الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نصرة دروز لبنان

نصرة دروز لبنان
لثـــــورة 1936 فــي فلسطيــن

المفرزة الدرزية في حملة القاوقجي نالت الثناء
على انضباطها وشجاعتها وكفاءتها القتالية

دروز جبل لبنان لعبوا دوراً مهماً في تسليح الفلسطينيين
وسلطات الانتداب جندت كل قواها لإحباط التهريب

الأمير مجيد أرسلان ينتقد الحكومة بشدة
لمشاركتها في معرض تل أبيب الزراعي

لعب دروز لبنان دوراً مهماً -وغير موثق بصورة كافية- في نصرة ثورة العام 1936 ضد الاستيطان اليهودي والاحتلال البريطاني في فلسطين. واتخذت هذه النصرة شكلين أساسيين: المشاركة المباشرة في الجهاد الوطني إلى جانب الفلسطينيين ثم تنظيم حملات وقوافل لنقل السلاح إلى الفلسطينيين لموازنة عمليات التسلّح الكثيفة من قبل اليهود. في هذه المقالة نعرض لخصائص المرحلة التي كانت تعيشها فلسطين في تلك الفترة ولتفاصيل المشاركة الوطنية والدرزية المهمة بالقتال المباشر والسلاح في تلك الثورة التي أجهضت بفعل القمع البريطاني ومناشدات التهدئة العربية. وكانت هذه آخر الانتفاضات الجادة لمحاولة وقف السيل اليهودي الذي تدفق على الأرض المقدسة بتآمر مشترك من الانتدابين البريطاني في فلسطين والأردن والفرنسي في لبنان وسورية.

بعد استشهاد الشيخ عز الدين القسّام في 19 تشرين الثاني 1935، عادت مجموعته الثورية إلى الجهاد ضد اليهود في أواسط نيسان 1936، فكان ذلك بداية لأكبر ثورة فلسطينية بين الحربين العالميتين، استمرت حتى 1939، وتخللها إضراب شامل، وكان شعار الفلسطينيين فيها، وفي ما سيعقبها من ثورات ومواجهات، عبارات القسّام التي قالها لرفاقه عند استشهاده: “لا تستسلموا. موتوا شهداء”.
لم يواجه الفلسطينيون اليهود فقط، بل واجهوا أيضاً البريطانيين المنتدبين على فلسطين، الآخذين على عاتقهم تسهيل هجرة اليهود وإقامة الوطن القومي اليهودي تنفيذاً لوعد بلفور المشؤوم. لذا كان الفلسطينيون بحاجة إلى المساعدات من الدول العربية. ولقد قدمت لهم القوى الوطنية في هذه الدول، وبخاصة في دول المشرق العربي، النصرة في سنة 1936 بقدر ما تسمح به الظروف والإمكانات، وبقدر الحرية المتاحة لها للتحرّك في إطار الهيمنة البريطانية على العراق وشرق الأردن إضافة إلى فلسطين، والهيمنة الفرنسية على سورية ولبنان، وفي إطار تبعية حكومات تلك الدول للسلطات المنتدبة.
وفي ما يتعلق بلبنان يمكن القول إنه واكب ثورة 1936 وأثّر وتأثر بها، كما واكب وأثر وتأثر بما سبقها وأعقبها من حروب وأحداث مرتبطة بالقضية الفلسطينية بسبب مجاورته لفلسطين وعروبة أبنائه وتوجههم القومي. كما يمكن القول إن نصرته للثورة الفلسطينية جاءت على صعيد شعبي لا رسمي تجلت في إرسال بيانات وبرقيات التأييد، وتشكيل اللجان لجمع الإعانات للمصابين وعائلات الضحايا، وتزويد الثوار بالسلاح والقتال إلى جانبهم، والقيام بالمظاهرات والإضرابات، وتقديم الاحتجاجات على المخطط الصهيوني البريطاني واعتداءات الصهاينة وقمع البريطانيين لانتفاضات الفلسطينيين.
كانت الهيئات الرسمية في لبنان عاجزة آنذاك، ولو أرادت، عن تقديم أي دعم للوطنيين الفلسطينيين، وذلك بسبب هيمنة الفرنسيين على جميع الأمور، وتواطؤهم مع البريطانيين في إقامة الكيان الصهيوني، والاشتراك معهم في تنفيذ المخطط الاستعماري التقسيمي في المشرق العربي. وقد كان دور الهيئات الحكومية التابعة للمنتدب ليس فقط دون المأمول، بل كان أيضاً وفي مجالات عديدة دوراً قمعياً لنشاط تلك التيارات، إضافة إلى اتخاذ بضعة مواقف أخرى تخدم اليهود وتضر بالقضية الفلسطينية. فالحكومة اللبنانية، مثلاً، منعت تظاهر الطلاب لتأييد الفلسطينيين وشجب السياسة البريطانية، بحجة المحافظة على الأمن، كما أنها بالحجة نفسها وبحجة منع الظهور المسلح، تصدّت للجماعات المسلحة التي كانت تقصد فلسطين للقتال إلى جانب الثوار وإيصال السلاح إليهم.

موقف وطني للأمير مجيد أرسلان
وفي الوقت الذي كانت تنطلق فيه الدعوات لمقاطعة البضائع اليهودية والبريطانية، وافقت حكومة أيوب ثابت، في عهد رئيس الجمهورية إميل إده، على حضور لبنان معرض تل أبيب الزراعي في أيار 1936، إبَّان الثورة الفلسطينية، ووافق على هذا الحضور معظم أعضاء المجلس النيابي اللبناني، بحجة أن ذلك يفيد الاصطياف، ويعزز علاقات لبنان مع فلسطين. وقد أشاد أرباب الصناعة في دمشق واللجنة القومية في فلسطين والصحف الوطنية والجماهير البيروتية الإسلامية بموقف المعارضين للاشتراك في المعرض، وبخاصة موقف الأمير مجيد أرسلان، وهاجموا المؤيدين للاشتراك، وبخاصة الرئيس إميل إده ورئيس الحكومة أيوب ثابت. ومما جاء في بيان اللجنة القومية المعمم على الصحف ما يلي:
“إن اشتراك حكومة لبنان في المعرض الصهيوني تعدٍ على قدسية دماء شهداء فلسطين العربية وعلى أية رابطة تربطنا بلبنان. وهي حين تُقدِم بهذا الاشتراك على ما أحجم عنه الأجانب، إنما تتعمد الإساءة إلينا. إن في رسالة رئيس جمهورية لبنان إلى المعرض الصهيوني لروحاً عدائية يجدر بلبنان الشقيق أن يمحو أثرها بالعدول عن الإشتراك في المعرض المذكور”.
وما كان رئيس الجمهورية إميل إده موافقاً على حضور معرض تل أبيب الزراعي فقط، بل هو أبدى، بحسب تصريحه، الارتياح لقيام الوطن اليهودي في فلسطين. فلقد صرّح في 27 حزيران 1937 لجريدة “إيكو دو باري” بما يلي: “إن خلق جمهورية صهيونية ليس من شأنه ألا يسرنا”.

مشاركة الدروز في الثورة
مع اشتداد الإضراب العام في فلسطين حتى توقفه في 12 تشرين الأول 1936، وكذلك انتشار الاضطرابات بين العرب من جهة واليهود والبريطانيين من جهة أخرى، ازدادت حركة الاحتجاجات والاضرابات في المناطق والمدن اللبنانية، وكثرت البرقيات المرسلة من الزعماء والأئمة واللجان الطلابية، والتي تحتج على سياسة السلطة البريطانية، كما نشطت حركة جمع التبرعات لإغاثة المنكوبين العرب بواسطة لجانِ الإعانات المشكّلة في المدن، وبواسطة جريدة بيروت التي افتتحت الاكتتاب لجمع التبرعات. وواكب هذه التحركات المؤيدة والداعمة للثوار الفلسطينيين نقل السلاح إليهم، والتحاق بعض المقيمين اللبنانيين في فلسطين بالثوار، والتحاق العديد من اللبنانيين المقيمين في لبنان بهم. وبفضل هؤلاء اللبنانيين الذين انضموا إلى الفرق الفلسطينية المسلحة أو شكلوا فرق قتال صغيرة، توسع نطاق الثورة إلى ميدان جديد هو منطقة صفد شمال فلسطين، حيث برزت العصابات المسلحة من الموحدين الدروز. وفي هذه المنطقة استشهد لبنانيان في معركة الجرمق التي خاضها الثوار بقيادة الشيخ سعد الخالدي.
كان بعض اللبنانيين يلتحقون بثورة فلسطين عن طريق دمشق، وبخاصة بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها اسمها “اللجنة المركزية للجهاد”، كانت تتولى نقل هؤلاء اللبنانيين إلى فلسطين حيث ينزلون في ضيافة الأمير محمد الصالح في غور بيسان ويتسلمون منه السلاح. وكان بعض ناقلي السلاح إلى الثوار الفلسطينيين ينخرطون في صفوفهم، ويقاتلون إلى جانبهم.
وممن كان له دور في حوادث فلسطين الجارية بين العامين 1936 و 1939 أفراد العصابات اللبنانية المطاردين من السلطة أو المحكوم عليهم بالإعدام . ومن هؤلاء عصابة اسماعيل عبد الحق التي ظهرت في أواسط كانون الأول 1936 في جوار بلدة “يركا” حيث عادت إلى سلب المارة بحسب ما جاء في إبلاغ الحكومة الفلسطينية إلى حكومة لبنان. فانتدبت الحكومة اللبنانية ثلاثة من مفتشي شرطة التحري لمعاونة شرطة فلسطين في تعقب اسماعيل عبد الحق ورفاقه. ثم ظهرت عصابة اسماعيل عبد الحق في ضواحي عكا، واستقوت بانضمام بقايا عصابة فؤاد علامه، التي تشتتت بعد مقتله في سنة 1935. وأخذت عصابة عبد الحق “تقاوم اعتداءات الصهيونيين باعتداءات مثلها”. وقد خرجت قوات من الجيش الانكليزي لمطاردتها فاشتبكت معها في قتال دام ساعات عدة سقط فيه عدد من القتلى والجرحى. وتمكنت العصابة من الانسحاب بعد أن اعتقل الجيش اثنين منها. وقد أشار راديو لندن إلى اشتباك الجند البريطاني مع هذه العصابة، وقال إن أفرادها مسلحون بأحدث أنواع الأسلحة.
وبالاضافة إلى الالتحاق الفردي والجماعي، غير المنظم، بالثورة الفلسطينية التحقت بالثورة سرية لبنانية بحملة فوزي القاوقجي التي بدأ الاستعداد لها في أوائل شهر حزيران 1936، ووصلت عناصرها الآتية من العراق، ومن مناطق سورية التالية: دمشق وحمص وحماه وحوران، ومن جبل لبنان، إلى نقطة التجمع الأخيرة في ميدان الجهاد في فلسطين، في الواحد من شهر آب.

بعض اللبنانيين التحقوا بثورة فلسطين عن طريق دمشق بعد تشكيل قيادة فلسطينية فيها باسم “اللجنة المركزية للجهاد”

يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947
يهود يرقصون احتفالا بقرار تقسيم فلسطين في العام 1947

القاوقجي يغيّر المعادلات
قسّم القاوقجي حملته إلى خمس مفارز أو سرايا هي سرية فلسطينية بقيادة نائبه فخري عبد الهادي، وسرية دمشقية حورانية أردنية بقيادة الشيخ محمد الأشمر، وسرية حموية حمصية بقيادة منير الريّس، وسرية عراقية بقيادة الضابط العراقي (جاسم)، وسرية درزية من جبل لبنان وجبل العرب بقيادة حمد صعب من قرية الكحلونية، إحدى قرى قضاء الشوف . أما الدوافع إلى تقسيم القاوقجي لحملته إلى سرايا على أساس مناطقي، فهي ميل عناصر كل سرية إلى القتال مع بعضهم البعض “وحتى تتبارى وتتنافس كل فئة منها في إظهار خصائصها العربية الكريمة” بحسب ما ذكر قائد إحدى هذه السرايا منير الريس.
قبل وصول القاوقجي كان الثوار الفلسطينيون عبارة عن شراذم متفرقة، مستقلة عن بعضها البعض، يكمنون في سفوح الأودية أو رؤوس الهضاب والجبال، حتى إذا مرّت قافلة انكليزية أو يهودية من أمامهم، يصلونها ناراً حامية، ثم يسرعون إلى قراهم، مما كان يجعل أمر ملاحقتهم في القرى ميسوراً، ولا يضطر الإنكليز إلى كبير عناء وكثرة عدد لمواجهتهم وملاحقتهم. وبعد وصول القاوقجي إلى فلسطين في 25 آب 1936 تسلّم قيادة الثورة الفلسطينية بالنظر إلى خبرته وتجاربه، وأصدر بلاغات إلى الأمة الفلسطينية والأمة العربية الإسلامية كي تذيع أخبار المعارك المنتصرة، وتحث على حمل السلاح والجهاد من أجل إنقاذ فلسطين من الظلم والاعتساف، وأسس محكمة ثورية ولجاناً خاصة للإعاشة والتموين مرتبطة به.
وبناءً على ذلك، وعلى تنظيم القاوقجي للثوار، وعلى كون المجاهدون الذين أتوا معه إلى فلسطين مدربين ومنظمين، ومعظمهم خاضوا معارك الثورة السورية الكبرى، حصل تغير جوهري في نوعية العمليات العسكرية وغدا هناك زمر يتراوح عدد الوحدة منها ما بين خمسين وسبعين رجلاً، تمارس ما تعتقد بأنه حرب وطنية تدافع بها عن بلادها في وجه الظلم والتهديد بالسيطرة اليهودية، كما اشتدت حماسة الفلسطينيين إلى القتال، وإلى الاستمرار في الإضراب العام، بعد فتور في هذين الأمرين.
نجاحات القاوقجي تفاجئ البريطانيين
بدأت السرايا التي شكّلها القاوقجي القتال في جبل جريش في 25 آب 1936 حيث تمّ اسقاط طائرتين انكليزيتين. وخاضت معركة في 2 أيلول، وانتصرت على الانكليز وأوقعت بهم العديد من القتلى والجرحى وأسقطت لهم طائرتين. ثم خاضت معركة جبع في 24 أيلول وانتصرت على الفرق الإنكليزية على الرغم من الإمدادات التي أتى بها الانكليز إلى فلسطين. وقامت بهجوم ناجح على مراكز الجيش الإنكليزي في نابلس في 29 أيلول وهزمته في بيت أمرين، وخرّبت خطوط مواصلاته في هذه المنطقة مما اضطره إلى استقدام قوات إضافية إلى فلسطين لسحق الثورة. فكان لهذه الانتصارات الباهرة أثر كبير في فلسطين، إذ ضعفت هيبة الجيش الانكليزي، وتلاشت الدعايات المضللة، وتأججت نار الحماسة في النفوس، وازداد الأمل بالنصر، كما كان لها أثرها أيضاً في سورية والأردن والعراق، إذ اشتد الهياج في هذه الدول، وقوي تأييد الثورة الفلسطينية، وتألفت لجان الإسعاف والإعانات التي كانت تتلقى المساعدات والأموال بالمزيد من البذل والعطاء.

فوزي القاوقجي
فوزي القاوقجي

القاوقجي يثني على المفرزة الدرزية
أما عن السرية اللبنانية، فقد جاء في مذكرات فوزي القاوقجي، في الحديث عن الفوضى والمشكلات التي عانت منها حملته، ما يلي: “اعترف ان المفرزة الدرزية اللبنانية كانت نموذجاً عظيماً للمجاهدين في تحمّلهم وصبرهم وقلة مشاكلهم، وكان قائدها حمد بك صعب مثال النخوة والاقدام”. وعن خسائر “السرية الدرزية” يرد في مذكرات القاوقجي استشهاد محمود أبو يحيى من جبل العرب في معركة بلعا “وهو الذي كان له الفضل في الصمود والمحافظة على خط دفاعنا المركزي. وقد أبدى – شأنه في كل معركة عرفته فيها في معارك الثورة السورية – من الجرأة والشجاعة ما يعجز عن وصفها القلم”. كما يردّ في “يوميات أكرم زعيتر” استشهاد المجاهد حسين البنّا من شارون، إحدى بلدات قضاء عاليه في معركة بلعا، واستشهاد ملحم سعيد سلّوم حماده من بعقلين، إحدى بلدات الشوف، في معركة كفرصور في 8 تشرين الأول 1936، بعد أن أردى ضابطاً بريطانياً من ثقب الدبابة. ولقد تحاشى أهله في بعقلين الإجابة عن أسئلة السلطة المتكرّرة عن سبب موته وإقامة عزائه من دون جثة، نظراً لما كان يتعرض له أهل المجاهدين من ملاحقات ومضايقات وعمليات دهم في وقت ساعدت فيه السلطة المنتدبة الفرنسية على سورية ولبنان السلطة المنتدبة البريطانية على فلسطين، على قمع الثورة الفلسطينية ومنع وصول المساعدات إليها والتحاق المجاهدين من سورية ولبنان بها.

خلافات على الطريقة العربية
واجهت القاوقجي مشكلاتٌ عديدة منها غياب الدعم العربي المطلوب، والمشكلات الداخلية بين مجاهدي حملته، والتي منها عصيان المفرزة العراقية بسبب الرواتب، وهي التي كانت أكثر انتظاماً من غيرها. ومنها الخلافات الفردية بين الحماصنة والشوام، التي كانت تصل أحياناً إلى استعمال السلاح، ومنها تحول الخلافات الفردية إلى خلافات بين السرايا، وإصرار بعض الزعماء على تنفيذ آرائهم وخططهم، وعودة بعض العناصر إلى مواطنها، واتصال بعض العناصر برجال الاستخبارات البريطانية في فلسطين ورجال الاستخبارات الفرنسية في درعا. وكان القاوقجي يبذل جهداً كبيراً في حل هذه المشكلات وتلافي أضرارها ويضطر أحياناً إلى تسريح المشاغبين. كل هذه العوامل، إضافة إلى إنهاء الإضراب العام في فلسطين تلبية لنداء ملوك العرب وإعلان الإنكليز للهدنة، اضطرت فوزي القاوقجي إلى الانسحاب من فلسطين في تشرين الأول 1936.

سباق تسلح بين الفلسطينيين واليهود
كان الفلسطينيون في أمس الحاجة إلى السلاح في صراعهم مع اليهود والجيش البريطاني، وهو الذي كان بكمّه ونوعه أهم أسباب انتصار اليهود في جميع الحروب العربية الإسرائيلية. لقد كانت سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين لا تسهّل هجرة اليهود واستيطانهم فقط، بل توفّر لهم أيضاً الحماية بسياستها المنحازة، وتصادر الأسلحة من العرب وتقمع انتفاضاتهم التي قامت من أجل وقف هجرة اليهود إلى فلسطين ومنع إقامة كيانهم العنصري.
وفي المقابل، كان اليهود يحصلون على السلاح إمّا من مصادر السلطة البريطانية أو بواسطة التهريب بتواطؤ مع المسؤولين البريطانيين. واكتشاف شحنة الأسلحة والذخائر في ميناء يافا، المهربة إليهم داخل براميل، في أواخر سنة 1935، كان من أهم أسباب ثورة الفلسطينيين في سنة 1936، كما أن اليهود عملوا بشتى الأساليب على إفراغ أسواق البلدان العربية المجاورة وبيوت الأهالي من السلاح لتلافي احتمال انتقاله إلى الفلسطينيين، والّفوا لهذا الغرض شركة لشراء السلاح من سورية ولبنان بعد انتفاضة الفلسطينيين في سنة 1929، المعروفة، بانتفاضة البرّاق، وبعد تعاظم شعور العداء في الدول العربية إزاءهم وإزاء البريطانيين. وقد اكتشف رجال الأمن اللبنانيين شركة يهودية تشتري السلاح من سورية ولبنان، وتجمعه في مستودع في صحراء الشويفات، وتنقله إلى اليهود. وهذه الأسلحة هي بنادق ومدفع رشاش وقنابل يدوية.
منذ أن قامت الثورة الفلسطينية في سنة 1936 شرع الكثيرون من أبناء سورية ولبنان وشرق الأردن بنقل السلاح إلى الفلسطينيين والقتال إلى جانبهم. وإذا كان أكثر ناقلي السلاح قد فعلوا ذلك بدافع وطني، فإن قلة منهم توخّت الربح؛ لأن البندقية، مثلاً، كانت تُشترى في لبنان بـ 14 ليرة وتباع في فلسطين بـ 31 ليرة، ومع هذا الدافع التجاري لهؤلاء، فقد أسدوا خدمة جلّى للفلسطينيين، وللمتطوعين للقتال إلى جانبهم؛ لأنهم بحاجة إلى السلاح والذخيرة. وكان بعض السلاح المنقول إلى فلسطين من بقايا سلاح الثورة السورية الكبرى، وبهذا ردّ الدروز للفلسطينيين في سنة 1936، الجميل الذي صنعوه مع مجاهدي الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

قوافل السلاح تنطلق من الشوف وعاليه
لم يكن نقل السلاح وتسرّب المسلحين إلى فلسطين عمليةً سهلة، بل كانا مغامرة محفوفة بالمخاطر، وبخاصة بعد تكاثر حواجز القوى الأمنية لمنعهما. وقد حفلت عشرات الأعداد من الصحف المختلفة الصادرة آنذاك، وبيانات السلطات، ونشرات راديو فلسطين، بأخبار الاشتباكات الكثيرة بين الجند والمسلحين في مختلف المناطق اللبنانية، ولا سيما مناطق الحدود اللبنانية الفلسطينية، والمسالك الرئيسية التي كانت الكمائن تقام فيها، كما حفلت بأخبار المداهمات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع، وفي لبنان الجنوبي، بحثاً عن السلاح وناقليه.
جرت أضخم مسيرة من مسيرات المنتقلين إلى فلسطين، في ليل 10 – 11 أيلول سنة 1936، وضمت ما يقارب المئة مسلح من مختلف قرى الشوف وعاليه. ولدى وصولهم إلى تومات نيحا، اصطدموا برجال الدرك الذين كمنوا لهم في هذا المكان؛ إذ كان مخبرو السلطة قد أعلموها بتحركهم، وبأن في نيتهم نقل السلاح إلى الثوار الفلسطينيين والالتحاق بهم. لكن هذا الاشتباك لم يحل دون متابعة أكثر المسلحين لطريقهم في حين عاد قلة منهم إلى قراهم.
اهتمت السلطة الفرنسية المنتدبة بهذه الحادثة. وبناءً على توجيهاتها إزداد اهتمام الحكومة اللبنانية والمسؤولين الأمنيين، فعززوا قوى الدرك على الحدود اللبنانية الفلسطينية، واهتم على الأخص محافظا جبل لبنان ولبنان الجنوبي، اللذان تجري الحوادث في منطقتيهما. فحضر محافظ جبل لبنان إلى اعالي الشوف في 14 أيلول 1936، واجتمع بقائمقام الشوف وقومندان الدرك وزوّدهما بالتعليمات اللازمة، ثم عاد إلى بيروت حيث اجتمع برجال السراي الصغير. وحضر محافظ الجنوب إلى بيروت في 18 أيلول ليقابل أمين سر الدولة، ثم عُقد اجتماعٌ أمني ضمه ومدير الداخلية وقائمقام الشوف، حيث إتفق على تعزيز قوى الأمن واتخاذ الإجراءات المتشددة والكافية للقضاء على ما سمي “تهريب السلاح”. ومن جملة ما اتخذ من إجراءات استعانة قوات الدرك في مرجعيون بالمتطوعين لمساعدتها في مهماتها.

القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ
القاوقجي متوسطا بعض مجاهدي جيش الإنقاذ

عمليات دهم وقمع بالجملة
باشر رجال الدرك ابتداءً من 12 أيلول مداهمة بيوت المسلحين الذين عُرفت اسماؤهم من رجال الاستخبارات وممن القي القبض عليهم من المسلحين الذين عادوا من تومات نيحا ولم يكملوا طريقهم إلى فلسطين. وداهموا ايضاً بيوت المتهمين بامتلاك السلاح، والمتعاطفين مع الثوار الفلسطينيين، الذين كان يخشى أن يقودهم التعاطف إلى القتال مع الثوار أو تزويدهم بالسلاح. وصادروا في بضعة أيام كميات كبيرة من الأسلحة بلغت من الشوف وحده 51 بندقية و1050 رصاصة. وارتفع هذا العدد كثيراً مع تتابع عمليات الدهم والتفتيش فبلغ ما جمع من بلدة نيحا، حتى تاريخ 19 أيلول 1936، 59 بندقية. وتمّ اعتقال الكثيرين. ورافق عمليات الدهم اشتباكات عدة منها اطلاق النار على رجال الدرك في 13 أيلول من الاكمات القائمة وراء بلدة مزرعة الشوف عندما كان رجال الدرك يسوقون الموقوفين منها، والاشتباك قرب بلدة عين زحلتا الذي جرى بعد بضعة أيام وقُتل فيه أحد أبناء البلدة محمد كرامي.

السلطات تحتفل بإحباط تهريب الأسلحة
كان اعتقال مئات الأشخاص مثار إدانةٍ من الوطنيين؛ لأن اعتقالهم بحسب ما جاء في احتجاج أمين الريحاني على أعمال الحكومة “يخدم المخططات البريطانية والصهيونية ويعزل الثورة الفلسطينية”. بيد أن ما احتج عليه الوطنيون كان مدعاة لتقدير السلطة. فقد منحت الحكومة اللبنانية قائمقام الشوف ميدالية الاستحقاق اللبناني الفضية ذات السعف لأنه بفضل التدابير التي اتخذها في ظروف صعبة ساعد على توطيد النظام والأمن في قضاء الشوف ” كما جاء في مرسوم منحه هذا الوسام. كما منحت الحكومة ميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الثانية لضابط بيت الدين والمختارة، وميدالية الاستحقاق اللبناني من الدرجة الرابعة لجنوده، لنجاحهم في تشتيت عصابة كبيرة في ليل 10 – 11 أيلول وتوقيف الكثير من المسلحين. وجاء في مرسوم منح الضابط الميدالية بأنه تمكّن خلال يومين من إماطة اللثام عن أفراد تلك العصابة وعددهم سبعون، واعتقال 64 شخصاً ومصادرة 48 بندقية و1879 خرطوشة.
ومع استمرار الثورة في فلسطين حتى سنة 1939 استمر انتقال المسلحين اللبنانيين إليها وتهريب السلاح إلى مجاهديها. ولم يكن ذلك يتم عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية فحسب، بل أيضاً عبر المناطق السورية وبفضل مبادرات منظمة أو فردية. فبعض أهالي منطقة راشيا نقلوا السلاح إلى أهل أقليم البلان(الجولان) وبخاصة أهل مجدل شمس، وهؤلاء بدورهم نقلوه إلى فلسطين. وكان المسلّحون اللبنانيون ومهربو السلاح يستعينون بأهل الإقليم في أثناء انتقالهم إلى فلسطين لمعرفة هؤلاء بالمسالك المؤدية إلى قراها الشمالية.

تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين
تظاهرة فلسطينية عام 1936 تندد بالهجرة اليهودية إلى فلسطين

محاكمات عسكرية وغرامات باهظة
واستمرت الكمائن والمداهمات والاعتقالات في جنوب جبل لبنان وجنوب البقاع وفي لبنان الجنوبي، وهي لم تكن تخلو من الاشتباكات، منها الاشتباك الذي جرى في ليل 9 – 10 آب 1938 في سد بنت جبيل، بين كونين وبنت جبيل، وأدى إلى جرح مسلحين عدة ومقتل مزيد أبو حمدان من قرية الكحلونية (الشوف)، مما عزّز اتهام السلطة لابن هذه القرية، حمد صعب، قائد السرية اللبنانية في حملة فوزي القاوقجي إلى فلسطين، بأنه المسؤول عن تهريب السلاح. وبسبب هذه الحادثة، وسواها من الحادثات مع الجماعات المسلحة، لفتت المفوضية العليا الفرنسية الحكومة اللبنانية إلى تعدّد حوادث هذه الجماعات، وطلبت منها اتخاذ تدابير فعّالة لمقاومة هذه الأعمال.
كان المعتقلون يحالون إلى المحكمة العسكرية في بيروت. وقد بلغ عددهم في 4 كانون الأول 1938، 350 شخصاً. وكانت المحكمة العسكرية تصدر أحكامها بالجملة، فقد أفرجت بتاريخ 9 كانون الثاني 1937 عن 65 معتقلاً من أبناء الشوف بعد أن قضوا في السجن مدداً أكثر من المدد المحكوم عليهم بها. وأصدرت أحكامها بتاريخ 3 كانون الأول 1938 على 50 رجلاً بالسجن لمدة سنتين، ودفع غرامة مالية مقدارها ألفا ليرة (وهو ما كان يمثّل مبلغاً باهظاً) عن كل سجين.
توقّع المسؤولون البريطانيون المزيد من أعمال المقاومة العربية “وذلك بالنظر للجهود المتصاعدة في تهريب الأسلحة إلى داخل فلسطين”، فطلب القنصل البريطاني في بيروت والمندوب السامي في فلسطين من السلطة الفرنسية المنتدبة ومن الحكومة اللبنانية وقف تسرب الجماعات المسلحة من لبنان إلى فلسطين. وتضمنت مذكرة المندوب السامي السر أرثر واكهوب إلى الحكومة اللبنانية في أواخر تشرين الثاني 1937، زيادة الحاميات العسكرية على الحدود.

السلطات الفرنسية تتنصل
وأرسلت سلطة الانتداب البريطاني تقريراً إلى لجنة الانتدابات التابعة لعصبة الأمم، في اوائل 1939، أشار إلى استفحال حركة تهريب الأسلحة وإلى أن موظفي الأمن العام صادروا كمية من البنادق، معظمها مصنوع في ألمانيا، وكمية من المسدسات. وعند إثارة هذه القضية أمام لجنة الانتدابات لم ينكر ممثل فرنسا الكونت دوكه المحاولات الكثيرة لتهريب السلاح وجهود الأمن العام لوقفها، كما انه صرّح بأن لا مصلحة لسلطة الانتداب في سورية ولبنان في تشجيع حركات التهريب وتقديم المساعدات للثوار الفلسطينيين، بل مصلحتها في عكس ذلك.
إن تأييد السوريين واللبنانيين للثوار الفلسطينيين، وتقديم الدعم المادي والأسلحة لهم، وقتال البعض إلى جانبهم، كان مثار تقدير الثوار الفلسطينيين وإصدارهم بيانات الشكر، ومنها بيان القائد العام للثورة يوسف سعيد أبو درّة في 7 آذار 1939 إلى السوريين واللبنانيين، الذي جاء فيه: “لا عجب ولا غرابة فإن أخوّتهم الإسلامية ودماءهم العربية الزكية التي تسري في تلك العروق الحية جعلت إخواننا سكان سوريا ولبنان، خصوصاً أهالي بيروت، يبذلون الجهد في مساعدة إخوانهم في الدين والعروبة”

2 من ذاكرة جبل العرب

خيال بخيال

من طرائف القضاء العشائري في جبل العرب

الزمان عشّية القرن التاسع عشر؛ أواخر عهد السيطرة العثمانية على بلاد العرب، أي منذ نحو مئة عام ونيّف.
المكان منطقة البلقاء شمال الأردن؛ جنوبي حوران من ولاية الشام.
زيد شابٌّ هو ابن أحد وجهاء قبيلة من قبائل أهل الشمال؛ وهؤلاء قبائل بدويّة مواطن حلّها وارتحالها بين الحجاز جنوباً وحوران إلى الجنوب من دمشق شمالاً. كان زيد قد استيقظ في مضارب أهله مبكّراً عند الفجر على حلم مثير، لم يرغب أن يعود للنوم ثانية بعد رؤياه تلك، فبادر يطبخ القهوة المرّة في المضيف، بينما رعاة والده انطلقوا يسوقون قطعان الإبل والأغنام والماعز إلى مراعيها، وما أن ارتفعت شمس الصباح قليلاً حتّى تنبّه شابٌّ آخر من العشيرة هو صاحب لزيد؛ الى حركة صاحبه في المضيف المشرع على الشمس. كان زيد قد أنجز طبخ القهوة، فقدِم إليه صاحبه للمسامرة؛ هما صديقان؛ يكاشف كل منهما صاحبه بما يخفيه عن سواه.
قَوّكْ (أي قواك الله – وهذه تحيّة بدويّة بقاف ملكونة؛ أي ملتبسة بجيم مصريّة)
يا هلا؛ قالها زيد؛ وأردف: “تفَضّل فُتْ (أي أدخل).
وما أن جلس الصاحب حتّى قصّ زيدٌ عليه قصّة حلمه؛ ذلك انّه رأى نفسه عريساً لـ “شمسة” وأنه شاركها السرير في ليلة عرسهما، أمّا شمسة تلك؛ فهي شابّة فائقة الجمال وابنة لأحد وجهاء عشيرة أخرى في القبيلة.
أيّامٌ قليلة مضت، شاعت على أثرها قصّة حلم زيد في أوساط القبيلة، قصّة تناقلتها النّسوة همساً بادئ الأمر، ثمّ انتشرت بين الرّعاة وتناقلها الرّكبان (أي المسافرون على ظهور الإبل في أرجاء البوادي) وطارت الحكاية بين آذان الإبل؛ كما يقول المثل البدوي.
اعتبر أهل الفتاة القصّة مسألة كرامة، أغار شقيقا شمسة على إبل لعشيرة زيد صاحب الحلم، ونهبا بعض الجمال والمواشي واحتجزاها رهينة ً أو يُنظرَ في الأمر عند قاضٍ؛ وإلاّ فالشّرُّ والعراك بين العشيرتين.
بادر والد زيد إلى إبلاغ رجال عشيرة الفتاة عن طريق وسيط بالتّريّث؛ والاحتكام لقاضي القبيلة في الأمر تجنّباً للقتال وسفك الدّم.
قاضي القبيلة رأى في المسألة عقدة غير مسبوقة، ولم يرَ لها من حلّ عنده، فحوّلها عنه، ولمّا كانت النّوايا سليمة عند رجال القبيلة؛ فإنّ الرغبة باسترداد الإبل المنهوبة بالقوّة كانت مسألة مُؤجّلة حقناً للدّماء، لذا أُحيلت مسألة الاحتكام إلى قاضٍ آخر من قبيلة أُخرى، لكنّ هذا لم يجد عنده باباً للحكم فيها. فحوِّلت الدعوى إلى “ابن زهير” وهذا قاضي قضاة قبائل أهل الشمال، نظر الرجل في القضيّة مَليّاً، أنظرَ المختصمين شهراً لعلّه يجد حلّاً يرضيهم، لكنّه لم يصل إلى حل، ولكي يؤجّل عراكاً مُحتملاً بين القوم قال لهم: “لا يقدر على حل مشكلتكم هذه إلاّ القاضي الشيخ سلامة الأطرش في الضّلع؛ في قرية العانات (الضّلع؛ تسمية كانت تطلق على جبل الدّروز – محافظة السويداء حاليّاً – من قِبَل القبائل البدويّة في تلك المنطقة، لأنّ النّاظر إليه من جهة الجنوب والشمال يراه ممتدّاً في الأفق على شكل قوس أزرق لطيف يشبه الضّلع، أمّا العانات فهي قرية تقع في أقصى جنوب الجبل ممّا يلي بادية الحماد الأردنيّة؛ وتبعد عن مدينة السويداء نحو أربعين كيلومتراً باتجاه الجنوب).
قَبِلَ المختصمون بما أشار ابن زهير عليهم، وما هي إلاّ اْيّام حتى توجّهوا إلى الضّلع قاصدين قرية العانات، وصلوا ضيوفاً وعرضوا الأمر على القاضي، قال لهم: مَلّكوا. “أي: أن يرضى كل من الفريقين بتقديم عطاء من جِمال ومواشٍ اْو مال دلالة على قبول كل منهما بما سيحكم به القاضي.” فقبلوا، (والتمليك هذا يخسره من يخسر الدعوى، ويُرَدّ لمن يربحها)، كما طلب القاضي من أهل الفتاة ردّ الإبل المرتهنة لأصحابها مع ما أنجبته من خلائف، فوافقوا مقابل القبول بالحل الذي سيقضي به الرجل. وضرب لهم موعداً ليأتوا إليه مع كل ما يملكه والد الفتى من خيل ومواشٍ ومال.
ذات عصرٍ بعد نحو شهر قَدِمَ المختصمون إلى القاضي الاْطرش في العانات، أودع كل منهم ما يحمل من سلاح لديه، كانت القصة قد شاعت في قرى الجبل، ووفدَ الناس ليرَوْا ما سيحكم به الشيخ سلامة في المسألة المثيرة للنزاع.
في الصباح التالي ومع شروق الشمس كان القاضي قد طلب من والد الفتاة أن يقف على الحافّة الشرقيّة لمطخ العانات (البرْكة)، بحيث تكون الشمس من خلفه، وبحيث ينطبع خياله وخيال كل ما يمرّ من خلفه على صفحة الماء أمامه.
أمرَ القاضي الأبَ ألاّ يلتفت وراءه بتاتاً، وأن يحصي كل ما يمرّ أمامه من خيالات تظهر على صفحة الماء، وفي الوقت ذاته طلب من أهل الشاب أن يُمَرّروا من خلف الرجل فرساً ثُبّتَتْ فوق سَرْجِها بارودة، يتبعها عشرون من النوق، ومثلها من الجِمال، ومئة رأس من الغنم، ومثلها من الماعز، وكان القاضي كلّما مرت أعداد من المواشي خلف الرّجل يؤكّد عليه: اضبط عَدَّك، فيجيبه: إيْ والله قد ضبطت.
كان العمل بتمرير مواشي أبي زيد من خلف والد شمسة قد انتهى، هنا سأله القاضي هل ضبطت العّدّ؟
نعم.
أمُتأكدٌ أنت ممّا عَدَدت؟
إيْ والله.
كم عَدُّكَ؟
فرس وبارودة وعشرون ناقة وعشرون جَمَلاً، ومئة من الغنم ومئة من الماعز.
قال له القاضي: حسناً، لقد وصلك حقّكَ واستوفيت.
صُدِمَ الرجلُ:
كَيْفَ وصلني حقي وأنا لم استلم شيئاً ؟
خيالٌ بخيال، أردف القاضي قائلاً: هذا حقّك، زيد رأى خيالاً في منامه، وأنت رأيت خيالاً على الماء، هذا كل ما في الأمر.
كان القاضي قد أعدَّ وليمةَ مصالحةٍ للحاضرين، وجمعَ الفريقين على الطعام، وأنهى بذلك نزاعاً بين قوم من أهل الشمال كاد أن يقودَ إلى حربٍ قَبَلِيّةٍ في بلاد لم يكن للدولة فيها من وجود إلاّ في المدن الكبرى.

موت النّمر الأخير في جبل العرب

بدوي يرعي أغنامه
بدوي يرعي أغنامه

منذ زمن لا يتعدّى قرناً وبضع عشرات من السّنين، نحو الثلث الأخير من القرن التاسع عشر كان البدوي صبرا الصّبرا من قبيلة العظامات التي اعتادت الارتحال بين بادية الحماد وأطراف سهل حوران شتاءً وحتّى أوائل الربيع ثمّ تعود مصعّدة ًإلى الجبل في أواسط الربيع والصيف؛ قد خيّم قرب قرية حبران التي ترتفع نحو 1400 متر فوق سطح البحر، جنوب شرق السويداء بحوالي خمسة عشر كيلو متراً قرب الطريق إلى صلخد. كانت الأحراش تغطي معظم السفوح والقمم الجبليّة آنذاك، وكان هذا يوفّر حِمًى غنيّاً لكثير من الوحوش والأحياء البرّية المتنوّعة.
صبرا هذا رجل عصاميّ، امتلك ثروة من الغنم والماعز عبر المشاركة في الحصول على ربع مواليد المواشي التي يرعاها في أراضي بني معروف(الدّروز)؛ بالإضافة إلى عدد من الجمال التي ينقل على ظهورها أمتعته ومؤونته، وثلاثة عشر كلباً لحراسة مواشيه ومضاربه.
نهض صبرا مبكراً كعادته، لم يسمع صوتاً لأيّ كلب من كلابه الثلاثة عشر!. دهش البدويّ؟!، إذ لم يحدث له مثل هذا من قبل، سريعاً؛ ارتدى عباءته المنسوجة من وبر الجمال اتّقاء برد الصباح الجبلي القارص، تناول بندقيّته وخرج إلى الخلاء مستريباً؛ نادى كلابه بأسمائها؛ لا سِمرْ، لا جَدَع، لا جَدّوع، ما من مُجيب؛ لا نُباح ولا عُواء. صاحَ بأعلى صوته: “يا عيال شَيْ غريب بها الدّيرة”.
وعلت أصوات وساد في المضارب هرجٌ ومرج.
ما إن ابتعد الرجل قليلاً عن الزرائب حتّى وجد أحد كلابه مقتولاّ وقد ضرّجته الدّماء، لحق أثَرَ عراك على الأعشاب والتراب بين الأشجار الحرجيّة، وجد كلباً آخر مقتولاً أيضاً !، سأل نفسه مذعوراً: “ يا الله وِشْ ها البليّة” ؟ مشى بضع عشرات من الأمتار. هذا كلب قتيل. تذكّر صبرا أنّ الرعاة ما أخبره الرعاة من أنّ نمراً كان يعدو على المواشي بين حين وآخر، فتوجّس ريبة مما يحدث ومضى يلحق مَجَرّ العراك، أدرك بحدسه الفطري أنّ ما يراه يدلّ على أنّ معركة ٍ ضارية بين كلابه وبين وحشٍ أكثر شراسة من الذئاب التي تعوّدت على صدّها بخسائر لا تقارن بما يرى أمامه.
تابع جريرة العراك. كلب رابع قتيل. كان همّ الكلاب إبعاد النمر عن الزرائب. لا بدّ أنّه كان جائعاً. البدويّ لاييئس ولا يتشاءم إذا ما هاجم الذئب قطيعه، هو إنسان يؤمن بقضاء الله، هناك مثلٌ بدويٌّ يقول: “ شاة الذيب للذيب”.
استمرّ صبرا يتبع أثر العراك. كلب خامس. فسادس؛ فسابع. فتاسع وعاشر؛ وحادي عشر وهلمّ جرّاً؛ تابع سيره؛ لابدّ أنّها مهارشة مميتة مع وحش شرس، كان بعض كلابه قد نفق؛ آخرون يلفظون أنفاسهم، وَلْوَلَ الرجل؛ فخسارته لكلابه مصيبة، الكلب جزء هام من ثروة مالك الغنم؛ وكل من يقطن في هذه البقاع الموحشة. كل من في الحي فزع إليه، الجميع يتبع آثار العراك إلى جانبه؛ بل أخذ بعضهم يباريه ويسابقه بحذرٍ ودهشة وخوفٍ دفين مما يرون، ابنه الشاب “فيّاض” سبقه في تقصّي أثر المُهارشة، وصل إلى حيث انتهت المعركة، أدهشه المشهد، كان النمر قد ارتمى أرضاً؛ منهكاً مُدمًّى عاجزاً عن الحركة، يئنّ أنيناً خافتاً وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ مهارشة الكلاب قد هدّت قواه، وقريب منه الكلب الثالث عشر؛ كبير الكلاب “سِمْر” ملقًى على الأرض؛ دامي الوجه والجسد يئنّ أنين طفل يطلب الغوث من ذويه. في فوران الغضب والخوف وشهوة الانتقام؛ استكبر فيّاض حجراً؛ أهوى به على رأس الوحش، نظر حوله مذعوراً؛ قفز إلى أعلى رُجْمةٍ من حجارة بالقرب منه؛ خلع ثوبه الأوحد الذي يستر جسده وأخذ يلَوّح به عارياً ينادي القوم أن يسرعوا إلى حيث يقف.
لم يلبث أن وصل صبرا إلى حيث انتهت المعركة كان النّمر لم ينفق بعد؛ خاصرته لم تزل تنبض؛ أطلق إلى رأسه رصاصة رحمة من بارودته، ثُمّ التفت إلى كلبه المُدَمّى؛ مشى إليه؛ قرفص فوق رأسه النازف؛ رفعه قليلاً عن العشب الرّطب وقبّله دامع العينين؛ وخاطب ابنه فيّاض : “هيّا رُحْ يا ولد؛ اذبح فطيماً (خروف صغير) وأطعم الكلاب التي لم تَمُت بعد عسى الله يشفيها”..
كانت الشّمس قد قاربت الضّحى في سماء قرية حُبْران في ذلك اليوم الدّامي؛ منذ نحو مئة وثلاثين عاماً من عامنا هذا، ومنذ ذلك اليوم لم يَعُدْ أحد يذكر أنّه شاهد نَمِراً في جبل العرب..

مقدمة موضوع الزواج المختلط

الزواج المختـلط والمدني
شؤونه وشجونه

الزواج المختلط أو العسل المر

انــدماج بالآخــر أم انســلاخ عــن الــذات

الزواج المختلط يخلق شخصية حائرة وهوية ملتبسة لدى الأولاد كونهم ينتمون بالدم والنسب والثقافة والبيئة الاجتماعية إلى عالمين مختلفين وأحياناً متناقضين

هل الزواج المختلط خطوة متقدمة باتجاه الاندماج بالآخر أم انسلاخ عن الجماعة دون التحام وطني بـ “الآخر”؟ هل هو ممارسة لحرية الفرد أم عقوق وسلب لحقوق الوالدين وقهر لهم في خريف عمرهم؟ هل الزواج يخص الشريكين فقط أم هو عقد يدخل فيه الأهل أيضاً والعشيرة والقرية والجماعة الثقافية؟ وكيف يعيش الزواج المختلط من دون القبول الاجتماعي ودعم الأهل وترحيبهم؟ وما هو مستقبل الأولاد وكيف تحل مشكلة الهوية الملتبسة والنسب الملتبس والعلاقة الملتبسة ببيئتين متعارضتين أو على الأقل لا يربط بينهما الودّ الكثير؟ وما هي حظوظ الزواج المختلط بالنجاح والاستمرار وسط الرفض أو التجاهل من البيئة التي يفترض أن تحضنه وتحتفل به؟ هل يمكن للحب أن يستمر؟ وعندما يغيب الحب وتبقى المشكلات الحياتية والعملية والنفسية من يهب إلى معونة الزوجين وإلى أي سند يمكنهم أن يستندوا؟
ذلك بعض من الأسئلة الكثيرة التي أثارتها “الضحى الشبابية” في مسعى لجلاء الواقع والآراء العديدة بشأن هذا الموضوع الحساس والمطروح عملياً على شبابنا إن لم يكن بسبب الرغبة في دخول زواج مختلط، فعلى الأقل بسبب تعاملهم مع من قد لا يتردّد في دخول التجربة بغض النظر عن تبعاتها. وبسبب أهمية الموضوع فقد وجدنا من الضروري التعامل معه بجدية واحتراف. فكان الاستفتاء أولاً ثم الندوة التي انعقدت حول الموضوع في دار الطائفة الدرزية في فردان. وتأسيساًعلى هاتين الخطوتين وما ظهر خلالهما من نتائج قمنا بإعداد هذا الملخص الذي يعرض للمسألة بصورة موضوعية وشاملة وقد تألف من الاستفتاء والندوة وهذه المقدمة ملف متكامل نأمل أن يوفي بالغرض ويوفّر القاعدة المنطقية والعقلانية للتحاور في موضوع الزواج المختلط بحيث تبنى المواقف على بينة ووضوح.

الدوافع والأسباب
يثير الزواج المختلط قدراً كبيراً من الانفعالات وردود الفعل في المجتمع اللبناني بالنظر للنزاعات التاريخية الطويلة التي نشأت بين الأقليات المختلفة المكونة له وما خلفته من تباعد وشكوك. وعلى الرغم من قدرة اللبنانيين على تناسي الصراعات والأقليات والسعي للعيش في وطن واحد فإن كلاً من تلك الأقليات يحرص في الوقت نفسه على الاحتفاظ بخصوصيته وإقامة “علاقات مشروطة” بباقي فئات الوطن وهذا يعني أن الفروقات أعمق مما قد يظهر في علاقات السوق والتجارة والتعامل المصلحي. ولهذا السبب ربما وبالنظر لأهمية التضامن العشائري واستمرار الأقليات فإن الزواج المختلط غالباً ما يستفز بيئة الشريكين باعتباره يضعف العصبية التي تنظر إليه كنوع من “الاستقالة” من الجماعة واجتياز لحدودها المرسومة. وحتى في حالات الزواج المدني الذي يُبقي على الرجل وأولاده على عقيدتهم الدينية فإن الخطوة في حد ذاتها تخلق توتراً صريحاً أو مضمراً بين الشخص وبين محيطه لأن الزواج من خارج الطائفة يعني في نظر الجماعة أن من يقدم عليه لا يقيم اعتباراً لشعورها ولا لقوانينها غير المعلنة، ناهيك عن اعتباره تعدّياً على شعور الوالدين والأقارب وحقوقهم.

بعض الشباب لم يعد يكتفي باعتبار الزواج رابطة تخص الشريكين بل بات يزيد عليها أنها رابطة لا تخص الأهل ولا دور لهم في قبولها

كن ما هي الأسباب التي تدفع باتجاه الزواج المختلط؟ ولماذا يقدم بعض الشباب والفتيات عليه على الرغم مما يكتنف تلك الخطوة من صعاب ويعترضها من نتائج اجتماعية؟
واقع الأمر هو أن أكثر حالات الزواج المختلط يحصل بسبب عاملين رئيسيين الأول هو اقتناع الشباب بأن الزواج يجب أن يكون نتيجة حب واختبار مباشر وإن بعيداً عن رقابة الأسرة والوالدين، أما العامل الثاني فهو غالباً نشوء علاقات عاطفية قبل الزواج تتحول مع الوقت إلى أمر واقع يفرض نفسه.

من هم أطراف الزواج ؟
أظهر الاستفتاء المنشور في هذا الملف أن نسبة ليست قليلة من الشباب لا تعتبر رضا الوالدين ضرورياً أو لا تفصح عن موقفها بشأن هذا الأمر المهم، فالنظرة اليوم هي أن الزواج هو علاقة بين شخصين، وهو كذلك بالطبع لكن الجديد عند بعض الأشخاص هو التشديد على أن أمر هذه العلاقة يخص الشخصين وحدهما وأن على الأهل أن يتقبلوا خيار الأولاد دون أن يكون لهما رأي في الأمر. وهذه النظرة التي تُعلي من شأن الفرد على حساب العائلة الموسّعة والبيئة جاءتنا من الغرب وبات البعض يقبلها على عواهنها دون التأمل في النتائج التي أوصلت إليها في بلدانها. لقد انحلّ المجتمع الأوروبي إلى أفراد معزولين ولم يعدّ هناك مجموعات ومتحدات اجتماعية ثقافية أو دينية متماسكة كتلك التي لا زالت قائمة في بلدان الشرق وخصوصاً في بلدان الإسلام. وقد ساد الفرد في الدول الغربية بصورة تامة لأن الدساتير والقوانين كلها سودت الفرد وبات المواطن في الغرب حراً لا يدين بأي التزام تجاه والديه أو عائلته أو دينه، بل أن الغالبية الساحقة من الناس باتت تعلن صراحة أنها لا تؤمن بأي دين وقد تراجع دور الكنيسة في الغرب ولم يعدّ لها أي تأثير حقيقي على الشباب والأجيال الجديدة. لكن العقيدة الليبرالية – الإلحادية (وقد أصبحت بالفعل عقيدة وديناً) أدت إلى كوارث اجتماعية إذ انحلت مؤسسة الزواج نفسها بسبب انحلال البيئة الحاضنة لها وهي العائلة الموسعة أو المؤسسة الدينية وحلت المساكنة غير التعاقدية محل الزواج في كثير من الأحيان وولدت نسبة كبيرة من الأولاد خارج الزواج الشرعي، وفي هذا المناخ بدأت أوروبا تشيخ كما بدأ عدد السكان في العديد من الدول الأوروبية بالتناقص بسبب عدم الإنجاب واهتمام الشباب بالعلاقات العابرة ورفض تحمل مسؤولية بناء الأسرة.

فخ العلاقات قبل الزواج
تشير الكثير من الدلائل إلى أن حالات الزواج المختلط غالباً ما يكون منطلقها العلاقات الجنسية قبل الزواج، وقد تبدأ الصداقة كاختبار أو كاستكشاف لآفاق جديدة وقد تبدو العلاقة أمراً ممتعاً ويشعر الفرد الدرزي أنه يمارس حرية ثمينة لم تكن متاحة له في بيئته الأصلية، لكن هذا النوع من الاختبار قد يخلق مع مضي بعض الوقت، ودون أن ينتبه الشخص، أمراً واقعاً ورابطاً يصعب الانفكاك منه بحيث يتحتم بالتالي تكريسه والإعلان عنه بواسطة الزواج. عندها ربما يجدّ الشريكان أن البيئات التي ينتمون إليها ليست جاهزة للإقرار بالواقع الذي تمّ بعيدا عن أعينها فتحصل الصدمة ويتضّح مدى تعقيد الخيار والنتائج التي ستترتب عليه في حال أصرّ الشريكان على خيارها. كما يتضح أن الزواج الذي اعتقد الشريكان أنه رابطة بين شخصين فقط ليس كذلك وأن الأهل يعتبرون أنهم معنيون بأن “يفرحوا” بإبنهم أو ابنتهم كما أنهم معنيون بـ “الصهر” الذي سيدخل بيتهم ويصبح مثل ولدهم وجزءاً منهم أو بـ “الكنة”التي ستدخل بيتهم وتصبح شريكتهم وسلواهم. وهم معنيون أيضاً بالعائلة التي سيصاهرونها ويفرحون بالتقرّب منها وقد قيل دوماً “الصهر سند الظهر” بمعنى أن المصاهرة تقوي أسرة كل من الزوجين وتقربهما وتزيد في مكانتهما. أخيراً فإن أعز ما ينتظره الوالدان والأهل الأقربون من الزواج هو أحفاد من صلبهم يكونون استمرارا للعائلة وتراثها واسمها ويكونون أيضاً سنداً لهم في مرحلة الكهولة.
وبالطبع كل هذه الأمور يفقدها الأهل في حال الزواج من خارج الطائفة لأن الضغط الاجتماعي والعصبية سيجعلان الشريكان غريبين في بيئتيهما وقد يضطر الأهل إلى إنكار الزواج نفسه واتخاذ موقف سلبي منه وعندها يكون الزواج قد تحوّل من فرح إلى ترح وأحزان. وغالباً ما يشعر الوالدان بالمهانة بسبب عقوق الولد واستخفافه بشعورهما أو بما قد يجلبه تصرفه لهما من إحراج وكسر خاطر أمام الجماعة التي ينتمون إليها. وحتى عندما يكون الأهل على شيء من الانفتاح فإن القبول بالأمر الواقع قد يحصل فقط على مضض وستبقى العلاقة ملتبسة و”مؤدبة” بالشريك الآتي من خارج الطائفة لكنها من الصعب أن تكون طبيعية. أو أن يحل الرضى الحقيقي لدى الأهل إزاء ما صنع الولد الذي أنفقوا حياتهم وضحوا بالنفيس من أجل تنشئته وتأمين مستقبله فإذا به عند أول سانحة يكافئهم بكسر خاطرهم في أمر جسيم غير عابئ بما سيعانونه. وقد جاء في الشعر المأثور في وصف العقوق:
أعلمــه الرمايــــــــة كـــــــــل يــــــــوم فلمـــا اشتد ساعـــــــده رمانـــــــــي
وكــــــــــم علمتـــــه نظم القوافـــــي فلمـــــا قـــــال قافـــيـــــة هــجانـــي

أهمية العائلة الموسعة
في لبنان مثل مختلف الدول التي ما زال الدين يلعب فيها دوراً مهماً لا زالت العائلة الموسّعة تلعب دوراً مهماً في رعاية الزواج والزوجين، وبهذا المعنى فإن الزواج يبدأ مع شخصين لكنه لا ينتهي عندهما بل يتّسع أثره وتعم بركته وثماره لتطال نفراً كبيراً من الناس، ولهذا تراهم يستبشرون به ويسمون الزواج “فرح” لما يحمله من سعادة للمشاركين فيه وهم يحتفلون به ويكرمون العريسين ويثنون على فعلهما (مبارك ما عملتم) باعتباره سبباً في تقارب المجتمع وتنمية الجماعة وتكثيرها ولهذا كان من أهم أوامر الأمير السيد (ق) إشهار الزواج، إذ اعتبره المحك الحقيقي لشرعية العلاقة وتناسبها مع ما ينتظر المجتمع ويحبه. بل أن للزواج هنا جانبه الروحي، لأن مشاركة الوالدين والأهل تنسجم مع ما يحبه الله تعالى من بر الوالدين والذي جعله في أعلى الواجبات بعد التوحيد نفسه وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (الإسراء 23) وكذلك إعطاء الحقوق لأصحابهما كما أنه سبب للبركة والتوفيق والنسل الصالح. أما في حالة الزواج المختلط فإن العمل يتحول إلى قرار شخصين غالباً ما ينتهي عندهما ولا تتسع آثاره الإيجابية إلى الآخرين ولهذا فإن المجتمع الموسّع يقاوم بالغريزة الزواج المختلط لأنه يرى فيه نقضاً للميثاق الاجتماعي الذي يجعل منه إضافة مباركة على الجماعة وإقرارا بحقوقها.

جو المدينة والجامعة
الزواج المختلط مغامرة فردية غالبا ما تزينها في عيني الشخص أجواء المدينة التي نزل إليها الكثير من العائلات من الجبل عبر السنين كما تتقوّى تلك النزعة أيضاً في الجامعات الحديثة وأجوائها.
فمن جهة، تعطي المدينة إحساساً قوياً بالحرية لكنها حرية موهومة لأنها ناتجة، ليس عن خروج الجماعة من المعادلة، بل عن الابتعاد المؤقت للفرد نفسه عن البيئة التي ينتمي إليها. وغالباً ما تنمي المدينة الوهم بأنه من الممكن للفرد أن يسلك على هواه أو أن يختار لنفسه ما يشاء دون مساءلة لأن الرقابة التي تفرضها القرية تغيب في جو المدينة المفكك بطبيعته.
وتقوي الجامعات عادة الروح الفردية لدى الشباب القادم من القرى أو البيئات المحافظة لأنها في حد ذاتها تشكل “مجتمعاً” يعيش فيه الطالب قسماً مهماً من حياته، ولهذا المجتمع قيمه أيضاً التي تقوم على إعلاء شأن الطموح والاستقلالية وتحقيق الذات، ولا ننسى أن برامج الجامعات مصدرها الغرب وهذه البرامج تقوم على تنميط ثقافي يتجاهل خصوصيات المجتمعات الشرقية والإسلامية التي لا زالت تقوم على فكرة الجماعة والأمة ويعكس بالدرجة الأولى “التطور” الاجتماعي الغربي الذي يقوم على انحلال الجماعة وتقديس الفرد. بهذا المعنى فإن التعليم الذي يتلقاه الطالب في الجامعة لا يقتصر على العلوم أو المادة التي يتخصص فيها بل يتجاوزه إلى التشرب الخفي لقيم جديدة تعكس مجتمعات لا تمت بصلة إلى المجتمع الذي يعيش فيه. ولا يحمل هذا الكلام حكما على البيئة الغربية. فالغربيون أدرى بشؤونهم لكنه يشير إلى أهمية أن نعي أننا نعيش في بيئة مغايرة، وهذه البيئة لا نقول عنها إنها متقدمة ولا نقول عنها إنها رجعية أو متخلفة بل هي ببساطة بيئة حية لها خصوصياتها التي حمتها وحافظت عليها عبر السنين، ولها متطلبات معينة لكي تستمر وهي مربوطة بقوانين سلوك وتصرف معينة. وفي المجتمع الشرقي والإسلامي تكامل وتعاضد بين الفرد والبيئة المحيطة ولا يوجد صراع مفتعل أو تناقض، فالبيئة (بيئة العائلة أو العشيرة) تحمي الفرد من نوائب الزمان. ولهذا، فإن الفرد يعتبر من أولى واجباته أيضاً حماية تلك البيئة والدفاع عنها في وجه الافتئات والعدوان.

الطائفة البديلة
بالطبع بعض الأفراد يعتبرون أن في إمكانهم أن يخرجوا وهذا قرارهم. وغالباً ما يكون لهذا القرار خلفيات فكرية أو سياسية مثل الانتماء لأحزاب علمانية تصبح هي بالنسبة للشخص العائلة أو “الطائفة البديلة”، كما أن البعض الآخر قد لا يجدّ صعوبة في الخروج بسبب الاغتراب والسكن بعيداً عن الوطن أو أي أسباب أخرى. لكن المهم لمن يهم بالإقدام على هذا القرار أن يعي بصورة عقلانية تبعاته الاجتماعية. وليس الهدف في هذا السياق سوى الدعوة للتفكير العاقل والتأمل بمختلف جوانب قرار حياتي ومصيري مثل الزواج قبل الإقدام عليه.

غالباً ما يشعر الوالدان بالمهانة بسبب عقوق الولد وما قد يجلبه تصرفه لهما من إحراج وكسر خاطر أمام الجماعة التي ينتمون إليها

إشكالية الأولاد
أظهر استفتاء “الضحى الشبابية” إدراكاً واضحاً من الذين أجابوا على أسئلتنا لخطورة موضوع الأولاد وموضوع النسب والهوية وهو إشكال كبير لا يفكر فيه الشريكان وسط انغماسهما في التجربة الشخصية لكنه يتحول غالباً إلى عبء كبير للأولاد ومصدر حيرة وضياع بالنسبة لهم لأنهم عاطفياً منقسمون ومن الصعب عليهم أن يكون لهم خيار واضح بسبب كونهم ينتمون بالدم والثقافة والبيئة الاجتماعية إلى عالمين مختلفين وأحيانا متناقضين أو قد يقع بينهما تناقض. هذا الوضع ينطبق عليه فعلاً المثل القائل بأن “الآباء يأكلون الحصرم والأولاد يضرسون” أو قول أبو العلاء في سياق آخر “هذا ما جناه أبي علي وما جنيت على أحد”. بمعنى أن الأولاد لم يختاروا أن يولدوا في وضع ملتبس وهوية ملتبسة وهم بالطبع لم يستشاروا. وهؤلاء سيجدون أنفسهم عند أول تفاقم للخلافات في وضع حرج يتعلق بتحديد موقفهم العاطفي وكذلك تحديد انتمائهم وهو أمر صعب لأن تحديد الانتماء يحتاج ليس فقط لقرار الأولاد بل لقبول البيئة التي يعيشون فيها لأن الانتماء في مجتمع الشرق أساسه النسب ورابطة الدم وليس اختيار الشخص. لا يوجد حل وسط بين البيئتين وهذا على فرض أن العلاقات إيجابية أما في حال الخلاف فإنهم سيحصدون الآلام. وهذا الجانب الخطير لا يهم الشريكين وهو ربما أحد أبرز الأمثلة على ما يكتنف بعض العلاقات المعزولة عن المجتمع من عدم تبصر وأنانية.

مشروع البحيرات في الشوف الأعلى

مشروع البحيرات في الشوف الأعلى
تجربة رائدة للنهوض الزراعي في لبنان

15 بحيرة وبركة لتجميع مياه الأمطار
تبعث الحياة في القرى وتعزّز ثقل الاقتصاد المحلي

بحيرات تجميع الأمطار في منطقة الشوف الأعلى بدأت تجارب متفرقة وتحوّلت مع الوقت إلى موجة وتسابق بين البلديات وحتى الأفراد على الاستثمار فيها، بعد أن ثبت دورها الحاسم في إحياء القطاع الزراعي وإقامة زراعة إقتصادية تعود على المنطقة بالعائد، كما توفّر في الوقت نفسه فرص العمل وتزيد من العوامل المحفّزة لبقاء المواطنين في قراهم وتنميتها وإعمارها.
وبسبب النجاح الذي حققته المبادرات الأولى التي قامت بتشجيع ودعم مباشر من وليد بك جنبلاط، فقد تكاثرت البرك في غضون سنوات معدودة ليبلغ عددها الآن نحو 15 بركة للريّ بمياه الأمطار، وهذا إضافة إلى البحيرة الطبيعية التي تمّ إنشاؤها في محمية أرز الشوف وبحيرة كبيرة أيضاً أنشئت في محمية أرز الباروك. وتحولت التجربة بذلك إلى إحدى أبرز حالات النهضة البيئية والزراعية في لبنان وباتت بسبب تطوّرها تحمل دروساً وخبرات يمكن نقلها إلى العديد من المناطق الجبلية المماثلة من شمال لبنان إلى جنوبه.
“مجلة الضحى” تسلّط في هذا التحقيق ضوءاً كاشفاً على هذه التجربة الرائدة، وعلى أهم النتائج التي أثمرتها على صعيد التنمية الريفية والزراعية في جبال الشوف.

ر مشروع إنشاء البحيرات وبرك تجميع مياه الأمطار في الشوف الأعلى أول محاولة جادة لوقف التدهور المتسارع في الاقتصاد الزراعي في الشوف، وما أدى إليه حتى الآن من تزايد موجات النزوح نحو الحواضر والمدن في الجبل أو في بيروت. وكان لهذا التفرغ المستمر للقرى أثر بالغ الخطورة على الاقتصاد الزراعي والريفي والوضع السكاني. وقد أصبحت القرى التي كانت آهلة وتعمل كخلايا النحل شبه خالية، وتحوّلت مصادر الرزق الأساسية من الزراعة والثروة الحيوانية إلى الوظيفة الحكومية أو المصالح أو التجارات الصغيرة التي تنشأ في الأسواق التجارية في الجبل أو في القرى أو خراج الجبل.
لكن تراجع الاقتصاد الزراعي في الجبل لا يعود فقط إلى تراجع الاهتمام به من قبل السكان، بل يعود أيضاً إلى عوامل عدة منها تزايد دور المحاصيل الاقتصادية المستوردة والقادرة على المنافسة بسبب استخدام التقنيات الحديثة، وكذلك تراجع الخبرات الزراعية. وأخيراً وليس آخراً تبدّل المناخ وتناقص الموارد المائية الطبيعية أو تزايد الطلب عليها بسبب الإستخدام الكثيف والتزايد السكاني ونمو العمران. من هنا فقد تحوّل موضوع توفير مصادر دائمة أو رديفة لمياه الري أمراً ملحا،ً وبدأت قبل سنوات التجارب الأولى لإنشاء برك تجميع الأمطار في الشوف الأعلى وتمّ اختيار المنطقة لوقوعها على سفوح سلسلة الجبال الغربية التي تشهد معدلات سقوط أمطار وثلوج في موسم الشتاء.
في هذا الصدد، يقول رئيس بلدية جباع المهندس رجا البتلوني الذي أشرف على الجانب التقني لإنشاء بعض البرك: “منذ عشرات السنين وكل قرى الشوف الأعلى تشكو من الإهمال على صعيد كل القطاعات الصناعية، الزراعية، والسياحية. ولأن البنى التحتية والمشاريع الإنمائية هي التي تبقي المواطنين في أرضهم، أدى غيابها الى نزوح أبناء الجبل الى المدينة وبالتالي إهمال العمل في القطاع الزراعي وتطويره”.
ويضيف أن الشح المتزايد في الموارد المائية دفع إلى إطلاق خطة لتطوير القطاع الزراعي بتوجيه ورعاية وليد بك جنبلاط انطلاقاً من تقديره بأن التغيّر المناخي أصبح أمراً واقعاً ولا بدّ من التحرّك لمكافحة نتائجه الداهمة. ومع هذا التوجّه بدأت فكرة إنشاء البرك الاصطناعية لتجميع المياه المهدورة، في ظل غياب تطبيق خطة مشاريع السدود التي كان مقرراً إنشاؤها في لبنان.

نزار هاني
للبرك فوائد غير منظورة أهمها السياحة والتوعية البيئية

رجا البتلوني
كل القرى تريد بحيرات ولكن نحتاج إلى تمويل

بحيرة جباع
بحيرة جباع

البداية في محمية أرز الشوف
كانت محمية أرز الشوف الرائدة على لائحة البرك الاصطناعية في المنطقة، إذ أنشئت أول بركة سنة 2000 في غابة عين زحلتا – بمهريه بكلفة 50 ألف دولار وبتمويل من السفارة اليابانية، ثم أقيمت بركة ثانية في غابة الباروك وهي بركة ضخمة جداً سعتها 90 ألف متر مكعب وبلغت كلفتها 360 ألف دولار أميركي تبرع بها النائب وليد جنبلاط.
بعد تلك المبادرات وتأكد الفائدة منها، بدأ العمل على إنشاء برك اصطناعية في بلدة مرستي. وحفّز نجاح التجربة على تعميم مشروع البرك على كل قرى الشوف الأعلى بتوجيه من النائب جنبلاط. وتحوّل الأمر إلى موجة أو تيار حقيقي مع مسارعة البلديات وعدد من الأفراد إلى تلقف الفكرة بعد أن وجدوا فيها حلاً عملياً وسبيلاً فعّالاً لإقامة الزراعات الإقتصادية في المنطقة.

النجاحات الأولية تعزز الحماس للتجربة
ويشير البتلوني إلى أن موجة إنشاء بحيرات تجميع الأمطار قويت بعد الـعام 2007، فأقيمت برك عامة تشرف عليها البلديات في عدد من القرى، وهي كناية عن برك زراعية سعتها نحو 10 آلاف متر مكعب (المساحة السطحية 1500 متر مربع، وعمقها ما بين 8 و9 أمتار)، تتم تغذيتها من الأمطار المتساقطة خلال فصل الشتاء، بسبب عدم وجود مجاري مياه دائمة. وهذا مع العلم أن معدل المتساقطات العام هو 800 ملم (80 سنتم)، وتقوم البلديات بفتح مجاري جانبية لتجميع المجاري والسواقي المؤقتة التي تكوّنها الأمطار بغية توجيهها نحو البرك.
وتتوزّع البرك على الشكل التالي: نيحا (واحدة انتهت وواحدة قيد الانشاء)، جباع (أربع برك)، مرستي (خمس برك)، بعذران (بركة واحدة)، الخريبة (ثلاث برك) المعاصر (بركة واحدة).
من هذه النقطة ينطلق البتلوني ليتحدث عن البحيرة التي أنشئت في محمية أرز الشوف، لافتاً الى أن الدافع لإنشائها كان الخوف من الحرائق، ومحمية الأرز هي الجانب البيئي الأبرز في المنطقة. ويشرح أن مساحة هذه البحيرة السطحية تصل الى 16 ألف متر مربع بينما يبلغ عمقها نحو 6 أمتار.

استخدامات البرك
ويلفت مدير المحمية نزار هاني أن الأمر الإيجابي كان إقامة البرك في مواقع هي عبارة عن حفر طبيعية مما وفّر تكلفة الحفر. أما عن الأهداف من إنشاء تلك البرك، فيلخّصها بثلاث نقاط:
1. الريّ، الاستخدام التقليدي، حيث يستفاد منها في إرواء مشاريع التحريج.
2. تأمين مياه للحياة البرية (الطيور والحيوانات) وحمايتها من المخاطر، خصوصاً في أواخر فصل الصيف وأوائل فصل الخريف، ففي فترة الجفاف تفتقر المحمية للمياه مما يدفع بالحيوانات الى التوجه نحو القرى، وبالتالي يعرضها لإعتداء الأهالي.
3. إخماد الحرائق (بواسطة الدفاع المدني والطائرات). وهنا يلفت هاني إلى أن البحيرة الثانية في الباروك يمكن استخدامها في اطفاء الحرائق وحتى سيارات الدفاع المدني قادرة على الوصول إليها والإفادة منها.
ويضيف هاني الى أن هناك استخداماً غير منظور للبرك يتمثل باستخدامها في نشاطات السياحة والتوعية البيئية، حيث أقيمت الى جانب كل بركة نقطة مراقبة للطيور والحيوانات البرية.
بالإضافة الى البرك العامة هناك نحو ثماني برك خاصة موزّعة على عدد من قرى المنطقة.

ماذا عن الجانب التقني لإنشاء هذه البرك؟
يقول البتلوني إن اختيار الموقع يجب أن يتم وفق معطيات تتمثل في أن يكون قريباً من مجاري مياه الأمطار، وأن تكون البرك على ارتفاع يسمح بتغطية الأراضي الزراعية بواسطة الريّ بالجاذبية، وأن تكون الأرض مهيأة لخزن المياه مما يتطلب فحصها. وأشار إلى أن نحو 6 أو 7 مواقع لبرك تجميع مياه الأمطار كانت مقالع رمل وتمّ تحويلها الى برك مياه وتشجير محيطها بأشجار الصنوبر.
ويلفت الى أنه في البرك التي يشرف عليها، تستخدم الأغشية العازلة Geomembrane من اللون الأبيض وبسماكة 1,5 ملم، لأن من خصائص هذا العازل عكس أشعة الشمس والتخفيف من التبخر إلى حدٍ كبير في الوقت الذي يرفع الغلاف الأسود من نسبة التبخر بشكل كبير.
تمتلئ البرك في آخر نيسان وتبقى حتى آخر الصيف. ويشير البتلوني الى أنه في جباع أنشئت البرك بطريقة تسمح بنقل المياه من بركة الى أخرى حسب الحاجة، مع الإشارة إلى ضرورة تصفية المياه من الأوحال والترسبات قبل إيصالها إلى بركة التجميع.

إحدى البحيرات في الشوف الأعلى copy
إحدى البحيرات في الشوف الأعلى copy
حفر البحيرة وتهيئة الأرض قبل تثبيت الفشاء العازل copy
حفر البحيرة وتهيئة الأرض قبل تثبيت الفشاء العازل copy

لكن ماذا عن التكلفة؟
يشرح البتلوني أن بركة لتجميع مياه الأمطار بسعة 10 آلاف متر مكعب تكلف نحو 100 ألف دولار تشمل حفر البركة وتأهيلها وتغليفها بالأغشية العازلة وإنشاء تصوينة ومد شبكات الريّ. ونظراً لعامل التكلفة فقد بات هم البلديات تأمين التمويلات اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع، وذلك عبر السعي لدى الوزارات المعنية كوزارة الزراعة (من خلال المشروع الأخضر) أو مجلس الإنماء والإعمار أو هيئات المساعدة الأجنبية.
وبسبب العائق المالي فقد تمت تغطية تكلفة أول البرك في مرستي وجباع من عائد بيع الرمول الناتجة من حفرها. ولكن بعد الجدوى التي حققتها البرك قدمت بعض الجهات مثل الإتحاد الأوروبي والسفارة الإيطالية مساهمات وصلت الى 80% من تكلفة الإنشاء وغطّت البلديات الباقي. وتوزّعت المساهمات حتى تاريخه على الشكل التالي: الإتحاد الأوروبي ثلاث برك (واحدة في الخريبة واثنتان في نيحا)، السفارة الإيطالية بركتان (واحدة في الخريبة وأخرى في نيحا). كما ساهم مجلس الإنماء والاعمار بتمويل جزء من بركتين أنشئتا في بعذران والخريبة.
ويشير البتلوني الى أن البلديات تتكفل بتنظم الريّ وتوزيع المياه وصيانة الشبكة بما يضمن اِستفادة المزارعين من هذا المشروع، وهي توصل لكل مزارع نسبة متر مكعب واحد لكل دونم أرض، وما على المزارع سوى دفع كلفة الصيانة.
أما في ما يخص المنتجات فهي تشمل كل المزروعات وبشكل خاص الأشجار المثمرة والتفاح بدرجة أساسية. وعند سؤاله عن مدى التوجه نحو الزراعة العضوية، يقول البتلوني نحاول إرشادهم الى هذا النوع من الزراعات ولكن المسألة صعبة، فالمشرفون على الزراعة العضوية في لبنان يضعون شروطاً للإنتاج الزراعي العضوي، والتدابير اللوجستية المطلوبة مكلفة، معتبراً أن تطوير هذا العمل يتطلب إنشاء مركز للإرشاد الزراعي في المنطقة.
يبقى القول إن إنشاء البحيرات لا يتم عشوائياً، وكأي مشروع يتطلب دراسة لتقييم أثره البيئي. وعلى خلاف ما تداول البعض، يفيد هاني أن “ايكوديت” أجرت دراسة كاملة لتقييم الأثر البيئي للمشروع، وبناء على تلك الدراسة تم إنشاء البحيرة في المحمية.
وفي هذا السياق، يقول هاني النتيجة غير مضمونة، ولكن دائماً عندما نريد أن نقوم بفعل ما يكون هناك أولويات.

البحيرات في مرستي من الأقمار الصناعية
البحيرات في مرستي من الأقمار الصناعية
البحيرات وفرت مصادر مياه قريبة لمكافحة حرائق الغابات copy
البحيرات وفرت مصادر مياه قريبة لمكافحة حرائق الغابات

دروس التجربة
يعتبر هاني أن التجربة مشجّعة جداً وكذلك ردة فعل المجتمع المحلي والدليل هو في نمو الزراعات وانتشار الخضار في المنطقة مما يؤشر إلى أن الناس أصبحوا يهتمون بأرضهم أكثر من السابق.
من جهته، يقول البتلوني بعد تجربة امتدت لنحو أربع سنوات، لاقت البرك الاصطناعية أقصى درجات التجاوب من البلديات والمواطنين، الناس يريدون برك الري بقوة، وكل القرى تريد هذه البرك ولكن نحتاج الى تمويل، لافتاً الى أن هناك اتجاهاً لإنشاء بركة في مزرعة الشوف ولكن الأمر مرهون بتوفر التمويل.
ويتابع بحماس واضح: “تصوري تعطيهم مياه تعطيهم حياة”. والجيّد أنه أصبح هناك اهتمام جدّي من قبل الوزير حسين الحاج حسن الذي كان متجاوباً جداً لدرجة أنه قام بزيارة الى الشوف وأطلق مشروع إنشاء بحيرة في مرستي.
ويسأل البتلوني: هل هذا يكفي؟ وماذا نريد بعد؟ معبراً عن رأيه بضرورة مواكبة الإستثمارات التقنية والصناعية لهذا العمل، للسماح للقطاع الزراعي بالتطور، ولتأمين قيمة إضافية لهذا الإنتاج مما يستلزم:
1. إنشاء مراكز للتدريب والتثقيف والإرشاد الزراعي.
2. اِقامة سوق زراعية لتصريف الإنتاج في المنطقة وتخفيض الكلفة على المزارع.
3. إنشاء مركز توضيب وتبريد زراعي.
4. إيجاد صيغ لمساعدة المزارع بالأدوية والأسمدة الزراعية.
5. ويؤكد أن ذلك يعيد التوازن للقطاع الزراعي ويساهم في تمسك المواطن بأرضه.

ماذا حققت البحيرات؟

تبلغ سعة البحيرات الاصطناعية التي أنشئت في الشوف الأعلى حتى الآن نحو 300 ألف متر مكعب من المياه.
أما النتائج الاقتصادية التي حققتها فيمكن تلخيصها بالآتي:
1. ريّ نحو 250 ألف شجرة مثمرة.
2. استصلاح نحو 3000 دونم من الأرض مما ساهم في خلق فرص عمل، استثمار أراضٍ جديدة ومساحات واسعة من الأراضي البور، تحسين إنتاجية الأشجار البعلية، ومضاعفة الإنتاج الزراعي. ويشار إلى أن كل 120 متراً مكعباً من المياه تروي دونماً من الأرض، وكل دونم أرض يمكن أن يزرع فيه 70 شجرة مثمرة. وعلى سبيل المثال فقد تمّ في جباع خلال هذه الفترة (3 – 4 سنوات) استصلاح نحو 200 دونم من الأراضي وتمّ تشجيرها بالأشجار المثمرة خصوصاً التفاح، وذلك يسري على كل القرى الأخرى التي أنشأت بركاً لتجميع مياه الأمطار.
3. تساعد البرك بشكل ممتاز في اِطفاء الحرائق التي تزيد بشكل مخيف في لبنان.

ليرات ذهب الشيخ أبو اسماعيل ..والملفوفة

“والإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك”
ابن عمر

ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل
ملفوفة الشيخ أبو اسماعيل

كان الشيخ أبو اسماعيل سليم خير الدين رجلاً صادق القول وثاقب الرأي، وكانت حياته جهاداً للنفس وإصلاحاً للمجتمع وعوناً لأهالي زمانه في أمورهم حتى غدا مرجعية ثقة وصلاح يقصدها الناس من مختلف الطوائف كما قال عنه الأديب سلام الراسي.
افتتح الشيخ أبو اسماعيل محلاً لتجارة المنسوجات في سوق حاصبيا في أواخر القرن التاسع عشر، فكان بعمله هذا من أوائل المتعاطين من الدروز بهذه المهنة وقد كانت هذه حتى ذلك التاريخ محصورة ببعض كبار التجار المسيحيين في البلدة. وبسبب ما تحلّى به من طيب الخلق وحسن المعاملة فقد ذاع صيت الشيخ واتسعت تجارته وثروته وغدا فوق ذلك مقصداً للجميع الذين كانوا يودعون الأموال لديه على سبيل الأمانة أو يقترضونها منه دون أي فوائد لسد حاجات أو أغراض معينة.
في أحد الأيام طرق باب الشيخ رجل قدم من إحدى قرى المنطقة، وبعد السلام والتحية، خاطبه قائلاً: ” لقد سمعت عن أعمال الخير التي تقوم بها، وأنا رجلٌ ضعيف الحال، كثير العيال، وأحتاج لأن أنشئ تجارة هي عبارة عن محل سمانة يؤمن أود أسرتي لكن يلزمني لذلك خمس ليرات ذهبية وأنا أعدكم بأنني سأعيدها لكم مع قسم من أرباحي إذا رغبتم”.
تفرّس الشيخ أبو اسماعيل في وجه الرجل مليّاً، ثم سأله إن كان يملك ما يقدمه كضمان للدين. وعلى ذلك أجاب السائل بأنه فقير الحال ولا يملك إلا الكوخ الذي يعيش فيه مع أسرته. وبعد تفكر برهة نهض الشيخ أبو اسماعيل إلى صندوق حديدي في زاوية الغرفة ففتحه وأخرج منه خمس ليرات ذهبية دفعها إلى الرجل طالباً منه أن يستخدمها في تأسيس عمله على أن يعيدها عندما تروج تجارته. وحرر الشيخ الدَّين في صك من نسختين وناوله الليرات الذهبية بعد أن لفّها بنسخة من الصك بينما احتفظ هو بنسخة الصك الثانية.
انكب الرجل على يد الشيخ يريد تقبيلها، لكن الشيخ استنهضه بعدما استغفر الله، ثم دعا له بالتوفيق والنجاح، وانصرف الرجل نحو بلدته شاكراً حامداً.
أسدل الليل ظلامه قرب مناجم الحمّر(*) المحاذية لنهر الحاصباني، والرجل في طريقه نحو بلدته، وقد كان السير ليلاً في تلك الأيام مجازفة حقيقية بسبب قطّاع الطرق ولصوص الليل الذين كانوا يتربصون بالمسافرين. لذلك فقد استبشر الرجل عندما لمح ضوءاً يشع من أحد البساتين المجاورة فاتجه إليه فإذا هو منزل لشيخ طاعن في السن من آل الحرفاني الذي سمح له بالمبيت عنده وقدم له العشاء وواجب الضيافة ثم ناوله غطاءً من الصوف، “وسلخ ” جلد خروف، وأبقاه في القسم الأرضي من العرزال الذي يصطاف به مع عائلته.
انقضى السواد الأعظم من الليل، والرجل يتقلب في فراشه لا يأتيه النوم خوفاً على المال الذي يحمله. وقد بلغ به الهاجس حداً جعله يقرر أن يخبئ ليراته الذهبية في إحدى ملفوفات البستان على أن يجمعها في الصباح لدى المغادرة. وبالفعل فقد تذرع الرجل بقضاء حاجة وجال في البستان حتى وجد ملفوفة ألقى بالليرات الذهبية داخل أوراقها وعاد نحو العرزال ملتحفاً غطاءهُ حتى الصباح.
لكن حدث أن الرجل استفاق ولم يستطع أن يتذكر في أي ملفوفة خبأ ليراته الذهبية. فبستان الملفوف كبير والملفوفات تتشابه كثيراً وقد شق عليه في الظلام أن يحدد فعلاً في أي منها وضع ثروته الصغيرة. حزن وتألم لما آل إليه مصير تلك الثروة التي فرح بها، واحتار في أمره، وعاب على نفسه أن يعلم مضيفه، بما فعل لأن في ذلك شيء من قلّة الثقة بمن استضافه وأكرمه. لذلك فقد قرر أن يكظم على نفسه وينام على جرحه، ثم شكر مضيفه وتابع طريقه نحو بلدته خالي الوفاض.
مضى يومان أو أكثر، عمد بعدها صاحب البستان إلى حقل الملفوف، فقطع منه حمل دابّة وأتى سوق حاصبيا، حيث باعه إلى التاجر أبو يوسف محمد الحلبي. في اليوم نفسه مرّ الشيخ أبو اسماعيل في سوق حاصبيا، وقد كان دكانه لا يبعد إلا قليلاً عن دكان بائع الخضار. استوقف الشيخ أبو اسماعيل منظر الملفوف المقطوف لتوّه، فطلب من البائع أن يزن له إحدى الملفوفات، ثم نقده ثمنها وأرسلها إلى منزله.
لكن ما أن فتحت زوجة الشيخ أبو اسماعيل الملفوفة قصد طبخها حتى ذهلت إذ وجدت خمس ليرات ذهبية ملفوفة بصك من الورق داخلها. احتارت في تفسير هذا الأمر المستغرب لكنها قررت أن تودع الليرات الذهبية خزانة البيت في انتظار عودة زوجها عند المساء.
أكل الشيخ أبو اسماعيل من طبخة الملفوف الشهية التي أعدّتها زوجته ثم شكرها على مهارتها مضيفاً القول: ” حقاً إن الملفوف لمن الأغذية اللذيذة والنافعة”.
هزّت الزوجة رأسها وأكملت قائلة : “وأكثر من ذلك، يجلب معه الذهب والدراهم. تفضّل ، هذا ما وجدته داخل تلك الملفوفة التي أرسلتها لي في الصباح “.
فتح الشيخ الصكّ، ثم قلّب الليرات بيده وأعاد قراءة الصك المرفق. ثم هزّ برأسه تعجباً واستغراباً، اتجه بنظره نحو زوجته وقال:” حقاً إن المال الحلال يعود لصاحبه. هل تعرفين يا أم اسماعيل لمن هذه الليرات؟ وهل تذكرين ذلك الرجل الذي كان عندنا من يومين؟”.
أجابت : “نعم، أذكر جيداً ذلك الرجل الذي كان بجانبك في “المقعد” (وكان يقصد به الصالون في تلك الأيام) لكنني لا أعلم ما الذي جرى بينكما آنذاك. عندها روى لها قصة الرجل واستدانته لليرات الذهبية لكنه بقي متعجباً جداً من هذه الحادثة الغريبة وهو يسأل نفسه: “كيف وصلت تلك الدراهم إلى داخل الملفوفة؟ .ومن أين اشترى تاجر الخضار تلك الملفوفة وغير ذلك من الأسئلة التي بقيت دون أجوبة.
مضى على تلك الحادثة نحو أسبوع من الزمن، وإذا بالرجل نفسه يطرق باب الشيخ مجدداً فيخاطبه قائلاً: ” حيّاك الله يا عم أبو اسماعيل وأبقاك وأمدّ بعمرك. ها قد تعودنا على فضلك الكريم وخيرك العميم. فهلاّ مننت علينا بخمس ليرات أخريات، وما لنا غير بابك نطرق”.
هزّ الشيخ رأسه متعجباً ثم أجاب بعد تفكير: ” وماذا فعلت بتلك الليرات التي أخذتها يا بني؟ وهل صرفتها على تجارتك جميعها؟”

قال :” نعم، صرفتها على تجارتي لكنني ما زلت في حاجة إلى مبلغ مماثل كي أكمل ما نحتاج إليه من بضاعة وحوائج”.
عرف الشيخ في سريرته إنه أمام رجل مخادع وحاول الحفاظ على هدوئه ثم قال له: “سأعطيك ما تريد، لكن شرط أن تجيبني بصدق عمّا أسألك”.
– ” تفضّل واسأل يا حضرة الشيخ”.
قال الشيخ: “هل تقسم بالله العظيم ماذا كان يدور في نفسك عندما قصدتني لاستدانة المال في المرة السابقة؟ قل ولا تخف إلاّ ذنبك، ولا ترجو إلاّ ربّك..”.
طأطأ الرجل رأسه خجلاً، ثم تمتم بعبارات غير مسموعة، بعدما شعر في قرارة نفسه أن الشيخ مطلع على شيء ما يتعلق بقصته.
وألح الشيخ مجدداً بالسؤال: ” أستحلفك مجدداً أن تقول الحقيقة ولا تخف إلاّ ربّك”.
قال الرجل عندها: “اغفر لي وسامحني يا شيخنا الكريم. فقد وسوس الشيطان في صدري حتى فكرت فعلاً بأنني إن حصلت على المال فإنني لم أكن لأرده أليك خلافاً لما وعدتك”.
أردف الشيخ : “وماذا كانت نيتك هذه المرّة وقد جئت تطلب المزيد من المال؟”.
ارتبك الرجل كثيراً واعتذر عن سوء فعله طالباً الصفح والعفو من الشيخ الذي أردف بالسؤال: “لكن أخبرني بما حدث معك في المرة السابقة، وأين وضعت ليراتك وكيف أضعتها واعلم يا بني أن الصدق طريق النجاة”.
صعق الرجل وقد أيقن عندها أن الشيخ أبو اسماعيل مطلع على قصة إضاعته للمال وأنه ربما تمكن من استرجاعه بطريقة ما فاحمّرت وجنتاه وتمنّى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه، لكنه قرر مع ذلك الإقرار بما حصل وروى للشيخ ما حدث معه عند صاحب البستان وكيف أضاع ليراته الذهبية التي كان قد اعتزم عدم ردها له. عندها أنبأه الشيخ بأن المال والصك عادا إليه مردداً القول المأثور “المال الحلال بيرجع لصاحبه ولو بعد حين”، مضيفاً “إنما الأعمال بالنيات. فأحسنوا سرائركم وأخلصوا نياتكم والله تعالى الرقيب العليم”.

رزق الله على زمن كانت الشعرة فيه صك رهن
أثناء الحرب العالمية الأولى، اجتاحت بلادنا موجات من الجراد الصحراوي أكلت الأخضر واليابس كما كانوا يقولون، فتفشّى الجوع في كل مكان، وعمّ الفقر معظم المناطق والبلدان، ولم ينجْ منه إلاّ من توفّرت لديه بعض الموارد المالية أو الاقتصادية، والتي ربما كان مصدرها بلاد الاغتراب، أو إرثاً من الآباء والأجداد. لذا عانى الفلاحون الأمرّين لتأمين لقمة العيش لعائلاتهم، وقاسى الكثيرون منهم في سبيل ذلك.
شاع خبر في منطقة وادي التيم مفاده، أن رجلاً كريم النفس، ميسور الحالْ في بلدة حاصبيا، يُدعى أبو خليل إبراهيم رشيد حبيب. ذو أريحيّة فيّاضة، ونفس طيّبة، يمد يد العون إلى المحتاجين، ولا يرد طلب سائل مسكين. سريع البديهة، محدّث لبق، حاضر النكتة والخاطر، ومعظم أحكامه الاجتماعية كانت صائبة وتنم عن فراسة نافذة وحنكة.
علم بأمر هذا الرجل فلاّحٌ من بلدة عين عطا، فقير الحال لكن عزيز النفس، يملك ثوراً وحيداً للفلاحة، وهو ما لم يكن يكفي قبيل موسم الزرع وحراثة الكروم. لذا قرّر أن يقصد باب ذلك الرجل ويطلب منه مبلغاً من المال لشراء ثور آخر، وذلك بمثابة دين يردّه مع فائدته بعد جني المواسم.
حال قدومه دار الرجل المذكور، استقبله صاحبها استقبال المضيف لضيفه. وبعد قيامه بواجب الضيافة، سأله عن اسمه. أجابه الفلاح: “عبدك صالح عبد الحق، من بلدة عين عطا”.
” أنعم وأكرم يا بني، وما هو مطلبك؟”.
“مطلبي أيها العم الكريم، إنني بحاجة لمبلغ من المال، قصد شراء ثورٍ أربطه إلى جانب رفيق له عند الحراثة”.
هزّ الرجل برأسه، وقلب الأمر في سريرته وقرر امتحان السائل بطلب فيه شيء من التحدي والإحراج.
“أهلاً وسهلاً وعلى الرحب والسعة، أعطيك ما تريد شرط الإجابة لطلبي، خاصة يا بني أنني لم أعرفك من قبل، ولا أعرف من يمكنه أن يعرف عنك سواء كان قريباً أو بعيداً”.
” تفضل، ما هو طلبك يا حضرة الخواجة؟”.
“طلبي فقط شعرة من شاربيك، كرهنٍ بحيث أعيدها إليك عند الوفاء بالدين إذا رغبت”.
تفاجأ الفلاّح لهذا الطلب، واحمّرت وجنتاه، وارتبك، لكنه، بعد أن تمالك نفسه، قال: ” معاذ الله يا سيدي، فهذه إهانة لي ولأولادي أن أرهن شرفي وكرامتي. لكن، إذا رغبت بالعطاء، فما عليك إلاّ زيادة الفائدة كما تشاء، أو أي طلب غير هذا الطلب”.
رفض العم أبو خليل عرض الفلاح وكرّر الطلب ذاته، عندها حسم الفلاح أمره وهم بالخروج من منزل أبو خليل والإياب إلى بلدته.
استوقفه العم أبو خليل، ثم ربّت على كتفه بيده، وقال: ” نظرتي فيك يا بني تنبئني أنك صادق، وأمين، وأنّ للشّرف عندك مكانة وتقديساً، وأقسم لك، بأن الشعرة التي سآخذها منك، سأضعها في قلب الصك الذي سأكتبه عليك، ثم ألّفها وأودعهما خزائني لوقت إعادة المبلغ إذا أردت”.
ما العمل، وشبح الضيق المادي يلاحق الفلاح، ويهدد سعيه للرزق والعيش الكريم كما أن هذا الرجل الذي يعرض مساعدته يبدو كريماً ولا خوف من أن يعرض به، لذلك قرر أن يقبل الشرط المذكور على مضض بعدما أخذ منه عهداً بالمحافظة على الشعرة، رمز شرفه وكرامته. مدّ يده إلى شاربيه، ثم اقتلع شعرةً، وكان في ذلك كمن يقتلع قسماً من كيانه أو وجدانه، ثم سلّمها للرجل، واستلف المبلغ منه وعاد أدراجه من حيث أتى.
انتقل الخبر بالتواتر من فلاّح إلى آخر في منطقة وادي التيم، حتى علم به فلاّحٌ من قرية مجاورة فأسرع بالحضور إلى حاصبيا، ثم قصد بيت الرجل، طالباً منه ذات الطلب.
رحّب أبو خليل بضيفه الجديد، ثم سأله عن اسمه، فأجابه الفلاّح: ” ولدك متعب صعب”. تفرّس به جيّداً، ثم أعاد الطلب أو امتحان رهن شعرة من الشارب، كما طلب من الفلاّح السابق.
هنا، تهلّل وجه متعب فرحاً وأجاب بكل رضى وسرور: “خمس شعرات بدلاً من الواحدة يا عم أبو خليل، وإن يكن طلبك غالياً، فهو لما نعرفه عنك سهل ورخيص”.
هزّ أبو خليل رأسه، بعدما صدق حدسه. ثم رفع صوته بوجه ضيفه قائلاً: ” نظرتي فيك أنك لست من أهل الكرامة وأصحاب الوفاء، ويكفي أن اسمك متعب، وعائلتك صعب. وأكثر من ذلك، إن الذي يهون عليه شرفه وكرامته بهذه السهولة، يهون عليه أخذ أموال الناس، وعدم سدادها. فأبق شعر شاربيك في وجهك ونحن بدورنا، نبقي أموالنا لأصحاب الرجولة والشهامة.
انصرف صاحبنا حانقاً ومرتبكاً بعدما فشلت حيلته، وافتضح أمره. أما فلاحنا، صالح عبد الحق، فعندما حان وقت الوفاء للدين، أتى أبا خليل شاكراً، حامداً صنيعه ومعروفه. ثم نقده المال، واسترد أمانته بلهفة. وعندما همّ بالعودة استوقفه أبو خليل، قائلاً :” يا بني أطلب ما تريد، ووقت ما تريد، فإن لم تكف أمانتك وشرفك، فيكفي أن اسمك صالح، وعائلتك عبد الحق”.
وهكذا أصبحت قصة أبي خليل وصالح مضرباً للوفاء، وعنواناً للاستقامة وذاعت في عرض وادي التيم وطوله وحفظ الناس من يومها خبر تلك الأيام التي كانت فيها شعرة من شارب أهم ضمانة للوفاء بدين.

مضافة سلطان باشا الأطرش

مضافة سلطان باشا الأطرش

مضافة سلطان باشا الأطرش - من الداخل
مضافة سلطان باشا الأطرش – من الداخل
مضافة سلطان باشا الأطرش
مضافة سلطان باشا الأطرش

حوار مع رئيس اللجنة الاجتماعية في المجلس المذهبي

رئيس لجنة الأوقاف القاضي عباس الحلبي

النـزاع حول عقـار دار الطائفـة يهـدر فرصــاً

الأمـر بيد القضاء ويبقى باب الحوار مفتوحاً
مع الأهل والأبناء

أنجـزنـا حصر محفظـة الأوقـاف ولدينـا خطط لاستثمـار بعضهـا

بطء البت في الدعاوى القضائية يتسبب بأضرار

التقت مجلة “الضحى” رئيس لجنة الأوقاف في المجلس المذهبي القاضي الأستاذ عباس الحلبي في حوار تناول عمل اللجنة والتحديات التي تواجهها وخصوصاً لجهة تنظيم محفظة الأوقاف ومعالجة القضايا العالقة، ولاسيما الخلاف القائم حول العقار الرقم 2046 في المصيطبة. وفي هذا الحوار يؤكد رئيس لجنة الأوقاف ثقته بالمستقبل داعياً إلى الحوار والحلول الأخوية لحل كل الخلافات. وهنا الحوار:

الشائع أن الوقف الدرزي هو من أغنى الأوقاف في لبنان، وهناك معوزون كثر ولا تتم مساعدتهم بالشكل المطلوب، لماذا؟
لا أعرف ماذا يوجد لدى الطوائف الأخرى لأجزم أيها الأغنى، ولكن أقول إن الوقف الدرزي يشمل عدداً من العقارات في بيروت ووقف الشيخ أحمد أمين الدين في الشحار وأوقافاً في مناطق أخرى محصورة في قضاء عاليه وقليلاً في الشوف والمتن وراشيا وحاصبيا. عندنا محفظة وقفية لا بأس بها ولكنها غير مستثمرة، ونواجه مشكلة كبيرة في أوقاف بيروت مورد الاستثمار الأساسي، وبالتالي كل العائدات لا تشكّل مبلغاً قادراً على سد الحاجيات، خصوصاً أن القانون يمنع منعاً باتاً البيع أو إلقاء أي عبء قانوني على العقار (بمعنى تأجيره لفترة طويلة أو الارتفاق عليه).

ما هي الحالة التي كانت عليها الأوقاف عندما استلمها المجلس الحالي؟
حالة تسيب كبيرة، فبعد وفاة شيخ العقل محمد أبو شقرا سنة 1991 دخلنا في مرحلة من النزاعات داخل الطائفة، وكان نتاجها وضع اليد على الأوقاف من أكثر من جهة. عندما تولينا إدارة الأوقاف كانت مبعثرة واستلمنا من جهات عدة: جزء من مجلس أمناء الأوقاف السابق المنحل، وجزء آخر من السيد سلمان عبد الخالق، وجزء من الشيخ بهجت غيث كما واستلمنا بعض العقارات التي كانت بتصرف جهات أخرى لن أدخل في تفاصيلها.

كيف تعاطيتم مع هذا الواقع؟
عندما انتخبنا كانت مهمتنا الأساسية تجميع المحفظة الوقفية من الجهات التي كانت تضع اليد عليها. أستطيع القول إن المحفظة الوقفية انحصرت، ولكن رغم الجهد الذي بذلناه لم نستكمل هذه المرحلة بعد بسبب المشكلة مع جمعية التضامن الخيري الدرزي على عقار ما يسمى ب “دار الطائفة“، ومع واضع اليد على المدرسة المعنية.

قيل إن الجهات التي كانت تدير الوقف جمعته وسلمته للمجلس كاملاً، على خلاف ما كان يُشاع حول الهدر. ما هو تعقيبكم؟
ليس صحيحاً، أنا أسميتها حالة تسيب وإهمال. ربما قام البعض بدور ما وفق مفهومه وعلى طريقته، ونحن نريد أن نفتح صفحة جديدة وليس الصفحات القديمة غير المجدية.

ما هي مشاريع المجلس، وهل تشمل الاستثمار؟
حاليا،ً لدينا مشروع لأرشفة المحفظة الوقفية وإطلاق برنامج معلوماتي يشمل كل عقارات الأوقاف في جميع المناطق اللبنانية. ونحن نتجه نحو الاستثمار في بعض العقارات، وبشكل أساسي في بيروت وفي عقارات وقف الشيخ أحمد أمين الدين في منطقة الشحار، هذا بالإضافة إلى مشروع في تلة العبادية، إلا أن المشكلة مع جمعية التضامن ومع واضع اليد على المدرسة المعنية تحول دون تنفيذ مشاريعنا الاستثمارية في بيروت، فالنزاع على عقارات بيروت جمّد أي استثمار فيها.

تتحدثون عن العقار 2046 في المصيطبة، ما الذي يشمله هذا العقار وما هي الملابسات بشأنه؟
من المعروف أن العقار 2046 في المصيطبة، أو عقار دار الطائفة الدرزية في بيروت، والذي تبلغ مساحته نحو 36 ألف متر مربع، يقع في منطقة سكنيّة وتجاريّة من المناطق الأولية في العاصمة، ومشاد على جزء منه عقار دار الطائفة الدرزية وتقع على الجزء الآخر المدافن وملاصق لها مجلس ومزار وقاعة. وفي واجهة العقار لجهة شارع فردان – رشيد كرامي، محطة بنزين وبناية فيها محال تجارية وبعض المستأجرين، كما يشغل المجلس المذهبي طبقة، ولجمعية التضامن الخيري الدرزي في بيروت طبقة أيضاً، كما يتضمن لناحية مدرسة الظريف معملاً مهملاً للبلاط وبعض المنازل القديمة. وهذا العقار واحد موحد باسم الأوقاف الدرزية العامة وليس لأي جهة أخرى حق التصرف به. الصحيفة العينية مثقلة بالإشارات، وهناك دعاوى مقامة من الغير لتملك أجزاء من هذا العقار. بإختصار وضع العقار يحتاج إلى عناية كبيرة لإدارته وحل مشاكله وبالنتيجة استثمار جزء منه لمصلحة الوقف من مساحات غير مستعملة يأكلها اليباس وقيمتها المالية مرتفعة جداً يمكن استثمارها بدل تركها فريسة للإهمال.

ما هو سبب الخلاف مع جمعية التضامن؟
يقولون اننا نريد أن ننقل تربة الدروز وإقامة “دروز مول” بدلاً منها، وهذه فكرة غير واردة أبداً. دار الطائفة والمقام والقاعة والمجلس والتربة كلها مقدسة، ونحن حريصون عليها ربما أكثر من أي كان. ولكن المكان محصور وهناك جزء من العقار أكله اليباس مع أنه مصنف مساحة من الدرجة الأولى في التصنيفات الاقتصادية، ويمكن إقامة مشروع عليه يستفيد منه عموم الدروز المحتاجين، وفي مقدمتهم أهلنا في بيروت.

إلى أين وصلت مساعي الحوار بينكم وبين الجمعية ؟
عندما انتخبت توجهت إليهم بالحوار، وأفضّل ألا أقول إلى أين توصّلنا، ولكن للأسف أصبح الأمر بيد القضاء، ولا بدّ من العودة إلى الحوار فهم أبناؤنا وأهلنا.

هل رُفِعَت دعوى قضائية بالموضوع؟
الجمعية أقامت دعوى على المجلس، للأسف جمعية درزية تخضع لإشراف المجلس المذهبي ترفع دعوى على مرجعيتها، يحاولون تضييع الوقت والهروب الى الأمام، وبالتالي فإننا نخسر عائدات مؤكدة تحقيقها.

ما هي قصة واضع اليد على المدرسة المعنية؟
إدارة الوقف السابقة أعطت السيد وليد ابو ضرغم عقد استثمار وأعيد تجديده لمرات وانقضت مدة العقد الأخير منذ سنين طويلة ولكنه مستمر في الاستثمار بطريقة وضع اليد بدون اتفاق مع الوقف.
ألا يمكن ملاحقته قانونياً؟
هناك دعوى أمام القضاء، ولدينا الكثير من الدعاوى القضائية المتوقفة في القضاء إذ نشكو من البطء في بت الدعاوى القضائية، تمضي سنوات قبل الحصول على حق الأوقاف.

ما هي الرؤية للمستقبل والرسالة التي توجهونها إلى الموحدين الدروز؟
مع أن العمل المنجز لم يكن سهلاً وكنت آمل أن نحقق أكثر، إلا أن المعوقات ليست سهلة أيضاً، لذلك أتمنى أن تحل كل المشاكل في الفترة المتبقية لنا، وأن نستطيع المباشرة في تحقيق بعض مشاريعنا الاستثمارية لأن الاستثمار خيارنا الوحيد، وإذا لم نستثمر في الأوقاف فعبثاً نبحث عن تحسين العائدات وبالتالي تحسين الخدمات للمحتاجين من أبناء الطائفة.

إنجـازات لجنـة الأوقـاف

ترميم المدرسة الداودية التي خصصت كمعهد جامعي للتكنولوجيا بإيجار سنوي بمعدل: 257.000.000 مئتان وسبعة وخمسون مليون ليرة لبنانية. وبلغت كلفة الترميم وبعض التجهيزات 966.599.000 ل.ل
بدعم من النائب وليد بك جنبلاط وبمساهمة شخصية منه بقيمة 800.000 $، ثمانمائة ألف دولار، تمّ شراء العقار الرقم 18، كركول الدروز – بيروت، بمبلغ مليون وخمسمائة ألف دولار أميركي . دفعت الاوقاف 500.000 $ خمسمائة ألف دولار وجمعية التضامن 200.000$ مئتي ألف دولار، وتمّ تخصيص هذا البناء لسكن طالبات العلم في بيروت بإدارة جمعية بيت الطالبة.
استلام المعهد التقني في راشيا وتأجيره في العام 2007 بقيمة 45.000$ على كامل الأقسام. وقد تمّ في العام 2010 تخصيص قسم من المبنى لاستحداث فرع للجامعة اللبنانية في منطقة راشيا.
مسح عقارات في بلدة البنية وتقدّر بنحو 700 ألف متر للأوقاف، مع مراعاة وصية الشيخ أحمد أمين الدين وجرت تسوية تعديات كانت حاصلة.
أنجزت معاملة شراء 64 ألف م2 مجاورة لمقام الست شعوانه، والذي كان بدأ بها الشيخ سلمان عبد الخالق بمبلغ وقدره 240.000 $ مئتان وأربعون ألف دولار أميركي.
تقدّم المجلس بطلب تخصيص عقار في بيروت للطائفة وتمت الموافقة من المجلس البلدي في بيروت على تخصيص العقار الرقم 4783 منطقة المصيطبة للمحاكم المذهبية الدرزية، لكن المعاملة ما زالت في وزارة الداخلية.
في مصالحة بلدة بريح تمّ التوافق على تسجيل قطعة أرض لبناء بيت بلدة للموحدين الدروز باسم وقف طائفة الموحدين الدروز وأنجزت معاملاته مع الصندوق الوطني للمهجرين وحمل الرقم العقاري 16/ بريح.

حماية دروز الجبل للأمير سلطان ابن الرشيد

حماية دروز الجبل للأمير سلطان ابن الرشيد
أمير مدينة حائل في السعودية

حاصر العسكر التركي قرية الصورة سعياً لاعتقال الضيف
ولم تمضِ ساعات حتى حوصروا من فرسان الجبل ومقاتليهم

ابن الرشيد حلّ ضيفاً عزيزاً على الشيخ أبو علي مصطفى الأطرش
وودّع الجبل بذكريات البطولة والكرم وبقصيدة مدح طويلة للدروز

في العام 1904 كان الأمير سلطان ابن الرشيد على خلاف مع ابن عمه الأمير متعب بن عبد العزيز الرشيد وكان يطالب بحق الإمارة التي كانت آنذاك في فرع العائلة الذي ينتمي إليه. ورداً على ذلك، أمر متعب الرشيد بإلقاء القبض على ابن عمه الأمير سلطان الذي قرر عندها الانتقال مؤقتاً للإقامة في الشام. ولما علم الأمير متعب بذلك طلب من الوالي التركي في دمشق إلقاء القبض على الأمير سلطان وتسليمه له. ويبدو أن الأمر بلغ الأمير سلطان فنصحه أصدقاؤه في دمشق بأن يلجأ إلى بني معروف في جبل العرب والدخول عندهم.
وفعلاً توجّه الأمير سلطان إلى الجبل ووصل إلى قرية الصورة الكبيرة وكان شيخها آنذاك واكد زهر الدين. وقد عرَّف الأمير سلطان عن نفسه بقصيدة وحلّ ضيفاً على الشيخ واكد وأهله والذين رحبوا بالأمير وقبلوه ضيفاً حسب عاداتهم.
لكن الأتراك عرفوا بواسطة أعوانهم بخبر انتقال الأمير سلطان إلى الجبل فأرسلوا في أثر الرشيد إلى جبل العرب فرقة من الجيش العثماني كان قوامها حوالي 50 بغالاً مع أمر بإلقاء القبض عليه. وحاصرت الفرقة التركية قرية الصورة ودخل الضابط العثماني على الشيخ واكد مطالباً إياه بكل حزم بتسليم الأمير ابن الرشيد. لكن الشيخ واكد ردّ بهدوء وبشاشة قائلاً للضابط التركي: الغداء أصبح على النار وقريباً يجهز. وأنا أدعوكم لتناول الطعام مع ضيفنا وبعد ذلك تأخذونه معكم فأنتم ضيوفنا أيضاً.

أبو عليى مصطفي الأطرش
أبو عليى مصطفي الأطرش

يقال بأن ابن الرشيد كانت في يده مسبحة وعندما سمع ما قاله الشيخ واكد للضابط التركي وقعت المسبحة من يده على الأرض ولزم الصمت. وذهب الشيخ واكد إلى النساء يطلب منهن تأخير الطعام قدر الإمكان وطلب من أولاده في الوقت نفسه اختراق الطوق العثماني ومن ثم التوجه على ظهور الخيل لإعلام القرى بالحادثة وحملهم قصيدة جاء فيها:
قـــم يارسل وانقل عجول أخبـاري لـلابــه اللـــى زينــو كل ملـــــــــــهوف
الضيغمى تو بحمانا استــــــــجاري هايالنشاما بلغو عيـــال معــــــروف
متـعـقبيـــنـــه فرقتــــــين صـــــــواري بضباطهم وجنودهم زايم الشــوف
هــالينشاما ســـلاحكم والمهـــــاري دون الدخيل المال والعمر متـــــلوف
حمــر البيــارق جردوهــا جــــياري ولاحنا بحال الترك لو جمعها الوف
والله لـــو إن أحمـــر الـــدم جـــاري ياغير ياصـل ضيفنــا ديرة الجوف
وما قدر الله يا أهل الطول جاري المال يذهـــب والضنا بعد مخـلوف
مار الكرامة ما من دونها اعــذاري كاس الردى ولا يلحق الضيم بضيوف

إحدى القلاع القديمة في حائل
إحدى القلاع القديمة في حائل

وفحوى هذه القصيدة التي كتبت بلغة أهل الجبل القريبة من الشعر النبطي أن الشيخ واكد يخبر أهل الجبل بقصة الأمير ابن الرشيد ويحثهم على النهوض للدفاع عن الضيف، مؤكداً أن الموت أهون له ولعشيرته من أن يلحق الأذى بضيف استجار ببني معروف.
وبعد ساعات عاد أبناء الشيخ واكد واخبروا والدهم بأن خيالة الجبل طوقت القوات العثمانية بالكامل. فدخل الشيخ واكد عندها المضافة وأعلم الضابط التركي برفضه تسليم الأمير ابن الرشيد، وذلك جرياً على تقاليد الجبل التي تحرم تسليم المستجير بأهله. غضب الضابط وهدد وتوعد بالانتقام من القرية. لكن الشيخ واكد أعلمه بأن قواته قد حوصرت من قبل الدروز ناصحاً إياه بالمغادرة على أن يضمن له خروجه مع عسكره سالمين من بين بيارق الدروز التي وصلت إلى قرية الصورة بالحداء والأهازيج الحماسية.
ويقال بأن الضابط عرض على الشيخ واكد رشوة كبيرة من الليرات الذهبية (“العصملية”) مقابل تسليم الأمير سلطان لكنه رفض بإباء وغادر العسكر التركي يجرون أذيال الفشل والخيبة.
كان جميع بيارق الجبل بلغ قرية الصورة وكان على رأسهم المرحوم الشيخ أبو علي مصطفى الأطرش، فتناول الجميع الغداء، وكان رأي الشيخ أبو علي أن بقاء ابن الرشيد في الصورة سيكون خطراً وذلك لقربها من الشام، فكان القرار أن يذهب الضيف إلى قرية أمتان حيث ديار الشيخ أبو علي.
وبعد أن تأكد الشيخ واكد من سلامة دخيله قال هذه القصيدة (بلهجة أهل الجبل) يروي فيها مأثرة الدروز في حماية الضيف واصفاً الدخيل (أي المستجير) بأنه في نظر الدروز مثل العقد أو الجوهرة التي يحافظ عليها، كذلك فإن “دخيلنا ما ينشرى بالمجيدي” (وهي العملة الذهبية العملة العثمانية ) ويشرح الشيخ واكد كيف أن الدروز مسالمون ولا يعتدون على أحد لكنهم يقاتلون أيضاً حتى نيل مبتغاهم. ومن اللافت أن الشيخ ينهي كلامه بالاستغفار بهذا البيت (يا الله يا محصي أنفاس العبيدي عنا تكفر كل خطل وتقصير) وفي هذا يعكس خضوع الموحدين الدروز للمولى في عز انتصارهم الذي يردونه دوماً لتأييد رباني لهم بسبب طيب نفوسهم وتجردهم من كل نوايا القهر والعدوان.
عينيك يا سلطان يابن الرشيـدي جوك النشاما فوق حمر النواضير
جوك وتنـــاخو من قريب وبعيــدي والكل منهم شـرع السيــف ومغيــر
انظــر بعينيك للرمـك والجريـدي واسمــع زغاريـــد البنات المبـــاكير
سيوف تحطـــم كل طـاغى عنيدي وعيــــال عـــم للــــوازم حواضيـــــــر
دخيلنــــا بالجيــــد عقـــد فــريــدي ولاحلنا بحال الترك لو هم طوابيـــر
متجـــــــود بنــــــا بحبــــل الوريـــدي نرفاه مثــل العش مايــرفى الطيـــر
دخيلنـــــا ماينشــــــــرى بالمجيـــدي ياغـــير من دم النشــــاما معاييــــر
هذى عــــــوايدنا قــــديم وجديـدي زود على عجــل القرى للخطاطير
يالله يامحــــصي أنفاس العبيـدي عنــــا تكفـــر كل خطــــل وتقصيـــر

غادر الضيف بصحبة أبو علي وجموع بيارق الدروز ديار الشيخ واكد إلى الجبل ومكث في أمتان، وكان الشيخ أبو علي قد جهز له مكان إقامته وأعدّ له كل شي من متطلبات إكرامه كضيف ذي شأن. ويقال بأنه دفع له بـ 26 رأساً من الغنم قائلاً له “عليك جيرة الله غير تكرم مثل ما كنت ببلادك”.
ويروى أيضاً بأنه وطوال فترة مكوث الرشيد في أمتان لم تنقص الأغنام عن 26 أبداً، حيث كان الرشيد إذا ما ذبح منها واحدة أو اثنتين يوضع مكانها الذبائح أغناماً بديلة بحيث يبقى العدد 26.

الشيخ أبو علي مصطفى الأطرش يودّع ضيفه
مكث الرشيد في الجبل حوالي ستة أشهر زار خلالها معظم قرى الجبل وبعدها صدر العفو عنه نتيجة لمساعي صلح جرت مع ابن عمه ومع السلطة العثمانية. فغادر عائداً إلى دياره في حائل السعودية وفي ذاكرته قصص لا تنسى عن كرم الدروز وطيبهم ونخوتهم وهو أرسل لدى بلوغه بلده قصيدة شكر للدروز ذاكراً فيها بصورة خاصة كلاً من الشيخ واكد زهر الدين والشيخ أبو علي مصطفى الأطرش، وجاء في القصيدة التي كتبت باللهجة العربية البدوية (النبطية) وصف الأمير لشهامة الدروز وذودهم عن الدخيل وكرمهم وانتصارهم على العسكر العثماني. وفي هذه القصيدة يشهد الأمير أن الدروز عرب أقحاح يتصفون بصفاتهم وشيمهم في الذود عن المستجير. ويروي الأمير قصة حصار العسكر التركي (حمر الطرابيش) ثم كيف هزمهم الدروز فباتوا “يجرون الخزي والفشيلة” (أي يجرون أذيال الخزي والفشل).

من قصيدة ابن الرشيد في شكر الدروز
وسيوف واكـــد من بيارق وفرسان نعمـــين ربـــــع معذبــــــين دخيلــــــــه
أنـا اشــــهد أن ساســــــكم قحطان وأنا اشهد أنكم من ذواد القبيـــله
جونا سرايا الكـــيد من آل عثمــان وبعيونـهم تقرى الغدر والدغيـــــله
حاطو بنا ما يحوط خمسك بفنجان ويات الفرج عسر على كل كـحيـــله
نحرت عانى لابه من هـــل الشـــان بيض العمــــايم كاسبيـــن النفيلــه
تطابقـــــو يـــوم تناخـــو المـــــــــردان وبيدينـــهم تلمع رهاف النصيـــلـه
حينـــن لفـوا والجـــو عــج ودخــــان ياشوفــهم يبـــرى الكبـــود العليــلـه
راحت على حمر الطرابيش شردان واقفـــو يجرون الخــزى والفشيــلـه

مختارات من رباعيات جلال الدين الرومي

مختـارات من ربــاعيـات

شاعــر الصوفيــة الأكبــر جــلال الــدين الـرومــي

هذه مختارات شعرية من رباعيات جلال الدين الرومي (المتضمنة في الجزء الثامن من مصنفه النفيس “ديوان كبير” ) وقد تمت ترجمتها من الفارسية إلى اللغة الفرنسية على يد أيڤا دوفيتري ميوروفيتش وجمشيد مرتزافي في العام 1987. وترجمت هنا من الفرنسية بصورة راعت إلى حدٍ كبير المعنى الأصلي. وكما نلاحظ، فإن الرباعيات تتميز بين مؤلفات الرومي ليس فقط في قالبها الشعري المتمثل بأبيات قصيرة تتضمن المعنى الروحي في صور موجزة وبليغة، بل تتميز أيضاً في تركيزها الخاص على العلاقة بين الشاعر ومطلوبه وهو الحق جل وعلا، كما أنه أيضاً- وفي معارج الاختبار- المعلم أو المرشد باعتباره دليلاً إلى الحق وإلى عالم الأسرار والانعتاق الروحي. إنه طريق المجاهدات الوعر والمليء بالإمتحانات والمزالق والندم والتوبة والشوق المضني. وفي هذا الطريق تعتبر الرابطة الخاصة بين المريد وبين مراده أمراً أساسياً، بل لب الموضوع في جميع الحالات لأن المرشد يصبح في نظر المريد هو الطريق والأمل ووعد الخلاص والفرح الأرفع فتصبح حياة المريد بالكلية متعلقة بتلك العلاقة كما لو أنها روحه ومرتكز وجوده. وفي هذه الحال، فإن المريد غالباً ما يخضع لإمتحانات القربة، كما يخضع لإمتحانات البعد حيث يتوقف غيث النعمة وتختفي الحضرة في لعبة القبض والبسط فيصيب المريد عندها ما يصيبه من آلام الفرقة والحنين والندم واستذكار المعاصي والغفلات.
في هذه الأبيات الجميلة يعرض جلال الدين الرومي لعدد من الأحوال والمشاعر التي تشرح ما يصيب المريد في مجاهداته، والتي تنسكب شعراً رقيقاً زاخراً بالعفوية والإخلاص والرمزية، وهي ميزات يكاد ينفرد بها شعره ومختلف الأعمال الشعرية التيٍ أصدرها في حياته.هذه مختارات شعرية من رباعيات جلال الدين الرومي (المتضمنة في الجزء الثامن من مصنفه النفيس “ديوان كبير” ) وقد تمت ترجمتها من الفارسية إلى اللغة الفرنسية على يد أيڤا دوفيتري ميوروفيتش وجمشيد مرتزافي في العام 1987. وترجمت هنا من الفرنسية بصورة راعت إلى حدٍ كبير المعنى الأصلي. وكما نلاحظ، فإن الرباعيات تتميز بين مؤلفات الرومي ليس فقط في قالبها الشعري المتمثل بأبيات قصيرة تتضمن المعنى الروحي في صور موجزة وبليغة، بل تتميز أيضاً في تركيزها الخاص على العلاقة بين الشاعر ومطلوبه وهو الحق جل وعلا، كما أنه أيضاً- وفي معارج الاختبار- المعلم أو المرشد باعتباره دليلاً إلى الحق وإلى عالم الأسرار والانعتاق الروحي. إنه طريق المجاهدات الوعر والمليء بالإمتحانات والمزالق والندم والتوبة والشوق المضني. وفي هذا الطريق تعتبر الرابطة الخاصة بين المريد وبين مراده أمراً أساسياً، بل لب الموضوع في جميع الحالات لأن المرشد يصبح في نظر المريد هو الطريق والأمل ووعد الخلاص والفرح الأرفع فتصبح حياة المريد بالكلية متعلقة بتلك العلاقة كما لو أنها روحه ومرتكز وجوده. وفي هذه الحال، فإن المريد غالباً ما يخضع لإمتحانات القربة، كما يخضع لإمتحانات البعد حيث يتوقف غيث النعمة وتختفي الحضرة في لعبة القبض والبسط فيصيب المريد عندها ما يصيبه من آلام الفرقة والحنين والندم واستذكار المعاصي والغفلات.
في هذه الأبيات الجميلة يعرض جلال الدين الرومي لعدد من الأحوال والمشاعر التي تشرح ما يصيب المريد في مجاهداته، والتي تنسكب شعراً رقيقاً زاخراً بالعفوية والإخلاص والرمزية، وهي ميزات يكاد ينفرد بها شعره ومختلف الأعمال الشعرية التيٍ أصدرها في حياته.

1.
في حال الفرقة بعيداً عن غبار أعتابك
ها نحن دوماً في بكاء وارتجاف
مثل الشمعة التي تذوب في دموعها
ومثل العود الذي نصنع من شكواه أغان حزينة
2.
لن أفقد الأمل إن خطر لك أن تنساني
أو أن تتخذ من بعدي خليلا آخر
سأحتفظ بحزني وبحنيني إليك ما حييت
هناك دوماً أمل كبير في غياب الأمل
3.
معشوقي لا يريد أن أتحدث عن الاتحاد
لقد حطم قلبي بقسوته
لكن ما أن انكسر القلب حتى وجدت نفسي على أعتابه
معشوقي يحب أن يجد قلب المحب كسيرا
4.
بفضل جمالك اختفى الشر من نفسي
لم يعد هناك ولو قترة من حزن أو تعب
فيض مجدك يملأ جنبات الكون
حتى يصبح الكل أميرا ولا يبقى أي درويش
5.
من أين جئت بالحزن؟ أليس السكّر رفيقك؟
أم أن السكّر أمامك لكنك لست مشتريا؟
أم أنك غافل عن كل هذا وتسأل نفسك؟
أم أنك تعلم لكنك لا تلقي بالا؟
6.
دفعت بقلبي إلى درب الأحزان
ومن أجلك أنت حللت قيود الفؤاد
واليوم حمل لي النسيم بعضا من عطرك
فأردت أن أشكره فأهديته هذا الفؤاد
7.
اليوم يوم سحاب ومطر
لا بد لذلك من اجتماع الأصدقاء
لأن الصديق يجلب السرور إلى الصديق
كما تفعل مرجة الزهور المتفتحة في الربيع
8.
وا أسفاه لكل هذا الطغيان في داخلي
يا نفس، أسمع آلاف الصيحات تأتي منك
لكن الرب يقول “انظر ما قدمت يداك”
بئس هذه الليلة ، إن أصل كل تعاسة هو في نفسي
9.
ذاك الذي لا يملك في هذا العالم نصف رغيف
ولا مأوى له إلا في كهف صغير
لا يسأل الناس شيئا ولا يسأله الناس عن شيء
قل له “هنيئا لك” لأنه أوتي حظا عظيما
10.
كل صنوف الخير والشر ظاهرها وباطنها
إنما يأتي بأمر الله قضاءه وقدره
كم بذَلت نفسي من الجهد، لتسمع هاتفا يقول
أن فوق عملك عملا آخر
11.
موسم السعد يوم يتحد المرء بالحبيب
عندما يموت الجسد تنبعث الحياة في مصباح القلب
لابتسامة البرق انهمرت دموع السحاب
وبدمع السحاب المنهمر ارتسمت البهجة على وجه البستان
12.
إن كنت بعيدا عن ظلال العاشقين
فإن الشمس ستصيبك فتقع مريضا
فأركض أمام العاشقين وخلفهم مثل الظل
لعلك تصبح في يوم قمرا أو شمسا متألقا بالنور
13.
لقد تأخرت بنا الخطى وسط هذا الخلق
ولم نجد من وفائهم لا عطرا ولا صباغا
فاحرص على أن تكون مخفيا عن أعين الخلق
كما الماء في الحديد أو كما النار في الحجر
14.
قلت لي: تعال إلى النعيم وهذا الربيع الضاحك
فهناك الأنوار والخمر والحور العين
لكن إن لم تكن أنت هناك فأي قيمة للمكان
وإن كنت هناك فما حاجتنا بكل تلك الأشياء
15.
في الربيع وقع الفراق بيني وبين من أحب
فأي معنى الآن لكل تلك البهجة وهذا العيد
كأن الحديقة بدل الخضرة امتلأت أرضها بالشوك
وكأن السحاب بدل الماء بات يمطر أحجارا
16.
في الاتحاد وجهه الجميل زهرتي الباسمة
في الفراق صورته هي معدن قلبي ويقيني
ها أنا وقلبي في نزاع دائم بسببه:
كل منا يقول هذا المحبوب محبوبي
17.
قلبي أصابه الحزن والسقم بسبب افتراقنا
وبسبب هذا الحزن عيني تسكبان دمعا من الدم
ألمي شديد مثل آلام النزع ومفارقة الروح للجسد
لكن كم كنت سأحزن لو لم يصيبني كل هذا الحزن
18.
أيها الصديق، أصبحنا بالصداقة قريبين منك
حيث تضع قدميك نكون نحن التراب
لكن كيف يجوز في طريق هذا الحب
أن نرى العالم بك ولا نراك
19.
أيها الباحث عن طريق للفرار منه
وفي اعتقادك أنك تسير نحو الهدف
إن الملِك هو الذي يجذبك إليه
ملِك ملوك الدراويش في مقدوره أن يجذب إليه الجبال

أين نحن من ثورة الطاقة المتجددة

أين نحن من ثورة الطاقة المتجددة؟

العالم على طريق التحوّل إلى الطاقة البديلة
ولبنان ما زال منشغلاً بالمولدات والتقنين

تطوير تقنيات إنتاج الطاقة من الهواء أو الشمس
يجعل إدخال المصادر المتجددة خياراً اقتصادياً

تبدأ “الضحى” مع هذا العدد سلسلة من المواضيع والبحوث تتناول التطورات العلمية والصناعية في مجال الطاقة المتجدّدة واستخداماتها والاتجاه المتزايد لاستخدام تلك المصادر في توليد الطاقة في بلدان العالم بدلاً من المصادر الملوثة مثل الفحم الحجري والنفط والغاز. وستركّز هذه المقالات بصورة خاصة على الإمكانات العملية لاستغلال مصادر الطاقة البديلة في لبنان سواء على مستوى الدولة أم البلديات أم الشركات والصناعات، أم الأفراد.
إن أهمية هذه السلسلة هي أنها تكشف الإمكانات المتاحة لاستخدام مصادر الطاقة المتجدّدة في كل قرية وبيت، وشروط ذلك الاستخدام وفوائده الكبيرة بالنسبة لبلد مثل لبنان يعتمد بصورة كلية على استيراد مشتقات النفط المكلفة ويعاني بصورة مزمنة من مشكلة انقطاع التيار الكهربائي ونظام التقنين مع ما ينجم عنه من تعطيل لمصالح الناس وحياتهم اليومية.

تعتبر الطاقة النظيفة من أهم الطاقات التي تعتمدها  في هذه الأيام جميع الدول المتقدمة، وذلك نظراً لجدواها ونظافتها ولكونها طاقة غير منقطعة وغير ناضبة، كما هي حال النفط الذي يقدّر عمره الافتراضي في الكثير من الدول بعقود قليلة، فضلاً عن ذلك، فإن الطاقة المتجدّدة تعزز الاستقلالية الطاقية للبلد الذي يلجأ إليها بينما تبقى الدول المعتمدة على مصادر الطاقة الملوثة مثل النفط عرضة لتقلبات أسعاره أو لنقص الكميات في أوقات الأزمات.
نتيجة لذلك، فإن هناك اتجاهاً متزايداً لدى معظم الدول المتقدمة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ودول آسيا إلى زيادة الاعتماد على هذه الطاقة النظيفة كل سنة، وهناك العديد من الدول التي أعلنت خططاً لزيادة مساهمة الطاقة البديلة في إنتاجها الإجمالي من الطاقة، كما أن زيادة الاعتماد على الطاقة المتجدّدة وتوفير الحوافز الضريبية والاقتصادية لها باتت حجر الزاوية في سياسة الحكومات والأحزاب السياسية وتمّ تبنيها من الرأي العام.
في هذا السياق، يعتبر لبنان و خصوصاً المناطق الجبلية من المناطق الفريدة التي تزخر بالطاقة الهوائية والشمسية معاً، فتنوّع الفصول تنتج عنه ثروة لا تقدّر من الطاقة المتجددة، إذ تهبط الحرارة وتحدث المنخفضات الجوية في فصل الشتاء، الأمر الذي يؤدي إلى حركة رياح قوية كافية لإنتاج الطاقة الكهربائية مباشرة من التوربينات الهوائية. أما في فصل الصيف فعندما يزداد الحر تزداد معه أشعة الشمس فيزداد معه انتاج الكهرباء من الألواح الشمسية (الفوتوفولطية).  وقد أظهرت دراسة حديثة لأشعة الشمس على مدار السنة أن لبنان يتمتع بمعدل سنوي وسطي قدره 2000 ساعة من الشمس القوية  أي المشرقة بالكامل دون سحب  في السنة، الأمر الذي يعادل نحو 6 ساعات يومياً من الشمس القادرة على توليد فعّال للطاقة الكهربائية. في المقابل، فإن تبدّل الفصول وخصوصاً في فترات الخريف والشتاء ينتج عنه أكثر من ثلاثة أشهر على الأقل من طاقة هوائية تتراوح سرعتها ما بين 4 أمتار في الثانية و 12 متراً في الثانية،  علماً أن سرعة الرياح في بعض فترات الشتاء أو حتى خلال السنة  تتجاوز الـ 18 متراً في الثانية، وهذه الطاقة الهوائية قادرة على توليد الحد الأقصى من الطاقة التي يمكن أن تصله المراوح الهوائية. .
في هذه الصورة الطاقة المشية والهواء يزودان المنزل بالطاقة وفي الخلف مروحة تشغل مضخة المياه
في هذه الصورة الطاقة المشية والهواء يزودان المنزل بالطاقة وفي الخلف مروحة تشغل مضخة المياه

كيف تتولّد الطاقة الكهربائية
كما قلنا سابقاً، فإن الطاقة الشمسية في لبنان موجودة في أغلب أيام السنة، لذلك وعند وضع الألواح الفوتوفولطية تحت الشمس وفي الاتجاه الصحيح (نحو الجنوب)، فينتج عن ذلك طاقة كهربائية يتم نقلها عبر جهاز تحكم Controller إلى شاحن يقوم بشحن البطاريات التي تستخدم كخزان للطاقة. وهذه الطاقة يمكن استخدامها في المساء بعد غياب الشمس، وبالطبع يمكن لهذه البطاريات أن تخدم يوماً أو أياماً عدة، وذلك وفقاً لحجم الاستهلاك من جهة، ولحجم النظام المستخدم وقدرته على تعبئة البطاريات من جهة ثانية. وهناك طريقة أخرى لتوليد الطاقة لا تعتمد اطلاقاً على البطاريات وتستخدم في المصانع والمؤسسات التي تعمل في النهار فقط، حيث يتم التوليد مباشرة من الألواح الشمسية والتوربينات الهوائية من دون تخزين الطاقة في البطاريات وحتى من دون اللجوء الى شبكة الكهرباء العامة. وبالتأكيد عندما ينقطع تدفق الرياح أو تخف سرعتها في بعض أيام الصيف فإن الطاقة الشمسية تصبح هي المصدر الوحيد لتوليد الطاقة والعكس صحيح. ففي أيام الطقس العاصف تضعف أشعة الشمس وتتولى الطاقة الهوائية إنتاج الكهرباء، أما عندما يتوافر الاثنان معاً فتزداد القدرة، ويمكن الاستعانة بالشبكة العامة وربط الشبكتين مع بعض، وهكذا فإن الفاتورة الشهرية للكهرباء تنخفض تدريجياً. هذا في المصانع أما في المنازل فيجب إضافة البطاريات لتخزين الطاقة واستعمالها في فترة الليل.
الوضع اللبناني
إن مشاكل الكهرباء في لبنان كثيرة ومزمنة وهي مرشّحة للاستمرار فترة من الزمن، لذلك وبعد أن سئم المواطن انتظار الحلول فإنه اتجه لإنتاج الكهرباء والاعتماد على مصادره بالطاقة عن طريق شراء المولدات التي تعمل بالفيول، لكن وبسبب ارتفاع أسعار الوقود فقد أصبح بعض اللبنانيين يفكرون فعلاً بالطاقة النظيفة لأنها مجانية على المدى الطويل وغير ناضبة. وسنعرض في هذا النص مؤشرات عن تكلفة إنتاج هذه الطاقة البديلة . ولكن قبل ذلك يجب أن نطالب الدولة بأن تشجّع المواطن على تركيب الطاقة البديلة بل إلزامه باستخدامها عبر سن القوانين والإجراءات اللازمة مثل عدم إعطائه أي رخصة بناء لا يتضمن كجزء من التصميم توفير مصادر الطاقة النظيفة كتركيب نظام تسخين المياه على الطاقة الشمسية أو تركيب الألواح الفوتوفولطية، ولا ننسى أيضاً توربينات (مراوح) الهواء. إن هذا النوع من الإجراءات يؤدي إلى خفض الضغط على الشبكة العامة والذي يزداد سنة بعد سنة بسبب النمو السكاني واتساع رقعة العمران وحركة البناء، ونكون بذلك قد اقتربنا قليلاً من حال الدول المتقدمة التي بدأت تأخذ موضوع الطاقة البديلة بكل جدية بسبب الرغبة في خفض الاعتماد على النفط والغاز وفي الوقت نفسه حماية البيئة الأرضية من مخاطر التبدّل المناخي. وقد بدأت حرارة الكوكب الأرضي في الارتفاع بسبب الإفراط في استخدام الطاقة النفطية وزيادة نسبة الكربون في الغلاف الجوي. وربما لا تعني هذه المشكلة الكثير بالنسبة لبعض المجتمعات، لكنها تعني الكثير بالنسبة للمنظمات الدولية المهتمة بشؤون المناخ والطقس، خصوصاً مع ازدياد التلوث والدخان المشبّع بالكربون المتصاعد من مداخن المصانع والسيارات، والذي يؤدي إلى زيادة حرارة الأرض على المدى البعيد وبالتالي حدوث كوارث طبيعية مثل الفيضانات والأعاصير وذوبان المتجمدات.

 

 

كل كهرباء هذا البيت مستمدة من الطاقة الشمسية
كل كهرباء هذا البيت مستمدة من الطاقة الشمسية
renewable-tax-oregon
renewable-tax-oregon

تكلفة الطاقة المتجددة
لنقم بعملية حسابية لكلفة استهلاك الطاقة لمنزل عادي. ففي لبنان مثلاً قد يكلّف 5 أمبيراشتراك في مولّد نحو 80 دولاراً شهرياً، بالاضافة الى تكلفة فاتورة الكهرباء من الشبكة العامة حوالي 40 دولاراً شهرياً. هذا اذا اعتبرنا أن سعر برميل النفط ثابت ولن يتغيّر أو يتجه إلى المزيدٍ من الارتفاع في الفترة المقبلة. بذلك يكون الإنفاق السنوي على الطاقة الكهربائية للأسرة نحو 1440 دولاراً، وهذا مبلغ كبير حتى في ظل الأسعار المخفضة أو المدعومة للطاقة الكهربائية في لبنان.
بالمقارنة، فإن إدخال المولدات التي تعمل بقوة الهواء أو بأشعة وحرارة الشمس يمكن أن يؤدي للحصول على طاقة نظيفة ومستمرة مجاناً ومن دون الحاجة الى صيانة، باستثناء البطاريات التي تحتاج الى التبديل طبقاً لمواصفاتها من 3 الى 7 سنوات.
أما تكلفة تركيب نظام للطاقة البديلة فإنها تتراوح ما بين 7 و 10 آلاف دولار، وذلك حسب مواصفات ونوعية الأجهزة وكمية الطاقة المتوقع إنتاجها. وهذه التكلفة تدفع مرة واحدة في الانظمة المستقلة التي لا تحتاج الى بطاريات كالتي تستعمل في المصانع التي تعمل في النهار ولا تحتاج الى الكهرباء في الليل . هنا تكون كلفة الكهرباء على المدى البعيد محدودة مقارنة بتكلفة استهلاك نظام التوليد على مدى سنوات طويلة قد تزيد عن عشرين أو ثلاثين سنة. أما في الأنظمة العادية في المنازل التي تحتاج إلى البطاريات، فإن التكلفة تتضمن استهلاك النظام على مدى عقدين من الزمن، وكذلك استهلاك البطاريات على مدى ثلاث إلى خمس سنوات، وبعض البطاريات يمكن أن يعمل بكفاءة لمدة سبع سنوات لكنها أغلى ثمناً. نشير هنا إلى أن احتساب تكلفة الكيلواط من الطاقة الهوائية أو الشمسية ليس سهلاً لأنه يتوقف على ظروف المناخ والتشغيل السليم وتصميم النظام وغير ذلك من العوامل، لكن المؤكد هو أن هذه التكلفة أصبحت الآن وفي بعض الحالات أقل بالمقارنة مع تكلفة الطاقة التي يمكن الحصول عليها من المولد والشبكة العامة. ولا ننسى أن المستخدم لنظام الطاقة البديلة يحصل على الطاقة الكهربائية بلا انقطاع، كما أنه يساهم في حماية البيئة في لبنان.

 

مصادر الطاقة في العالم وتكلفتها المقارنة
مصادر الطاقة في العالم وتكلفتها المقارنة

المنزل الذكي
إن الاتجاه الحديث في هذه الأيام هو للتصميم الهندسي الذكي للبناء بحيث تتم دراسة المبنى من جميع نواحيه ومدى ملاءمته وصداقته للبيئة. ففي الدول المتقدمة، يعطي بعض الدول شهادات مصدقة من وزارة البيئة مع تخفيض 50% من رسوم البناء لكل منزل يتمتع، حسب تصميمه، بمواصفات الطاقة الخضراء. لكن متى يبدأ في لبنان تطبيق إجراءات مماثلة؟.بموجب مفهوم المنزل الذكي فإن الخطوة الأولى هي دراسة جميع النواحي الهندسية بحيث يكون المنزل دافئاً في الشتاء في بعض الغرف المجهزة لتنتج طاقة حرارية من الشمس – وهي قليلة وضعيفة في فصل الشتاء- بحيث تحتفظ هذه الغرف بالحرارة طوال فترة الليل، وبعدم تسريبها الى الخارج. وفي الصيف تجهّز غرف أخرى لا تواجه الشمس ويتم تبريدها من الطاقة الشمسية نفسها، بحيث أنه وكلما اشتد الحر في الخارج تقوم بعض أنابيب الغاز المزروعة في جدران الغرف المجهزة لذلك بتبريد المنزل وسوف نتطرق الى هذا الموضوع بالتفصيل لاحقاً في نصوص أخرى.
لذلك وعندما نصمم بيوتاً ذكية فإننا لا نحتاج إلى الكثير من الطاقة الكهربائية وتصبح كميات قليلة من الطاقة تكفينا في الصيف والشتاء معاً، فلذلك عندما نقوم بحساب حاجة المنزل من اللوازم الكهربائية نختار ما هو ملائم للبيئة وأكثر توفيراً للكهرباء معاً كما في الأمثلة التالية:
نختار لمبات تعمل بتقنية LED وهي أحدث التقنيات والأكثر توفيراً ًللطاقة.
نختار جهاز تلفزيون يعمل بالتقنية نفسها ويكون مصروفه 50 واط.
نختار الثلاجة والغسالة الصديقة للبيئة بحيث لا يتعدى مصروف كل واحدة الـ100 واط، وبالتالي إذا عملت كل تلك الأجهزة مع بعضها مع أجهزة أخرى كالكمبيوتر والتلفون النقّال والراديو وأجهزة أخرى فإن المصروف التراكمي اليومي لا يتعدى الـ 5000 واط. وهكذا فإن تركيب أربعة ألواح فوتوفولطية بقدرة 200 واتطلكل واحدة مع توصيلها بأربع بطاريات قدرتها 200 أمبير/ساعة يمكن أن يوفّر لنا مصروفنا اليومي بكل سهولة. ومع شروق الشمس في اليوم التالي تبدأ الخلايا الشمسية بإنتاج الكهرباء وستعطي الأولوية لشحن البطاريات، كما سيذهب قسم من الإنتاج لتزويد البيت بالتيار الكهربائي، وبعد انتهاء عملية الشحن يتحول إنتاج الكهرباء المباشر من الخلايا الشمسية نحو شبكة المنزل تعاونه البطاريات للمحافظة على قوة التيار في حال انخفاض أشعة الشمس، كما سيلعب هذا الاحتياط دوراً هاماً في تزويد هذا المنزل بالكهرباء أثناء الليل.

الجدوى الاقتصادية
نستطيع القول إن تركيب الأجهزة الكهربائية القليلة الاستهلاك للطاقة الكهربائية قد يوفّر على أصحاب المنازل حوالي 70% من قيمة الفاتورة الإجمالية، فما الفائدة مثلاً من تركيب لمبة كلاسيكية بقوة 100 واط في حين أننا نستطيع الحصول على كمية الاضاءة نفسها بتركيب لمبة بتقنية “الديود” بمصروف 3 أو 5 واط. لذلك نشجع على استخدام الأجهزة الكهربائية المنخفضة المصروف لما لها من جدوى اقتصادية عالية، كما نطلب من جميع البلديات اعطاء أهمية قصوى لهذا الموضوع وخصوصاً في المناطق الجبلية، وذلك عبر دراسة وبحث كيفية تمويل وتركيب كميات كبيرة من الألواح الشمسية في المناطق الشاسعة الجبلية، بحيث يتم إنتاج واحد ميغاواط في كل قرية، وهذه الطاقة قادرة أن تغذي أكثر من 600 منزل. وأيضاً نطالب بصيانة حسّاسات إضاءة لمبات الشوارع في جميع البلدات ليتم اطفاؤها أوتوماتيكياً عند بزوغ الفجر. ويجب أيضاً التفكير بتركيب لمبات تعمل بالطاقة الشمسية في الشوارع البعيدة عن الشبكة العامة كما في جميع الدول النامية لما لها من قيمة في توفير الكهرباء ولا تحتاج الى تمديدات جديدة في الشبكة العامة والتي تكَلف الدولة الكثير لتنفيذها.

تقليم الأشجار المثمرة

تقلـيــم الأشجــار المثمــرة
الخطــة، الأهــداف والأخــطاء الشائعــة

التقليم التكويني
يستهدف تكوين الفروع التاجية للشجرة في السنوات الأربع الأولى من عمرها

التقليم الثمري
يبدأ في السنة الخامسة ويستهدف حفز الإثمار والتأسيس للإنتاج الاقتصادي للشجرة

التقليم التجديدي
يطبّق على الأشجار الهرمة ويستهدف التشجيع على نمو جيل فتي من الأغصان التاجية

الشكل الكأسي للتقليم هو الطريقة الأكثر شيوعاً في دول البحر المتوسط

يعدّ التقليم من الأركان الأساسية لعمليات الخدمة الحقلية، لأن للتقليم تأثيراً مباشراً على نمو وتطور أشجار الفاكهة. ومن الضروري لكي يعطي التقليم النتائج المرجوة أن يقوم به المزارع بشكل دوري ومنظم حسب المبادئ أو القواعد العلمية المعمول بها بالنسبة لكل صنف، وكذلك مع مراعاة الخصائص البيولوجية وتطور عمر الأشجار ومدى تجاوبها مع عملية التقليم. و للتقليم دور بارز في توزيع الغذاء داخل الأشجار وتسهيل توزيع وامتصاص العصارة النباتية، ولهذا فإنه من الممكن من خلال عمليات التقليم التحكم بطبيعة نمو الأشجار لتوجيهها في المنحى الذي يخدم عملية الإنتاج ويحافظ في الوقت نفسه على قوة الشجرة وتوازنها.

على الرغم من وجود مبادئ عامة للتقليم فإن طريقة التقليم قد تختلف حسب أنواع الأشجار، كما أنها قد تختلف بالنسبة للشجرة نفسها وتتطور في موازاة خط نمو الشجرة وحالتها والمشكلات التي قد تعاني منها (مثلاً من جراء التقليم الخاطئ في سنوات سابقة). بمعنى آخر، فإن تقليم شجرة أو صنف معين يجب أن يتبع مبادئ معينة لكنه يجب في الوقت نفسه أن يكون تفاعلياً وأن يتلاءم مع التطور الطبيعي لكل شجرة مع انتباه خاص لمعادلة النمو الخضري والثمري.
أضف إلى ذلك أن عملية التقليم هي جزء من برنامج العناية الشاملة بالحقل أو بالغراس وهي لا يمكن أن تعطي مفعولها ما لم ترافقها الأعمال الحقلية الأخرى كالحرث والتسميد والري ومكافحة الآفات وغيرها.

مراحل التقليم
على الصعيد التطبيقي يختلف الهدف من عملية التقليم حسب المراحل التي تمر بها الشجرة، وسنتوقف هنا عند مرحلتين من التقليم: التقليم التكويني والتقليم الثمري. وسنقدم بعدها فكرة موجزة عمّا يمكن تسميته التقليم التجديدي، وهو خاص بالأشجار الهرمة أو التي قد يصيبها ضعف يؤثر على إنتاجيتها.

تعريفات سريعة
التقليم التكويني: يتم العمل به في مراحل التكون الأولي للغراس، ويكون الهدف منه المساعدة على تكوّن التاج الشجري في السنوات الثلاث الأولى من حياة الشجرة، ولهذا يسمى التقليم في هذه المرحلة “تكوينياً”. والمقصود بالتاج هنا هو الفروع الرئيسية المنبثقة من جذع الشجرة، والتي يجب أن تكون قوية ومتباعدة نسبياً عن بعضها وقادرة على حمل النموات الخضرية والثمرية وفي الوقت نفسه تأمين دخول الشمس التي تعتبر عاملاً أساسياً في أداء الشجرة المثمرة. ويجب بالطبع الأخذ في الاعتبار في جميع الحالات اختلاف الأصناف والظروف المناخية والبيئية المحيطة بالشجرة والتي قد تؤثر في نموها.

التقليم الثمري: من المفضّل إدخال الأشجار المثمرة في الإنتاج باكراً، أي بعد السنة الثالثة حسب الأصناف والأنواع. وفي هذا السياق، فإن التقليم الثمري يستهدف المساعدة في تنظيم الحمل بين الأغصان والفروع الأساسية والمساعدة أيضاً على تنظيم الحمل السنوي وتجديد نمو البراعم الثمرية، وذلك بالتخلص من الفروع القديمة الضعيفة وفي الوقت نفسه الحفاظ على التوازن المطلوب بين النمو الخضري وبين النمو الثمري.
أولاً: خطة التقليم التكويني
بناءً على ما سبق فإن على التقليم التكويني أن يتبع خطة معينة وفق مراحل نمو الشجرة، وهذه الخطة يمكن إيجازها كالتالي:

1.تقليم العام الأول
إن تكوين هيكل تاج الأشجار يبدأ في العام الأول، أي عام غرس النصوب بقص الجذع الطولي للغرسة بعد وضعها مباشرة في مكانها الدائم في الأرض، وذلك على ارتفاع ما بين 50 – 70 سم كمعدل وسطي.
يجب الإنتباه إلى أننا ننصح بتأسيس الشجرة على جذع قصير نسبياً، وهو شرط أساسي لتكوين التاج أو الفروع القوية في المرحلة الأولى للنمو. ولأن الأشجار التي تربى على ساقٍ أطول من ذلك تكون غالباً هزيلة وضعيفة وغير فعّالة اقتصادياً، لأنها تحتاج إلى أعمال وتجهيزات حقلية عديدة كمعدات التقليم والقطاف مثل السلالم، كما أن قرب الأشجار للأرض يجعلها أكثر نجاحاً وإنتاجية بالإضافة إلى نشرها الظل بصورة أفضل فوق التربة، وبالتالي الحفاظ على رطوبتها والتقليل من عملية التبخر، كما أن تقصير جذع الشجرة يحول الأغصان إلى “مظلة” تحمي الجذوع من وصول أشعة الشمس القوية مباشرة وهو ما يتسبب بجفافها وتشقق القشرة.
بعد قطع محور الغراس في السنة الأولى للغرس، وبفضل تقصير الجذع الوتدي، فإننا سنلاحظ في مطلع فصل الربيع ظهور براعم عديدة نشطة على الجذع سرعان ما ستتحول إلى فروع. وفي هذه الحال، فإن علينا انتخاب مجموعة من هذه البراعم- الفروع تحت منطقة القطع مباشرة على أن يكون عددها حوالي خمسة براعم قوية وجيدة. أما الهدف من ذلك فهو أن نختار من أصل هذه البراعم الخمسة، الثلاثة الأقوى في العام التالي. ويفضل في منتصف فصل الربيع نزع البراعم التي نمت في منطقة الساق تحت الفروع الخمسة المنتخبة من قاعدتها حتى لا تستطيع الإنبات من جديد ولا تزاحم بالتالي البراعم المنتخبة، والتي يتعين توجيه العصارة وقوة الشجرة كلها للتسريع في نموها.

2.تقليم العام الثاني
في العام الثاني يتم انتخاب ثلاثة أو أربعة فروع من المجموعة المتكونة من العام الأول، على أن يراعى توزيعها بشكل منتظم على الجذع بما يساهم مع الوقت في إعطاء الشجرة ما يسمى بالشكل “الكأسي”، وهو شكل الكأس الذي نحصل عليه من تطور الفروع الرئيسية باتجاه الخارج بصورة شبه دائرية مع الإبقاء على فراغ نسبي داخل الشجرة، وهذا الشكل يعتبر أفضل الأشكال الهندسية للتقليم في لبنان وبعض الدول المجاورة.
من المفضّل في تقليم العام الثاني أن يكون عدد الفروع المنتخبة ثلاثة فروع تتوزع على الجذع بشكل حلزوني، أي بحيث لا تكون مقابلة لبعضها البعض. وعلى هذه الفروع سنشهد في العام نفسه نمو براعم جانبية بحيث يكون داخل الأشجار فارغاً على شكل كأس. وتقلم هذه الفروع الثلاثة حسب قوة وطول النموات فإذا كان طول الفروع ما دون الـ 50 سم يزال نصفها مع الأخذ في الاعتبار أن يكون البرعم القيادي أي الذي يقع تحت القطع مباشرة متجهاً نحو الخارج ومتوازياً مع الفرع الرئيسي لهيكل الأشجار. أما إذا كانت الطرود أطول من 50 سم يفضّل أن يكون التقليم “تطويشي”، أي قطع الجزء الأعلى من الطرود الأساسية للأغصان (الملوك) بنسبة الثلث بحيث يترك ثلثا الطول الأصلي للغصن المتبقي.

3.تقليم العام الثالث
يكون التقليم الثالث متوسطاً للفروع المتكونة على الأغصان الثلاثة الأساسية المتكونة على الجذع في السنة الأولى مع مراعاة إدخال الغراس في الإنتاج. أما الفروع التي نمت من براعم العام السابق فيتم تقليمها على مسافات متباعدة نسبياً وإزالة الفروع المزاحمة والقريبة من الأغصان الأساسية وأيضاً الفروع التي تعيق عمليات الخدمة الحقلية من حرث وريّ وقطاف ومكافحة الآفات، مع الإنتباه على إبقاء الفروع والبراعم الصغيرة على الشجرة لأنها ستتحول إلى براعم زهرية (أي ثمرية) في العام المقبل.

تقليم-شجرة-في-عامها-الثالث---صورة
تقليم-شجرة-في-عامها-الثالث—صورة

ثانياًً: خطة التقليم الثمري
يعتبر التقليم الثمري العملية الأهم ابتداءً من السنة الرابعة من عمر الشجرة والهدف منه، بعد أن أنجز تكوين التاج والفروع الرئيسية، ضمان الاستمرارية في النمو وتنامي الإنتاج الثمري مع الحفاظ على عاملي الجودة والنوعية.

تقليم العام الرابع
يجري تقليم الفروع الهيكلية مع الإنتباه للفروع الصغيرة والبراعم الثمرية للشجرة، وعلى جميع الأغصان والفروع، يجب أن ترتب هذه البراعم على مسافات متساوية تقريباً. ومع ابتداء هذا العام الرابع من عمر الشجرة نكون قد بدأنا عملية التقليم الثمري وبدأنا تحضير الشجرة للبدء في الإنتاج. لكن كما أن تكوين الشجرة يتطلب طريقة معينة في التقليم، فإن مرحلة الإثمار تحتاج بدورها إلى طريقة مختلفة لأن الهدف الآن لم يعدّ تشجيع النمو وتكوين الفروع بل تنظيم مرحلة الإنتاج وجني ثمار التأسيس والعناية التي قمنا بها خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الشجرة.
من المهم التركيز في هذا المجال على أن القاعدة ابتداءً من العام الرابع من عمر الشجرة هي ترك النموات الطرفية دون تقليم للحد من النمو الخضري القوي وتشجيع نمو البراعم الزهرية، في هذا العام تبدأ الشجرة بالحمل التبشيري ويتزايد إنتاجها عاماً بعد عام، وهذا هو جوهر ما يعرف باسم التقليم الثمري أي التقليم بهدف تحفيز وتنمية الإثمار. بكلام آخر، فإن عملية التقليم ابتداء من السنة الرابعة تصبح سهلة وتهدف إلى إجراء تقليم خفيف لطرود النمو الخضري مع الحفاظ دائماً على الشكل. ويهدف هذا التقليم إلى تنظيم الحمل وتقوية خشب الفروع الثمرية وتشجيع الأشجار على تكوين براعم زهرية جديدة.
تجدر الإشارة إلى أن التقليم يؤثر تأثيراً هاماً على يقظة البراعم وزيادة الإنتاج. فالتقليم المتوسط لا يجهد الأشجار ويشجع على تكوين كمية كبيرة من البراعم الثمرية. أما التقليم القصير أو الجائر فيقلل من تكوين البراعم الثمرية ويقلص المساحة الورقية والحمل ويؤخره ويسبب بالتالي كثافة في الطرود التاجية. كما أن للتقليم القصير أضراراً عديدة أهمها: انخفاض الإنتاج، وإجهاد الأشجار والأرض لأنه يؤدي إلى امتصاص كمية كبيرة من الرطوبة المشبعة بالمواد الغذائية.
المهم في التقليم الثمري هو دائماً الإنتباه إلى قوة النمو ودرجة يقظة البراعم والقدرة على تكوين الطرود؛ مثلاً، في بعض أصناف التفاح التي تكون درجة يقظة البراعم ضعيفة، يؤدي عدم تقليم الشجرة إلى تعرية الفروع وانتقال البراعم الثمرية إلى قمة الفروع وعدم نمو البراعم الخضرية على الفروع. كما أن زوايا الفروع الحادة هي السبب الأساسي في تكسيرها. لهذا من المفضل تقليم طرود الأشجار خاصة في هذه الأصناف تقليماً متوسطاً إلى قصير مما يساعد على زيادة تفتح البراعم الخضرية لتكوين الفروع. أما الأصناف المتميزة بيقظة براعم جيدة وقدرتها العالية على تكوين الطرود والميل نحو كثافة التاج مثل بعض أصناف التفاح والدراق وبعض أصناف الخوخ فلا حاجة هنا إلى تقليم قصير للطرود.

التقليم ثلاثة أنواع:
التقليم المتوسط وهو الأعم والتقليم القصير ويطبّق على الأغصان الضعيفة والتقليم الطويل ويطبّق على الأغصان القوية والطرود الطويلة

تحتاج الأشجار بشكل عام إلى تقليم مستمر لتاج الأغصان بما يضمن استمرار النمو نحو الأعلى لكن ينبغي في هذه الحال تقصير الفرع الرئيسي والأقوى بين الفروع الموازي إلى الغصن الذي يحمله. أما الفروع المتبقية فيجب تفريدها وإزالة الأطول منها والمتجهة إلى الأعلى من قاعدتها لأنه إذا بقي في تلك الفروع براعم فإنها ستستمر في الربيع المقبل وتشكل فروعاً تزاحم على الغذاء وتتشابك مع بعضها البعض. أي أن هذه الأشجار تحتاج إلى تقليم طويل نسبياً لإستمرارها في النمو الحجمي، وإلى إزالة الفروع المتشابكة والمريضة والمتزاحمة وتفريغ الأشجار من الداخل لتأمين الضوء والتهوئة لكافة أجزاء النبتة. بالإضافة إلى الانتباه التام لناحية تقليم الطرود، يجب أن يكون البرعم النهائي متجهاً إلى الخارج لكي يبقى داخل الأشجار مفتوحاً.
يعتمد تقليم الأشجار البالغة على تنظيم الإثمار بين الأغصان والفروع المتقابلة، وعلى اليقظة التامة بشأن استمرار النمو الهيكلي للشجرة والمحافظة على شكل الأشجار عبر منع تزاحم الفروع والحفاظ كذلك على ارتفاع الشجرة بالمعدل المطلوب حسب الأصناف والأنواع. مثلاً أشجار التفاح من 1.5م أصناف مقزمة إلى 3.5 م أصناف معمرة، وأشجار الكرز من 3.5 م إلى 5 أمتار. وإذا كان طول الطرد التاجي حوالي 60 سم يجب إزالة حوالي الثلث منه أي 20 سم، وإذا كان طول الطرد أقل من 35 سم فيجب أن يكون التقليم قصيراً بحيث يزال ثلثا الطرد أي 22 سم لإعادة تشجيع الشجرة على النمو الجيد. كما أنه من المستحسن إزالة أكبر كمية ممكنة من التشكيلات والفروع الثمرية الهرمة لتنمو مكانها أو بالقرب من منطقة التحامها بالأغصان براعم وفروع ثمرية حديثة.

تقليم شجرة تفاح كبيرة - لاحظ كيف ساعد التقليم السابق تكاثر البراعم الثمرية
تقليم شجرة تفاح كبيرة – لاحظ كيف ساعد التقليم السابق تكاثر البراعم الثمرية

التقليم التجديدي
يستخدم التقليم التجديدي عند الضعف العام للأشجار، إذ يلجأ المزارع عندها إلى إزالة بعض الأغصان وتقصير بعضها الآخر، وذلك بهدف تكوين براعم حديثة وفروع جديدة قوية تتهيأ للإنتاج في العام التالي. ومن المعروف أن الفروع أو التشكيلات التي تحمل البراعم الثمرية تعطي أكبر كمية من إنتاج الشجرة بعمر ثلاث إلى خمس سنوات، وتقل تدريجياً نسبة الإنتاج كلما تقدمت التشكيلات الثمرية بالعمر.
أما رد فعل الشجرة الهرمة على التقليم التجديدي فيتصف عادة بإنتاج طرود وفروع جديدة وكثيفة العدد، وهذا يعود إلى قدرة وسلامة المجموع الجذري للأشجار التي تحوّل الغذاء من الأغصان المقطوعة إلى النموات الجديدة. وفي هذه الحال، يجب أن يراعى عدم تقليم الفروع الجديدة قبل عامها الثالث، وبعد مرور عامين على إنبات الفروع الجديدة. ويفضل في هذه الحال تفريدها، أي إزالة الفروع المتزاحمة والمريضة والتي نمت في داخل الأشجار حتى تكون منفرجة إلى الأعلى على الشكل المعتمد أي الكأسي، للسماح بدخول أكبر كمية من ضوء الشمس إلى داخل الأشجار، ثم يتم بعد ذلك انتخاب أفضل الفروع وأقواها المتواجدة على الأغصان الرئيسية والتي تأخذ الشكل الكأسي للتقليم والمستقيمة مع هيكل الأشجار، ثم تقصّر الفر وع المنتخبة بإزالة الربع الأعلى منها مع ترك عدد كبير نسبياً من الفروع والنموات الخضرية القصيرة التي تتحول بدورها إلى براعم ثمرية في العام التالي.

معدات التقليم ومواعيده
تستخدم في عمليات التقليم معدات كثيرة أهمها: المقص والمنشار والسلم. ومن المفضل أن تكون هذه الأدوات نظيفة وحادة حتى لا تساهم في تلوث ونقل الميكروبات إلى الأشجار وعدم تلف عدد كبير من الخلايا، كما يستحسن ارتداء الأحذية الطرية حتى لا تؤدي إلى الخدوش والأضرار للغراس الحديثة، وبالتالي إضعاف نموها، مع العلم أننا نحتاج إلى شجرة قوية لأننا قد نحتاج لتسلقها في المستقبل سواء لأعمال الصيانة أو القطاف. ويمكن استخدام المناشير اليدوية في إزالة الأغصان المتوسطة الحجم؛ أما المناشير الكهربائية، فتستخدم لتوفير الجهد والوقت اللازمين على الأشجار الهرمة والمسنة غير القادرة على تجديد نموها الخضري وإعطاء الإنتاج بشكل جيد، والتي تصبح معرّضة للإصابة بالأمراض والحشرات. تقطع الأغصان في منطقة تشكيلها أي في منطقة اتصال الفروع بالأغصان كما في أشجار الزيتون والمشمش والكرز والكستناء والجوز وغيرها من الأشجار المعمرة.
ومن الأفضل تنفيذ عملية التقليم في مرحلة السكون عند الأشجار المتساقطة الأوراق، أي في فصلي الشتاء والخريف حين تكون العصارة النباتية مشبعة بالمواد الغذائية الضرورية التي تغذي وتحث البراعم الخضرية والزهرية في الربيع المقبل على الظهور. هذه المواد توجد في الأغصان والفروع والجذوع والجذور. الدليل على أن الأشجار دخلت في مرحلة السكون هو تساقط الأوراق عنها ويفضل تقليم الأشجار الحساسة للصقيع في أواخر فصل الشتاء وأوائل فصل الربيع.

خلاصة
نستنتج إذاً، أن تقليم الأشجار المثمرة من أهم الأعمال الرئيسية الحقلية المنفذة في البساتين، بل يمكن القول إن التقليم هو التقنية الأكثر أهمية وتأثيراً مباشراً على الشجرة من الخدمات الحقلية الأخرى كالتسميد والحرث والري ومكافحة الأمراض والحشرات وجني المحصول، والسبب هو أن التقليم هو الذي يحدّد شكل وهيكل الأشجار، كما يحدّد مدى استمراريتها في النمو وزيادة إنتاجها الاقتصادي خاصة عند تقدمها في السن، كما يساهم أيضاً في تشجيع إنبات فروع ثمرية جديدة بعد قطع القديمة منها.
في جميع الأحوال يستحسن استشارة ذوي الخبرة في هذا التقليم وعدم الاجتهاد كما يحصل في كثير من الأحيان، لأن للتقليم قواعده ومبادئه العلمية المبنية على علم النباتات والأشجار وسلوكها الطبيعي، ولأن الغاية الأساسية من زراعة الأشجار المثمرة ليس إجراء التجارب بل الحصول على إنتاج يعطي مردوداً اقتصادياً مع إعطاء أهمية أقل لشكل الأشجار، خصوصاً الفتية منها، والتي ينبغي إدخالها في مرحلة الإثمار ومساعدتها على الاستمرار في توفير أفضل الإنتاجية طيلالعمر الاقتصادي للشجرة.

تنويه

سقط اسم الكاتب الاستاذ رائد زيدان سهواً عن موضوع زراعة الأصناف الجديدة من التفاح المنشور في العدد رقم 2 من الضحى. فاقتضى التنويه والاعتذار

كلمة سماحة شيخ العقل

بقلم سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

انطلقت «الضحى» بحرِّيــَّة مسؤولة في آفاق نهضويّة. ونحن نفهم دوافع النهضة من منطلق حرّية الحركة التي لا يقيِّدها إلاَّ ثوابت الفضيلة، والإخلاص لآداب القيَم الإنسانيّة السامية، والالتزام العاقل بالمصالح الحقيقيّة لشعبنا الوفي. إنّه من خلال تحمّل مسؤوليّة الخدمة، والتصدّي اليومي انكبابًا في البحث عن حلول صادقة وواقعيَّة للعديد من مشاكلنا المتراكمة، تترسّخُ قناعتنا بضرورة المضيّ قدُمًا في تعزيز مسيرة العمل المؤسّساتي وآليّاته المحكومة بالقانون، والمرهونة بشفافيّة نريدها بقوّة بأكثر ممّا يتخيّله المغرضون.

إنّه من السهولة بمكان أن نتربَّع في كنف العصبيّات والغرضيّات، مُطلقِين الكلام من دون قيد الموضوعيّة، ومتعمِّدين إثارة غبار الشكّ والالتباس، من دون أن نخطو خطوة واحدة في سياق التآلف والقاسم المشترك. أمثال هؤلاء يضيرهم نجاح عقليّة المؤسّسة وتفعيل مسارها الديموقراطي الفالح. هؤلاء ينتمون إلى الجانب العقيم من الماضي. يؤلمنا أن يُفهم تمسّكنا بخطاب الدعوة إلى التوحّد والمشاركة وقبول الآخر وكأنه متولِّد عن الضعف. لا، على الإطلاق، إذ أنّ حرصنا على نبذ عوامل التفرقة يحصّننا ويحول بيننا وبين الانزلاق في متاهة المناكفة والجدل السلبي الذي يريد عن عمدٍ مزيدًا من الغرق في عنصريّة فئويّة تأباها الأخلاق التوحيديَّة الأصيلة. نحنُ تُشغلنا هموم البناء، لا من أجل أشخاصنا، بل من أجل مجتمعنا، إذ أننا كلنا إلى زوال، لا يبقى إلاّ ما نفع الناس بحقّ وصدق.

هذه هي «الضحى» في أفق الحرّية «المضاءة بالعقل»، المستنيرة بشعور أداءِ واجبٍ نهضويّ، من غير ادّعاء الاستئثار بالرأي، ومن غير قيود لعبة التحكّم الإعلامي الموجّه لخدمة مصالح أنانية، بل هي توجّه النداء إلى كلّ مُستشعرٍ بروح المشاركة، وإلى كلِّ غيور على المصلحة العامة، وإلى كلِّ مؤمن بأن «إضاءة شمعة أفضل من المكوث في العتمة وإطلاق اللعنة على دياجي الظلام». نحن نسمح لأنفسنا بأن نوجِّه، من موقع الخدمة والمسؤوليَّة، حفاظاً على ما يتطلّبه التوحيد من آداب، وما يليق بالمعرفة من دقَّةٍ موضوعيَّة، ومنهجيَّة صادقة، هذه المعايير التي نلتزمها تضعنا حتمًا في موقع المواجهة مع «السفسطة»، أي كلّ كلام يفتقد الأسُس المنطقيَّة، ويتوخّى تعميم الشكّ والالتباس، فقط لخدمة نوازع النّفس والطّبع.

هذه أحد تطلعاتنا التي نفهمُ من خلالها دور «مشيخة العقل» الذي لا بدّ له من أن يكون جامعًا وموحِّدًا. إنّ الهمَّ الفكري والثقافي والنهضويّ يلحّ علينا من أجل العمل على دعم ما من شأنه تعزيز مفاهيم المشاركة وتبادل الرأي وتلقّي المبادرات برحابة صدر، وذلك في كلِّ حقلٍ من حقول العمل الإنمائيّ القائم على فهمٍ عميق وموضوعيّ وموزون لمشاكل مجتمعنا المعروفيّ وقضاياه الملحَّة. إنّ فهمَنا للمسؤوليّة ولمتطلّبات الخدمة لا ينفصم عن إيماننا الراسخ بالقيَم السامية التي ميّزت أخلاق الموحِّدين وشيمهم عبر التاريخ، لذلك، فإننا نسعى مخلصين، والله من وراء القصد، للمضيّ قدُمًا في بناء مسيرة العمل الجاد والدؤوب الذي يعود بنفعه على مجتمعنا ووطننا، مخلّفين وراءنا، بمعونته، كل نوازع النفس إلى المنافرة والشقاق. لقد تعلمنا من مشايخنا الحكماء الأجلاء الحكمة القائلة: إنّ التآلف باب إلى الخير، والخلاف منحدر خطر نحو الخيبة والخراب.

العدد 3