد قرر غزوكم بستمائة مردوفة (أي بألف ومائتي مقاتل يمتطون ستمائة ناقة أو جمل) وقد أرسلني (بشير بن ضبيعان) الشراري نذيراً لكي لا يأخذكم الغزاة على حين غرة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم) هدّأت من روعه وعدت به إلى البيت ليتناول معي طعام الفطور ثم قلت له: (سلّم على بشير وقل له ابن مشهور لا يجرؤ على غزونا.. وإذا كابر وظل مصمماً على ذلك فسوف لا ينال بغيته ولن يفرح بما سيأتي من اجله. وما إن غادر الإعرابي منزلنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يوم ذاك لا يتجاوز الثلاثمائة مسلح فأحطتهم علماً بالأمر ورحنا نعدّ العدة لمقابلة فرحان بن مشهور.
لقد مرت بنا محن قاسية وخضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤولياتها كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنوية لمواجهة تلك الغزوة الهمجية المفاجئة. أجل لقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين تماماً عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي وكنا نتساءل: هل لفرحان بن مشهور وأشباهه علاقات مشبوهة مع دوائر الاستعمار الفرنسي العليا في الشرق فأغرّتهم بنا ودفعتهم لغزونا؟ وبعد أن رفضنا عروضها بالإستسلام على أساس الإكتفاء باستقلال الجبل وتأكد لها إصرارنا على تحقيق مبادئ الثورة بكاملها؟ كنت أظن وأنا اقلّب أوجه النظر في تلك المسائل مع بعض القادة ورفاق الجهاد أن حالة البؤس والعوز والفاقة التي انتهى أمر المجاهدين إليها في وادي السرحان بالإضافة إلى النقص الكبير في عدد الخيول الأصيلة ومخزون العتاد والذخيرة الذي كنا نشكو منه وصعوبة تعويضه نظراً الى ضعف قدرتنا الشرائية بصورة عامة، إن كل ذلك سيكون له أثره الفعال في مجرى المعركة فأخذت تنتابني الهواجس وأنا أتخيل النهاية المفجعة التي سننتهي إليها نحن وسائر أطفالنا ونسائنا في تلك الصحراء النائية وإذا ما قدر لنا أن نعجز عن صدّ أولئك الغزاة الشرسين ومع ذلك فلم يتظاهر أحد منا بتلك المخاوف والظنون خلال الاجتماعات التي كنا نتدارس فيها مع بقية المجاهدين الخطط الدفاعية الكفيلة بدحر المعتدين. مكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق الممض والتأهب المستمر وإذا بطلائع الغزاة قد بدأت تطل علينا من جهتي الجنوب والشرق مثيرة في سيرها الحثيث غباراً كثيفاً حجب عن كمائننا الاستطلاعية الرؤية الواضحة.
وما هي إلا دقائق معدودات حتى ضج المكان بأهازيج رجالنا الحربية ونخواتهم المثيرة التي كانت تسمع كقصف الرعد من بعيد وبصيحات نسائنا اللواتي خرجن من المنازل وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال الذين لم تتجاوز اعمارهم الرابع عشرة استنفروا وتهيأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة غير آبهين. أما أعيان المجاهدين وقادتهم فقد أخذ كل منهم يتوسط مجموعة مقاتلة لينقل إليها تعليماته الأخيرة المقررة التي يتوجب على بعضها عدم التراجع قيد أنملة عن الموقع المخصص لكل منها ولو بقيت لوحدها في مواجهة الغزاة ويقضي بعضها الآخر تنفيذ خطة هجومية صاعقة تقوم بها مجموعات ثلاث صغيرة من الخيالة لضرب ميمنة الغزاة وميسرتهم ومؤخرتهم في آنٍ واحد عندما يشتدّ وطيس القتال كما سارع فريق مدرب من أبطال المجاهدين إلى مرابض الرشاشات الثقيلة (الهوشكيس) التي أقيمت في مواقع مناسبة على أمل أن يكون دورهم رئيسياً حاسماً في تقرير مصير المعركة، وفيما كنا نتخذ تلك الإجراءات ونقوم بتلك الإستعدادات وسط ذلك الجو الصاخب من الأهازيج الحربية والنخوات الحماسية وإذ بنا نفاجأ قبل أن ينتصف النهار بإنسحاب القوم من مواقع تجمعهم وتواريهم عن الأنظار في أعماق الصحراء. قيل لنا في ما بعد إن فرحان بن مشهور قد هاله ما كنا عليه من يقظة وحسن استعداد لمقابلته فتحول عنا خشية أن يصاب بهزيمة نكراء وقصد فريقاً من قبيلة الشرارات يتزعمه (بخيت درويش) وتقع مضاربه على بعد عشرة أميال من منازلنا بالتقريب فنال منه واستولى على ابله وأغنامه.
وفي أعقاب تلك الحادثة أغارت عشيرة أخرى من الشرارات على مراعي ابلنا فاستاقت عدداً منها قبل أن يتمكن الرعاة من إيصال الخبر إلينا فعقدنا اجتماعاً مع بعض المجاهدين تقرر فيه إرسال حسين العطواني وكنج شلغين للاتصال بحاكم الجوف الأمير عبد الله الحواسي وأحاطته علماً بذلك ثم وجهنا وفداً آخر إلى مدينة الرياض برئاسة أخي علي وعضوية معذى الدهام ونزال أبو شهيل فقابلوا إبن مساعد أمير نجد واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قبل الشرارات وقد اعتذر هؤلاء عن فعلتهم بقولهم: لقد توهمنا أن الإبل عائدة إلى أهل الجبل من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم..أما بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم.

الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان
الملك عبد العزيز آل سعود قدم الملجأ الآمن للمجاهدين في وادي السرحان

“كنا نستجمع قوانا لمواجهة تلك الغزوة الهمجية وقد هالنا الأمر وبتنا عاجزين عن تعليل أسباب ذلك التدهور الأخلاقي المستمر في مجتمعنا العربي”

مساع لترحيلنا عن الوادي
غير أن ابن مساعد هذا لم يلبث أن أرسل قوة بقيادة سالم الشيخ لترحيلنا إلى داخل المملكة بحجة المحافظة علينا وتجنبنا خطر العشائر البدوية المعادية لنا فلم نوافق على ذلك وقلنا للأمير المذكور إننا نفضل الإقامة هنا في الحرّ والقرّ على سكن المدن والتمتع بالحياة الهادئة وسوف نتحمل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كي لا ننسى قضيتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا، ولمّا أصرّ الرجل على تنفيذ مهمته بعناد وتصميم طلبنا منه مهلة قصيرة ندرس خلالها أوضاعنا ورغبات رفاقنا فاستجاب لطلبنا بعد أن استشار رؤساءه وسارعنا بإرسال وفد مؤلف من محمد عز الدين وقاسم الحسنية وفواز حاطوم إلى الحجاز حيث حظوا بمقابلة العاهل السعودي الذي أحاطهم بعنايته وتكريمه وهو أصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته, ولكنهم لم يلمسوا منه تغيراً في سياسة حكومته المقررة. ولعل أسباب إصرار السلطات السعودية على ترحيلنا من مكان تجمعنا بالنبك وتوزيعنا في المناطق الداخلية للمملكة هي الآتية.:
1. الصلات الحسنة التي كانت قائمة بيننا وبين الأسرة الهاشمية منذ نشوب الثورة العربية الكبرى وكذلك علاقاتنا مع عشائر بني صخر وبوجه خاص مع شيوخ العشائر الأردنية كحديثة الخريشي ومثقال الفايز اللذين كانا غير موالين للأسرة السعودية وسلطان العدوان وحمدي ابن جازه وآخرين وقد قدموا معونة تقدر بحمل اكثر من ثمانين جمل تمويناً.
2. ثورة الشيخ ابن رفاده في بلاد نجد وتخوف السعوديين من أن نلعب دوراً مماثلاً لحساب الهاشميين بوادي السرحان.
3. الاستجابة لضغط الدبلوماسية الفرنسية في الشرق التي كانت ترى أنها لا تقوى على قهر الحركة الوطنية المناوئة للانتداب الفرنسي داخل سورية ما دامت على اتصال مستمر بهيئة أركان القيادة العليا للثورة في وادي السرحان وبالشخصيات السياسية التي كانت تعمل بالأردن وفلسطين ومصر والمهجر لصالحها وصالح الثورة السورية الكبرى.
لقد وجب إذاً العمل على إيجاد تقارب فرنسي سعودي على غرار التقارب الإنكليزي الهاشمي ليقوم بنوع من التوازن بين القوى المتصارعة في الشرق يكفل للمملكة العربية السعودية الناشئة أسباب قوتها ومنعتها وبخاصة بعد أن ازدادت الروابط السياسية متانة بين الإنكليز والهاشميين بتتويج الملك فيصل ملكاً على العراق، وبذلنا جهوداً صادقة لإقناع الملك عبد العزيز والسلطات السعودية بأن إقامتنا في وادي السرحان لا تتعدى اللجوء السياسي وان الواجب يدعونا إلى التزام الحياد التام بالنسبة للنزاع الهاشمي-السعودي وان مصلحتنا الشخصية تقتضي ذلك بالإضافة إلى مقتضيات المصلحة العامة وبأن كل ثورة أو حركة عصيان على النظام القائم بالسعودية نستنكره ونعتبره خيانة وطنية تستوجب العقاب الصارم وبأن صداقاتنا لحديثة الخريشي ولغيره من شيوخ العشائر الأردنية لا تعني تحالفاً مقصود به مناهضة الأسرة السعودية. ولما باءت جهودنا تلك بالفشل وظل الشك بأمرنا يساور المراجع العليا قررنا إيفاد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك عبد العزيز وإعطائه الأدلة الثابتة على حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وأدبه، فحاول الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطات السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة انه من الأشخاص غير المرغوب بهم فأخذ يتصل عندئذ بالزعماء المصريين شارحاً لهم أحوالنا السيئة بوادي السرحان والأوضاع المؤسفة التي آل إليها أمرنا هناك وكان الصحفيان تيسير ذبيان وعباس المصفي يرافقانه في تنقلاته بين القاهرة والإسكندرية فقابل بالقاهرة مصطفى النحاس باشا واحمد زكي باشا ومحمد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء احمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف الدروز بها في قصيدته الشهيرة التي نظمها في أعقاب ضرب الفرنسيين لمدينة دمشق عام 1925.

احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937
احتفالات دمشق بالعودة المظفرة للثوار من المنفى في العام 1937

“خرجت النساء وبعضهن يحمل السكاكين والخناجر بقصد اإارة الحماسة في نفوس المقاتلين حتى الأطفال دون الرابع عشرة إستنفروا وتهيــّـأوا لقذف أنفسهم في أتون المعركة”

سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان
سلطان ورفاقه في خيمة في وادي السرحان

عبارات تقدير من أمير الشعراء
فأجابه أمير الشعراء قائلاً: يستحق الدروز المدافعون عن وطنهم وشرف أمتهم أن يهتم بهم الأدباء والمؤرخون وان يخلّد الشعراء ذكرى أعمالهم المجيدة.
وفي الإسكندرية قابل الأمير عمر طوسون وحاول إقناعه بتحويل التبرعات التي جمعت بمصر بإسم ثورة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي إلى أطفال المجاهدين بوادي السرحان فلم يستجب لطلبه. وقد حاولنا في تلك الأثناء أيضاً أن نتصل بفؤاد حمزة كتابة ليبذل ما في وسعه من جهود لدى الحكومة السعودية في سبيل تبديد تلك التهم والشكوك التي كانت تحوم حولنا وتسبب لنا المتاعب المشار إليها فأجابنا بكتابه هذا نصه:
تحية وتكريماً وبعد, فقد تشرفت بكتابكم وسعيت بواسطة بعض رجال جلالته بما كلفتموني به ولي الرجاء بأن تجاب رغائبكم وقد فهمت أن سبب هذا الأمر هو خطيئات وقعت من بعض أناس هناك أساءت لجلالته فالأمل أن لا يصدر من احد ما يعكر الخاطر وأرى انه من اللائق إجراء ما يلزم لمقابلة أو مراسلة جلالته لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب عطفه ويمكنكم تأمين الاتصالات التي كان يوسف العيسمي قد قام بها في مصر، فقد رأينا أن ينضم إثر عودته إلى أخي زيد وعلي عبيد اللذين أنطنا بهما مهمة الإتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبغيرهم من الشخصيات العربية التي كانت تعمل في نطاق المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا جميعاً على إيجاد حل مناسب للازمة التي كانت تواجهنا نحفظ به كرامتنا ويجنبنا الصدام مع أخواننا وبني قومنا في السعودية.
وفي أعقاب ذلك سافر شكري القوتلي على متن طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطاءنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ثم أخذت البرقيات تتوارد على العاهل السعودي من سوريا وبعض البلدان العربية دعماً لوساطة القوتلي كان في جملتها برقية من هاشم الأتاسي جاء فيها ما خلاصته ومؤداه:
إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى ورفاقه المجاهدين بالحسنى لمن الواجبات التي تمليها علينا روابطنا الدينية والقومية نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وان تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة.
لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك مما ساعدنا على الاستقرار.

احراق الفرنسيين مزرعة الشوف

صفحة من النضال ضد الإستعمار الفرنسي

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف
وتهجير أهاليها إلى جبل العرب

إن تاريخ المناطق والقرى والفئات والأعلام في أي بلد جزء من تاريخه العام، ومكمّل له لا متعارض معه. وبناءً على ذلك، فإن حادثة إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف وتهجيرهم لأهاليها في تشرين الأول 1919، هي محطة بارزة من تاريخ هذه البلدة وجزء من تاريخ المقاومة في سورية ولبنان للإنتداب الفرنسي.
وبما أن الحادثة المذكورة لم تكن معزولة عن الوضع السياسي والعسكري العام، الذي أعقب جلاء العثمانيين عن بلادنا في سنة 1918، وحلول البريطانيين والفرنسيين مكانهم، فلا بدَّ من التكلّم عن ذلك للإضاءة على الحادثة، ووضعها في السياق التاريخي الصحيح.

من الحكم العثماني إلى الحكم الفرنسي
إنتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، وإنسحاب جيوشها من بلاد العرب في أيلول 1918 بعد أكثر من 400 سنة على فتح العثمانيين لها في سنة 1516، وبعد تاريخ طويل حافل بالمآسي والنكبات والمظالم والقتل والتشريد، وأخذ الشبان بالقوة للخدمة العسكرية الإلزامية، ولخوض الحروب في الأماكن البعيدة.
وتنفّس العرب الصعداء لإنزياح كابوس ثقيل عنهم، وأملوا بأيام أفضل، وبإستقلال في تدبير شؤونهم، لطالما طمحوا إليه، وهنّأ بعضهم بعضاً بزوال حكم مستبد، لطالما تمنّوا زواله. لكن الكثيرين من الخبيرين في الشؤون السياسية، والمطّلعين على القضايا الدولية وما كان يخطّط للمناطق العربية والإسلامية، لم يجاروا المتفائلين بالمستقبل والفرحين بهزيمة الدولة العثمانية، وكان منهم أمين بك آل ناصر الدين الذي قال لمن زاروه فرحين، مهنّئين إياه بالتطوّر الحاصل: «لا تفرحوا. ستترحّمون على الدولة العثمانية. وستبكون دماً». كما كان الأمير شكيب أرسلان قد سبق الجميع في زمنه لهذا الرأي، ومن أشد مناصري الدولة العثمانية، لأنها، في رأيه، الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تزال مستقلة، وصامدة في وجه الغرب الإستعماري، ولأنه كان على علم بمخطّطات الحلفاء، ومطامعهم في الدول العربية والإسلامية.
صحّ ما توقّعه المترحّمون على الدولة العثمانية، والمتشائمون مما سيأتي، إذ فشل رهان العرب على الحلفاء، وندموا على الوثوق بهم، لأن الدولة العربية المنشودة التي وعدوهم بها مقابل مساعدتهم وثورتهم على الدولة العثمانية، التي ساهمت في هزيمتها، لم تتحقق، بل تحقق بدلاً منها تقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا تنفيذاً لإتفاقية «سايكس- بيكو» المعقودة بينهما، كما بدأ تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبناءً على ذلك باتت بعض الولايات العربية التي كانت مفصولة عن بعضها في العهد العثماني بحدود إدارية، دولاً مستعمَرة بإسم «الإنتداب»، مفصولة عن بعضها بحدود سياسية. وهذه الدول هي العراق وشرق الأردن وفلسطين الموضوعة تحت الإنتداب البريطاني، ولبنان وسورية الموضوعان تحت الإنتداب الفرنسي، حتى إن الفرنسيين، وإمعاناً منهم في سياسة التجزئة الإستعمارية، قسّموا سورية نفسها على أساس مذهبي، إلى أربع دويلات، هي دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة بلاد العلويين، ودولة جبل الدروز، إضافة إلى لواء الإسكندرونة، وقد فعلوا ذلك من أجل إضعاف السكان، ولكي يسهل عليهم حكمهم، ويُظهروا أنفسهم حماة للأقليات.
كان من الطبيعي أن يرفض السوريون واللبنانيون الوجود الفرنسي بصيغة الإحتلال أو بصيغة الإنتداب، وأن يقاوموه بالأساليب السياسية، وأن تتوالى مقاومتهم العسكرية له فصولاً من الثورات والإنتفاضات، ومنها ثورة الدنادشة في تل كلخ وحمص وشمال البقاع، والثورة في جبل عامل، وثورة الشيخ صالح العلي في بلاد العلويين، وثورة صبحي بركات في لواء الإسكندرونة، وثورة رمضان شلاش في دير الزور، وثورة إبراهيم هنانو في شمال سورية، وثورة سلطان باشا الأطرش الأولى في جبل العرب، والثورة السورية الكبرى التي أعلنها وقادها سلطان باشا، علاوة على ما لا يحصى من الحوادث والإضطرابات التي كان من الممكن أن تتحوّل إلى إنتفاضات وثورات لو قُدّر لها من يقودها ويرعاها ويدعمها من الزعماء السياسيين الفعّالين.

بداية حادثة مزرعة الشوف
بعد دخول جيوش الحلفاء البريطانيين والفرنسيين إلى بلاد الشام، قسّمها القائد العام لهذه الجيوش، الجنرال البريطاني اللنبي، إلى ثلاث مناطق، هي «المنطقة الشرقية» وتتبع للحكومة العربية التي أنشأها الشريف فيصل بن الحسين في دمشق، في تشرين الأول 1918، واستمرت حتى تموز 1920، و«المنطقة الجنوبية» وتتبع للبريطانيين، و«المنطقة الغربية» وتتبع للفرنسيين، وهي تشمل الأجزاء الغربية من لبنان وسورية، بحيث كانت الأقسام الداخلية من سورية، وأقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، التي ضّمت إلى جبل لبنان أو«لبنان الصغير» سنة 1920، تابعة للحكومة العربية.
وتبعاً لذلك، كان الوجود الفرنسي في «المنطقة الغربية» إحتلالاً بالمعنى الدقيق، لأنه لم تكن عصبة الأمم قد وافقت بعد على الإنتداب الفرنسي على سورية ولبنان، والذي هو في الحقيقة إحتلال أيضاً، وإستعمار تحت عنوان الإرشاد والتمدين.
تحوّلت «المنطقة الغربية» إلى مسرح صراع بين الحكومة العربية والفرنسيين، حيث كانت العصابات الوطنية تهاجم مراكز الفرنسيين وتهاجم أعوانهم، معبّرة بأصوات البنادق عن رفض الإحتلال الفرنسي، فيما كانت المعارضة السياسية تعبّر عنه بالمواقف والكلمات وأمام لجنة الإستفتاء الإميركية. وفي المقابل شكّل الفرنسيون عصابات من الموالين لهم، وخصوصاً من المسيحيين في لبنان، لتكون مع العناصر الأمنية المحلية، العاملة بإمرتهم، جيشاً رديفاً لجيشهم، يساعدهم في تثبيت وجودهم، وفي إشغال المعارضين لهم بمشاكل داخلية مع مواطنيهم، ما أدّى إلى نشوء حوادث طائفية ليست صنيعة الجهل والتعصّب، وسائر عوامل الإنقسام الداخلي، بقدر ما هي صنيعة الفرنسيين الذين أوجدوها لإضعاف السكان، وتفريق صفوفهم، وإظهار حاجتهم إلى الوصاية الأجنبية، وحاجة الأقليات إلى الحماية. لقد عمّدوا في القرن العشرين وجودهم في لبنان وسورية بدماء أهلهما، كما عمّدوا نفوذهم بهذه الدماء في منتصف القرن التاسع عشر من خلال المساهمة الكبيرة في خلق الفتن الطائفية، وفي هذا دليل على أن الحوادث الطائفية ما كانت لتحصل في بلادنا لولا التدخل الأجنبي.
قامت إحدى العصابات، التي أوجدها الفرنسيون، بقتل أحمد مصطفى أبو شقرا من عماطور، وأمين قاسم البعيني من مزرعة الشوف، فكان ذلك بداية حادثة مزرعة الشوف. كان هذان الرجلان وكيلين على أملاك فؤاد بك جنبلاط في مزرعتي «ماروس»
و«كفرفالوس»، الواقعتين في إقليم التفاح في قضاء جزّين، وكانا في أواخر أيلول 1919 قد أنهيا مهمة بيع محصول التبغ فيهما، فعادا منهما على طريق المشاة المعهودة، التي تمرّ في مرج بسري، وما أن إجتازا قرية بسري حتى إعترضهما كمين مسلّح معدٌّ لهما من العصابة المذكورة، وباغتهما رجالها بإطلاق النار، وقتلوهما، ثمّ سلبوا ما معهما من المال، ومقداره يقارب خمسمائة ليرة ذهبية هي ثمن التبغ المباع.
إنها جريمة قتل تحصل في وضح النهار، في حين كانت أكثرية الإعتداءات والجرائم العادية تحصل تحت جنح الظلام، وفي الأماكن المنعزلة، وإذا حصلت على الطرقات الرئيسية والمعابر، فإن القائمين بها كانوا يخفون أحياناً كثيرة أنفسهم، أو يقنّعون وجوههم، بحيث ظل الكثيرون من المجرمين مجهولين. والصحف الصادرة آنذاك حافلة بأخبار الحوادث والإعتداءات التي يكثر فيها المتهمون، وتقل معرفة الفاعلين الحقيقيين.
كان من الممكن إعتبار ما جرى كسائر جرائم القتل التي تحصل في الشوف آنذاك في ظل الإحتلال الفرنسي، لو أنه غير متعلّق بعائلتين قويتين، ولو أنه ليس ذا خلفيات وأهداف سياسية، لذا بدأ يتفاعل منذ اليوم الأول لحصوله، ثم تأتّى عنه نتائج خطيرة بالنسبة إلى آل البعيني.
أحدثت الجريمة النكراء صدى كبيراً في جميع الأوساط، لأن المغدورين قُتلا إعتداءً وتعمّداً، ودون ذنب أو سبب، وقُتلا علناً في منطقة عملاء الفرنسيين فيها معروفون، ويعملون بتوجيه منهم، ولأنهما من عائلتين معدودتين، بحسب التعابير الشعبية، «من جمرات العيال»، وهما عند حنانيّا المنيّر (1756 -1823)، وعند ناصيف اليازجي (1800- 1871)، «من الطوائف المشهورة التي هي دون المشايخ، لهم أحزاب تنتمي إليهم وتعادي معهم وتحمل الدماء كما يحملونها». ومما يُذكر في هذا المجال أن أمين قاسم البعيني منع منذ بضع سنوات قوة من الدرك، يرأسها ضابط، من أخذ نزيل من آل عويدات لجأ إليه، وقد تجّرأ على ذلك لإستقوائه بقوة عصبية عائلته.
وكما كان الفرنسيون وراء الجريمة المذكورة بهدف تسعير نيران الحوادث الأهلية التي أوجدوها، كانوا أيضاً وراء تجهيل القائمين بها وحماتهم، وما كانت تعنيهم نتائج التحقيق، ولا أحكام المجلس العسكري المنحاز الذي أنشأوه. وقد اقتصرت جهودهم على نقل القتيلين إلى قريتيهما، واتخاذ إجراءات شكلية، ما أكد ضلوعهم في الجريمة، وأوحى أنهم يريدون كسر شوكة العصبيات الدرزية القوية من أجل إجبار الدروز الرافضين لوجودهم على القبول بهم، ومنهم فؤاد بك جنبلاط الذي طلب في مؤتمر عيناب الإنتداب البريطاني، وذلك عندما قدمت لجنة الإستفتاء (لجنة كنغ-كرين الأميركية) في تموز 1919 لإستفتاء السكان حول تقرير مصيرهم.
جاء في مذكّرات الضابط نعمان أبو شقرا، المعاصر للحدث، أن رئيس مجلس إدارة جبل لبنان، حبيب باشا السعد « لفت المسؤولين الفرنسيين إلى ضرورة الإسراع في إتخاذ التدابير الفعّالة لكشف مرتكبي الجريمة، لأن الأمر يتعلّق بسمعة عائلتين قويتين، ويمسُّ وضع فؤاد بك جنبلاط، فقاموا بعزل قائد درك جزّين، وأرسلوا محقّقين إلى قرية بسري برئاسة الشيخ سليم علم الدين مستشار محكمة التمييز». لكن معوّقات التحقيق لمعرفة الحقيقة كانت كثيرة. وفيما تعمّد الفرنسيون الإبطاء في هذه القضية، سارعوا إلى إتهام أشخاص من آل أبو شقرا وآل البعيني بأنهم مرتكبو بعض الجرائم في منطقتي جزّين وإقليم الخرّوب، منها جرائم ضد أعوانهم وأرسلوا قوة من الدرك للقبض عليهم. ولم يكن من الصعب عليهم توجيه هذا الإتهام إذ كان من السهل الزعم من قبل الفرنسيين أو بعض الناس أن آل أبو شقرا وآل البعيني لم يكونوا ليناموا على ضيم، وأن تلك الجرائم لا بدّ وأن تكون من قبيل الثأر لقتيليهم.
وهناك إعتبار آخر عند الفرنسيين بالنسبة إلى آل البعيني، جعلهم يتشدّدون إزاءهم كما سنرى، وهو أن المتهمين منهم كانوا من ضمن المجموعة البعينية التي وقفت إلى جانب محمود بك تقي الدين، المعارض للإنتداب الفرنسي، عندما إتهم بأنه وراء محاولة إغتيال المفوّض السامي جورج بيكو في بعقلين، أثناء زيارته لها في 25 تموز 1919، مع قائد الأسطول الفرنسي في السواحل السورية واللبنانية وبعض الضباط، بناءً على دعوة شيخ العقل حسين حماده. فقد حمى البعينيون داره، إذ دخلوا إليها على الرغم من الحصار المفروض عليها عندما طوّق الفرنسيون بعقلين وهدّدوا بقصفها بالمدافع وسجنوا حسبما يقول سعيد تقي الدين إبن محمود بك «نصف رجال البلدة وبعض النساء».

ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان
ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان

فشل «كبسة» الدرك لمزرعة الشوف ليل 28- 29 تشرين الأول 1919
علم آل أبو شقرا وآل البعيني أن قوتين من الدرك ستتوجّهان إلى عماطور ومزرعة الشوف للقبض على المتهمين، فقرّروا عدم تسليم أحد منهم لأن قضية مقتل وجيهيهم لم يُعرف عنها شيء وتكاد تُطمس، ولأنه ليس عندهم ثقة بعدالة المجلس العسكري ليسلّموا أبناءهم إليه، إذ كثيراً ما كان ينظر في القضايا بعين الإنحياز، لا بعين العدل، ويقسو في الأحكام على غير أنصار الفرنسيين، ولأن الكثيرين كانوا يُسجنون كوسيلة ضغط لتسليم المطلوبين، لكنهم قرّروا أيضاً عدم الإصطدام بالدرك، وتنحّي المطلوبين وأقربائهم عند قدوم هؤلاء لتنفيذ مهمتهم.
قُدّر لآل أبو شقرا تجنّب الصدام مع الدرك، أما آل البعيني فلم يقدّر لهم ذلك. كان منهم خمسة مطلوبين هم حسن شاهين، ونصرالله يوسف، وحسين فارس، ومحمد حسين سلمان، ويوسف علم الدين. وقد مكث هؤلاء وكثيرون من رجال آل البعيني ليل 28 – 29 تشرين الأول 1919، في المرتفع المشرف على البلدة يراقبون تحركات الدرك المرسلين إلى البلدة. لكن حسن شاهين عجّل بالعودة إلى منزله عند إنبلاج الفجر، على اعتقاد منه أن عناصر الدرك غادروا البلدة، فإذا بإثنين منهم كانا كامنين في بيت مهجور قريب، يفاجآنه ويلقيان القبض عليه، ويسيران به ممسكين بذراعيه فيما هو يمانع ويحاور ويداور محدثاً ضجة إنتهت إلى مسمع قريبته ومطلّقته زهيّة يوسف البعيني، فأسرعت وتقدّمت من الدركيين، وأمسكت بهما، فأربكتهما وشلّت حركتهما بفضل ما تمتلك من شجاعة وقوة جسدية، وبهذا ساعدته على الإفلات منهما، حتى إذا حّرر يديه إنتزع بندقية أحدهما، وهدّد الآخر بالقتل إن لم يسلّم بندقيته فسلّمها وإنسحب مع رفيقه. وحين حضر سائر عناصر الدرك مع زميليهم لاستعادة السلاح المنتزع، وجدوا أنفسهم أمام مسلّحين من آل البعيني، يهدّدونهم بإطلاق النار عليهم إن لم يتراجعوا، فآثروا الإنكفاء وعدم خوض معركة خاسرة.
في معرض حديثه عن هذا المشهد، وعما فعلته المرأة المذكورة، يقول محمود خليل صعب تحت عنوان «الحرب بين فرنسا وآل البعيني» ما يلي: «ومن المعروف عن أخواتنا البعينيات أنهن لسن أقل سطوة وبطشاً من أخواننا البعينيين، ولهن تاريخ مجيد في هذا المضمار، ومنهن كثيرات لا تزال تُروى عنهن قصص وحكايات كأنها من نسج الخيال».

هزيمة القوة المرسلة إلى مزرعة الشوف يوم 30 تشرين الأول 1919
كان ما جرى في مزرعة الشوف صباح 29 تشرين الأول 1919 خطيراً بالنسبة إلى الفرنسيين، وبات الأمر عندهم ذا شقين: أولهما القبض على المتهمين، وثانيهما، وهو الأهم، إعادة الهيبة المفقودة إلى السلطة وإلى رجال الدرك، وإعادة السلاح المأخوذ منهم. فسيّروا إلى مزرعة الشوف نهار 30 تشرين الأول قوة أكبر من الأولى، واثقين من نجاحها، ومن أنها لن تصادف أية مقاومة قياساً إلى الحملات التي كانوا يرسلونها إلى القرى، مزوّدين حملتهم بصلاحيات أخذ النساء والشيوخ أسرى في حال لم يجرِ تسليم المطلوبين وإعادة السلاح.
وفي غياب المفاوضات، وإنعدام الوساطات، لم يجد آل البعيني أمامهم سوى المقاومة، وخصوصاً بعد نشوة الإنتصار الذي حققوه، وبعد تأكدهم من أن الفرنسيين سيتشدّدون في تدابيرهم، وقد لا يكتفون بطلباتهم السابقة إذ سيستدعون للتحقيق كل من شاهد ما جرى صباح 29 تشرين الأول وساهم فيه. لذا استعدوا للقتال وانتشروا في المرتفعات وعلى سطوح البيوت المواجهة للطريق الآتية من بيت الدين، والتي تمر بقرية الكحلونية المجاورة. وحين بلغت القوة المرسلة إليهم مدخل الكحلونية الشمالي أمطروها بوابل من رصاص بنادقهم وبدأوا هجومهم عليها، فذُعرت من هول الصدمة غير المتوقّعة، وتضعضع أفرادها، وانهزموا بشكل فوضوي عائدين إلى بيت الدين، مخلّفين في ساحة القتال حصانين وذخائر غنيمةً للمسلّحين.

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف في 31 تشرين الأول 1919
إهتزت هيبة السلطة الفرنسية مرتين، ولم يعد مقبولاً عندها أن تهتز لمرة ثالثة في نفس المكان ومع نفس الجماعة، بل إنها رأت من الضروري التعجيل في إعادة الهيبة المفقودة، وفي تأديب الفئة العاصية التي تتحدّاها، كي لا تتجرّأ أية فئة على الإقتداء بها. لذا استقدم الحاكم العسكري التعزيزات إلى بيت الدين، وأرسل على عجل حملة ثالثة من كافة الدركيين الذين كانوا بحالة الجهوز، مدعومين بسرية من فوج المشاة الفرنسي، ومزوّدين بالمدافع والرشاشات.
علم آل البعيني من أصدقاء لهم بالإستعدادات الفرنسية، وبالحملة الكبيرة المرسلة إليهم، فكانوا أمام خيارات ثلاثة: إما الإستسلام، وهذا لم يروه ملائماً بعد رفض تسليم المطلوبين منهم، وبعد البطولات التي أبدوها في مقاومة القوتين الأوليين، وإما خوض معركة غير متكافئة، وهذا الخيار إستبعدوه لأن فيه الكثير من الخسائر والقتل وخراب البيوت، وخصوصاً أنهم وحدهم في المعركة، دون دعم سياسي، ودون توسّط أية جهة، ودون مساعدة ميدانية، إذ إن حمّالي الدم معهم وشركاءهم في المصيبة آل أبو شقرا، وهم أيضاً أقرب الناس إليهم جغرافياً، لم يحرّكوا ساكناً، ولم يساعدوهم كما كان يجري بينهم في إطار التعاون المتبادل، ذلك أنه ليس من مصلحتهم لفت أنظار السلطة إليهم، وتأكيد الإتهامات الموجّهة ضدهم بعد نجاحهم في تجنّب الموضوع. وكما إن أهالي غريفة، وخصوصاً آل حرب حمّالي الدم مع آل البعيني والقريبين إليهم أيضاً جغرافياً، هُدِّدوا من قبل السلطة كما هُدِّد سواهم، فلم يأتوا بأية حركة. أما الخيار الثالث فهو الإنسحاب من البلدة، والنزوح عن المنطقة، مع تعويق زحف الحملة الفرنسية لإنجاز هذين الأمرين، وهذا مع مرارته وسيئاته وعذاباته أهون الخيارات وأفضلها، صوناً للكرامة، وحجباً للدماء، وكي لا تصيب الأضرار سائر أبناء مزرعة الشوف.
ومع أن الفرنسيين، علموا بواسطة مخبريهم بنزوح معظم أهالي الحي الدرزي من مزرعة الشوف، أخذوا بإطلاق المدافع على التلال المحيطة بها، لإسكات طلقات النيران التي كان المسلحون يشغلونهم بها، ولأجل إلقاء الرعب في نفوس اهاليها و أهالي الجوار ومن ثم دخلوا مزرعة الشوف، واستعانوا بأدلاّء ليعرفوا ما يريدون نهبه وإحراقه من بيوتها، فأحرقوا جميع بيوت آل البعيني، وبيوتاً أطلقت من على سطوحها النيران ولأصحابها علاقة نسب بآل البعيني، هي بيت يونس علي أبو كروم وبيت المختار شاهين محمد أبو كروم، و «دار الحارة» التي منها مجاهدون ضد الإنتداب الفرنسي على رأسهم الملازم حسيب ذبيان.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الجنود حاولوا عبثاً إحراق خلوة الوليّة الست فاخرة البعيني (1764 – 1849) إذ كانت نار الأخشاب والأغصان المبلّلة بالكاز والمشتعلة، تنطفئ حين تلامس الجدران والسقف ما جعلهم أخيراً يتوقفون عن إحراقها. لكنهم أحرقوا البيت الذي أقامت فيه، والملاصق لبيت حفيد شقيقتها يوسف علم الدين البعيني الذي كان أحد المطلوبين الخمسة، فأتت النيران على أخشابه، ولم يبقَ من محتوياته بعد نهبها إلا عمود خشبي كانت تتكئ عليه الست فاخرة، قائم وسط الغرفة وقد احتفظ به يوسف علم الدين، وتركه كذكرى في إحدى غرف بيته للتبرّك. فهذه الوليّة لم يأت مثلها، حسب أقوال الشيوخ التقاة والتقات، منذ مئات السنين.
ربط المؤرّخ أمين سعيد بين حادثة مزرعة الشوف ومحاولة إغتيال المفوض السامي جورج بيكو في بعقلين، فقال تحت عنوان «مزرعة الشوف» ما يلي: سيّر الفرنسيون قوات كبيرة للفتك بالقرى التي ظنوا أن لها صلة بمطلقي الرصاص [على المفوّض السامي]، فنكّلوا بسكانها تنكيلاً، ففرّ الشبان إلى رؤوس الجبال، وألّفوا عصابات قوية جعلت دأبها شن الغارات وإزعاج السكان والحكومة.
ولما ضاق الفرنسيون ذرعاً بأعمال عصابة الشوف عمدوا إلى الحرق والقتل. فسيّروا في أوائل شهر نوفمبر قوة عسكرية كبيرة أحاطت بالحي الدرزي من مزرعة الشوف، وضربت حوله نطاقاً، ثم بدأت المدافع بإطلاق نيرانها على البيوت. كما بدأ الجند بقذف القنابل الملتهبة فأحرقوا 25 منزلاً وقتلوا نحو 40 من النساء والرجال، فهام الدروز الباقون وعددهم لا يقل عن المائتين بين نساء ورجال وأطفال وشيوخ وعجزة على وجوههم فبلغوا دمشق مساء الخميس 6 نوفمبر فضجّت حزناً وأسى لما أصابهم».
لقد قلّل المؤرّخ أمين سعيد من عدد البيوت المحروقة، ومن عدد النازحين عن القرية، وزاد كثيراً من عدد القتلى، لأنه كتب عن بعد، لكنه قارب الحقيقة وصوّر بدقة الأثر الذي أحدثه وصول النازحين إلى دمشق، ومعرفة سكانها لمأساتهم.
وجاء في الصفحة 243 من التاريخ المدرسي في سورية لطلاب الصف الثالث ثانوي – الفرع الأدبي – الطبعة الرابعة سنة 1961، في معرض ذكر الثورات على الإحتلال الفرنسي، ما يلي:
«حادثة مزرعة الشوف في لبنان حيث هاجم الدروز المفوّض السامي الفرنسي وقائد الأسطول الفرنسي وأطلقوا عليهما النار فأحاط الجيش بالمزرعة وأحرق بيوتها وقتل سكانها عام 1919».

فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي
فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي

حادثة مزرعة الشوف في بلاغات الفرنسيين ورسائلهم
أصدر الحاكم العسكري الفرنسي بلاغاً بعد إحراق مزرعة الشوف، وتهجير أهلها، يذكر فيه «أن كل قرية يبدو فيها حركة عداء تجاه الحكومة يصيبها ما أصاب مزرعة الشوف». وهذا التهديد ساهم مع الإجراءات التي قام بها الفرنسيون في إسكات المعترضين والمستائين والناقمين على الفرنسيين، والمتعاطفين مع أبناء مزرعة الشوف منذ مقتل أحد أبنائها.
وصرّح أحد المسؤولين الفرنسيين حول أخذ الشيوخ والعجّز والنساء، الذين لم ينزحوا عن مزرعة الشوف مع غيرهم، وعن وضعهم في سجن بيت الدين، «بأن بيوت هؤلاء لم تعد صالحة للسكن».
وجاء في تقارير الفرنسيين أن ما جرى في مزرعة الشوف هو حركة عصيان قامت بإيعاز من الحكومة العربية في دمشق، فهو يقول ما يلي: «إن الفرنسيين هدموا منازل الثائرين، وأوقفوا العديد من المتهمين، وأنه تبيّن للحاكم العسكري وبصورة واضحة أن هذه الأعمال المخلّة بالأمن لم تكن سوى حركة عصيان نظّمها بعض زعماء الدروز في حوران بالايعاز من حكومة دمشق».
وهناك أربع رسائل من وكيل حاكم لبنان إلى شيخ العقل حسين طليع، تضيء على موقف الشيخ، وعلى موقف الفرنسيين منه ومما جرى في الشوف آنذاك، وتحديداً في مزرعة الشوف.
في رسالته الأولى إلى شيخ العقل حسين طليع، وهي بتاريخ 6 تشرين الأول 1919 يطلب منه وكيل حاكم لبنان حضور إجتماع أعيان ووجهاء الشوف في بيت الدين في 14 تشرين الأول، لبحث الحوادث التي حصلت في الأشهر الأخيرة.
وفي رسالته الثانية إليه، وهي بتاريخ 31 تشرين الأول، تاريخ إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف، يذكر فيها ما جرى في هذا اليوم، فيقول: إن أهالي القرية المذكورة قد أطلقوا عيارات نارية على المفرزة الفرنساوية المتوجّهة مع الأنفار الجاندرمة لإلقاء القبض على الأشقياء ويضيف قائلاً: «أكثر الأشقياء وعائلة البعيني خاصة خاضعة لنفوذكم. أتأمل منكم أن تبذلوا هذه [هذا] النفوذ لحفظ الأمن العام وإني أجعلكم مسؤولاً شخصياً لكل ما يحصل. وإذا سمع طلقات قواس صدرت من جهتهم فألتزم أن ألقي القبض حالاً عليكم وأحاكمكم أمام ديوان الحرب العرفي. لكن أتأمل من سطوتكم العالية أن تعاونوا الحكومة كما فعلتم الى حد الآن لحفظ الأمن».
ويقول في نهاية الرسالة: «أما بخصوص الأسراء [الأسرى] الذين أخذناهم فإننا مستعدّون أن نحكم عليهم بالإعدام إذا كانت أهالي المزرعة لم تعد إلى السكينة».
إن الرسالة الثانية، المرسلة من وكيل الحاكم الإداري إلى شيخ العقل حسين طليع، تتضّمن في ما تتضمّنه نقطتين بارزتين أولاهما تحميل الشيخ حسين المسؤولية واعتبار الأشقياء وعائلة البعيني خاضعين لنفوذه إعتماداً على أنه شيخ عقل الفريق الجنبلاطي إلى جانب شيخ العقل عن الفريق اليزبكي حسين حماده، وأن آل البعيني جنبلاطيون. أما كلمة «نفوذ» الشيخ حسين طليع التي وردت في الرسالة، فهي لا تعني سوى نفوذ معنوي لأنه رجل دين إتصف بالورع والتقوى. وثانيهما لغة التهديد والوعيد التي اعتمدها وكيل الحاكم الإداري في مخاطبة الشيخ حسين، وفي طلب مساعدة الفرنسيين في مسألة مزرعة الشوف، فهو يهدّد بإحالته إلى المجلس العسكري ومحاكمته، وبالحكم بالإعدام على الأسرى في المزرعة إذا لم يلتزم أهلها السكينة. وهذه اللغة الإستكبارية والإستقوائية إن دلّت على شيء، فهي تدلُّ على الأسلوب الذي إِعتمده الفرنسيون في التعاطي مع السوريين واللبنانيين، والذي كان أحد أسباب الثورات عليهم.
والرسالة الثالثة، المرسلة من وكيل حاكم لبنان إلى الشيخ حسين طليع، هي بتاريخ 3 تشرين الثاني 1919، وفيها ما يلي: «أن يتعهّد أهالي مزرعة الشوف أن لا يلفّوا الأشقياء ولا عساكر الشريف الذي ليس مصدّق على مأذونيتهم من حاكم لبنان» لكي يسمح للمهجّرين من مزرعة الشوف بالعودة إليها.
ما جاء في هذه الرسالة يعني أن مزرعة الشوف تستضيف وتحمي «الأشقياء» الذين هم أفراد العصابات الوطنية التي تقاتل الفرنسيين، ويعني أيضاً أن من مزرعة الشوف «عساكر» في جيش الشريف فيصل يعرف الفرنسيون أسماءهم، ويشترطون التصديق على مأذونياتهم ليتأكدوا من أن وجودهم في المزرعة هو لرؤية أهلهم، لا لأداء مهمات قتالية كانت حكومة فيصل تعهد بها أحياناً للفرق العسكرية التابعة لها. وبالفعل كان هناك خمسة من أبناء مزرعة الشوف في جيش الحكومة العربية، هم الملازم حسيب ذبيان، وأقرباؤه من عائلته: سلمان محمد وأخوه نجيب، ومصطفى حسن، وشاهين محمد، وكانوا جميعاً في مجموعة القائد فؤاد سليم الذي هو أحد أهم ضبّاط الحكومة العربية.

سجن نساء مزرعة الشوف
كان من جملة الأسرى الذين إحتجزهم الفرنسيون نساء بعينيات ووضعن في سجن بيت الدين. وسجن النساء وسيلة من وسائل الضغط التي إعتمدوها بشكل مكثّف ولم تكن معتمدة من قبل. فكثيراً ما عمدوا إلى سجن نساء المطلوبين، وأحياناً نساء غيرهم، لإجبارهم على التسليم. وكثيراً ما إنتقموا من السكان والمعارضين لهم، ومن الثائرين عليهم، بحجز نسائهم. لقد سجنوا، على سبيل المثال، في حادثة مماثلة تقريباً لحادثة مزرعة الشوف، ومتزامنة معها، زوجتي المطلوبين، علي يوسف طربيه وعلي حسين أبو إسماعيل من ديربابا، وأبقوهما مدة في سجن بيت الدين ثم نقلوهما إلى سجن عاليه، وذلك من أجل إجبار زوجيهما على التسليم. وهذا كان أهم سبب لمهاجمة فندي أبو ياغي زهر الدين ومجموعة من الرجال معه منزل حبيب باشا السعد في عين تراز ليل 6 تشرين الأول 1919، بقصد إغتياله لتعاونه مع الفرنسيين. ولما كان غائباً عن دارته وجّه فندي إنذاراً إليه عبر زوجته «بأن يطلق سراح النساء الدرزيات من السجون، وأن يكفَّ عن ممارسة الأعمال السيئة بتوجيه فرنسي وإذا لم يستجب لهذا الإنذار سيأخذون زوجته في المرة القادمة».
جاء في إحدى الصحف أن سيادة المطران أوغسطين البستاني وسيادة شيخ عقل الطائفة الدرزية حسين طليع توسّطا لدى الحكومة لمعاملة أهالي مزرعة الشوف بالرأفة وإطلاق سراح الموقوفين من النساء والأولاد وتكفّلا بإقناع الأهالي على ردّ ما سلبوه من أسلحة الجنود اللبنانية «فرأت الحكومة أن تستجيب لطلب الوسيطين وتعامل الأهالي بالرفق». إذاً كان اطلاق سراح النساء والأولاد مرتبطاً بإعادة آل البعيني أسلحة رجال الدرك، ولكن من يُطلب منهم إعادة هذه الأسلحة باتوا مهجّرين من بلدتهم، وباتوا متضرّرين يجب التعويض عليهم لبناء بيوتهم المهدّمة والمحترقة.
في الذاكرة الشعبية لأهالي مزرعة الشوف مأثرة المطران أوغسطين البستاني لإستضافته نسائهم، وهي من جملة مآثره المحفوظة في ذاكرة الدروز والنصارى الشوفيين. لقد طلب من الحاكم الفرنسي إستضافة النساء فنزل الحاكم عند طلبه «وظللن في ضيافته مدة أربعة أيام إلى أن نجح مسعاه في إخلاء سبيلهن».

بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها
بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها

النزوح الجماعي من مزرعة الشوف
قبل أن يصل الجنود الفرنسيون إلى مزرعة الشوف، ويبدأون بإحراق بيوتها. كان آل البعيني قد اتخذوا قرار النزوح الجماعي، فأخذوا ما خفَّ وزناً وغلا ثمناً وبعض الضروريات، وأخذوا معهم أولادهم بمن فيهم الصغار، أما عددهم، فهو الأكثرية الساحقة من آل البعيني الذين كانوا آنذاك حوالي أربعمائة نسمة، ما يعني حكماً أن النازحين حوالي الثلاثمائة والخمسين، إذا استثنينا النساء والشيوخ الذين سُجنوا في بيت الدين، والشيخ التقي أبا حسين محمود علي الذي نزل مع عائلته ضيفاً عند صديقه الشيخ أبي أمين أحمد عوده في باتر.
كانت وجهة النازحين جبل العرب، وقد ساروا في الطريق الرئيسة المعتادة، وهي طريق ثغره مرستي – وادي التيم- دمشق وتجنّبوا المرور في أية قرية شوفية ليوفّروا على أهاليها مضايقات الفرنسيين. وبعد أن اجتازوا الجبل وأصبحوا في البقاع باتوا في ما كان يسمى «المنطقة الشرقية» حسب تقسيمات الجنرال اللنبي، وهي كانت آنذاك لا تزال تابعة للحكومة العربية في دمشق. رحّب بهم وأكرمهم آل جمال في المحيدثة من وادي التيم، وحلّوا على الرحب والسعة في ضيافة نسيب بك الداود في حلوه. ومنها ساروا إلى دمشق حيث نزلوا في مجلس «حارة الدروز». وقابل وفد منهم رئيس الحكومة العربية رضا باشا الركابي، والشريف زيد، شقيق الشريف فيصل الذي كان آنذاك في أوروبا، فعّين لهم الشريف «لوكندات» للمنامة وللأكل على نفقة الحكومة.
إتخذ النازحون من دمشق محطة مؤقتة في طريقهم إلى جبل العرب، فغادروها إليه حيث لهم أقرباء فيه بدأوا بتوطّنه منذ سنة 1825 حين نُكبوا بعد هزيمة الشيخ بشير جنبلاط أمام الأمير بشير الشهابي الثاني، إذ كانوا من أنصار الشيخ. إلا أنه ظل منهم في دمشق بضعة شباب متحمّسين إلتحقوا بقوات الحكومة العربية، منهم نصرالله يوسف الذي كان من بين أفراد مجموعة فؤاد سليم حين حضرت ليل 25 كانون الثاني 1920 لنسف جسر الخردلي على نهر الليطاني.
ومما يذكر في هذا المجال أن فؤاد بك جنبلاط، الذي تضرّر كثيراً من مقتل وكيليه، ومن نزوح أنصاره آل البعيني إلى جبل العرب، والذي كان مستاءً من تصرفات الفرنسيين في منطقته، عزم على ترك جبل لبنان، والإلتحاق بالحكومة العربية في دمشق، لكنه عاد وإقتنع بنصيحة المخلصين من أن بقاءه يفيد منطقته أكثر بكثير من تركها. ومما يجدر ذكره هو أنه كان هناك إرتياح في بعض الأوساط لنزوح أهالي مزرعة الشوف، اشارت إليه جريدة «الصفاء» فقالت: «عندما وقعت حادثة مزرعة الشوف أخذ البعض يطبّل ويزمّر قائلاً: إن الدروز مقلقون يجب طردهم من لبنان».

 

جانب من عماطور اليوم_
جانب من عماطور اليوم_

 

صدى حادثة مزرعة الشوف عند أعيان جبل العرب وفي «المنطقة الشرقية»
عندما وصل النازحون إلى دمشق لم يكن فيها احد من كبار أعيان جبل العرب، فأُعلموا بقدومهم، فحضر شيخ مشايخ الجبل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش. ويذكر الشيخ وهبي طليع في مذكراته -وهو شاهد عيان- أن هؤلاء الأعيان الثلاثة قابلوا النازحين في مجلس الدروز في الشام، وطيّبوا خاطرهم، ثم انتقلوا إلى مقر الشريف زيد، ومنه إلى مقر المعتمد الإنكليزي المايجور كلايتون، ورئيس الإستخبارات المايجور دون، فاحتجوا لديهم بقوة على ما فعله الفرنسيون في مزرعة الشوف، ومن ثم إنتقلوا إلى مقر المعتمد الفرنسي الكولونيل كوس، واستنكروا بشدة ما قامت به السلطة الفرنسية في مزرعة الشوف. ويضيف الشيخ وهبي طليع أن نسيب بك قال للكولونيل ما معناه: أنتم تعدّوننا متخلّفين، ولكننا في الحرب الكونية وقفنا بوجه الأتراك، ومنعنا إحتكار الحنطة، وأطعمنا اللاجئين إلى الجبل الذي وفّر الأمان لكل من دخله، وخدمنا الإنسانية. وأنتم تقولون ويقال عنكم إنكم أم المدنية والحرية، لكنكم عملتم بعكس الإثنتين وتصرّفتم بوحشية فضربتم بالمدافع مزرعة الشوف، وأحرقتم البيوت، وشتتم النساء والأولاد».
هاج الرأي العام في «المنطقة الشرقية» حيث كان التأييد عارماً للحكومة العربية، والنقمة طاغية على الفرنسيين. فأبرق أهالي حاصبيا مستنكرين. وأبرق محمود الفاعور، وشيوخ القبائل والقرى وأعيان الدروز في الجولان إلى الحاكم العسكري الفرنسي في لبنان، محتجين «على الفظائع والجنايات التي تخالف مبادئ الحلفاء السامية، ولا تتفق مع المدنية الحاضرة بوجه من الوجوه». وأرسل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش بإسم زعماء دروز جبل العرب برقية إحتجاج إلى الشريف زيد المتسلم للشؤون العامة في غياب أخيه فيصل، وإلى الحاكم العسكري العام، وإلى معتمدي إنكلترا وفرنسا، هذا نصها:
«دروز حوران [جبل العرب] يحتجون بكل ما لديهم على المعاملة الجائرة بشأن إخوانهم دروز لبنان. تخريب مزرعة الشوف هاج الدروز هنا الذين تجمهروا لمعاونة إخوانهم. أوقفناهم مؤقتاً حقناً للدماء، ومنعاً لوقوع مجازر بشرية. إن كل نقطة دم تُهرق من درزي لبناني تهيج بها عواطف ثمانين ألف درزي حوراني، ودروز حوران لا يتخلّون عن أقاربهم دروز لبنان ولو أدّى ذلك إلى إفنائهم. نرجو إستعمال نفوذكم لمنع الظلم عن الدروز هناك، وإلا نكون غير مسؤولين عن أية نتيجة تحصل».

العفو عن أهالي مزرعة الشوف
منذ الأيام الأولى لنزوح أهالي مزرعة الشوف بدأت المساعي والوساطات للعفو عنهم، وقبول الفرنسيين بعودتهم. وفي البداية إشترط وكيل الحاكم الإداري شروطاً قاسية، منها تعهّدهم بإيجاد الراحة العمومية في بلدتهم، وضمان حياة عساكر الدولة عند قدومهم إليها، وإعادة الخرطوش والأسلحة التي كسبوها من أفراد الدرك مع خمسين بندقية حربية جديدة. ثم ألغى وكيل الحاكم هذه الشروط، وإعتبر ما أصاب أهالي مزرعة الشوف من هدم بيوتهم وخسارة محتوياتها، عقاباً لهم. وبعد ذلك تطوّر الأمر إلى العفو عنهم دون شروط.
كان من مصلحة الفرنسيين كسب السكان عموماً، والدروز تحديداً، في مرحلة بحث عصبة الأمم لمسألة الإنتداب، ومرحلة تطلّعهم إلى إحتلال «المنطقة الشرقية» وتثبيت أقدامهم في الشرق. وهذا كان الهدف الأول للجنرال غورو الذي عيّنته فرنسا لتطبيق الإنتداب في سورية ولبنان.
لذا تقرّب من دروز لبنان بإحتواء المعارضين منهم، وردّ الزيارات لكبار زعمائهم، والعفو عن مرتكبي الحوادث التي جرت في العامين 1918 و 1919، وتقرّب من دروز حوران (جبل العرب)، بوعدهم بإنشاء كيان خاص بهم في الجبل، وبجعل حرسه الخاص من شبابهم. وفي المقابل حصل تطوّر عند الفريقين الدرزيين أدّى إلى قبول معظم المعارضين بالإنتداب الفرنسي. وتزامن هذا مع مفاوضات أجراها الشريف فيصل في باريس مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو، أسفرت عن الإتفاق بينهما في كانون الأول 1919 على قبول فيصل بالمساعدات الفرنسية، وبإنتداب فرنسا على لبنان، وتسهيله تشكيل إدارة مستقلة لدروز حوران داخل الدولة السورية.
حضر وفد من أعيان دروز جبل لبنان للسلام على الجنرال غورو في 6 كانون الأول 1919، بعد قدومه إلى الشرق. وهذا الوفد مؤلف ممن أيّدوا الفرنسيين سابقاً مثل الأميرين الأخوين فؤاد وتوفيق أرسلان، ونجيب عبد الملك، وشيخ العقل حسين حماده وأخيه أمين، وشفيق بك الحلبي، وممن عارضوا الفرنسيين مثل الأمير عارف مصطفى أرسلان، وفؤاد بك جنبلاط، ورشيد بك جنبلاط، ومصطفى بك العماد، ومحمد بك تلحوق. وكان لقاؤهم معه فرصة لأن يطرح الكولونيل الفرنسي نيجر موضوع العفو عن جميع المحكومين الدروز في الحوادث، ومنهم الذين حكموا بحادثة مزرعة الشوف، فوافق الجنرال غورو على ذلك. ثم طلب شيخ العقل حسين حماده أن يشمل العفو جميع المحكومين المسيحيين في الحوادث نفسها، فوافق الجنرال.
وفي 7 نيسان 1920 زار الجنرال غورو، ومعه كبار المسؤولين الفرنسيين المدنيين والعسكريين، فؤاد بك جنبلاط في المختارة، فاستُقبل من أهالي المنطقة بالحداء وإطلاق العيارات النارية حسب عادات اللبنانيين، وكان في إستقباله من أعيان الدروز شيخ العقل حسين طليع والأميران: أمين مصطفى وفؤاد أرسلان، والبكوات علي ومحمود ورشيد جنبلاط، ومصطفى العماد، ونجيب عبد الملك، وأمين حماده، ومحمود تقي الدين، وشفيق الحلبي، وسعيد زين الدين، فرحّب فؤاد بك جنبلاط بالفرنسية بالجنرال غورو وأكمل محمود بك تقي الدين عنه بالعربية وطلب استقلال «لبنان الكبير» بحماية فرنسا فأيده الحاضرون بالهتاف.

مزرعة الشوف اليوم
مزرعة الشوف اليوم

التعويض عن أضرار مزرعة الشوف
إنعكس التحوّل في موقف دروز جبل لبنان نحو التأييد شبه الشامل للإنتداب الفرنسي على قضية مزرعة الشوف فتطوّر الأمر من العفو عن أهاليها إلى التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، وأظهر الفرنسيون إهتماماً بهم، من وجوهه رسالة المستشار الإداري «للمنطقة الغربية» إلى المستشار الإداري لجبل لبنان، بتاريخ 20 آذار 1920، يستوضح فيها عن وضع مزرعة الشوف.
كان الأمير أمين مصطفى أرسلان، الملقّب من الفرنسيين بالعدو الشريف، يهاجمهم في مواضيع عدة، منها إحراقهم لمزرعة الشوف وتهجير أهلها، وكان يطلب منهم تصحيح خطأهم إزاءها بالتعويض الكافي لإعادة بناء بيوتها وتأثيثها، والتعويض عن توقف أعمال النازحين منها. وتجاوب الفرنسيون معه في ذلك لإعطاء مثل عن تساهلهم ومعاملتهم الحسنة للسكان، ووافقوا على تعويض عادل قدره بالعملة المصرية التي إعتمدها الحلفاء في سورية ولبنان، ستون ألف ليرة ورقية، إلا أن بعض المزايدين من أعيان الدروز في ولائهم للفرنسيين، والمتزلّفين إليهم، أظهروا الغيرة على مصلحة الفرنسيين، حسبما صرّح به الأمير أمين لوجوه آل البعيني، إذ نصحوا الجنرال غورو بإنقاص التعويض، بحجة أن التعويض العالي، إضافة إلى العفو، قد يكون دافعاً للتجرؤ على مقاتلة الفرنسيين، فبات 12 ألف ليرة مصرية ورقية. واضطر أهالي مزرعة الشوف إلى القبول بالتعويض القليل، وعاد النازحون من آل البعيني من جبل العرب، ومعهم المتهمون الخمسة الذين ورد الحديث عنهم، وأعادوا بناء بيوتهم، فيما ظلت قلّة منهم مع أقربائهم في الجبل.
حصل إحراق مزرعة الشوف وتهجير أهلها في نهاية تشرين الأول 1919، وعاد النازحون في ربيع 1920، وغدا هذا التاريخ عندهم وعند سائر أبناء البلدة محطة يؤرّخون بها الوقائع، ويذكرونه بلفظة «حريقة» فيقولون: هذا خلق قبل الحريقة أو بعدها، وهذا الموضوع حصل قبل الحريقة أو بعدها. إنها صفحة مأسوية ماثلة في ذاكرة الأبناء والأحفاد، ولا يمرّ عليها الزمن، لكنها أيضاً صفحة مجيدة من تاريخ هذه البلدة، ومن تاريخ لبنان في عهد الإنتداب الفرنسي، لأنها الأكبر من بين أعمال المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين في جبل لبنان حتى نشوب الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

المراجع

– حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، ص 130. وناصيف اليازجي: رسالة تاريخية في احوال لبنان في عهده الإقطاعي، ص 16.
– مذكرات الضابط نعمان أبو شقرا (مخطوطة) ص 182. نحتفظ بصورة عنها.
– سعيد تقي الدين: ملحق أنا والتنين، ص66.
– محمود خليل صعب: قصص ومشاهد من جبل لبنان، ص 83.
– أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى، طبع مكتبة مدبولي بمصر الجزء الثاني، ص 116-117.
– لسان الحال، عدد 3 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة، عدد 11 تشرين الثاني 1919.
– جورج فغالي: تاريخ جيش المشرق في لبنان، ص 257.
– نحتفظ بصور عن الرسائل الاربع. والأصل محفوظ عند الشيخ زهير طليع.
– عزت زهر الدين: المجاهدون الدروز في عهد الإنتداب ص 189- 190.
– لسان الحال عدد 8 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة عدد 24 تشرين الثاني 1919.
– الصفاء، عدد 23 تموز 1920.
– مذكرات وهبي طليع (مخطوطة) ص 26، نحتفظ بصورة عنها.
– البرقيات منشورة في جريدة -العاصمة- عدد 24 تشرين الثاني، وعدد أول كانون الأول 1919.
– العاصمة، عدد 13 تشرين الثاني 1919.
– أنظر إلى اتفاق فيصل- كليمنصو: زين نور الدين زين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سورية ولبنان، ص 141- 142.
– لسان الحال، عدد 8 كانون الأول 1919.
– لسان الحال، عدد 8 وعدد 10 نيسان 1920.
– صورة عن الرسالة: نحتفظ بها في مكتبتنا.

كلمة سواء

البلديات ومسؤولياتها

بسبب الطريقة التي تعتمد في انتخاب المجالس البلدية ثم في انتخاب هيئاتها أصبحت البلديات في معظم القرى والبلدات مراكز سلطة يفتقد عملها إلى الشفافية ويتم بصورة عامة بعيداً عن أنظار الناس والناخبين وهم كما يفترض مصدر السلطة والهدف الأهم للخدمات التي يفترض أن تقدمها البلديات.
هناك لذلك حلقة مفقودة في عمل البلديات يجب تفعيلها إسمها الرقابة أو المحاسبة أو المتابعة أو المشاركة الشعبية، وهذه الحلقة غير متوافرة محلياً لأن المجلس البلدي نادراً ما يعدّ اجتماعات لأهل القرية بهدف المشاورة أو إطلاع الناس على ما يجري، ولأن سلطة الإشراف المتمثلة في القائمقام أو المحافظ نادراً ما تتدخل في عمل البلدية لأنها تعتبر البلديات جزءاً من وضع سياسي لا تدرك تعقيداته وهي (أي سلطة الإشراف) قد تتردد غالباً في اجتياز حدود معينة، وهذا بالطبع ما لم تحصل خلافات أو نزاعات تفرض تدخلها قانوناً مثل حالات استقالة نصف أعضاء المجلس أو وجود إرتكابات موثقة في الإدارة المالية أو غير ذلك من الأمور الجسيمة.
حقيقة الأمر أن صلاحية المجلس البلدي تنتهي في آخر المطاف لتتركز في يدّ رئيس البلدية وحده وعضو أو عضوين أكثر تفرغاً من غيرهما من الأعضاء، الأمر الذي من إيجابياته بالطبع تسريع عملية اتخاذ القرارات لكن من سلبياته أن إدارة الشأن البلدي تصبح في يد فرد من دون مشاركة فعلية أو محاسبة من قبل المجلس البلدي مجتمعاً. وبسبب ضعف الهمة والتواكل وانشغال الأعضاء الباقين في أعمالهم، أو شعورهم بأنهم لن يستطيعوا تبديل الواقع، فإن الكثير منهم يعتاد التغيب عن اجتماعات المجلس وهو ما ولّد طريقة أخذ تواقيع الأعضاء على القرارات في بيوتهم!!
في الحقيقة البلديات هي أساس الحكم المحلي وقانون البلديات أعطى لها صلاحيات واسعة رغم أنها ما زالت عملياً في الكثير من القرارات المالية تحت إشراف القائمقام الذي أعطاه القانون سلطة الرقابة على التصرفات المالية للبلدية، لكن رغم ما يمكن للبلديات أن تقوم به في إحياء المجتمع المحلي وتجميل البيئة وحمايتها وحفز التنمية فإنها لم تستطع حتى الآن أن تلعب دورها كاملاً وهناك شكاوى أكثرها يتناول التفرد وضعف الشفافية والتواكل وإهمال الشأن البلدي، وبرز في غياب الرقابة المحلية ميل للمحاباة في العقود أو اختلاط في الأولويات بحيث تذهب الأموال لمشاريع محسوبة سياسياً وتهمل أمور أكثر إلحاحاً لأنها «غير منتجة» سياسياً. وبصورة عامة فإن الشأن البلدي باتت له شؤون وشجون تجعل من الصعب تجاهله، لذلك فإننا نجعل منه أحد أهم الأمور التي نتابعها بالتعاون مع البلديات ومع رؤسائها ومسؤوليها لكن في الوقت نفسه من خلال التحقيق الأمين واستطلاع المعلومات والآراء بحيث تجمع تغطية الشأن البلدي بين الموضوعية البنّاءة وبين ما ينبغي من الصراحة لأنه من دون الصراحة لا يوجد حكم محلي ولا توجد خدمة عامة ولا ديمقراطية محلية.
لقد قدّمت «الضحى» حتى الآن خدمة المعلومة والتحقيق والمشورة في الكثير من المجالات وهي الآن تضم الشأن البلدي لكي يكون أحد المجالات التي تساهم من خلالها في تقدم المجتمع المدني والحكم المحلي والشفافية في إدارة شؤون الناس وحفظ أماناتهم.
ونحن نعلم حق العلم أن هناك بلديات نشطة ورؤساء بلديات قاموا بالكثير وقدموا لبلداتهم من وقتهم وفكرهم، وهؤلاء سنعمل لتسليط الضوء على إنجازاتهم والاستماع إلى تجربتهم وخبرتهم، لكن هناك أماكن وأوضاعاً تحتاج إلى مكاشفة، وفي تلك الحالات فإننا سنعمل دوماً مع رئيس البلدية والأعضاء من أجل جلاء الأمور والمساعدة على بلورة الحلول الناجعة. وستبدأ «الضحى» في هذا الإطار في عقد ندوات تستهدف طرح الشأن البلدي على الطاولة وفتح الحوار حول أفضل السبل للتقدم بمجتمعنا، إذ إن كلاً منا مسؤول في النهاية وأكثر الناس مسؤولية هم الذين اختارهم الناس لحمل تلك المسؤولية وأولوهم ثقتهم ووضعوا مقدراتهم بين أيديهم. وقد جاء في الحديث الشريف : «كلكم راع ومسؤول عن رعيته».

مشكلة النفايات: أين المفر؟

لبنان كما نعلم جميعاً بلد صغير وقد انتشر العمران في أرجائه ولم يعد هناك بالتالي في أي منطقة مكان ناء أو قفر يبعد عن العمران. فكيف إذن يمكن لسياسة الطمر أن تستمر وخيارات الأماكن «المناسبة» تضيق إلى حد لم يعد فعلاً هناك مكان يمكن أن تقبل به القرى المجاورة كمكب لنفايات «الآخرين» وقد كان الشعار الذي برز دوماً عند الخلاف على خيارات التعامل مع النفايات هو أنه لا يمكن لأي بلدة أن تقبل بأن تصبح هي مكب للبلدات الأخرى فكلٌ «مسؤول عن نفاياته»، وهذا منطق حق ولا شك لأنه لا يجوز التمييز في حقوق المواطنية بين قرى مرفهة تنتج النفايات وتلقي بها على قارعة الطريق وأخرى يكون عليها أن تستقبلها وأن تعيش معها، وذلك مهما كانت المبررات، لأن حق العيش في بيئة نظيفة غير ملوثة وغير ضارة بصحة الناس يجب أن يكون مصاناً في الدستور والقوانين وهذا الحق غير قابل للإستثناء أو النقاش ويجب على الدولة أن تنطلق منه في اية حلول قد تطرح لمشكلة النفايات.
إن تحول أي مكان إلى مطمر للنفايات يحدث على الفور إنهياراً في أسعار العقارات والاراضي القريبة منه ويجعل من مساحات شاسعة حوله غير صالحة للعيش وبالتالي للإستثمار، وفي كثير من الحالات ينتقل الأثر السلبي نفسه إلى ما هو قائم من عمران ومنازل أبعد عندما تبدأ الرياح بنقل روائح المكبات إلى غرف نوم الناس أو تفسد أمسياتهم على الشرفات أو في الساحات.
الحل المطلوب والأمثل لمشكلة فائض النفايات هو نفسه التي اتبعته الدول المتحضرة منذ عشرات السنين وهو حلّ الفرز عند المصدر، وهذا يعني أن كل مواطن مسؤول عن فرز النفايات التي ينتجها قبل أن يتم نقلها وذلك من خلال الفصل بين نفايات الورق والكرتون مثلاً وبين ما هو زجاج أو معدن أو بلاستيك أو نايلون ووضع كل من هذه الأنواع في أكياس ذات لون خاص بحيث يسهل على الشركات جمع النفايات كل نوع في شاحنات متخصصة ونقل الحاصل كله إلى معمل التدوير المناسب لها، وهناك أموال طائلة تنتج من تدوير الورق والكرتون أو البلاستيك أو المعدن أو الزجاج.
وتبقى النفايات العضوية وهذه يجب اعتبارها ثروة حقيقية من العبث إهمالها أو التخلص منها بالطمر أو الحرق أو غيرهما من الوسائل. ففي الكثير من البلدان وبسبب انضباط المواطنين في عمليات الفرز عند المصدر حلّت مشكلة النفايات منذ زمن وأصبحت قطاعاً اقتصادياً تستثمر فيه شركات كثيرة. في العواصم الأوروبية تتم عملية جمع النفايات المفروزة من قبل المواطنين في ساعات الليل أو الساعات الأولى من الفجر فلا يشعر بها أحد ويقوم الناس إلى أعمالهم في الصباح ليجدوا مدينة نظيفة وشوارع أنيقة لا توجد فيها حتى ورقة أو أي شيء مهمل في الشارع. وفي تلك البلدان هناك أساليب علمية لاستثمار النفايات لإنتاج الطاقة الكهربائية Biomass من غاز الميثان ويتم غالباً بعد استنفاذ طاقة المطمر استصلاحه عبر تحويله إلى مشاريع زراعية بعد تغطية مساحاته بالتربة المناسبة.
أما في الدول الآسيوية فهناك أساليب أكثر ابتكاراً لتدوير النفايات العضوية، خصوصاً في المناطق الريفية ، ففي الهند وسريلانكا يستخدم الناس أوراق الموز لصنع الصحون وهم يحفرون حفرة بسعة متر مكعب يلقون فيها بقية الأطعمة والمهملات العضوية، وقبل أن تمتلئ تلك الحفرة يضيفون 30 سنتمتراً من التربة ويغرسون شجرة مانغو أو أفوكادو أو بابايا فيها وستوفر الحفرة الغذاء للشجرة على مدى سنوات طويلة فتعطي أفضل الثمار.
في القرى اللبنانية يجب على البلديات تنظيم لقاءات توجيهية تعلّم الناس كيفية تخمير النفايات العضوية من خلال تخصيص حفر معينة في زاوية من الارض تلقى فيها بقايا النباتات ونفايات المطبخ وأوراق الأشجار اليابسة والكرتون والصحف والورق ويتم تخميرها عبر تغطيتها بالنايلون وإضافة سماد الدجاج إليها وريها ثم تقليبها باستمرار لينتج من كل ذلك سماد عضوي في غاية الجودة يمكن وضعه على الأشجار أو استخدامه في استنبات الخضار الصيفية أو الشتوية وفي تحسين التربة.
ونحن نعتقد أن منازل الجبل التي تمتلك حدائق أو قطعاً من الأرض يجب أن لا يُقبل منها أي نفايات عضوية بل أن تدرّب على تدوير تلك النفايات في التربة فإذا فعلنا ذلك فإن النفايات الباقية وهي النايلون والبلاستيك والزجاج والمعادن يصبح التعامل معها وتدويرها على نطاق صناعي أسهل ولن يشكل تجميعها وفرزها مشكلة بيئية.
إن إلزام المواطنين في القرى الجبلية من الشمال إلى الجنوب بتدوير النفايات العضوية في أرضهم يخفف كثيراً من مشكلة النفايات ويرتدّ بالنفع على الجميع لأننا بذلك نتعلم أن نستثمر ثروة مهمة في تحسين تربتنا وزراعتنا ونخفف كثيراً من المشكلة عند المصدر.

الإعتدال الخلقي

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الإعتدال الخلقي

الأخلاق هي القاعدة الأساسية الضرورية التي يجب ان يوطِّدَ الإنسانُ معانيها في قلبه إنْ أراد سلوكَ السَّبيل الصَّحيح إلى التَّوحيد، عِلماً وعملاً. إنه، من دون ترسيخ تلك القاعدة، تبقى حركةُ المرء في هذا الاتِّجاه دون فائدة تُذكَر.

لقد جعل الحكماءُ الأقدمون من الأخلاق شرطاً أوَّلياً أساسياً من شُروط صَّحة الدِّين، أي التَّوحيد، بموازاة شرطٍ آخَر هو «استشعار وجود الخلاّق». لكنَّهُم عقدوا المفهومَ الأخلاقيّ بفِعل التَّهذيب ، وذلك لأسبابٍ جوهريَّةٍ ينبغي التوقُّف عندها مليّاً.

فالأخلاق منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم. وأوضح الأقدمون ما يُمكن أن نسمّيه «قانون الوسط الأخلاقي». قال إنَّ الفضيلةَ الأخلاقيَّة هي وسطٌ بين رذيلتيْن هما الإفراط والتَّفريط. مثال ذلك أنَّ الشجاعة فضيلة، فإن أفرط فيها المرءُ باتت تهوُّراً، والتهوُّر مذموم. وإنْ فرَّط فيها المرءُ كانت جُبناً، والجُبن مذموم. ايضاً، الكرمُ فضيلة، والإفراط فيها هو التبذير، والتفريطُ فيها هو البُخل. ايضاً، الحِلم فضيلة، والإفراطُ فيه هو البلادة والجهل، والتفريطُ فيه هو النَّزَق والطيش إلخ.

لذلك، يجبُ التنبُّه إلى أخلاقَ الموحِدِ هي اعتدالُ الميزانِ في عقله وقلبه، وهذا ينعكس حُكماً على أقواله وأفعاله وخياراته السّلوكيَّة في الحياة. والتوحيدُ إمَّا أن يكونَ ثمرةَ الاعتدال، وإمَّا أنّه لن يتحقَّقَ بالطّريقة التي يستشعرُ فيها الإنسانُ غبطةَ الداخل التي سمَّاها السَّلف الصَّالح «فضيلة الذَّات».

السؤال الدَّقيق في عالمنا المعاصر، من وجهة الموقف التوحيديّ، متعلِق بكيفيَّة الوصول الى هذا «الاعتدال الخُلُقيّ»، والإستفادة من ثمراته الروحيّة الضروريَّة لفهم لطائف معاني العقل الأرفع، في حين أنَّ الحياة الحديثة تتطلَّبُ إيقاعاً متسارعاً، وتضعُنا تحت سيْلٍ جارف من صوَر الرَّغبات والحاجات والمتطلّبات الماديَّة التي تتجاوز حدود الاعتدال، ولا تساعدنا بالتالي، على قطف ثمارٍ روحيَّة؟

بمعنى آخَر، الحياة الحديثة مركَّبة، بمعنى أنَّها توهم الإنسانَ بأنَّ سعادتَه كامنة بشكلٍ أساسيّ في اكتساب الثروة من دون قيود أو شروط، وعدم كبح جموح النَّفس نحو إشباع حاجاتها الطبيعيَّة بقطع النظر عن موانع العقل الحكيم، وامتلاك وسائل الراحة والرفاهيَّة إلى أقصى حدّ ممكن إلخ… في حين أنَّ التوحيد، بالمعنى الجوهريّ، هو علمُ البسيط، والبسيطُ من شأنه أن يضعَ النفسَ أمام المرآة الحقيقية التي بها تعرفُ ذاتها، والمركَّبُ هو الذي من شأنه طمس الصفحة المجلوَّة لمرآة الذات، وتكثيفها إلى الحّدِ الذي لا تصحّ معه رؤية صحيحة ونقية وصادقة للحقيقة. إن الذاكرة البصرية تختزن ما تتلقفه عيونُنا من صوَر، التي تكوِّنها مرآة العصر هي ذاكرة مليئة بالأوهام، يعني فارغة من كلِّ سندٍ حقيقيّ للعقل. كان الكتابُ يزوِّدنا بذاكرةِ ذهنيّة، أما اليوم فقد طغت عليه – من حيث هو وسيلة – الشاشة الباثة للصوَر تحيطُ بنا من كلِّ صوب.

الصورة واقعنا اليومي لا مناص منه. مجتمعنا أسيرها، بل المجتمعات المعاصرة كلها. تأتينا واضحة، مصنوعة، ساخرة، مشحونة بالتمرد على التراث الوعظي الذي ما برح متجذراً في الكنف العائلي والمدرسي، وخصوصاً، الديني.لذلك، فإن الجيل الجديد يقع تحت سطوة الصورة لأنه يراها واقعية معاصرة طبيعية بمعنى انها تستحث فيه كل رغبة، في حين ان وقع الكلام الوعظي عليه يأتي قاسياً ثقيلاً بعيداً مشبعاً بالمرارة.وأيّة صورة تأتي من إنفلات أخلاقي بلا حدود أو صورة قتال بغيض أين منه عصر الجاهلية؟

شاشة الإنهيار الاخلاقي سهلة تدغدغ الرغبات، تتوِّجُ لنا ملوكاً على الدوام في مملكة الشكل والحضور الجسدي والمظهر. تستفزّ أجسادنا ساخرةً من كلِّ تأمل عقليّ. تقودُنا إلى سوق الاستهلاك. والنتيجة؟ نزوع النفس الى السهولة، الى الإسترخاء في حالة تلقي الصوَر المسكونة بالأوهام، الى الإمتثال لتيار الغواية، وفي الوقت عينه، نفورها من كلِّ حِلم، يعني من كلِّ انضباط داخليٍّ من شأنه أن يُحيي فيها التوازنَ الضروري لاستقامتها وجعلها أساساً جوهرياً لبناء الشخصيَّة الإنسانية. لذلك، فإن الفجوة تتسع بالتواتر مع مضيّ الزمن.

علينا ان نبدّل كلّ ما في استطاعتنا لكي نفهم ما يصلنا بالوجود، المسؤولية تقع على كافة المستويات وخاصةً الدينية والثقافية والاجتماعية. فالجذور العربية والإسلامية هي جذورنا، واولادنا امانة في اعناقنا، وسفور النساء ليس من تقاليدنا، والأم إذا اعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق.

هذا العدد

رسالة الإسلام

تخطو «الضحى»، مع هذا العدد الثالث عشر، خطوة مهمة في باب جديد سيخصص للبحث في رسالة الإسلام الحق كما تمثلت عبر العصور والدهور منذ فجر الرسالة الخاتمة التي جاء بها الرسول العربي (ص) وحتى يومنا هذا. وقد زخر العصر المسمى بـ «فجر الإسلام» وما بعده بما لا يحصى من الأمثلة والحالات والرجالات الذين تمثلت فيهم روح الإسلام الحق، وظهرت عبرهم إلى البشر على اختلاف أقوامهم ولغاتهم ومعتقداتهم رسالة التسامح والمحبة والخير والرأفة والمعروف والخصال الشريفة، فانتشر الإسلام بسبب محتواه الإنساني الحضاري بين شعوب الأرض في وقت قصير وتحول إلى أعظم وأقوى الديانات على وجه البسيطة.

وقد بقي الإسلام على عظمته قروناً طوال بسبب السياسات الرشيدة والمتسامحة التي طبقتها الممالك الإسلامية منذ العصر الأموي وحتى نهاية السلطنة العثمانية في مطلع القرن العشرين. وساهمت الدولة العثمانية بصورة خاصة، وعلى مدى ما يقارب الخمسة قرون، في حفظ عالم الإسلام وقيمه وأرضه وشعوبه من هجمات الأمم المختلفة ولاسيما روسيا القيصرية والممالك الأوروبية التي لم تطق وجود دولة إسلامية عظمى أنهت الحكم البيزنطي ونشرت الإسلام إلى أنحاء واسعة من أوروبا الجنوبية والشرقية، وكادت في عهد السلطان محمد الفاتح أن تهدد روما نفسها، قلب العالم المسيحي.

ما هي الغاية من إدخال هذا الباب المهم في صلب معالجات «الضحى» واهتماماتها؟ أن الهدف بسيط وبديهي، وكان منذ انطلاقة «الضحى» من بين المواضيع التي ركزنا عليها، لكننا وجهنا اهتمامنا في مرحلة الانطلاق إلى الإرث الروحي لمتصوفة المسلمين وعلمائهم وشعرائهم كما ركزنا على الإرث الغني لشعراء مثل حافظ وسنائي والرومي ويونس امره وغيرهم، لكننا شهدنا بعد ذلك أحداثاً كبيرة من الثورات والحروب والفتن التي بدأت تهزّ العالم العربي والإسلامي، وكل هذه الأحداث تعود في مصدرها الأهم إلى ازدهار أفكار التعصب وكره الآخر والحقد وبلوغ أساليب العنف مستوبات لم يشهد التاريخ مثيلاً لها منذ هجمات المغول في أواخر عهد الدولة العباسية وفي زمن المماليك.
هذا الوضع يجعل للتركيز على ما أسميناه «رسالة الإسلام» أمراً أكثر إلحاحاً، وقد كان من أهم ميزات الدولة الإسلامية تأسيس إسلام التفاعل واحترام الأقليات والعقائد الدينية على اختلافها، وقد استوعب الأسلام في مكوناته الأساسية شريعتي موسى وعيسى (ع) وأظهر التقدير والاحترام لجميع الأنبياء }لا نفرق بين أحد من رسله{ واستفاد بذلك، عبر مراحل تطوره، من مساهمات كافة الجماعات والأعراق والقوميات، التي تمازجت في كنفه وتفاعلت وأثرى بعضها البعض الآخر، ولم يكن في تاريخ الإسلام أقلية أو جماعة مسالمة تخاف على نفسها، بل نمت كل تلك الجماعات وازدهرت وساهمت في نمو المجتمع الإسلامي وازدهاره.

خلافا لمذهب الوحدانية الدينية ورفض الاختلاف الذي طبقته الدولة البيزنطية ثم الكنيسة البابوية (وأدى إلى حروب بين المسيحيين امتد بعضها عقوداً طويلة وإلى الحروب الصليبية ومحاكم التنفتيش واضطهاد المسلمين واليهود)، فإن الإسلام تبنى منهج التسامح الديني والقومي والثقافي فحول كل تلك المكونات إلى قوة للدولة وليس خصماً لها أو خطراً عليها، وهذا ما يفسر حجم الإنجازات الضخمة التي تحققت على يد الشعوب والأعراق التي ضمّها الإسلام في مختلف أبواب العلوم والفلسفة والتشريع وتنظيم الدولة والكثير من الحقول.

إن أعداء العرب والمسلمين يعلمون ذلك حق العلم، لذلك قرروا أن هدم الإسلام لا يمكن أن يتم بالهجوم المباشر، على طريقة الحروب الصليبية، فقرروا العمل على تفتيت الإسلام عبر تمزيق المجتمعات الإسلامية وإلغاء تراث التسامح الذي كان المسلمون وعلى مرّ القرون رواده في العالم.

لذلك، ومن أجل الإسهام ولو بقسط بسيط في مواجهة هذه الأخطار ستعمل «الضحى» بكل ما أوتيت من أجل إبراز رسالة الإسلام الحق وتسليط الضوء على إسهاماته الكبيرة في مجال التفاعل الحضاري والتسامح واحترام العقل والإبداع. وستبدأ المجلة حول هذه المواضيع في المستقبل القريب حوارات وندوات تستهدف توفير إطار للتفاعل البناء وتعزيز أواصر التضامن والوحدة بين مكونات المجتمع ونخبته المفكِّرة.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

الحرام

الحلال هو ما أباحه الشرع ، وأما ما نهى عنه وحظّره فهو حرام. ومن يعدم التمييز بينهما، لا يستقيم به مسلك مثمر. فالإيمان والحرام لا يجتمعان. لكن هذه الحقيقة الأصلية لم يعد هناك مع الأسف من يعمل بها ويعتني بفرائضها حق عناية إلا من رحم ربيّ من القلة التي أنعم الله عليها بالحفظ.

من علامات زمن الفترة أو المحنة إستطابة الحرام والانغماس به فالمرء يتوهم أن ما يحصل عليه من حرام هو «كسب» بينما هو حجة عليه ووزر ثقيل. وهناك غريزة افتراس استيقظت وغلبت وأصبح الكثير من الناس ضالعين في فنون المكر ينصب كل منهم الشراك للآخر وعينه على ماله أو على ما يتمتع به لا يضيره أن ما يفعله إنما هو اعتداء وخيانة وفساد في الارض.

كان جيل البركة من السابقين والسلف الصالح يعتني أشد اعتناء بأمر الحلال والحرام، وكان راعي الماعز إذا قضمت إحدى ماعزه ولو بضعة أوراق من رزق أحد من الناس يسارع إلى حلب تلك المعز على كعب الشجرة التي أخذت منها لأنه كان يعتبر ما في ضرعها قد أصبح حراماً لأنه اختلط بحرام، ولو كان ذلك الحرام بضع وريقات من شجرة. وقد روي عن أبي يزيد البسطامي أن رجله زلت في أحد أزقة المدينة فتمسك بحائط لكي يقي نفسه السقوط، وما أن اعتدل في وقفته حتى سارع إلى باب ذلك المنزل وطرقه وعندما أطلّ صاحب الدار طلب البسطامي من الرجل أن يسامحه ويجيز له تمسكه بحائط داره.

وروي عن الشيخ الفاضل رضي الله عنه أنه أراد يوماً أن يشرب من عين البلدة ولم يجد ورقة جوز يضعها في الميزاب الحجري للنبع لكي يستطيع الشرب، وكانت العين محاطة بأشجار الجوز، لكنه ما قبل أن يستخدم ولو ورقة جوز واحدة قبل أن يعرف مالك الشجرة ويطلب منه أن يأذن له بذلك. وما هي ورقة الجوز؟ أنها لا شيء وليست لها أي قيمة، لكن الأولياء الصالحين كان همهم أن يقدموا المثال على دقة أمر الحلال والحرام وضرورة عدم التهاون أو الترخيص فيه. وكان ذلك أحد أعظم وجوه تعليمهم لأجيال زمانهم ولتلك التي توالت بعدهم.

وقد برز مؤخراً في منتصف القرن الماضي المرحوم الشيخ أبو حسين محمود فرج من عبيه الذي ساد بتقواه وورعه وله سيرة مليئة بالمآثر والتعليم البليغ حول الحلال والحرام وسنأتي على تفصيل سيرة هذا الشيخ القدوة في عدد قادم من «الضحى» بإذن الله.

أين نحن اليوم من شيوخ التقوى والورع هؤلاء ؟ أين نحن من تعليمهم؟ وقد برزت في تبرير الحرام في أيامنا نظريات «التجارة» و«الشطارة» وأغمض الكثيرون أعينهم وهم يتناولون الباطل فقست القلوب وماتت الضمائر وسهل الكذب والغش. لكن بدل التصدي لمثل هذه المعاصي والكبائر إنشغل كثيرون عنها بأمور شكلية مثل أن يأخذ أحدهم على جاره تقاضيه لراتب من الدولة ولا يأخذ على غيره أو حتى على نفسه تقاضي المال من تاجر فاسد أو من صاحب ثروة مشكوك بمصدرها أو من مرتكب أو آكل حرام أو شارب خمر أو راش أو مرتشٍ.

الدولة اليوم هي دولة راعية تقدم خدمات الطبابة والتعليم والاقتصاد والرعاية الاجتماعية وتحافظ على أمن الأفراد وتقضي بين الناس وتقمع المرتكبين، وهذه الدولة، وإن لم يكن عملها قريباً مما هو مرغوب ومأمول، لا ينطبق مع ذلك على مالها ما كان ينطبق على مال السلطان الجائر في عصور الإستبداد وظلم الناس وإرهاقهم بالضرائب والسخرة وغيرها من الآثام. ومن كان يعتبر مال الدولة حراماً فليمتنع إذاً عن قبول خدمات الكهرباء والهاتف والمياه ولا يرسل اولاده إلى مدارسها وليرفض مساعدتها الصحية وكل ما يمتّ إليها بصلة، لأن العبرة ليست في النقود بل في التعامل حتى لو كان تسديد موجبات مالية لها ونحن لا يمرّ يوم لا نتعامل فيه بمختلف الأشكال مع الدولة وإداراتها ومؤسساتها!!

«الحلال بيّـِن والحرام بيِّـن» لكن لكثرة انتشار الحرام اختلطت الأمور وبات كل يجتهد على هواه. الأولى من كل ذلك هو مراقبة النفس واستيقان الحلال في رزقنا والصدق في كلامنا وإيفاء عهودنا قبل رمي الآخرين بالتهم والظنون. هذا هو الأمر المهم، أن نصلح ضمائرنا ونراقب عيوبنا وتقصيرنا وأن لا نتدخل ونحكم على هذا وعلى ذاك فذلك من الفضول الذي لا طائل تحته ولا يتأتى منه أي إصلاح بل هو فتنة بين الناس. -}قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) { (سورة الكهف).
أستغفر الله .

مساهمات حرة

”  افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن”

[su_accordion]

[su_spoiler title=”الصحافي عماد خير ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

موضوع وقف المعهد الفني في راشيا حضرة رئيس تحرير مجلة الضحى المحترم : نشرت مجلة الضحى في العدد الصادر في ايار 2015 ردا ً على مقالنا المنشور في عدد ايلول 2013 من المجلة وتناول «معهد راشيا الفني» في بلدة العقبة، وقد جاء في الرد الذي أعده المهندس نبيه ابو شقرا إن الأرض التي أقيم عليها المعهد الفني هي هبة من سماحة الشيخ بهجت غيث، وأن ما ذكره كاتب المقال عن كون الأرض هبة من بلدة العقبة «عار عن الصحة»ً و»فيه تجنٍ على حقوق صاحب المبرة» الخ وأرفق المهندس أبو شقرا مستندات حول وهبانية العقار الرقم /1602/ من منطقة راشيا تؤكد ما ذهب إليه. نود أن نلفت المهندس الأستاذ نبيه ابو شقرا إلى ان ردّه ليس في مكانه لأن المقال الصادر في عدد ايلول 2013 من مجلة «الضحى» يتناول عقارا آخر في بلدة العقبة من قضاء راشيا برقم مختلف هو العقار رقم 602 بينما العقار الذي تناوله بالرد هو العقار 1602 الذي لم يكن موضوع مقالنا. وربما أدى تشابه رقمي العقار إلى الالتباس وإلى تسرّع الأستاذ أبو شقرا بالرد وافتراض وقوع التجني. إن العقار رقم (602) هو عبارة عن عقار جمهوري في منطقة العقبة العقارية تم تخصيص مساحة منه لصالح وزارة التربية الوطنية، المديرية العامة للتعليم المهني لغرض تشييد مهنية في منطقة راشيا تخفف عن الطلاب الراغبين في متابعة تحصيلهم العلمي المهنى مشقة وأعباء الانتقال بعيدا عن مناطق سكنهم وخصوصا خلال فصل الشتاء. ويحتفظ رئيس بلدية العقبة بالوثائق الرسمية التي تثبت ان «المعهد الفني في راشيا» تم بنائه على العقار 602 في منطقة العقبة العقارية قضاء راشيا، وانه لا يوجد في النطاق العقاري للبلدة معهد يتصل بناؤه بمبادرة من سماحة الشيخ بهجت غيث وقد أبلغنا مدير «معهد راشيا الفني» الأستاذ فريد كمال أن العقار 602 الذي قدم من بلدة العقبة استخدم لبناء «مدرسة راشيا الفنية» والتي بدا التدريس في قاعاتها في العام 2005 ثم صدر القرار 62-2011، القاضي بتصنيف مدارس التعليم المهني والتقني الفنية الرسمية وفقا ً لمستوى التعليم فيها، فاصبحت تسمى «معهد راشيا الفني» وهذا المعهد تم تجهزه بالكامل من قبل وزارة التربية، المديرية العامة للتعليم المهني والتقني. أما «معهد راشيا التقني» الذي شيد في المرحلة السابقة من قبل سماحة الشيخ بهجت غيث فإنه لم يتم التدريس فيه كمعهد تقني وبقي مجمدا إلى أن تم تحويل استخدامه إلى الجامعة اللبناية كلية ادارة الأعمال .

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”فهد حسن المهتار أستاذ ثانوي متقاعد” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مقام بلدة البساتين

جانب رئيس تحرير مجلة «الضحى» الغراء
في البحث القيم الذي نشرته مجلتكم الغراء للدكتور حسن أمين البعيني حول بني الشويزاني والشوف الشويزاني، تحدث الكاتب عن الشيخ أبو علي مرعي (حمادة) وذكر انه انتقل من بلدته بعقلين الى عبيه والتحق بالأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي (قدس سرّه) وغدا من تلاميذه، وأنه عندما توفي الشيخ مرعي دفن في الفساقين («البساتين» حالياً) وعاد ابناؤه إلى بعقلين». وهنا أجد من المفيد التوضيح بأن الشيخ المدفون في الفساقين هو الشيخ زهر الدين وهو المرشد الروحي للأمير السيد (قدس سره)
أما من دفن في الفساقين من تلامذة الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي (قدس سرّه) فهو الشيخ شرف الدين علي بن الشيخ علم الدين سليمان، وقد نقش ما يفيد ذلك على الشاهد الحجري بعد أيات من سورة البقرة:
وفي نفس المدفن دفن إبن الشيخ شرف الدين علي، الشيخ سيف الدين ابو بكر، وقد نقش على الشاهد الخاص به بعد آية الكرسي عبارة تفيد ذلك.
وهذان الشيخان هما من تلامذة السيد عبد الله (قًدّس سره) دُفِنا في مدفن الشيخ زهر الدين وهو المقام المعروف باسمه الآن.

[/su_spoiler][/su_accordion]

مسؤول التوزيع والاشتراكات
متفرغ براتب مع علاوات

المسؤوليات الأساسية
متابعة عمل شركة التوزيع والتنسيق معها بهدف تطوير المبيعات وتحسين انتشار المجلة في مختلف المناطق مع ما يتطلبه ذلك من تطوير العلاقات المباشرة مع المكتبات ونقاط البيع واقتراح مبادرات الترويج ومتابعة تنفيذها على الارض
بناء شبكة بيع مباشر dor-to-dor للمجلة في مناطق جبل لبنان والجنوب وبيروت والإشراف على عملها
الإشراف على تطوير قاعدة المشتركين أفرادا ومؤسسات وتحقيق الأهداف الكمية المتفق عليها من خلال بناء قاعدة بيانات بأسماء الشخصيات والمؤسسات ومتابعة عمل مندوبي البيع والقيام بالزيارات الترويجية وتقديم الأفكار والمبادرات الهادفة لتطوير المبيعات والاشتراكات وتوسيع نطاق انتشار المجلة.

موظف دعم إداري
متفرغ

تتمثل مسؤوليات موظف الدعم الإداري في تلبية جميع المهمات التي تطلب منه من قبل رئيس التحرير ومن قبل إدارة مكتب «الضحى». وسيؤمن الموظف دوام عمل في مكتب «الضحى» في دار الطائفة الدرزية في فردان.

 

مراسل ومحرر تحقيقات
عمل جزئي

يتطلب هذا العمل خبرة في العمل الصحفي ولغة عربية متينة وشخصية مبادرة وقادرة على التواصل الاجتماعي وإجراء التحقيقات والمقابلات بإشراف من رئيس التحرير. وبالنظر لأن «الضحى» تصدر كل ثلاثة أشهر فإن الفرصة متاحة لعمل جزئي لصحفيين مستقلين أي غير متفرغين للعمل في مؤسسة إعلامية . ينبغي للمتقدمين أن يحسنوا الإنكليزية أو الفرنسية وأن تكون لهم خبرة في العمل الصحفي لا تقل عن 3 سنوات.

تقديم الطلبات والسيرة الذاتية
مكتب “الضحى”- دار الطائفة الدرزية – فردان ، بيروت
أو بواسطة البريد الالكتروني على العنوان التالي:

mail@Dhohamagazine.org

الارضي شوكي

الأرضـي شوكـي

خــزان معـادن وفيتـامينــــات

وحــارس أميــن للكبــد والجهــاز الهضمــي

تعتبر ثمار الأرضي شوكي من المحاصيل اللذيذة التي يقبل عليها اللبنانيون وأهل الشرق عموماً لما عرفوه من طيب مذاقها وفوائدها الكبيرة، وقد عُرف الأرضي شوكي أو ما يُسمّى أيضاً بالخرشوف أوَّل ما عُرِف في بلادنا أي في بلدان حوض البحر المتوسط، وقد وُجِدَت له رسومٌ عديدة منقوشة على جدران معابد قدامى المصريين كما في آثار عددٍ من الدول المتوسطية بشكله المخروطي وحراشفه المتراصة التي تجعل له شبهاً بثمار الصنوبر.
وتذكر المصادر أن العرب هم من نقله إلى الأندلس بعد أن اكتشفوا فوائده الغذائية والطبية العظيمة، ومنها انتشر إلى دول القارة الأوروبية ومنها إلى باقي دول العالم.
أمَّا الآن فهو يُزرَع في أغلب المناطق والدول ويُستفاد منه كاملاً أو من أوراقه أو ساقه مجفّفاً على شكل بودرة وكذلك من خلاصته الكيميائية لعلاج عددٍ غير قليل من الأمراض، وهو يوصف بشكلٍ خاص في حالات قصور الكبد وأمراض المرارة وارتفاع معدل الكوليسترول في الدم وغيرها من الأمراض.

طعام لذيذ
يعتبر الأرضي شوكي مكوناً أساسياً لعدد من الأطعمة اللذيذة والمفيدة صحياً فهو يؤكل مطبوخاً بطرقٍ عدة كأن يُطبخ مع اللحم أو يُضاف إلى أنواع اليخنات والحساء أو يُتبَّل كسلطاتٍ لذيذة متنوعة أو يُقدَّم وحده بعد سلقه قليلاً كمقبلاتٍ شهية مع تتبيلة زيت الزيتون والحامض والثوم وهو الشكل الأكثر فائدة حيث تؤكل قاعدة أوراقه واحدةً تلو الأخرى إضافةً إلى قلب الأرضي شوكي وذلك بعد تغميسها بتتبيلة الحامض والزيت والثوم، أو باللبن والثوم.
أمّا الطريقة المثلى للاستفادة من خواصِّه المفيدة فهي أن يؤكل الأرضي شوكي كاملاً من قاعدة الأوراق حتى القلب والاستفادة قدر الإمكان من ماء السلق عن طريق إضافته إلى أنواع الحساء أو اليخنات المتنوعة، فهو حاوٍ لكثيرٍ من الخواص النافعة التي انحلَّت في الماء نتيجة السلق. كما يجب التنبّه إلى أن يؤكل الأرضي شوكي في نفس اليوم الذي يُطهى به وأن يُرمى ما تبقى منه إلى اليوم التالي، وذلك لأن الجراثيم تتكاثر سريعاً مما قد تحدث حالات تسمم هضمي.

خصائصه الغذائية وفوائده
إن نظرة إلى الجدول المرفق تظهر حجم الفوائد الغذائية التي وفرها الأرضي شوكي فهو من أغنى الخضار بالعناصر المعدنية والأملاح والفيتامينات ولا سيما مركبات الفيتامين B المهمة جداً لصحة الجسد والعضلات والجهاز العصبي. والأرضي شوكي من أهم مصادر الحديد النباتية إذ يحتوي كل 150 غ منه على 5.1 ملغ أو مما يعادل 28% ما يحتاجه الفرد
يومياً من هذا المعدن المهم جدا لصحة الدم والكريات الحمراء.فهو لذلك من الخضار المفيدة في معالجة حالات فقر الدم. ويحتوي الأرضي شوكي على نسبة عالية من البوتاسيوم ومن الفيتامين C والنحاس والفوسفور والمغنيزيوم والمانغانيز وبصورة خاصة السلينيوم.
وإذا انتقلنا إلى الفيتامينات فإن الأرضي شوكي يحتوي منها الكثير ولا سيما منوعات الفيتامين B والفوليك أسيد أو الـ Folate.
إضافة إلى مكوناته الغذائية فإن الأرضي شوكي يحتوي على عناصر كيميائية ذات مفاعيل طبيةٍ ودوائيةٍ مهمة ومن أهم المركَّبات الكيميائية الموجودة في الأرضي شوكي السيليمارين (Silymarin) الذي أظهرت الدراسات أنَّ له تأثيراً كبيراً واقياً من الإصابة بسرطان الجلد.

” الأرضي شوكي من أغنى المصادر الغذائية بالأملاح والمعادن الضرورية لصحَّة القلب والدورة الدموية  “

فوائده العلاجية
في دراسةٍ أُجريت في مستشفيات جامعة كليفلاند الطبية، تبيّن أنَّ استعمال مراهم حاوية للسيليمارين يحدَّ من الإصابة بسرطان الجلد بنسبة كبيرة. وأجريت الدراسة على الفئران في مختبرات أمّولا وما زالت الأبحاث عن فائدة الأرضي شوكي في الوقاية من سرطان الجلد لدى البشر جارية، ومن المتوقع أن تظهر نتائجها قريباً.
يعتبر الأرضي شوكي ذا أثر كبير كمضاد للأكسدة Antioxidant وهو يعزز الوقاية من أنواع مختلفة من العلل ويقوي جهاز المناعة عن طريق منع التأثيرات المخرِّبة للراديكالات الحرَّة (free radicals) على خلايا الجسم السليمة، ويُستفاد من ثمرة الأرضي شوكي أو من خلاصتها بكثرة في بعض الدول الأوروبية كدواءٍ فعَّال لعلاج بعض أمراض الكبد والمرارة ولذلك تفسيرات طبيةٌ مهمة:
أوَّلا:إنَّ الأرضي شوكي يحتوي على السيليمارين (Silymarin)، المضاد القويّ للمؤكسدات (antioxidant، لذلك فهو يحمي أعضاء الجسم الرئيسية، ومنها الكبد، من التأثيرات المخرِّبة للراديكالات الحرة.
ثانياً، يوصف الأرضي شوكي بكثرة من قِبل الأطباء الأوروبيين بشكلٍ خاص كمحفز ممتاز للمرارة لأنه يزيد من إفرازات الصفراء (choleretic effect) ويُسهِّل دفعها إلى خارج الجسم وذلك بسبب محتواه من السيناميك أسيد (cinnamic acid).
من هنا، فإنَّ الأرضي شوكي هو من أهمّ الأدوية وأفعلها في معالجة أمراض الكبد واحتقانها، وهو مفيدٌ بشكلٍ خاص في حالات قصور الكبد (كسل الكبد) والمشاكل الهضمية الناتجة عنه
(dyspeptic problems). إلاَّ أنَّه ينبغي الإمتناع عن تناول الأرضي شوكي أو خلاصته Extract في حال وجود انسدادٍ في المجاري الصفراوية bile duct blockage ناجمة عن تشكل حصى في المرارة. (gallstones) أو غيرها.

أرضي شوكي باللحم والصنوبر
أرضي شوكي باللحم والصنوبر

مخفِّض للكوليسترول
يحتوي الأرضي شوكي على عناصر عدَّة أثبتت التجارب أنَّها من أنفع العناصر الدوائية التي تفيد في خفض نسبة الكوليسترول الضار (LDL) ويؤثر حمض السيناميك (cinnamic acid)والإينولين (Inulin) في خفض نسبة الدهون الثلاثية أو ما يُسمى بالتريغليسيريد (Triglyceride).
كما إنَّ الأرضي شوكي غنيٌّ أيضاً بالألياف، بل هو من أغنى المصادر الغذائية بهذه الألياف النافعة (fibers) ويحتوي رأس الأرضي شوكي المتوسِّط الحجم على 6.5 غرامات من الألياف، و 4.3 غ من الألياف غير القابلة للذوبان (Insoluble fiber) و 2.2 غ من الألياف القابلة للذوبان (Soluble)؛ والسرّ يكمن في هذه الأخيرة أي الألياف القابلة للذوبان التي تتحوَّل في أثناء عبورها القناة الهضمية إلى مادةٍ هلامية لزجة (jel) تحبس بداخلها ذرات الكوليسترول ولأنها -أي الألياف- غير قابلة للإمتصاص فإنَّها تُدفع إلى خارج الجسم آخذةً الكوليسترول الضار في طريقها.
علاوةً على هذه العناصر الدوائية المهمَّة فإنَّ الأرضي شوكي هو من أغنى المصادر الغذائية بالأملاح والمعادن الضرورية لصحَّة القلب والدورة الدموية (راجع الجدول المرفق) كالمغنيزيوم والبوتاسيوم اللذين لهما دورٌ أساس في حفظ عمل عضلة القلب. فالمغنيزيوم مثلاً يتدخّل في سلامة عملية إنقباض عضلة القلب ويمنع ظهور أو نشوء أي انقباضات غير منتظمة (Arrythmia) أو خارجة عن السياق الطبيعي، وهي ظاهرة خطيرة قد تؤدّي في حال عدم معالجتها إلى الوفاة.
وثمرة الأرضي شوكي هي من أغنى المصادر بالمغنيزيوم (Magnesium) إذ تؤمِّن الحبّة الواحدة المتوسطة الحجم 72 ميليغراماً من المغنيزيوم أي ما يوازي 18% من حاجة الجسم اليومية لهذا العنصر الضروري.
ويُفضَّل تناول ثمرة الأرضي شوكي كاملةً، أمَّا للذين لا يحبّون ذلك، فإنَّ قلوب الأرضي شوكي ما زالت مصدراً مهماً للمغنيزيوم إذ إنَّ نصف الكوب منها يؤمِّن للجسم 50 ميليغراماً تقريباً من المغنيزيوم، ما يوازي 13% من الحاجة اليومية. وهناك البوتاسيوم أيضاً، وهو المعروف بحامي القلب الأوَّل، وهو متوفّر في الأرضي شوكي بنسبة جيدة، وللمغنيزيوم والبوتاسيوم دورٌ كبيرٌ في حفظ ضغط الدم الشرياني في حدوده الطبيعية بل ولهما تأثيرٌ مهمٌّ أيضاً في خفض الضغط المرتفع إلى حدٍّ ما.

الفأر آفة أساسية للأرضي شوكي لأنه يقوم بتجويف جذعه مما يسبب موت النبتة
الفأر آفة أساسية للأرضي شوكي لأنه يقوم بتجويف جذعه مما يسبب موت النبتة

الأرضي شوكي من أسهل الزراعات البيتية أو الحقلية لأنها لا تتطلب سوى غرس الفسيلة في مكانها ولا تحتاج إلى تجديد الزرع سنوياً لأن الفسيلة تكبر لتكون شجيرة قد يبلغ علوها المتر ونصف المتر أو أكثر وتعطي ثمارها على رؤوس الأغصان شبه القصبية ثم تذوي وتجف في الصيف، لكن لتعود فتطلق أوراقها الجديدة بعد بدء موسم الأمطار، أي إن الأرضي شوكي هو عملياً نبات للمدى الطويل، وهو عموماً لا يحتاج إلا إلى تسميد خفيف مع تفضيل السماد العضوي ، لكن يفضل ري الشجيرات بعد انقطاع موسم الأمطار للسماح بكافة أزرار الموسم بالتحول إلى رؤوس ناضجة وبالتالي زيادة المحصول.
وفي الحقيقة يكفي المنزل 20 إلى 50 غرسة أرضي شوكي للحصول على موسم جيِّد فيه الغذاء اللذيذ والدواء النافع على السواء، إذ إن الشجيرة الواحدة من هذا الخضار تنتج ما بين 7 و10 رؤوس ناضجة من الحجم الكبير أو الوسط ما يعني أن 50 نبتة منه يمكن أن تزود المنزل ما بين 350 و500 رأس أرضي شوكي أو ما يكفي ليس فقط لاستهلاكه من كل أفراد الأسرة بل لخزنه أيضاً خصوصاً عبر حفظ الأقراص في الثلاجة أو مكبوساً في الماء والملح والخل.
من ميزات الأرضي شوكي أنه لا يتعرض لآفات باستثناء حشرة المن التي قد تظهر في مناخ رطب، وهذه لا تضرّ الثمرات لكنها تعني ضرورة غسلها بالماء والملح للتخلص منها قبل استهلاكها. وإذا رغب أحدنا في التخلص من المن فإن الطريقة الفضلى ليست باستخدام مبيد كيميائي بل مزيج من الحر الأحمر اللاذع وخل التفاح أو مقطر الزعتر فهذا المزيج كفيل بالقضاء على المن في غضون دقائق من الرشة. ولا تنسى أن هذه النبتة يستفاد من كل أجزائها لأن أوراقها يمكن أن تقدم للدجاج في المنزل أو لأي ماشية كالماعز أو الدواب.

” الأرضي شـــوكي من أسهل الزراعات البيتية والحقلية فلا تنسوا غرسها في زوايا الحديقة ونيل فوائدها العظيمة  “

زراعة الأرضي شوكي في قرية فرنسية
زراعة الأرضي شوكي في قرية فرنسية

الأرضي شوكي

العناصر الغذائية في 150 غراماً

109 غ سعرات حرارية
 14 غ سكريات
ألياف
معادن
 % من الحاجة اليومية العنصر
28% حديد
18% بوتاسيوم
12% فوسفور
10% نحاس
6% ماغنيزيوم
4% مانغانيز
2% كالسيوم
2% سلينيوم

 

 

 

فيتامينات
20% فيتامين B1
10% فيتامين C
10% نياسين B3
6% فيتامين B6
6% بانتوتنيك أسيد
5% فوليك أسيد
5% ريبوفلافين B2
مركبات دوائية فعّالة
Silymarin
Cinnamic acid
Flavonoids
inulin
المصدر: Nutritional data ومصادر أخرى

خل التفاح

“المصنعون يقومون بتعقيم الخل لمنع تشكّل الطبقة العكرة («أم الخـــــــــل») وهذا يفقده أهم فوائده الغذائـــــــية والصحية”

“خل التفاح يساعد على التخلص من الحرقة Reflux من خلال تعويض نقص البيئة الحمضية في المعدة وزياة القلوية في بيئة الهضم”

“استعمل لصنع خـــلّ التفاح مرطبانات الزجاج وليس البلاستيك ولا تشتــــريه إذا كان معبأ بزجاجات بلاستيكيــــة”

“أفضل أنواع الخل يأتي من التفاح المنتج عضوياً وغير المروي (البعل) والمستخدم في صنعه التفاح الأصفر والأحمر”

خَلّ التـــفّاح

إكسير الصحة اللذيـــذ

ما هي فــوائــــده، ما هــــي أجــــود أنواعــــــــه
ومــــا هــــي أفضــــل طريقــــة لصنعــــه منزليــــــــاً؟

خل التفاح يتمتـــع بخصائــــص لخفض سكر الــــدم
مماثلة لتلك الموجودة فــــي أدوية معالجة الســــكَّري

حمض الكلوروجينك في خلّ التفاح يكبح تأكســــد الـ LDL
ويُحسِّن الصحة ويحمي القلب ويقي من أمراض الشرايين

ليس أكثر من الدراسات المنشورة حول خلّ التفاح، ومدى فوائده الصحية والعلاجية، فما هي الفوائد التي يمكن الحصول عليها من هذه العصارة الطيبة المذاق مع طعم الحموضة المميز في الخلّ؟ وكيف يمكن الحصول على أجود أنواع خل التفاح لتحقيق الفوائد المرجوة منه؟

اكتُشِفَ الخلّ منذ الألفيّة الخامسة قبل الميلاد مع تحوُّل عصير العنب المَنْسِي إلى نبيذ ومن ثم خلّ. وبعد أن استُخدِم لعصورٍ عديدة كحافظٍ للأطعمة، بدت الفوائد الطبية للخلّ تتبدّى للإنسان. فقد استخدمه أبو الطب الإغريقي أبقراط (Hypocrites) لتعقيم الجروح، في حين استعمله مزاولو الطب في القرن الثامن عشر لعلاج كلّ شي، من الطفح الجلدي الناتج من لمس نبتة اللُّبّلاب السام Poison Ivy، مروراً بمرض الخُنّاق التنفُّسي، وصولاً إلى أوجاع المعدة، ومن ثم علاج داء السكري! ويمكن صنع الخلّ فعلياً من أي نوع من الكربوهيدرات التي بالوسع تخميرها، بما في ذلك الأعناب، والتمور، والبطاطا، والشمندر، وجوز الهند، والتفاح طبعاً.
ويُنتَج الخلّ عبر عملية تخمير بطيئة وطويلة الأمد، تجعله غنياً جداً بالمكوّنات ذات التأثير الإيجابي في الجسم، كحمض الأستيك الخلّي (Acetic acid)، والعديد من الأحماض النشطة الأخرى والفيتامينات والأملاح المعدنية، ما يمنحه خصائص مضادة للأكسدة، ومكافحة للجراثيم فضلاً عن المزايا الشفائية الأخرى.
وهذه العملية البطيئة لإنتاج الخلّ التقليدي تسهِّل نمو مستعمرةً من بكتيريا الحمض الخلّي فوق سطح عصير التفاح، مشكّلةً طبقةً شبكية سميكة لزجة تتألف من بكتيريا الخميرة والحمض الخلّي وأحماض أمينية، تُدعى «أُم الخلّ»، لتبدأ عملية التخمير ببطء على مدار أسابيع أو أشهر عديدة. وهذه الطبقة في الخلّ الخام العَكِر غير المفلتر أو «المكرر» هي دليل على مدى جودته. فالعديد من المُصنِّعين يقومون بترشيح وتعقيم الخلّ لمنع تشكُّل مثل هذه الطبقة، ممّا يُفقده جودته وبالتالي منافعه.

الإستخدامات الصحية
ما من إرشادات صحية محدّدة إزاء استخدام خلّ التفاح. فالبعض يتناول ملعقة صغيرة أو اثنتين يومياً، ممزوجة بالطبع بكوب من الماء، قبل وجبات الطعام أو على الريق صباحاً، وما أكثر التقارير والأبحاث التي تتحدّث عن فوائد ذلك. ولا تحذيرات سوى للمرضى المصابين بقرحة المعدة والمريء وما شابه ذلك.
وثمة العديد من الاستخدامات الصحية والعلاجية لخلّ التفاح، من بينها:

داء السكري
للخلّ تأثيرٌ مفيد على مستويات سكر الدم، إذ إنّ الحمض الخلّي قد يُخفِّض سكر الدم عبر منع الهضم الكامل للنشويات المعقّدة الذي يُسرِّع عملية إفراغ المعدة ويزيد دخول السكر إلى أنسجة الجسم. وتُشير إحدى النظريات العلمية إلى أنّ الخلّ قد يخمد عمل الإنزيمات الهضمية التي تُفكِّك النشويات المعقّدة وتحولها إلى سكر ينساب بسهولة إلى مجرى الدم. وهذا ما يمنح الجسم مزيداً من الوقت لسحب السكر من الدم، وبالتالي يمنع ارتفاع معدّل سكر الدم، ثمة العديد من الأبحاث العلمية المُحْكَمَة التي تدعم أيضاً استخدام خلّ التفاح كعلاج للسكري.
ووجدت إحدى الدراسات أنّ العلاج بخلّ التفاح حسَّن من مستوى الحساسية للإنسولين لدى 19 في المئة من المشاركين المصابين بداء السكري من «النوع 2» و 34 في المئة لدى مَنْ هم في المرحلة السابقة لداء السكري.
وكذلك وجدت دراسة أخرى أنّ تناول ملعقتين كبيرتين من خلّ التفاح قبل النوم يُخفِّض مستويات سكر الدم صباحاً لدى أولئك المصابين بداء السكري من «النوع 2» بنسبة 6 في المئة.

صحة القلب
حمض الكلوروجينيك» (chlorogenic acid) الموجود بمستوياتٍ عالية في خلّ التفاح قد يكبح تأكسد «الكوليسترول السيّئ» (LDL) ويُحسِّن الصحة ويمنع أمراض الشرايين كما يدعم خلّ التفاح صحة القلب بوسائل شتى. فمركّبات «البوليفنول» (polyphenols) على غرار «حمض الكلوروجينيك» (chlorogenic acid) الموجود بمستوياتٍ عالية في خلّ التفاح قد تكبح تأكسد «الكوليسترول السيئ» (LDL) وتحسِّن الصحة وتمنع أمراض شرايين القلب وذلك كما جاء في دراسة نشرتها «مجلة علوم الغذاء» Journal of Food )Science)، والتي وجدت أنّ خلّ التفاح قد يُخفِّض الكوليسترول في الفئران المخبرية، فيما خلصت دراسة أخرى على الفئران إلى أنّه في الإمكان تخفيض ضغط الدم بفضل حمض الأستيك الموجود في الخلّ. كما تبيّن أنّ الخلّ يُخفِّض مستويات الدهون الثلاثية «التريغلسيريد» (triglyceride) ومستويات الكوليسترول السيّئ العالية جداً (VLDL) (والمدمّر جداً) وذلك في دراسات أُجريت على الحيوان.

خفض الوزن
يساعد خلّ التفاح أيضاً على فقدان الوزن بسبب تأثيره المضاد للسُّمنة عبر زيادة التشبّع أو الإشباع (satiety) وخفض الكمية الإجمالية للطعام المستهلك. فعلى سبيل المثال، حينما استهلك متطوّعون في إحدى الدراسات كمية صغيرة من خلّ التفاح مع وجبة غنية بالنشويات (كعكة محلّاة وعصير)، استهلكوا كمية أقل من الطعام في ما تبقَّى من النهار. وهذا الخفض في كمية الطعام المتناول يُوازي 200 إلى 275 سعرة حرارية في اليوم، وهي كمية قد ينتج منها فقدان للوزن شهرياً يصل إلى كيلوغرام واحد. وإضافة إلى ذلك، وجد بحثٌ منفصل أنّ تناول الخلّ مع الخبز لا يُخفِّض الغلوكوز واستجابات الأنسولين فحسب بل يُضاعف مستويات الإشباع المرتبط مباشرة بمستوى حمض الأستيك.

خل التفاح جزء من صيدلية المنزل ومن المطبخ الطبيعي
خل التفاح جزء من صيدلية المنزل ومن المطبخ الطبيعي

الجيوب الأنفية والحنجرة
يساعد خلّ التفاح على تفكيك وتخفيض المخاط في الجسم بما يُسهِم في تنظيف الجيوب الأنفية، كما له خصائص مضادة للبكتيريا بما يجعله مفيداً للإلتهابات. وهذه الخصائص قد تكون ذات فائدة للحنجرة المُلتهبة أيضاً. حيث تُغَرْغَر الحنجرة بنحو ثلث كوب من خلّ التفاح ممزوجاً بمياه دافئة حسب المقتضى.
يعالج خلّ التفاح أيضاً المشاكل الهضمية، من بينها «الحَرْقة» أو «ارتجاع العُصارات المَعِديّة» (Acid Reflux) من المعدة الناجم عن قلّة الحمض في المعدة لا كثرتها. وبالوسع تحسين مستوى الحمض في المعدة عبر تناول ملعقة كبيرة من خلّ التفاح الخام غير المرشَّح في كوب كبير من الماء يومياً. فمادة «البكتين» (pectin) في خلّ التفاح قد تساعد أيضاً على تهدئة تشنُّجات الأمعاء. فخلّ التفاح باختصار يُسهِّل الهضم ويحمي القولون، ويتّحد بالسموم الهضمية ويُسرِّع خروجها من الجسم.
من ناحية تخفيفه «ارتجاع العُصارات المَعِديّة»، تكمن المفارقة في أنّ حموضة خلّ التفاح تتحوَّل إلى مادة قلوية في المعدة تخفف حموضتها. مثال على ذلك الليمون الحامض، فهو شديد الحموضة لكنّه يُنتِج بعد الهضم والتمثيل الغذائي مادةً قلوية، في حين أنّ اللحم الذي يبدو قلوياً قبل الهضم، يترك مادة حمضية جداً في الجسم، كشأن جميع المنتجات الحيوانية.

مكافحة الإرهاق
بسبب اشتماله على البوتاسيوم والأنزيمات، فإنّ خلّ التفاح يُسهِم في التغلُّب على الإرهاق. وإضافة إلى ذلك فإنّ الأحماض الأمينية في هذا الخلّ قد تُسهِم في منع تراكم «حمض اللكتيك» (lactic acid) في الجسم بما يقي من الإرهاق أيضاً.

الجلد والثالول (الثؤلول)
يُعتبر خلّ التفاح علاجاً ناجحاً لمجموعة من اعتلالات البشرة، بدءاً من لذعات الحشرات والتحسُّس للنباتات وصولاً إلى حروق الشمس، ويمكن وضعه مباشرة فوق المنطقة المصابة أو الاستحمام بمياه وُضِعَ فيها كوبٌ من خلّ التفاح.
كما إنّ وضع خلّ التفاح على الجلد قد يساعد في إزالة التُؤلول (وهو نمو جلدي قاسٍ يظهر عادة في الأيدي والأقدام) وذلك بفضل المستويات العالية من حمض الأستيك.

إستخدامات منزلية
هناك أيضاً فوائد عديدة لاستخدام خلّ التفاح المكرّر في المنزل، ولاسيّما كمُعقِّم قاتل للجراثيم والبكتيريا. فإحدى الدراسات وجدت أنّ حمض الأستيك قد يقضي على بكتيريا «الإكولي» (E. coli)، فيما وجد بحث آخر أنّ حمض الأستيك، وعصير الليمون الحامض، أو المزيج من الاثنين قد يكون فعّالاً ضد جرثومة «السلمونيلا» (salmonella)، كما ويُستخدم خلّ التفاح أيضاً كعاملٍ طبيعي لتنظيف الفواكه والخضار وتعقيمها من البكتيريا.

إستخدامات تجميلية
لخلّ التفاح دورٌ أيضاً في النظافة الصحية والجمال، وتنظيف الشعر، وموازنة رطوبة جلدة الرأس، وإنعاش البشرة، كما ينفع كقاتل للبكتيريا المُسبِّبة للرائحة الكريهة تحت الإبط وفي القدمين.
والغرغرة بخلّ التفاح المُخفَّف بالماء قد يساعد على إزالة رائحة الفم الكريهة ويُبيِّض الأسنان. وبالطبع لا بدّ من تخفيف الخلّ بكمية من الماء حتى لا يؤذي جدار المعدة في حال ابتلاعه.

السرّ في الحموضة
حموضة خلّ التفاح مفيدة جداً للصحة حيث تزيد من فعالية حموضة البول وتمنع إلتهابات المسالك البولية، كما إنّ هذه الحموضة قد تقِي من الرشح و«إلتهاب الجيوب الأنفية» (sinusitis)، وآلام الأعصاب (neuralgia)، واعتلالات هضمية، وأوجاع الرأس والعديد من الأمراض. وحموضة خلّ التفاح القوية قد تُفكِّك مخزون تراكمات الكالسيوم في غضاريف الجسم لدى مرضى الروماتيزم وإلتهاب المفاصل، خصوصاً إذا ما مُزِجَت مع العسل.

إكسير الخلّ والعسل
نعم، يمكن للمزجِ بين خلّ التفاح والعسل أن يُثمر عدداً من الفوائد الصحية المعروفة على نطاقٍ واسع. وقد استُخدم على مرّ التاريخ كعلاج للعديد من الأمراض، وكإكسير مضاد للشيخوخة. وكذلك عُرِفت خصائصه المطهّرة المخففة للإلتهاب والمزيلة للسموم من الجسم، وكمضاد حيوي ومعقّم طبيعي يقتل الجراثيم والبكتيريا.
وباختصار، تشمل الأمراض التي يمكن لمزيج خلّ التفاح والعسل معالجتها كلّاً من: الشيخوخة المُبكرة، السُّمنَة، التسمُّم الغذائي، الإرهاق، «ارتجاع العُصارات المَعِديّة» أو «الحَرْقة»، تشقُّق الأظافر، رائحة الفم الكريهة، إلتهاب المفاصل، وضغط الدم العالي، والكوليسترول العالي، والأكزيما.
وكلّ ما علينا القيام به لصنع هذا الإكسير العجيب هو أن نمزج ملعقة كبيرة من خلّ التفاح وملعقة كبيرة من العسل ونذوِّبهما في كوب من الماء.

أفضل أنواع خلّ التفاح
أفضل أنواع خل التفاح وأكثرها احتواء على الفوائد الصحية والعلاجية هو المصنوع من ثمار التفاح المنتجة بطريقة الزراعة العضوية أي من دون استخدام الكيماويات أو المبيدات السامة. وهذه النقطة أساسية لأن تصنيع الخل من التفاح المنتج بالوسائل التقليدية قد لا يحمل الفائدة نفسها بل قد يترك في الخل رواسب من المبيدات المستخدمة لأن هذه تبقى لفترة بعض قطاف الثمرة خصوصاً عند استخدام المبيدات الجهازية Systemic التي تدخل إلى قلب الثمار وعصارتها.
كذلك، فإن خل التفاح يكون أطيب اذا صنع من التفاح غير المروي (بعل) لأن شجرة التفاح البعلية تعطي ثماراً في غاية الحلاوة وذات لب متماسك ومشبع بالعصارة المغذية ولهذا فإنها عندما تتخمر في الإناء تنتج خلاً طيب المذاق ومفعماً بالرائحة الزكية، كما إن هذا الخل يعطي طعماً هو مزيج من الحلاوة والنكهة العطرية والحموضة المميزة للخل، فهو سلس المذاق ويمكن تناوله بسهولة يومياً في قدر من الماء كعلاج وقائي أو على سبيل صيانة الجهاز وجهاز المناعة.
نصيحتنا أيضاً أن يتم المزج بين التفاح الأصفر المعروف Golden delicious وأنواع التفاح الأحمر ولاسيما ذي النكهة العطرة مثل الغالا والفوجي والستاركن الغامق الحمرة لأن الخل الناتج عن ذلك يكون لونه زهرياً محمراً وهو يختلف عن أنواع الخل الباهتة اللون التي تباع في السوق.
ملاحظة: من الأفضل عدم صنع الخل من التفاح الحامض أو الموشح الذي ينضج باكراً لأنه لا يتمتع بالحلاوة وهو ينتج خلاً ذا طعم «مزّ» أي غير حلو وهذا الخل له الخصائص العامة لخل التفاح ويمكن استخدامه في السلطات أو كبيس الخضار لكن قد لا يكون لذيذاً لتناوله كشراب علاجي كطعم الخل المنتج من التفاح الحلو.

كيفية صنع خل التفاح
إذا كان لديك حقل تفاح فإنه من الممكن صنع الخل من التفاح المتساقط عند موسم النضج، وعادة ما تكون هذه الثمار قد أصيبت بالتسوس الجزئي الأمر الذي سبب سقوطها، لكنها عادة عالية الحلاوة ويمكن استخدام معظمها في إنتاج الخل وهذا الحل اقتصادي لأنه يوفر وسيلة لتدوير التفاح المتساقط بدل رميه أو إعطائه للماشية. إذا كان عليك أن تشتري التفاح فابحث عن الإنتاج البعلي والعضوي ولا تقبل بأقل من الإنتاج العضوي حتى ولو كان التفاح مروياً.
بعدها يجب غسل التفاح جيداً والاحتفاظ بقشره وتنظيفه من البذور ثم تقطيعه حزوزاً صغيرة وهناك من يقوم حسب الطريقة الروسية ببرش التفاح، ثم يوضع التفاح المقطع في مراطبين من الزجاج سعة 20 لتراً أو أكبر والمهم أن لا تضع الخل في مستوعبات بلاستيكية فهذا سيىء جداً لأن حامض الخل سيتفاعل مع البلاستيك ويصبح ملوثاً بمادة الـ BPA المسرطنة ومن أعجب العجائب أن الخل يباع في التعاونيات والسوبرماركت في قوارير بلاستيكية!! بدلاً من الزجاجية كما هو المفترض. فإن وجدت الخل في قوارير بلاستيكية فلا تمسّه وأبعده عن أسرتك.
يترك التفاح المقطع أو المبروش في المراطبين الزجاجية لمدة لا تقل عن 60 يوماً وكلما كانت المدة أطول كلما زادت حموضة الخل وتحسنت خصائصه ينقل محتوى المراطبين الذي يكون قد أصبح متخمراً ومتحللاً إلى أكياس من الخام توضع داخل طنجرة ستانليس كبيرة ويوضع الكيس على طنجرة مقلوبة داخل الطنجرة الكبيرة بحيث يتاح للعصير الذي أصبح خلاً أن يتجمع بصورته المصفاة في قعر الطنجرة الأم. ومن الأفضل تثقيل الكيس بأوزان مثل البلاط أو حجر صخري كبير لأن ذلك يساعد على «عصر» الخل من الكيس وتصفيته في وقت أسرع.
عندما تتأكد من أن كل الخل قد نضح من الكيس إلى الطنجرة يرفع الكيس ويلقى بالتفل في جورة الكمبوست أو ببساطة يوضع على الأشجار. أما الخل الذي يكون قد تجمع في الطنجرة فيترك يوماً أو بضعة أيام لكي يرقد تماماً ثم يؤتى بمغرفة ستانليس وبقناني نصف لتر (تباع في أكثر التعاونيات والبقالات الكبيرة) ويغرف الخل بعناية من الطبقة العليا ثم يسكب في القناني بواسطة قمع مخروطي (يفضل قمع من الستانليس لكن أي قمع يمكن أن يؤدي الغرض).
بعد ذلك توضع قناني خل التفاح في صناديق الكرتون التي تباع فيها أصلاً وتحفظ في مكان بعيد تماماً عن الضوء ويتمتع بشيء من الحرارة المعتدلة أو البرودة (القبو إذا وجد أو في مستودع المونة المعتم).
كما سبق القول، فإن زجاجة الخل قد يتشكل فيها بعد فترة نوع من التجلط السميك الذي يعوم داخل القنينة وهذا التجلط يدعى «أم الخل» وهو أفضل دليل على أن الخل ذو نوعية جيدة، ويجب تناول الخل من القنينة مع ترك «أم الخل» فيها لأن هذه الكتلة السميكة نوعاً هي ما تعطي للخل خواصه الممتازة

دكتور OZ
دكتور OZ

 

ماذا يقول دكتور OZ
عن خل التفاح

يقول الدكتور أوز OZ وهو صاحب أشهر برنامج طبي في الولايات المتحدة أن خل التفاح له خصائص خافضة لمعدل السكر في الدم شبيهة جداً بأدوية السكري مثل المتفورمين، من المفيد بالتالي تناول ملعقة أو اثنتين من خل التفاح في كأس ماء قبل وجبة غنية بالكاربوهايدرات. ويضيف. الدكتور أوز أن خل التفاح يحمي القلب من الكولِيسترول السيىء LDL الذي يتسبب في تصلب وانسداد شرايين القلب، كما إن دهون استبدال الصلصات الغنية بخل التفاح وزيت الزيتون يمكن أن يساعد في خفض الوزن، ويمكن لربة المنزل إعداد صلصات للسلطة مكونة من خل التفاح والأعشاب وزيت الزيتون.
كما إن خل التفاح حسب الدكتور OZ يقتل البكتيريا ولا سيما تلك المسببة لتهيج الحلق والتهاب اللوزتين، لكن الدكتور أوز ينبّه إلى عدم الإفراط في تناول خل التفاح أو أي نوع آخر من الخل لأنه في النهاية مركب حامضي Acidic وبالتالي قد يؤثر تناوله بكثرة (طمعاً في فوائده) على المعدة أو المريء. وفي جميع الحالات لا ينصح بتناوله لمن يشكو القرحة في أي منهما.

العدد 13