الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, أيار 6, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حكايات الامثال

احمد معهن يا بعدي

باقي بالساقي

بتحصد هوا وغمر ماش

يا للي أجره عفارم بياكل ببلاش

يا منقطع رأس العروس

حكايات الأمثال

قصص الأمثال

حكايات الأغبياء

يتركّز الكثير من الحكايات الشعبية على قصص الأغبياء، لأن الغباء فيه مما يثير الشفقة وما يثير الضحك في آن معاً ، كما إن فيه قدراً لا بأس به من التعليم غير المباشر لأن كل فرد مهما كان حصيفاً يقع أحياناً في مقالب يلوم نفسه بسببها بل إن فينا من يتهم نفسه بالغباء إذا وقع في شراك رجل ماكر أو أخذ على حين غرة في تجارة أو أي أمر من الأمور. بالطبع معظم قصص الأغبياء فيها شيء من المبالغة قد يبلغ حد اللامعقول أحياناً، وهذه المبالغة سمة أساسية في ثقافة الفكاهة لأن وظيفة النكتة هي أن تضخم العيب حتى يبدو للناس بصورة تجعلهم يضحكون منه وتجعل من قد يصاب بالعيب خجلاً وحريصاً على اجتناب ما كان سبباً للسخرية.
وهناك هدف إيجابي من التهكم على المغفلين هو ربما أن نسرّ بعقلنا ونحمد الله أننا لسنا في صف أولئك الذين حرموا من الإدراك والفطنة، هذا مع العلم أن هناك حديثاً شريفاً جاء فيه «أكثر أهل الجنة البُلُه» (أي المجاذيب) والمقصود بهم الذين لا يفقهون شيئاً من أمور الدنيا لكنهم أعطوا قلباً سليماً ليس فيه ذرة من الشرّ.
(الضحى)

يا منقطع راس العروس يا منكسر رجلين الفرس

يضرب هذا المثل في معرض الإشارة إلى قلّة الحيلة، كأن تعترض أحدهم مشكلة بسيطة، فيبادر إلى حلها بطريقة معقدة وتنم عن قصور الفطنة. والمثل معروف في أنحاء جبل العرب مع أن حكايته ليست واقعية لكنها طريفة في ما تدل عليه.
والحكاية هي أن العروس في الجبل كانت ُتزف إلى بيت زوجها على فرس، سواء أكان بيت العريس في القرية نفسها، أو في قرية أخرى، وذلك لعدم أهلية الطرق من جهة، ولعدم وجود السيارة من جهة أخرى وكجزء من مراسم الزفاف.
وزعموا أن إحدى العرائس زفت إلى بيت عريسها، وحين وصل المحتفون إلى باب دار العريس، توقفت الفرس لأن بوابة دار العريس لم تكن بارتفاع يكفي لمرور الفرس والعروس على ظهرها، فما العمل؟ .
اجتمع أهل الرأي والمشورة وأخذ كل واحد يدلي بدلوه، قال أحدهم:
ما إلنا غير نقطع راس العروس، حتى تقدر تمر من تحت البوابة .
فردّ عليه آخر مستهجناً :
شو هالحكي الأحمق؟ أنا عندي حل ثاني .
سألوه عن الحل قال :
ليش ما منكسر رجلين الفرس ؟
أقبل رجل عاقل وقال لهم:
ـ يعني يا منقطع راس العروس، يا منكسر جرين الفرس؟! . طيب ليش ما بتوطي هالعروس راسها وبتمر؟! .
فذهبت عبارته مثلاً في التعبير عن الغباء وقلّة الحيلة.

«باقي» بالساقي

كانت هناك امرأة في غاية السذاجة إسمها «باقي» ذهبت إلى الساقية (الساقي) وحملت معها مواعين الطبخ والغسيل، حتى تغسل وتطبخ جنب المياه، فيظل بيتها مرتباً ونظيفاً ، ولما وصلت على الساقية خاطبت نفسها قائلة :
لم لا أنام قليلاً، وبالفعل إتكأت على جذع شجرة ودخلت في نوم عميق
جاء زوجها يتفقدها في البيت فقيل له:
باقي بالساقي .
توجّه إلى الساقية فوجد زوجته تغط في نوم عميق ووجد ما جلبته من طعام ولحوم وقد خطفته الكلاب الجائعة ولم يبق منه شيء. أخذ من جيبه مقصاً فجز شعرها وعاد إلى البيت والمرأة تغط في نومها السعيد.
أفاقت بعد حين لتجد الطعام وقد ذهب ومواعين الفخار محطمة لكن هالها أن وجدت شعرها أقصر بكثير من المعتاد.
قالت لنفسها:أنا لست «باقي» لأن باقي لها شعر طويل !! وقررت العودة إلى البيت لتسأل عن باقي وعزمت أنه إذا قيل لها «باقي بالساقي» فتكون هي باقي بالفعل :
رجعت إلى المنزل وسألت زوجها : أين باقي ؟
أجابها: باقي بالساقي.
سرّت الزوجة بأنها هي فعلاً باقي، لكنها تذكرت أن «باقي بالساقي» حسبما أخبرها زوجها، فوجهت وجهها نحو الساقية لتعود وتجد «باقي». ذهل الزوج من «غشمنتها» وقال لها: سأذهب وأجول في البلاد ولن أعود إلى هذا البيت إلا إذا رأيت من هو أغشم منك!
وبالفعل إنطلق الرجل في طريقه وسار لساعات طويلة حتى إذا انتصف النهار .
رأى نسوة يصرخن ويولولن . سألهن: خير ان شالله ؟ ما هي قصتكن ؟
قلن إنهن اشترين أحذية لأولادهن، لكن الأولاد ركضوا فاختلطت أرجلهم ولم نعد نعرف كيف نستهدي على رجلي كل واحد من الأولاد لكي نعطيه حذاءه!
أخذ الرجل عصا فضرب على أرجل الأولاد ففروا جميعاً وعاد كل ولد إلى أمه وحلّت المعضلة وتعرفت كل امرأة على ولدها وأعطي كل منهم الحذاء العائد له.
مضى الرجل في سبيله فوجد نسوة على مقبرة يبكين على ميت
سألهن: ماذا يجري وما الذي يبكيكن
فأخبرنه أنهن يبكين ميتهن.
قال لهن: إنني قادم للتو من عند ميتكم ولكم أن توصوني إذا كانت لكم حاجة عنده.
تقدمت امرأة كانت ابنتها قد توفيت وهي بعد عروس فقالت له:
أريد أن أرسل معك مصاغ ذهب ابنتي إليها.
ثم ذهبت وعادت بعد قليل وقد حملت مصاغ ابنتها وقالت له :
ـ رجاء، أن تسلمها هذا من يدك ليدها وانتبه أن لا يضيع في الطريق.
حمل الرجل المصاغ الثمين ومشى في طريقه.
رجعت المرأة إلى البيت وأخبرت زوجها بما حصل
ضحك الرجل حتى كاد أن يقع على ظهره من جهلها وقال:
أتصدقين أن رسولاً يأتي من عند الموتى؟
قرر الرجل أن يلحق بالرسول المزعوم فركب فرسه وانطلق حتى أدركه لكنه لم يعرفه فسأله:
بالله عليك هل رأيت رجلاً مرّ من هنا قبل قليل؟
أجابه: نعم رأيت رجلاً مرّ من هنا لكنك لن تلحق به على هذه الفرس.
سأله زوج المرأة الغشيمة: «لم ذلك؟»
قال له: أنت ممتط فرساً والفرس تمشي على أربع أرجل لكنها تضع رجلاً على الأرض ثم ترفع الأخرى لتضعها ولأن لها أربع أرجل فإنها تأخذ وقتاً طويلاً، في غضون ذلك يكون الرجل ضالتك قد ابتعد كثيراً ولن تدركه لأنه يسير على قدمين! ثم نصحه أنه من الأفضل له أن يترك الفرس معه وينطلق على قدميه.
اقتنع الرجل وسلم الرجل الفرس وطلب منه الاهتمام بها إلى أن يعود من مهمته.
عندها فكر الرجل زوج «باقي» لنفسه وقال هذه الدنيا مليئة بالحمقى والأغبياء وكثير منهم أغبى بكثير من باقي. رجع إلى المنزل وسلّم على زوجته وقال لها:
يا امرأة يبدو أن نصيبنا هو أن نعيش سوياً طول العمر، فحضري لنا العشاء.

جاءك من يعرفك يا بلوط !!

مثل يضرب للدلالة على الرجل المدعي، يتفاخر في مكان لا يعرفه فيه أحد، فإذا حضر من يعرفه، وكشفت ادعاءاته قال الناس له: «جاءك من يعرفك يا بلوط » . وأخذوا يستعيرون العبارة فيخاطبون بها اللاعب الذي يهزم العديد من اللاعبين في لعب الورق او الشطرنج ونحوهما، فإذا حضر لاعب جديد وتمكن من هزيمة اللاعب المتفوق خوطب بهذا المثل أيضاً.
وأصل العبارة كما يروي سلام الراسي عن المطران بولس الخوري في كتابه النفيس « أمثال وأقوال مأثورة » أن رجلاً من بر الشام أي سوريا كما يسميها المصريون ـ كان ماراً بأحد شوارع القاهرة حيث التقى صديقاً مصرياً، فعاتبه المصري بقوله:
«إنكم ترسلون إلينا من بر الشام مختلف أنواع الفاكهة، وهي جميعها ممتازة، ما عدا الكستناء الشامية التي بدأتم مؤخراً ترسلونها إلينا، وهي غير جيدة » .
فتعجب الرجل الشامي وقال:
ولكن الكستناء لا تنبت في «بر الشام» . فقال المصري:
إذاً تعال معي، لأريك أين تباع الكستناء الشامية.
ومشى الرجلان إلى حيث كان رجل يجر عربة عليها عرمة من البلوط، يشويه، ويبيعه، وهو ينادي « شامية يا كستناء » .
فصاح الشامي :
ـ ولكن هذا بلوط لا كستناء .
فنظر المصري إلى عرمة الكستناء المزعومة وقال:
ـ « جاءك من يعرفك يا بلوط » .
فجرى جوابه مثلاً 1.

أحصد هوا وغمّر ماش

سمعت حكاية هذا المثل من والدي في قرية خازمة، وكثيراً ما كان يروي لنا هذا المثل في معرض تعريضه بالموسم السيئ، و كان يرويه لنا ونحن نلتقط سنابل القمح الضعيفة في الحقل. ويضرب المثل خصوصاً للتعريض بالمواسم الرديئة جراء الإهمال وعدم دراية الفلاح بما هو مطلوب منه تجاه الأرض لكي تعطيه في المقابل. وربما ضربوه في تعبيرهم عن الجهد الضائع.
وحكاية المثل بحسب والدي هي أن رجلاً مرّ بصديقه، وإسمه «شلاش» وهو يحرث أرضه على زوجين من الحمير اللذين دب فيهما الهزال من قلة العلف. كانت الدابتان تكافحان لجر سكة المحراث التي كانت بالكاد تنزل في الأرض قيراطاً، فسخر الرجل من حرثه بهذه الطريقة ارض صديقه وتنبّأ له بموسم رديء . وقد ترجم توقعه بهذين البيتين من الشعر:
شـــــــــــــــــو هـــــــــــالفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاحـــــــــة يـــــــــــــــــــــــــــــا شـــــــــــــــلاش عــــــــــــــــودك زاحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــل أبيســـــــــــــــــــــــــــــــــــواش
بـــــــــــــــكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرى بتجـــــــــــــــي الحصيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدي أحصــــــــد هوا..وغمـــــــــــــــــــــــــــّر مـــــــــــــــــــــــــــاش2

أحمد معهن يا بعدي

هذا المثل معروف في أنحاء الجبل وقد ذكره الأستاذ سلامة عبيد في كتابة « أمثال وتعابير شعبية» برواية وضع لها عنوان:«أحمد معاهم » . وهي لا تتفق مع محكية الجبل . وقد اكتفى بذكر مجال استخدام المثل، دون التطرق إلى حكايته3.
والمثل يضرب في الرجل الذي يحضر في أمر فيكون وجوده مساوياً لعدم وجوده . وأنقله من الذاكرة، ومفاده أن امرأة أرملة قد انقطعت لولد وحيد اسمه أحمد، ونشأ أحمد في كنف أمه الأرملة لا يستطيع تحمل مسؤولية، ولا يسعى إلى مبادرة .
وحدث أن أغار قوم على القرية فأخذوا الحلال والمال، فتنادى رجال القرية لاسترجاع حلالهم، فهرع أحمد تلبية للنداء من دون أن يدري ما الحكاية، وحين بدأ القتال وحمي وطيسه انهارت قواه من الخوف وأغمي عليه، وحمله الرجال في ما حملوا حين عادوا بأرزاق القرية .
فصارت النسوة يزغردن ويفتخرن بشجاعة الرجال الذين استطاعوا أن يستردوا حلال القرية، وصارت أم أحمد تقول: «يقبرني، أحمد معهن يا بعدي» مفتخرة بابنها ظانة أنه قد ساهم في إعادة الحلال، ولم تدرِ أنه كان مغمياً عليه لشدة خوفه4. .

الذي أجرُهُ «عفارم» بياكل بلاش

يضرب هذا المثل لبيان حق العامل الذي يعمل مقابل أن يتناول طعامه بلا مقابل . وكثيراً ما كنا نسمع حكاية هذا المثل في «الفزعات» والفزعة (أو «العونة») هي أن يذهب شباب القرية لمعونة أحد أهالي القرية على الحصاد أو أعمال البيدر أو رفع الربد، وبعد الانتهاء من العمل يقدم صاحب العمل الطعام لمعاونيه ممازحاً إياهم بالقول : «الذي أجره «عفارم» بياكل بلاش».
وحكاية هذا المثل أن رجلاً فقيراً كان يعيل أسرة كبيرة ويعمل جاهداً ليقيم أودها. ضاقت به الأحوال، فقرر أن يسافر في بلاد الله الواسعة عسى أن يفتح الله عليه، فودع أهله وقال: «سبحان من فتح الطريق»  وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة، حتى وصل إلى إحدى المدن، فرأى مجموعة من العمال ينقلون الحجارة، بينما رب العمل يقف في مكان عال ويراقبهم.  فتقدم نحوه، وسأله أن يعمل عنده، فرحّب به رب العمل، وانخرط بين العمال، يعمل بجد ونشاط. .
بذل جهداً كبيراً في العمل، في حين كان رفاقه العمال يتباطأون في عملهم، ما استرعى انتباه رب العمل الذي أبدى سروره وارتياحه من نخوة الرجل .
عند انتهاء العمل اصطف العمال لياخذوا أجرهم، فكان كل عامل يتقدم من  رب العمل، فيثني على جهوده قائلاً: «عفارم» (بمعنى : «أحسنت عملاً») فيمضي العامل في سبيله، حتى جاء دور صاحبنا، وحين تقدم من رب العمل أثنى عليه بقوله: «عفارم … عفارم … عفارم» . ففرح وظن أن أجره سيكون مضاعفاً، لكنه فوجئ حينما قال له رفاقه العمال إن أجرهم «عفارم» فقط .
على الفور توجه صاحبنا إلى السوق، وانتقى أفخم مطعم، وطلب طعاماً كثيراً، وأكل ما شاء له أن يأكل، ثم طلب من أصناف الحلوى والمشروبات حتى اكتفى . عند ذلك نهض وحمد ربه وتقدم من صاحب المطعم قائلاً: «عفارم، عفارم، عفارم» .
فاستغرب صاحب المطعم وقال له :
عفارم فهمناها، لكن أين ثمن الطعام ؟!  .
أجابه  دون تردد:
إن لم يعجبك الأمر تعال معي وليحكم بيننا القاضي!!
توجها إلى القاضي، وسرد كل منهما قصته، فقال لهما القاضي:

اللي أجره «عفارم» بياكل بلاش .

هيك عريضة بدها هيك ختم

هذا المثل يضرب لشيئين تشابها في الرداءة، أو لفعل قبيح رداً على فعل قبيح آخر، وهو يشبه المثل القائل «هيك خطاب بدو هيك جواب» لمن يسأل سؤالاً تافهاً فيردّ عليه بجواب أتفه .
وحكاية المثل هي أن رجلاً كتب عريضة يطلب فيها أن يمتنع الناس في القرية عن شراء حاجاتهم من الشام، انتقاماً من أهل الشام الذين لا يحترمون الفلاحين. وذهب إلى مختار القرية ليختم العريضة. قرأ المختار العريضة وفكّر قليلاً ثم ما كان منه إلا أن خلع حذاءه وضرب على العريضة بكعب الحذاء. بُهت صاحب العريضة وقال للمختار: لقد جئت لأختم هذه العريضة بختمك فلم فعلت هذا؟ إنه عمل غير لائق منك!
أجابه المختار: لا تؤاخذني يا صديقي لكن هيك عريضة بدها هيك ختم !!

الأمير شكيب ارسلان

لله أيامُ تُذكر ولا تعاد، فذكرها عند الأجداد ارتعاش في الأبدا، وغمّ وحزن في ذاكرة الأبناء والأحفاد.
أيامٌ سوداء من تاريخ لبنان نستعيد ذكرها لما تحمله من عبر وتاريخ مجيد، تاريخ الكفاح من أجل الحرية والكرامة والتضامن والمحبة في ما بيننا. أما الحكاية التي نحن في صددها هنا فقد جرت وقائعها كالتالي:
مطلع القرن العشرين، وخلال الحرب العالمية الأولى، مرّت على لبنان أيامٌ لا تُمحى من الذاكرة، لقد كانت أيام الجوع والجراد والتشريد والتنكيل والبؤس والشقاء، لكن أسوأ ما نكب به اللبنانيون في تلك الأيام كان التجنيد الإجباري، وهو ما كان يُعرف عند العامة وباللغة التركية بـ «سفر برلك». كانت الدولة العثمانية تخوض عدة حروب على أكثر من جبهة وتتراجع، وكانت في حاجة ماسة بالتالي إلى تعبئة الجنود من ولاياتها ، فصدرت أوامر من الباب العالي بأن على جميع الذين تتراوح أعمارهم ما بين ستة عشر عاماً وستين عاماً أن يلبوا نداء حمل السلاح والإلتحاق بالخدمة العسكرية، ولم تسمح الأوامر بإعفاء أحد حتى ولو كان الرجل وحيد أهله.
من هؤلاء الذين تمّ تجنيدهم من أرسل إلى جبهة البلقان، ومنهم من أرسل إلى جبهة الأناضول والحدود الإيرانية التركية ومنهم من أرسل إلى جبهة ترعة السويس، وتوزّع الباقون على الجبهات والمواقع العسكرية التي تحمي حدود السلطنة. وبسبب تقهقر أوضاع الجيش التركي ومهاراته وتسليحه بالمقارنة مع مهارة وتسليح الدول الأوروبية وروسيا وغيرها فقد اعتبر من جندوا وارسلوا في تلك الفترة كثيرون لكن الذين كانوا يعودون كانوا قلّة وكان الجبل خصوصاً ساحة أحزان وثكالى وأرامل.
عمّ الهلع والخوف الجميع، وتفرّق الناس أيدي سبأ كما يقال، واتجه قسم كبير من الرجال نحو جبل الدروز كونه كان معفى من الخدمة العسكرية بعد حروب الكرامة والدفاع عن الحرية بينه وبين السلطات وسواها. أما من كان معه سبع ليرات ذهبية، فقد دفعها ثمن تذكرة للسفر عبر البحار السبعة، كما كانوا يقولون، إلى ديار الإغتراب متحملاً السفر بحراً وعبر بواخر تعجّ عنابرها بالجرذان والفئران.
أما البقية الباقية من الناس الضعفاء الذين لا حول ولا قوة لهم، فبقوا في قراهم، مسكنهم البراري نهاراً، ومأواهم الكهوف والأكواخ البعيدة عن أماكن السكن ليلاً.
كان من مصائب تلك الفترة أيضاً كثرة المخبرين والجواسيس الذين بثتهم السلطات من أجل جمع المعلومات عن الأشخاص القابلين للتجنيد وكان من بينهم بعض مخاتير القرى ورجال الجندرمة والمخافر، وقد وجد هؤلاء في نكبة التجنيد فرصة لإبتزاز الناس المشمولين بالأوامر وقد تمكنوا من جمع أموال كثيرة وجمعوا الأراضي أيضاً من جرّاء دورهم التعس في استغلال ظروف التجنيد والخوف في قلوب الناس. وكان هناك بصورة خاصة رئيس مخفر في بلدة حاصبيا، شركسي غريب الأطوار، جشع وفاسد متكالب على المال وكان يُدعى أبو هاشم. وقد اتفق هذا مع بعض المخاتير والمخبرين ممن هم على شاكلته من حيث الطمع والسفالة، فكانوا يأخذون ليرتي ذهب عن كل فرد يغضّون الطرف عنه كي لا يُساق إلى الجندية، ثم يتقاسمون المبلغ، ليرة للمختار، وأخرى لرجال الأمن، لكنهم غالباً ما كانوا يوقعون بالضحية أكثر من مرة ويطلبون الذهب ثانية مما أوقع كثيرين في الإفلاس والبؤس وشجع أكثر على الهجرة والفرار إلى أرض الله الواسعة.
بلغ السيل الزُبى عندما طلبت السلطات من أربعة عشر من المشايخ المقيمين في خلوات البياضة الإلتحاق بالخدمة العسكرية الإجبارية.
هنا ثارت حمية المشايخ والأعيان وأبناء المنطقة فكانت مبادرة من الشيخ أبو اسماعيل خير الدين الذي ترك أعماله وتجارته وانتقل إلى دمشق الشام للسّعي لدى الوالي التركي كي يعفيهم من الخدمة.
لدى وصوله، علم بوجود الأمير شكيب أرسلان هنالك، فأسرع لمقابلته في مكان وجوده، غير أنه لم يتمكّن من مقابلته في اليوم الأول بعد أن أخبره معاونه، نسيب بك الأطرش، بأن الأمير ذهب للغداء عند آل العظم، ولن يعود هذا اليوم.
في اليوم التالي، وعند محاولته مقابلة الأمير من جديد، أجابه معاونه أن الأمير يعتذر عن استقبال الزائرين لضيق الوقت عنده.
صعد الدم إلى وجه الشيخ أبو اسماعيل بعد سماعه الإعتذار، وصرخ في وجه مستقبله: «إنني آتٍ من وادي التيم من بلدة حاصبيا، ومن قبل مشايخ البياضة لأمر ضروري ومصيري يتعلق بهم ولا بدّ من أن أقابل الأمير شكيب. أفليس من حقنا قرع بابه والإستغاثة به؟
طرق الصوت والصياح مسامع الأمير، فهبّ من مكتبه مستطلعاً الخبر، وإذ به أمام شيخ متجهّم الوجه، غاضب النظرة، بحالةٍ لا توصف من الإنفعال وضيق الصدر.
طيّب خاطره، ثم وجّه اللوم إلى مرافقه لتصرفه على تلك الطريقة من دون علمه، ورحّب برسول المشايخ ودعاه للدخول وسأله عن حاجته مؤكداً أنه ي «أطلب ما تريد ونحن آذانٌ صاغية»
دخل الشيخ، وجلس بوقارٍ واحتشام، ثم تكلم برصانة قائلاً: «عطوفة الأمير، عاش السلطان، وعاشت الدولة العليّة. نحن عبيدها وجنودها، لكن لكل أمر حدّه. فهل يرضيكم أن يساق أئمة الدين في خلوات البياضة إلى الجبهات ويسلخوا سلخاً عن خلواتهم وعباداتهم ليحملوا السلاح والعتاد والذخيرة ويقاتلوا في بلادٍ وأصقاع لا يعرفونها».
إنفرجت أسارير الأمير الذي طمأن الشيخ خير الدين بأنه لن يُساق أي شيخ إلى الجبهات مؤكداً له بأنه سيبقى في دمشق حتى يتأكد من تحقيق طلبهم. وأضاف الأمير شكيب بأنه سيذكر المسؤولين بأن الأديرة المسيحية والمدارس الدينية الإسلامية وقاطنيها يطبق عليها مبدأ الإعفاء من الخدمة العسكرية، وبالتالي يجب تطبيق المبدأ نفسه على خلوات البياضة لأنها أوسع من دير، وأكبر بكثير من مدرسة دينية، بل هي مع قاطنيها جامعة روحية لها حرمتها».
وهكذا، عاد الشيخ أبو اسماعيل من دمشق مسرور الخاطر، منفرج الأسارير، وقصد فور عودته البياضة وأخبر مشايخها بما حدث معه، وبما تكفّل به الأمير شكيب وقد كان لهم ما أرادوا وما هم أهل له. .

أيام غرّاء من حياة أمير البيان شكيب أرسلان

الأمير شكيب أرسلان
الأمير شكيب أرسلان

• وُلد في بيروت عام 1870، نجل الأمير محمود أرسلان، ويتسلسل نسبه إلى 31 جدّاً في لبنان.
• درس في مدرسة الحكمة على يد العلامة الشيخ عبدالله البستان، وما بين العامين 1890 و 1892 على يد الشيخ محمد عبده بعد نفيه إلى بيروت.
• اتصل بالمصلح والفيلسوف جمال الدين الأفغاني، وكان مع رأيه بأن لا يحكم العرب إلا حاكمٌ مستبد وعادل في تلك الأيام.
• اشترك في الحرب العالمية الأولى، وزار طرابلس الغرب مجاهداً ضد الاستعمار الإيطالي.
• اشترك في المؤتمر السوري الفلسطيني لمعاضدة القضية الفلسطينية.
• انتُخب رئيساً لنادي الشرق في برلين عام 1925.
• ذهب إلى أميركا واشترك في المؤتمر الدولي 1928.
• أدّى فريضة الحج عام 1929.
• عام 1933، وفّق في إقناع الدولة المستعمرة الإيطالية بعودة نحو 80 ألف ليبي إلى مدينة برقة وطرابلس مع إعادة أراضيهم وأملاكهم لهم.
• انتُخب رئيساً للمجمّع العلمي العربي في دمشق.
• قضى سنوات الحرب العالمية في سويسرا.
• عاد إلى لبنان عام 1949، ومكث 40 يوماً بعد اغترابه الطويل حيث وافاه الأجل رحمه الله.
هذا صوت الأمير يخاطب روح شوقي بعد وفاته قائلاً:
« لو نسيَ عهدك الأولون والآخرون، لما خفرت لك عهداً، ولا مزّقت لك ودّاً، وإنك في الغيب عندي لكما في المشهد، وأنت تعلم أنها صداقة أربعين سنة، تساقينا كؤوسها صفواً من دون قذى، وتبادلنا رياحينها عفواً من دون أذى.
فإن أظمأ عهدك النسيان، فلي مدامع ترويه، وإن شطّت بشعرك النوى، فإن الدهر كلّه يرويه. وإنه وإن بكاك الناس حبّاً بالأدب، ورحمة للسان العرب، فإنني لأبكيك بصفتين: صفة الأديب البر بلغته، الغيور على صناعته، وصفة الأخ الضنين بأخوته، الحريص على مروءته. فأنا في مقدمة من لك من الأخوان والأتراب الذين يبكون فضلك، ويذكرون عهدك إلى أن يواروا التراب».
(من كتابه «شوقي أو صداقة أربعين سنة»)

قصة لأقوياء القلوب فقط
طبخة هريسة بالأفاعي!!

نأتي الآن إلى قصة غريبة لكنها حقيقية وهي ربما سترسل القشعريرة في أطراف كثريين.
بداية القصة هي موسم حصاد القمح في قرى الجنوب، وأجمل أيام الفلاح هي أيام الحصاد، رغم التعب الذي يورثه خصوصاً وأنه يجري في قيظ تموز .
الممتع في الحصاد أنه يتم لجني محصول الخير الذي انتظره الفلاح بعد أن ألقى بذاره لأشهر طويلة وغالباً ما يترقب الفلاح وضع الطقس وكميات المطر آملاً أن يسقط منه في أشهر الربيع خصوصاً ما يساعد الموسم ويزيد الجنى.
وكانت للقمح على الدوام هالة من التكريم إذ ذكره القرآن الكريم في أكثر من سورة وموضع وذكرته التوارات وذكر في الإنجيل وانتقل التكريم إلى الخبز فكان أول ما تعلمناه من أهلنا في سن الصغر تكريم الخبز فلا نترك ما قد يقع منه على الأرض او نرمي بما يبقى بعد الطعام، وإذا وقعت قطعة منه فعلينا أن نسرع للمّها ثم تقبيلها ووضعها فوق رؤوسنا على سبيل الشكر على النعمة والإستغفار.
ولحصاد القمح في وادي التيم أعراسٌ وأعيادٌ وإحدى القرى التي كان موسم الحصاد فيها موسم فرح وتعاون وتوتدد اجتماعي. قرية بكّيفا إحدى قرى وادي التيم الأعلى، وقد حدثني أحدهم من «آل دهام» عن قصة مثيرة حدثت أيام الحصاد أوائل القرن الماضي، وفيها أن شخصاً من آل بركة يملك حقلاً مزروعاً بالقمح كان قد تأخر عن غيره من أبناء بلدته في الحصاد وذلك لاتساع أملاكه ووفرة زرعه. والعادة المتبعة آنذاك عند أبناء القرى إذا ما تأخر أحدهم عن رفاقه في الفراغ من حصاده هي «الفزعة» بحيث يتنادى الجميع إلى مساعدة صاحب الأرض ويهبون هبة رجل واحد لإنجاز الحصاد الذي تأخر.
وكانت «الفزعة» تبدأ بأن ينادي أحدهم بالصوت ومن أعلى سطح يتوسط بيوت القرية أنه يوم كذا ستفزع البلدة لمساعدة فلان ابن فلان في حصاد الحقل من أبنائها وكأنهم اليوم جمعية تعاونية.وكان المنادي يذكر بأن الحاضر يجب أن يبلغ الغائب أي الذي لم يسمع النداء لسبب من الأسباب بحيث يعم النبأ ويُبلغ موعد الفزعة إلى الجميع. ومن تقاليد الفزعة أيضاً أن يولم صاحب الحقل بعد انتهاء الحصاد أو أثنائه للمشاركين في العونة وكان الطعام المفضل في تلك الحال هي طبخة الهريسة المؤلفة من القمح ولحم الضأن وعظامه وكانت توضع على النار لمدة طويلة حتى يمتزج القمح واللحم ونخاع العظم مكوناً مزيجاً لزجاً ورخواً يتهافت الناس على تناوله للذة طعمه وفائدته.
كانت الفزعة من نصيب الشيخ أبو محمد بركة، لهذا توجه المذكور إلى بلدة راشيا فجلب منها عظام ذبائح عدة ملآنة باللحم وطلب من زوجته تحضير «أكلة هريسة» تكفي لأكثر من خمسين شخصاً.
في زاوية من زوايا ذلك الحقل شجرة بطمٍ قديمة كقدم الدهر. وضعت تحتها الشيخة أم محمد دست الهريسة بعد أن ضمنتها القمح المقشور والعظام المكتنزة باللحم مضيفة إليها ما يناسبها من السمن والملح والبهارات ثم أشعلت النار تحتها، وبقيت أكثر من ساعتين وهي توقد الحطب وتحرك العظام والقمح كي لا يلتصق شيئ من الطعام في قعر الدست. وبعد أن اطمأنت إلى قرب النضوج خففت النار كي يكتمل نضوج الطبخة على مهل فيزداد بذلك الطعام طراوة وشهية. ثم خرجت نحو الحقل تحادث الحصادين وتشكرهم على نخوتهم وأريحيتهم.
بشرت أم محمد الحصادين أيضاً بأن الهريسة أصبحت جاهزة تقريباً متمنية أن تنال إعجابهم وتسر ذوقهم وكانت تتحدث وتسرف في وصف العناية التي بذلتها في إعداد الطبخة وما دخل فيها من لحم وعظم وسمن وبهارات إلى آخر ما هنالك.
بعد هذه المجاملات الدارجة في القرى وبعد أن اقترب موعد الغداء رجعت أم محمد إلى الدست مسرعة ثم تناولت ملعقة الخشب الكبيرة كي تحرك الطعام، وعندما أدارت بنظرها نحو الدست، جمد الدم في عروقها من هول ما شاهدت وفظاعة ما رأت. حية كبيرة عائمة على سطح الهريسة وقد غمر بعض جسدها الدهن والسمن.
إحتارت في أمرها وتسارعت الأفكار في رأسها، كانت تقلب يديها وهي في حيرة تقارب حدّ اليأس وهي تختلس النظر إلى الحصادين، استجمعت قواها وقررت ببساطة أن ترفع الأفعى العائمة من دست الهريسة وتلقيها جانباً عمدت إلى ملعقة الخشب لترفع الحية عن الطعام، لكن ما إن حرّكتها حتى تناثرت أجزاء الأفعى وامتزجت أقسامها مع الهريسة وكأنها جزء من ذلك اللحم المتساقط عن العظام لطراوتها وسرعة نضوج لحمها.
أم محمد وقفت جامدة متسمّرة مكانها محتارة في أمرها، ما العمل وما التدبير..؟ إذ لم يعد من وقت كافٍ أمامها لإعداد طبخة أخرى أو حتى الذهاب إلى البيت وإحضار البديل، وأيضاً إذا أعلمتهم بما حدث فطبعاً لن يقدم أحد على تناول الطعام لخوفهم على حياتهم من جهة والإشمئزاز وقرفهم من الجهة المقابلة، وأيضاً كان يخالجها الخوف وقلق المصير نفسه. لكن ما العمل وماذا سيأكل الفازعون؟
استقر رأيها أن تتناول هي وزوجها الطعام قبل الجميع فإن ظهرت أعراض تسمم مثل القيء فإنها ستمتنع عن تقديم الطعام وإن تمّ كل شيء من دون أية أعراض فإنها ستدعوهم إلى تناول الهريسة باعتبار أن الخطر يكون قد زال.
أكلت مقدار صحن كبير وكذلك زوجها، وانتظروا قليلاً ولم يشعرا بأية أعراض. في ذلك الوقت كان الحصادون قد اجتمعوا تحت الشجرة بل إن بعضهم بدأوا لشدة جوعهم بتناول الطعام قبل أن تدعوهم وبسبب صعوبة مقاومة تلك الأكلة الشهية. آنذاك دارت أم محمد بالصحون على الجميع مرحبة مؤكدة لهم أنها «طبخة لذيذة ستنال حتماً إعجابكم» راجية غضّ النظر عن التقصير «إذ كان واجبكم ذبح كبش هنا ويا ليت ذلك»، وفي قرارة نفسها ناذرة داعية إلى مقام النبي بهاء الديكل من خطر في بالها من أنبياء وأولياء من أن يساعدوها على أن يكون هذا الطعام هنيئاً مريئاً ولا ينتج عنه أي سوء.
أكل الجميع واستزادوا ومنهم من تناول صحوناً عدة والمرأة شاخصة بنظرها نحوهم متظاهرة بالفرح والسرور مرددة من وقت لآخر : هنيئاً مريئاً وأكثر من ألف أهلاً وسهلاً.
مضت الأيام وكذلك الأسابيع، والجميع عند التقائهم بالشيخة أم محمد كانوا يشكرونها ويثنون عليها وعلى شطارتها في الطبخ قائلين مرددين إنه «لتاريخه لم يتذوقوا أكلة أطيب وألذ من تلك الهريسة».
بقدوم موسم الحصاد الجديد أتى أحدهم دارة أبو محمد قائلاً لزوجته : لبيك يا أم محمد نحن حاضرون «لفزعة» جديدة وشرطنا الوحيد أكلة لذيذة كطبخة السنة الماضية.
المرأة آنذاك أصبح بإمكانها مصارحة صديق العائلة بما حدث معها فقالت: لا تفاجأ يا أخي ربما إن الشهية والطعم الزائدين لتلك الطبخة، عائدان للحم الحيّة التي وجدتها فوق الدست وعند محاولتي رفع جسدها تناثرت قطعاً صغيرة بين الطعام.
المفاجأة الكبرى وغير السارة مطلقاً، وأن القدر سينفّذ، وخوفاً من ذكر اسم الحية، رغم كونه مضى أكثر من عام على أكل لحمها وسمها ولم يمت، فبسماعه لما قالته المرأة شهق صديق العائلة شهقة غريبةً ثم أسلم الروح معها وكأن الحية قد لدغته للتوّ. ومن الممكن أن صاحبنا كان ممن لديهم رعب نفسي من الأفاعي وهو مرض نفسي موجود وبعض الناس يؤدي مجرد ذكر اسم الحية على مسمعهم (فكيف لو رأوها) لإطلاقهم صرخات جنونية وإلى ذعر وانهيار أعصاب، وقد تكون الصدمة أثارت في المسكين مشاعر رعب عارمة أثرت على قلبه وكل أعصابه فلم يقوَ جسده على الإحتمال.

الاسلام واخلاقيات الحرب

“بلغ الخليفة عمر أن بعض جنوده يؤمِّنون الفارسي حتى إذا سلّم إليهم قتلوه فغضب غضباً شديداً و أقسم ليقطــــعن عنق من يفـــعل ذلك من جنــود المســـلمين”
“كان الرسول (ص) يكره اسم «حرب» وهو بدَّل أسماء أبناء الإمام علي (ر) عندما كان يسميهم بذلك الاســـم فأصبحوا حسن وحسين ومحسن”
“غوستاف لوبون: الحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم “

تفرّد الإسلام في أخلاقيات الحروب
إن نسي العالم فكيف ينسى المسلمون؟

القرآن الكريم ذكر السلم مائة وأربعين مرة
ولم يذكر كلمة الحرب سوى ست مرات

غوستاف لوبون
غوستاف لوبون

المفكِّر الفرنسي غوستاف لوبون
الإسلام انتشر بالدعوة وجاذبية مبادئه وليس بالسيف بدليل إسلام الشعوب التي قهرت العرب مثل الترك والمغول

بسبب حالة الجهل التي انتشرت في بعض أوساط المسلمين وانفلات الحبل على غاربه تفرقاً واقتتالاً وابتداعاً في الدين ما لم ينزل الله به سلطان كاد الأعداء يحققون أمراً سعوا إليه عبر الأزمان دون أن يفلحوا وهو تشويه صورة الدين الحنيف وطمس حقيقته كرسالة للحق والعدل والرحمة وقد جعلوا من بعض حالات التطرف والأعمال الغاشمة قميص عثمان يتوسلونها للتأليب على الدين القويم والافتئات عليه وعلى تاريخه المجيد الذي لا يضاهيه تاريخ في التسامح والرحمة والسلوك الإنساني.. في هذا العرض الموجز تذكير بحضارةالإسلام وعظمته في نظرته للحرب وأخلاقياتها وهو ما يعارض بالكلية الأعمال الوحشية التي يقوم بها اليوم بعض أدعياء الإسلام ومن تسلل بينهم من جهات يحركها أعداء الأمة المتربصين بها الدوائر. ويتضمن المقال شرحاً لمفهوم الإسلام الصحيح للعلاقة مع الشعوب والأمم المخالفة، وهي نظرة مستوحاة من تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأقوال وأفعال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وفي كل ذلك تاريخ ناصع ما أحوجنا إلى قراءة فصوله والتعلم منه لعلنا نستذكر عظمة ديننا وحضارتنا الإسلامية السمحاء ونكشف القناع عن القوى الشيطانية التي تريد بالعرب والمسلمين وتمهد ربما لشن حرب شاملة على الإسلام لا تستهدف ثرواتهم وأوطانهم ومجتمعاتهم فحسب بل تستهدف في الوقت نفسه صورة الإسلام وثقة المسلمين بأنفسهم ونظرة العالم إليهم.
إنَّ حُسْنَ الخُلُق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كل أُمَّة في أوقات السّلْـمِ مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حُسْن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أُمَّة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتَّصِفَ به. إن رؤية الدم تُثِيرُ الدم، والعداء يؤجِّج نيرانَ الحقدِ والغضب، ونشوة النصر تُسْكِرُ الفاتحين فتوقعهم في حمى التشفِّي والإنتقام وانعدام الرحمة.
لقد شرع الدين الإسلامي الحنيف لكل شي ولم يترك وجهاً من وجوه الحياة إلا وحدد لها أحكامها وكانت للحرب وأصولها وللتعامل مع الخصوم في الحرب والسلم نصيب كبير من النصوص الشرعية، فاهتم القرآن الكريم والرسول (ص) وأصحابه بوضع قواعد وأخلاقيات لا سابق لها في حضارتيها ورقيّها للحرب، أي إن
الإسلام لم يترك الحرب دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحدُّ ممَّا يُصَاحبها من انفلات للغرائز الحيوانية في المقاتلين وجعل الحروب بذلك مضبوطة بالأخلاق ولا تُسَيِّرُهَا الشهوات، كما جعلها ضدَّ الطغاة والمعتدين لا ضدَّ البرآء والمسالمين.

اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعد
اجتاح المغول العالم الإسلامي لكن قوة الإسلام جعلتهم يتحولون إليه ويقاتلون تحت رايته في ما بعدله

قواعد الحرب في الإسلام
وتتمثَّل أبرز هذه القيود الأخلاقية التي وضعها الإسلام على الحرب بما يلي:
1. عدم قتل النساء والشيوخ والأطفال فكان رسول الله (ص) يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه (ص) يأمرهم بتجنُّب قتل الولدان، فيروي بُرَيْدَةُ فيقول: كان رسول الله (ص) إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سريَّةٍ أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، وكان مما يقوله.«وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا». وفي رواية أبي داود: يقول رسول الله (ص) «وَلاَ تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلاَ طِفْلاً، وَلاَ صَغِيرًا، وَلاَ امْرَأَة.»
2. عدم قتال العُبَّاد فكان رسول الله (ص) إذا بعث جيوشه يقول لهم: «لاَ تَقْتُلُوا أَصْحَابَ ‏الصَّوَامِعِ» وكانت وصيته (ص) للجيش المتجه إلى مؤتة «اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ ‏تَغُلُّوا، ‏وَلاَ ‏تَغْدِرُوا، ‏‏وَلاَ ‏تُـمَثِّلوا، ‏وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ».
3. عدم الغدر: فكان النبي يوَدِّع السرايا موصِياً إياهم«وَلاَ ‏تَغْدِرُوا» ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع أخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدوٍّ يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله أنه تبرَّأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدورُ به كافراً، فقد قال النبي (ص) «مَنْ أَمَّن رَجُلاً عَلَى دَمّهِ فَقَتَلَهُ، فَأنَا بَرِيءٌ مِنَ القَاتِل، وَإِنْ كَانَ المَقْتُولُ كَافِرًا» وقد ترسَّخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة حتى إن عمر بن الخطاب (ر) بلغه في ولايته أنَّ أحد المجاهدين قال لمحارب من الفرس: لا تَخَفْ. ثم قتله، فكتب إلى قائد الجيش: «إنه بلغني أنَّ رجالاً منكم يَطْلُبُونَ العِلْـجَ (الكافر)، حتى إذا اشتدَّ في الجبل وامتنع، يقول له: «لا تَخَف».فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغنِّي أن أحدًا فعل ذلك إلاَّ قطعتُ عنقه!»
4. عدم الإفساد في الأرض فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريبٍ كالحروب المعاصرة، التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشدَّ الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، ولو كان في بلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحاً في كلمات أبي بكر الصديق (ر) عندما وصَّى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، ومما جاء في تلك الوصية «وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ» . وهو شمول عظيم لكل أمر حميد، وجاء أيضاً في وصيته للجند «لا تُغْرِقُنَّ نَخْلاً وَلا تَحْرِقُنَّهَا، وَلا تَعْقِرُوا بَهِيمَةً، وَلا شَجَرَةً تُثْمِرُ، وَلا تَهْدِمُوا بَيْعَةً». وهذه تفصيلات تُوَضِّح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض لكي لا يظن قائد الجيش أن عداوة القوم تُبيح الفساد.
5. الإنفاق على الأسير: إن الإنفاق على الأسير ومساعدته واجب يُثَاب عليه المسلمُ، وذلك بحكم ضَعْفِ الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشِدَّة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بِرَّهُ بِبِرِّ اليتامى والمساكين، فقال في وصف المؤمنين: }وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا{ (الإنسان:8)
6. عدم التمثيل بالميت: فقد نهى رسول الله (ص) عن المُثْلَة (أي التمثيل في القتلى) فروى عبد الله بن زيد (ر) قال «نهَى النَّبِيُّ (ص)عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَة،. وقال عمران بن الحصين : «كَانَ النَّبِيُّ (ص) يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ» ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول، فإنه لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه (ص) هدَّد المسلمين تهديداً خطيراً إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال «َأشدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ» ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله حادثةٌ واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأَحَدٍ من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تُلْغِي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال. وقد صرَّح (ص) بهذا الأمر حين قال: «‏إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاق».

العلاقة مع غير المسلمين
يدل الخطاب القرآني دلالةً واضحةً على أنَّ القاعدة في التعامل مع غير المسلمين هي تقديم السلام على الحرب، واختيار التفاهم لا التصارع، ومن أدلة ذلك أنَّ القرآن الكريم أورد كلمة السلم بمشتقاتها مائة وأربعين مرة، في حين ذُكِرَت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط!!
ويرى الشيخ محمود شلتوت أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام أخوان في الإنسانية.
ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق -رحمه الله- أنه من الواجب على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأخوة الإنسانية، منطلقاً من الآية الكريمة }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا{ (الحجرات: 13)، فتَعَدُد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم، وإنما هو دعوة من الله تعالى للتعارف والتوادّ والتحابّ.
ويشهد لهذه الآراء العديد من الآيات التي أمرت بالسَّلْم مع غير المسلمين إن أبدى هؤلاء الاستعداد والميل للصلح والسلام؛ فيقول الله تعالى: }وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا{ (الأنفال: 61) وهذه الآية الكريمة من كتاب الله عز وجل تبرهن بشكل قاطع على حب المسلمين وإيثارهم لجانب السلم على الحرب.
قال السدي وابن زيد: «معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم» والآية التالية لهذه الآية تؤكد حرص الإسلام على تحقيق السلام، فلو أن الأعداء أظهروا السلم، وأبطنوا الخيانة، فلا عليك من نياتهم الفاسدة، واجنح للسلم قال الله تعالى: }وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين{( الأنفال: 62) أي أن الله يتولى كفايتك وحياطتك.
ولهذا كله كان رسول الله (ص) يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ».
كما كان (ص) يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه (ص) «أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: ‏عَبْدُ اللَّهِ ‏وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، ‏وَأَصْدَقُهَا: ‏حَارِثٌ ‏وَهَمَّامٌ، ‏وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّة»
وكان الرسول (ص) يُغيّر اسم مَن اسمه «حرب» إلى اسم آخر أحسن وأجمل، وعلى سبيل المثال كان الإمام علي (ر) يسمي ولده «حرب» فيبدله الرسول بإسم آخر حتى صار لعلي (ر) ثلاثة بنين هم حسن وحسين ومحسن وقد اختار الرسول (ص) لهم أسماءهم لأنه لم يكن يحب أن يسمي علي (ر) أياً من أولاده «حرب».

صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب
صلاح الدين الأيوبي كان مثالا على سماحة الإسلام في الحرب

الحرب.. آخر الدواء
كان الرسول (ص) يعلم أصحابه ويوجِّهَهُم فيقول لهم مربياً: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ.» فالمسلم بطبيعة تربيته الأخلاقية التي يتربى عليها من خلال القرآن الكريم وسنة النبي (ص) يكره القتل والدماء، ومن ثَمّ فهو لا يبدأ أحداً بقتال، بل إنه يسعى بصدق لتجنب القتال وسفك الدماء..
ومع أن أهداف القتال في الإسلام كلها نبيلة إلا أن رسول الله (ص) لم يكن متحمساً أبدًا لحرب الناس، ولا مشتاقاً لقتلهم، وذلك على الرغم من بدئهم للعدوان، وعداوتهم الظاهرة للمسلمين، وكان من أظهر الدلالات على ذلك أنه كان يدعوهم إلى الإسلام قبل القتال، ولا ينبغي أن يفهم أحدٌ أنه يفعل ذلك ابتداءً، فيبدو وكأنه إكراه على اعتناق الإسلام، فقد كان رسول الله (ص) يفعل ذلك عند تعين القتال فعلاً، فإذا حضر الفريقان إلى أرض القتال جعل للفريق المعادي فرصة أخيرة لتجنب إراقة الدماء، وهذه من أبلغ صور الرحمة، لأن الفريق المعادي مستباح الدم في الميدان، والعفو عنه غير متوقع، كما إن الرسول (ص) كان يفعل ذلك والقوة في يد العدو هو تحت رحمته.
قال ابن القيم في «زاد المعاد» تحت عنوان: الدعوة قبل القتال: «وكان عليه الصلاة والسلام يأمر أمير سريته أن يدعو عدوَّه قبل القتال إما إلى الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين ليس لهم في الفيء نصيب أو بذل الجزية، فإن هم أجابوا إليه قبل منهم وإلا استعان بالله وقاتلهم.
وهذا الخُلق الرائع من إنشاء الإسلام الذي لم يستبح الغدر بأحد قبل إعلامه، فجعل الدعوة قبل القتال لازمةً، وتلك قمة لم تسمُ إليها أمة قبل الإسلام أو بعده. فما زال أهل الأمم الأخرى يعتبرون كل الوسائل في الحرب مشروعة لتحقيق النصر على العدو بما في ذلك الأسلحة الكيماوية والقنابل النووية التي قتلت الملايين في الحروب العالمية والغدر وتدمير الاقتصاد والمدن على أهلها واستحلال الحرمات، بينما لم يقاتل النبي (ص) قوماً قط إلا بعد أن دعاهم إلى الله تعالى.
وعندما أرسل النبي (ص) عليّاً بن أبي طالب (ر) إلى خيبر أوصاه قائلاً: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ ‏حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ‏ ‏حُمْرُ النَّعَمِ»، فالرسول (ص) في هذا الموقف -وهو القائد المقبل على معركة كان من المفترض أن يلهب حماسة جنده، ولكنه راح على النقيض يهدّئ من حماسة علي (ر) ويأمره ومن معه بالهدوء والرويَّة، كما هو واضح في قوله (ص) «انْفُذْ عَلَى رِسْلِك» أي اذهب وكن متروياً.

عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر
عظمة الإسلام لن تبدل حقيقتهاأعمال جهلة العصر

علاقات الإسلام الدولية
إن الأصل في علاقة دولة الإسلام مع غيرها من الدول هو الدعوة أي عرض الإسلام عرضاً صحيحاً يقيم الحجة ويقطع العذر، هذا أصل العلاقة التي ينبني عليها السلم أو الحرب في الإسلام .
وقد كان «أهل الذمة» معصومي الدم والمال، وإن عقدوا عهد هدنة مدةً لا حرب فيها، كانوا «أهل عهد»، وإن أبوا إلا حرب الإسلام ورفضوا الانصياع لأمر الله تعالى وصدوا عن سبيله، فهم «أهل حرب» .
وليس غريباً على الإسلام أن تكون له أخلاقيات في الحرب وإن لم يعرفها أعداؤه … لإنه دين الله الذي جعل الأخلاق أصلاً من أصوله ومنهاج حياة. ولم تكن القوة هي العامل المهم في انتشار الإسلام إلى أقاصي الأرض كما زعم بعض المستشرقين، فقد ترك العربُ المغلوبين أحراراً في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلامَ واتخذوا العربية لغة لهم، فذلك لما رأوا من عدل العرب الغالبين ما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل . فقد انتشر الإسلام في ربوع العالم واعتنقته الشعوب طواعية لا عن إكراه، شهد بذلك الموافق والمخالف، يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» وهو يتحدث عن سر انتشار الإسلام في مطلع عهده:
«لقد أثبت التاريخ أن الأديان لا تفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذاً بالسيف بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل – ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليوناً فيها، ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منها قط، وها هو عدد مسلميها يزيد اليوم على عشرين مليوناً. . ويقول الكاتب في موضع آخر :«فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم» ويتحدث عن صور من معاملة المسلمين لغير المسلمين فيقول : «وكان عرب إسبانيا – عدا تسامحهم العظيم – يتصفون بالفروسية المثالية، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى ذلك من الخصال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوروبا منهم في ما بعد.
وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه: «العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود – الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها – سمح لهم جميعاً دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أوليس هذا منتهى التسامح ؟ أين يروي التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي لم يتنفس الصعداء بعد الاضطهاد البيزنطي الصارخ وبعد فظائع الإسبان واضطهاد اليهود، إن السادة والحكام المسلمين الجدد لم يزجوا بأنفسهم في شؤون تلك الشعوب الداخلية، فبطريرك بيت المقدس يكتب في القرن التاسع لأخيه بطريرك القسطنطينية عن العرب فيقول: إنهم يمتازون بالعدل ولا يظلموننا البتة وهم لا يستخدمون معنا أي عنف »
فهذا هو الإسلام، وتلك حضارته في واقع التاريخ، وفي كلام مخالفيه
شهـــــــــــــد الأنــــــــام بفضله حتى العــــــــدا والفضــــــــل مـــــا شهــــــــدت بــــــــه الأعـــــــــداء
لقد نهى الإسلام بشدة عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن لا يقاتل من المدنيين، بل ويرتفع الإسلام بالمسلم إلى ذروة الإنسانية حين يأمره بأن يعمل على توفير الأمن للمشرك الخائف وحمايته وإيصاله إلى بلده ومأمنه }وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ{(التوبة 6)
كما نهى عن الغدر بالأعداء حتى ولو كان المسلم يخشى خيانتهم }وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ{ فلا يَأْخذ العدو على غرة قبل أن ينبذ إليه على سواء فلا يغدر بعهدٍ عقده مع المسلمين.
إن جميع الحروب في الإسلام لم تكن لإسالة الدماء أو لحب القتل أو للهدم أو الدمار، وفي تاريخ كل تلك الحروب المدونة تفاصيلها بدقة لم تغتصب امرأة ولا أهين رجل بغير وجه حق، ولا انتهكت حرمة فتاة ولا عبث بذوات الخدور، ولم تُدمر الديار ولم يُرتكب عار أو شنار، ولم تُزهق النفوس البريئة، ولا ضرب حجر في غير موضعه فأصاب آلاف الأبرياء ؛ ولم تكن للفاتحين المسلمين سجون يعذب فيها أحد بألوان العذاب ..وهذا صلاح الدين الأيوبي يوم فتح القدس وقد أمَّن أهلها على دورهم وأرواحهم، وأمر بالبحث عن طفل ضاع من أمه – فهي تبكي بكاء مراً – حتى أحضره إليها وطمأن قلبها.
ملكنــــــــــــا فكـــــــــان العفــــو منـــــــــا سجيــــــــــــة فلما ملكتم سال بالدم أبطح
فلا عجبـــــــــًا هـــــــــذا التفـــــــــاوت بيننــــــــــــــــــــــــــا فكــــــــــل إنـــــــــاء بـــــــــالذي فـيــــــــــــــــــه ينضــــــــــــــــــــــــــــــح

الجنيد البغدادي

تاج العارفين أبو القاسم الجنيد

قدوة العبادة والزهد والمعلم لأجيال من الصوفيين
دعا لكتم التوحيد عن غير أهله وحارب الشطح والغلوّ

طلب الحلاج صحبته فقال: أنا لا أصاحب المجانين
وإنني أرى في كلامك يا ابن منصور فضولاً كثيراً

أفتى في مجلس أبي ثور وهو في العشرين
وجلس في الثلاثين معلماً في أكبر جوامع بغداد

إعتبره الشيخ إبن تيمية من أئمة الهدى
ولقّبه إبن القيّم بـ «قطب العارفين بالله»

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات
من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

يحتل الجنيد البغدادي الذي لُقِّب بـ «تاج العارفين» مكانة خاصة في تاريخ التصوف بسبب ما اجتمع لديه من صفات الحكمة والبصيرة والوقار والزهد، وقد كان عارفاً بالله قطباً في التصوف عالماً مجاهداً من صغر سنه في طريق الترقي الروحي، وأهم ما تميّز به إعتداله ورجاحة عقله وحرصه الشديد على التوفيق بين التصوف وبين احترام عقائد العامة والتزام القرآن والسنة، وقد رفض الشطح وأهله وأدان كل أشكال الغلو بين الصوفية فحاز بذلك احترام الجميع واعترف له بالقطبية في عصره وامتد تأثيره من خلال أعلام التصوف الذين تخرجوا على يديه عدة قرون بعد وفاته.
قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي:«هو من أئمة القوم وسادتهم، مقبول على جميع الألسنة» وقال السبكي: «سيد الطائفة ومقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ طريقة التصوف وعَلَم الأولياء في زمانه».
وقال أبو القاسم الكعبي المعتزلي عنه : «رأيت لكم شيخاً في بغداد يقال له الجنيد بن محمد، ما رأت عيناي مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم» . وقَالَ ابنُ المُنَادِي عنه: «سَمِعَ الكَثِيْرَ، وَشَاهَدَ الصَّالِحِيْنَ وَأَهْلَ المَعْرِفَةِ، وَرُزِقَ الذَّكَاءَ وَصَوَابَ الجَوَابِ. لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ فِي عِفَّةٍ وَعُزُوفٍ عَنِ الدُّنْيَا». وقال الحافظ الذهبي عنه: «كان شيخ العارفين وقُدْوة السّائرين وعَلَم الأولياء في زمانه رحمة الله عليه» وقال الشيخ إبن تيمية فيه «الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» وقال أيضاً عنه «كَانَ الْجُنَيْد رحمه الله سَيِّدُ الطَّائِفَةِ ، إمَامَ هُدًى (..) وَكَانَ َمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيماً وَتَأْدِيباً وَتَقْوِيماً».(مجموع الفتاوى؛719/10).
وقال عنه الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»: «لقي العلماء ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، والسريّ السقطي، ثم اشتغل في العبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ وله أخبار مشهورة».
وقال الخلدي: «لم نر في شيوخنا من اجتمع له علمٌ وحال غير الجنيد. كانت له حالٌ خطيرة، وعلمٌ غزير، إذا رأيت حاله رجَّحته على عِلمه، وإذا تكّلم رجَّحت عِلمه على حاله».

وطفولته
يعود أصل أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري إلى نهاوند في همدان إلا أنه ولد في بغداد حوالي العام 215 هـ (830 م.) كما إنه ترعرع وعاش فيها طيلة حياته وتوفي فيها أيضاً في العام 297 هـ.
ولد في بغداد حوالي سنة 215هـ (830م) في زمن مضطرب تميز بمواجهات فكرية كثيرة بين الفرق وأهل الكلام والظاهرية والحركات الباطنية وأهل التصوف والمعتزلة، إلا أن أبرز ملامح تلك الفترة وبتأثير المذهب الظاهري كان بروز تيار قوي بين الفقهاء المعادين للتصوف الذين آل بعضهم على نفسه الحض على ملاحقتهم وإيقاع العقوبة بهم، وكان الحلاج إحدى ضحايا تلك الموجة التي كادت تطيح أيضاً بالشبلي بل هددت حياة الجنيد وآخرين ليس بسبب أفكارهم بل بسبب مكيدة ووشايات باطلة قدمت إلى القاضي وإلى الخليفة العباسي.

تقول المصادر إن والد الجنيد كان قواريريّاً، يمتهن بيع الزجاج، وأنه توفي والجنيد لايزال صغيراً، فتولى الاهتمام بالفتى الصغير خاله، المربي الصوفي الشهير السريّ السقطي، وقد لعب هذا الصوفي الكبير دوراً مهماً في تنشئة الجنيد الصغير على الزهد والتصوف وهو يعتبر ربما المرشد الأكثر تأثيراً في تطوره الروحي. وقد لمح السريّ كما يبدو علامات الولاية والنبوغ في ابن أخته الصغير فزاد من اهتمامه به والحرص عليه.
يلقي الجنيد ضوءاً على بدايات تلك العلاقة عندما يقول: «كنت بين يدي السريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: «يا غلام! ما الشكر» قلت: «الشكر ألا تعصي الله بنعمه». فقال لي: «أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!» قال الجنيد: «فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السريّ» وقد يكون السريّ تعمد إعطاء درس للغلام في التأني وامتحانه لكنه ولا شك لمح فيه علامات الرجال والتقوى فزاد اهتمامه به.

أساتذته
صحب الجنيد عدداً من أعلام التصوف في زمانه وكان أولهم خاله السريّ السقطي لكنه حضر أيضاً مجالس محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز وبشر بن الحارث، ثم صحب بعد وفاة السريّ السقطي الحارث المحاسبي وتأثر به .

سلوكه على يد السريّ السقطي
سلك الجنيد على يد خاله السريّ ووجد فيه صورة المحب لله، وهو القائل إن المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر«يا أنا» وقد أثر تفاني السريّ السقطي في حب الله واستغراقه الدائم في التهجد والصلاة والذكر على بدنه، فيبس منه الجلد على العظم وأصابه النحول الشديد, وسأل أحدهم يوماً عن معنى المحبة فأجاب الجنيد : قال قوم هي الموافقة، وقال قوم هي الإيثار، وقال قوم كذا وكذا، فأخذ السريّ جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثم قال : وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت.
اشتهر عن السقطي مقاومته الشديدة لرغبات النفس وهوالقائل «ما زالت نفسي تطالبني منذ أكثر من ثلاثين سنة بجزرة مغموسة في دبس فما أطعتها» اجتهد السريّ ان لا يستعمل من آنية بيته إلا الطين، وكان يقول لا حساب عليه، وهو ذهب في الزهد حداً كان فيه خلو اليدين من أي متاع أو شيء. وكان يقول: «أعرف طريقاً مختصراً إلى الجنة، هو ألا تسأل أحداً شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً».

صحبته للحارث المحاسبي
سأل السريّ السقطي الجنيد مرة « إذا فارقتني من تُجالس؟ فقال الجنيد : الحارث المحاسبي « ويدل جواب الجنيد على المكانة التي كانت للمحاسبي لديه، وقد صحبه خاصة بعد وفاة خاله السريّ ، وكان المحاسبي حتى في أيام السريّ يأتي منزل الجنيد ويقول له: اخرج معنا نصحر، والأرجح أن الجنيد كان لايزال دون العشرين من العمر، فيقول له الجنيد: تُخرجني من عُزلتي وأمني على نفسي إلى الطرق والآفات ورؤية الشهوات! فيقول الحارث: اخرج معي ولا خوف عليك . يتابع الجنيد الرواية فيخبر أنه كان يخرج معه فكأن الطريق فارغاً من كل شيء لا يرى شيئاً يكرهه، فإذا حصلوا المكان الذي يجلس فيه الحارث يقول للجنيد اسألني.
تفقه الجنيد على أبي ثور الكلبي، ابراهيم بن خالد بن اليمان، أحد الأئمة المجتهدين وهو صاحب الإمام الشافعي وراوي مذهبه القديم وأبو ثور معاصر لأحمد ابن حنبل الذي شهد له بالعلم والصلاح . ويقول ابن الملقن في طبقات الأولياء إن الجنيد كان يُفتي في حلقة أبي ثور وفي حضرته وهو ابن العشرين سنة.

حياؤه وتردده في الجلوس للتعليم
عندما بلغ الجنيد الثلاثين من العمر رأى السريّ السقطي أن الجنيد الشاب أصبح مؤهلاً للجلوس للتدريس وإدارة حلقة علم عامة، وقد كانت مجالس التدريس العامة حتى زمن الجنيد تُقام في المساجد، كما كان التدريس في المسجد وقفاً على الفقه والحديث وعلوم القرآن، أي لم تكن للصوفية مجالس في المساجد، بل كانت مجالسهم في حلقات خاصة أو يقصدهم طلابهم إلى منازلهم، لهذا فإن الجنيد قد يكون أول صوفي جلس للتدريس في حلقة عامة في مسجد يُعد من أهم مساجد بغداد وهو جامع المنصور .
قال السريّ السقطي للجنيد: «تكلم على الناس»، لكنه تردد في ذلك، بل تحشم ولم يجد في نفسه الأهلية. ثم يخبرنا أنه لم يتكلم على الناس حتى أشار إليه وعليه ثلاثون من البدلاء وأجمعوا أنه يصلح لأن يدعو إلى الله عز وجل، وعلى الرغم من حث الجميع له لأن يبدأ بالتعليم، إلا أنه ظل متحرجاً حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «تكلم على الناس» انتبه من نومه وأتى باب السريّ السقطي قبل أن يُصبح دق الباب فقال له السريّ من الداخل: لم تُصدقنا حتى قيل لك! فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع، وعندما انتشر في الناس أن الجنيد قعد للكلام، أمَّ مجلسه حشود غفيرة من أهل العلم وطلابه. وممن حضر مجالسه الفقيه الشافعي أبو العباس بن سريح الذي كان بعد ذلك يقول إن علمه يأتي من بركة الشيخ الجنيد.
أخبر الجنيد في ما بعد أنه «إنتشر في الناس إنني قعدت أتكلم، فوقف عليَّ غلام نصراني متنكر وقال: «أيها الشيخ! ما معنى قوله: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: «أسلم! فقد حان وقت إسلامك!» فأسلم».واعتبر الناس تلك الحادثة التي حصلت أمام الملأ من كرامات الشيخ الجنيد مثل اطلاعه على عقيدة الغلام واطلاعه على أنه سيسلم في الحال بمجرد سؤاله من الشيخ.
كان للجنيد تأثير كبير على أجيال الصوفية التي توالت من بعده وقيل إن العديد من أهل التحقيق الذين جاءوا بعده إنما يعودون بالخرقة إليه أي أنهم تسلموا السر من مشيخ يعود في تسلسله إلى الجنيد ودرسوا عليه وأخذوا حقائق الطريق عنه.
ومن الصوفية الذين صحبوا الجنيد وسلكوا على يده: أبو بكر الشبلي، وأبو محمد الجريري، وإبن الأعرابي أبو العباس أحمد بن محمد بن زياد، وإسماعيل بن نجيد وعلي بن بندار أبو الحسن الصيرفي، وعبد الله بن محمد الشعراني وأبو الحسين علي بن هند القرشي الفارسي وهو من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم وأبو بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم الكثير.

نبوغه
دخل الجنيد مرة على السريّ فوجد عنده رجلاً مغشياً عليه، سأل عن سبب غشيته، فأعلمه السريّ بأن الرجل سمع آية من كتاب الله تعالى، فقال الجنيد: تُقرأ عليه الآية مرة أخرى، وعندما قُرئت أفاق الرجل، عندها سأل السريّ الجنيد: من أين علمت هذا ؟ فقال الجنيد: «إن قميص يوسف -عليه السلام- ذهب بسببه بصر يعقوب -عليه السلام- ثم عاد بصره به» .
وفي حادثة ثانية دخل الجنيد يوماً على السريّ السقطي فرأى عليه هماً، فسأله عن سبب همّه، فقال: الساعة دقّ عليّ داقٌّ الباب، وسألني عن معنى التوبة وشروطها فأنبأته، فقال: هذا معنى التوبة وشروطها، فما حقيقتها ؟ فقلت: حقيقة التوبة ألا تنسى ما من أجله كانت التوبة (أي حقيقة التوبة ألا تنسى ذنبك)، فقال الرجل: حقيقة التوبة ألا تذكر ما من أجله كانت التوبة. وأنا أفكر في كلامه! فقال الجنيد: مؤيداً كلام السائل: ما أحسن ما قال . هنا سأل السريّ الجنيد: يا جنيد، وما عنى هذا الكلام؟ قال الجنيد: يا أستاذ، إذا كنتُ معك في حال الجفاء ونقلتني من حال الجفاء إلى حال الصفاء، فذكري للجفاء في حال الصفاء غفلة.

رسائله
وصل عدد رسائل الجنيد التي تمّ تحقيقها في السنوات الأخيرة إلى واحد وثلاثين رسالة منها كتاب «القصد إلى الله» و«كتاب الفناء» و«كتاب ادب المفتقر إلى الله» و«كتاب الميثاق»، و«كتاب السر في أنفاس الصوفية» ورسالة في المعرفة، ورسالة النظر الصحيح إلى الدنيا، ورسالة عن صفة الإيمان وأخرى عن صفة العاقل ورسالة في التوحيد ورسالة في الألوهية إضافة إلى عدد كبير من الرسائل التي كتبها إلى مريدين ومقربين.

قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد
قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد

أثر الجنيد في التصوف
كان الإمام الجنيد عارفاً حكيماً وكان حريصاً على الفصل بين تعليم الخاصة مبادئ التصوف والتحقق بالاختبار الروحي وبين علوم الشريعة وعقائد العامة وكان اعتقاده بعدم اجتماع الأمرين يجعله يحرص أشدّ الحرص على سترالتعليم الصوفي خوف أن يؤدي عدم فهمه من العامة إلى رميه بالإتهامات أو إلى زعزعة العقائد وبالتالي الفتنة. كان موقفه لذلك موقفاً عاقلاً مسؤولاً، بل نُقل في ما بعد أنه أمر مريديه أن يدفنوا الأوراق التي دوَّنوا فيها أقواله أو تعليمه، ولم ذلك لأنه كان يقول بأمور غير موافقة للشريعة أو للإيمان بل لأنه يعتقد أن حقائق التصوف لا تسعفها الكلمات والعبارات وأن اللغة مهما اتسمت بالبلاغة فإنها غير كافية لتوصيل الاختبارات اللدنية للعرفان الصوفي وتجربة التحقق الروحي.
ومما لا شك فيه أن العصر الذي عاش فيه أبو القاسم الجنيد أثر كثيراً على نهجه الحذر في كتم التعليم والحرص على أن يتم داخل الغرف المغلقة، إذ اتسمت تلك الفترة بانتشار المذهب الظاهري الذي كان يدين أي محاولة لتأوليل معاني التنزيل، وقوي نفوذ الفقهاء المعارضين للتصوف في بلاط الخلفاء، ونشأ عن ذلك جو من الحذر والتشكك في المتصوفة، وقد ساهمت الآراء الجريئة لبعض المتصوفة أو انحرافات بعض أدعياء التصوف في تعزيز المواقف السلبية من القوم، وكان الزمن أيضاً زمن الحلاج الذي أثار زوابع وعواصف لم تهدأ بسبب شطحاته ثم تصريحه بعقائد التصوف بل واستعراض كراماته في الأسواق وبين عامة الناس. كل ذلك أثار الكثير من النفوس تجاه المتصوفة، وكان ابو القاسم الجنيد ببصيرته الجليَّة مدركاً لتلك الظروف، وهو لجأ لذلك إلى أسلوب الكتم حتى اتهمه بعضهم بالتقية خصوصاً وأنه وقف بحزم ليدين أهل الشطح من المتصوفة، وليؤكد على أهمية التزام أهل الطريق لأحكام الدين ونواهيه مثل قوله:«الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول». وكذلك قوله «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
ودعا الجنيد إلى الفقر والجوع والسهر في الذكر وفطم النفس عن الاشتهاءات لكنه حرص في الوقت نفسه على نصح المريدين باجتناب التطرف ونقل عنه أبو محمد الجريري في هذا الشأن فقال: «سمعت الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات، ومراده تركُ فضول الدنيا وجوع بلا إفراط. أما من بالغ في الجوع ورفض سائر الدنيا، ومألوفات النفس، من الغذاء والنَّومِ والأهل، فقد عرّض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفيّة السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والسعادة في متابعة السنن، فزن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونم وقم، والزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير».
وبسبب اعتدال الجنيد في ما كان يدعو إليه وكذلك موقفه الحازم من أهل الشطح والبدع في التصوف فإنه استحق التقدير والاحترام الشديدين حتى من قبل شيخ الإسلام إبن تيمية الذي عرف عنه موقفه الحذر من المتصوفة الذين اعتبر أن بعضهم خرج على العقيدة وابتدع، لكن إبن تيمية وبسبب تقديره للجنيد وآخرين مثل السريّ السقطي وسهل التستري وعمر المكي قال بوجوب التمييز بين المتصوفة المقتصدين المراعين لأحكام القرآن والسنة وبين أهل الشطح والبدع وقال عن الفرقة الأولى «أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ» ملاحظاً «إن أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ أنكروا الحلاج وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي» (الفتاوى).
و قال إبن تيمية مادحاً الجنيد «وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ» (مجموع الفتاوى 5/126).
وقال إبن القيم عن الجنيد «وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق- (مدارج السالكين، الجزء الثاني، 259).
والواقع أن إبن تيمية يذكر الجنيد مراراً ويستشهد به ويعتبره من أئمة الهدى المتأخرين ويبجله ويرفق اسمه دوماً بعبارة «رضي الله عنه» بينما أطلق إبن القيم على الجنيد لقب «قطب العارفين بالله» وكان يستخدم عبارة «قدس الله روحه» في كل مرة كان يورد فيها اسمه.
هذا التكريم الشامل والإجماع على شخص الجنيد ومكانته ما هو في الحقيقة إلا ثمرة النهج السليم والعاقل الذي التزمه في التصوف والذي تعارض بقوة ليس فقط مع الحلاج، الذي اختلف معه وابتعد عنه، بل أيضاً مع تلميذه ومعاصره أبو بكر الشبلي الذي خاطبه الجنيد يوماً بالقول: «لا تُفش سرّ الله تعالى بين المحجوبين». ثم قال عنه في موضع آخر مؤاخذاً إياه على إشاعته علوم القوم بين عامة الناس:«نحن حَبَّرنا هذا العلم تحْبيراً، ثم خبّأناه في السّراديب، فجئتَ أنتَ فأظهرته على رؤوس الملأ». ووصف الجنيد شطح الشبلي أيضاً بالقول: «الشبلي سكران، ولو أفاق لجاء منه إمام ينتفع به».
وكان الكتم والستر عموماً نهجه في التعليم وكان يقول لمريديه: «لا ينبغي للفقير قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المُصدِّقين لأهل الطريق، أو المُسلِّمين لهم، وإلا يخاف حصول المقْت لمن كذّبهم».
وكان ينشد:
سأكتمُ من عِلمي به ما يصونـــــــــه وأبــــــــــــــــــــذلُ منه مــــــــــــــــا أَرى الحــــــــقَّ يُبـــــــذَلُ
وأُعطي عبادَ اللهِ منه حُقوقَهـم وأمنـــــــــــــــعُ منه ما أرى المـــــــــــــــــــــنـعَ أفضــــــــــــــلُ
أَلاَ إنَّ للرحـــــــــــــــــــــمـن ســـــــــــــــرّاً يَسُـــــــــــــــــــــــــرُّهُ إلى أهله في السِرِّ والسَــترُ أجمــــــــــــــلُ
وكان حسب ما جاء في الأثر لا يتكلم قط في علم التوحيد إلا في جوف بيته بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول للمريدين: «أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالزندقة والكفر؟»
بنفس المعنى يجب أن نورد انزعاج الجنيد من نهج الصخب والشطح الذي أخذه الحلاج مما أدى إلى ابعاد الجنيد له بل وتنبوئه بأنه سيقتل مصلوباً، وقد روى الهجويري في كشف المحجوب حادثة ذات دلالة حصلت بين الرجلين على الشكل التالي، قال: «قرأت في الحكايات أن الحسين بن منصور الحلاج في حال غلبته ترك صحبة عمرو بن عثمان المكي، وأتى إلى الجنيد، فسأله: ما الذي أتى بك إليّ؟ فقال الحسين: طمعاً في صحبة الشيخ، فقال له الجنيد: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، فإذا لم يتوفر ذلك تصرفت معي كما تصرفت مع سهل بن عبد الله التستري وعمرا، فقال له الحسين: يا شيخ، الصحو والسكر صفتان للعبد، وما دام العبد محجوباً عن ربه تفنى صفاته، فقال له الجنيد: يا ابن منصور، أخطأت في الصحو والسكر، لأن الصحو بلا خلاف عبارة عن صحة حال العبد في الحق، وذلك لا يدخل تحت صفة العبد واكتساب الخلق، وأنا أرى يا ابن منصور في كلامك فضولاً كثيراً، وعبارات لا طائل تحتها».
وذكر الشيخ إبن تيمية قصة عن الجنيد جاء فيها: «قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ -أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ- فَقَالَ:«الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».

وفاته
توفي الجنيد رضي الله عنه سنة 297 هـ . وقد أخبر تلميذه أبو محمد الجريري عن ذلك وقال: «كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: «أرفق بنفسك!» فقال: «ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هوذا تطوى صحيفتي». وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: «ما هذا يا أبا القاسم!»، قال: «هذه نِعم!. الله أكبر». فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: «لو اضطجعت!»، قال: «يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر». فلم يزل ذلك حاله حتى مات».
وقال أبو بكر العطوي: «كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار». وتذاكر بعض أهل المعرفة بين يديه وذكروا ما استهانوا به من الأوراد والعبادات، فقال لهم الجنيد: «العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك».
وقال ابن عطاء: «دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم ردّ بعد ساعة، وقال: «اعذرني! فإني كنت في وِردي»، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات».
وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، وجرى دفنه في يوم السبت وكان ذلك اليوم على ما يذكر المؤرخون مشهوداً، فقد خرجت بغداد عن بكرة أبيها علماؤها وأمراؤها وعامتها في وداعه حتى قدر عدد المشيعين لجنازته بستين الف شخص، ودفن في مقبرة الشونيزيه، في تربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، عند خاله السريّ السقطي.

ضريحه
يتكون ضريح الجنيد من بناء بسيط ويعلو قبره نسبياً القبور المحيطة به حيث يقوم في مقبرة تحمل إسمه وهي ملاصقة لمنطقة وقوف القطارات ضمن المحطة العالمية وهي حافلة بالأشجار وأشجار النخيل، وهناك مسجد أقيم في المكان بإسم «مسجد الجنيد» وهو قديم العهد وفيه مصلى لا يسع سوى عدد يسير من المصلين، وقد أصابه الوهن وتخلخلت أرجاؤه في وقت مضى فأعاد عمارته وأصلحه سنة 1269 هجرية محمد نامق باشا. ويتميز مرقد الجنيد في هذا المسجد بوجود قبة صغيرة فوقه، ويضم المسجد رفاة الكثير من الصلحاء والعلماء كما تضم المقبرة مرقد النبي يوشع.

ابوالقاسم الجنيد : صِفَةُ الأَوليَاء

قال الإمام أبي القاسم الجنيد (ر):

إن لله عباداً صحبوا الدنيا بأبدانهم، وفارقوها بعقود إيمانهم، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون، وفيه مقيمون، وإليه راجعون، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء، والداعية إلى المهالك، والمعينة للأعداء، والمتبعة للهوى، والمغموسة في البلاء، والمتمكنة بأكناف الأسواء، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل؛ إذ سمعوه يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ (الأنفال:24)، فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء في دار الغرور، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في معاملته، وأحسنوا الأدب في ما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، واغتنموا بالإجماع الأوقات وسلامة الجوارح، وأماتوا شهوات النفوس، وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة، وأقاموا عليها رقيباً من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر، أرواح أنيسها الخلوة، وحديثها الفكرة، وشعارها الذكر، غذاؤها الجوع والظمأ، وراحتها التوكل، وكنزها الثقة بالله، ومعولها الإعتماد، ودواؤها الصبر، وقرينها الرضا.

من أقوال الجنيد البغدادي (ر)

أدب السر طهارة القلب من العيوب
وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب

ترك أهل التوحيد مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمتــــه

قال رحمه الله: «اطِّراح هذه الأمة من المروءة، والاستئناس بهم حجاب عن الله تعالى، والطمع فيهم فقر الدنيا والآخرة».

التوبة
سئل الجنيد عن التوبة فقال:
التوبة على ثلاثة معان : أولها ندم . والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه . والثالث السعي في أداء المظالم .

في المحبة
وصف الجنيد المحبة فقال: «المحبة إفراط الميل بلا نيل» .

قال الجنيد : الناس في محبة الله عز وجل عام وخاص . فالعوام أحبوه لكثرة نعمه ودوام إحسانه، إلا أن محبتهم تقل وتكثر، وأما الخواص فأحبوه لما عرفوا من صفاته وأسمائه الحسنى، واستحق المحبة عندهم، لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم.

قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ماعندك يا عراقي . فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين .

علامة كمال الحب
سئل الجنيد عن علامة كمال الحب فأجاب: «دوام ذكره (أي ذكر المحبوب) في القلب بالفرح والسرور، والشوق إليه، والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع، وعلامة أنسه بالله استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها».
سُئل الجنيد رحمه الله تعالى عن« الأنس بالله» فقال : «ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة».

في الأخوّة
قال رجلٌ للجنيد : قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى. قال: فسكت عنه ثم أعاد ذلك، فقال له الجنيد : إذا أردت أخاً في الله عز وجل، يكفيك مؤنتك، ويتحمل أذاك، فهذا لعمري قليل . وإن أردت أخاً في الله، تتحمل أنت مؤنته، وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلّك عليهم إن أحببت.

الأدب
قال الجنيد : الأدب أدبان : أدب السر، وأدب العلانية. فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب.

التسليم
يقول الجنيد : من أشار إلى غير الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه بالمحن، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع إلى الله وحده كشف الله عنه المحن، وإن دام على السكون إلى غيره نزع الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزاً، وموته كمداً، وآخرته أسفاً ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله .

علامة الإيمان
سُئل الجنيد عن «علامة الإيمان» قال: الإيمان علامته طاعة من آمنت به، والعمل بما يحبه ويرضاه، وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده، حتى أكون عليه مقبلاً، ولموافقته مؤثراً، ولمرضاته متحرياً، لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئاً دونه، ولا أتشاغل عنه بسبب سواه، حتى يكون المالك لسرّي والحاثّ لجوارحي، بما أمرني من آمنت به وله عرفت، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء، ومخالفة كل الأهواء، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا، والإقبال على من هو أولى، وهذه بعض الشواهد والعلامات في ما سألت عنه، وصفة الكل يطول شرحه .
أهل التوحيد
وصفهم الجنيد بأنهم «تركوا مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمته».

مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي
مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي

الإدعاء في العلم
فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقَصَّر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت به الإشارة إليك وانبسطت به الألسن بالثناء عليك، فإن ذلك حتفاً لمن هذه الصفة صفته وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته».

فتوى الجنيد حول الذكر الخفي وفضل السر على العلانية
«الذكر الخفي هو الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره: فهو ما اعتقدته القلوب، وطويت عليه الضمائر، مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله، والتعظيم لله، والإجلال لله، واعتقاد الخوف من الله؛ وذلك كله في ما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب. والدليل على ذلك: قوله عز وجل: }يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {، وأشباه ذلك.
أما عن فضل عمل السر على عمل العلانية فلأن من عمل لله عملاً فأسره، فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه، ومعناه: أن يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه، أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقة من الثواب سبعين ضعفاً على ما عمل من لا يحل محله، والله أعلم.»

من مواعظه:
«اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، وأعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك».

ماذا تعلمنا فلسفة التاو

مــاذا تعلمنــا فلسفـة التــاو
والحكمــة الصينيـة القديمـة

من لاو تسه إلى تشوانغ زي

التاو (الله) أصل الوجود، مجرد عن الماهية
أزلي لا يحدّه شيء ولا تدركـه الأبصار والأفهام

رفض تشوانغ زي امتلاك شيء أو استخدام أداة
واعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الناس

قال تشوانغ زي لرسول ملك طلبه لإستلام الوزارة
أُفضِّل أن أسلي نفسي في حفرة قذرة على دخول بلاط الملوك

تعتبر التاوية Taoism والحكمة الصينية القديمة أحد الفروع الكبرى للحكمة الإنسانية وإحدى أبرز مدارس الترقي الروحي والأخلاقي، وهي تندرج ضمن تيارات السلوك الروحي الرئيسية في آسيا إلى جانب البوذية والفيدانتا الهندية. لكنها تمايزت عبر الزمن وانطبعت بالحضارة الصينية (بما في ذلك لغة الماندارين الصينية) والبيئة الخاصة الإجتماعية والسياسية والثقافية للشعب الصيني، الذي عاش لآلاف السنين في عمق جغرافي منعزل نسبياً لم يطله التفاعل مع ثقافات الحضارات المحيطة وترعرعت وسط الحياة الريفية البعيدة لمجتمع زراعي بسيط وللطبيعة الأخّاذة للجبال الصينية البعيدة. في تلك الطبيعة وسكونها وجلالها وعلى ضفاف الأنهر المتدفقة أو البحيرات وجد الصينيون القدماء طمأنينة النفس وعرفوا عظمة الصانع وجعلت تلك الحياة لديهم روح البساطة المتناهية والجلد والميل إلى التأمل والبحث في أسرار ذلك الكون اللامتناهي، لكن التاوية نهلت أيضاً من البيئة الثقافية الغنية التي قامت في بلاط الأباطرة الصينيين الذين أسبغوا الرعاية والتكريم على الحكماء والفلاسفة وأخذوا هم أنفسهم بالتاوية وتأثروا بها وخصصوا لها أرفع مكانة في الإرث الروحي والثقافي الصيني. وقد تفاعلت التاوية مع فروع عدة للحضارة الصينية مثل الشعر يدخل فيها مدارس التاي تشي Tai Chi المختلفة والـ Kung Fu ومدرسة الشاولينغ وعدد من المهارات البدنية والقتالية تقوم كلها على السيطرة على الجسد وترويض الطاقة الداخلية، وهي تشبه في هذا بعض فروع اليوغا الهندية مثل الهاتا يوغا Hatha Yoga والتانتريك يوغا Tantric Yoga التي طوّرها الحكيم باتانجالي Patanjali والتي تبلغ بالمريد من خلال سيطرة الفكر التامة على الجسد حدود التحقق الروحي وانكشاف حقيقة الوجود، كما إن هذا النهج في الترويض التام لطاقة الجسد يعطي للسالك القدرة على تحقيق أمور بواسطة الجسد لا يقوى عليها الإنسان العادي وقد تبدو مثل الخوارق للكثيرين.
لا تختلف التاوية كما سنرى في مقاصدها أو ما تفرضه من شروط الزهد والفقر وترك الدنيا عن المسالك الروحية الأخرى في جميع الديانات لكنها بسبب الخصائص الفكرية والثقافية والنفسية للصينيين تمتاز بأنها لم تلجأ إلى الميثولوجيا الدينية التي لجأت إليها شعوب أخرى مثل الإغريق والهندوس ولم تنتج «ديانات شعبية» تعتمد على الرموز والآلهة أو التماثيل، والإرث الحضاري والديني الصيني وبسبب خصائص القابلية الروحية للصينيين وميلهم للتأمل العقلاني لم يكن بها حاجة لهذه الأمور، وهنا يظهر لنا درجة تفوق الصينيين وسبقهم الكبير في مجال التعبير العميق والمباشر عن الحقائق الميتافيزيقية والروحية الشديدة التجريد.
لكن التاوية ليست ديناً بالمعنى المتعارف عليه ولم تكن في أي يوم،

في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي
في هذه البيئة الأخاذة والبعيدة عن الناس يمارس التاويون تأملهم الروحي

“التاوية رغم قدمها المغرق هي من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً على شكل الديانات الســــــماوية الثلاث”

بل هي مسلك للتأمل والتحقق الروحي عبر الممارسة وترويض النفس، وحيث يعتمد التعليم ليس فقط على نصوص أو كتب مرجعية بل على مرشد كامل أو Master يتولى تسليك المريدين في مدارج الترقي والتقدّم في طريق تحقيق التاو، والأهم هو أن التاوية التي قد تمارسها نخبة من السالكين والباحثين عن الترقي الروحي والحقيقة ليست بعيدة عن الناس العاديين فحتى الشخص العادي أو الفلاح في أقاصي الريف يعرف التاو أولاً من التنشئة على السلوك القويم والبساطة والصدق وحياة الفقر والعمل في الأرض، ثم أن له ثانياً مرجعاً في القرية أو في قرية قريبة يذهب إليها للتعلم واكتساب الحكمة والتدرب على ترقية النفس أخلاقياً وسلوكياً وروحياً.
وهذا ما يجعل من الممكن القول إن المعتقد الروحي الصيني يمكن اعتباره من أقدم فلسفات «وحدة الربوبية» Monotheism على غرار ما تطور لاحقاً في الشرق الأدنى ثم في الجزيرة العربية على شكل الديانات السماوية الثلاث الموسوية والنصرانية والإسلام. وبالطبع تقدم التاوية الصينية مثالاً آخر على مدى الخطأ في حصر ديانات التوحيد بالرسالات الروحية الكبرى الثلاث كما يفعل بعض الجاهلين بالتنوع الروحي الهائل في الحضارة البشرية وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بالوحي المبَّلغ للرسول (ص) إذ جاء فيه في سورة غافر :
} وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ ..{(غافر: 78)
وبرغم أهمية الكونفوشيوسية في الإرث الفلسفي الصيني فإن هذه المدرسة صنّفت غالباً بين مدارس الأخلاقيات وتنظيم العلاقات الإجتماعية والإنسانية في خانة العقيدة الدينية وقد اهتمت الكونفوشيوسية في تكوين الشخصية الفاضلة أكثر من اهتمامها بالسلوك الروحي والتأملي، وأدخلت بصورة خاصة أهمية احترام الآباء والجدود والتي تطورت إلى ما اعتبره البعض «عبادة السلف» وهذه كلمة خاطئة لأن الصينيين يعتقدون بأن الروح خالدة وهم لذلك يقدمون الإحترام لمن سبقهم من أهلهم عبر محراب صغير يقوم في المنزل، وهذه الممارسة لا تنتمي إلى التاوية لكن إلى التقاليد الصينية التي تشبه زيارة القبور عندنا ولدى الكثير من الحضارات باستثناء الهندوسية التي لا تنشئ قبوراً بل تتبنى تقليد حرق أجداث الأموات وإلقاء رمادهم في نهر مقدس مثل نهر الغانج.
ومن الأمور التي يعتقدها المؤرخون هو أن مؤسس التاوية وهو الحكيم لاو تسه Lao Tse كان معاصراً لكونفوشيوس لكن من يطلع على أعمال الرجلين يجد بينهما تفاوتاً كبيراً في النهج والمقاصد والتعليم يكاد يشبه التفاوت أو الفارق بين المعتقد الديني الشعبي وبين التأويل الصوفي، وحيث يمكن النظر إلى تعليم كونفوشيوس باعتباره الشريعة التي سنت للصينيين لاتباعها من أجل تحقيق الحياة الفاضلة بينما تمثل تعاليم لاو تسه والحكماء التاويين وأخصهم تشوانغ زي إرث التأمل الصوفي الذي يهتم بالزهد والفضيلة والابتعاد عن الحياة العامة سعياً وراء الكمال العرفاني والروحي، وقد لعبت الكونفوشيوسية دوراً عظيماً وشاملاً في الحياة العامة الصينية لكن التاوية حققت موقعاً خاصاً لها في الإرث الفلسفي الصيني عندما أصبحت لعهود متقطعة ولكن طويلة المذهب الرسمي للأباطرة الصينيين وللمستويات العليا من الدولة.
ونبدأ بالقول إنه على الرغم من العدد الكبير من الحكماء والفلاسفة الذين ينتمون إلى التاوية وتولّوا تعليمها عبر العصور فإننا سنركّز في هذا المقال على إثنين من أكبر حكمائها وأشهرهم عبر التاريخ وهما الحكيم لاو تسه الذي ينسب إليه المؤلف المرجعي الشهير تاو ته كينغ Tao Te Ching ثم الحكيم تشوانغ زي Chuang Zi وتكتب أحياناً Zuwangzi وتعتبر أهمية تشوانغ زي بالنسبة للتاوية بمثابة أهمية أفلاطون للحكمة السقراطية، إذ إن سقراط لم يكتب شيئاً في حياته بينما وقع على تلميذه أفلاطون أن يشرح فلسفته ومبادئه في المحاورات التي ألف قسماً منها بعد وفاة المعلّم.. كذلك فإن لاو تسه لم ينسب إليه سوى كتاب «تاو ته كينغ» الموجز بينما ألف تشوانغ زي عشرات المؤلفات في عرض الفلسفة التاوية حتى أن بعض الدارسين يعتبرونه الأب الحقيقي للتاوية نظراً إلى الأثر الكبير الذي تركته كتاباته وسيرته على الإرث الفلسفي والحكمي الصيني.

“إهتمت الكونفوشيوسية بنظام الأخلاق والمجتمع وركّزت التاوية على حياة الزهد والكمال العرفاني عبر التأمـل وقطع العــــلائق والتعلم على يد مرشــــد كامل”

كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم
كونفوشيوس وضع للصين القدديمة قوانين سلوك لا زال تأثيرها قويا حتى اليوم

ما هو التاو؟
لا بدّ من أجل فهم التاوية البدء بالبحث عن ما يعنيه تعبير التاو في الإرث الشعبي الصيني وفي فلسفة التاو. والواقع أنه وبسبب صعوبة اللغة الصينية والوجوه المتعددة التي يمكن لكلمة واحدة أن توحي بها للقارئ فقد برز أكثر من شرح أو تعريف لتعبير التاو في الترجمات والأبحاث التي حاولت نقل النصوص الفلسفية الصينية القديمة إلى لغات العالم، وقد وجدنا بالإستناد إلى الترجمات الإنكليزية التي قام بها مختصون مجموعة تعريفات ركّز كل منها على معنى من معاني هذا المفهوم الأساسي فإذا بتعبير «التاو» يعني بناء على تلك التعريفات أو الوجود الإلهي أو الخالق أو الرب، والتاو هو المطلق المتخلل للوجود والذي يفعل فيه من دون أن يقوم بأي عمل فهو «مسبب الأسباب كلها» أو السبب الأصلي للحياة ونظامها والتي اتفق العابدون جميعاً على اعتباره مجرداً عن الماهية أزلياً لا يحدّه شيء ولا تدركه الأبصار أو الأفهام.
أما صلة «التاو» القوية بمفهوم «الطبيعة» فهي لا تعني أبداً أن التاوية تستند إلى عبادة الطبيعة كما في بعض الديانات البدائية بل هي شبيهة بإشارة الديانات السماوية إلى الطبيعة بإعتبارها مظهر وجود الخالق والقوانين التي تحكم الكون.
وبحسب أكثر الكتابات التاوية بدءاً من لاو تسه فإن التاو «لا يمكن التعبير عنه بالألفاظ وكل ما نستطيع أن نصفه به في عبارات ضعيفة تقريبية مثل قولنا إنه وحدة الأشياء كلها وانسيابها الهادئ من نشأتها إلى كمالها، أو هو القانون أو النظام الكوني الخفي الذي يسيطر على هذا الانسياب، وهذا التاو موجود ثابت منذ الأزل وقبل أن توجد السماء والأرض» وفي هذه الوحدة الكونية تتلاشى كل المتناقضات، وتزول كل الفروق، وتتلاقى كل الأشياء المتعارضة.
للنظر في تعريف يقترحه الحكيم لاو تسه لـ «التاو» وهو يصفه على الشكل التالي:
أنظر إليه فلن تراه لأنه يتعدى الشكل
إستمع إليه فلن تسمعه لأنه يتعدى الصوت
حاول أن تدركه فلن تستطيع لأنه غير ملموس
هذه الثلاثة لا يمكن وصفها
لذلك هي كلها في الواحد
(تاو ته كينغ: 14)
ويتابع لاو تسه محاولة تعريف ما لا يمكن أن يعرف فيقول في النص نفسه:
حقيقة لا انقطاع فيها متعدية لكل وصف
وهي تعود إلى اللاشيء
إنها شكل ما ليس له شكل
صورة ما ليس له صورة
وهي تسمى ما لا يمكن وصفه
المتسامي فوق كل خاطر
(تاو ته كينغ: 14)
هذا الوصف يذكِّر بالتعبير القرآني } سبحان الله عما يصفون{(المؤمنون:91) وكذلك قوله جل من قائل } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (الشورى: 11)
هذا الوصف لـ «التاو» يجعله قريباً جداً من وصف ما أسمته الديانات السماوية (الله) وهي تسمية لا تدل إطلاقاً على حقيقة الموجود الأولي والذي لو أنفقنا الدهور على محاولة وصفه فإننا لن نستطيع لأنه متعد لكل العبارات والأوهام. لكن الله أخبر عن نفسه بلغة تستهدف جعل طريق لعبيده إليه وتقريب حقيقته المغلقة على الأفهام إلى نفوسهم وتمكينهم من التصديق بما جاء به من أرسلهم من الأنبياء والأولياء واتباع ما أبلغه المولى من حقائق ومن هدي للناس بلسانهم وبما يلائم أفهامهم. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها).

مراكز تأمل  بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها
مراكز تأمل بناها الزهاد التاويون معلقة في انكسارات صخرية يصعب الوصول إليها

الحكيم لاو تسه
ورد ذكر لاو تسه في كتابات المؤرخ الصيني الكبير تشيما كْيِن الذي مات في عام 85 قبل الميلاد وفي كتابه عن السير قدم المؤرخ أهم دليل على أن لاو تسه كان شخصاً حقيقياً، على عكس ما زعم الكثير من الغربيين وأن كتابه الشهير Tao Te Ching كتاب حقيقي كتب في ظروف محددة. وقد ذكر كيِن أن لاو تسه كان مشرفاً على المكتبة الملكية لسلالة «كاو» وبالنظر إلى تحلل الاسرة وهبوط شأنها فقد قرر الإعتكاف والإنسحاب من الحياة العامة وفي الطريق وعند أحد مداخل المدينة حيث كان يحاول الانسحاب خلسة إلى الطبيعة متخفياً بشخصية فلاح عرفه الشخص المولج بمراقبة المدخل، وكان هو الآخر من أتباع التاوية الدارسين، فألحّ عليه بأن يترك له أثراً مكتوباً قبل أن يدخل في مرحلة الإعتكاف والإنسحاب من العالم. عندها وبناء على طلبه قام لاو تسه بكتابة آرائه عن «التاو وخصائصه» في جزءين وأعطاه المخطوطة ودخل في الإعتكاف. ويقال إن لاو تسه مات بعد ذلك ولم يعرف أين ومتى ولم يسجل في زمانه تاريخ معروف لوفاته. ونحن نعرض إلى جانب هذا الكلام مختارات من أقوال الحكيم التي وردت في مؤلف «تاو ته كينغ»، وقد عرضنا في هذا المقال لمختارات من حكمة لاو تسه لكنه نزر يسير ونحن ننصح بالإطلاع على الترجمات الإنكليزية أو الفرنسية الرصينة لهذا السفرالنفيس، ونجد من أفضلها تلك التي وضعها بالانكليزية الكاتب الصيني جيا فو فنغ في العام 1989.
Gia-fu Feng and Jane English, Vintage Books, 1989

من أقوال الحكيم تشوانغ زي

أن تعرف أن المعرفة يمكن أن لا تَعرِف هو أعلى درجات المعرفة
* * * *
من السهل أن تمشي دون أن تترك أثراً
لكن أصعب كثيراً أن تمشي دون أن تلامس قدماك الأرض
* * * *

من لا يكون شريكاً
في التحول الكوني
كيف يمكنه أن يُحوِّل غيره من الناس
* * * *
في المياه الراكدة تنعكس الأشياء
والفكر المطمئن،
فكر الحكيم المطمئن
هو مرآة الكون وكل ما هو كائن
* * * *
أن تنسحب إلى داخلك لكن دون مبالغة
أن تطل على ما هو خارجك لكن بقدر
أن تعرف كيف تقف في الوسط تماماً
تلك ثلاثة عناصر لاكتساب الطاقة

تشوانغ زي
يعتبر تشوانغ زي أعظم حكماء التاوية بعد لاو تسه وأغزرهم إنتاجاً ويـُعتقد أنه عاش في فترتي حكم الملك هوي من ليانغ والملك شوان من تشي، في الفترة من 370 إلى 301 ق.م.. وقد تقلّد لبعض الوقت منصباً صغيراً في مدينة خيان. وزار قصور الملوك لكن يرجح أنه ابتعد بصورة مبكرة عن الحياة العامة وتحوّل إلى الزهد التام والعيش البسيط في الطبيعة، وهو رغم شهرته التي ذاعت في جل أنحاء الصين ورغم توسل الملوك له بتقلد الوزارات أو الحكم إلى جانبهم رفض وأصرّ على متابعة حياته البسيطة. وقد روي أنه لما عرض عليه دوق- ويه رئاسة الوزارة ردّ على رسول الأمير الذي حمل إليه العرض رداً مقتبضاً يدل على مدى حذره الشديد من السلطة وما يكتنفها من أهواء ومخاطر قال لرسول الملك: «اذهب من هنا لساعتك ولا تدنسني بوجودك، لخير لي أن أسلي نفسي وأمتعها في حفرة قذرة من أن أخضع لقواعد في بلاط ملك من الملوك».
وفي حادثة ثانية رفض تشوانغ زي منصب الوزير الأول في مملكة خو وأمر رسولين حملا له الطلب من الملك بالعودة من حيث أتيا وقد أوردنا القصة ضمن عرضنا لأقوال مختارة للحكيم تشوانغ زي.
وبصورة عامة فقد كانت نظرة تشوانغ زي للحكومات ولأهل السلطان مشوبة بنفس النظرة السلبية للحكيم لاو تسه وكان تشوانغ زي يقول إنه إذا وصل الطيش بأي من الفلاسفة الحقيقيين إلى وضع يصبح فيه متولياً لشؤون إحدى الممالك أو البلدان فإن الخطة المثلى التي يجب عليه أن يسلكها هي أن لا يفعل شيئاً، وأن يترك الناس أحراراً يضعون ما يشاءون من نظم حكمهم وفي هذا يقول «لقد سمعت عن ترك العالم وشأنه والكف عن التدخل في أمره ولم أسمع عن حكم العالم». وعرف عن تشوانغ زي أنه كان لا يتكلم إلا قليلاً لأن الكلام في نظره يُضِل بقدر ما يهدي، ولأن التاو وهو جوهر الوجود ومحركه الواعي لا يمكن معرفته بالفكر ولا يمكن التعبير عنه بالألفاظ بل كل ما في الأمر أنه يمكن الشعور به «في الدم» أي بالإختبار الحدسي والكشف العرفاني.

تشوانغ زي والعصر الذهبي
هذه النظرة الرافضة للسلطة ولتقسيم الناس إلى طبقات ومنازل وحكمهم بوسيلة القوة ألهمت تشوانغ زي أن يكتب عن ما يعتقد أنه عصر ذهبي افتراضي حيث لم تكن هناك ثمة حكومات بل كان الناس أحراراً يديرون أمورهم ببساطة ومن دون تدخل حاكم.
يقول تشوانغ زي في وصف ذلك العصر:
«لقد كان الناس يعتقدون أن طعامهم البسيط لذيذ وكاف، وثيابهم البدائية جميلة، وكانوا سعداء بأساليبهم البسيطة ومطمئنين في مساكنهم المتواضعة وكان مرجحاً لأهل ذلك الزمان أن لا يموتوا حتى يشيخوا».
ويتابع تشوانغ زي وصف ملامح العصر الذهبي فيقول:«كان الناس يصنعون ثيابهم بأيديهم وكانوا يحرثون الأرض ويحصلون من ذلك على الطعام، كانت تلك مهاراتهم المشتركة، وكانوا جميعاً في ذلك مثل رجل واحد، فلم يفكروا في أن يقسموا بعضهم طبقات، فكان كل منهم يعيش وفق طبيعته ومهاراته. كان الرجل الفاضل في ذلك الزمن يمشي بتؤدة ومهابة كان نظرهم دوماً إلى الأمام، ولم تكن هناك مسالك مطروقة على التلال أو طرق مشقوقة، وعلى الأنهر لم تكن هناك زوارق أو سدود. كانت جميع المخلوقات تعيش مع بعضها بعضاً، وكانت أماكن عيشهم متجاورة. كانت الطيور والوحوش تتكاثر لتؤلف الأسراب والقطعان وكان العشب والأشجار تنمو بغزارة وكان يمكن أن تأخذ بزمام الطير أو الوحش دون أن يبديا مقاومة. نعم في عصر الفضيلة الأولى كان الناس والطيور والوحوش يعيشون معاً، وكانوا جميعاً متساوين مع بقية المخلوقات، وبما أنهم كانوا مثل عائلة واحدة فكيف كان لهم أن يميزوا من هو الأدنى بينهم ومن هو الأعلى؟ وبسبب كونهم مجردين من الرغائب فقد كانوا جميعاً في حال من البساطة المطلقة وكانت طبيعتهم كما ينبغي أن تكون».
يضيف في وصف «عصر الفضيلة» الذي سبق حضارتنا الحالية فيقول:

معبد السحاية البيضاء
معبد السحاية البيضاء
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل
مركز للتأمل التاوي أقيم في منطقة نائية على رأس جبل

“من واجب الرجل العاقل أن يولي الأدبار من كل ما يتعلق بالحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاســـفة والملوك”

«في ذلك العصر، عصر الفضيلة التامة، لم يكن الناس ليعطوا أي أهمية لاتباع حكيم أو يستخدمون أشخاصاً ذوي مواهب. الأفضل مكانة فيهم كانوا مثل الأغصان العليا في شجرة، والناس على العموم كانوا مثل الغزلان البرية، كانوا على الاستقامة والصدق، وكانوا كذلك بالبداهة ودون أن يعرفوا أن هذا السلوك يسمى سلوكاً صحيحاً، كانوا يحبون بعضهم بعضاً دون أن يعلموا أن ذلك هو من قبيل المودة، كانت طبيعتهم الصدق والنزاهة من دون أن يعلموا أن تلك صفات محمودة، وكانوا يوفون بالعهود دون علم منهم بأن ذلك يسمى حسن النية، وكان كل منهم يسأل الآخر المساعدة دون أن يعلم أنهم بذلك يقدمون أي معروف أو منحة للآخر، لذلك فإن أعمالهم لم تكن تترك أي أثر، ولم يكن يبقى لذلك في الزمن أي سجل لتلك الأعمال..
من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك وقد وضع الحكيم لاو تسه سجية البساطة في أعلى مقام معتبراً أن التاو يشبه لجهة البساطة الماء، ويعتبر أن عظمة الماء هي في أنه يفيد جميع الأشياء وفي كونه ينساب بإختياره نحو الأماكن الدنيا وهي التي يتجنب الناس الاستقرار فيها. من هنا فإن سلوك الماء هو أقرب ما يكون إلى التاو. لذلك تعتبر التاوية أن آلام البشرية بدأت عندما انتهى ذلك العصر وبدأت الفوارق بين الناس بالظهور، وهذه النظرة إلى مجتمع فاضل أصلي ملتصق بالطبيعة ويقوم على حسن الطوية والبراءة والمساواة البديهية ليس فقط بين الناس بل بين جميع المخلوقات، جعلت من التاوية فلسفة جاذبة للتيارات الليبرالية بل الأنارشية التي تدعو إلى مجتمع يقوم على العلاقات العفوية بين الناس من دون تدخل حاكم أو سلطة قامعة.

كره السلطة
رغم تسليم تشوانغ زي بأن زوال المجتمع الفاضل أمر مقدر في قانون التحول الدائم، فإنه اعتبر أن من واجب الرجل العاقل أو الحكيم أن يولي الأدبار حين يشاهد أولى معالم الحكومة، وأن يعيش أبعد ما يستطيع عن الفلاسفة والملوك، ينشد السلام والسكون في الغابات، وأن يترك كل ما يملك وكل جاه أو منصب ويتكرس لاتباع التاو وهو الخلاق الأكبر والذي يمنّ بالحفظ على جميع الكائنات. (وذلك موضوع اجتهد آلاف المصورين الصينيين في وضع الرسوم الرائعة بالحبر الصيني لتصويره).
عندما طلب منه أحد الملوك أن يعلمه الحكمة تردد تشوانغ زي لكنه قبل أخيراً وخاطبه بهذه الكلمات: «يجب أن تكون ساكناً بلا حراك، أن تكون طاهراً، وان لا تعرّض جسدك لأي جهد، ولا أن تهيج طاقتك الحيوية، وعندما لا ترى عيناك أي شيء ولا تسمع أذناك شيء وعندما لا يعرف فكرك أي شيء فإن الروح ستعتني بالجسد وتحفظه وعندها فإنك ستعيش طويلاً. انتبه إلى ما هو في داخلك واغلق كل الطرق التي تصلك بما هو خارجك -أكثر العلوم ليس فيها أي خير- انتهى كلام تشوانغ زي.

“تخلص من جميع الرغائب ينكشف لك السر
إستمسك بالرغبة وكل ما ستراه هو مظهر السر”

موقفه من التملّك والتكنولوجيا
رفض تشوانغ زي أن يمتلك أي شيء وكان يعيش في الطبيعة على النزر اليسير من الغذاء يتخذ لنفسه مكاناً هادئاً للتأمل وسط الطبيعة الصينية الساحرة، وكان رغم توافر الأدوات الكثيرة في عصره يرفض الإستعانة بأي منها إذ كان يعتبر أنه من الأجدر به القيام بأمر عيشه البسيط بيده ودون استعانة بأي أداة، وكان وهو المؤمن بنهج المساواة بين الناس، يعتبر التكنولوجيا فتنة وسبباً للتفاوت بين الأفراد ولتفرقهم، وهذه النظرة السباقة منذ أكثر من 2400 سنة تجد صدى جاهزاً لها في التيارات الفكرية المتزايدة الإتساع التي ترى في التكنولوجيا الحديثة سبباً من أسباب أزمة البشر واتساع الفوارق بينهم سواء كأفراد أم كمجتمعات، فهناك الآن هوة شاسعة تفصل الشعوب المتقدمة عن الشعوب الفقيرة في العالم التي لا تستطيع الإستحواذ على التقنيات الحديثة في العمل والإنتاج فتجد نفسها بذلك في أسفل السلم الإنساني من حيث التقدم الاقتصادي والاجتماعي.

نظرته إلى الموت
عندما ماتت زوجة الحكيم تشوانغ زي جاء أحد أصدقائه لمواساته فوجده جالساً على الأرض يضرب على وعاء نحاسي وينشد. قال له صديقه: عندما تكون الزوجة قد عاشت مع زوجها وأنجبت له الأولاد ثم تموت في كهولتها قد يكون مقبولاً أن لا ينوح الزوج عليها لكن أن يغني ويطبل أليس في ذلك مبالغة وغرابة؟ أجاب الحكيم: كلا الأمر ليس كذلك. هل تظن أنني عندما ماتت كنت مثل غريب ولم أتأثر ؟ لكنني فكرت في الوقت الذي لم تكن فيه قد ولدت بعد. عندها ليس فقط لم يكن لها جسد بل لم يكن فيها أي روح، ثم تبدّل الأمر وظهر الجسد ودخلت فيه الحياة، ثم طرأ تغيير آخر فإذا هي الآن ميتة. إن العلاقة بين كل هذه الحالات هي مثل توالي الفصول الأربعة: الربيع والصيف والخريف والشتاء. وها هي الآن تنام ووجهها إلى فوق في القاعة الكبرى. فلو بدأت النواح والبكاء عليها فإنني سأكون كمن لم يفهم ما قسم لها في الوجود، لذلك امتنعت وحافظت على طبيعتي.
يعطي تشوانغ زي مثالاً آخر عن شخصين يعانيان من عاهة ويمران بجانب القبور فيبدآن يشعران في جسديهما أن الموت يقترب منهما. سأل أحدهما الآخر: هل تخاف الموت؟ جاء الجواب: «لمَ يجب أن أخافه؟ الحياة هي شيء معار والجسد المستعار ليس سوى تراب. الحياة والموت هما أشبه بتوالي الليل والنهار».
بصورة أدق، ليس الموت في رأي تشوانع زي إلا تبدلاً في الصورة، بل إنه في نظره تغير من حال إلى حال أحسن منها، من هنا يورد الحكيم أكثر من قصة لينتهي منها بطرح السؤال حول هذا الخوف الذي يشعر به الناس تجاه موت الجسد وإذا ما كان في غير محله لأن الإنسان لا يعرف حقيقة الموت كما إنه لا يعرف حقيقة الوجود وحقيقة وجوده نفسه، وهذا الجهل بحقيقة وجودنا المفارق هو في أساس الخوف غير المبرر من الموت.
من أجل الدلالة على هذه النظرة الفلسفية العميقة إلى الموت يورد تشوانغ زي قصة عن مرض شخص حكيم يدعى تزه- لاي وكان قد أصبح طريح الفراش ينازع الموت، ووقف من حوله زوجته وأبناؤه يبكون. وذهب لي يسأل عنه فلما أقبل عليهم قال لهم: «اسكتوا وتنحوا عن الطريق! ولا تقلقوه في حركة تبدله»… ثم اتكأ على الباب وتحدث إلى الرجل المحتضر. فقال له تزه- لاي: «إن صلة الإنسان بالين واليانغ (قطبا الوجود) أقوى من صلته بأبويه. فإذا كانا يتعجلان موتي لكنني أعصي أمرهما فإنني أعدّ حينئذ عاقاً فظ الطباع. هنالك «كتلة الطبيعة العظمى» التي تجعلني أحمل هذا الجسم، وأكافح في هذه الحياة، وتهدّ قواي في سن الشيخوخة، ثم أستريح بالموت. إذاً فذلك الذي يعنى بمولدي هو الذي يعنى بوفاتي. فها هو ذو صاهر يصب المعادن، فإذاً كان المعدن الذي ينساب أثناء صبه يناديه. «يجب أن أكون سيفاً ثميناً» أو غير ذلك فإن الصاهر العظيم سيعتبر هذا المعدن خبيثاً بلا ريب لأنه يتجرأ على الصانع، وهذا أيضاً شأن الإنسان، الذي إذا ما أصرّ أن يكون إنساناً فقط، لأنه في يوم من الأيام تشكل في صورة الإنسان، فإن من بيده تصوير الأشياء وتشكيلها سيعده بلا ريب مخلوقاً خبيثاً لأنه يتجرأ على صانعه، بنفس المعنى فإن علينا أن ننظر إلى السماء والأرض نظرتنا إلى مصهر عظيم، وأن ننظر إلى مبدل الأشياء نظرتنا إلى صاهر عظيم، عندها سنكون في مكاننا الحق أينما ذهبنا.

المعرفة وقصور الفكر
يعتقد الحكيم تشوانغ زي أن مشكلة الإنسان تنبع من قصر تفكيره أكثر مما تعود إلى طبيعة الأشياء نفسها، وهو يستغرب كيف نسعى كبشر ونحن المخلوقين بعقولنا المحدودة أن نفهم لغز العالم الأكبر الذي لا نمثل نحن فيه سوى جزيئات صغيرة عابرة، ونحن بهذا المعنى نحاول تفسير الكل بمصطلحات الجزء وهو أمر يتضمن الكثير من الإسراف والاعتداد بالنفس. لهذا يرى تشوانغ زي أن تلك المحاولات أدت إلى نشوء ما لا يحصى من النظريات المتناقضة مما يؤكد أن أصحابها جميعاً بعيدون جداً عن إدراك لغز الوجود، وهو يقول إن العقل الإنساني لا يفيد في فهم الأشياء الغيبية لذلك، فإن التوصّل إلى معرفة سر التاو يقتضي من الإنسان أولاً أن يكبت معارفه العقلية وينسى نظرياته القياسية وأن يسعى لاستشعار الحقيقة بالحدس، أي بالاختبار المباشر وهذا هو النهج الذي تبنته الفيدانتا الهندية والبوذية والتصوف الإسلامي والذي يعتبر أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم أو التحصيل النظري بل بالمجاهدة وصقل النفس بالمجاهدات والطاعات حتى تصفو كالمرآة وتصبح قابلة لانطباع الحقائق اللدنية عليها. يقول لاو تسه في الفقرة الأولى من التاو ته كينغ .

حلم الفراشة ونسبية الفكر
من أجل إعطاء مثل على حجم الحيرة التي يمكن أن يقع فيها المرء إذا حاول فهم الوجود بالمقاييس العقلية كتب تشوانغ زي مرة ما سماه حلم الفراشة وهو حلم أصبح من أشهر النصوص الفلسفية وأكثرها انتشاراً في العالم. قال تشوانغ زي أنه رأى في منامه أنه كان فراشة ترفرف بجناحيها جذلة مسرورة هنا وهناك، ثم استيقظ ليجد نفسه مجدداً في شخصية تشوانغ زي. المشكلة التي واجهته عندها هو أنه لم يعد متأكدا إذا كان في الحقيقة رجلاً كان يحلم بأنه فراشة أم أنه الآن فراشة تحلم بأنها رجل يدعى تشوانغ زي. هذا المثال أراد منه الحكيم التأكيد على نسبية الحواس والفكر وأنه لا يمكن الركون إلى أي منهما في معرفة الحقيقة المطلقة.
في القسم التالي سنترك لأقوال الحكيمين لاو تسه وتشوانغ زي أن يقدما تعريفاً لفلسفة التاو والتي لا تختلف في الجوهر عن فلسفات التوحيد الكبرى لكنها تتميز بالأسلوب الرائع الذي يعبّر به الصينيون عن حقائق الروح وهو أسلوب مستوحى في أغلب الحالات من صور الحياة اليومية ومن الطبيعة الصينية الساحرة في غموضها وجلالها وأسرارها.

تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين
تمثال-ضخم-للحكيم-لاوتسه-أقيم-على-الجبل-المقدس-كينغ-يوان-أحد-أهم-مراكز-التأمل-الروحي-في-الصين

دفاع سقراط

دفاع سقراط أمام محكمة أثينا.

كيف خاطب الحكيم قضاته في أشهر مرافعة في التاريخ؟

لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه باعتباره الشرّ الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم

سقراط مخاطباً المحكمة:
مهما كان قراركم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرّات عدة

رداً على اتهامه بالإلحاد
أن لديّ إيماناً عميقاً يفوق ما يدعيه
أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني

يعتبر دفاع سقراط كما أورده أفلاطون في عمله الشهير Apology of Socrates من أعظم أعماله الفلسفية، ومن الصعب تسمية هذا العمل المهم بالمحاورة لأنه في الحقيقة يتركز على عرض الدفاع الذي قدمه سقراط أمام أهل أثينا الذين اجتمع منهم نحو 500 من الأعيان والناس العاديين لمحاكمته بتهمة إفساد الشبيبة وزعزعة عقائد العامة، ثم النظر في العقوبة التي يستحقها إذا ما تم التصويت بإدانته.
لا بدّ من التوضيح أن كلمة Apology لا تعني في اليونانية «الاعتذار» بل تعني «توضيحات» أو «شرح» بهذا المعنى فإن الترجمة المناسبة لهذا العمل المهم يجب أن تكون «مطالعة سقراط» أو «دفاع سقراط» وهذا مع العلم أن سقراط لم يحاول حقيقة أن يدافع عن نفسه بالمعنى المتعارف عليه، أي أن يوظف كل جهده وقوة الإقناع التي يملكها لدفع متهميه لتبرئته، فهو كما سيتضح لم يحاول ذلك ولو أنه حاول فإنه كان سيحقق ربما الحصول على تبرئته من التهم التي سيق إلى المحاكمة على أساسها، إذ إن محكمة أثينا أصدرت حكم الإدانة ضده بأكثرية بسيطة بلغت ثلاثين صوتاً وكان ممكناً لجهد أكثر تصميماً منه أن يحول تلك الأصوات لصالحه. أما لماذا لم يظهر سقراط اهتماماً كبيراً بإقناع المحلفين ببراءته فستبدو الحكمة منه في سياق هذا المقال. نلفت إلى أن مطالعة سقراط هي من أعلى أشكال التعليم الحكمي، إذ إن سقراط لم يعبأ بالرد على الحجج والاتهامات قدر سعيه لنصح متهميه وإرشادهم وقد تابع سقراط ذلك حتى بعد إصدار الحكم عليه بالموت بتجرع السم، وقد تضمّنت مداخلته الختامية عبارات عميقة دعت إلى عدم الخوف من الموت باعتباره انتقالاً من حال إلى حال كما تضمنت لغة في غاية الرقة حتى تجاه الذين أدانوه بما في ذلك قوله إنه يغفر لهم لأن ما يحصل له أمر مقدر وهو يحمل له الخير على عكس ما ظن محاكموه.
لقد اندثر محاكمو سقراط بل اندثرت من بعده أثينا نفسها التي جرّعته السم لكن سقراط بقي حياً خالداً على مر الدهور وتحولت مرافعته البليغة أمام متهميه إلى أشهر مرافعة فلسفية في التاريخ الإنساني، فهي في الحقيقة مجموعة دروس في الفضيلة وفي ما يجب أن يسعى إليه الناس وهي دعوة إلى عدم الخوف من الموت والتيقين بأن الصالحين لا يمكن أن ينالهم شر لا في هذه الدنيا ولا بعد موتهم.
لقد تمتّ محاكمة سقراط من قبل محكمة كانت أشبه باجتماع جماهيري لأنها ضمت ربما أكثر من 500 شخص تم اختيارهم بالقرعة من بين متطوعين من أهل أثينا وكان مسموحاً بحسب قانون أثينا أن تصدر تلك المحكمة أحكامها بالتصويت وبالأكثرية البسيطة أي انه كان ممكناً الحكم على شخص بالموت بفارق صوت واحد، بل إن محاكمة سقراط وإصدار الحكم عليه تمّا في جلسة واحدة وهو ما علق عليه الحكيم في مداخلته الأخيرة عندما لفت الى أن هذا الأمر غير قائم في مدن أخرى، وأنه لو أعطيت المحكمة وقتاً فإنه كان سيتمكن بصورة أفضل من إقناع المحاكمين ببراءته. أخيراً فإن الحكم بالعقوبة كان يصدر في أثينا كحكم مبرم لا يقبل الاعتراض أو الاستئناف كما هي الحال في الانظمة القضائية الحديثة.
كان ذلك نموذجاً سيئاً على ديمقراطية غير مقوننة كان سقراط من الناقدين البارزين لها بسبب ما تحمله من مخاطر الإنحياز بالعواطف أو الأحقاد السياسية أو التأثر بديماغوجيين يمكنهم دفع مواطنين لا يمتلكون النضج ولا الخبرة إلى إقرار أحكام جائرة ومتسرعة ولهذا السبب ربما فإن سقراط لم يتردد في مدح النظام السياسي الذي تبنته اسبارطة وهي العدو اللدود لأثينا والذي أوكل الحكم لنخبة مقتدرة ورفض الديمقراطية المباشرة التي تبنتها أثينا وكانت في نظر المؤرخين أحد أسباب سقوطها في النهاية.

سقراط وديمقراطية العدد
كان رأي سقراط (وكذلك رأي أفلاطون) هو أن مفهوم أكثرية الشعب مفهوم سيىء للحكم لأن الناس في معظمهم جهلاء ولا يتمتعون بأي مهارات لذلك فإنهم في كل مرة يحكمون سيرتكبون أخطاء. في المقابل فإن الحكم في نظر سقراط هو حرفة متخصصة ويحتاج إلى ملكات وإلى مهارة كبيرة ويجب بالتالي إيكاله فقط إلى أشخاص أذكياء ومهرة، وهؤلاء هم بالضرورة أقلية بين الناس. وقد أنكر سقراط أن تكون المعرفة المتوافرة للناس العاديين أو ما يمكن تسميته «المعرفة الشعبية» تستحق أن تسمى معرفة وفي أفضل الحالات فإن الجمهور لديه «آراء» وليس معرفة وهو قابل للتأثر بأهوائه وأي إنطباعات من الخارج وهو في جميع الأحوال غير مطلع على حقيقة الحال وبالتالي فإنه عندما يطلب من جمهور الناس أو «الأكثرية» أن تحسم في شأن مصيري فإن الأرجح أن يؤدي ذلك إلى أخطاء توقع الضرر بالمجتمع.
بهذا المعنى، فإن حكم العديد من الأثينيين والقادة في اليونان هو أن الديمقراطية المباشرة أي الحكم برأي الأكثرية ليس سوى حكم الغوغاء على حساب النخبة، وهو ما يوازي قلب العالم رأساً على عقب.
وقد ارتكبت الديمقراطية اليونانية أخطاء فادحة أظهرت خطورة حكم الغوغاء عندما لجأ جمهور غاضب عمل كـ «محكمة شعبية» إلى الحكم بإعدام عشرة جنرالات من قادة الجيش بتهمة أنهم لم يهبّوا إلى مساعدة أثينيين خلال الحرب. واعتبرت تلك الحادثة مثالاً صريحاً على مخاطر الديمقراطية الشعبية وهي حادثة ساهمت بحسب المؤرخين في هزيمة أثينا في حرب البيلوبونيز في مواجهة إسبارطة وربما كانت أحد الأسباب وراء محاولتين لإنشاء حكم أقلية أو حكم نخبة في أثينا ، لعب دوراً أساسياً في إحداهما إثنان من تلامذة سقراط هما كريتياس (أحد أقارب أفلاطون) لكن هاتين المحاولتين فشلتا وتمت إعادة العمل بالديمقراطية الأثينية المعهودة على عِلاتها.
يعتبر مؤرخون أن محاكمة سقراط جاءت على هذه الخلفية أي وجود شكوك بأنه أيد التخلص من الديمقراطية الأثينية الهشة لصالح حكم نخبة قوي. ولا يوجد بالطبع دليل على ذلك لأن سقراط رغم قناعاته بمساوئ الديمقراطية المباشرة، فإنه اجتنب الدخول في السياسة بل كان يعتبرها خطراً مميتاً على طالب الحقيقة. وقد أثار الحكيم هذه النقطة في دفاعه أمام «محكمة الشعب» إذ قال :
«يا أهل أثينا، لو كان لي اهتمام بالسياسة فإن ذلك كان سيتسبب بفنائي منذ زمن طويل، ودون أن ينجم عن ذلك أي خير لي أو لكم. وأرجو أن لا تنزعجوا من تمسكي بصدق القول لأن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأي رجل يفكر في الوقوف في وجهكم أو في وجه أي جمهور وأن يحاول إصلاح الظلم وأخطاء الحكم أن يفعل ذلك من دون أن يعرّض نفسه للموت، لذلك فإن من يريد أن يعمل للخير والحق ويضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سياسي».
ولهذا فقد كان سقراط كارهاً للسياسة ناصحاً للسالك في درب الحقيقة بأن يبتعد عنها لأنها بيئة الهوى والشرور ومجلبة للنفاق ولأن الاقتراب من أهل السلطان عار كبير على طالب الحكمة.

ديمقراطية أثينة - سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2
ديمقراطية أثينة – سقراط انتقد إيكال الأمور للجمهور لأنه عرضة للأهواء ولأن الحكم يتطلب مهارة وحكمة 2

” من أراد العمل للخير والحق وأن يضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سيـــاسي  “

سقراط المزعج
حقيقة الأمر هو أن الدور المزعوم لسقراط في محاولة التخلص من الديمقراطية المباشرة لم يرد في أسباب المحاكمة وليس هو السبب الأهم بل السبب الأساسي هو أسلوب سقراط الفريد في محاولة دفع الناس للتركيز على الحقيقة والمثل العليا وإظهار ضعف السياسيين والمفكرين و«وجهاء» المجتمع الذين يدعون معرفة الحقيقة وهم بعيدون عنها. وهذا الأسلوب في دفع الناس لأن يدركوا جهلهم كان مرتكز المنهج السقراطي إذ كان هدف الحكيم وما يعتقد أنه الخدمة التي يقدمها لأهل زمانه وخصوصاً اللامعين منهم أو الشباب هو امتحان ادعائهم العلم أو الحكمة عبر حوار وأسلوب في السؤال والتدرج من مسألة إلى مسألة إلى أن يريهم في الحقيقة أن ما يعتقدونه من علمهم أو حكمتهم ليس في الحقيقة علماً ولا حكمة. وبالطبع فإن الكثيرين من هؤلاء كانوا يشعرون بالغيظ من سقراط بسبب ذلك لأنه أحرجهم، ويعترف سقراط في دفاعه أمام «المحكمة» أن أسلوبه في امتحان أدعياء المعرفة والحكمة جعل له أعداء كثيرين في المجتمع ولاسيما وأنه اعتاد أن يحاور في الأسواق وفي الأماكن العامة وليس في مجلس خاص يجمعه مع دعاة المعرفة.
واقع الأمر أن أكثر الذين اجتمعوا لمحاكمة سقراط كانوا يعرفونه أو يعرفون عنه وعن الشهرة التي اكتسبها في كل أنحاء أثينا، بعضهم كان معجباً به وبأسلوبه لكن قسماً منهم كانوا من الذين ربما حاججهم في السوق أو في الروتندا أو غيرها من الأماكن التي اعتاد اليونانيون ارتيادها على سبيل التواصل والتحدث في الأمور العامة. سأل سقراط الذين اجتمعوا لمحاكمته: «ربما تقولون إن سقراط لا بدّ استحق الاتهام بسبب ذيوع أمره وأسلوبه في المدينة وأنه لا بدّ أن يكون وراء تلك الشهرة ما يؤكد الاتهامات الموجهة إليه. وأنا أعتبر هذا الظن ربما له ما يبرره لذلك سأشرح لكم كيف بلغ بي الأمر أن أصبحت على تلك الشهرة ولماذا أدى أسلوبي في محاجة مدعي العلم والمعرفة إلى استياء كثيرين مني ومناصبتهم لي العداء».
يقدم سقراط للمحكمة ما يعتبره سبب انطلاقه في المدينة بأسلوبه الشهير في الحوار التدرُّجي. يقول:
« بدأ الأمر كله بتصرف طائش من شيريبون كما تعرفونه. فقد قرر يوماً الذهاب إلى معبد دلفي وسأل أهل الغيب فيها أن يخبروه إذا كان هناك من حكيم أو عارف يفوق سقراط، وقد جاءه الجواب بأنه لا يوجد من يفوق في المعرفة والحكمة سقراط. ورغم أن شيريبون مات الآن فإن شقيقه موجود في هذه المحكمة وفي إمكانه أن يؤكد لكم هذه القصة. والحقيقة أنني تعجبت لهذه القصة لأنني أعلم بأنني لست حكيماً، لكن بما أن أهل الغيب لا ينطقون إلا بوحي الحق فإنني قلت في نفسي إن الطريقة المثلى لكي أؤكد فيها أنني لست أحكم وأعقل أهل المدينة هو أن أجد من هو أكثر حكمة ومعرفة. وهكذا بدأت رحلة محاوراتي للناس في كل مكان لقد كنت أبحث وأدقق وأتوجه إلى من يدعون الحكمة وأبدأ بمحاورتهم للتأكد إذا كان أحدهم يفوق سقراط معرفة وحكمة، وعندها فإنني أكون قد أثبت صحة موقفي. لكن هالني أن كل من اجتمعت بهم كانوا لا يعلمون شيئاً لكنهم يظنون أنهم يعلمون، وتبين لي أنني نفسي لا أعلم شيئاً لكنني على الأقل أعلم أنني لا أعلم، وبهذا وجدت فعلاً أنني متفوق عليهم ليس بأنني أعلم بل بأنني أعلم أنني لا أعلم، بل إنني أقسم لكم يا أهل أثينا بأنني وجدت اكثر الناس ادعاء بالمعرفة هم أحمقهم بينما وجدت أناساً بسطاء يعتبرون من الجاهلين أكثر معرفة من أولئك الحمقى».
يتابع سقراط شرحه لهذه النقطة بالقول:
«إن محاولتي استقصاء هذا الأمر وبالتالي قيامي باختبار منطق كل من يدعي المعرفة جعل لي أعداء من أسوأ الأصناف وشجع الكثيرين بالطبع على نشر مختلف أنواع الأباطيل والوشايات ضدي . لقد أسموني بالحكيم لأن من يستمع إليَّ يعتقد أنني أمتلك الحكمة التي لا يجدونها في الآخرين. لكن الحقيقة يا أهل أثين هي أن الله وحده هو الحكيم، وإذا كانت قد شاعت تسميتي بالحكيم فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يضرب بي مثلاً كأنه يقول: أيها الناس هل يعلم أحكمكم سقراط أن حكمته لا تساوي شيئاً؟ لقد أخذت هذه الحرفة مني كل وقتي حتى لم يعد لي متسع للقيام بأي عمل آخر وهذا فقري يشهد على ما أكابده جراء تكرسي لله».
وهنا يتنبأ سقراط عن معرفة بمجتمع أثينا الذي داخله الفساد أنه وبسبب تعلقه بالحقيقة فإنه ربما ينتهي إلى أن يدفع الثمن. ويقول : «لقد أصبح لي أعداء كثيرون وهذا ما سيؤدي إلى تدميري إذا ما تمّ لهم ذلك، بل انا على ثقة من ذلك لكنني لا أردُّه إلى مليتوس ولا إلى أنيتوس (وهما اثنان من المدعين الثلاثة) بل إلى حسد وروح الأذية في المجتمع، وقد جلبت هذه الخصال الموت لكثير من الرجال الأبرار من قبل وهي على الأرجح ستأتي بالموت لمزيد منهم ولن أكون ربما آخر الضحايا».

“الإنسان الصالح لا يحسب إذا كان عمله سينتح عنه حياة أو موت، بل فقط إذا كان ما يعمله حقاً أو باطــلاً”

قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا
قاعة تشبه المحكمة التي حوكم فيها سقراط في أثينة قبل 24 قرنا

يكمل سقراط فيقول: «البعض قد يقول: ألا تخجل يا سقراط من اتباعك طريقاً في الحياة سيؤدي على الأرجح إلى هلاكك؟ ولمثل هذا الشخص فإن جوابي البسيط سيكون: أنت في ضلال بعيد، لأن أي إنسان فيه قدر من الصلاح لا يجب أن يحسب الأمور بحسب ما قد يرتبه عمله من حياة أو موت، بل عليه أن يأخذ في الاعتبار فقط إذا كان ما يعمله خيراً أو شراً وهل ما يقوم به هو عمل رجل صالح أم رجل فاسد». على العكس من ذلك يضيف سقراط: « لقد أمرني ربي بأن أقوم بعمل الفيلسوف أو داعية الحق وأن أقوم بالبحث في داخلي وفي الآخرين ولو أنني فكرت بالفرار من موقعي على الجبهة (خلال الحرب التي شارك فيها) خوفاً من الموت أو أي خوف آخر سيكون ذلك مستهجناً بكل مقياس، كذلك فإنني لو خالفت أهل الغيب في دلفي لأنني أخاف الموت فإنه لن يصح لي عندها ادعاء الحكمة وأنا لست كذلك، لأن الخوف من الموت هو علامة ادعاء الحكمة وليس علامة الحكمة، لأن من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»!
هنا نأتي إلى أهم مقطع في مداخلة سقراط إذ يقول مخاطباً «محكمة الشعب»:
«لو قلتم لي إننا يا سقراط لن نعطي بالاً لاتهام أنيتوس وسنخلي سبيلك لكن بشرط واحد وهو أن تتوقف عن البحث والتنقيب بطريقتك، وإنه في هذه الحال لو تمّ ضبطك بعد ذلك تقوم بهذا الأمر مجدداً فإنك ستموت بالتأكيد. إذا كان ها هو شرطكم لإطلاق سراحي فإنني سأجيبكم: يا أهل أثينا إنني أكنّ أقصى الاحترام والحب لكم لكنني سأطيع في ذلك إرادة الله وليس إرادتكم. وطالما بقي فيّ رمق فإنني سأستمر في تشجيع أي شخص ألتقيه على الأخذ بطريقتي والاقتناع بقولي وسأقول له: كيف يمكن يا صديقي وأنت مواطن هذه الدولة العظيمة أثينا أن تركض خلف أكبر قدر من المال والجاه والسمعة بينما أنت لا تقوم بأي جهد مقابل من أجل اكتساب الحكمة والحقيقة والإرتقاء عالياً بالروح وهي أمور لا يبدو أنك تلقي بالاً إليها ابداً. ألا تخجل من ذلك؟ فإن أجابني الشخص المخاطب أن هذه الأمور تهمه حقاً فإنني لن أتركه يذهب قبل أن احاججه وأحاوره وأتفحص ما يعتقده، فإن رأيت فيه شخصاً مفتقداً إلى الفضيلة رغم ادعائه امتلاكها فإنني سأتركه لشأنه بعد أن أوجه إليه اللوم بأنه يقلل من شأن ما يستحق التعظيم ويعظم شأن ما هو أقل قيمة، وأنا أفعل ذلك مع كل إنسان ألتقيه شاباً كان أم كهلاً مواطناً كان أم أجنبياً زائراً، لكنني أهتم بصورة خاصة بمواطني أثينا لأنهم أخواني لأن هذا هو أمر الله لي، ودعوني أقول لكم إنه لم يحصل في أي وقت للدولة خير يوازي ما تحصل عليه من جراء هذه الخدمة التي أقدمها لوجه الله وأنا ليس لي عمل في الحقيقة سوى المشي في الأسواق أحاول أن أقنعكم جميعاً شيباً وشباناً على حد سواء أن لا تهتموا كثيراً بحاجات شخصكم وممتلكاتكم وأن تجعلوا همكم الأول العمل على ترقية الروح. أقول لكم إن الفضيلة لا تأتي من امتلاك المال وإنه من الفضيلة يأتي المال وأنواع الخير الكثيرة للإنسان وللمجتمع. هذا هو ما أعلمه فإن كان هذا النوع من التعليم فيه حسب زعمكم إفساداً للشباب فإن تأثيري عليهم ولا شك تأثير هدّام. لكن إن ادّعى أحد أن ليس هذا ما أعلمه فإنه يأتي ببهتان صرف. لذلك فإنني أقول لكم يا أهل أثينا إن في إمكانكم أن تأخذوا جانب أنيتوس أو أن لا تأخذوا جانبه. يمكنكم أن تدينوني أو أن تبرئوا ساحتي، لكن مهما كان موقفكم ومهما كان قراراكم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدّل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرات عدة!

“ليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقــعون في إثم كبير يخـــالف أمر الله “

من أجل تأكيد تمسكه بما يعتبره حقاً بغض النظر عن النتائج أوضح سقراط أمراً مهماً آخر لهيئة «المحكمة الشعبية » وهو أنه لم يعبأ باستدرار عطف الجمهور لعله يستميل أكثريتهم لتبرئته. قال لهم إن المتهم الخائف على حياته أو عقوبة شديدة غالباً ما يحضر أسرته وأولاده إلى المحكمة يبكون ويسترحمون لعل ذلك يؤثر على موقف الهيئة القاضية. أما بالنسبة إليه فهذا غير وارد البتة ويقول:« رغم أنني أمام خطر أن أفقد حياتي فإنه لا يمكن أن يخطر في بالي فعل مثل هذه الأشياء وقد يستثير امتناعي عن ذلك بعض أعضاء المحكمة فيميلون بسببه لأن يحكموا علي بصورة أقسى. أصدقائي إنني إنسان مثل غيري من البشر وأنا من لحم ودم ولست مصنوعاً من الخشب أو الحجر، كما يقول هوميروس، كما إن لي أسرة ، لكن رغم ذلك فإنني لن آتي بأي منهم للضغط عليكم من أجل تبرئتي. لم لا أفعل ذلك؟ ليس لأنني أظهر عناداً أو لأنني أستخف بهذه المحكمة، أما إن كنت بذلك خائفاً من الموت أو غير خائف فذلك أمر آخر لن أتحدث فيه الآن، لكن شعوري هو أن سلوكاً من هذا القبيل سيكون عاراً عليَّ وعلى دولة أثينا بأسرها».
لكن سقراط يحذر الأثينيين في الوقت نفسه من أن قتلهم له بغير حق سيتسبب بالأذى لهم أكثر مما سيلحقه به يقول:
«يا أهل أثينا كم أودّ منكم أن تدركوا بأنكم إن قتلتم شخصاً مثلي فإنكم ستؤذون أنفسكم أكثر من أذيتكم لي. إن مليتوس وأنيتوس لن يقدرا على إيقاع الأذى بي، لن يستطيعا ذلك لأنه ليس من طبيعة الأشياء أن يستطيع رجل وضيع أن يقود أو يؤذي رجلاً أفضل حالاً منه. وأنا لا أنكر أنه في إمكان أي منهما أن يتسبب بقتلي أو أن يرسل بي إلى منفى بعيد، أو يحرمني من حقوقي المدنية، وهو قد يعتقد وربما آخرون أيضاً قد يعتقدون أنهم بذلك يسببون أذى عظيماً لسقراط، لكنني لا أتفق معهم، لأن الشر في قيام شخص مثل أنيتوس بسلب شخص آخر حياته ظلماً وعدواناً هو أعظم بكثير مما يسببه للضحية».
«وليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقعون في إثم كبير يخالف أمر الله أو بحيث تستخفون بأنعامه عليكم من خلال إصراركم على إدانتي، أنكم إن قتلتوني فإنكم لن تجدوا بسهولة شخصاً آخر مثلي، إن شخصاً بلغ من العمر ما بلغته واشتهر عنه اتصافه بالحكمة (سواء أكان مستحقاً لهذا الوصف أم لا) لا ينبغي له أن يحطّ من قدر نفسه، لقد قرر الناس أن سقراط بصورة أم بأخرى يمتاز عن غيره من الرجال فلو أن من يعتبرون من كبار القوم يهبطون بقدرهم على هذا النحو فإنهم سيجلبون العار على أنفسهم. ولقد رأيت رجالاً مشهورين ورأيت كيف أنهم عندما حكم عليهم كانوا يتصرفون بطرق غريبة وبدا لي أنهم يتوهمون بأنهم سوف يتعرضون لتجربة رهيبة في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك، وأعتقد أن هؤلاء الرجال كانوا وصمة عار على جبين الدولة الأثينية، ولو أن غريباً رأى هذا المشهد فإنه كان سيقول إن عظماء أثينا ورجالاتها الذين حظوا باحترام وتبجيل العامة ليسوا في حقيقتهم أعلى درجة من النساء».
وسيضيف سقراط في مكان آخر من الدفاع أنه لم يتقاض في حياته أي مال على الخدمة التي يقدمها للمواطنين مشيراً إلى أنه رغم كل الإفتراءات التي بنيت عليها القضية فإن أحداً من الذين ساقوا الإتهامات ضده لم يجرؤ على مجرد الإدعاء بأن أياً من الدروس أو النصائح التي كان يقدمها لمن يطلب إنما تمت مقابل المال. ويعطي على ذلك دليلا قاطعا هو حالة الفقر التي يعيش فيها.

منظرعام لأثينة القديمة - هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه
منظرعام لأثينة القديمة – هنا جرت المواجهة بين سقراط ومتهميه

سقراط والإيمان
«لا يمكنكم أن تنتظروا مني أيها السادة أن أتصرف معكم (في موضوع الإيمان) بطريقة أعتبرها غير مشرفة ولا إخلاقية وغير منسجمة مع واجبي الديني. وبصورة خاصة لا يمكنكم أن تنتظروا مني ذلك وأنا المتهم أمامكم من قبل مليتوس بالإلحاد أو عدم التصديق بالألهة ومن البديهي أنني لو حاولت إقناعكم أو دفعكم بطروحاتي لكي تتنكروا لإيمانكم فإنني سأكون كمن يعلمكم أن تكفروا بعقيدتكم.إن (اتهام مليتوس ) هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأن لدي إيماناً عميقاً ومخلصاً يفوق ما يدعيه أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني. وأنا أترك الأمر لكم ولله لكي تحكموا على ذلك».
في مقابل آلهة اليونان أظهر سقراط احتراماً ظاهرياً لعقائد العامة وقد ظهر ذلك أثناء محاكمته، إذ كان أحد المدعين وهو مليتوس قد اتهمه بالإلحاد وعدم الإيمان بأي من الآلهة التي تشكل مرتكزات العقيدة اليونانية، لكن قليلاً من المحللين الغربيين الذين سعوا لفهم معتقده الديني وفق ذلك لأنهم جميعاً انطلقوا من عباراته الظاهرة وبعض التصريحات المقتضبة التي تطرق فيها إلى موضوع الآلهة ولم يدخلوا في محاولة فهم سقراط العامل الأهم في تاريخه وهو أنه كان حكيماً ليس بالمعنى العقلاني الغربي بل بالمعنى الذي تأخذ به العقائد الشرقية من الهند إلى مصر القديمة مروراً بالحقبة الهيلينية التالية للفيثاغورسية وهو مفهوم الحكيم كرجل رباني مكشوف على الحقائق اللدنية، وهذا المفهوم للحكيم العارف بالله لا يختلف بين حضارة وأخرى وإن كانت تعبيراته تختلف لأنها تتبع لغة الجماعة واختيارها الروحي وأحياناً عقائدها الخاصة، وقد عرف عن الحكماء جميعاً في كل زمان أنهم يكتمون الكثير من اختبارهم الروحي خوفاً من زعزعة عقائد العامة وأنهم يتخذون دوماً موقف الاحترام للعقائد السائدة. ومن المستحيل أن تجد في التاريخ الطويل للحضارة حكيماً يفصح عن مكنونات الحكمة واختبار العرفان لأن هذا النوع من الاختبارات لا يمكن شرحه بالعبارات ولا بالإشارات، فكيف بمحاولة إفهام غوامضه للعامة؟ لذلك تبقى مضامين الاختبار الحكمي في صدر الحكيم يظهر منه ما يشاء من تلمحيات أو إشارات أو قد يكشف عن بعضه لمن يقبل باتخاذهم كمريدين، وحتى في هذه الحال فإنه لا يتحدث لمريديه كلهم بنفس اللغة بل يعطي لكلٍّ منهم على قدر استيعابه واستحقاقه. فالحكيم هو لغز وحقيقة محجوبة ويستحيل على الناس العاديين إدراك كنهه بملكات التفكير أو القياس أوالتحليل العقلاني.
لقد كان سقراط حكيماً كاملاً وقطباً للعرفان ومستودعاً للأسرار لكن الطريق التي اختارها تأثرت كثيراً بالمجتمع الأثيني الذي كان مجتمعاً وثنياً، فكان عليه بالتالي أن يكتم اختباره الروحي وأن يتخذ في الوقت نفسه موقف عدم الدخول في موضوع العقيدة الأثينية فهو لم يعارضها لكنه لم يتبناها أيضاً ووقف بذلك دوماً موقفاً ملتبساً. هذا الموقف الملتبس وتجاهل سقراط للعقيدة الأثينية في تعليمه كان بادياً لأخصامه رغم مسايرته الظاهرية للعقيدة الأثينية أو الهيليلنية القديمة وقد يكون هذا أحد الأسباب التي شجعت مليتوس ورفيقيه على الإدعاء على سقراط بتهمة الإلحاد أو عدم الإخلاص لآلهة المدينة. أبرز علامات التمايز التي أظهرها سقراط عن نظام العقائد اليوناني حديثه الدائم عن «الله» أي عن إله واحد كان يشير إليه بصورة لا تتضمن نفياً أو إنكاراً لعقيدة اليونانيين لكنه كان يتضمن تجاهلاً واضحاً لإعلان التصديق لها.

معبد البانتيون - الأكروبوليس في اثينا
معبد البانتيون – الأكروبوليس في اثينا

“انا في طريقي الى الموت وأنتــم إلى الحياة، فأيُّ الطريقين هو الأفضـــل؟ الله وحده يعلم الجواب”

الأمر الآخر المهم الذي تحدث فيه سقراط عن «إيمانه» المختلف والذي تسبب في استثارة شكوك جمهور المدينة حول إخلاصه للعقيدة الرسمية، كان إشارته في دفاعه أمام المحكمة وفي مناسبات أخرى لما كان يعتبره «الصوت» أو الملاك الحامي daimonion أو «الوحي» الذي كان يأتيه ويرشده، ومن أجل إبقاء الغموض،
فإن سقراط لم يرد أن يشرح حقيقة إلهام الحكيم وما يرده من كشوفات -فقد كانت البيئة الفكرية في أثينا غير مؤهلة لتقبل ذلك- لذلك ابتدع وصفاً فيه من التقية ومن الطرافة في آن عندما جعل الصوت أو الوحي مختصّاً بأن يهديه ليس لما ينبغي له القيام به من أعمال لكن فقط لما يجب أن يمتنع عنه، فإن هو أقبل على أمر ما ثم أتاه الصوت ليحذره من الإقدام على ما كان ينوي فعله فإنه يعمل على الفور بوحيه. إن فكرة وجود وحي خاص لحكيم مثل سقراط يستند إليه في تقرير أموره بدا لبعض أهل أثينا كأنه يحمل تشكيكاً بنظام العقائد الذي كانت تعمل به المدينة. وبصورة عامة فقد كانت حقيقة إيمان سقراط سراً خاصاً بقي في صدره ولم يطلع عليه -أو على بعضه على الأرجح- إلا بعض المريدين الأصفياء مثل أفلاطون وزينوفون.
في هذا السياق، وللرد على اتهامه بزعزعة عقائد العامة وإفساد عقول الشبيبة، نفى سقراط نفياً باتاً أنه كان يعلم بعض الناس سراً أي أنه يعلم في السر أموراً معارضة لما يقوله في العلن، وبالتالي معارضة لعقائد المدينة وهو يقول لهذه المحكمة التي لا تضم قضاة بل جمعاً كبيراً من الناس من شتى الأهواء: في الحقيقة إنني لم أتخذ مريدين، لكن لو رغب أي كان سواء كان شاباً أو كهلاً في أن يأتي ويستمع إليّ في الأوقات التي أتابع فيها مهمتي فإن له ذلك، لكنني لا أتحدث لأي كان لأنه يدفع مالاً ولا أحجب حديثي عن أي كان لأنه لا يدفع المال. فأي شخص سواء كان فقيراً أو غنياً يمكنه أن يسألني وأن يستمع إلى كلماتي وإذا تبين بعد ذلك أن الرجل كان صالحاً أو سيئاً فلا يمكن لأحد أن يحملني المسؤولية عنه لأنني لم أعلمه أي شيء. وإذا زعم أحد بأنني علمته سراً أشياء مختلفة عما يستمع إليه جميع الناس فإنني أود أن تعلموا أنه لا يتحدث بالحقيقة.

إدانة سقراط
عندما أصدرت المحكمة قرارها بإدانة سقراط باتت الخطوة التالية هي تحديد نوع العقوبة، وهذا الأمر كان يتطلب في المحاكمة الأثينية تصويتاً آخر مستقلاً عن الأول. وجرى بالتالي نوع من الترافع بين سقراط وبين متهميه الثلاثة أظهر بدوره جانباً من الشخصية الفذة للحكيم. بعد أن طلبت الجهة المدعية إنرال عقوبة الإعدام بسقراط، وقف الحكيم وخاطب المحكمة بالعبارات التالية، قال: لقد اقترح الإدعاء عقوبة الإعدام بعد إدانتي، فما الذي سأقترحه بدوري؟ وما هو الذي يجب علي أن أدفعه أو أن أحصل عليه؟ كيف يجب أن تتعاملوا مع رجل لم يخطر في باله السكون للراحة طيلة حياته؟ ولم يظهر أي اكتراث بما يحرص الكثيرون على ان يجروا وراءه- الثروة ومصالح العائلة أو المناصب العسكرية أو إلقاء الخطب في البرلمانات أو تولي المسؤوليات في الدولة وفي الزمر أو الأحزاب؟

“أيها الأثينيون إن العار سيلاحقكم لأن خصومكم سيقولون لقد قتلوا الحكيم سقراط، ولو انتظرتم قليلاً لكان أفضل لإننـــي رجل كهل وفي طريقي إلى المـــوت على أي حال”

يقول سقراط: «لقد فكرت بأنه من الصعب عليّ كرجل نزيه وصادق أن أتبع تلك المسالك من دون أن أتسبب لنفسي بالهلاك، لذلك فإنني لم أسر في أي طريق حيث لا يمكنني أن أقدم خيراً لنفسي أو لكم، بل حيث يمكنني أن أقدم أعظم الخير لكم ولنفسي، لقد سرت في طريقي وسعيت لأن أقنع كل شخص منكم بأن يهتم بالنظر في نفسه واتباع طريق الفضيلة والحكمة قبل النظر في مصالحه الخاصة، وأن يهتم بالدولة قبل الاهتمام بمصالح الدولة وأن يطبّق هذا النهج على كل أعماله، فما الذي يجب أن تفعلوه لرجل كهذا؟ بالتأكيد يجب أن تبادلوه الحسنى بالحسنى، يا أهل أثينا، لو أن هذا الرجل استحق مكافأة فإن المكافأة يجب أن تكون بما يلائمه، وأي مكافأة هي التي تناسب رجلاً فقيراً أحسن إليكم ويتمنى لو أن له المزيد من الوقت لكي يعلمكم؟ لا توجد مكافأة له أفضل من تأمين عيشه طيلة حياته في البيت المقدس لأثينا (البريتانيوم) وهي جائزة يستحقها أكثر بكثير من الذين حصلوا عليها بسبب فوزهم في سباق عربات الخيول في الأولمبيا، لأنني شخصياً في حاجة إلى تلك الجائزة بسبب فقري والذي فاز في السباق ليس فقيراً وهو لم يقدم إليكم سوى سعادة ظاهرة، بينما أنا أقدم لكم الحقيقة».

تعليق سقراط على حكم الموت
بعد الكلمات والمرافعات المتبادلة صوتت المحكمة فأصدرت حكماً بالموت على سقراط بتجرع السم. لم يرف جفن الحكيم الذي كان واقفاً في حالة من الحبور والطمأنينة ولم يظهر أي مفاجأة لأنه كان عملياً ينتظر تلك النتيجة، كل ما فعله أنه استمر في توجهه الأبوي للأثينيين يخاطبهم ويعظهم في ما هو خيرهم. وكان أول تعليق له أن قال:
«أيها الأثينيون إنكم لن تربحوا شيئاً (من إصدار الحكم) بل إن العار سيلحق بالمدينة لأن خصومها سيقولون أنكم قتلتم الرجل الحكيم سقراط، وهم سيطلقون عليَّ صفة الحكيم رغم أنني لست كذلك، لكن من أجل أن يدينوا أثينا. ولو أنكم انتظرتم قليلاً فإن رغبتم في موتي كانت ستتحقق بفعل قانون الطبيعة، ذلك أنني رجل تقدمت به السنون كما ترون ولم أعد بعيداً عن الموت، وأنا أتحدث الآن فقط لأولئك الذين أصدروا علي الحكم بالموت. وهناك شيء آخر أود أن أقوله لهم: أنتم تعتقدون بأن الحكم صدر ضدي بسبب إهمالي في تقديم الدفاع اللازم أي لو أنني لم أوفر أي وسيلة أو حجة لمحاولة إقناعكم فإنني كنت سأحصل على حكم بالبراءة. لكن الحقيقة هي غير ذلك! إذ إن ما أوصلني إلى الحكم بموتي ليس نقص في الكلمات أوالدفاع بل هو أنه ليس لدي الاستعداد لكي أخاطبكم بالطريقة التي كنتم تريدونني أن ألجأ إليها، وهي لغة البكاء والنحيب والتذلل وأن أسلك معكم السلوك الذي اعتدتم عليه من الآخرين فهذه الأعمال ليست من شيمي .
إنني أفضل أن أموت بسبب تمسكي بطريقتي على أن أعيش لأنني قبلت بطريقتكم، ومن غير المقبول في الحرب أو في القانون أن يلجأ المرء لكل الوسائل من أجل الفرار من الموت، ولو أن جندياً قام بإلقاء سلاحه أمام العدو ثم جثا على ركبتيه متذللاً فإن من الممكن له أن ينجو من الموت. كذلك وفي مواجهة أخطار أخرى فإن هناك طرقاً عدة مماثلة للفرار من الموت إذا كان المرء مستعداً ليقول أو يفعل أي شيء. لكن المشكلة يا أصدقائي ليست في تجنب الموت بل في تجنب الباطل لأن الباطل يجري أسرع من الموت. إنني رجل كهل وأتحرك ببطء لكن الذين يتهمونني متحمسون وعلى عجلة من أمرهم.، وقد تمكن الباطل وهو الأسرع جرياً من أن يتقدم عليهم.
والآن، ها أنا أغادر المكان وقد حكم علي من قبلكم بالموت، والذين حكموا علي أيضاً سيغادرون أيضاً وقد حكم عليهم من الحقيقة بأن يعذبوا بوزر الشر والظلم وسأتحمل أنا ما قسم لي وليتحملوا هم ما قسم لهم وربما ينظر البعض إلى مثل هذه الأمور باعتبارها مقدرة وأنا بالفعل اعتبرها كذلك بالتأكيد.
بعد ذلك توجه سقراط إلى أعضاء المحكمة الذين صوتوا ببراءته فخاطبهم قائلاً:

هنا سجن سقراط قبل إعدامه
هنا سجن سقراط قبل إعدامه

“أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت”

أنتم أصدقائي لذلك سأريكم ما اعتقد أنه العبرة مما حدث لي:
وسأحدثكم هنا عن أمر رائع يتعلق بالصوت الخفي الذي حدثتكم عنه وهو الوحي الذي غالباً ما يعارضني في كل مرة أهمّ فيها لعمل أمر معين تشوبه شائبة، هذا الصوت يعارضني أحياناً عندما أكون على وشك ارتكاب ولو هفوة صغيرة، الغريب في الأمر أن هذا الصوت لم يتدخل أبداً اليوم ولم يعارضني في أي أمر منذ أن خرجت من البيت متوجهاً إلى هذه المحكمة، وعندما صعدت درجات المبنى، وكم من مرة اعترضني فيها الصوت عندما أكون في حديث، لكنه اليوم لم أجد منه أي اعتراض. فما الذي أفهمه من ذلك؟ سأقول لكم إن ذلك برهان على أن ما حصل لي اليوم هو خير وأن اولئك الذين من بيننا يظنون بأن الموت شر هم مخطئون، إذ إنه لو كان الموت كذلك فإن الصوت المعتاد الذي يعارضني في كل أمر سيىء كان سيعترضني في ما وصلت إليه.
إن هناك سبباً رئيسياً يجعلنا نأمل بأن الموت فيه خير لأن الموت هو واحد من أمرين: إما أن يكون حالة من العدم وانعدام الشعور بأي شيء أو أنه كما يقول الكثيرون مجرد تحول من حال إلى حال وأنه بمثابة رحلة الروح من هذا العالم إلى عالم آخر. فإن كان البل عظيمموت عبارة عن نوم عميق لا تعكّره حتى الأحلام فإن ذلك سيكون امراً جيداً عظيماً، لأن الأزل سيكون عندها بمثابة ليلة نوم واحدة، وإذا كان الموت على العكس من ذلك هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء.
ختم سقراط بالقول: أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت، فمثل هذا الشخص لا تتخلى عنه الآلهة، وأعلموا أيضاً أن نهايتي التي تقترب ليس في حدوثها أي مصادفة، وأنا أرى أن موتي وخلاصي من هذا الجسد هما أفضل لي ولهذا فإن الصوت الخفي داخلي لم يعارض ما حصل. ولهذا السبب أيضاً فإنني لست غاضباً من الذين اتهموني وحكموا علي ، فهم لم يتسببوا لي عملياً بأي ضرر وهذا رغم أن أياً منهم لم يرد بي خيراً، وعلى هذا فإنني ألومهم بشيء من اللطف.
لقد حان وقت الافتراق وكل منا يذهب في طريق:انا في طريقي الى الموت وأنتم إلى الحياة، يا ترى ما هو الطريق الأفضل؟ الله وحده يعلم الجواب.

جمال باشا

بمناسبة ذكرى شهداء 6 أيار

جمال باشا في سوريا ولبنان

.هزائم عسكرية وتهجير منظم ونهاية بائسة

كان أحمد جمال باشا (1873-1922) نموذجاً على العصبة التي استولت على السلطة في الدولة العثمانية بأساليب التآمر ثم الانقلاب العسكري على الخليفة السلطان عبد الحميد الثاني. وقد كتب الكثيرون عن علاقة الماسونية الدولية بالإنقلاب وولع الإنقلابيين بنمط الحياة في الغرب وهم الذين حاولوا ردّ أزمة الدولة وإن بصورة غير علنية إلى وجود الخلافة وقوة الدين، وهذه النزعة الغربية المعادية في الجوهر للإسلام هي التي ستقود في ظل حكم كمال أتاتورك إلى إنهاء الخلافة وعلمنة تركيا وسلخها عن عالم الإسلام ثم عن اللغة العربية عبر تبني الحرف اللاتيني.
لقد أثبتت الأحداث أن الانقلاب على الخلافة أضعف موقف الدولة العثمانية كثيراً خلال الحرب العالمية الاولى لأنه وجّه ضربة قاصمة إلى شرعيتها ومعنويات الدولة وإلى علاقاتها بالعالم الإسلامي وأفقدها أهم عامل كان يعزز قوتها في الحروب وهو عامل الحمية الدينية والجهاد، أضف إلى ذلك أن قادة الانقلاب أظهروا أن موهبتهم في الاستيلاء على السلطة كانت أكبر من كفاءتهم في حكم ولايات الدولة أو شنّ الحروب ، كما يدل على ذلك الطريقة التي أدار بها أحمد جمال باشا حاكم سوريا ولبنان وفلسطين وقائد الجيش الرابع الحملة الفاشلة على مصر وقناة السويس. ارتأت «الضحى» ونحن على شفا الاحتفال بعيد الشهداء الذين أعدمهم جمال باشا أن تعرض لصورة موجزة لفترة حكمه التي تميّزت بالتخبط والبطش والكراهية كما تميّزت بهزائم عسكرية أظهرت ضحالته كقائد ومخطط عسكري وفرضت على الحكومة التركية إقالته من مناصبه ومحاكمته. وقد رُوي عن طلعت بك زميل جمال باشا أنه خاطبه يوماً بقوله: «لو أنفقنا كل القروض التي أخذناها لستر شرورك وآثامك لما كفتنا».

بتاريـخ 6/12/1914، أوفـدت الـدولة العثمانيـة أحمد جمال باشـا وزير البحـرية، على رأس الجيـش الرابع إلى بـلادنا في مهـمّة عسكريـة.كان هدفها مهاجمة القـوات الإنكليزية المـرابطة على قنـاة السويس تمهيداً لطـرد الإنكليـز مـن مصـر وإعـادة مصر ولايـة عثمانيـة. كان الهدف عظيماً لكن الشخص الذي أوكل إليه الأمر كان أسوأ اختيار ممكن لتلك المهمة الخطيرة.
بدل التمهيد للحملة باستمالة الرأي العام في بلاد الشام والعراق، وباستثناء خطاب فارغ من المعاني ألقاه في دمشق عند وصوله، فقد أرسل جمال باشا، الكاره للعرب، فور وصوله إلى دمشق فـرقاً من الجيش العثماني، إجتاحت بيـروت وجـبـل لبنان، وتمركزت قيادتها في مدينة عاليه وألغى نـظام المتصرّفية، ووضع المتصرّف وموظفيه وعسكرييه بتصرف الجيش التركي، وأنشأ محكمة الديوان العـرفي، وكانت قـوات عثمانية قـد داهمت القنصليات الأوروبية في بيـروت،وأخرجت مـن القنصليـة الفرنسيـة لوائح بأسماء أشخاص من المـوظّفين الكبـار والوجهاء والأعيان والسياسيين، من اللبنانيين والسوريين الأكثـر نفـوذاً في بيـروت ودمشـق، كانـوا يترددون إلى هـذه القنصليات وخصوصاً قنصلية فـرنسـا، وسـلّمتها إلى جمال باشا. فبـدأ جمال باستدعائهم والتحقيق معهم ومحاكمتهم، وقـام بشـنق عـدد منهـم في بيـروت ودمشـق، ونـفي عـدد كبير إلى داخـل سوريا والقـدس وبلاد الأناضول، بسبب علاقاتهم المزعومة بتلك القنصليات، وفرض التجنيد الإجباري، ومنع نقل الحبوب إلى الجبل بهدف توفيرها للجيش التركي. وزاد المأساة، إقـدام الأتراك على استبدال العملة الذهبية بالعملة الورقية، فهبطت قيمة النقـد العثماني وارتفعت الأسعار، والتهم الغلاء مداخيل الناس، وانتشرت المجاعـة.

حملـة السويس الأولى
بـدأ جمـال باشا بالتحضير لتعبئة حملة عسكرية للهجـوم على قناة السويس، وأمـر بأن يجمـع من لبنان كل مـا يحتاجـه الجيـش في تنقّـلاته، مـن الخيـل والبغـال والحميـر وأكياس الجنفيص وصفائـح التنـك واستئجار كل مـن يـريـد العمـل مع الجيش مـن العمّـال في مختلـف المهـن بأجـور سخية، وتبيـن في ما بعـد، أن مـن عـاد منهم سالماً لـم ينـل أي أجـر. 2 وكان بكـر سامي بـك والي بيـروت، قـد طلـب مـن البطريـرك المـاروني، مبلـغ عشـرين ألـف قـرش صـاغ، ثمـن سـتة آلاف وخمسمائة /6,500/ ورقــة يانصيـب لمساعـدة الجيـش العثماني، وزعـت الأوراق على الأديـار والكهنـة والمـدارس،3 ثـمّ انتقـل جمـال باشا إلى مـدينة معـان في الأردن، مكان تجمـع كتائب الجيش العثماني، القـادمة مـن تـركيا والحجاز وسوريـا ولبـنان وفلسطين، وفـرق المتطوعيـن مـن أتـراك وعـرب وجـركس وصـرب وأرناؤوط وغيرهـم. وكان مجموع هـذه الحملة يـقـدّر بـ 12.642 رجـل، و986 حصاناً، و 12,000 جمـل، و 328 ثـوراً بالإضافة إلى العتاد والأسلحة الثقيلة والخفيفـة. وانطلـق جمـال باشا على رأس تلك القـوات الى صحراء سـيناء، لمهاجمـة القوات البريطانية المرابطة على قناة السويس. فتقـدّمت كتيبـة من البـدو المتطوعين استولت على العـريش، وكتيبـة أخـرى اسـتولت على قلعـة النخل في سـيناء.
وبتـاريخ 2 شباط 1915، شـنّ الجيش العثماني هجـوماً على القـوات الانكليزية المـرابطة على قنـاة السويس بمساعـدة ضبّاط ألمان، واجـتاز سـتمائـة (600) جنـدي القناة إلى الضفّـة الغـربية، بـعـد أن وضعـوا جسـوراً عـائمـة، فشـعـر بهم الجنود الانكليز، وهجموا على الموقـع وأخـذوا الجنود العثمانييـن أسـرى. وبـدأت المعركـة بيـن الجيشـين بالتراشق بالمدفعيّة، وقصفت الطائرات الانكليزية مـركـز قيادة الجيش العثماني، الذي يبعـد مسافة ثلاثـة كيلومترات عـن ضفّـة القناة ، كمـا أمطرته البوارج الانكليزية بالقنابـل، فانهـزم الجيش العثماني وتراجعت قـواتـه الى سيناء، ومنها الى بئـر السبع في فلسطين. أمّـا الجنـود العثمانيون الأسـرى، فقـد قـام الجيش الإنكليزي بعـرضهم في شوارع القاهـرة، وخرجت الصحف الإنكليزية تشيدوا بالنصر وتكيل القـدح والشتائم للجيش العثمـاني.
وحسب المصادر التاريخية فقد بلغت خسائر الجيش العثماني ( 178) قتيـلاً، و( 381)جـريحاً، و( 727) مفقـوداً، بالاضافة الى عـدد الأسـرى.4
وكي لا تتـرك هـذه الهزيمة أثـراً سيـّئاً في نفـوس الجنود الأتراك، أصـدر جمال باشا بياناً عسكرياً قال فيـه إن الجـنود أدّوا واجبهم بوطنية، إنّمـا هـذا الهجوم كان استطلاعاً هجومياً «اختبار بالنيران» لمعرفة القوى التي يمتلكها العـدو، ومـا يحتاجه الجيش العثماني لعبـور القناة.5 في الهجوم الفعلي.
بـعـد هـذه الهـزيمة، وسقـوط هـذا العـدد مـن الضباط والجنـود، قتلى وجرحى ومفقـودين وأسـرى، تبيـن أنّـه لا قيمـة لحيـاة هـؤلاء، لـدى القـادة الأتراك جمال وطلعت وأنـور، وإن مـا ذكره جمال باشا عـن هـذا الإستطلاع لمعـرفة قـوى العـدو، مـا هـو إلاّ تبـرير لفشلـه في قيادة العمليات الحـربية.

جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا
جنود أتراك في ساحة إعدام شهداء 6 أيار 1916 على يد المحاكم العرفية لجمال باشا

تهجيــر منظم للنخبة السورية واللبنانية
بـعـد فشـل الهجـوم على قنـاة السويس وهـزيمة الجيـش العثماني، شـعر جمـال باشـا بنقمـة المنطقة عـلى الاتـراك، فبـدأ يحـاول التقـرّب مـن العـرب، ويلـحّ على النـاحية الـدينية الإسلامية لإسـتثارة العـرب في الحـرب. لكنّـه بعـد أن سمح للمنفيين بالعـودة الى أوطانهم، عـاد وألقى القبض على معظمهم مجـدّداً، وعلى آخرين من لبنان وسوريا وفلسطين، وبـدأ بنفيهـم مع عائلاتهم الى الأناضول. وعمل على تأليف لجنة في دمشـق دعيت «قومسيون التهجير»، كانت مهمّتها سـوق المنفييـن مع عائلاتهم الى الأناضول، وتسجيل أملاكهم لإعطائهم بـدلاً عنها في أمكنـة نفيهم. وقـد تـمّ نفي حوالي ألفي شخص الى مـدن : أزميـر، مغنيسيا، أردمير، بورصة، أسكي شهر، قـره شهر، يني شهر، طوقات، سيوس، أدرنة، قونير على ان يستمر النفي ليبلغ عـدد المنفيين عشرات الآلاف، وقـد أراد جمال باشا ورجال الاتحاد و«الترقّي» من هذا الاجراء، اقتلاع العائلات ذات الوجاهة من جـذورها، واحضار عائلات أتراك وأرمن وعرب مكانهم، مـن أجـل تتـريك بلاد الشام وانتـزاع الفكرة العربية منها.
كان جمـال باشا قـد وجّـه بـلاغاً إلى اللبنانييـن، بإعـلان الأحكام العـرفية. وكل شـخص يظهر أياً مـن مظاهـر العطـف، أو المحبّـة نحـو الفرنسيين أو الإنكليـز أو الـروس، يحاكـم فـوراً أمـام ديـوان الحـرب ليلقى جـزاءه مـن العقـاب، وقـد بلـغ عـدد الذين نفّـذت بحقّهـم أحـكام الاعدام بتعليقهم على المشانـق 52 شخصاً، وعـدد الذين صدر بحقهم أحكام اعـدام غيابية 80 شخصاً، ولـم ينفـع وجـود فيصل في دمشق، والتماسـه العـفـو عن المحكومين مـن جمـال باشـا، وتـدخّل الشريف حسين بالذات لمنـع تنفيـذ الإعـدام في 6 أيّـار 1916، بأشخاص وطنيين في دمشق وبيروت، بتهمـة العمـل على فصل سـوريا وفلسطين والعـراق عـن الـدولة العثمانيّة6. وكان الشريف حسين «شـريف مكّـة»، يسعى لإقامـة حكم عربي بـرعايـة بـريطانية.
عمّـت المجاعـة في لبنان خلال العامين 1915 و 1916، بسبب الغلاء وفقـدان المـواد الغذائية، وانتشار الجراد الذي قضى على كل مـا هـو أخضر مـن الأشجار والنبات، وقـد حوكم العشرات أمام محكمة الديوان العرفي في عاليه، وعلّـق العـديد على المشانق في بيروت ودمشق، كمـا نفـي المئات إلى فلسطين وبلاد الأناضول، وقضي على نظام المتصرّفية وأصبح لبنان يـدار كأيّـة ولاية عثمانيّة.

القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة
القصف المدمّر للبوارج البريطانية أحبط هجوم الجيش العثماني على قناة السويس وأوقع به خسائر جسيمة

حـمـلة السويس الـثانية
عمـل جمال باشا على تجهيـز حملة عسكرية ثانية للهجوم على قنـاة السويس، ونقـل مقـرّه العـام إلى القـدس، ليكون قـريباً مـن الجبهة وعلى إتصال بالعمليات الحـربية. قامت الحملة بهجومها على القنـاة في شهر تمّـوز سنة 1916، بمساعـدة فـرقة طيران ألمانية، وصلت مـن برلين إلى بئـر السبع في فلسطين، وبطاريات مـدافع ميدان ألمانية ونمساوية، وقطعـت صحـراء سـيناء، وبوصولها الى محلّتي قاطية والروماني في سيناء، على بعـد أربعين كيلومتراً مـن القنـاة للجهـة الشرقيّة، كانت القوات الإنكليزية بانتظارهـم، وبـدأت بقصف القوات العثمانية بـرّاً وبحـراً وجـوّاً، وحصلت معركة بين الجيشين، انهـزم بنتيجتها الجيش العثماني، وانسحبت قواتـه الى العريش، ومنها الى خـان يونس وغـزّة في فلسطين.
كانت خسائر الجيش الانكليزي في هذه المعركة 1200 قتيل، أمّـا خسائر الجيش العثماني كانت 9400 قتيل مـن أصل قـوة عـددها 18000 جنـدي ومتطـوّع، والفرقـة التي تلقّت النيران الانكليزية، كانت مـن خيـرة الضباط والجنود العـرب.7
في أواخـر شهر كانون الأول 1916، إحتـلت القـوات البريطانية العـريش وتقـدّمت إلى فلسطين. لكن في شهر حزيران 1917، تمكّـن الجيش العثماني مـن صـدّ هجـوم للقـوات البريطانية في غـزّة، وأنـزل بهـا خسائـر فادحـة، فتابعت القوات البريطانية تجهيزاتها بقيادة الجنرال اللنبي، وأعادت هجومها على القوات العثمانية في شهر تشرين الثاني، اضطرتها للجلاء عـن غـّزة وبئـر السبـع ويـافا، ودخـل الجنرال اللنبي القـدس في 10 كانون الأول 1917. أمّـا الجيش العربي المؤلّـف من المتطوعين ومـن التحق بهم من أسرى الجيش العثماني، فقـد قام بأعمال حربية بقيادة أحـد أنجال الشريف حسين، ومساعدة البريطانيين، أجبـرت الجيش التركي على الإنسحاب من فلسطين والبلاد العربية.8
بـعـد تقهـقـر الجيش العثماني وهـزيمته في مصـر وفلسـطين، عـاد المنفيـون إلى بـلادهـم، وتـزعزعت مكانة جمال باشا في تركيا، فأقيل من منصبه واستدعي الى اسطنبول للمثول أمام اللجنة العسكرية العليا، بسبب فشله في حملـتي القـناة الأولى والثانية، وفشله أيضاً في قيادة القوات أمام الشريف حسين، وبسبب علاقته السيئة مع الضباط الألمان ومعـارضته لهـم، وإعـاقـة مخططاطهم، وانكشافه كجاهل في التخطيط العسكري، فجـرى كـفّ يـده ليتحوّل الى دور آخـر.

العدد الجيش العثماني الرابع حاول اختراق قناة السويس بمساعدة الألمان

نـهايـة جـمال بـاشا
بعـد هـزيمة الدولة العثمانية، هـرب معظم أركانها الذين كانوا متحكمين بمقـدّرات الدولة، ومنهم جمال باشا الذي غـادر الى افغانستان بـدعوة من ملكها لتنظيم الجيش الأفغاني. فأوفـده الملك الى فرنسا لشراء معـدّات للجيش الأفغاني، واستقبله الفرنسيون بحفاوة. وعنـدما علمت الصحف اللبنانية الصادرة في باريس، قامت بشـنّ حملة إعلامية ضـد جمال باشا، وذُكـر أن محكمة في بيروت، أصـدرت حكماً بـوجـوب اعتقالـه وتسليمه إلى القضاء اللبناني لمحاكمتـه9. لكـن جمال باشا عـاد الى كابول، فمـرّ في مدينة تبيليسّي، أو تفليس القديمة عاصمة جمهورية جورجيا، وفيما هو يخرج من المقهى في شارع نقولاوسكي، أطلق شاب أرمني النار عليه من مسدسه وصرعه في الحال. أمّا أنور باشا فقد قتله مرافقه في طريق تركستان، وكان المرافق يزعم أنه تركي مسلم، وتبين أنه أرمني، وطلعت باشا وعزمي بك قتلا في برلين، وعزمي بك هذا كان وزيراً، وهو غير عزمي بك والي بيروت.10
في سنة 1916، أوفـدت الـدولة العثمانية وفـداً من الأستانة إلى سوريا ولبنان، ضم بضعة عشر شخصاً من أعيان الأتراك وأعضاء مجلس الأمـة، لتطييب خاطر العـرب بسبب ما فعله جمال باشا من أعمال القتـل والنفي والسجـن، وذلك لتحسين العلاقة بين العرب والأتراك، وتـرميم مـا خـرّبته سياسة جمال باشا.11

الأمير شكيب ونداء الجهاد

كان الأمير شكيب أرسلان من أشد المؤمنين بأهمية الخلافة العثمانية والسلطنة في الحفاظ على عالم الإسلام والجزء الأثمن منه وهو العالم العربي. لذلك ابتأس الأمير كثيراً بسبب انقلاب حزب تركيا الفتاة على السلطان عبد الحميد ، لكنه بسبب اقتناعه بفكرة وحدة العالم الإسلامي حافظ على ولائه للدولة العثمانية خصوصاً وأنه كان يرى تكالب الدول الأوروبية على ممتلكاتها وأراضيها. لذلك عندما قررت الدولة إرسال جمال باشا على رأس الجيش العثماني الرابع في حملة لتحرير قناة السويس من البريطانيين ومن ثم استعادة مصر لم يتردد الأمير شكيب في اعتبار نفسه معنياً كما كان شأنه عندما سافر مع ثلة من المقاتلين للجهاد في ليبيا ضد الإيطاليين.
هذه المرّة قـرّر الأمير شكيب أرسلان أن يذهب بمجموعة مـن المتطوعين، لمساعـدة الجيش العثماني والإشتراك في القتال. فبعـث بـرسائل إلى بعـض الوجهاء والأعيان في قرى وبلدات جبل لبنان، لحـث الـرجال على التطـوّع وجمـع مئـة وعشرين شـاباً متطوعـاً، من مناطق الشوف والجـرد والمتن والعرقـوب والمناصف، وسار بهم إلى دمشق، فـقـرّر ضباط الجيش العثماني تـدريبهم لمـدة شهـر في ميدان المـزّة، كي يحـسنوا الرمي بالسلاح، لكن من أوّل يوم في التدريب تبين أن رماياتهم جيّـدة. فقال ضباط العسكـر، إنّ هؤلاء رمـاة بالفطرة ولا يلزمهم تدريب. في اليوم التالي إنتقلوا بالسكة الحديد إلى معان في الأردن، مكان تجمّع الجيش العثماني والمتطوعين، مكثـوا في معان مـدة خمسة عشر يوماً وانتقلوا بعـدها إلى قلعة النخل في صحراء سيناء، على بعـد ثلاث مراحل من قنـاة السويس وكانت المسافة بين بلـدة معان في الأردن، وقلعة النخل في صحراء سيناء، إحدى عشرة مرحلـة 12.
مكـث الأمير شكيب مع المتطوعين في قلعة النخل في صحـراء سيناء، وطابورين من الجنـد العثماني، مـدّة خمسة عشر يـوماً. وبسبب هزيمة الجيش العثماني (في الحملة الأولى) لـم يشترك الأمير ورجاله المتطوعون بالقتال، علماً بأن الجنود الانكليز لـم يعبـروا قناة السويس حينذاك الى الضّفة الشرقية. ولمّـا أصبحت الأرزاق قليلة لمـؤونة الرجال، عـاد الأمير شكيب مع المتطوعين إلى معان في الأردن، فأقاموا مـدّة شهر انتقلـوا بعدها إلى القـدس بناء على تعليمات جمال باشا، أقاموا فيها عشرين يوماً، وفي القدس وجـد الأمير شكيب نحـو عشرين رجلاً من الأعيان اللبنانيين الذين نفاهم جمال باشا، منهـم: جرجس صفا، ابراهيم عقل، خليل عقل شديد، جرجس تامر، نمـر شمعون، مصطفى العماد، رشيد نخله، خليل الخوري، سليم المعوشي وغيرهم. وذكـر الأمير شكيب أنّـه توسط لهم مـع جمال باشا ليعودوا الى وطنهم.
وبـعـد مضي عشرين يوماً في القـدس، عـاد الأميـر شكيب ومتطوعيه إلى دمشق، ثـم إلى بيروت، حيث تجمّعـوا في حـرش الصنوبر، واستعرض جمال باشا جميع فـرق الجيش العثماني والمتطوعين، في حضور عـدد غـفيـر من أهالي بيروت والمناطق، وألقى خطبة.

عند سلطان

عند سلطان باشا

نص يُنشر لأول مرة بالعربيـة من كتــاب للكابتن كاربييــه
الحاكم الفرنسي على الجبل مابين العامين 1922 و 1925

تعتبر النصوص التي دوّنها قادة الحملات الفرنسية على جبل العرب في سورية في الفترة ما بين 1922 و1926 من أهم المراجع التاريخية التي بقيت لنا عن تلك المرحلة الخطيرة والحافلة من تاريخ الموحدين الدروز ونضالهم ضد المستعمر ومن أجل استقلال سورية ووحدتها. ومن النصوص المهمة المنشورة كتاب الكابتن أندريا الذي وضع له عنوان «انتفاضة الدروز» لكن هناك عدداً من القادة الفرنسيين الذين كتبوا بدورهم عن تلك الفترة وقد أثار فيهم الموحدون الدروز في الجبل مشاعر متناقضة من الإعجاب الشديد بشجاعتهم الأسطورية ومن الخوف ورغبة التنكيل بهذا القوم الذي كان يقاتل قتال رجل واحد تحت زعامة سلطان باشا الأطرش، ولم تنفع مختلف مناورات الفرنسيين وتهديداتهم وإغراءاتهم في تثبيط عزيمته ودفعه للإستكانة للأجنبي.
أحد الذين كتبوا عن تلك المرحلة هو الكابتن كاربييه Carpier الذي عيّن حاكماً للجبل بعد الوفاة المفاجئة للأمير سليم الأطرش (قيل إنه مات مسموماً من قبل الفرنسيين)، وأظهر في وقت قصير سوء فهم وتقدير لظروف الجبل ولمشاعر أهليه، فكان أحد أهم الأسباب التي أدت إلى الثورة في العام 1925 والتي بدأت درزية قبل أن تنتقل نيرانها إلى أنحاء عدة من سورية ومن جنوب لبنان وتتحول إلى ثورة سورية وعربية على المستعمر الفرنسي.
النص التالي للكابتن كاربييه هو من كتابه الذي ترجمه الأستاذ نبيل أبو صعب ويتوقع أن ينشر قريباً، وهو يعود كما سيلاحظ القرّاء إلى الفترة التي كان كاربييه يحاول فيها خطب ودّ سلطان باشا لأنه اعتبره الرجل الوحيد القادر على تهدئة الجبل والقادر أيضاً على إشعاله، كما اعتبر كاربييه –والقادة الفرنسيين – جبل الدروز المنطقة الوحيدة في سورية التي يمكن أن تسبب لفرنسا مشاكل خطيرة فكان همهم كله منصباً على محاولة استمالتها أو إخضاعها.
والنص الفرنسي يمثّل شهادة موضوعية ومن قبل قائد فرنسي في شخصية سلطان باشا وشيمه التي كانت تفسر الولاء الذي حاز عليه بين دروز الجبل والإحترام الكبير الذي حازه في طول العالم العربي وعرضه، كما يتضمن النص وصفاً عن قرب للحياة في محيط سلطان باشا وأشقائه ونمط ضيافته والحياة اليومية، كما كانت تجري في الخيمة التي أقامها في منطقة بعيداً عن القريا بعد أن فجّر الفرنسيون بيته ومضافته عقاباً على دوره في انتفاضة السويداء عام 1922. وسنرى أن كاربييه حمل إلى سلطان باشا مشاعر تصالحية متسلحاً بالعفو الذي أصدرته فرنسا عنه، وكيف حاول جاهداً مصادقته، لكن جهود كاربييه الشخصية لم تكن كافية لأن سياساته وسياسة الفرنسيين سرعان ما كشفت عن نوايا مختلفة، وقد فشل كاربييه في مهمته لدرجة أن مواطني الجبل سعوا –دون جدوى- لدى المندوب السامي الفرنسي لإقالته وتعيين حاكم أكثر تفهماً واحتراماً لتقاليد الجبل وكرامة سكانه.

كانت الساعة تقارب الخامسة مساء، عندما غادرنا بكا متجهين إلى بيت سلطان باشا الأطرش ولم نتوقع أبداً الوصول إلى مخيمه قبل حلول الظلام . فالزعيم الكبير الذي تمرد عام 1922 يعيش تحت خيمة في قلب الريف ، ومع أن فرنسا قد منحته الأمان L’aman، فإن سلطان باشا لم يثق بمثل هذا الكرم وظلّ يعيش كذئب متشكك وسط الصخور بعيداً عن قريته، وفي جزء من «الجبل» لا يمكن الوصول إليه تقريباً كان يعرف تماماً أن فرنسا لم تلق به في السجن حينما حضر يوم 5 نيسان إلى السويداء ليطلب الأمان، لكنه كان يعتقد من دون شك أنها لم تجرؤ على القيام بتلك الخطوة وسط الأربعة آلاف فارس الــذين هتفوا، وقد تجمعوا للاحتفال بالعيد، لـ «بطل الاستقلال» .
كان يظن أنه من الحكمة أكثر، وقد عاد الفرسـان الدروز إلى قراهم، عدم الإقامة ثانية في قريته، ذلك أنه لم ينس خيانات السلطات التركية التي كانت قد استدعت والده إلى دمشق، فذهب إلى هناك بناء على إعطائه الأمان فغدرت به وشنقته.
قرّر سلطان باشا لذلك أنّه من الأفضل الإستمرار بإتخاذ الإحتياطات على الرغم من أن أربعة أشهر كانت قد انقضت على منحه الأمان من قبل فرنسا، والتي لم تطلب في الواقع حتى إعادة كاملة للأسلحة المنتزعة من أيدي أمواتنا. ومن الواضح أنني سأجد صعوبة في تدجين هذا السلطان باشا الشجاع، ولهذا السبب تقريباً أجدني وحال وصولي إلى الجبل أقوم بزيارته اليوم، وقد حرصت من جهة أخرى على أن اصطحب معي صياح بك مدير القريا، والذي استخدم سلطان سلوكه المخلص لنا، مبرراً للقيام بالعصيان عام 1922 . فصياح بك هو في الواقع من اعتقل، في أرض القريّا، وهي البلدة التي كان سلطان باشا زعيمها السياسي، أدهم بك الذي كان في عام 1920 أحد المحرضين وأحد المشاركين الرئيسيين في الاعتداء المدبر على الجنرال غورو .
وقد طلب سلطان باشا، في امتحان لقوتنا، إطلاق سراح أدهم بك بحجة أن هذا الأخير قد «اعتقل على طريق بيته» وبالتالي فهو ضيفه، وكان قد جمع بعض الفرسان وأمام رفضنا، تظاهر بالخضوع وبالعودة إلى القريّا، في الوقت الذي كان ينصب كميناً لإحدى تشكيلاتنا ويقتل لنا ضابطاً محبوباً جداً من رفاقه هو الملازم الأول بوكسان وبعض الرجال وضباط الصف، وقد طوردت عصاباته بشدة خلال أكثر من ستة أشهر، وشيئاً فشيئاً هجره أنصاره واضطر للبدء بمفاوضات لأجل السلام . وأخيراً، في خطوة جريئة، قدم إلينا في السويداء، يوم 5 نيسان، يوم عيد الإستقلال، ضاغطاً علينا بذلك، ومحولاً استسلامه إلى مجد حقيقي له . ومرّة أخرى بتنا المهزومين بنصرنا لأن سلطة سلطان باشا تعاظمت نتيجة لتسامحنا .
هذا هو الواقع الذي وجب أن آخذه في الاعتبار عند استلامي لقيادة الجبل ولاسيّما وأن الوسائل العسكرية الموضوعة تحت تصرفي كانت شبه معدومة في الواقع «سرية واحدة من كل شيء ولأجل كل شيء»، وكان عليّ إذًاً واجب محدد ينبغي القيام به : ينبغي لي، من دون أخذ عواطفي الخاصة التي تربطني بذلك البوكسان المسكين، أن أجعل من سلطان باشا، باعتباره الرجل الوحيد القادر على إثارة الجبل، صديقاً لي بهدف تحييده، ولهذا، فالمهمة الأولى التي مثلت أمامي هي : أن «أعود به إلى العالم المتحضر» أي أن أقوده إلى الإقامة ثانية في قريته، لكي أشدّه إلى الحجارة وإلى مصالح أقوى من جاذبية البريّة والمغامرات، وحتى لا يبدو تصرفي هذا ضعفاً جديداً في عيون السكان، فقد أحضرت معي صياح بك، لأظهر للجميع أن فرنسا تكرّم دائماً أولئك الذين يخدمونها بإخلاص .
كانت الطريق من بكا إلى القريا مقبولة نسبياً في قسمها الأول لكن بعد اجتيازنا لهضبة سكة الحديد التي خطط الأتراك لتنفيذها بين بصرى وصلخد، ووصولنا إلى أراضي القريا، أصبحت الطريق، التي بالكاد نفّذ قسما منها شعب اتصف بعدائه لهم عداء خاصاً، لا تصلح للسير تقريباً، كنا نقفز من صخرة إلى صخرة، ولم يتم بناء عبّارات فوق الأودية، كما حُرص على تعرية الحجارة الكبيرة التي بات علينا الآن أن نقفز من فوقها مع ما يسببه ذلك من ضرر شديد لسياراتنا. على الرغم من كل هذه الصعوبات وصلنا قبل حلول الظلام إلى القريا، وبالطبع فليس ثمة استقبال، ذلك أنّ غالبية السكان من الدروز لم تعد إلى القرية بعد، كما إن القسم المسيحي منهم وهو كبير العدد لم يجرؤ على إظهار فرحه الحقيقي . اجتزنا شارعاً عريضاً بدرجة كافية تحيط به الخرائب الكبيرة لبيت سلطان باشا ومضافته اللذين فجرتهما وحداتنا عام 1922، ثمّ وصلنا إلى ساحة حيث ثلاثة صفوف من الأعمدة الرومانية تتراءى في مياه البركة . كانت الأعمدة قصيرة ثخينة ذات تيجان دورية، وتربط بينها عتبات قويّة، ولا بدّ أن سوقاً كانت تقام هنا، فالدرجات التي توحد بينها أعمدة الصفّ المجاور للبركة كانت تُستخدم من دون ريب مراقاً للباعة .
في هذه الساحة، كان بعض الفرسان الذين يمسكون بأزمّة عدد من الخيول بأيديهم، ينتظرون، وكان علي بك أخ سلطان باشا، يرافقهم وهو من سيقودنا إلى معسكر القائد . امتطينا صهوات أفراس أصيلة فخمة، وسرعان ما سلكنا درباً صعباً كدرب الماعز مليئاً بالأحجار العارية المتقلقلة حيناً أو الغارقة عميقاً في الأرض حيناً آخر. كانت ثمّة أدراج حقيقية ينبغي لنا تسلّقها ولولا مهارة هذه الخيول ذات الخطوات الثابتة التي كانت، حال ولادتها، تتبع أمهاتها في مثل هذه الدروب، فإنّ الأمر كان سيستحيل علينا . وهكذا صعدنا تدريجيّاً في أرض قاتمة مقفرة، حيث كانت مطايانا تمدّ، من دون انقطاع ساقاً ثمّ تقفز من فوق حجر بازلتي، وفي أحيان أخرى كنا نهدم من فوق صدر الحصان تخاريم حقيقية من الحجارة التي صُفّت فوق بعضها بعضاً بتوازن دقيق لتشكّل جدراناً شفافة تحدّد الملكيات في هذه البلاد، ثم نمرّ من هذه الثغرة المفتوحة. وأقسم أنّني لم أعرف أغرب من هذه الجدران الدرزيّة، فإن المرء ليعتقد جازماً أن من بنوها لا بدّ أن يكونوا بهلوانات انقطعوا عن السيرك، فهي قد ترتفع أحياناً لتصل إلى أكثر من مترين وترتسم على صفحة السماء كتلك التقطيعات التي كنا نعملها في طفولتنا أيام المطر، بإستخدام الجرائد المطوية والملفوفة . كان في الجدران شيء أثيري وكانت السماء تبدو ذات زرقة أشد كثافة من خلال الفتحات المتروكة فيها، بسبب هذه الأحجار السوداء المختلفة الأشكال والحجوم .
كنا نتقدم وسط ضوء النهار المتلاشي، منتبهين إلى سير مطايانا . وفي لحظة معينة اجتازت الدرب إحدى الملكيات وقد حُرثت ثمّ اقتُلعت حجارتها في ما بعد . حثّ الفارس الذي كان خلفي حصانه فأخذ مكانه إلى جانبي ، كان الفارس طفلاً تقريباً، بيد أن صفين من الرصاص كانا يتقاطعان فوق ثوبه ذي البياض الناصع ويحمل بزهو بندقية من طراز موزر مثل بقية الرجال الذين كانوا يرافقون علي بك .
وبصوت صادح تقريباً، صوت تلميذ يلقي عن ظهر قلب، غارساً في الوقت نفسه في عينيَّ نظرة رجولية، فإنّ هذا الطفل ذا الأعوام العشرة والشعر الطويل المضفور حيّاني بالفرنسية :
«- أهلاً وسهلاً Mon Capitaine
ودهشت بعض الشيء لأنه سيكون أمراً غريباً أن أجد عند سلطان باشا طفلاً يتكلم الفرنسية، وعلمت أنه ابن أخت سلطان باشا، ومن الذين قدمنا لهم منحة دراسية في المدرسة اللعازرية في دمشق عند وصولنا إلى الجبل، كانوا حوالي العشرين طفلاً درزياً من أبناء أو أقرباء الزعماء توزعوا على مختلف مدارس دمشق وبيروت . في عام 1922 وعند أول خبر عن انتفاضة سلطان باشا شعروا بالقلق، وبدأ هؤلاء الذئاب الصغار، الذين لم يُدجّنوا تماماً بعد، يضيقون بثقل القفص . وكما لو أنهم اتفقوا في ما بينهم، فقد هربوا جميعاً من دمشق وبيروت، وعادوا سيراً على الأقدام إلى الجبل حيث البارود يغني . هايل بك على الأخص التحق بعصابة سلطان باشا في كل جولاتها، وأظهر فيها آيات من الشجاعة لدرجة أنه بعد عام من وصولي إلى الجبل، فإنّ بعض الدروز المعتقلين إثر حوادث درعا والقنيطرة، كانوا يغنون في سجنهم مساء أغنية طويلة تمجد أفعال هايل بك . عضو العصابة الطفل . أما اليوم فقد كان في غاية الرقّة وتملأ الابتسامة وجهه وقد رأيت فيه ذلك الطفل الفخور بإطلاع الغريب على علومه الطفولية، ولكن ما أن يبدأ القتال في الغد فإنني متأكد بأنه سيكون محارباً رهيباً يشدّ بندقية الموزر إلى كتفه، ويصوّب بدم بارد إلى خصمه.
حلّ الليل فجأة تقريباً، واتخذت كتل الحجارة البركانية أشكالاً أكثر فأكثر غرابة لحد القول إنها أبراج خربة أو بلدات مهدمة . وعلى حين غرّة لمحنا عدداً من المشاعل الصغيرة . إنه معسكر سلطان باشا، أخذت المشاعل تتضح شيئاً فشيئاً، فهنا ثمة نيران متقدة تشتعل تحت قدور نحاسيّة كبيرة في مواقد الجمر . فهل تكون تلك الأنوار الضبابيّة الباهتة المتسللّة هي ما تسمح خيام سلطان بتسربها ؟ أتكون تلك النجوم التي تتراقص في ظلمة الليل هي شعلات المصابيح الكبيرة التي تتمايل فوق حدائد طويلة ومعقوفة مغروسة في مداخل الخيام أو تلك التي يحملها بعض الخدم ويسبقون سلطان باشا الذي يتقدم لإستقبالنا مع وجهاء آخرين ، وترجّلنا مسرعين من فوق خيولنا .
وتقدّم سلطان باشا بخطوات طويلة ورحّب بنا بكبرياء وبشيء من البرودة..كان رجلاً في الثلاثينات من عمره، ذا قامة مديدة ووجه شديد الرجولة لكنه ذو نظرات صوفية قليلاً ومشرقة . له شاربان أسودان ثخينان ومنتصبان، وكغطاء للرأس، كان يضع الكوفية، لكن علمت في ما بعد، ومن مصدر موثوق جدّاً أنه ليس أقل « اطلاعاً « وأنه ذو مرتبة رفيعة في الدين . كان يلبس ثوباً حريرياً طويلاً ذا خطوط طولية، وفوقه صدرية ملونة من دون أكمام، وجاكيتاً أسود طويلاً وكلا القطعتين من طراز أوروبي . وكانت عباءة سوداء، تحيط بياقتها حبكة دقيقة من خيوط ذهبية وتتدلّى في شريط رفيع حتى الخياطة الأمامية، تغطّي كل ملابسه، بحيث لا يبين من ملابسه الأوروبية سوى جزء ضئيل من الصدرية ذات اللون الفاتح مما يعطي لمجموع الزّي مظهراً شرقياً .

الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة
الجنرال ديغول يلتقي سلطان وزعماء الجبل بعد الثورة

في خيمة سلطان باشا
قادنا سلطان باشا إلى خيمة الإستقبال، وهي خيمة مربعة من الطراز الإنكليزي ذات حواجز قائمة يرفعها عامودان من الخيزران، غُنمت بعد صراع شديد، في إحدى الغزوات الناجحة في الحرب الكبرى وكانت سجّادات في غاية الجمال تغطّي الأرض ، بينما تشكّل صناديق مغطاة بفرشات ضيقة طويلة ومستقيمة دكات بحذاء حواجز الخيمة . في الوسط وضع إبريقان زجاجيان داكني اللون وبعض الأقداح في ترتيب واضح فوق طاولة مغطاة بسجادة . وثمّة مصباحان بتروليان بخزّانين من البورسلين السميك ذي اللون الأزرق يقفان فوق الطاولة ذاتها.
جلسنا فوق الدكّات وبعد الحركات المألوفة من بعض الوجهاء، أو أقارب سلطان باشا الذين قاموا بقصد لفت الأنظار إليهم، بتكديس العديد من المخدات تحت أذرعنا وخلفنا، قدّم لنا سلطان باشا أفراد عائلته . أولاً، علي، وهو أكبر أخوته، ذو قامة مديدة ووجه يطفح بالقوّة، إنـــه محارب العائلة، وقد أُصيب بجرح عام 1922 في حملة مثيرة ضدّ مصفّحات الملازم أول بوكسان ، إنه لأمر محيّر فعلاً، فسلطان باشا لا يشارك نظرياً في الأعمال التي خطط لها، بل أخوه علي من يقود الفرسان إلى المعركة : وفي هذه الشروط قد يخطئ الإنسان في تفسير شعبية سلطان باشا. ولكنه إذا عاش فترة في هذه البلاد فلن يحار في الأمر .سلطان يمثّل « السّلطة « وله يجب الخضوع وإلاّ تعرض المرء لقمع شديد . فهو من يجمع المترددين لأنه عُرف عنه تنفيذه لوعيده، وهو الذي يعاقب سكان القرى المناهضة له، أولئك الذين لم يقدّموا حصتهم المحددة من الفرسان، أو لم يرسلوا الجمال المحمّلة بالحبوب، وهو من يتحدّث في اجتماعات القادة عن متابعة الحرب، ويفرض بعد النقاشات الطويلة المملّة إرادته التي ينحني الجميع أمامها، إنه الوحيد المؤهّل، في هذا الجبل، لجعل الزّعماء يطيعون له، وذلك بسبب حزمه. وفي المقابل فإنّ الأمر الذي يشدّ إليه قسماً من الشعب هو أنه ربما كان الزعيم الوحيد « الكريم « حقاً من بين كلّ الزعماء ، من المؤكد أن بعض الزعماء الآخرين كانوا يرمون « النقود من النوافذ « بالمعنى الحرفي للكلمة، لكنّ هذا العمل كان في أغلب الأحيان من أجل التفاخر، أو من أجل منفعة شخصية، وفي حقيقة الأمر، كان الزعماء طمّاعين ويستغلون فلاحيهم، ويسرقون الأرض التي استصلحها هؤلاء، ولا يكون لديهم سوى هدف واحد : تكديس « النابليونات الذهبية « في تنكاتهم» أي صفائح بترول قديمة تستخدم كخزائن مالية .
سلطان باشا كان على العكس من ذلك، يستقبل ضيوفه بكرم شديد، ويصرف جزءاً من ثروته في مضافته، وأي بدوي كان يجد فيها الأرز بكميّات وفيرة دائماً ، وكان عادلاً ولهذا كان البعض يتخذه قاضياً في ما بينهم، ولم يستغل ذلك ليكسب بعض الليرات الذهبية التركية من كلا الطرفين .
بالطبع لم يكن سلطان باشا يلعب دوراً نشطاً في المعركة وهو أمر يدهش الغريب دائماً، عند هذا الشعب المحارب، بيد أن الدروز لم يكونوا منزعجين لهذا الأمر، ذلك إن المعركة بالنسبة لهم لم تكن سوى غزوة، والحال، إن من التقليد الثابت لدى هذا الشعب المشاركة في غنائم غزوة من دون المشاركة فيها مشاركة مباشرة، ويكفي لذلك مجرّد إعارة فرس أصيل. فالدروز يعترفون بالفضل دائماً لمن يمنحهم الفرصة للمشاركة في الغزوات المربحة، ويجب الاعتراف أيضاً أن الحظ قد خدم سلطان باشا دائماً، وأن العمليات التي أمر القيام بها عادت بكسب لا بأس به على هؤلاء الناس الفقراء .
يضاف إلى ذلك أن روح العصبية « المحلية « ما زالت تحرّك المقاتلين، وكل قرية تريد القتال على هواها تحت طيّات « رايتها الحربية «، ولم يبعد الوقت الذي كانت فيه القرى تتحارب في ما بينها . ولقد كمُل دور سلطان باشا إذاً حين عرف كيف يجبر قرية بعينها على المشاركة بمعركة ما، وحينما فرض فرضاً على مختلف الوحدات تمركزاً محدداً في خطوط القتال الأولى مطابقاً قدر الإمكان لوضع القرى الجغرافي. وكمُل دوره حينما أشعل فوق الأمكنة العالية، فوق قمّة جبل القليب خاصة، مشاعل اللهب المعدّة من قبل، والتي تعلن الحرب في اليوم التالي، كمُل دوره حينما عرف كيف يوزّع مياه الينابيع والبرك في التجمعات السكانية لأن الأصدقاء أنفسهم سرعان ما يشتبكون بالأيدي من أجل هذه القضايا الحيوية في هذه البلاد المحرومة من المياه . فالقرية الفلانية ليس لديها من الحظ سوى نبع صغير متدفق أو بركة عميقة يتقاسم السكان الماء وفق تعويضات مرتفعة . ويأتي سلطان باشا أيام العطش ليفرض على هذه القرية ذاتها أن تستقبل وتروي الكثير من الحيوانات ، لكن يبقى أنه في يوم المعركة، ومع وجود العقلية الاستقلالية عند مختلف مجموعات المحاربين، لا يتضح تماماً الدور الذي يمكن لسلطان باشا أن يلعبه . ويبدو أن أخوة سلطان كانوا المختارين دائماً للهجوم على رأس مجموعات الفرسان وأضاف إلى ذلك أن مستشاري سلطان باشا الأذكياء وبحكمة كبيرة منهم، رأوا أن هذا الأمر قد يبدو غريباً في نظر المحاربين الدروز مع الوقت، فاستصدروا من مشايخ الدين الأربعة للجبل فتوى تمنع سلطان باشا ولمصلحة « القضية « من المشاركة في المعركة . علي بك هو إذاً وبقوة الواقع محارب العائلة .
مصطفى بك، العملاق القوي ذو الوجه الغليظ، كان فلاح العائلة، فهو من يدير الأعمال الزراعية، يذهب إلى قبائل البدو ليشتري الجمال منها، يوقظ الحصادين ويدفعهم إلى العمل ويحسّ المرء أمامه بطاقة كامنة لا محدودة.
وها هو الأخ الأصغر زيد بك، كــان ذا شعر طويل مضفور ومسرّح بعناية ، وكانت ثيابه بكاملها ذات زرقة باهرة، وتزيّن سترته البوليرو الفضفاضة شرائط مبرومة وتشبيكات مزهّرة وبراندبورية من الحرير الوردي، وكانت أطراف ثوبه الأزرق الطويل تتباعد عند سيره لتكشف عن سروال أبيض، تعلو أسفل ساقيه تطريزات دقيقة تشبه التطريزات الرومانية، وينتعل خفّاً فاخراً ذا صفرة فاتحة، ويلبس جوارب حريرية زرقاء تربطها بما تحتها حمّالات من اللون ذاته، يرسم شاربه الأسود الدقيق حدود شفتين شهوانيتين، ويخطف من الوجه ذلك المظهر الأنثوي الذي قد تشي به العينان المكحولتان والشعر الحريري المضمّخ بعطر مستورد، ولم يكن زيد بك يقدم بمظهره هذا انطباعاً بأنه ذلك المقاتل الجريء، وإنما مجرّد زعيم قرية همّه البحث عن المغامرات العاطفية . بيد أن هذا الـ زيد بك نفسه هو من سيقود في شتاء 1925 العصابات الدرزية في الحرمون برجولة وشراسة جعلتانا نقدم الكثير من الضحايا .
بعد التعارف أدار علينا خادم، يضع في قدميه بزهو كبير جوارب مثقوبة عند العقبين، ربما تركها له زيد بك الساحر، في فنجان واحد، وبالدور القهوة البدوية المعطرة بالهيل ذات المذاق المبرّد للغليل والمهيجة كما يشاع، ثمّ بدأ بعد ذلك تبادل الكلمات والتصريحات الحارة عن الولاء وعبارات متحمسة عن فرنسا التي « قامت بالثورة وبنت برج إيفل». ولحسن الحظ جاء الأرمني الذي كان يرتدي ثياباً أوروبية بائسة ذات لون داكن، ويقوم بدور مشرّف الخدم عند سلطان باشا، ليعلن أن العشاء جاهز، فنهضت لكن أيّاً من الوجهاء لم ينهض تواضعاً وقبل أن يُدعى من قبلي للجلوس إلى الطاولة ، ودائماً عبارات : « داري دارك » و«بيتي بيتك» المألوفة المستعملة بكثرة في بلاد الدروز .
انتقلنا إلى الخيمة المجاورة المزيّنة أيضاً بالسجاد، وقد مدّت في وسطها مائدة على الطريقة الفرنسية، وكانت ثمّة مقاعد ذات صناعة دمشقية حديثة قويّة المظهر بيد أنها معدومة المتانة وقابلة للتفكك تحيط بالمائدة.
كانت صحون «ريولز» جديدة تحيط بطقم مائدة خزفي وكان مصباح كاز مضغوط، ذو ذبالة غير قابلة للإحتراق يضيء المكان بضوء ساطع قليلاً، بالطبع لم أكن أتوقع مثل هذا البذخ هنا وما أدهشني بعض الشيء، أن أيّاً من هذه الصحون لم يكن مثلوماً على الرغم من التنقلات المفاجئة والسريعة فوق ظهور جمال رحّل خلف العصابات وقدّم لي مترجمي مفتاح اللغز : « كل هذه التجهيزات لم تتعرّض لأي خطر أثناء العصيان، ذلك أن سلطان عمل على حفظها عند وجيه مسيحي في القريّا وقد امتنع هذا، خوفاً، عن إطلاع السلطات على ذلك» .
ولسوء حظي، أنا من لا تزال تجثم على معدته بعد ثلاث وجبات منذ الصباح، فقد قدّمت الخدمة على الطريقة الفرنسية، أي تقدّم الأطباق بالتتالي، وتقتضي اللياقة أن أتذوّق كلاً منها و الله يعلم كم كان عددها، ها هي الكبّة، الصحن الوطني السوري، وهو كرات ثقيلة من اللحم المفروم والقمح ثمّ النقانق الصغيرة الممتازة حيث لفّ اللحم بورق العنب ثمّ تلت الفراخ التي تسبح في مرق اللبن الحامض الفراخ المشويّة .
ثمّ حمل خاروف كامل على صينية نحاسية كبيرة، ومعجنّات صغيرة على هيئة معينات تتكدّس فوق رفوف خدمة التحلية، كما طفحت صحون الحساء بلبن رائب ممتاز.
عدنا بعد الإنتهاء من تناول الحلويات، إلى خيمة الاستقبال حيث قُدمت لنا، وهو بذخ لا يجارى حتى الآن، القهوة الحلوة في طقم من الفناجين المذهبة الأطراف، ومن جديد خطب وأحاديث مملة .
هرعنا إلى الخارج، ولاحظنا في عتمة الليل، وفي كل مكان تقريباً، أضواء ساطعة محمرة تتأرجح في كل الاتجاهات، وتنتزع انعكاسات داكنة من الصخور البازلتية الزرقاء المعتمة. وفي العتمة كانت ثمّة ظلال ترتسم على صفحة السماء وهي تقوم برقصات رائعة على ايقاع أصوات الطبول، وتقطعّها النوتات الحادة للنايات، كما تموّجها تموّجاً غريباً سحبات المجوز ذي الأنبوبتين الريفيّة .
إنهم البدو « السرديّة « ، التابعون الحقيقيون لهذا السيد الحقيقي الذي هو سلطان باشا، تركوا خيامهم المنسوجة من وبر الجمال، وجاءوا يشاركون في الإحتفال، والتأمت في كل زوايا المخيم حلقات من الراقصين الذين كانوا يطلقون من حناجرهم نغمة خشنة وقوافلية تتفق مع جنون أجسادهم التي كانوا يرجحونها في فترات متساوية، ويرقصون بجنون، ويمدون أيديهم المضمومة نحو بدويّة كانت تدور باتساق أمامهم وفق حركات بطيئة جداً، جعلت أطراف العباءة التي تتلفع بها، والتي كان قد قدمها لها أحد الوجهاء، تطير كأجنحة رايات النصر القديمة، وكان يتأرجح من فوق رأسها سيف طويل محني، إنّ هذه الرقصة وهي رقصة طقسيّة حقاً تأخذ بهذا المظهر طابعاً حربيّاً . أمام مجموعة أخرى حيث تتشابك أذرع الراقصين وتتماسك أكتافهم، كان درزيّان يلوحان بالخنجر القصير القويّ يقلدان معركة، ولم يكن في حركاتهما أي شيء مفاجئ ولم تكن الرقصة التي تحيط بهذا المشهد تشبه في شيء الرقصة المجاورة .
أمام مجموعة أخرى جاء هايل بك المثير للقلق يرقص، يتدفق شعره ويتطاير حول وجهه اللطيف المحبب، بينما كان ينزلق بخطوات رشيقة من جهة إلى الجهة المقابلة في حلقة الرّاقصين . يمدّ نحوهم كفيه المتّحدتين اللتين كانتا تنفتحان وتنغلقان في حركة تحد، ويقفز من دون توقف، أمام البدو الذين كانوا بوجوههم السوداء وأسنانهم البيضاء كالذئاب الضامرة المتّقدة العيون ، التي تستعدّ للإنقضاض على الفريسة . بيد أن هايل بك، تلك الفريسة الساحرة لا ينوي جعلهم يفترسونه، إذ كان فجأة يجمد في مكانه، ثم برقّة بالغة يستدير ببطء شديد بينما يداه المتباعدتان عن جسده تتلويّان بأّبهة، ثم يحلُّ الهدوء، فقد أشدّ الراقصون إلى بعضهم بعضاً بالأكتاف، وأخذوا يتأرجحـون يميناً وشمالاً، يدقون الأرض دقاً خفيفاً بأقدامهم العارية ذات المفاصل الدقيقة، في حين كان أحدهم ينغّم الرقص بغناء أغنية حزينة، ولم تســـتمر هذه الاستراحة طويلاً، إذ سرعان ما تندفع ثانية الحشرجات الموقعّة من الصدور، وتمتد الأيدي في حركة امتلاك بينما تنفتح وتنغلق أيد أخرى في حركة جنونية، ويميل البدو من جديد بأجسادهم مقابل هايل بك الفاتن الذي عاود إنزلاقاته أمام نصف الدائرة الثمل بالحركة . وإكراماً لهايل بك و( « تشريفاً» له بالفرنسية ) يقوم بعض الخدم من دون أدنى خوف من وقوع حادث ما، بدلق البترول فوق مشاعلهم الملتهبة التي تتألف من قضبان حديدية طويلة غُرست في نهايتها قطع من الوقود المحلي الذي تصنعه النساء، وذلك بدعك روث البقر المخلوط بالتراب لمدة طويلة، ويجعلن من هذا الخليط العجيب كتلاً صغيرة يلصقنها بحركة سريعة على جدران المنازل، أو يجعلن منها كرات ذات حجم متوسط ويضعنها على جدران أملاكهم حتى تجفّ تماماً . كانت هذه المشاعل تنشر في أنحاء المخيم أشعة ذات حمرة نحاسية شديدة تلون تلويناً جميلاً أثواب الشبان الدروز الطويلة وتزيد من بريق الحبكات الذهبية لعباءات الوجهاء. أحياناً، كانت تنفصل إحدى هذه القطع وتتدحرج ملتهبة وسط الراقصين الذين يبتعدون بسرعة، ثم يلتئمون من جديد ويلعبون مع كرة النار، يخطفونها أو يتراشقون بها بحماس أو يجعلونها تقفز فوق الأحجار الكبيرة التي تنزرع وسط أرض المضارب، وكل ذلك تحت خطر حرق الأثواب والقمصان التي كانت تتطاير في كل اتجاه وسط هذا السباق المتهوّر المجنون، وسوف تستمر هذه الرقصات والألعاب ردحاً طويلاً من الليل، وسنسمع المزيد من هذه الحشرجات الوحشية وأصوات الطبل الكبير الصمّاء بعد أن انسحبنا إلى الخيمة – الصالون – حيث جهّزت على عجل عدّة أسرّة باستخدام بعض الصناديق . كان الصندوق الأعلى مغطّى بقماش ملوّن حُبك على شكل نخاريب النحل، ووضع عند طرف السرير، في طيّات متقنة، لحاف ريش أميركي مخرم ورقيق جدّاً من الحرير ذي اللون البراق، بينما وضعت عند رأسه بعض المخدّات الدرزية، التي يتركز نقشها في كونه قطعاً قماشية مقطعة تقطيعاً غريباً ومصفوفة وفق موازيك بسيطة تخلو من أي إبداع، لكنه ذو مظهر جميل جدّاً، ولم نستطع النوم من دون عناء بالطّبع وسط كل هذا الضجيج، ولا حاجة لي للقول إنني لم أستطع وسط كل هذه الرقصات تبادل أيّة كلمة مع سلطان باشا . ولهذا استيقظت في ساعة مبكّرة آملاً أن أستطيع محادثته على انفراد، وخرجت من الخيمة، كان سلطان المضيف الفطن قد استيقظ قبلي ويراقب باب الخيمة، وخدمتني الظروف فاستطعت التحادث معه مدّة طويلة، شكرته لاستقباله الكريم ودعوته لزيارتي في السويداء، وطلبت منه أن يعتبرني صديقاً له، وأن لا يتردد في مقابلتي عند أدنى صعوبة تواجهه .
« يجب أن نقرر أن لا نسمح أبداً لأي سوء تفاهم أن يفرّقنا، وأن نظل مستعدين دائماً للتفاهم بكل صدق حول أي موضوع يطرح . إن أعداء فرنسا سيحاولون عبر التقوّلات غير الصحيحة والمغرضة دوماً، تفريقنا، وهذا ما لا يجب أن نسمح به، ما فات مات ولقد دملنا الجراح ولن يفرقنا شيء ولا ينبغي أن نسمح للآخرين بمحاولة إقامة العراقيل الجديدة في ما بيننا» .
فأجابني سلطان باشا بأنه لن ينسى أبداً سلوك فرنسا الكريم اتجاهه . وقال لي : « لن أغدر بكم أبداً، لأنه بعد الوعود التي قطعتها لممثلي فرنسا فإنني سأشعر بقلّة القدر في عين نفسي، وسوف نصبح أصدقاء رائعين « .
لم ألحّ كثيراً، ولكنني كنت أحسب أنه منذ الآن وحتى بضعة أيام سأستطيع إقناعه بهدوء بالعودة إلى قريته وإلى كسر شبه القطيعة هذه.
وسيكون الأمر صعباً خصوصاً وأن البعض جعلوه يأمل أن تقوم
« فرنسا التائبة » بتقديم النقود له لإعادة بناء مضافته .
وقادني سلطان إلى القريّا، وهناك أشار إلى منهل رائع كان قد أمر ببنائه، ولسوء الحظ فإن الساقية التي تجلب الماء كانت تصل إلى مستوى أدنى من مستوى المنهل . سأقوم بإصلاح ذلك، وهكذا سأستطيع التقرّب من سلطان باشا .
من المؤكد إن الله يرعاني اليوم .
* *
/1924/ – ها قد انقضى عام على الصداقة التي عقدت أواصرها مع سلطان باشا. وليس هناك ما يدعوني إلاّ لأن أحمد فعلي : صارت مدرسة قريته من أفضل المدارس إدارة في الجبل، وتمّ تلقيح فلاّحيه ضدّ بعض الأمراض من دون صعوبة، وصارت شوارع قريته هي الأوسع والأقل وعورة في المنطقة . إلى الأمام فكل شيء على ما يرام، بيد أنني كنت قلقاً، إذ كان يجري الإعداد للإنتفاضة السورية في كل مكان، وتحت أنظار حلفائنا السابقين المتسامحة، كان رضا باشا الركابي رئيس وزراء الأمير عبد الله ينظّم في شرق الأردن العصابات التي كان عليها القيام بالاضطرابات على حدودنا الجنوبية، وكانت إحدى هذه العصابات قد قتلت في المزيريب عدداً من الجنود وجرحت زوجة ضابط، وفي القنيطرة قُتل عدد من رجال الدرك، وهوجمت إحدى المفوضيات في قلب دمشق، واغتيل عدد من رجال الشرطة . وظلّ الجبل هادئاً، وقد غادره ثلاثة زعماء دروز منشقين بيد أن أحداً لم يتبعهمم. لكن قادة اللجنة السورية زادوا من التحريض، لأنهم كانوا يعرفون أنه من دون مساندة هذا العنصر المحارب، فإن حركتهم ستؤول إلى إخفاق مؤكد . فوق ذلك كله تردد في كل مكان أن الجبل سوف يثور، ولم يكن يمرّ يوم من دون أن يأتي زعماء القرى المجاورة في حوران الذين كانوا يخشون نتيجة لخبرتهم بالغزوات الدرزية، للتعبير عن قلقهم أمام زميلي مسؤول مكتب استخبارات درعا ، ومن جهة أخرى كنت أعلم ومن مصادر موثوقة أن سلطان باشا قد أودع أثاث بيته وسجاده عند بعض الوجهاء المسيحيين . فهل كان سيمضي ثائراً هو الآخر على الرغم من ادعاءاته المتجددة بالصداقة ؟ وكنت أعلم أيضاً أنه بدأ يضطرب لأن خصومنا جعلوه يخاف من احتمال اعتقاله، ولذا فقد أقام مراكز مراقبة حول قريته، لتجنّب مثل هذا الإجراء . هيا، يجب أن نطمئن سلطان مجدداً، ونمنع الوحش، وقد دُجّن بكثير من الصبر، من الهرب بنتيجة حركة غريزية . فكتبت له رسالة طويلة أنهيتها بما يلي :
« إنك صديقي الحميم وقد عملنا سويّاً دائماً، وأعتقد في هذه الفترة أنه من واجبنا نحن الاثنين العمل لإعادة الهدوء إلى البلد، وربّما تطلب ذلك جهوداً كبيرة ولكنني متأكد أن إرادتي الطيبة المطلقة وصداقتك التي خبرتها مرّات عديدة ستكفيان لإنجاز هذه المهمة « .
ولم يتأخر الرّد : إذ سارع سلطان باشا منذ الغداة، مخدوعاً بالتعاون الذي عرضته عليه، إلى إرسال أخيه علي إليّ ليؤكّد لي إخلاصه . وأستطيع الآن تأجيل العملية التي كنت قد أعددتها مع ذلك من أجل أن أختطف زعيماً من الانتفاضة السورية المرتقبة، بعد عدة أيام دشنت وسلطان باشا في احتفالات لا تنسى ميدان السباق في صلخد، في حين كانت درعا لا تزال تردد صدى طلقات رجال العصابات .
وفشلت الانتفاضة السورية .

كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..
كانت الطريق لا تصلح للسير وكنا نقفز من صخرة إلى صخرة..

1925 أنا في فرنسا
سلطان، المرتعب من بعض الإجراءات السياسية ومن اعتقال بعض أقاربه، وهو الأمر الذي كان له ما يبرره على كل حال، يهرب معلناً الثورة . إنه لأمر لا يصدق ولكنه يُفسر بالنجاحات المتحقّقة في الجبل، ذلك أن سلطان وجد صعوبات جمة في جمع سبعة وعشرين فارساً، لكن الحظ يخدمه بصورة غريبة. فقد التقى في طريقه بسرية من الجنود أرسلت إلى الريف على غير هدى، وبالنسبة لمحاربي سلطان لم يتعدّ مجرد اللعب أمر إبادة هؤلاء الرجال الذين كانوا يفاخرون بارتداء البذلات العسكرية ويناورون بطريقة مثالية جدّاً لكنهم لم يكونوا يطيقون استنشاق رائحة البارود . وجلبت الغنيمة المكتسبة بعض الأنصار له، ثم وقعت بعد ذلك العملية المؤلمة في 3 آب حيث أباد ثمانمئة درزي طابور ميشو المسكين الذي يتكون في غالبيته من جنود إما غير مجربين وإما دون قيمة قتالية . ثم كانت مغادرتنا للسويداء والجبل أخيراً هي الأمر الذي سمح لقادة سلطان بقيادة الجماعات الدرزية « لاجتياح قرى في حرمون وضواحي دمشق. لقد استيقظت غرائز الغزو الدرزية القديمة وها هم ستة آلاف محارب من الجبل يهتفون الآن للزعيم الذي أتاح لهم تلك الفرصة .

محمود كيوان

سيرة المجاهد محمود كيوان

كتلــــة عنفــــوان ومهــــارة قتــــال
وشجاعــــة بلغــــت حــــدّ التهــــور

أطلق الفرنسيون على غارات محمود كيوان ورفاقه إسم «غارات جهنم» لطابعها الصاعق ولسرعة اختفاء المهاجمين

توغَّل كقائد موقع حدودي داخل تركيا واحتل قلعة
لاستعادة أغنام مسروقة فأشعل أزمة بين البلدين

طوق الفرنسيون سلطان باشا ورفاقه في أبو زريق فانقضّ محمود ورفاقه عليهم من الخلف وشتتوا شملهم

سألني مرّة أحدهم:«أنتم في جبل حوران كل واحد منكم يزعم أن والده أو عمّه أو خاله قتل كذا وكذا من العثمانيين والفرنسيين»!…
قلت له: ما ذنبنا إن كنت لم تقرأ تاريخاً منصفاً؟ لا أريدك أن تقرأ لكتّاب الجبل ومؤرخيه بل أن تقرأ ما كتبه الآخرون من مثل: عبد الرحمن الشهبندر ومنير الريّس وأدهم آل جندي والفرنسي الجنرال أندريا وبيير لامازيير واللبنانيان المعروفيان المنصفان عباس أبوصالح وحسن أمين البعيني وغيرهم وإن بقيت لك حجة كهذه فعد إلينا بها..
بدأت بهذه المقدمة لأنني على وشك أن أعرض على القارئ سيرة المجاهد محمود كيوان الذي كان في طليعة الفرسان الأشاوس الذين سطروا بطولات ومآثر مشهودة في مقاومة المستعمر الفرنسي أدهشت العدو قبل الصديق، وقد كان هذا المجاهد يضطرم شجاعة وتحرقاً لمواجهة العدو لدرجة جعلته يقوم بأعمال وصفت بالتهور بل بالإستهتار مثل أن يصول ويجول على فرسه في مقابل متاريس الفرنسيين ورشّاشاتهم وهو يصليهم النيران حاثّاً رفاقه ومحرّضاً إياهم على قتال الجيش الفرنسي المتفوق عدداً وعدة. كان خلال الثورة السورية ينتقل من موقعة إلى أخرى ويركب المخاطر ويحقق ما كان يعتبره كثيرون أموراً مستحيلة. كرهه الفرنسيون لكنهم احترموه في الوقت نفسه لشدة بأسه وبسالته ومدحه السلطان في أكثر من مناسبة وفي مذكراته.
فمن هو المجاهد محمود كيوان وما هي مساهمته في سجل الأمجاد والبطولات الذي دوّنه أبطال جبل العرب بأعمالهم المجيدة وفي أحيان كثيرة بدمائهم الزكية وأرواحهم؟

نسب عربي وأسرة عريقة
آل كيوان عشيرة عربية تعود بأصولها إلى آل منذر حسب يحيى حسين عمّار في كتابه الأصول والأنساب ( الجزء الأول، ص 179) وهؤلاء القوم من تنوخ هم من قبائل الفتح العربي الإسلامي، وكان أجدادهم قد انتقلوا في الماضي البعيد من ديار معرّة النعمان إلى برمانا من بلاد المتن في لبنان، واشتهر أمرهم كإحدى عائلات المتن الدرزية القوية على ما يذكره الشيخ ناصيف اليازجي، وقد لعبوا دوراً في سياسة البلاد إلى جانب الأمراء الدروز اللمعيين، ولكن تنصّر هؤلاء بتأثير الأمراء الشهابيين السنة الذين تنصروا بدورهم، جعل اللمعيين في المتن يضغطون على آل منذر وهم أسلاف آل كيوان بهدف تنصيرهم، ولما قاوم هؤلاء سياسة اللمعيين، يقول يحيى عمار بأن العلاقة بين العائلتين ساءت ووصلت« إلى حدّ الإفناء»، بينما يذكر حنّا أبو راشد ن أولاد مصطفى كيوان وكانوا خمسة رجال ارتحلوا إلى جبل الدروز من باتر التي كانوا قد استقروا فيها إلى حين، وذلك بعد تهجيرهم وغدر الأمراء اللمعيين بآبائهم، وتشتيتهم من ديارهم في برمانا وسائر بلاد المتن، وقد وصلوا بادئ الأمر إلى السويداء، فالقريّا، كان ذلك نحو أواسط القرن التاسع عشر وما يليه، ومنها توزعوا إلى قرى مياماس وسهوة الخضر وعرمان، والأبناء هم: حمد وبشير ومحفوظ ومحمد ووهبة. ويقول أبو راشد: في ص 70 من كتابه «جبل الدروز»، في آل كيوان:
«لهم مزيتان: مزية الفروسية في الحرب، ومزية الفلاحة في السلم»، ويشير أبو راشد إلى عدة رجال اشتهروا من هذه الأسرة العريقة وهم: يوسف أبوحسين كيوان، وخليل بك كيوان «زعيم العشيرة الأول، وكان من جملة الثوار الذين تقرر شنقهم مع ذوقان بك والد سلطان باشا الأطرش، ورفاقه الخمسة (سنة 1911)، ومع هذا سَلِم»، ويقول يحيى عمار:» وقد اشتهر من هذه الجماعة في الثورة السورية الكبرى 1925 بطل جريء هو محمود كيوان وهو بطل معركة الفالوج وقد اتصف بالنكتة والجرأة والخلق الكريم، ورجال هذه الجماعة في الإجمال ممن يعتمد عليهم في المهمات الصعبة».

المولد ومغامرات الشباب
ولد محمود كيوان عام 1898، في قرية مياماس وهي من القرى العالية في جبل العرب، والده الشهيد سليم كيوان وهو من مجاهدي الثورة السورية الكبرى عام 1925 ومن شهدائها أيضاً.
نحو أواسط العقد الثاني من القرن العشرين سافر محمود الطموح من دون علم والده إلى الأرجنتين، وحسب ابنه شكيب، أمضى محمود في تلك البلاد مدة خمس سنوات لم يوفّق خلالها في جمع مال يذكر، ولعلّ مردّ ذلك أن الشاب كان أنوفاً وذا كبرياء، إذ لم يسافر عن فاقة، فهو ابن بيت وجاهة، ومن كبار ملاّكي قريته، وقد روى رفيق غربته هاني ملاّك، من قرية قيصما، أنه كان يعمل ومحموداً في إحدى مزارع تلك البلاد وبرفقة أربعة وعشرين من الإيطاليين، وعندما جلسوا لتناول غدائهم أخذ الإيطاليون يقهقهون ويسخرون منهم، وهم يقولون« توركو عرب»، ولم يكن من عربي سواهما، غضب محمود، وقال لصاحبه:«قم واحمِ لي ظهري بحيث لايطعنني أحد منهم من الخلف، هنا حاول هاني إقناعه، فأبى»، يقول هاني:«دارت بيننا معركة خاطفة استطعنا التغلّب عليهم جميعاً، كان محمود لا يعيد ضربته، ومنذ ذلك الوقت افترقنا ولم أعد التقي به في تلك البلاد».

معارك شوارع في الأرجنتين
ويروي رفيق اغتراب آخر هو الشيخ أحمد جربوع أنه اشتغل ومحموداً في أحد المصانع، وعندما استثارته جماعة من العمال بالسخرية من العرب، ما كان منه إلاّ أن تناول أنبوباً ضخماً من الحديد يعجز عن حمله عدة رجال، وضعه عرضانياً على كتفيه، وأخذ يعصف بهم يميناً ويساراً، فصار كلّما اقترب منه فريق منهم يريدون الإنتقام منه يطرح بهم أرضاً… وهكذا إلى أن اضطر مدير المصنع إلى طلب البوليس، وعندما حضر هؤلاء دهشوا لذلك المشهد الخارق الذي اجترحه ذلك الشاب العربي، فاقتربوا منه وقالوا له :«نحيّي فيك هذه البطولة، اترك أنبوب الحديد وتفضل معنا».
أخذوه معهم خارج المصنع، وطلبوا منه ألاّ يعود إلى المصنع لكي لا ينتقم منه أولئك الذين أذلّهم ببطولته، وأرسلوه إلى رصيف بحري حيث يتم تفريغ السفن، هناك كان أحد مراقبي العمال يتعامل بغلاظة مع العمال، ولكن محموداً أظهر عدم احترامه لسلوك ذلك المراقب مع رفاقه، فما كان من المراقب إلاّ أن اتفق مع عدد من العمال لإذلاله، وأخذ يوجّه له كلمات مهينة، أثارت غضبه، ولم يلبث أن هجم عليه نحو اثني عشر من العمال أتباع المراقب الفظ، فغلبهم ولم يقدروا عليه، فما كان من مسؤول محلّي في بار مجاور للرصيف، وكان هذا مصارعاً يخافه كل من كان في الموقع، إلاّ أن جاء غاضباً بذريعة أن ذلك العربي أخلّ بسيرورة العمل، وتقدم منه يريد ضربه، فما كان منه إلاّ أن حمله بين يديه ورمى به في البحر، وبذلك جعل منه أضحوكة لمن حوله، فاضطر أن يغادر المكان خجلاً مما لحق به من مذلّة.
لكن محموداً ترك العمل في تفريغ السفن، ومضى يفتش عن فرصة أخرى.

“عاد محمود كيوان إلى الجبل بشروط قبلها الفرنسيون منها حصانته واحتفاظه بسلاحه واستقبل باحتفال وحرس وموسيقى عسكرية”

بطل مصارعة بالصدفة
ذات يوم قرر محمود حضور حفلة مصارعة، ولمَ لا؟، فهو مصارع بالفطرة، ولكن أحد المصارعَيْن لم يحضر لسبب ما، فأُسقط في يد مدير الحفلة الذي اعتذر من الحضور عن تخلّف المصارع، لكنه أضاف مازحاً على سبيل تلطيف الجو.
ــ هل بينكم من يؤدّي هذا الدور؟
فما كان من الشاب محمود إلاّ أن وقف متحدّياً وأشهر ذراعه!
هنا سأله المدير:
ــ هل لديك شهادة تخوّلك العمل بهذه المهنة، أو وسام ما؟.
قال محمود: لا، ولكنني أتحمّل المسؤولية عمّا أنا مقدم عليه.
عندها دعاه المدير إلى مكتبه، فتعهّد بتحمّل المسؤولية الشخصية عن نتيجة عمله، وأنه يبرّئ ذمة الإدارة عن أي مكروه يصيبه.
كان خصم محمود مصارعاً محترفاً، خبيراً بأساليب المهنة وأسرارها ومقالبها، لكن محموداً كان صخرة صلدة من صخور الجبل، وهو صعد من دون اي تردد إلى الحلبة ، ليواجه من دون أي تدريب سابق على فن المصارعة خصماً قوياً ومحترفاً ويفوقه وزناً. وقد فاجأه ذلك الخصم بمكيدة، إذ طرح بجسده أرضاً ثم لفّ برجليه حول ساقي محمود بعزم أمكنه من إيقاعه أرضاً، ثم انتصب واقفاً بسرعة يريد أن يمسك
محموداً من رقبته بزنديه القويين.
أمّا محمود، فقد تمكّن من فك كمّاشة زندي المصارع من حول رقبته وعنقه بقبضتيه الحديديتين، وبسرعة خاطفة أمسك به من خصره، ورفعه إلى الأعلى ورمى به أرضاً بكل ما امتلك من قوة وعزيمة، فكسر بذلك عموده الفقري، وهكذا بقي الخصم منطرحاً أرضاً لا يقوى على الوقوف.
هنا تناول الحكم يد محمود، ورفع بها إلى الأعلى معلناً انتصاره، وانتهاء الحفل مع منحه ثلاثة آلاف دولار أميركي جائزة فوزه.
شاعت أخبار محمود في أوساط الجالية السورية، ووصلت أخبار مغامراته إلى جبل العرب، ونقل أحد المغتربين من قرية الغارية أنباء الإبن إلى أبيه في قرية مياماس، فخشي الأب على حياته إن هو ظل في بلاد الغربة، وأرسل إليه راجياً منه العودة إلى الوطن، وهكذا عاد محمود كيوان إلى مياماس.
كانت بطولات أرفع شأناً من تلك تنتظره على تراب الوطن.

محمود كيوان في معركة الكفر
يروي الأستاذ شكيب كيوان، وهو ابن المجاهد محمود، أن سلطان باشا عندما كان متّجهاً بصحبة رفاقه الثوار إلى الكفر، أرسل أخاه عليّاً إلى بيت الشيخ سليم كيوان، والد محمود ليستنفره ضد الفرنسيين مع أهالي قريته مياماس، وكان سلطان يمتلك رؤيا استراتيجية فطرية سليمة للحرب وللسياسة، فهو يريد أن يوفّر للمواجهة الأولى مع الفرنسيين كل شروط الفوز، وبهذا فقد كانت مياماس تشكل رفداً معززاً لقوى الهجوم الصاعق الذي شنّه الثوار على الحملة الفرنسية.
ويروي شكيب في ص70 من كتابه«محمود كيوان»، أن كنج الحلبي من بلدة عرمان قال له: «شاهدت والدك ينقض على مرابض العساكر بالسلاح الأبيض، وفي نهاية المعركة كان يحمل بيديه ستّ بنادق أعطى بعضها لرفاقه وأن حمد منذر من قرية المغّير طلب من سليم والد محمود بندقية فقال له سليم:«كسبت ثلاث بنادق، أعطيت إحداها لرفاقي، ولكن سأطلب لك بندقية من ولدي محمود، وبالفعل فقد أعطى محمود بندقية لحمد منذر.

موقعة «تل الخروف» ومعركة «المزرعة»
حدثت موقعة «تل الخروف» قبيل معركة «المزرعة» بيوم واحد، كانت موقعة شؤم على بني معروف، إذ استشهد فيها عدد من شجعان فرسان بني معروف الذين أغاروا على مواقع الفرنسيين من دون أن يدروا أن هؤلاء أعدّوا لهم كميناً غادراً، ومن أبرز شهداء تلك الموقعة المناضل حمد البربور، رفيق سلطان وساعده الأيمن، وفي ذلك اليوم قتل حصان محمود كيوان تحته لكنه أفلت من الموت.
يروي شكيب أن نجم الفقيه نقل عن المجاهد زيد الأطرش قوله إن المجاهد محمود كيوان كان أول من نبّه إلى أن ذهاب الثوار إلى المسيفرة عملية محفوفة بالمخاطر في أرض سهلة مكشوفة يريد بها العدو استدراجنا إليها بعد الانتصارات التي حققناها، ولكن الروح الحماسية طغت وكان ما كان من نكسة للثوار وخسائر جسيمة.

بعض قادة الثورة السورية في صورة تذكارية ويبدو المجاهد محود كيوان - الثاني من اليمين
بعض قادة الثورة السورية في صورة تذكارية ويبدو المجاهد محود كيوان – الثاني من اليمين

في معارك الغوطة
ندبت قيادة الثورة مجموعة من كبار الثوار، ومنهم زيد الأطرش ومحمد عز الدين الحلبي وحمزة درويش ومحمود كيوان ومحمود أبو يحيى وغيرهم، إلى منطقة الغوطة بهدف دعم ثوار دمشق في الغوطة حول العاصمة والتي كانت تتمركز فيها قوات الاحتلال الفرنسي، وكانت فرنسا قد استقدمت مائة ألف جندي بأحدث تجهيزات ذلك العصر، وعمدت إلى محاولة خنق الثورة في إقليم البلاّن والقلمون ودمشق وذلك بهدف الإجهاز لاحقاً على قيادتها في جبل العرب.
كان الثوار في الغوطة يحاصرون الفرنسيين الذين اتخذوا من مدينة دمشق العاصمة حصناً يلوذون به من هجمات الثوار، ومن سكانها درعاً بشرياً يحتمون به.
وفي معارك الغوطة ودوما لمع اسم المجاهد محمود ورفاقه، ففي بلدة دوما كان الفرنسيون قد حصّنوا داراً جانبية ، واتخذوها موقعاً عسكرياً يتحكمون منه بطريق دمشق حمص وشمال سوريا. يقول المجاهد الحموي منير الريّس في كتابه:« الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي، الثورة السورية الكبرى، ص 331»، بأن تلك الدار الحصن التي«أصبحت بمثابة ثكنة محاطة بالأسلاك الشائكة من كل جوانبها، وفي جدرانها أعشاش للرشاشات تحصد بسلاحها كل من يهاجمها أو يدنو منها»، يقول الريّس بأن تلك الدار « لم يلبث أن هاجمها محمود كيوان بقواته، وأسر جنود فصيل الدرك، وغنم خيلهم وسلاحهم».

هجوم صاعق في دوما
هاجم محمود كيوان ذلك الموقع الشديد التحصين بنحو عشرين مجاهداً من رجاله، ومنهم عزام قماش وحمد فندي كيوان وعطا الله خير شجاع وشجاع شجاع ونايف عزام ويوسف نصر الدين وذياب كيوان ومحمد نادر وحمود أبو حمود كيوان وأربعة مجاهدين من قرية مفعلة من آل غانم ومجاهد آخر من آل زهر الدين أصيب في أثناء ذلك الهجوم، وثلاثة مجاهدين من غوطة دمشق، فاستولوا على الموقع وأطلق محمود سراح السجناء الوطنيين وأحرقوا محتويات الموقع، وأسروا بعض جنوده، بينما فرّ آخرون، وغنم المهاجمون خيل الفرنسيين وسلاحهم، ودخل محمود بمفرده إلى غرفة الضباط وأسر سبعة منهم، ولما هرع أهل دوما على أصوات لعلعة الرصاص مع باكورة الصباح خطب فيهم محمود:«يا أهل دوما لا تخشوا ولا تخافوا، قولوا لرجال فرنسا وقادتها، إننا من فعل هذا، وسنحاصر ونهاجم القوات الفرنسية أينما وجدت، وأنا محمود كيوان من الجبل». ولم يزل أهالي دوما يذكرون تلك الواقعة، وقد قدم منهم مرة وفد كبير زار بيت محمود في مياماس تقديراً لبطولته.

إحتلال الفرنسيين للسويداء
كان الثوار قد انسحبوا من قرى الجبل الغربية، وقرروا مجابهة القوات الفرنسية التي يقودها الجنرال أندريا في الأراضي الوعرة الواقعة غرب مدينة السويداء، وفي يوم 25 نيسان 1926 وبعد معركة شارك فيها الطيران الفرنسي والمدفعية الثقيلة والدبابات، أُجبر الثوار بنتيجتها على التراجع والانسحاب، وبهذا تمكن الفرنسيون من احتلال مدينة السويداء.
تراجع الثوار عن مدينة السويداء عاصمة الجبل، ولكنهم ظلّوا يقاتلون الفرنسيين في قرى المقرن الشرقي وفي اللجاة، وقد اشتهر في تلك المعارك التي خاضها الثوار حينذاك المجاهد محمود كيوان ومجموعته، يذكر ذلك ولده وراوي سيرته شكيب، يقول في ص 79« بأن والده»بقي في تلك المناطق شهوراً يقاوم القوات الفرنسية» .

موقعة «ابو زريق»
ذكرت مصادر الثورة الكثير من المواقف البطولية لمحمود كيوان، منها كسر الحصار في قرية أبو زريق عن القائد العام سلطان باشا الأطرش، عندما كان برفقة قوّة من المجاهدين في بيت المجاهد أبو حمد فارس أبو مغضب، وتذكر وثيقة وردت في أرشيف الثورة السورية أن السلطات الفرنسية علمت من أحد عملائها أن سلطان مع فريق من الثوار حلوا ضيوفاً في قرية أبو زريق، فشكلت حملة عسكرية لمداهمتهم بهدف اعتقالهم، وعندما وصلت الحملة إلى مشارف القرية سعت إلى تطويقهم استعداداً للهجوم على منزل المضيف، وفي تلك اللحظات الحرجة شعر المجاهد محمود كيوان الذي كان مرابطاً في موقع غير بعيد من أبو زريق، بأن أمراً خطيراً يستهدف القائد العام للثورة، فسارع مع رجاله من جهة شمال القرية لضرب الفرنسيين من الخلف، وأوقعوا فيهم إصابات عديدة، أحدهم برتبة ملازم أول.أما في داخل القرية فقد كان سلطان ورفاقه في موقف حرج، إذ كانت طلائع الحملة تقترب منهم، ولكن الاشتباك مع محمود ورجاله جعلهم يفتحون النار بدورهم على الفرنسيين الذين وقعوا بين نارين، وبذلك كُسر الطوق المضروب على سلطان ومن معه من الثوار، وتمكنوا بالتعاون مع محمود ورجاله من دحر المهاجمين الذين انسحبوا هاربين أمامهم.
وفي ذلك يقول الشاعر ابراهيم أبو صعب:
وهل تنســــــــــــــــاه فـــــــــــــي «بوزريق» أرضٌ بـــــــــــــــــــــــه ظــــــــــــــــــــهرت فِعــــــــــــــــــــالٌ قُســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوريّة
فمحمـــــــــــــودٌ هنــــــــــــــــــــا قــــــــــــــــــــد كــــــــــــــــــــان فـــــــــــــــــــــــــــذّاً يُــــــــــــــكِــــــــــــــــــرُّ على الجيــــــــــــــــــــوش الأجنبيـــــــــــــــــــــة
أيــــــــــــــــــــا بطــــــــــــــــــــــــل المعامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع والمغــــــــــــــــــــــــازي ومقـــــــــــــــــــــــدام العشيــــــــــــــــــــــــــــــــرة والــــــــــــــــــــرعيّــــــــــــــــــــة

القصف الجوي الفرنسي لدمشق يوم 16 تشرين الأول 1925
القصف الجوي الفرنسي لدمشق يوم 16 تشرين الأول 1925

موقعة «أبوزريق» الثانية
في أوائل عام 1927 كانت مجموعة من الثوار بقيادة علي الأطرش شقيق سلطان قد قدمت من قرية الشبِكي وباتت في قرية أبو زريق، ولما كان الفرنسيون يراقبــــون تحركات الثوار في تلك المنطقة، فقد علم القائد«دزدريه» بتواجدهم هناك، فشكل قوة كبيرة من جيشه، ووجهها لمباغتة الثوار فضربت طوقاً حولهم، واشتبكت معهم، واستمرت المعركة حتى الصباح، وكاد يقضى على الثوار لولا مبادرة محمود ومجموعته الذين كانوا متمركزين في قرية طليلين المجاورة، وقد شكّلوا طوقاً من خلف القوات الفرنسية من جهة غرب القرية، وخرقوا الحصار المضروب على الثوار الذين وجدوها فرصة لإفشال هدف العدو.
وقد استشهد في تلك الموقعة المجاهد حامد قرقوط، واستشهد من مجموعة محمود اثنان من آل منذر، وواحد من آل الجغامي، وفي ذلك يقول صالح عمار أبو الحسن؛ وهو الشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى مشيداً بدور محمود وجماعته:
محمود بن كيوان هوِّ وْلابْتَـــه ( أي جاعته)
فزعوا من طليلين عَ الرشاش
حقاً، لقد كان سلطان يثق ببطولة محمود، وفي هذا الصدد يقول أدهم آل جندي في كتابه «تاريخ الثورات السورية»، أن القائد العام للثورة السورية بعث بسريّة من المجاهدين بقيادة محمود كيوان كان في عدادها هايل ونايف الأطرش للدفاع عن شهبا، كما ذكر آل جندي في ص 223 أنه في 7 آب سنة 1926 اجتاحت حملة فرنسية قرية عريقة بحيلة حربية، ونكّلت بمن كان فيها من أهلها ومنها زحفت على ريمة الفخور فتلقّتها قوى المجاهد محمود كيوان واشتبكت معها في صدام عنيف ومُنيت القوة الفرنسية بخسائر فادحة، ولما علم الفرنسيون أن اختراق خط المجاهدين لقواتهم في صميد ومجادل سيوقع بهم أعظم الخسائر عدلوا عن خطتهم وتوجّهوا نحو سليم وشهبا وفي هذه الفترة كانت المعارك تبدأ مع طلوع الشمس وتنتهي عند الظهيرة.

شهامة مغربية أصيلة
بتاريخ 15 نيسان 2000 نشرت مجلة التكامل العربي مذكرات الملازم أول الفرنسي «أنول» الذي شغل منصب قائد لإحدى سرايا الرماة في القوات الفرنسية، وقد تحدث فيها عن مجريات المجابهة بين الفرنسيين والثوار في معركة أم الرمان وما بعدها في طريق حملة الجنرال أندريا لاحتلال مدينة صلخد، يقول:« كنت أقود سرية رماة استطلاع، وعندما أصبحت بالقرب من الغارية شاهدت من على البعد مجموعة من الثوار كنت أعتقد بأنها ليست معنية بمقاومتنا نظراً إلى قلّتها إلاّ أنها أخذت أماكنها وأخذت تطلق النار علينا فاستطعنا بنيران رشاشاتنا الكثيفة وأسلحتنا الأوتوماتيكية إبعاد أكثر أفرادها من استحكاماتنا، وكانت هذه المجموعة تنقسم إلى قسمين ولكن سرعان ما رأينا قائدها قد امتطى جواداً وأخذ يصول ويجول يمنة ويسرة، ويهاجم قواتنا ويشجع أفراد مجموعته مما أدى إلى إصابة عدد من جنودنا، وعندما نظرت بالمنظار عرفت بأنه محمود كيوان ( كان الفرنسيون يعرفونه من بعيد بحكم كثرة مواجهاته لهم، وبدلالة المجندين المحليين من جنود الاسكادرونات أبناء البلد الذين يعرفون الرجل جيّداً بحكم المنشأ والقربى أحياناً)، فغضبت منه غضباً شديداً، لاستهتاره وتماديه على هذه الصورة التي لا يقوم بها إلاّ الانتحاريون، كان يهاجم ويحرّض رفاقه، وكان في عداد سريتي رماة مهرة أدقّهم شقيقان اثنان من المغاربة، فطلبت من أحدهم رميه بسرعة حيث كان مكشوفاً علينا، فأخذ يرمي من دون جدوى، وعندما نظرت جيداً في هذا الرامي شعرت بأنه لم يصوّب بدقة، فصحت به « أسرع وإلاّ قتلتك، كان ذلك القائد قد أصاب معاوني في كتفه، كما استشهد بعض من جنودي، أشهرت مسدسي على هذا الرامي لتلكّئه في قنصه وصحت به أرمه وإلاّ قتلتك!؟، لكنه سرعان ما وقف وقال لي:« أقتل! فلن أقتل هذا الشجاع العربي الذي قلّما رأيت مثله، وفي غمرة الغضب أطلقت عليه النار، فأجابني وهو يتلوّى بدمه:« الآن لست بخائن» وناديت شقيقه الرامي الآخر قائلاً:«هذا مصيرك إن لم تقتل هذا الفارس الذي يتراءى لنا جميعاً، لكنه سرعان ما كشف عن صدره، وقال:« اقتل، اقتل أيها المستعمر!».
يقول آنول:« استغربت عناد هذين الجنديين المغربيين اللذين لم يخالفا أمري إلاّ في هذه اللحظات، لقد هزتهم شجاعة هذا القائد العربي، فامتنعا عن قنصه، وضحّيا بحياتهما من أجله».
ومن جانب آخر فقد أكد على هذه الحادثة أحد جنود الاسكادرونات المحليين من أبناء الجبل الذين تجنّدوا مع الفرنسيين، كان يرويها في المضافات كشاهد عيان حضر تلك الموقعة، وكان يسمي اثنين من الرجال الذين كانوا يقاتلون إلى جانب محمود في تلك الموقعة، وهما أبو حسن محمود أبو اسماعيل ومشعل عبد الله كيوان من سهوة الخضر.
ويتابع آنول:« هذا القائد الذي يسمّى محمود كيوان كنّا نتتبع تحركاته بحذر، وكان لنا بعض الأعوان يتابعون أخباره، وكنا نسمي غاراته على مراكز قواتنا بغارات «جهنّم»، نظراً إلى سرعتها ومفاجآتها لنا، كما كانت تختفي بسرعة، وقد أعددنا له بعض الكمائن، ولكنه كان ينجو في كل مرة منها، وكاد أن يقع بأيدينا في موقع «الشوكتلية» في منطقة جبل الشيخ، كنّا قد نصبنا له كميناً كبيراً، إذ علمنا حينها بأنه سيتعرّض لطريق إمداداتنا في تلك المنطقة، ولكنه نجا».

مجاهدون من الغوطة ويبدو مشارا إليه بسهم حسن الخراط
مجاهدون من الغوطة ويبدو مشارا إليه بسهم حسن الخراط

محمود كيوان في ذاكرة سلطان
كان الإنكليز قد اتفقوا مع الفرنسيين على محاصرة الثورة السورية، وعملوا على إجلاء الثوار عن منطقة الأزرق التي هي أصلاً من أراضي الجبل ومن أملاك بني معروف، فقاموا بتطويقها بقوات من أربعة آلاف جندي بريطاني، ودعموها بآليات مدرعة وطيران، فتعرض المجاهدون للجوع والعطش والأمراض، ولكن سلطان كان لم يتخلّ بعد عن فكرة مقاتلة الفرنسيين، رغم ذلك الحصار المفروض من قبل الحليفين اللدودين، وعلى الرغم من أن كثيراً من المقاتلين من حوله أخذوا يدركون استحالة الاستمرار في مواجهة الفرنسيين عسكريّاً، لكنه بفطرته الوطنية السليمة وفي تلك الظروف الحرجة،كان يعرف كيف يختار الرجال القادة المقربين منه، يقول في مذكراته:«كنا نوجه مجموعاتنا لجنوب الجبل كي نبعد فكرة استسلامنا، وقد ذهبت بنفسي ووصلت إلى قرية المغيّر(تقع المغيّر في أقصى جنوب الجبل على الحدود السورية الأردنية)، ونزلنا ضيوفاً عند السيد حمد صعب بصحبة كل من محمود كيوان وزيد عامر وسعيد عز الدين وصياح الحمود الأطرش وفضل الله الأطرش وفرحان العبدالله وهاجمنا الفرنسيين».

معركة الفالوج
كان محمود كيوان يعمل في ميادين الثورة كدينامو فعّال، وليس غريباً أن يذكره سلطان باشا في معظم المعارك الرئيسية ذات التأثير في مسار الثورة، جاء في كتاب «أحداث الثورة» كما رواها القائد العام، ص 175، أن فريقاً من الثوار بقيادة الشيخ خطار أبو هرموش ومحمود كيوان كانوا يرابطون في بعض القرى قرب راشيا، فمرت كوكبة من المتطوعين اللبنانيين ذاهبة إلى الشمال فتبعها الثوار حتى مخفر الفالوج حيث وجدوا قافلة عسكرية تنقل الميرة والعتاد الحربي إلى قلعة راشيا، يرافقها نحو ثلاثمائة من الخيالة ومشاة السنغال، وقد توقفت هناك بسبب الثلوج التي أربكت سيرها في ذلك الطريق، وما إن وصلت طلائع الثوار إلى المكان حتى استعد الجنود للقتال، تمركز بعض الضباط والجنود في بناء المخفر، وانتشر الآخرون وراء الصخور، ولم تلبث المعركة أن نشبت بسرعة وضراوة إثر هجوم قام به الثوار استشهد منهم فيه نحو عشرين مقاتلاً، وسقط عدد كبير من الجرحى، مما يدل على يقظة أولئك الجنود وحسن تدريبهم على القتال، في مثل تلك الظروف القاسية، غير أن المعركة استمرت على أشدها أكثر من ساعتين، أجهز الثوار خلالها على أكثر من مائة وثمانين ضابطاً وجندياً، ورفعوا السيف عن البقية الباقية منهم بعد استسلامهم وعادوا إلى مراكزهم وهم يحملون الأسلحة والذخيرة التي غنموها، ويسوقون أمامهم الخيول والبغال التي كسبوها.
وهنا في معرض حديثه عن معركة الفالوج يشيد سلطان باشا بمحمود كيوان فيقول:«وقد اشتهر فيها محمود كيوان ببطولته الخارقة، إذ شوهد أثناء المعركة الشرسة التي كان الجنود يبدونها من جهة المخفر، وهو ينقض عليهم مع بعض المجاهدين، كنايف رشيد وجميل العسل وحسين الحلح، فعطلوا فاعلية أسلحتهم وأحاطوا بالمخفر، ثم دخله محمود فقتل الضابط وأسر الباقين بعد أن رموا سلاحهم، وأبادوا فيها فصيلاً كاملاً من الجنود، سوى ضابط فرنسي واحد أسروه بعد أن أصيب بجرح بليغ، وسلّموه في ما بعد إلى الأمير عادل أرسلان بقرية عين الشعرة.

محمود كيوان يسالم.. بشروطه
كان الإتفاق الفرنسي البريطاني قد حقق أهدافه في حصر العمليات الحربية للثوار، وتوقف الأعمال القتالية بنتيجة ذلك، لكن سلطان باشا وفريقاً من المجاهدين أصروا على الاستمرار في مقاومة الاحتلال من المنفى في وادي السرحان من أراضي المملكة العربية السعودية، ومن جنوب الأردن في ما بعد، بحيث ظلّوا يشكّلون ضغطاً سياسياً ومعنوياً على الفرنسيين، وبالتعاون مع القوى الوطنية التي جنحت للمعارضة السياسية داخل سوريا،بحيث اضطرت فرنسا للإعتراف باستقلال سوريا ولبنان، وذلك بموجب معاهدة عام 1936.
من أسباب عودة محمود كيوان إلى الجبل توقف الأعمال القتالية ضد الفرنسيين، فأُقفل ميدانه، وهو الرجل الذي تشغفه ساحات قتال العدو ومنازلة الأقران، ومن جانب آخر كان والده المجاهد الشيخ سليم كيوان قد استشهد في معركة رساس، كما إن السلطات الفرنسية هدمت بيته في قريته مياماس انتقاماً منه لمشاركته الفعّالة في طليعة صفوف الثوار، ولم يعد من معيل للأسرة المؤلفة من النساء والأطفال سواه، كل هذا كان من بين أسباب عودته إلى الجبل، وفي ذلك كتب ولده شكيب بأن والده: اضطر إلى العودة إلى الوطن تحت شروط خاصة قبل بها الفرنسيون، منها أن يبقى لديه سلاحه الذي كان يحمله أيام الثورة إلى جانبه، وكان من عادته أن يتمنطق من على يمينه ويساره بمسدّسين، ولذلك كان يُلقب بـ«أبو فردين»، كما اشترط أن تكون له حصانة شخصية، هذا مع العلم أن السلطة الفرنسية اشترطت على كل من يعود إلى الوطن مسالماً لفرنسا أن يسلّم سلاحه، ولكن محموداً رجع بلباس الثورة، واستقبل قائداً حربياً شجاعاً، مع ثلّة من الحرس ومارش عسكري تتخلله الموسيقى التي يستقبل بها الأشخاص المكرمون، وهكذا عاد والدي ليلملم أشتات بيتنا ويعيد بناءه ويعيل أسرته ».
وافقت السلطات الفرنسية على تلك الشروط مكرهة من أجل تحييد رجل بقوة شكيمته من صفوف الثوار الذين اختاروا النضال السياسي من خلال المنفى، وكان المسؤولون الفرنسيون على الرغم من عودته مسالماً يخشون إغضابه، وصولته.

خوفاً من غضبة محمود بك
شغل محمود كيوان منصب القائد لإحدى الوحدات العسكرية «اسكادرون»، إلى جانب آخرين منهم زيد الأطرش وشكيب وهاب وحمد الأطرش وعلي الطويل وحمد نصر، وذات مرة قدم ضابط فرنسي كبير برتبة كولونيل بمهمة تتعلّق بعمل قادة هذه الوحدات، وكان المترجم سعدو عامر من قرية الهيت يعرّف الكولونيل على أسماء قادة الاسكادرونات، كل بدوره، وعندما عرّفه على القائد محمود، قال الكولونيل بالفرنسية :«يقولون لي إن محمود كيوان كالهر، يخدش إذا غضب»، لكن المترجم الحصيف، وبمعرفته الوثيقة بشخص محمود كيوان، وأنَفَتِه كان يدرك أنه يرفض مثل ذلك الوصف غير اللائق به، فحرّف الترجمة وقال لمحمود بك:«الكولونيل يقول عنك بأنك كالنمر إذاغضبت تثب على خصمك»، فشكره محمود بك. لكن المترجم كان يخشى من أحد الضباط المحليين الذي كان يعرف الفرنسية، أن يبلغ الكولونيل بأنه لم يترجم بأمانة، فيسيء إليه. عند نهاية الاجتماع، اقترب المترجم من الكولونيل وأبلغه بما فعل، فقال له:» ولمَ فعلت ذلك؟، قال:
« إن الكابتن محمود لا يقبل بما وصفته به، بل كان سيثور، ويغضب منك، وتقع معه في إشكال ربما أدى إلى شيء غير مرغوب فيه».
قال الكولونيل:» كيف يثور في وجهي وهو ضابط أدنى مني رتبة، وأنا فرنسي»، فأجابه المترجم :«ولو كنت ديغول لرفض منك مثل هذا الكلام»، فشكره الكولونيل على ما فعله واتقائه للمشكل.
وعندما قيل للكولونيل في ما بعد أن سعدو عامر لا يترجم بأمانة، قال:«حسناً ما فعل».

مجاهدي جبل العرب في احتشاد شعبي خلال الثورة السورية الكبرى
مجاهدي جبل العرب في احتشاد شعبي خلال الثورة السورية الكبرى

محمود في السلك الوظيفي
عيّن الفرنسيون محمود كيوان مديراً لناحية القريّا بعد عودته من الثورة، ومن ثمّ عيّن قاضي صلح، فعضو محكمة جنايات، ثم انضمّ إلى كوكبات الفرسان في الجيش السوري برتبة رئيس (أي نقيب)، وهذا بعد أن اعترفت فرنسا باستقلال سوريا عام 1936، ثم تمّ تعيينه عام 1945 قائداً لموقع رأس العين على الحدود السوريةــ التركية.
كان تعيينه في تلك النقطة النائية نتيجة لأنفته وانزعاجه من رؤية أشخاص كان يعتبرهم غير مؤهلين وقد أصبحوا في مواقع أعلى وبمثابة رؤساء عليه، وقد بلغ استياءه كما يبدو أسماع الدولة السورية الناشئة فتم نقله إبعاداً من الجبل إلى أقصى شمال سوريا، في منطقة القامشلي، قائداً لموقع رأس العين، على الحدود مع تركيا، لكنه تمكّن بحزمه من إقرار القانون في تلك المنطقة المختلطة السكان من عشائر العرب والأكراد والآشوريين والسريان وغيرهم، يقول راوي سيرته إنه لاقى «تعدّيات من الأتراك واستخفافهم بالمواقع السورية، لكنه كان يرد لهم الصاع صاعين، وأخيراً أقدم على احتلال قلعة تركية تبعد خمسة كيلومترات داخل الأراضي التركية، بثمانية عناصر من جنوده، وأسر ضباطها وجنودها، وأجبرهم على إعادة الأغنام التي انتزعوها من أحد أصحابها، وأدب الجنود الأتراك لقيامهم بتعديات عديدة، ولنقضهم اتفاقية حسن الجوار التي أبرمت بينه وبين قادة المناطق التركية المجاورة، وقد أدى موقفه ذاك إلى استنفار الجيش التركي في المواقع الحدودية، وبنتيجة ذلك وقعت أزمة بين تركيا وسوريا دامت شهرين، كما كان يحدّثني العقيد المتقاعد محمد مصطفى الأطرش والعميد المتقاعد فرحان الجرمقاني، وترك محمود كيوان الخدمة تلقائياً على أثر ذلك، ورفض أن يبقى في الخدمة بعد أن لامته وزارة الدفاع على احتلاله لموقع تركي، وأصدرت قراراً بنقله ليتولى قيادة موقع حمص. يقول ابنه شكيب في ذلك:« حدث تراسل بين والدي ورئاسة الأركان يطلبون إليه تسلّم موقع حمص والالتزام بالقوانين والأنظمة حرصاً على خدماته وحقوقه التقاعدية إلاّ أن والدي أصرّ على ترك الخدمة غير آسف على حقوقه تلك، وفي رسالة موجهة آنذاك من قائد اللواء الأول توفيق بشور جاء فيها»:
إلى حضرة الصديق الوفي الرئيس محمود بك كيوان المحترم …
إني آسف على خروجكم من الخدمة لأننا بحاجة إلى جهود من كانوا أمثالكم وإلى تضحياتكم ومواقفكم الوطنية والبطولية المشهود لها تاريخياً وتقبل مني أصدق تمنياتي القلبية ودمتم،
صديقكم المخلص
25 نيسان 1946
المقدّم توفيق بشّور
في الختام فإن الحديث عن مآثر المجاهد محمود كيوان وبطولاته في معارك الثورة السورية الكبرى يستغرق مجلّداً، وما تم عرضه في هذه المقالة ليس سوى قليل من كثير على أمل أن نطل من خلالها على سيرة بطولة وتضحيات تكاد تكون أقرب إلى الأساطير ولكي يبقى لدى أجيالنا الشابة الجديدة معرفة بتاريخ الجماعة المعروفية الأبية وسجلها الطويل في ميادين البطولة وفي الأنفة والوطنية وكره المستعمر وحب الأوطان..

عرمان

مدينة عرمان

في السلم زراعــة ومضافــات
وفــي الحــرب ملاحــم شجاعــة

إستوطنها الموحدون الدروز وأعمروها قبل 160 عاماً
بعد أن حوّلها إهمال الولاة وغزوات البدو إلى خرائب

في عام 1941 زار الجنرال ديغول عرمان، وذلك على أثر طرد الفرنسيين الموالين للألمان من سوريا في أحداث الحرب العالمية الثانية، وكان من برنامجه زيارة بعض وجهاء عرمان ومنهم السيد قاسم أبو خير، وهو أحد كبار المجاهدين في الثورة السورية الكبرى، وقد عرض ديغول على قاسم أبو خير أن يرسل ابنه جاد الله ليتعلّم على نفقة الحكومة الفرنسية، لكن الرجل رفض ذلك العرض بإباء، وقال للجنرال: «لدينا مطلب واحد منكم، أن ترحلوا إلى بلادكم وتتركوا لنا بلادنا ».
لقد دخلت «عرمان» تاريخ سوريا الحديث بشهرة عزّ نظيرها، وهي البلدة التي لا يزيد زمن إعمارها الأخير على أيدي بني معروف الموحّدين على نحو مائة وستين عاماً، يذكر الأستاذ متروك صيموعة في كتابه« عرمان، اسبارطة العرب» أنه في أيار من عام 1945 وأثناء قيام المستعمر الفرنسي بالإعتداء على دمشق، دخل الشاعر عز الدين التنوخي إلى جامع بني أمية، فوجد العديد من أعيان دمشق فيه. صعد المنبر، وارتجل خطبة وقصيدة يهدد فيها الفرنسيين بصولة الدروز وبسلطان وبعرمان، يقول منها:
يـــــــــــــــــا مــــــــــــــــــــــــــــــعشــــــــــــــــر الــــــــــــــــفرنسيــــــــــــــــين تــــــــــــــــرحّـــــلــــــــــــــــوا قــــومي «الدروز» تــــــــكفّلـــــــوا الـــــــترحيلا
سيغولكــــــــــــــــــــــــــــــــم سلطــــــــــــــــان يفني جمعكــــــــــــــــــــــم ويـــــــــريكــــــــــــــــــــــــــــمُ يــــــــــــــــوم الحســــــــــــــــاب ثــــــــــــــــقيلا
وتجيئكــــــــــــــــم عــــــــــــــــرمــــــــــــــــان تتــــــــــــــــرك فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــكــــــــــــــــمُ تــــــــــــــــلك المــــــغانــــــــــــــــي الآهلات طلــــــــــــــــــــــــــــولا
كان التنوخي يهدّد فروسية عرمان، فقبل ذلك بنحو نصف قرن، عام 1896 م، كان أهل عرمان قد هزموا قوة عثمانية كبيرة بالتعاون مع قرى عديدة أخرى من الجبل في موقعة شهيرة تعرف بموقعة «خراب عرمان».

جانب-من-الحارة-الشمالية-الغربية-من-عرمان-وتبد-قلعة-صلخد-وتل-عبمار-في-نهاية-الأفق-
جانب-من-الحارة-الشمالية-الغربية-من-عرمان-وتبد-قلعة-صلخد-وتل-عبمار-في-نهاية-الأفق-

عرمان الموقع وتاريخ العمران
تقع مدينة عرمان مسافة نحو سبعة وعشرين كلم جنوب شرقي مدينة السويداء، وعلى مسافة 4 كلم إلى الشمال الشرقي من مدينة صلخد مركز المنطقة (القضاء)، التي تتبع لها إدارياً، ويحدّ مجالها الجغرافي من الغرب مدينة صلخد، ومن الشرق مدينة ملح وقرية قيصما، ومن الجنوب امتان وتحولا، ومن الشمال قرى بَهَم وتلّ اللوز وسهوة الخضر .
ترتفع المدينة نحو 1369 متراً عن سطح البحر وهذا في أقصى نقطة ارتفاع ، ونحو 1350متراً في منحنى التسوية الذي يعبر إلى الشمال منها، أما المعدّل السنوي للمطر في عرمان فيبلغ 300 ملم3 ، وهذا المعدّل يتقلب من عام إلى آخر كما يظهر في كميات الهطول المسجّلة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة وهي كما يلي:

2013 2012 2011
277 ملم3 378 ملم3 287 ملم3

 

“الأبراج المنتشرة في حوران كانت الغاية الأساس منها مراقبة المحاصيل وإبعاد اللصــوص والغزاة”

تاريخ إعمار عرمان
كانت «عرمان» كمعظم حواضر جبل حوران في العهد العثماني خراباً يباباً ينعق البوم في أرجائها، ذلك لأن الدولة العثمانية وخصوصاً في عهدها الأخير تحوّلت إلى دولة عاجزة عن حماية الأرياف البعيدة عن مركز الولاية في دمشق، وصار الوالي العثماني يسترضي زعماء القبائل البدوية بالهبات والأعطيات ليقبلوا بالتهدئة مع الفلاحين في أماكن انتشار تلك القبائل، بدليل ما يذكره المستشرق السويسري بيركهاردت الذي زار البلاد عام 1810م، وقد وجدها خالية من السكان فقال:» «عرمان مدينة قديمة وفيها ثلاثة أبراج مبنية بالطريقة ذاتها التي وصفتها في الكفر، وفي عرمان نبع ماء، إلاّ أن مرافقيَّ من أهل القرية تخوّفوا من أن تطول إقامتنا في هذه الأماكن المقفرة فأنكروا وجوده عندما سألتهم عنه».
ويذكر الأستاذ حسين نايف خويص صاحب كتاب«عرمان، قصة الإنسان وقدسية الأرض والمكان» (ص 16) أن عمران القرية يعود إلى عام 1857م، وهذا يدلّنا على أن المدينة كانت قبل ذلك خراباً، ويشير الكاتب إلى أن العمران في المدينة قديم «فيها بعض المعالم الأثرية من العصور السالفة (مساكن متهدّمة، برج مربّع وكتابات وكنيسة وجامع وبركة أو مطخ من عهد الملك العادل) مساكنها القديمة مبنية بالحجارة البازلتية، مسقوفة بالربد والأقواس».
ولم يكن ذلك العمران اختياراً سهلاً على الروّاد الأوائل بل فرضاً لا خيار لهم فيه، بدليل هذه الواقعة التي يذكرها المستشرق الرحالة والمبشر الإنجيلي الايرلندي د. وليم رايت في كتابه «مغامرات بين خرائب باشان عام 1874» وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ كمال الشوفاني عام 2012، يقول رايت في ص 123:« سرنا مباشرة نحو عرمان، ومنذ وطأنا الأرض المقابلة لصلخد دخلنا بين حدائق مسوّرة، ما زالت الأسوار قائمة بعلوها، لكن الحدائق داخلها ليست محروثة لأميال وأميال شاهدنا الحدائق وبساتين الكرمة، لكن العنب اختفى والخراب الصامت كان مسيطراً على تلك الأماكن كما هي حال المنازل المهجورة في مدن اللجاة.
كنت غالباً ما أحدّث نفسي قائلاً: «ربما كان هذا المكان ذات مرّة قصراً لأحد الشيوخ أو الزعماء يحسده عليه الجيران هنا، كانت الروابط الاجتماعية تجعل المرء يتشبّث بأرضه» لكننا الآن نمرّ على

هذه البساتين وهي خالية من البهجة، ثم يصف رايت برج عرمان فيقول: «وصلنا الآن إلى مكان يجعلني أتحدّث كما وُعدت عن بناء هام واستخدامات هذا البناء، إنه البرج الدائري الذي رأيناه في شتى أركان حوران. إن لكل حديقة هنا برجها، صغيراً أحياناً، وكبيراً أحياناً أخرى، طبقاً لحجم الحديقة … » ويعتقد رايت أن هذه الأبراج المنتشرة في جميع أرجاء حوران سهلاً وجبلاً كانت الغاية الأساس منها مراقبة المحاصيل وإبعاد اللصوص عن مواقع السيطرة الرومانية.
يصف رايت دخوله إلى عرمان فيقول: «عندما دخلنا إلى عرمان، كانت قطعان كبيرة من الأغنام تتجمّع في القرية من جميع الإتجاهات، لقد قوبلنا بترحاب لا مثيل له من الشيخ نجم الأطرش (هو نجم بن ابراهيم الشهيد في حروب اللجاة ضد قوات محمد علي باشا) والدروز الآخرين الذين تذكّروا زياراتي السابقة. كان الشيخ رجلاً أسمر ضخم البنية بوزن لا يقل عن مائتين وثمانين رطلاً (125كلغ) كان رجلاً قويّاً وشجاعاً حتى يُظَن أن الرصاصة لا تستطيع خرق جسمه، إنه يتمتع بمنزلة عالية بين الزعماء الدروز، كان عليه أن يتصدّى لأولى الغارات البدوية القادمة من الصحراء. هناك عدد كبير من الدروز تحت إمرته، جميعهم مسلّحون ومعظمهم فرسان مَهَرَة.
ويتابع رايت وصفه زيارة عرمان: «في خريف عام 1812 زار بيركهاردت عرمان ووجدها مهجورة، وعندما زرتها كانت تحوي عدداً كبيراً من الدروز، معظمهم من الرجال الذين استقروا بعيداً عن لبنان، وقد اختاروا ذلك ليكونوا بعيدين عن الحكومة».
ويتابع رايت وصف زيارته تلك لعرمان، فيقول: «لقد زارنا الشيخ (يقصد نجم) وولده وأتباعه في خيمتنا بعد العشاء، لقد تفحّصوا كل كتبنا، وقرأنا لهم لساعات أجزاء من الإنجيل، كنا معجبين كثيراً بذكائهم، خصوصاً بمعرفتهم بالسياسة الخارجية».
ويصف رايت مشاهدته اجتماع مجلس حربي للدروز في بيت الشيخ الأطرش، يقول:« رددنا الزيارة في الصباح التالي، فوجدنا الشيخ يجلس في البوابة محاطاً بجميع أتباعه. إن الأخبار التي أقلقت الدروز في طريقنا وصلت إلى هنا، وعُقد مجلسٌ للحرب. وقف الشيخ واستقبلنا، ثم قادنا إلى غرفة الضيوف(المضافة)، غرفة منخفضة السقف، كانت كنيسة في ما مضى بنيت من حجارة أخذت من بناء آخر ( لعلّه معبد نبطي، ذلك لأن الأديان والعقائد تقوم وتنشأ على أنقاض سابقاتها)ــ كان السقف مرتكزاً على مجموعتين من القناطر السميكة، وقد وضعت الألواح الحجرية (الربد) من القنطرة إلى القنطرة مشكّلة السقف، يدخل النور من المدخنة والباب فقط ليبدّد الظلام في الغرفة. تحلّق حشد من الدروز حول الغرفة المظلمة التي كانت تحوي مذبحين عليهما رموز مسيحية وكتابات في وسط الغرفة، واللذين على الأغلب لم يُزالا من مكانهما منذ كانت الغرفة كنيسة مسيحية. كان علينا في البداية، كما هي الحال في كل الأماكن الأخرى، أن نتعرّض إلى محنة انتظار صنع القهوة…( يصف رايت بالتفصيل كيفية صنع القهوة ).
كنا قد تعوّدنا على الظلمة ( في المضافة) وأصبح بإمكاننا أن نرى ملامح الدروز الذين جلسوا في دائرة متراصّة حول الغرفة، كان المشهد سيكون في غاية الروعة في هذه الظلمة لو تجسّد بلوحة تبدعها عبقرية رمبرانت».

تضامن الجبل مع حوران
نستنتج من سياق رواية رايت أن رسلاً من قِبَل أهل سهل حوران نقلوا أنباء عن معاناتهم مع العثمانيين الذين فرضوا ترتيبات مرهقة على الأهالي، يقول المستشرق:« الشيخ الذي لم يتعلّم أبداً فن الملاطفة والذي لا يخاف حاكماً، أعلن لنا بكل صراحة سبب الهياج المحيط بالمكان. إنّ الحكومة (العثمانية) في حوران اعتزمت فرض ضريبة على البلاد، لقد جمع الحاكم شيوخ القرى وطلب منهم تقدير قيمة الأراضي، اغتاظ الأهالي (في حوران) من الموقف وقتلوا اثنين من الشيوخ وفرّ الحاكم ناجياً بنفسه، ثم شفى الناس غليلهم بأي رمز مرّ بطريقهم يمت للحكم العثماني بصلة. لقد قطعوا أربعة عشر ميلاً من خطوط البرق، وفرّ جميع الموظفين بأرواحهم. استدعت الحكومة الجنود وجهّزت المدافع ووعدت بالإنتقام، وردّ أهل سهل حوران أنّهم في الرابع عشر من نيسان سيغادرون حوران بشكل كامل. لقد أشار الشيخ للرسول الذي جاء بالخبر، وختم كلامه بتصريح مشبوب بالعاطفة:
«إن الصراع في حوران هو صراعنا نحن أيضاً، إن فرضوا ضرائب عليهم سيفرضون ضرائب علينا. لم تفعل الحكومة لنا شيئاً: لم تحمنا من البدو: لم تشقّ لنا الطرق، وقد شرّدتنا من بلاد أهلنا في لبنان، وها هم الآن يتبعونا إلى هذه الصحراء التي استصلحناها بكدّنا وعرقنا وفديناها بأرواحنا. هل سيكون أولادنا مظلومين كما نحن؟ لا ياأولادي سوف نتّحد مع أخوتنا المنكوبين في حوران، سوف نلاقي عدوّنا على عتبة دارنا قبل أن يدخل حرمتها، ولأن الحق معنا، والله إلى جانبنا، فإننا لن نقهر أبداً».

توزيع أدوار
من سياق المشاهدات التي أوردها رايت عن حضوره المجلس الحربي للموحدين في عرمان، ومن خلال حديثه عن مسار رحلته بإتجاه القريّا حيث يقول:« دخلنا القريّا برفقة راع
( ليرشدهم إلى الطريق)، ووجدنا أن ابراهيم الأطرش ( هو ابراهيم بن اسماعيل وقبل إزاحة آل الحمدان من السويداء) الزعيم الأكثر أهمية بين الدروز، قد غادر إلى دمشق محاولاً تفادي الصراع المرتقب ».
من شهادة رايت نستنتج أن الرسل الذين نقلوا أحداث سهل حوران إلى شيخ بلدة عرمان وصلوا أوّلاً إلى شيخ بلدة القريّا الطرشاني الذي لا بدّ أن يكون قد حوّلهم إلى ابن عمه الذي يليه في الأهمية وهو شيخ عرمان، ولما كان عبء قرار مواجهة الدولة العثمانية آنذاك أمراً يحتاج إلى استنفار أوسع في قوى مجتمع بني معروف، فلا بدّ أن يتم التمهيد له بالتعبئة والاستعداد من الجميع لأنّه أمر جلل، إذ لا يمكن لقرية منفردة أن تتخذ قراراً خطيراً بقتال الحكومة.

كنيسة-عرمان-الأرثوذكسية1
كنيسة-عرمان-الأرثوذكسية
من-مضافات-عرمان-القديمة1
من-مضافات-عرمان-القديمة

 

 

 

 

 

 

 

 

العائلات المعروفية في عرمان
يروي المعمرون أنه من العائلات التي عمرت عرمان أصلاً هم آل عقيل، (وقد انتقلوا منها ليستقروا أخيراً في قرية ذيبين)، ومن المحتمل أن يكون هذا قد حصل خلال أواخر خمسينيات القرن التاسع عشر، وهي الفترة التي بدأ فيها إعمار بعض القرى الجنوبية من جبل حوران التي كانت خراباً لا زراعة فيها ولا استقرار حضرياً للإنسان في ربوعها، وكان مع آل عقيل في نزولهم عرمان آل فليحان، لكنّ سَكَنَ آل الأطرش ومعهم أبناء عمومتهم آل زيدان ثبت توطن بني معروف في عرمان، بعد أن كانت قرية تُسكن وتُهجر تبعاً للظروف طيلة الفترة الأخيرة من الحكم العثماني، لأن نجم بن ابراهيم الأطرش الأول، وكان هذا فارساً شجاعاً، وصاحب شخصية قوية استطاع أن يثبت في عرمان مع أقاربه، ومن ثم استقدم آل الأطرش جماعات أخرى من عائلات بني معروف، ومع الزمن توافدت العائلات العديدة إلى القرية الناشئة، كآل نصر القادمين من الشوف في لبنان، وآل الحلبي الذين كانوا قد قدموا إلى جبل حوران ( كما كان يدعى آنذاك) من حلب على أثر موجة اضطهاد عاتية ضد الموحّدين نحو عام 1810 في العهد العثماني، لكن أكثرية عائلات عرمان تعود إلى أصول لبنانية كآل شروف وسمارة وجمال وأبو شاهين وجمال الدين وآل صيموعة الذين قدموا إلى أم رواق في جبل حوران ومن ثم جاء بهم نجم الإبراهيم الأطرش الأول إلى عرمان ليقوّي بهم أزر بني معروف في جنوب الجبل. وآل أبو ليث والخليل والخماسي، وزويهد والجاري ورَشيد وخويص، وأبومالك والحلاّل والصبي والمؤيد وصياغة والاسماعيل وأبو مقلّى والبكفاني ودلال وآل رزق والمقت وقريشي والعبدالله وشنان ومحفوظ والشريطي وقرقماس والعطواني ( من عين عطا في منطقة راشيا) ووهبي والعياش والزيبق وياغي والريشاني وبرق، والجرمقاني ، وآل ملاعب وفليحان ونصر وكيوان وريدان وأبوهدير وبركات وحاتم وأبوخير والدبيسي وأبوحسن ورافع وبركة وخويص والشعار ومسعود وزين الدين وحمزة ومصطفى وأبو الحُسن وأبو هرموش ومنشا ومطرد وشمس وعماشة والسمطي وحبوس وصعب وأبو غانم ونعيم وشديد وجابر والغاوي والعريضي وابوحرب وسمارة وجابر والأعور والعسراوي والمتني والزغيّر، وأما آل الصفدي فقد قدموا من ديار صفد في شمال فلسطين.

جانب-من-مضافة-أحد-وجهاء-آل-الحلبي-في-عرمان1
جانب-من-مضافة-أحد-وجهاء-آل-الحلبي-في-عرمان

العائلات المسيحية
من العائلات المسيحية في عرمان آل الحداد والرّيس، والسليم والحمصي والعيد وسابا والسيقلي وآل النعمة وهم من عائلات السهل الحوراني في القديم قبل أن ينتقلوا إلى جبل حوران ويتساكنوا مع بني معروف الموحدين ، فيما انتقل فريق منهم إلى لبنان ليستقروا في زحلة، ومن آل النعمة وهم من المسيحيين الحورانيين يتحدّر الشاعر اللبناني سعيد عقل كما يذكر ذلك الكاتب صقر أبو فخر.
يروي أحد مسيحيي عرمان أن ثلاث عائلات مسيحية قدمت من عبيه في جبل لبنان إلى قلعة جندل ومن ثم إلى القريا، ومنهم آل العوابدة وزخريّا، وفي القريا طلبوا من نجم الابراهيم الأطرش المجيء إلى عرمان، فسأل: هل معهم صنعات؟، فقيل له هم حدادون وبياطرة وإسكافية. فقال: هاتوهم.
وبعد قدومهم إلى عرمان بقي الحداد على حاله حداداً، ( وآل الحداد في عرمان أصلاً آل لحّام في لبنان، وآل العيد كانوا يمتهنون البيطرة، والرّيس كان إسكافياً).
وكان المشايخ من الدروز يعطون لأصحاب المهن السكن والأرض، تشجيعاً لهم على الاستقرار مع بني معروف الموحدين لإعمار البلاد، لكن عدداً غير قليل من مسيحيي عرمان نزحوا إلى دمشق في النصف الثاني من القرن الماضي وقد بلغ عددهم نحو 400 نسمة.

المضافات
لمضافات عرمان ميزة مختلفة عما عداها، ففيها صيغت الأفكار الأولية التي مهّدت لتمرد العامة على المشايخ الأطارشة في النصف الجنوبي من جبل الدروز كما كان يدعى آنذاك، وقد أدت تلك الحركة إلى تثبيت ملكية الفلاحين، ومنع ترحيلهم من قراهم، وتقليص ملكية الشيخ إلى النصف مما كان يملكه قبل ذلك، بحيث صار يملك الثمن من أراضي القرية التي هو شيخها بدلاً من الربع. بالإضافة إلى ذلك، كانت المضافات في سائر قرى الجبل مهاجع مجانية للضيوف، ومنتديات عامة لمناقشة الشؤون العامة وحلّ المشاكل التي تدور في مجتمع القرية، ومدرسة يتم عبرها تداول الآراء والأفكار ووجهات النظر في الحياة العامة من قبل اولئك الفرسان المحاربين من الشيوخ ووجهاء العائلات النافذة والملاّكين في القرية، الذين كانوا يعتمدون على المرابعين في تسيير أعمال زراعتهم وعلى مشاركة البدو في رعي مواشيهم.
كانت مضافات عرمان أيضاً «هيئة أركان» للعائلة أو للقرية، فكانت قرارات مثل تعيين الحراس والنواطير، أو دخول الحرب وإعلان التعبئة كلّها تتخذ داخل المضافة، وفيها يُتداول الأدب الشعبي وتكرّس القيم الأخلاقية، ومثالية القدوة في الشجاعة والكرم، فهي« مجلس قضاء أهلي وعرفي عام لا تقبل قراراته وأحكامه الطعن والمراجعة»، إذ لم يكن آنذاك من دور مؤثر يذكر للدولة في ذلك المجتمع الناشئ البعيد عن مركز الولاية البعيد في دمشق.
وكانت من أولى مضافات عرمان مضافة الشيخ نجم الأطرش التي شهد فيها المستشرق البريطاني وليم رايت اجتماعاً لوجهاء من الدروز عام 1874، ومضافات آل الجرمقاني، والعطواني وصيموعة وملاعب والخليل والحلبي وعلاّم وبركات والدبيسي وغيرهم… وهذا موضوع يستحق أن يُفرد له بحث خاص لأهميته في تشكيل الوعي الاجتماعي العام.
بيرق عرمان هو أصلاً عباءة جنرال تركي غنمها مجاهدو عرمان في المعركة، وعملوا منها بيرق بلدتهم، وكان آل الحلبي في ما مضى هم حملة بيرق عرمان أصلاً، وحدث أن مجموعة من الجند العثمانيين جاؤوا يطلبون ابناً لحسن الحلبي، حامل بيرق عرمان، وصدف أن سألوا شاباً من آل صيموعة ليرشدهم إليه، فأبى، فقتلوه، وسألوا آخر من العائلة نفسها، ففعل كسابقه فقتلوه أيضاً، وسألوا ثالثاً، وكان مصيره كسابقيه، ويومها كانت فتنة كبيرة في عرمان بسبب هذه الأعمال الظالمة، وبنتيجتها أقدم حسن الحلبي على تسليم بيرق عرمان لآل صيموعة ممثلين بشخص أحدهم وهو سلامة صيموعة، ولم يزل بيرق عرمان محفوظاً عند أبو طلال جادو صيموعة إلى يومنا هذا.
ويذكر الشاعر الشعبي للثورة السورية الكبرى عام 1925، صالح عمار أبي الحسن في ديوانه أسماء شهداء قرية عرمان آنذاك، وعددهم 114 شهيداً، وفيهم يقول الشاعر :
عــــرمــــــــــــــــان مفتــــــــــــــــاح الحرايــــــــــــــــب كــــــــــــــــلّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها وسيـــــــــــــــــــوفــــــها مــــــــــــــــن اغمــــــــــــــــادها بتــــــــــــــــســــــلّــــــــــــــــها
ان صاح صياح الضحى يااهل الوحى الجبـــهــــــــــــــــة العظيمـــــــــة مــــــــــــــــن العدى بتحتلّها
فضل الله بيك النجم قيدوم الشــــــبــــــــــــاب يلكد على جموع الأعـــــادي ولايـهـــــــــــــــــاب
غــــــــــــــربي الســـجـــــــــن بنهـــــار كـــــــــــــون المزرعـــــة من فوق ســـابق كَنّـــــــــــــه الزغبــــــــــــــــي ذيــــــــــــــــاب
وفضل الله بيك النجم هو فضل الله النجم الأطرش، المجاهد الكبير، والبطل المعروف في الثورة السورية الكبرى، وأخو نجم الأطرش شيخ عرمان في ذلك الزمن، وله في الثورة سيرة مميزة خاصة به.

“مضافات الجبل كانت مهاجع مجانية للضيوف، ومنتديات لمناقشة الشؤون العامة وفضّ الخلافات ومدرسة لتعلم قيم بني معروف وشيمهم”

المجاهد-البطل-فضل-الله-الأطرش،-صورة-من-ثلاثينيات-القرن-الماضي1
المجاهد-البطل-فضل-الله-الأطرش،-صورة-من-ثلاثينيات-القرن-الماضي
اقتصاد زراعي
ما زال أهل عرمان يعتمدون على الزراعة كنشاط اقتصادي أساسي وهذا إلى جانب الوظائف العامة والمهن الصغيرة والحرف والخدمات، وتبلغ المساحة الإجمالية التي تتبع المدينة من أراضٍ زراعية وغيرها نحو 82,319 دونم، القابل منها للزراعة 67,974 دونم. وتتخصص عرمان بزراعة المحاصيل الحقلية كالقمح والشعير والعدس والحمّص وسواها، كما يزرع في أراضيها التفاح والعنب واللوزيات،  وهناك ما مساحته 9,175 دونم هي عبارة عن أراضٍ وعرة غير قابلة للزراعة، يضاف إليها ما مساحته 100دونم هي عبارة عن مستنقعات تجف صيفاً، وليس في عرمان من أحراج أو مروج.
ويعمل غالبية أهالي عرمان في مجال الزراعة وعلى الأخص في منطقة جبل عرمان الذي تزدهر فيه زراعة العنب والتفاحيات المتميّزة بجودة ثمارها.
أهم المحاصيل الزراعية
القمح والحبوب: تبلغ مساحة الأراضي المزروعة قمحاً في عرمان نحو 12,150 دونم جميعها تعتمد على مياه الأمطار بإستثناء ثلاثة دونمات تزرع ريّاً بالرش والتنقيط،  كما ويزرع الشعير وتبلغ مساحة الأرض المزروعة منه نحو 1,200 دونم، وقد بلغ متوسط إنتاج الدونم لهذه السنة 50 كيلو غراماً، ولكنه في السنوات الماطرة يتراوح إنتاجه ما بين 110 إلى 120 كيلوغراماً.
ويعتبر الحمّص من المحاصيل النقدية المجزية نسبياً بالنسبة للمزارع، وتبلغ مساحة الأرض التي تزرع بالحمص سنوياً نحو 14,800 دونم، ويتقلب حجم إنتاجه من عام إلى آخر حسب كمية الأمطار.
الكرمة :تبلغ مساحة الأرض التي تزرع بالكرمة نحو 5,327 دونم، وعدد أشجارها 189,612 شجرة، المثمر منها 148,000 شجرة، ويبلغ متوسط إنتاج الشجرة منها نحو 20 كيلوغراماً، ويبلغ إنتاج العنب في عرمان نحو 2,588 طن، يذهب منه للإستهلاك المنزلي نحو 259 طناً  وللزبيب 128.5 طن ونصف الطن، ويباع منه في السوق نحو 1,812طن لأغراض مختلفة.
أما متوسط إنتاج الدبس الذي يصنّع في عدّة معاصر محلّية في المدينة فيبلغ نحو 97 طناً، والزبيب نحو 19,300 كلغ.
التفاح قطاع أساسي:تبلغ مساحة الأرض التي تزرع بأشجار التفاح في عرمان 4,866 دونم، وعدد أشجار التفاح فيها 107,500 شجرة بما فيها النصوب الجديدة، أما المثمر من أشجار التفاح فيبلغ عدده نحو  64,700 شجرة، ويتراوح متوسط إنتاج الشجرة منها ما بين 40 و50 كيلوغراماً، ومعظم الأراضي المزروعة تفاحاً تقع في أراضي ظهر الجبل التي بلغت حصة عرمان منها 9,000 دونمٍ، وأراضي ظهر الجبل هذه هي من أخصب أراضي الجبل لوقوعها في منطقة الإستقرار الأولى الوفيرة الأمطار( متوسط أمطارها يفوق الـ 500 ملم3 سنويّاً)، وهي أصلاً من أملاك مواطني سائر قرى جبل العرب، وقديماً كان لكل قرية من قرى الجبل الحق في الإنتفاع من أراضي ظهر الجبل تلك، وحتى تلك القرى البعيدة الواقعة على أطراف الجبل من جهاته الأربع، وهذا أمر كان متفّقاً عليه منذ أن استوطن بنو معروف في الجبل، وتمكّنوا فيه، ولكنه وفي ستينيات القرن الماضي أهملت حقوق القرى وضاعت ، غير أن أهل عرمان، وبمبادرة من عقلائهم  تمسكوا بحقوقهم في أراضي ظهر الجبل، واستطاعوا تحصيل تلك التسعة آلاف دونم، وتوزيعها في ما بينهم، بحيث استفاد منها جميعهم، فكانوا بذلك حالة مميزة في الوقوف عند حقوقهم.
ومن الزراعات الأخرى في عرمان اللوز والتين ويزرعان تحميلاً، أي مضافين إلى غيرهما من أشجار أخرى كالعنب، أو سواه. .
الزيتون: لا تعتبر زراعة الزيتون مجزية لمُزارع عرمان، وذلك بسبب ارتفاع المدينة عن سطح البحر أكثر من 1300م، بينما يكون الإرتفاع المجزي لزراعة شجرة الزيتون دون 900م عن سطح البحر، ولكن بعضهم يجازف ويخالف، وهكذا فإن مساحة المزروع زيتوناً 215 دونماً، ويقوم بعض مزارعي عرمان أيضاً بزراعة بعض أشجار الزيتون بشكل تحميلي في الكروم القريبة، وضمن حدائق المنازل، وقد بلغ مجموع أشجار الزيتون في المدينة ومجالها الزراعي 4,400 شجرة، المثمر منها 800 شجرة، متوسط إنتاج المثمرة منها 20 كيلوغراماً.
كما ويزرع الدراق في حدائق المنازل، وكذلك التوت، إذ تبلغ مساحة الأرض المزروعة بالتوت نحو 14 دونماً، ويزرع بشكل تحميلي في الجنائن المنزلية، ومما يجدر ذكره أن زراعة التوت في عرمان، بل وفي سائر الجبل إنما هي زراعة جلبها بنو معروف من مواطنهم الأولى في لبنان.
يضاف إلى هذا، زراعات أخرى كالإجّاص والمشمش والجنارك والجوز والرمان، وكلها تزرع في حدائق المنازل أو تحميلاً في الكروم.
“بيرق عرمان حيك من عباءة جنرال تركي غنمها المجاهدون وانتقل من آل الحلبي إلى آل صيمــــوعة”
دار-المجاهد--فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان10
دار-المجاهد–فضل-الله-الأطرش-في-ملح-بعد-انتقاله-من-عرمان

الثروة الحيوانية
على هامش الزراعة، نما قطاع لتربية المواشي في عرمان، مثل تربية الأبقار المحسنة بالأنواع الأوروبية المستوردة وتربية الأغنام. ويوجد في عرمان 106 من الأبقار ونحو 4,000 رأس غنم ونحو 800 رأس ماعز جبلي ونحو 15 من الجمال، وتربى الأغنام بالمشاركة مع رعاة من البدو مقابل ربع المواليد ونحو 6 كلغ قمح، أو مبلغ مالي آخر يتفق عليه. أما النسبة لتربية الدواجن فقد تسببت الأحداث المؤلمة التي تمرّ بها البلاد بنقص كبير في عرض الفروج اللاحم مما أدى إلى إحياء تربية الدجاج البلدي في البيوت، ويقوم البعض وعلى نطاق ضيق بتربية الحبش والحمام.
تربية النحل: تراجعت تربية النحل في السنوات الأخيرة، وذلك بسبب الجفاف وضيق المرعى بعد أن كانت الخلايا تُرحّل من مكان إلى آخر بعيداً عن المدينة، ففي العامين 2006 و2007 بلغ عدد خلايا النحل في عرمان 70 خلية، بينما تدنّى هذا العدد إلى 5 خلايا في صيف عام 2014.

موارد المياه
كانت عرمان ومنذ عصورها القديمة قبل أن يسكنها الموحّدون الدروز، تعتمد على مياه الأمطار بالدرجة الأولى سواء من حيث تأمين مياه الشرب أو مياه الإستعمالات المنزلية، أم من حيث الزراعة البعلية، وهذا ما يفسّره لنا تعدّد المناهل والبرك الواقعة ضمن المدينة، وكان الأهالي منذ السكن الأقدم لعرمان يستجرّون إليها مياه السيول الشتوية التي تنحدر إلى بلدتهم من المرتفعات الجبلية الواقعة إلى الشمال منها، ومن هذه المناهل المطخ العادلي الذي أصبح وسط عمرانها الحالي، وهذا المنهل منسوب إلى الملك العادل شقيق السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويروي الأستاذ خويص في كتابه الآنف ذكره ص 40، أن الملك العادل مرّ من عرمان يوماً، وقال للأهلين احفروا هنا مطخاً للمياه، وهكذا كان. ومما يؤسف له أنه قد تمّ ردم أكثر من نصف هذا المنهل في زمننا.
وهناك مطخ المنبوع في القسم الشمالي من عرمان، ومطخ صلخد غرب المدينة من جهة صلخد، وكان في ما مضى مخصّصاً لمياه الشرب، وهناك في المدينة بعض الآبار السطحية التي ساهم الأهلون بحفرها غير أن الجفاف أدركها بسبب نقص الوارد المطري، فجفت، ولكن مؤسسة مياه الشرب الحكومية في السويداء ساهمت في حفر ثلاث آبار أرتوازية ضمن مخطط المدينة التنظيمي لتزويدها بما يلزمها من مياه الشرب، وأعماق هذه الآبار نحو 200م، وطاقة كل منها على الضخ نحو 20 م3 في الساعة أي نحو 480 م3 في اليوم.
وهكذا، فإن مياه الشرب تصل إلى كل بيت في عرمان، وفي الفترة الأخيرة، وبسبب تعاقب السنوات الجافة، فقد حرصت مؤسسة المياه الحكومية على تزويد عرمان بمياه الشرب الجوفية النقية من الآبار الأرتوازية الواقعة في قرية خازمة التي تبعد عن عرمان نحو بضعة عشر كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي منها.

بيوت-أثرية-في-محنة-1
بيوت-أثرية-في-محنة-

“إقتصاد عرمان زراعي يعتمد على مياه الأمطار وعلى بعض الموارد الجوفية وقطاع الثروة الحيوانية عنصر مهم في اقتصاد البلدة”

بلدية عرمان
أنشئت بلدية عرمان عام 1970 ومنذ العام 1975 تشغل البلدية مبنى خاصاً بها كمرفق عام، وتتبع لبلدية عرمان قرية عَوَس ومزرعة مجدل الشور.
تبلغ المساحات المبنية في المدينة حسب المخطط التنظيمي الأخير 5,070 دونم، أمّا عدد سكانها فيبلغ نحو 13,800 نسمة.
تشرف البلدية على تأمين خدمات مواطني عرمان من شق وتعبيد وتزفيت الشوارع، وإنارتها، وإنشاء حدائق عامة، ويبلغ طول الشوارع في المدينة نحو 30 كلم، وفي المدينة حديقتان عامتان.
وفي عام 2010 تمّ تنفيذ نحو 50% من أعمال شبكة الصرف الصّحي، وتتوفر في المدينة سائر الخدمات الأساسية من مياه نقية مصدرها الآبار الاأتوازية، ومن كهرباء وطرقات، ومدارس ومعاهد تعليمية ومنشآت خدمية، وجمعيات خيرية ومركز صحّي ووحدة إرشادية زراعية، ومركز اتصالات ومشغل للسجّاد اليدوي وصالة للأفراح .

الحرف والخدمات
تضم المدينة نحو 250 محلاً تجارياً، وحرفياً ولا وجود لشركات تجارية في المدينة وهناك عدد من الصناعات الصغيرة مثل صناعة دبس العنب ( توجد في المدينة ثلاث معاصر لصنع الدبس) بالإضافة إلى معصرة لدبس التفاح، وهناك صناعة الكشك، وهي صناعة منزلية أولية تكمّلها مطحنة الحبوب، وبعض الكشك الفائض عن حاجة الأسرة يباع خارج المدينة، وتوجد في المدينة صناعة أحجار البناء ومطاحن للقمح. ومن المهن الحرفية في عرمان محلات للحدادة الإفرنجية وتشكيل الألمنيوم والنجارة، ومحال لصيانة السيارات. وأنشئ في سبعينيات القرن الماضي مشغل لصناعة السجاد، ولكنه متوقف عن العمل.

صياح الأطرش

المجاهـــــد
صيّــاح الحّمــود الأطــرش

وجد فيه سلطان الشجاعة العاقلة والرأي السديد والإخلاص والتفاني
فجعل منه رفيقاً مقرَّباً وساعداً وجناحاً قوياً لا يمكن الإستغناء عنه

سـار على رأس ألـــف مجاهــد لملاقــاة الشريــف فيصــل
ولاقاهـم سلطان وفرسان الجبل في الزحف لتحرير دمشـق

أبدى صيّاح بطولة خارقة في موقعة «عرى» ضد الفرنسيين
وقُتل تحته في حميم الرصاص خمسة من الجياد العربية الأصيلة

الجنرال أندريا: بعض الثوار ظلّوا يطلقون النار
وهم منبطحون حتى مرّت فوقهم العربات فسحقتهم.

في الحديث عن المجاهدين الأموات الأحياء، والأحياء عند ربّهم يُرزقون، بعض الوفاء لهم، وتذكير بمواقف العزِّ والبطولة والوطنية والتضحية والفداء، وإستحضار لماضٍ، كانوا فيه السواعد التي تقاوم المستعمرين، وتهدم صروح الظالمين، والمشاعل التي تبدّد الظلام، وتنير طريق الحرية، إلى حاضر يحتاج الكثير من أمثال هذه السواعد والمشاعل لما بات يكتنفه من الظلم والظلام.
وفي العودة إلى سلطان باشا الأطرش ورفاقه في الجهاد صفحات تحلو كتابتها، وتلذّ قراءتها. وصيّاح الحمّود الأطرش هو من الرعيل الذي جاهد في الثورة العربية الكبرى، وفي الثورة السورية الكبرى تحت لواء سلطان، وهو، إضافة إلى ذلك، أحد مراجع الثورة السورية الكبرى لقصائده فيها، ولما دوّنه عنها من يوميّات، واحتفظ به من وثائق وإن قليلة.
صيّاح هو إبن نايف بن سلامه بن حمّود الثاني بن حمّود الأول، شقيق إسماعيل الأول الذي هو أحد جدود آل الأطرش، الأعلين. وُلد سنة 1898 في قرية «بكّا»، إحدى قرى «المقرن القبلي» في جبل العرب (محافظة السويداء حالياً). توفّي والده قبل ولادته فعاش يتيم الأب، وتعّهدت والدته تربيته وإعاشته بمساعدة من أقاربه، آل الأطرش، والمحبّين لأبيه وجدّه سلامه من أهالي «بكّا», وكانت هناك عوامل من محيط صيّاح ساهمت في إعداد شخصيته وتنمية مواهبه، وصيرورته فارساً مغواراً، وشاعراً يجاهد بسيفه وبقصائده الحماسية الوطنية.
إن بيئة جبل العرب البركانية، ذات المناخ الجبلي الجاف، وشبه الصحراوي، أفضل البيئات لنمو الأجسام الصحيحة، الصلبة والقوية. وبيئته الثقافية بما فيها من تقاليد عربية أصيلة، ومفاهيم عرفانية توحيدية، منبت الرجال الأفاضل المتحلّين بالقيم والمناقب، والناس الصابرين، والمقاتلين الأشدّاء الشجعان، والنشاما، أي أصحاب الأريحية. هاتان البيئتان جعلتا صيّاح الأطرش مقاتلاً مقداماً، وفارساً مغواراً، ورث الشجاعة والرجولة عن قوم لهم تاريخ طويل في الكفاح من أجل تثبيت الوجود, وحفظ الكرامة، والدفاع عن الأرض والعرض، وعن الديرة، وورثها خصوصاً عن جده لأبيه «سلامه» الملقب بـ «سم الموت».
ومن عوامل البيئة الثقافية، التي جعلت من صيّاح الأطرش شاعراً، المضافات التي هي في جبل العرب مدارس مجّانية مفتوحة في كل آن، هي أشبه بسوق عكاظ مصغّرة، تُروى فيها الحكايات عن الشجعان، وتُردَّد الحكم والأمثال عن العقلاء, وتُنشَد أناشيد الشعراء على أنغام الرباب، فتطرب بها الآذان، وترقص لها الأفئدة. ومن عوامل هذه البيئة الثقافية أيضاً إنشاد أهل الجبل القصائد الحماسية في المناسبات، وإنشاد مقاتليهم الجوفيات في العرضات التي يقيمونها عند تجمّعهم وتأهّبهم للحرب، وإنشاد أبيات الحداء في سيرهم إليها.
تسلّم صيّاح الأطرش بضع وظائف مهمة هي مدير ناحية «القريّا» في حكومة جبل الدروز التي أقامها الإنتداب الفرنسي في سنة 1921, وقائمقام صلخد، أي «المقرن القبلي»، من الجبل، في عهد الإستقلال، بتفضيل من سلطان باشا الأطرش له على سائر الطرشان، وقائمقام الزبداني بعد ذلك وكان من لجنة أعيان آل الأطرش، وقد انتخبوه أمين سرّها حسبما يرد في محضر جلسة 6 كانون الثاني 1943، الذي نحتفظ بصورة عنه.

على خطى سلطان
إنطلق صيّاح الأطرش في العمل الجهادي متأثراً بإبن عمه سلطان باشا الأطرش، وملازماً له، ومنضوياً تحت لوائه في معارك الثورة العربية الكبرى والثورة السورية الكبرى. وفي هذا الصدد يقول إبنه الدكتور عبدي، في الصفحة 33 من «أوراق من ذاكرة التاريخ» ما يلي:
وعندها إكتشف [صيّاح] الزمان والمكان، فحدّد البداية منطلقاً منها إلى النهاية بكل تفاؤل وإقدام وكبرياء. فالبداية كانت سلطان باشا الأطرش إبن «القريّا» جارة «بكّا»، ذلك العملاق المتربّع فوق قلعته الحصينة على قمة عالية تشعُّ بالنور والإيمان إلى كل الجهات والنواحي. سلطان الذي إحتضن الفتى القادم من الجنوب معانقاً فيه الشجاعة اللامتناهية والجرأة العاقلة والرأي السديد والفكر المصيب والإخلاص والتفاني.. قرّبه من قلبه رفيقاً أكثر منه قريباً حتى غدا (كما سيظهر لاحقاً) ساعداً أبياً لا يمكن التفريط به وجناحاً قوياً لا يمكن الإستغناء عنه».

في الثورة العربية الكبرى
تبدأ مسيرة صيّاح الجهادية بإشتراكه في الثورة العربية الكبرى التي أعلنها الشريف حسين في العاشر من حزيران 1916. لم يتلقّ كبعض أعيان جبل العرب، وهم سلطان باشا الأطرش وخليل المغوّش ومحمد الصغيّر، رسائل من الشريف فيصل بن الحسين ومعتمده نسيب البكري، وإنما سمع نداء الواجب «وسار مع حمد البربور وعبد الله العبد الله وألف من رجال جبل العرب لملاقاة الشريف فيصل، فالتقوا به في وادي اللسن» كما جاء في مذكرات فايز الغصين، الجزء الثاني، الصفحة 593. وسار بعضهم تحت لواء فيصل، ومع جيشه الزاحف شمالاً نحو دمشق لتحريرها من الأتراك. وعند وصول الجيش العربي إلى بصرى الشام إنضم سلطان باشا الأطرش والفرسان الذين جمعهم إلى الجيش العربي، ومنهم صيّاح، وزحفوا بإتجاه دمشق، وقضوا عند مشارفها، وفي تلال المانع، على المقاومة العنيدة التي أبداها الجيش التركي المدعوم من الألمان، ودخلوا بقيادة سلطان دمشق بعد ظهر الثلاثين من أيلول 1918، وكان له ولهم شرف السبق إلى عاصمة بلاد الشام، ودخلوها قبل قوات الشريف فيصل وقبل الجيش البريطاني، وكان له ولهم أيضاً شرف السبق في رفع العلم العربي على سراي دمشق في اليوم نفسه.
أنشأ فيصل الحكومة العربية في دمشق في أوائل تشرين الأول سنة 1918. لكن الفرنسيين الذين احتلوا «المنطقة الغربية» من بلاد الشام، شاؤوا السيطرة على كامل سورية تنفيذاً لإتفاقية سايكس-بيكو. فوجّه المفوّض السامي الفرنسي على سورية ولبنان، الجنرال غورو، إنذاراً إلى الحكومة العربية من خمسة شروط لا تتجزأ، مفادها تسريح الجيش العربي، وقبول الإنتداب الفرنسي فأحدث هذا إرباكاً للحكومة العربية وبلبلة وفوضى في دمشق. وبين قبول شروط الإنذار ورفضها، وتسريح الجيش العربي وإعادة جمعه، تراجعت الثقة بالحكومة العربية، وضعفت إمكانية مواجهة الجيش الفرنسي الزاحف بإتجاه دمشق، الذي انتصر في ميسلون في 24 تموز 1920 على بقايا الجيش العربي، ودخل دمشق، وأوصل الإنتداب الفرنسي إلى سورية على رؤوس الحراب ليبدأ تنفيذ مخطط تجزئتها، الإستعماري.
كان سلطان باشا الأطرش مع فريقه رافضاً الإنتداب الفرنسي، مؤمناً بوجوب مجابهة جيشه، لكن لم يتح له وللفرسان الذين جمعهم وسار بهم للدفاع عن دمشق، الإشتراك في موقعة ميسلون، إذ بلغهم خبر الهزيمة فيها ودخول الجيش الفرنسي دمشق في يوم الموقعة نفسه، وخروج فيصل منها إلى الكسوة. وكان صيّاح من هؤلاء الفرسان الذين حشدهم سلطان، وممن أرسلهم بعد ذلك إلى فيصل، الذي خرج من سورية في 29 تموز، ليطلبوا منه الحضور إلى السويداء وإقامة الحكومة العربية فيها.
بعد أن خرج فيصل من سورية مهزوماً من الفرنسيين، خرج والده الملك حسين من الحجاز مهزوماً من الأمير عبد العزيز آل سعود الذي ألغى المملكة الهاشمية في الجزيرة العربية وأقام مكانها المملكة العربية السعودية. لجأ الملك حسين إلى قبرص، وقلَّ المتصلون به والمتذكرون له في منفاه بعد انهيار مشروعه، وضياع حلمه بإنشاء الدولة العربية التي تمتد من جبال طورس شمالاً إلى المحيط الهندي جنوباً، إلا أن صيّاح ظل يتذكره فبعث برسالة إليه أجابه عليها برسالة رقمها 176، أدرجنا صورة عنها في كتابنا «دروز سورية ولبنان في عهد الإنتداب الفرنسي» الصفحة 399، يخاطبه فيها «بالوطني المفادي أمير اللواء صيّاح باشا الأطرش المحترم»، ويشيد بالبطولة الخارقة والشجاعة النادرة التي أثبتها أبناء بني معروف فكانت محل الإعجاب وموضع المباهاة، وقد خاطبهم بالقول التالي: «نهضتم نهضتكم هذه أيها الأسود البواسل فأثبتم بها شرف الأخلاق العربية والشهامة العدنانية»، كما خاطب صيّاح قائلاً: «لقد تناولت مضبطتكم التي يتدفّق من بين سطورها ذاك الشمم العربي والوفاء المعروفي، وذاك الإخلاص الصادق واللهجة الحرة».
منح الملك حسين صيّاح لقبين هما «الأمير» و «الباشا»، ولكن صيّاح لم يعلن ذلك، وأخفى الرسالة حتى قبل وفاته سنة 1977 بيومين، مكتفياً بلقب «بك»، تاركاً لقب «أمير» لدار عرى التي حمله أبناؤها منذ أن منح الفرنسيون شيخ مشايخ الجبل سليم الأطرش لقب «أمير» عند تعيينه حاكماً على «دولة جبل الدروز». فدار عرى هي دارة الإمارة عند أبناء الجبل، وهي الدار المقدّمة عند الطرشان على غيرها، وقد إكتفى أعيانهم بألقاب «البيك» و «الباشا» و «الشيخ» بإستثناء حسين ومتعب وتوفيق الأطرش الذين منحهم الشريف عبد الله لقب «أمير» ليكسبهم إلى جانبه عند تأسيسه إمارة شرق الاردن، وعلي مصطفى الأطرش الذي خوطب بالامير أسوة بزميليه النائبين في المجلس النيابي السوري: الأمير فاعور محمود الفاعور، والأمير فوّاز الشعلان، عند حضورهما مؤتمر سان فرنسيسكو سنة 1945 الذي أُسّست فيه هيئة الأمم المتحدة.
إتخذ صيّاحُ سلطان باشا الأطرش مثلاً أعلى في نهجه وسلوكه ونضاله. فسلطان إكتفى بلقب «الباشا» الذي منحه إياه الشريف حسين، ورفض منه لقب «أمير»، كما إن إبنه الشريف عبد الله لم يجرؤ على منحه هذا اللقب. وكان سلطان يقدّم دار عرى وأمراءها، ويعتبر وحدة الزعامة التشريفية والرسمية فيهم تجسيداً لوحدة أبناء الجبل، كما يعتبر أن المرء هو الذي يحيك عباءة زعامته وهذا كان شأن صيّاح الذي كتم خبر رسالة الملك حسين، لأنه كما جاء بقلم إبنه الدكتور عبدي في «أوراق من ذاكرة التاريخ» الصفحة 35 «كان لا يؤمن إلا بالعمل الذي وحده يعلو على كل الألقاب والذي يشرّف كل إنسان بعيد عن الغرور والخيلاء».

قادة المجاهدين في خيمتهم في وادي السرحان في المملكة السعودية[1]
قادة المجاهدين في خيمتهم في وادي السرحان في المملكة السعودية[1]

في الثورة السورية الكبرى
كان صيّاح من بين 23 شخصاً اجتمع بهم سلطان باشا الأطرش من أجل التهيئة للثورة، ومن جملة أعضاء وفد جبل العرب، الذي قابل المفوض الفرنسي أوغست برونه، حين جاء لاستطلاع أحوال سورية ولبنان وقد قابل الوفد المفوض السامي الفرنسي سراي، ورئيس الاستخبارات الفرنسية دانتز، لكن مفاوضة زعماء جبل العرب مع المسؤولين الفرنسيين إصطدمت بغطرسة الجنرال سراي الاستعمارية وعصبيته، وتدابيره الإنفعالية المتسرّعة التي أدّت إلى التسريع بالثورة التي يعدّ لها سلطان بالتنسيق المحدود مع زعماء وطنيين في دمشق.
وكان صيّاح من أوائل المجاهدين الذين انضمُوا إلى سلطان في مسيرته لتهييج قرى «المقرن القبلي» إنطلاقاً من قرية صيّاح «بكّا». ثم كان من الفرسان الذين خاضوا أولى مواجهات الثورة في «الكفر» وانتصروا فيها على الفرنسيين، وكان في الطليعة يشدو بصوته الحسن الأغاني الحماسية، وقد جرح برصاص رشاش في يده اليمنى، لكنه لم يتوقف عن القتال إلا عند بلوغ النصر المؤزّر.
وتستمر الثورة، ويخوض صيّاح معظم مواقعها حتى صيف 1927، منتقلاً من منطقة إلى أخرى، مقاتلاً يغشى الوغى، فهو من فرسان معركة «المزرعة»، كبرى معارك الثورات على الفرنسيين، حيث أباد الثوار ببنادقهم وسيوفهم حملة فرنسية من ستة آلاف جندي، مجهّزة بأحدث وأثقل الأسلحة وهو من الفرسان الذين خاضوا معركة «المسيفرة» حيث عوّض الثوار عن عدم تحقيق النصر بشرف البطولات والفداء وهو ممن أبلوا البلاء الحسن في الدفاع عن السويداء في أيلول 1925 ضد حملة الجنرال غاملان، وممن خاضوا مواقع إقليم البلاّن، وممن تقدّموا بقيادة زيد بك الأطرش إلى جنوب لبنان لمساعدة ثوّار وادي التيم، ولنقل الثورة إلى لبنان، وقد عمل مع زيد وفضل الله الأطرش وحمزة الدرويش وعلي عامر على تنظيم أوضاع منطقة حاصبيا. وكان صيّاح أيضاً ممن قادوا عمليات تخريب الخط الحديد لعرقلة نقل الفرنسيين لجنودهم وللإمدادات، بقصد تجميع قواتهم لمحاصرة جبل العرب والقضاء على الثورة فيه. ولعلّ أبرز ما يسجَّل له هو بطولته في التصدي لحملة الجنرال أندريا في موقعة السويداء، يوم 25 نيسان 1926، وبطولته في إنقاذ سلطان باشا الأطرش في موقعة «الصوخر» في 9 آب 1926.

موقعة السويداء
بعد نجاح الفرنسيين في إضعاف الثورة أو إخمادها في معظم المناطق السورية واللبنانية التي إمتدت إليها، وجّهوا في نيسان 1926 حملة كبرى من 12 الف جندي بقيادة الجنرال أندريا، لإعادة إحتلال جبل العرب بعد أن انسحبوا منه في أيلول 1925، متخذين إحتلال عاصمته السويداء أول أهدافهم.
يصف الجنرال أندريا في كتابه الصادر بالفرنسية بعنوان «ثورة الدروز وتمرّد دمشق الصفحة 112- 118» ما لاقته الحملة الخفيفة من مصاعب، وما نزل بها من خسائر في القتال الذي جرى في 25 نيسان 1926، في المواقع على جبهة عرى- رساس. فهو يذكر أن معركة السويداء هي بالنسبة إلى الدروز كڤردان بالنسبة للفرنسيين في الحرب العالمية الأولى، وأن بعض الثوار ظلّوا يطلقون النار وهم منبطحون على الأرض حتى مرّت فوقهم العربات فسحقتهم، وأن الحملة الخفيفة – وهي مَيسرة الجيش الفرنسي – هوجمت بشراسة، ويضيف أندريا ما يلي: «وفي الوقت نفسه إنقضّ بعض الدروز على الميمنة وهاجموها بشراسة بالغة، من دون أن يستطيع الطيارون رؤيتهم، لدى خروجهم من مخبئهم في منخفض «رساس» لأن الضباب كان يغمر الجو. إنهم دروز «المقرن القبلي» الذين كانوا يجتمعون البارحة في منطقة «بكّا» ليقطعوا طريق «صلخد» وكان بعضهم من الفرسان قد اشتبك مع الحملة لدى وصولها إلى «عرى»، أما الآن فقد إجتمع الثوار معاً، من مشاة وفرسان خلال الليل في «رساس» والقرى المجاورة، وقاموا جميعاً بهجوم شامل قوي هلعت له الحملة فاضطرّت أن توقف تقدّمها نحو السويداء لتواجه المعتدين».
لم يسمِّ أندريا قائد دروز «المقرن القبلي». إنه صيّاح الذي سمّاه القائد العام للثورة سلطان باشا الأطرش قائد الجبهة الجنوبية، بموجب التنظيمات التي أجراها. أبدى صيّاح بطولة خارقة ونادرة في موقعة «عرى» المسمّاة أيضاً موقعة «سَمَر» وقُتل تحته خمسة من الجياد العربية الأصيلة، وسادس هو حصان مهزوم، إمتطاه ليتابع القتال. إنه لمشهد لا يراه المرء إلا في فيلم سينمائي يتقن مُخرِجه تصوير المشاهد التي يتألق فيها البطل لكنه مع صيّاح مشهد حقيقي نقل الثقات خبره، ووصفه الشعراء في قصائدهم، وردّده رواة مجريات الثورة ووقائعها، وذكره المطران نيقولاوس قاضي في كتابه «أربعون عاماً في حوران وجبل الدروز» الصفحة 96، كما إن صيّاح نفسه تحدّث عن ذلك، وذكر أسماء وأنواع وأصول أحد عشر فرساً من الخيول التي خسرها في الثورة، وفي المنفى، ومنها الجياد الخمسة التي خسرها في موقعة «عرى» وهي مدرجة في كتاب عنه بعنوان «أوراق من ذاكرة التاريخ» الصفحة 136.
إن ما قام به صيّاح في موقعة «عرى» وفي غيرها من المواقع جعل الناس يطلقون عليه لقب «أبو المغاوير». والمغوار، في اللغة، هو الكثير الغارات، وقد اعتمدت الجيوش المعاصرة هذا اللقب وأطلقته على نخب فرقها الشجاعة والمدرّبة. ولقب «أبو المغاوير» أخذه صيّاح دون غيره من أبطال وفرسان الجبل الذين يشبهونه في الفروسية والشجاعة، وحمله في جميع معارك الثورة كما قال أدهم الجندي في الصفحة 238 من كتابه: «تاريخ الثورات السورية في عهد الإنتداب الفرنسي».
جرت موقعة «عرى» إلى الشرق من مكان إسمه «سمر» يقع إلى الشمال الغربي من «عرى». لذا ورد إسم «سمر» في الأهازيج والأناشيد الحماسية وفي أبيات منها تشيد ببطولة صيّاح كالأبيات التالية:
صـيّـــــــــاح من شـرقي «سَمَر» ملكــــــــــاده بتـــــــــقــــــــــول ذيـــــــــب ومحلحـــــــــل بـطليـــــــــــــان
ملكادكم شرقي «سَمَر» خلّى السلاح مثل العصي بيدين طلقين اليمـــــان
صـيّــــــــــــاح ردّه والســـــــــــــبــــــــــــايــــــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــوم بشرقي «سَمَر» يلكــــــــــــــــــــــد على المتـراس
يــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا وقـعـــــــــــــــــــــــــــــةً شرقي «سمَــــــــــــــــــــر» فــــــــــــــــاحـــــــــــــــــــت علــــــــــــــــــى فرســـــــــــــانــــــــــــــــــــــــــها
وصيـّـــــــــــــــــــــــــاح للعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرضـــــــــــــــــــــــي دمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر للصــــفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــره يـــــــــــــــــــــــــرخـــــــــــــــــــي عنانــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــها

د. عبدي صياح الأطرش نشر مذكرات وأوراق والده كاملة
د. عبدي صياح الأطرش نشر مذكرات وأوراق والده كاملة

إنقاذ سلطان باشا الأطرش في موقعة الصوخر
بعد إحتلال الفرنسيين السويداء بدأوا بحملات إخماد في «مقارن» جبل العرب. وتجمّع الثوار في عدة معاقل أبرزها اللجاه و«المقرن القبلي» الذي جرت فيه موقعة «الصوخر» في 9 آب 1926، حيث فقد سلطان باشا الأطرش حصانه وفي خرجه رسائله وبعض أوراق الثورة، وكاد أن يؤسر لو لم تأته نجدة من فرسان يقودهم صيّاح الذي سارع إلى دخول المعركة هاتفاً: «يا مرحبا بالموت كي يبقى سلطان حياً». وبعد أن تمّ تشتيت الجنود الذين يحاصرون سلطان قدّم له صيّاح فرسه وأخذ فرساً لمجاهد من رفاقه. وبهذا أنقذ سلطان من اسر أو موت يتهدّدانه، مع ما كان سيؤدي إليه ذلك من إنعكاسات سلبية وخطيرة على مسار الثورة التي هو معلنها وقائدها العام، وباعث حيويتها واستمراريتها.
من النتائج المترتّبة عن إنقاذ صيّاح لسلطان باشا الأطرش في سنة 1926، تحوّله في سنة 1974 إلى سبب لوقف نشر مذكراته، وتفصيل ذلك أنه قُيّض للأستاذين صلاح مزهر ويوسف الدبيسي إعداد مذكرات سلطان التي آلت بعد إعدادهما لها إلى الأستاذ أمين الأعور الذي قام بنشرها على حلقات في جريدة «بيروت المساء»، الا أن الأستاذ منصور، إبن سلطان باشا، كان يرى أن مذكرات سلطان ملك للأمة، وأن تحقيقها يجب أن تقوم به نخبة من الأكاديميين المختصين بكتابة التاريخ، وقد أبدى وبعض الطرشان مآخذ عليها، منها مأخذهم على ما ورد فيها ولم يرد على لسان سلطان، وهو أن سلطان عزم على الإعتذار من عوده أبو تايه عن ردة فعل عنيفة عليه ردّاً على إتهامه الدروز بالنهب، وذلك عند بحث الحكومة العربية لأعمال الفوضى التي سادت في بداية تأسيسها في دمشق. وقد عالجنا ذلك مفصّلاً في كتابنا «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» الصفحة 86- 87.
لم يوقف سلطان باشا الأطرش نشر مذكّراته لمآخذ إبنه وأقاربه عليها، إلا عندما وردت فيها في معرض الحديث عن موقعة «الصوخر» الجملة التالية: «وسارع أحدهم إلي بجواد» دون ذكر هذا الشخص الذي هو صيّاح، ونظراً إلى ما يكنّه لصيّاح من محبة، ولتقديره لجهاده ولإنقاذه، طلب سلطان وقف نشر المذكرات، واستعادها من الأستاذ أمين الأعور، وقال له في رسالته إليه في تاريخ 13/3/1974، التي نحتفظ بصورة عنها، ما يلي: «لقد كلّفت إبني منصور بالإطّلاع على مخطوطة الكتاب الذي وضعه الأستاذ صلاح مزهر والأستاذ يوسف الدبيسي عن الثورة السورية، وأرى أن تتريّثوا بطبعه حتى نتذاكر معه ومع غيره من الأخوان الذين لهم صلة بالموضوع بما يستجد من آراء». وتبعاً لذلك توقف نشر المذكرات عند الصفحة 285 من أصل 461 صفحة.

صياح-الأطرش-في-شبابه
صياح-الأطرش-في-شبابه

“كان فارساً يقاتل في المقدمة بلا هوادة وينشد بصوته الحسن أغاني حماسية تلهب مشاعر المجاهدين وقد خاض معظم مواقع الثورة السورية حتى العام 1927”

يوميّات وأوراق وديوان صيّاح الأطرش
زوّدنا الدكتور عبدي صيّاح الأطرش مشكوراً بصور عن بعض يوميّات والده التي تبدأ في 31 تموز 1926، وتنتهي في 30 كانون الأول 1934، وبصور عن بعض أوراقه. ثم عاد وأرسل لنا صوراً عن ثلاث من يوميات والده تتعلّق بمقابلته مع زيد بك الأطرش وفضل الله الأطرش للملك فيصل الأول في سنة 1931. وأثناء زيارتنا الثالثة له في أواخر سنة 1987 طرحنا عليه، وبإلحاح، فكرة طبع ديوان ومذكرات وأوراق والده، وأبدينا إستعدادنا للقيام بذلك بواسطة المركز الوطني للمعلومات والدراسات المنشأ حديثاً في لبنان. فتريث في الأمر إذ لم يكن له، على ما قدّرنا متسع من الوقت لتجميع الأوراق وتبويبها والتعليق عليها.
إعتمدنا على ما زوّدنا به الدكتور عبدي في كتابنا «دروز سورية ولبنان في عهد الإنتداب الفرنسي» وكتابنا «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» وذلك في معرض الحديث عن إستسلام بعض الثوار، وحياة المجاهدين في المنفى، وإتصالاتهم بالأحزاب والجمعيات العربية وبالملك فيصل الأول وأخيه الشريف علي يوم كانت القضية السورية تُبحث في عصبة الأمم، ويوم كان يُبحث، في الأوساط العربية وخصوصاً السورية وبين مسؤوليها ومسؤولي الإنتداب، موضوع إعادة الملكية إلى سورية وتنصيب أميرٍ هاشمي أو سعودي عليها. إن ما اعتمدنا عليه من يوميّات وأوراق صياح الأطرش فيه بعض الفائدة منها، فيما الفائدة كلها جاءت – وإن متأخرة بعض الشيء – من نشر الدكتور عبدي لها كاملةً في سنة 2005، لأنها شهادات حيّة وصادقة من مجاهد عاش الحدث وساهم فيه.
ولحسن الحظ ظلت أوراق صيّاح محفوظة على الرغم من مرور الزمن، وتعاقب الحوادث، بعد أن سبق فقدان بعضها، وهو يوميّاته لأعوام 1935 و 1936 و 1937، التي هي في نظرنا ذات أهمية كبيرة، لأنها، حسب اعتقادنا، تتضمّن الكثير من المعلومات عن مواقف المجاهدين من الأحداث في سورية آنذاك ومن المفاوضات التي كانت تجري بين السوريين والفرنسيين لعقد معاهدة سنة 1936 ، ومن الصراع الذي كان يجري في جبل العرب بين الوحدويين الذين يطالبون بإعادة الجبل إلى الوطن الأم، والإنفصاليين الذين يريدون إبقاءه دويلة ذات إستقلال داخلي وإداري.
وسنكتفي هنا بإيراد نماذج من الأوراق والرسائل لإبراز دور صيّاح الأطرش، ومنها ما هو من أوراق زيد الأطرش وعقله القطامي:
رسالة من الملك حسين إلى صيّاح وقد وردت الإشارة إليها والحديث عنها.
-رسالة من الشريف علي بن الحسين إلى زيد وصيّاح الأطرش بتاريخ 12 سبتمبر 1931، يكبر فيها وطنيتهما، ويذكر ان عمر زكي سيحدّثهما عن الجهود المبذولة، وعن الآمال المعقودة لخير العرب، ويبعث بتحياته إلى «الصديق العزيز» سلطان باشا الأطرش ومن التفّ حوله من المجاهدين.
رسالة من إبراهيم النشمي إلى «صاحب السعادة صيّاح الأطرش» وفيها إعلام للمجاهدين بأن الملك عبد العزيز يُخيّرهم بين أمرين: إما أن ينتقلوا إلى داخل بلاده، وإما ان يرحلوا عنها، وان لديهم مهلة شهر واحد.
رسالة من إبراهيم النشمي إلى «صاحب السعادة صيّاح باشا الأطرش» وهي بتاريخ 9 ذي القعدة 1348، وفيها إستعداد الملك عبد العزيز أن يستقبل موفداً عن المجاهدين مع تأكيد إبراهيم النشمي على ضرورة إنتقال المجاهدين إلى داخل السعودية أو خروجهم منها.
سماح الأمير عبدالله «إلى صيّاح بك الأطرش وزيد بك الأطرش، وعقله بك القطامي» بالتوجه من شرق الاردن إلى العراق وهذا السماح هو بتاريخ 28/3/1932، وهو مرفق بسماح المعتمد البريطاني بتاريخ 29/3/1932.
رسالة من سلطان باشا الأطرش إلى صيّاح بتاريخ 26 تموز 1932، وهي مكتوبة على قفا رسالة من صيّاح إلى سلطان. وسبب ذلك حسبما يذكر سلطان «لا توجد لدينا فلوس حتى نشتري طبق ورق لنحرّر لكم فأضطررنا أن نحرّر على قفاه». وهذا يظهر مقدار العوز الذي وصل إليه المجاهدون في المنفى، وعلى رأسهم سلطان الذي لم يبقَ عنده من المال ما يشتري به ورقة لكتابة رسالة، والذي اضطر كما جاء في رسالته المذكورة ان يبيع حلى زوجته لشراء فرش للبيت الجديد، كلف صيّاحاً بشرائه، وذلك بعد إنتقالهم من الحديثة إلى الكرك في إمارة شرق الأردن.

وادي السرجان في شمال شرق المملكة السعودية حيث أمضى سلطان ورفاقه سنوات المنفى
وادي السرجان في شمال شرق المملكة السعودية حيث أمضى سلطان ورفاقه سنوات المنفى

“بسبب بطولاته في معركة «عرى» نال صيّاح لقب «أبو المغاوير» وهو لقب اختص به وحده بين جميع أبطــــال الثورة السوريـة وفرسانها”

شعر صيّاح الأطرش
بعد أن تكلّمنا عن صيّاح الأطرش مجاهداً سنتكلّم عنه شاعراً، إذ له ديوان كبير أورد إبنه الدكتور عبدي بعض قصائده وشرحها، وتحدّث عنه في نظر الشعراء. وبما أن المجال ضيّق للحديث عن هذه النواحي، نحيل من أراد معرفتها إلى كتاب «أوراق من ذاكرة التاريخ» وإلى دواوين شعراء جبل العرب التي تحتوي مناظراتهم مع صيّاح وقصائدهم المرسلة إليه، إضافة إلى ما كتبه المؤلفون، وخصوصاً الأستاذان صلاح مزهر ويوسف الدبيسي عن شعراء الزجل إلا أنه لا بدّ من الحديث عن أجمل القصائد الوطنية لصيّاح، وهي «يا ديرتي» التي ردّدها الكثيرون، وغنتها أميرة الغناء أسمهان الأطرش فأطربت العالم العربي، والتي عارضها بعض الشعراء ونظموا على نهجها، مع الإشارة إلى أن هناك آراء تشرك شاعرين آخرين في نظم هذه القصيدة، هما زيد وفضل الله الأطرش. وأبيات القصيدة هي التالية:
يــــــــــــا ديرتـــــــــــي مالِـــــــك علينــــا لـــــــــــوم لا تعتبـــــي لومــــــك علــى مــــن خـــــــــان
حِنّا روينا سيوفنا من القـوم مــــــــا نـــرخصــك مثـــــل العفـــــن بـــــأثمــــــــان
لا بد مـــــا تجلــــي ليالـــــي الشـــــــــوم وتــــــــــــــعتــــــــز غلمـــــــــــه قــــــــايــــــــــــدهْ ســلـطـــــــــــــان
وإن مــا تعدّل حقنــــا المهضـــــــوم يـــــــــــــا ديرتــــــــي مــــــــا حنــــــا لـــك ســــكـــان
يخاطب صيّاح الديرة، والديرة لها مفهومان عنده: أولهما المنطقة أو المكان الذي يولد المرء فيه، ويعيش بين سكانه في جنباته، وثانيهما الوطن الأوسع من مسقط الرأس، وهو المقصود في هذه القصيدة، إذ هو الوطن السوري الذي قاتل الثوار من أجله، وناضلوا لتوحيده وتحريره وإنالته الإستقلال عن الإنتداب الفرنسي، وضحّوا بالأرواح ورخّصوا الدماء، ومنهم صيّاح الذي حكم المجلس الحربي عليه بالإعدام. إنه الوطن سورية الذي خاطبه سلطان باشا الأطرش في بياناته ومناشيره وإستنهض السوريين إلى الجهاد في سبيله، ومما يدلُّ على أن المقصود بالديرة في القصيدة المذكورة هو سورية، وقضيتها الكبرى، البيت الأول الذي عارضه الشاعر محمد الجرمقاني بقوله:
يا صاحبي مـالـــَك علينـا لوم لومك على من بالقضيّه خان
تعدّدت الروايات إذاً عن من نظم هذه القصيدة، ومنها أنها لصيّاح وزيد ذوقان الأطرش وفضل الله الأطرش. وهذا كان في البداية رأي الأستاذين صلاح مزهر ويوسف الدبيسي اللذين ذكراه في مخطوطة مذكرات سلطان الصفحة 321. وقد اعتمدنا سابقاً عليه، فأوردنا في الصفحة 622- 623 من كتابنا: «سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى» ما يلي:
«تراجعت الثورة عن كل المناطق التي قامت فيها بما في ذلك مهدها جبل الدروز (جبل العرب). وتجمّع الثوار الذين تركوا هذه المناطق في الأزرق، وكانوا أمام خيارين: إما الإستسلام، وإما الإبتعاد عن البلاد. وخالجهم الإحساس بمرارة الفشل مقروناً براحة الضمير لما قدّموه من أجل الحرية والإستقلال. والتقى في قرية «الهويّا» في جبل الدروز، ثلاثة من قادتهم هم زيد وصيّاح وفضل الله الأطرش، وأنشدوا قصيدة «ياديرتي» وهم يهمّون بالرحيل عن الجبل، نظم كلٌّ منهم بيتاً أو أكثر منها، وعبّروا فيها عن أنهم قاموا بواجبهم في الثورة، وأن مسؤولية فشلها تعود إلى الخائنين، وأنهم لن يعودوا إلى الديار إلا بعد الإستقلال وإستعادة الحق المهضوم».
واليوم، ونحن نكتب عن صيّاح الأطرش لا بدَّ لنا أن نذكر المعطيات والمعلومات الجديدة، التي تجعلنا ننسب القصيدة إليه، وهي أن من اعتمدنا عليهما في ما كتبنا عدّلا رأيهما، فقال الإستاذ صلاح مزهر إن صيّاح هو من نظم القصيدة، وقد جاء ذلك عنده في مقالته في جريدة «الجبل» العدد 40 تاريخ 5/7/1983 تحت عنوان «رياض الأدب الشعبي»، كما إن الإستاذ يوسف الدبيسي قال أيضاً إن صيّاح هو ناظمها، وذلك في كتابه: أهل التوحيد (الدروز) الجزء الخامس، الصفحة 114- 115، لكنه ذكر في الهامش الرقم 4 من الصفحة 114 ما يلي: «يُقال إن مجاهدين آخرين شاركا في نظمها أيضاً هما زيد ذوقان الأطرش وفضل الله الأطرش».
وما يعزّز القول أيضاً بأن صيّاح هو ناظم قصيدة «يا ديرتي» أدلة عدة، أبرزها إثنان: أولهما قوله في شريط مسجّل بصوته إنه هو من قال هذه القصيدة، ورأينا هو أن هذا الرجل الذي لم يكشف عن لقب «أمير» خاطبه به الملك حسين، لتواضعه وبعده عن الغرور والكبرياء والإدّعاء، لا يمكن أن ينسب لنفسه وحده قولاً شاركه فيه غيره، وثانيهما ردُّ محمد الجرمقاني على قصيدة «يا ديرتي»، وهو من جملة القصائد التي قيلت على نهجها، ومنها قصيدة متعب الأطرش، وقصيدة سليم الدبيسي.
يقول الشاعر محمد الجرمقاني:
حيّــــــــــــــــاك يــــــــــــا علمــــــــــــــــاً لفانـــــــــــــا اليــــــــــــــــوم مـــــــــــــــــــــن لابة قيــــــــــــدومــــــــــــــــــــــهــــــــــــا سلطـــــــــــــــــــــــــــان
حيــّــــــــــــاك عـــــدد مــــــــزن البَرَد ونجوم حيثهْ صدر مـــــــــــن نخبة الشجعـــــــــــان
صيّــــــــــــــــــــــاح ردّه والـسـبـــــــــــايــــــــــــــــــــــا كـــــــــــــــــــوم يــــــــــــــــــــــوم العـــــــــــراضــــــــــــي قـــــــــــايـــــــــــدهْ غمــــــــــــلان
من فوق شقرا مــا غلي بهْ سـوم المـــــــــــرجـلــــــــــــــــــــــــــــــــــه قبـــــــــــــــــــلاً لـــــــــــكـــــــــــــــــــــــــــــــــم والآن
يـــــــــــا صـاحبـــي مالـــــــــــك علينـــــــــــا لـــــــوم لــــــــــــومك علـــــــــــى مــــــــن بـــــــــــالقضيه خـان
حنّـــــــــــا وقعنـــــــــــا بـــــــــــالـشـــرك وهمـــــــــــــــــوم وانتـــــــــــم على قـــــــــــب الرمـــــــــــك عقبــــــــــــان
في هذه الأبيات ذكّر لصيّاح وحده، وفي البيت الرابع منها إشارة إلى جدّه سلامه الملقّب بـ «سم الموت» وإلى أن البطولة ورثها صيّاح عن جدّه. أما البيت الأخير فهو يعني أن بعض الثوار وقعوا في فخ الإستسلام للفرنسيين بعد أن زيّنه هؤلاء بالعفو وكلّفوا الوسطاء لإقناع الثوار به، فيما فضّل صيّاح ورفاقه ترك البلاد مع سلطان باشا الأطرش سنة 1927، والعيش في المنفى حتى سنة 1937. لقد ضحّوا ببيوت هدمها الفرنسيون، وبأملاك صادروها، وظلوا عقبانا «على قب الرمك» أي على ظهور الخيل، يجاهدون في المنفى من اجل البقاء كما جاهدوا في الثورة من أجل الحرية، من دون ان يتخلّوا عن العمل من أجل وطنهم، ومن أجل إستعادة حقوقه المهضومة. وهم لم يعودوا إلى سورية إلا في سنة 1937 بعد أن تعدّل الحق المهضوم مؤقتاً بنيل سورية وحدتها وإستقلالها بموجب المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، ثم تعدّل كلياً بنيل سورية إستقلالها السياسي والعسكري سنة 1945، وجاء ذلك تصديقاً لما ورد في احد أبيات قصيدة «يا ديرتي» وهو:
وإن مـــــــــــا تعدّل حقنا المهضوم يـــــــــــا ديرتي مـــــــــــا احنــــــــا لــــك سكان.

العدد 12